انصبت معظم كتابات المثقفين العلمانيين والإسلاميين التنويريين العرب, في العقد الأخير من القرن المنصرم وما مضى من هذا القرن, على ضرورة إصلاح النظام الرسمي العربي, بما من شأنه النهوض بالمجتمعات العربية أفراداً وجماعات, اعتقاداً منهم بإمكان إصلاح النظام العربي من داخله.
وثمة فئة من المثقفين العرب, قد تكون نسبتها قليلة غير أنها شكلت تياراً وإن كان حضوره ما يزال خجولاً, لا تؤمن بإمكان أي إصلاح في هكذا أنظمة, وبالرغم من قناعتها تلك ترفض رفضاً قاطعاً تدخل الخارج (الغرب تحديداً) في قضاياها الداخلية, لاعتقادها بأن أي تدخل خارجي في قضايا الداخل سيترك آثاراً كارثية في بنية المجتمع العربي سيكون من الصعب عليه الشفاء منها.
ويوجد صنف آخر من المثقفين, ونسبته تكاد تكون نادرة (ندرت نسبتها كثيراً بعد سقوط نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين). وهذا الصنف النادر لا يؤمن بإمكان إصلاح النظام العربي ويطلب في الوقت نفسه, سرّاً وعلانية, تدخل الخارج. وفي الحالات كافة نجد أن الأصوات المنتمية إلى هذا الصنف خفتت جداً.
وأياً يكن الأمر, دعونا نتأمل وجهة النظر الثانية التي سقناها في مطلع مقالنا, والكائنة بعدم الإيمان بإمكان الإصلاح من الداخل, لنجد أنها تنطوي هي الأخرى على صوابية وواقعية شأنها شأن وجهة نظر المفكر العروي. إذ ينطلق أصحاب هذا التيار من عدة مسلمات هي صحيحة في مجملها, منها على سبيل المثال لا الحصر, أن الإصلاح ينطوي آلياً على نشر ثقافة ديمقراطية, وهذا غير متوفر حالياً في البنية التحتية العربية, ولا يبدو أن ثمة مصلحة للبنية الفوقية(الأنظمة) بوجود “آفة” الديمقراطية ونشرها في مجتمعاتها الديمقراطية بما فيها من ثقافة قبول للآخر المختلف لوناً وعرقاً وجنساً وديناً.. الخ, وبما فيها من تداول سلمي للسلطة, وبما فيها من انتصار لمفهوم المواطن المصونة كرامته وحقوقه بموجب قانون وضعي (لا الهي أو سماوي) يتفق عليه الجميع ويقف على مسافة واحدة من الجميع, ويكون فوق الجميع. وهذا كله ليس فقط غير متوفر في الشارع العربي, بل لا مصلحة للأنظمة العربية في توفره أو إيجاده ولا حتى تسهيل الفرص لإيجاده! هذا من جانب. ومن جانب آخر, لا نكون قد فضحنا سرّاً إذا ما قلنا إن الأنظمة العربية تنظر إلى السلطة باعتبارها غنيمة وليس باعتبارها مسؤولية أخلاقية واجتماعية ووطنية!.
النظرة القاصرة للأنظمة العربية إلى مفهوم السلطة باعتبارها امتيازاً ومكسباً(غنيمة) لا أكثر, يقابله تراثياً قول الفقيه الإسلامي ابن تيمية: “الطاعة لذي الغلبة”, ومعلوم أن الغلبة في المجتمع العربي هي للأنظمة كونها تملك مصادر القوة التي لا توفر استخدامها لسحق المجتمع إذا ما دعت الحاجة إلى ذلك, أي إذا ما بدر أي تهديد لهذا النظام أو ذاك من داخل المجتمع.
وحقيقة ثمة مفارقات عدة في النظام العربي لا بأس من ذكر بعضها هنا, فمثلاً, يوجد وزارات للعدل وأخرى للدفاع, بيد أن لا عمل حقيقي لديها, فالجيوش العربية موجهة لقمع الداخل أكثر مما هي منوطة بحماية الأوطان, ووزارات الدفاع العربية شاركت في حروب عربية- عربية أضعاف ما ساهمت بحروب عربية- إسرائيلية!. ولا وجود لفصل بين السلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية, بهذا المعنى أن السلطة القضائية هي عبارة عن أداة مطواعة بيد السلطة التنفيذية! وفي ختام الأمر, السلطات الثلاث هي بيد الحاكم الفرد الذي يجمع السلطات كافة, ويتجاوز دساتيرها وقوانينها إذا ما تطلب الأمر, وليس بإمكان أحد مساءلته أو محاسبته!.
ما سبق ذكره, يعرفه جيداً أصحاب التيار اليائس من الإصلاح, أو ليس الإصلاح -أي إصلاح- هو الضد الطبيعي لهكذا أنظمة؟ ومع ذلك هو تيار يرفض تدخل الخارج, لمعرفته المسبقة بأن ضريبة ذلك التدخل ستكون باهظة, هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى لقناعتهم الراسخة بأن الخارج ليس صادقاً في مزاعمه, وما يبحث عنه هو ديمومة مصالحه فقط, ووجود هكذا أنظمة(أو ما هو أكثر سوءاً منها) هو ما يناسبه. لذا فإن أصحاب هذا التيار يراهنون على سقوط النظام العربي الرسمي بفعل عوامل الاهتراء الذاتي, الناجمة عن حالة الخواء التي “ينعمُ” بالعيش فيها.
وإذا كان من الصحيح بمكان القول إن النظام العربي يعيش حالة خواء واهتراء حقيقيين لا مجازيين, غير انه من الصحيح القول أيضاً إن الحالة ذاتها تعيشها البنية التحتية للمجتمع العربي برمته, ومن هنا كان يأس عبد الله العروي, وإعلانه خروج العرب من التاريخ.
انطلاقاً مما سبق, قد تبدو الصورة شديدة السواد, وهي كذلك فعلاً. إذاً, ما العمل؟ يقيناً, قبل الشروع في الجواب عن السؤال, يتوجب علينا البحث في أسباب حالة الاهتراء في البنيتين(الفوقية والتحتية) العربيتين, وهذا ما لا يتسع له هذا المقال.
تجدر الإشارة, إلى أن بعض النظم العربية, ومن بعد أن وجد أن ضريبة إلغاء المجتمع واستفحال الفساد بكل معانيه في مفاصل النظام وبنية المجتمع كانت باهظة, وهذا كله من شأنه أن يهدد استمرارية هكذا أنظمة, فقد بادر إلى رفع شعار الإصلاح بما من شأنه امتصاص بعض نقمة الداخل, وبما يوفر له استمرارية البقاء, لكن إطلاقاً ليس انطلاقاً بما من شأنه النهوض بهذا الواقع المتردي.
© منبر الحرية، 22 فبراير/شباط 2010