إن السياسة في المجتمعات العربية على الرغم من كونها تأخذ الشكل الغربي في وجود مؤسسات سياسية، إلا أنها في تفاعلاتها لا تعبر عن مضمونها، وقد يكون هناك مبرر لكون الثقافة هنا مختلفة عن الثقافة في الغرب، وبالتالي فجوهر العملية السياسية يأتي مختلفا، وهذا أمر مقبول، إلا أن الأمر يتعدى هذا الشكل عندما يتعلق ذلك باستقرار هذه المجتمعات ويعوقها عن عملية التنمية والتقدم. فتصبح قيم العدالة والحرية وتفعيل القانون مغيبة، وتصبح ثقافة البشر خالية من روح هذه القيم، فلا تجد إخلاصا في عمل ولا صدق في مقولة ولا قانون لا يحتمل الموائمات، ولا يسري على الجميع بدون استثناءات. وعملية انتقال السلطة لا تعدم وجود مثل هذه الثقافة المشوشة التي لا تعترف بضعف إمكانياتها وتقبل الهزيمة لتستطيع أن تقوي من نفسها، لذلك نجدها تلجأ لحيل غير مشروعة لتجور على قيمة العدالة
.
فالعدالة من المنظور السياسي تقتضي أن يكون هناك نظام سياسي حر منتخب ومرضي عنه من قبل أفراد المجتمع، أما عدم وجود هذا النظام فيعني أن هناك خللا يهدد هذه القيمة والخطورة هنا لا تكمن في أن رأس السلطة غير مرضي عنه من قبل المجتمع، وإنما تكمن في مأسسة المجتمع بنهج يعمل وفق منطق غياب العدالة، فمثلا نجد أنه على الرغم من وجود المناصب السياسية المرتبطة بالنظام كالوزراء وما شابه ذلك، وهم في ذلك سلطة تنفيذية، نجد في هذه المجتمعات نفوذ لمناصب غير رسمية، وهذا في حد ذاته قد يبدو مقبولا في النظم السياسية الديمقراطية على اعتبار كونهم يعملون من الخلف لمستشارين، وبالتالي الذي يظهر في الصورة هو صاحب المنصب التنفيذي، وهو الذي له الكلمة الأولى والأخيرة في موقعه، إلا أن الصورة تبدو مثيرة للشفقة والسخرية معا في مجتمعاتنا عندما نرى أن كل هؤلاء قد يبدون تابعين ومسخرين لمن لا منصب رسمي له بشكل يجلي حقيقة الثقافة السياسية، وهو ما يطرح التساؤل هل قيم كالعدالة واحترام القانون لها وجوه أخرى؟ وهل السياسة في المجتمعات العربية في طريق استخراجها مفاهيم جديدة تعكس هذا التفاعل الموجود على ارض الواقع؟، وفي هذا الإطار يمكن النظر إلى مستقبل عملية انتقال السلطة في المجتمعات العربية عبر طريق التوريث في النظم الجمهورية، فإذا كان الواقع العربي شهد وجود حالات نادرة لانتقال السلطة عبر التوريث، إلا أن الواقع العملي يشهد بعد مرور عشر سنوات أن النظم غير الملكية بصدد تهيئة المجتمع مؤسسيا وسياسيا لتقبل انتقال السلطة على نفس النهج من الأب إلى الابن، ولكن السؤال كيف يتم تهيئة الواقع لخلق الشرعية على أمر غير مشروع؟ وهذه العملية لها مرحلتين
:
أولا :المرحلة الأولى وهي التي تشكل محاولة إعطاء أبوة لجنين غير شرعي، فإذا كانت المؤسسات السياسية داخل الدول العربية تأخذ شكلا ديكوريا، إلا أنها في نفس الوقت تشكل واقع مهيمن ومسيطر في وجود رئيس للدولة ومجلس وزراء ولسلطات من تنفيذية إلى تشريعية وقضائية، أي أن السلطة، مع سلطوية النظام تمارس بشكل ما عبر هذه المؤسسات، وبالتالي فعملية تداول السلطة والمواقع بين السلطات الثلاث تخضع لمعايير متعارف عليها، يوجد فيها حد أدنى من الموضوعية سواء في اختيار منصب رئيس الوزراء من قبل رئيس الجمهورية أو حتى المجالس التشريعية، فاختيار النواب في حده الأدنى يتم وفقا لنتائج الانتخابات، بصرف النظر عن نزاهتها أم لا، المهم هناك وسيلة، هذا فضلا على أن السلطة القضائية تخضع أيضا لتراث من الممارسة للعدالة والقانون يضمن لها النزاهة في حدها الأدنى، أما فيما يتعلق بانتقال السلطة عن طريق رئيس الجمهورية، فيبقى هو الجانب المظلم، حيث لم تستطع هذه المجتمعات أن تخلق تراثا مؤسسيا وثقافيا داخلها لتداول السلطة وفق ما تقتضيه قواعد الدستور والقانون، بالأخص في المرحلة التي ارتبطت ببناء الدولة الوطنية عقب حصول هذه الدول على الاستقلال، نتيجة لأسباب عديدة، أهمها أن انتقال السلطة عبر هذه الفترة كان يأتي نتيجة لعملية انقلاب حالة دولة العراق التي شهدت أكثر من انقلاب قبل أن يستقر الحكم في يد صدام حسين وأيضا بالمثل سوريا. وثانيا طوال فترة حكم النخبة التي جاءت نتيجة انقلاب، (نموذج معمر القذافي 1969-حتى الآن)، ونموذج علي عبد الله صالح في اليمن 1979-حتى الآن، ثالثا، انه حتى في الحالات التي كان يتم فيها انتقال السلطة سلميا مثل حالة الدولة المصرية التي جاءت عقب ثورة يوليو 52، كان ذلك يتم في إطار نخبة النظام وفق قواعد بيروقراطية وسلطوية، عن طريق تولي نائب الرئيس المنصب بعد عملية استفتاء شكلي تتحكم فيه الدولة على شخصه بعد فراغ المنصب (الرئيس السادات 1970 وحالة الرئيس مبارك 1981)، وبالتالي تراث انتقال السلطة في الحالات الثلاث لا يعبر بشكل كبير عن وجود تراث سلمي لانتقال السلطة، وتفاعلات السياسة بهذا الشكل على مدار الستين سنة قد افرز في الوقت الحالي نمطا جديدا، يتمثل في انتقال السلطة إلى الأبناء عن طريق خلق وضع خاص من رحم ديكتاتورية هذا النظام لمن يرونه مؤهلا لخلافة الأب حتى لو كان ذلك بتسخير إمكانيات الدولة الرسمية لخلق حالة شرعية لهؤلاء الأبناء، وكل ذلك بالنسبة للدولة السلطوية تقدر عليه.
ثانيا : الموائمة مع الطرف الخارجي، كما هو معروف فإن انتقال السلطة بهذا الشكل يثير حفيظة الخارج، بالأخص الدول التي لها مصالح في المنطقة، وتخشى من سريان الفوضى التي تؤثر على مصالحها، ومن هنا فهذه النظم تعمل حساب للطرف الخارجي والذي ليس وضعه بجديد في المنطقة، فهو يلعب هذا الدور منذ عهد الاحتلال في أواخر القرن التاسع عشر، ومن ثم كان من الضروري وجود مخرج لإرضاء وطمأنة الطرف الخارجي يأخذ أحد احتمالين كلاهم مر: الأول يتمثل في تقديم تنازلات من اجل تمرير التوريث بشكل لا يثر حفيظة الطرف الخارجي، قد تكون هذه التنازلات ثوابت وطنية. والثاني هو أن يتم تهيئة المجتمع قانونيا ومؤسسيا لإخراج انتقال السلطة بشكل مرضي لجميع الأطراف، وهو أمر لا تقتدر على فعله غير النظم الديكتاتورية التي تهيمن على مجتمعات ضعيفة، في أن توجد انتخابات، وهي لعبة هذه النظم التي أثبتت كل الانتخابات والاستفتاءات التي أجريت على مدار الخمسين سنة الماضية أن نتيجتها تأتى وفقا لرغبة الحاكم وليس وفقا لرغبة الشعب إلا فيما نذر، ومن هنا يتقدم المرشح المهيأة له الظروف السياسية والأمنية بشكل طبيعي ضمن مرشحين كومبارس آخرين لإحباك العملية التي مقاليدها بيد النظام وليس بيد أصوات البشر الذين يختارون.
إن خطورة هذا الوقع لانتقال السلطة حتى لو جاءت بشكل سلمى تكمن في أنها تخلق ثقافة جديدة داخل هذه المجتمعات، فمنطق الحق لن يذهب لمن يستحقه وفق من العدالة وإنما وفق منطق النفوذ، ومن ثم تصبح مثل هذه الثقافة وكأنها عرف وشيء طبيعي أن يوالى الأقارب أقاربهم، فنجد التوريث يدخل كل شريحة في المجتمع فأصحاب النفوذ في المهن الأخرى يورثون أبنائهم بالطرق غير الشرعية أماكنهم مثل الجامعات وغيرها
إن فراغ السلطة في المجتمعات العربية يعد كارثة تفوق وجود السلطة في شكل ديكتاتوري وسلطوي، ومن هنا فإن مأسسة المجتمعات العربية لتهيئة انتقال السلطة من رئيس إلى آخر باتت من الشأن العام الذي يهم جميع الأفراد عامتهم ونخبتهم، فمثل هذا الأمر بات ليس من الأسرار العليا التي لا يجوز الحديث فيها، وإنما أصبح للجميع الحق في معرفة مصير ما سوف يؤول إليه مستقبل بلدهم والطريقة المثلى لاختيار من يحكمهم.
© منبر الحرية ، 28 يونيو / حزيران 2010