من الواضح أن بوسع الدولة أن تكون دولة سلطة سياسية حاكمة، دون أن تكون دولة مواطنين إذا لم تعترف بأن مهمة النظام السياسي، هي الاهتمام بمصالح المحكومين ورعايتها وبتنمية الدور السياسي للمواطن، وضمان مساهمته الحرة بوصفه فاعلا سياسياً . إذ ينبغي أن يشعر المواطنين أنهم يساهمون في بناء الحياة والمجتمع السياسيين، فإذا لم يتعمق لديهم هذا الشعور بالانتماء إلى المجتمع السياسي والدولة، وإنما إلى أسرة فقط، أو قرية، أو طائفة، أو عرق، أودين، فإن هذا الوعي بالانتماء الأخير يترسخ على حساب شعورهم بالمواطنة العمومية والمشتركة
.
تقاس المساهمة السياسية للمواطن بمعايير واضحة تتعلق بقدرته السياسية على التعبير عن آرائه بحرية وبترجمة قناعاته السياسية وتجسيدها خلال العمل الفردي أو الجماعي المنظم، وبدرجة تأثيره على آليات عمل النظام السياسي وقراراته، و تحكمه بسلوك ممثليه. فبمقدار ما يمتلك المواطن الوعي السياسي والأدوات والوسائل التي تتيح له ترجمة هذا الوعي في سلوك حرّ بعيد عن الإكراه، تكون البيئة السياسية هي الأمثل. وقد وجد الفلاسفة السياسيون أمثال لوك Locke ومل Mill وتوكفيلTocqueville وغيرهم أن هذه المعايير هي أساسية لنظام ديمقراطي ناجح قائم على التعددية وحرية التعبير وحقوق الأقليات.
المشاركة السياسية الحرة والطوعية للمواطنين، هي شرط أساس لأي نظام سياسي حديث كفَ عن أن يكون مستبداً وبالياً. وقد أظهرت التجربة التاريخية للعديد من المجتمعات أن حيوية الأخيرة، وتماسكها واستقرارها، رهين بدرجة الإسهام السياسي والمبادرة لدى المواطنين. بينما يفسّر هشاشة النظام السياسي وعدم استقراره وضعف المجتمع المدني بعزوف الأفراد أو منعهم عن المشاركة السياسية، وتحاشيهم المساهمة وليس العكس. لقد مثل النظام العراقي البائد نموذجاً حيّاً لهذا الموقف. إذ اعتقد أن من شأن القمع وسلطة الخوف وحدهما أن توحدا المجتمع، فحوله إلى عبد لقوته المتعسفة. وقد أفضى ذلك إلى تدمير روح الاجتماع الإنساني بالذات، فتحول المجتمع في أحسن أحواله إلى جمهرة قلقة وعدمية، محتقنة ومفككة، تسودها الكراهية وعدم الثقة.
يتعلم المواطن في زمن الاستبداد والقهر أن يكون سلبياً إلى أقصى درجة، وخلق الرعب لديه نوعاً من العدمية السياسية واللامبالاة، التي كرست الاغتراب الداخلي وعمقت من تصدع الوحدة السياسية والاجتماعية المطلوبتان إزاء أيّ تحدّ خارجي. ومن هنا أخفقت جيوش صدام الجرارة في الإنابة عن المجتمع دفاعاً عن نظامه وعن سيادة البلاد. إن الدرس الرئيس، الذي يمكن استخلاصه من التجربة العراقية هو، أن أقدام الطغاة والمستبدين هي التي تمهد الطريق أمام الغزاة حينما تجعل من أعناق مواطنيهم موطأ لها وتروضهم على الخنوع والذل.
لا يستطيع النظام السياسي الدفاع عن المجتمع وحمايته من دون مواطنين أحرار يستشعرون حريتهم، مهما ادعى ذلك. فالنظام الذي يؤثر القمع يولّد الخوف في الأذهان ويخلق مقداراً كبيراً من عدم الثقة، ويؤدي كل ذلك، في نهاية المطاف، إلى القطيعة بينه وبين الأساس الاجتماعي لشرعيته وبقائه.
إن النظام السياسي الذي لا يثق بالوعي السياسي الوطني لمواطنيه، ليس له أن يفرض وعياً وطنياً مشتركاً بالقوة من دون أن يغامر بإثارة العداء والكراهية نحوه. إن عملية التعبئة الأيديولوجية التي تبدو مفروضة هنا، لا تخلق شعوراً وطنياً مشتركاً وفاعلاً، ومن ثم عوضاً من أن تحقق تواصلاً سياسياً محتملاً بين النظام السياسي والمجتمع المدني، فإنها تحدث صدعاً بين الطرفين. إنها في أحسن الأحوال تجعل المجتمع يتحرك ويتكلم بشعارات لا تتفاعل ووعي أفراده وضمائرهم.
إن من شأن الكوابيس الأيديولوجية، التي تنجم عن تماهي المجتمع والدولة مع أيديولوجية حزب حاكم، أن تضعف الشعور بالمواطنة لدى الأفراد وتخنق لديهم كل ابتكار أو تنوع خصب في الرؤى، وتقيّد روح المبادرة. فالمجتمع الديمقراطي الحديث في أبرز تعريف له، هو المجتمع الذي يشرك أكبر تنوع ثقافي ممكن وتنوع في الآراء مع أوسع استخدام ممكن للعقل، مع ضمان أكبر قدر ممكن من الاحترام للتطلعات الفردية والجماعية، ودون اللجوء إلى أي شكل من أشكال العنف أو القهر أو الإقصاء..
من جانب آخر، فإن الاعتقاد بأن المصلحة الوطنية تقتضي هذا التماهي بين المصادر الثلاث، إنما يقوض كل أساس سياسي أو قانوني لمعارضة تعسف السلطة، ويطيح بكل إمكانية لتصحيح مثالبها وتعويضها، وبالتالي يعدّ العدة لشرْعنة أخطائها، بجعلها القاعدة الناظمة للحياة السياسية. فيصير لزاماً على الدولة إذا شاءت أن تكون وطنية وديمقراطية حقاً، أن تعترف لمواطنيها بحقهم في المعارضة ضمن إطار القانون، بالأسلوب الفردي أو الجماعي. فلا تقوم الدولة فقط بتحديد سلطتها على هذا النحو، وإنما تفعل ذلك من موقع وعيها بأن شرعية نظامها السياسي واستمراريته مرهونتان بدرجة تفاعلها وتواصلها مع المجتمع المدني، وبقوة الأخير ومقدار تأثيره. فإذا لم تفعل ذلك، فإن ادعائها بأن شرعيتها مستمدة من تمثيل مواطنيها يعد نفاقاً بلا طائل..
إن اجتماع المساهمة السياسة للمواطنين مع تحديد السلطة وتقييدها بوساطة الحقوق الأساسية، يعدّ الأساس الراسخ لأي نظام سياسي حديث، الذي بدونه لا تكون الدولة دولة مواطنين أحرار. لكن يتعين أن يتوج كل ذلك غياب مبدأ مركزة السلطة ونفي كل صفة جوهرية عنها، بوصفها حزب واحد، تنطق باسم الشرعية الأخلاقية والسياسية للمجتمع. الأمر الذي يمكن ترجمته بشكل ملموس في التداول السلمي للسلطة عبر انتخابات حرّة ونزيهة تعتمد رغبة الأغلبية قانوناً لها.
© منبر الحرية، 28 يونيو / حزيران 2010