لنبدأ من عبارة لكم عشيّة أحداث 11 أيلول الإرهابيّة في أمريكا مازلت أتذكّرها، كتبتم حينها في جريدة (الحياة) تقولون بأنّ تبرّؤ الرأي العام العربيّ من الإرهاب موقفٌ طفوليّ… وفي موضع آخر كتبتم: أسامة بن لادن، قبل أن يكون صنيعة المخابرات المركزية الأمريكية، رجلٌ منّا وقد صنعته نظمنا الاجتماعيّة…أين هي مسؤوليّة الشعوب العربيّة والإسلاميّة من المدّ الأصوليّ التكفيريّ و التدميريّ في المنطقة؟
ج1-ينبغي تصحيح العبارة هنا. عندما نقول مسؤوليتنا، فنحن لا نقصد الشعوب بالمطلق لأنّ هذا لا معنىً له، إنّما نقصد مسؤولية المؤسسات التي أقَمنا عليها اجتماعَنا، كما نقصد الاختيارات الكبرى التي اعتمَدتْها النّخب الاجتماعيّة المسيّرة للمجتمع والموجِّهة له على المستويات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة والدينيّة معاً. فهذه المؤسّسات والاختيارات التي تمثّلها والتوجّهات التي تفرض عليها من قبل النّخب هي التي تحدّد إطار عمل الشعوب والأفراد، وغاياتهم وأساليب عملهم واختياراتهم المُحتَملة ووسائل تحقيقهم لغاياتهم. وإذا فسدت المؤسسات أو فسدت الاستراتيجيّات التي تسيّرها، فسد المجتمع نفسه، فسارَ نحو الصراع أو العنف والاستثمار في القيم السلبيّة، أو نحو الفوضى والاقتتال. فالشعوبُ محكومةٌ بمؤسّساتها والمشاريع الجمعيّة التي تندرج فيها والقيم التي تحرّكها، وليس بموروثها البيولوجيّ أو الثقافيّ. ولا ينبغي أن نتردّد في تأكيد فساد مؤسساتنا، وأكاد أقول جميعاً، الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة والدينيّة معاً. وهذا الفساد هو المسئول في الوقت نفسه عن تحويل البلدان إلى مزارع إقطاعيّة يعبث بها أمراءٌ من دون ثقافة ولا ضمير، حسب أمزجتهم الشخصيّة، خارج أيِّ مفهوم للسياسة والقانون والدين والأخلاق والإنسانيّة. بقدر ما هي مسؤولة، أعني المؤسّسات الفاسدة، عن تفجير ينابيع الحقد والانتقام وإرادة تدمير المجتمع والانقلاب عليه لدى فئات لم تعد تحتمل النظام، ولكنها لا تعرف وسائل ولا طرقاً أخرى لمواجهته غير ما يستخدمه هو ضدّها. حركات التمرّد والانتقام والعصيان وحمل السلاح هي الابن الشرعيّ لنُظُم العسف والفساد و الإهانة والطغيان. ومصيرهما معلّقٌ واحده بالآخر.
2- هناك مفارقة كبيرة تبدو لي عند الحديث عن الديمقراطية في سوريا، فللوهلة الأولى يبدو وكأن هاجس الانتقال/التغيير الديمقراطيّ في سوريا هو”مالئ الدنيا وشاغل الناس” في حين أن أغلبية الشعب السوريّ لا تكترث لهذه القضيّة التي تبدو مركزيّة في خطاب المعارضة السوريّة(الذين ليسوا سوى مجموعات صغيرة نجت بأعجوبة من مذبحة السياسة حسب تعبيركم في “الاختيار الديمقراطي”)، ناهيك عن تخوّف قطاعات واسعة في سوريا، مواطنين عاديين وناشطين في حقل الشأن العام، من أنّ البديل القادم للنظام القائم حالياً سيكون إمّا الفوضى(الحرب؟؟!!!) الأهليّة أو إسلام سياسيّ متشّدد(استبداد دينيّ إسلاميّ مذهبي الطابع) أو مندوبي حكومات غربيّة(عملاء)….. ما بين اللامبالاة الشعبيّة و”الحياديّة السلبيّة” لآخرين وعداء الكثيرين للديمقراطيّة من جهة وحماس النشطاء السياسّيين والمثقّفين الوطنيّين لشعار الديمقراطيّة من جهة أخرى..، هل هو “الخوف والهروب من الحرية” بتعبير إريك فروم، السّاكن في البنية الثقافيّة والسيكولوجيّة لإنساننا المُستعبَد هو الذي يقف خلف هكذا مواقف؟! وكيف يمكن تعزيز ثقة الناس بقبول عقدٍ اجتماعيّ سياسيّ جديد يؤسّس لسورية المستقبل بدلاً من نظام الاستبداد والفساد والتفكّك الاجتماعيّ والانهيار الاقتصاديّ؟
ج2- سكوت الناس وشلل إرادتهم لا يرجعان لخوفهم من الحريّة، كما يخاف الأسير الذي اعتاد الأسر من الخروج من قفصه. ربّما كان الأمر أعمق من ذلك. فالشعوب العربيّة والإسلاميّة لم تعرف الحرّيّة، ولا اختبرت ممارستها، بالمعنى السياسيّ والمدنيّ الحديث الذي نستخدمها به اليوم، أي من حيث هي حقوقٌ وممارسات فرديّة ومشاركة في تقرير الشؤون العموميّة. فهذا المعنى هو ثمرة الحداثة السياسيّة التي جعلت الشعب مصدر السلطة وأسّست لشرعيّة شعبيّة للسياسة، أي انتخابيّة ديمقراطيّة، بعد أن كانت شرعيّة ملكيّة تبقيها حكراً على الحاكم الملك أو السلطان. وباستثناء فترات قصيرة ومتقطّعة لم تعرف مجتمعاتنا حياة سياسيّة ديمقراطيّة فعليّة ولا سَنَحَت لها الفرصة لتمثّل قيم الحرّيّة بمعانيها المدنيّة والسياسيّة. بقينا ننظر إلى الحرّيّة من منظار الشريعة والعرف أيْ بوصفها صفة الشخص غير المملوك من غيره، أي عكس العبد والرقيق. ولذلك لا يبعث الحُكم الديكتاتوريّ مهما استمرّ وبالغ في تعسّفه على الشعور بانعدام الحرّيّة، فنحن نبقى من الناحية الشرعيّة أحراراً، ولا يثور الرأي العام ضده إلاّ عندما يرتبط بالظلم، فلهذا الأخير مدلولاً واضحاً وسلبيّاً في الثقافة والوعيّ الإسلاميّين. بل إن الديكتاتوريّة لا ترى كديكتاتوريّة، ولا تعبر هذه اللفظة عن شيء مهم في الوعي السّائد العام. إن المدلول الديكتاتوريّ يجد تجسيده في مصطلحات التعسّف والطغيان والفساد. فإذا لم تترافق السلطة المطلقة بالفساد لا نسميها ديكتاتوريّة، ونتسامح كثيراً مع تغييبها الحرّيّات، بل ربما نظرنا إليها كسلطة ايجابيّة إذا ارتبطت بالتطبيق الدّقيق للشريعة أو القانون واحترمت قاعدة الإنصاف في تعاملها مع الأفراد فلم تميّز بينهم. وهذا هو مضمون النظريّة الشّهيرة للمستبدّ العادل الذي كان يطالب به المصلحون الكبار في العصور الإسلاميّة، بما في ذلك في عهد الإصلاح الدينيّ الأخير في أواخر القرن التاسع عشر. وأعتقد أن أغلبية النخب العربيّة والإسلاميّة لا تزال تعتقد حتى اليوم، بسبب عدم ثقتها بالشعب وجهلها العميق بمعنى الحرّيّات المدنيّة والسياسيّة هي نفسها، بأن حكم المستبدّ المستنير خيرٌ من حكم الديمقراطية الذي ربّما أتى بحكومات تقليديّة معادية للحداثة والتجديد.
والواقع أننا لم نعرف في مجتمعاتنا معنى السياسة الحديثة من حيث هي مشاركة لجميع أعضاء المجتمع في تقرير الشؤون العموميّة. لقد كُنا معتادين، مثلنا مثل شعوب العالم جميعاً في القرون الوسطى، على تسليم أمرنا لأسيادنا، ملوكاً أو أمراء أو أعيان، في الشؤون العموميّة، شؤون الحرب والسلام والحكم والقضاء، وربّما حتى الآن، بينما نعتمد في تنظيم شؤون حياتنا الخاصّة في كل ما عدا ذلك على تقاليدنا الدينيّة أو العرفيّة أو الاثنين معاً.
من الطبيعي في هذه الحال أنْ لا يحرّك شعارُ الحرّيّاتُ الفرديّة، الذي يعني المشاركة في تقرير الشؤون العموميّة، الأغلبيةَ الشعبيّة التي لم تؤمن يوماً أنّ من حقّها التدخّل في ما هو من اختصاص الأعيان. بل ربما كان مثل هذا الشعار سبباً في تنفيرها من السياسة لأنّه يبدو وكأنه شرك تستخدمه النخب السياسيّة المثقّفة والحديثة لدفعها إلى الوقوف في مواجهة السلطة وتعريضها لانتقام هذه الأخيرة العنيف. وحتّى أولئك الذين استبطنوا معنى الحرّيّة الفرديّة، وهم أقلية، لا يتجرّؤون على المطالبة بها لأنهم يدركون أنه لا أملَ في تحقيقها في النظم السياسيّة العربيّة الرّاهنة، وأنّ المجاهرة بها يمكن أنْ تعرّضهم لانتقام الحكّام تماماً كما كان الأقنان يتعرّضون للموت إذا اعترضوا على سياسات أسيادهم الإقطاعيّين أو ارتفعوا بتفكيرهم إلى مستوى مناقشة أحكامهم السياديّة.
لكنّ القول أنّ قلّة من النخب السياسيّة والثقافيّة الحديثة هي التي تملك الحسّ العميق بمعنى الحرّيّات الفرديّة، بقدر ما تطمح إلى المشاركة السياسيّة، والمعاملة على قاعدة المساواة ورفض العبوديّة، لا يعني أنّ قضية الحريّة لا تعنى إلاّ النخب المثقّفة الاجتماعيّة والسياسيّة، ولا تفيد غيرها. إنّ إقامة نظام مدنيّ قائم على احترام الأفراد ومشاركتهم جميعاً في الحياة السياسيّة، وتطوير وعيهم المدنيّ وتعميق شعورهم بالمسؤوليّة عن مجتمعهم وما يحصل فيه، عن حالته وتقدّمه ومستقبله ومصيره، لا يشكّل اليوم النظام الوحيد القادر على بناء جماعة سياسيّة حيّة وفاعلة ومبدعة فحسب، قادرة على التفاعل والتعاون والتواصل مع المجتمعات المحيطة بها والدفاع عن نفسها ومصالحها. إنّه يشكّل أكثر من ذلك شرط ولادة مفهوم المصلحة العموميّة، أي نشوء رؤية وطنيّة تساعد الفرد على النّظر أبعد من مصالحه الشخصيّة المباشرة ليأخذ بالاعتبار مصالح الآخرين أولاً، وليضع مصلحته الفرديّة ضمن قاعدة القانون الذي يشكّل مصلحة عموميّة، لأنّه لا بقاءَ للمجتمع من دونه، ثانياً. نظام الحرّيّة هو وحده الذي يمنع من استفحال الأنانيّة البغيضة وما يرتبط بها وتحميه من قيم الوصوليّة والانتهازيّة والمحسوبيّة، أي يخلق داخل كل فرد وعياً بأنه جزءٌ من كلٍّ، وأنّ الحفاظ على توازن الكلّ الاجتماعيّ وانسجامه هو شرطٌ لاستمراره في تحقيق مصالحه الخصوصيّة. وليس هناك أكثر دلالة على ذلك مما نشهده من ارتباط واضح داخل النظم الاستبداديّة بين إلغاء الحرّيّة وانعدام المسؤولية وسيطرة المصالح الأنانيّة التي تتسبّب في تدمير المؤسسات وتعميم الفساد والظلم والاقتتال معاً.
أما تأسيس عقد جديد ينقل المجتمع من الديكتاتوريّة والفساد نحو حياة ديمقراطية حقّة فهو مرتبط بمجموع العملية التحويليّة التي نسمّيها معركة الديمقراطيّة. وهي في نظري معركة تاريخيّة تستدعي الاستثمار الفكريّ والسياسيّ والاجتماعيّ والأخلاقيّ والاقتصاديّ الطويل، الذي يتطلّب جهداً متواصلاً وإراديّاً كبيراً من قبل النخب الاجتماعيّة وفي طليعتها المثقّفون، تتناقض كلّياً مع الانقلابات العسكريّة التي عرفناها في السابق، ولا تقتصر على انتظار انهيار النظام الاستبداديّ أو الانقلاب عليه. إنّها ترتبط بإعادة بناء الوعي ومنظومة القيم وترميم قنوات التواصل والتفاعل والتضامن بين أفراد المجتمع، وقبل ذلك، بين أفراد النخبة الاجتماعيّة. ومن دون ذلك لن يجلب الانقلاب على الوضع الاستبداديّ إلاّ وضعاً استبدادياً آخر شبيهاً به أو قريباً في صورته منه. فالديكتاتورية ليست انعكاساً لإرادة شخصيّة من قبل القائمين عليها، حتى لو ظهرت وكأنّها كذلك، ولكنها قائمة على شروطٍ موضوعيّة وذاتيّة ومرتبطة ببيئة فكريّة وثقافيّة وسياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة أيضاً. فشبكات المصالح الأنانيّة وما تتميّز به من بُنيات خاصة، هي التي تخلق المستبدّ الحاكم بأمره، وليس العكس. لذلك إنّ الخروج من الديكتاتورية لا يتحقّق إلاّ بتغيير يشمل جميع الأفراد ومستويات الحياة الاجتماعيّة، فهو مسؤولية الجميع، وفي مقدمتهم النخب الاجتماعيّة. والطريق إليه هو تربية الناس وكلّ فرد على مبادئ المسؤوليّة، أي إدراك ترابط مصالح الفرد الخاصّة بمصالح الأفراد الآخرين، واستعداده للمشاركة في حمل المسؤوليّة. بل إنّ الديمقراطية ليست شيئاً آخر سوى مشاركة الجميع في تحمّل مسؤولية تقرير مستقبلهم المشترك. إذا وصلنا إلى هذا الموقف ونمّينا هذا الاستعداد عند الأفراد أصبحنا واقعاً، أو من حيث الواقع، مجتمعاتٍ ديمقراطيّة. فقاعدة الاستبداد الكبرى ومورده هو الاستقالة السياسيّة، أي التخلّي عن المسؤوليّة وتحييد الفرد لنفسه عن التفكير والعمل في الشؤون العموميّة.
3- ثمّة التباسات عديدة حول مفهومَيْ الديمقراطيّة والليبراليّة نظريّاً وإجرائيّاً وقد توسّعتم في هذا الموضوع….في حين أن نقاشاً مشابهاً دار حول العلاقة بين الديمقراطيّة والعلمانيّة في سوريا… هل صحيحٌ أنّ العلمانيّة يجب أن ُتطرح الآن بالترافق تماماً مع الديمقراطيّة، أم أنّ العلمانيّة كمطلب سياسيّ واقعيّ عند البعض وشعار برّاق بلا روح ومضمون ثقافيّ ديمقراطيّ عند آخرين، يجب أن يؤجّل لمصلحة أولوية إقامة نظام ديمقراطيّ أولاً…؟
ج3-لا ديمقراطية من دون “علمانية”، أي من دون قبول الأفراد بمبدأ الاحتكام للرأي في تقرير كل ما يتعلق بالشؤون العموميّة، بما في ذلك في القوانين والتّشريعات التي تحكم النّظام الاجتماعيّ. إذا فَرض فريقٌ على المجتمع مبدأ آخر غير الرأي في معالجة الشؤون العموميّة، لم تعد هناك ديمقراطية وإنّما نظامٌ مرهون بالنصوص المقدّسة التي يحتاج تفسيرها إلى تفاهم واتفاق مسبق بين جميع أصحاب العقيدة الدينيّة الواحدة، وهو أمرٌ مستحيل لأنّ الاختلاف في التأويل هو جوهر الحياة الفكريّة، وهو واقع الحال اليوم في كلِّ مجتمعات العالم وجماعاته الدينيّة. ولا أعني هنا بالنصوص المقدّسة الإلهيّة منها ولكن المنزّلة من قبل الحكّام الذين يؤلّهون أنفسهم أيضاً، حتى لو وسموها باسم العلمانيّة، كما حصل مع النظم الشيوعيّة. فقد كانت قوانينها توصف بالعلميّة، أي التي لا تخطئ، والتي لا يمكن أن يكون موقفنا إزاءها وإزاء منتجيها من العباقرة الأفذاذ، إلاّ موقف التسليم والاقتداء. ونستطيع أن نقول الشيء نفسه تجاه بعض الترسيمات القوميّة التي يعتبرها أصحابها ثوابت لا تناقش ولا يمكن للمواطنين، قلّة كانوا أم كثرة، التشكيك في صلاحيتها أو حتى طرحها على النقاش.
لكن تأكيد هذا المبدأ أو التوقف عنده لا يحلّ المشكلة أبداً. ذلك أنّ الاستخدام السياسويّ، والتعبئة التي حصلت في الصراعات الطويلة السابقة بين الأحزاب والفرق السياسيّة المتنازعة، قد غيّرا معنى العلمانية، بالمفهوم الذي ذكرته للتوّ، أي إنزال كل ما يتعلّق بتنظيم المجتمع من قواعد ومؤسسات ومبادئ وقيم، إلى مستوى الرأي والقبول بتعريضه لنار العقل الكاوية. فأصبح البعض ممّن يدافع عنها يطابق بينها وبين نزع الدين السماويّ من المجتمع أو السياسة بمعنى النشاط الاجتماعيّ اليوميّ، وأخذ البعض الآخر ينظر إليها في مواجهة الفريق الأول على أنها مرادفة للكفر والتخلّي عن الدين وأي إيمان واعتقاد، أو على الأقل تحييد الدين من حيث هو التزام عقائديّ وأخلاقيّ، عن الحياة العامة، وبالتالي الانحطاط بالإنسان الآدميّ في نظر هؤلاء إلى مستوى البهيميّة. هكذا صارت العلمانيّة سلاح أولئك الذين يريدون وضع حدٍّ لنفوذ الدين السماويّ وما يرتبط به من تقاليد محافظة في المجتمع، وصار التشهير بها وتشويه معناها وربطها بالدعوة إلى انعدام الدين والأخلاق ومساواة الإنسان والحيوان سلاح أولئك الذين يريدون تطبيق الشريعة الدينيّة وإقامة السلطة العادلة والأخلاقيّة. وشيئاً فشيئاً تحوّلت إلى مصدر إضافي للنزاع والصدام وسوء الفهم والقطيعة داخل قطاعات الرأيّ العام بدل أن تكون إطاراً لتجاوز اختلافاتهم العقائديّة، لا إلغائها، في سبيل توحيد كلمتهم وإرادتهم السياسيّة. وعمل تشويه معنى العلمانيّة وإفساد مضمونها ودلالاتها عبر هذه المعركة السياسيّة والاستخدامات الأداتيّة على إساءة سمعتها، وقاد إلى تحييدها من النقاش السياسيّ، أو استبعادها الإراديّ من قبل قسم كبير من أصحاب الرأي الديمقراطيّ والقوميّ، لتجنّب النزاعات العقائديّة الثانويّة، والاحتفاظ بأمل توسيع قاعدة التفاهم بين الأطراف والتيارات الاجتماعيّة على اختلاف فلسفاتها، خاصة بعد فساد المصطلح واختلاط مدلولاته. وهو ما كانت الحركة الوطنيّة قد فعلته منذ بداية القرن التاسع عشر عندما رفعت شعار “الدين لله والوطن للجميع”، من دون أن تغامر بفتح النقاش النظريّ الضروريّ لتأصيل المصطلح وتأسيسه في الفكر والثقافة العربيّة الحديثين. فبقي لذلك عائماً ومائعاً من دون معنى واضح ولا مدلول دقيق، وبالتالي موضع نزاع مستمرّ.
ليس هناك حلٌّ لهذا الاختلاط الهائل الذي ارتبط بمفهوم العلمانيّة وصبغ طريقة تعامل الأطراف السياسيّة المختلفة معه، وتحميله معاني متباينة ومتناقضة تكاد تقضي عليه، إلاّ بالعودة إلى الموضوع والقبول بفتح النقاش المعلّق أو المؤجّل منذ عقود حول العلمانيّة وإعادة تعريفها وتحديدها، في إطار بناء ثقافتنا السياسيّة الديمقراطيّة الجديدة المنشودة. فإذا حرّرنا معنى العلمانيّة من استهداف الدين السماويّ خصوصاً، كما أوْحَت به أو نشرته بعض العقائديات الماركسيّة واليساريّة والتحديثيّة عموماً، واستبعدنا التأويلات اللاإنسانيّة واللاأخلاقيّة التي درجت عليها ولا تزال بعض التيارات السلفيّة الإسلاميّة، لن يبق منها سوى ما ذكرناه. أعني لن يكون للعلمانيّة معنىً آخر مختلف عن معنى المدنيّة، بما تعنيه المدنيّة من أسبقيّة الاعتماد على الرأي، أي من إخضاع جميع القرارات والأحكام المتعلّقة بالشؤون العامة للنقاش الحرّ والعقلانيّ بين ممثلي الشعب. والتأكيد على استخدام الرأي وإعمال الفكر في كل ما يتعلق بالشؤون العموميّة، أي السياسيّة، والمجتمع الحديث هو مجتمعٌ سياسيّ أساساً، لا يمكن أن تنفي الدين ولا حقّ المتدينين في استلهام القيم الدينيّة عند صوغهم لآرائهم وأفكارهم السياسيّة. فليس هناك مبدأ سياسيّ أو اجتماعيّ يمكن أن يستبعد الدين أو أن يقرر استبعاده من أن يكون مورداً للأفكار والقيم التي تحرّك المؤمنين وتوجّه تفكيرهم وأعمالهم وسلوكهم. إنّ ما يستبعد هو فرض الرأي، سواء أكان من استلهام الدين أو العقل، على الآخرين، وعدم القبول بقاعدة سيطرة الأغلبيّة على الأقليّة. لكن هذه السيطرة لا تعني سوى حقّاً مؤقّتاً سياسيّاً، لا يصبح شرعيّاً إلاّ بقدر ما تضمن الأغلبيّة احترام رأي الأقليّة، ولا تقوم بما يحرم هذه الأقليّة نفسها من التحوّل، عن طريق النقاش والحوار والنشاطات السياسيّة والثقافيّة القانونيّة، إلى أغلبية سياسيّة. والخلاصة أنّ الديمقراطيّة لا تقوم من دون علمانيّة. لكنّ العلمانيّة لا تعني تبنّي عقيدة لا دينيّة ولا استبعاد الدين من الحياة العامة ولا تقييد الحرّيّات الدينيّة. إنّها تعنى حياد الدولة ومؤسّساتها تجاه الأديان والعقائد وعدم انخراطها فيها أو الاعتماد عليها للتغطية على سياستها غير المقبولة أو لخرق الشرعيّة الديمقراطيّة.
4-هناك حساسية فائقة لدى البعض من أن أي دعوة للديمقراطية في سوريا تعني بالضرورة سيطرة الإسلاميين المتشدّدين على نظام الحكم في البلاد…بالمقابل نجد أن الديمقراطيّة كنظام وثقافة لا تتمتّع بسمعة طيّبة ورصيد كبير في أوساط الإسلام السياسيّ بشكل عام….كيف نفسر هذا الالتباس والتناقض وما المخرج من هذه الإشكاليّة؟
ج4- ليس هناك تناقض بالضرورة. الفرق الإسلاميّة المتشدّدة الحديثة يمكن أن تستخدم أساليب حديثة لتحقيق أهداف قديمة. ويمكن أن تُستخدم الديمقراطيّة لبناء سلطة معادية لها. وهي ليست الفرق السياسيّة الوحيدة التي تفعل ذلك. فالفاشيّة فعلته من قبل. لكنني لا أعتقد أن الانتخابات الديمقراطيّة تعني بالضرورة سيطرة الإسلاميين، وأقل من ذلك الإسلاميين المتشدّدين. ربما كان ذلك مُحتَملاً منذ عقدين. وهو محتملٌ في مجتمعات تعاني من أزمة وطنيّة حادّة ودائمة كما هو الحال في فلسطين أو في العراق. لكن في الظروف الطبيعيّة، وفي بلدان تتمتّع بالحدّ الأدنى من الاستقرار لا يطمح الإسلاميّون بالحصول على أكثر من ثلث المقاعد في أي مجلس نيابيّ مُحتَمل، هذا في أحسن الأحوال. لكن لنْ يحصل المتشدّدون ربّما على خمسة بالمائة كأقصى حد. وأمامنا أمثلة كثيرة في كل الدول العربية التي حصلت فيها انتخابات مثل مصر وبعض دول الخليج والأردن والمغرب الأقصى وحتى الجزائر وتونس. لكنّ الإسلاميّين الذين سيفوزون ليسوا بالضرورة من النوع المنغلق الذي يرفض التفاهم مع قوى أخرى غير إسلاميّة. فهم يعرفون اليوم أنه ليس بإمكانهم حكم البلاد لوحدهم.
لكن ما هو أهمّ من ذلك هو أن أيّ انتخابات تقوم في سياق عملية انتقال مدروسة من حكم الحزب الواحد إلى حكم تعدّديّ لا تقوم ولا ينبغي أن تقوم عبر انقلابٍ عسكريّ وإنّما من خلال عملية سياسيّة يتم فيها التوافق بين القوى السياسية على شروط المرحلة الانتقاليّة، وبالتالي أيضاً على صوغ قانون للانتخابات يراعي مصالح الجميع ويمنع الانفراد أو الإجحاف بحقّ القوى المختلفة. ويشكّل هذا التفاهم ضمانة قويّة ضدّ الانحرافات أو المخاطر المُحتَملة لسيطرة الإسلاميين. بالإضافة إلى أنّ مؤسسات الجيش والأمن في جميع البلاد العربية تشكّل، كما هو الحال في تركيا، معقلاً للتيّارات غير الدينيّة. وليس من المطلوب حلّها للقيام بالانتقال نحو الديمقراطيّة.
بالعكس، إن تأجيل الانتقال هذا، بما يرافقه من تراكم التوتّر والضغط والاحتقان، هو الذي يضاعف من مخاطر الانفجار والانتقال من دون تفاهم نحو حكم تعدديّ يصبح فيه الأكثر قدرة على تعبئة المشاعر الطائفيّة هو الحكم في اللعبة الانتخابيّة. إنّ ترك الأمور للصدف هو بالضبط الذي يهدّد باستلام الإسلاميين المتطرّفين بالفعل، وليس تنظيم الانتقال من خلال عملية تفاهم وطنيّ وتحوّل تدريجيّ مضبوط ومتّفق عليه. والقصد لو كانت هناك إرادة تحوّل ديمقراطيّ بالفعل، لحصل ذلك من دون أي مخاطرة، و لَكَان من السهل جداً التوافق على مراحل انتقاليّة تمنع أيّ انزلاق أو انحراف.
© منبر الحرية،15 تموز/يوليو 2010
(هذا النصّ جزء من حوار نشر في مجلة الحوار”ثقافية فصلية حرّة، تصدر في سوريا”)