الرياضة والأصوليات الدينية: ازدواجية لا تخلو من انتهازية

peshwazarabic21 نوفمبر، 20101

يختزل تاريخ الرياضة علاقة من نوع خاص مع الدين. فمنذ البداية، كانت الألعاب الرياضية على تماس مباشر وحاد مع التفسيرات ذات الطبيعة الدينية الخالصة. فحسب رودلف براش، فإن الرياضة بدأت كطقوس دينية. ومنشأ ذلك بحسب براش: إن الإنسان كان يخاف من قوى الطبيعة التي تحيط به وتنال منه، الأمر الذي غرس في الإنسان البدائي نزعة إحراز النصر على الأعداء المرئيين وغير المرئيين للسيطرة على قوى الطبيعة، ولزيادة الخصوبة في المحاصيل والماشية؛ فقد كان الملعب والألعاب طريقة الشعوب البدائية لضمان وإحياء الزرع والضرع.
وعلى سبيل المثال، فإن ألعاب الكرة كانت تمثل لشعب المايا في أميركا الوسطى جزءاً هاماً من عقيدته الدينية، كما أن الأولمبياد هو نتاج علاقة خاصة بين الدين والرياضة، حيث كانت احتفالات الإغريق الدينية تأخذ طابعاً رياضياً تنافسياً، وكان الاحتفال أو المهرجان الأكثر شهرة، بحسب الدكتور أمين الخولي في كتابه “الرياضة والمجتمع”، هو المهرجان الأولمبي الذي كان يقام على سفح جبال أولمبيا في بلاد الإغريق لتمجيد ما أطلقوا عليه اسم “رب”.
ومثلما كان الدين دافعاً قوياً لازدهار الألعاب الرياضية، كان سبباً في تراجعها. فقد قرر الإمبراطور تيودور الأول فور اعتناقه المسيحية عام 394 منع الألعاب التي كانت معروفة لدى الإغريق، بحجة أنها تمثل احتفالات وثنية. وقد ظل يُنظر إلى الرياضة مسيحياً على أنها تتعارض مع القيم الروحية والإيمان الحقيقي، لأنها تغرق الجسد في الملذات والمادية.
لكن منذ القرن التاسع عشر، حصل تحول جوهري في نظرة الكنيسة للرياضة، ويعود الفضل في ذلك إلى بعض رجال الدين المسيحي الذين أدركوا أن الرياضة لا علاقة لها بما قد يرتكبه الإنسان من آثام، بل على العكس يمكن للرياضة أن تساعد في بناء شخصيته بطريقة أفضل.
وفي الواقع، كان هناك سبب آخر جعل الكنيسة تتحمس لدعم الأنشطة الرياضية، وهو، كما يذكر عالم الاجتماع جورج سيج، خدمة الرب. وهو ذات السبب الذي من أجله اهتم اليهود بالرياضة، إذ كانت الأنشطة الرياضية تقام في يوم السبت، الأمر الذي أصبغ عليها صبغة دينية، وجعلها تبدو وكأنها عملية إيمانية بحتة.
في المقابل، فإن نظرة الإسلام إلى الرياضة كانت مختلفة بعض الشيء، إذ لم يكن هناك أي تعارض بين التعاليم الإسلامية والرياضة، بل إن كثير من كبار العلماء في التاريخ الإسلامي لم يخفِ إعجابه ببعض الألعاب الرياضية كالفروسية والرمي والمبارزة، باعتبارها حاجة ضرورية لبناء جسم قوي، وبالتالي لبناء مجتمع قوي ودولة قوية.
لكن انحطاط المسلمين الحضاري غيّر الرؤية تجاه كثير من المسائل ومنها الرياضة التي يُنظر إليها على أنها تضييع للوقت في غير فائدة. ورغم أن هذا العصر يكاد يكون عصر الرياضة، فإن هناك أصوات دينية ما تزال ترى في الرياضة مؤامرة “يهوصليبية” لإلهاء المسلمين عن أمور دينهم وعن قضايا أمتهم، فمتابعة كأس العالم، بحسب الدكتور يحيى إسماعيل، وهو عالم دين أزهري، يعادل “تعاطي المسكرات المحرمة شرعاً لأنها تلهي عقول الأمة وتغيّبها وتعمي بصيرتها عما يراد بها ويستهدفها”، مؤكداً في جوابه على سؤال لموقع “إسلام اون لاين” حول حكم الشرع في اهتمام العالم الإسلامي بكأس العالم أن “الوقت لا يسمح بأي حال من الأحوال أن تركز على متابعة مباريات الكرة، بينما يدافع النساء والأطفال عن المسجد الأقصى”، بالإضافة إلى أن الظروف المحيطة بالأمة سواء في العراق أو أفغانستان أو كشمير ليست كما ينبغي.
ليس هناك أفضل من التيارات الأصولية في استغلال معاناة الناس العاديين والتحريض على الرياضة ومن يمارسها؛ فالمرتبات العالمية التي يحصل عليها اللاعبون هي “جنون وسفه”، فيما لا يتحدث أحد عن فساد كبار المسئولين واستيلائهم على مئات الملايين بغير حق.
لكن هذا الموقف المتشدد تجاه الرياضة يعبر عن ازدواجية مفرطة، فالحركات الإسلامية التي لا تتوانى في انتقاد الإنفاق على المسابقات الرياضية هي ذاتها من تحاول الاستفادة منها لفرض آرائها وتوجهاتها. وفي هذا الإطار يقال أن “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” الجزائرية استطاعت الفوز في الانتخابات البرلمانية التي جرت في 26 كانون الأول/ ديسمبر 1991 بواسطة الرياضة، حيث كان يتم ترديد شعاراتها في الملاعب الرياضية.
كما أن حركة الإخوان المسلمين وهي تُعد أم الجماعات الإسلامية والتي تأسست في 1928، كان تولي الجانب الرياضي وخصوصاً الألعاب القتالية عناية خاصة، لإدراكها أن الرياضة هي إحدى البوابات الرئيسية لتحقيق أهدافها في الاستيلاء على الحكم.
ولسوء الحظ، فإن هذه الازدواجية تحقق لهذه التيارات الأصولية ما تصبو إليه، فهي من خلال اهتمامها بالرياضة غير الاحترافية (أي بالأندية الصغيرة على صعيد القرى والحواري) تحصل على الشعبية المطلوبة بأموال ليست كبيرة، فهي غير معنية بالمنافسة على الصعيد الدولي التي تتطلب صرف الكثير من الأموال، لأن الوطن بالنسبة لها لم يتحقق بعد على أرض الواقع، ذلك أن الوطن بحسب معتقداتهم لا بد أن يجمع تحت لوائه جميع المسلمين في دولة واحدة هي “دولة الخلافة”، على العكس من الأصولية المسيحية التي تجاوزت الكثير من آرائها المتشددة تجاه الرياضة لإظهار تفوق الديانة المسيحية في هذا المجال، فهذا يساعدها في حملاتها التبشيرية في دول العالم المختلفة، وخصوصاً في أفريقيا وآسيا.
وقد توصل بافو سبانين، في دراسته عن الأولمبياد من المنظور الديني المقارن خلال الفترة (1869- 1968)، إلى أن الأمم البروتستانتية تأتي في المرتبة الأولى لناحية الإنجازات الرياضية، يليها الأمم الكاثوليكية والأرثوذكسية، فيما حلت الأمم الإسلامية والكونفوشيوسية واليهود في ذيل القائمة.
هذا “التفوق المسيحي” – إن جاز القول – في المسابقات الدولية يزيد من فرص الجهات والهيئات ذات الطابع التبشيري في تحقيق أهدافها؛ فالانتصارات التي تحققها الفرق المسيحية يمكن اعتبارها    “حروب صليبية” ناجحة. في المقابل، تبرز أندية المساجد في الدول العربية والإسلامية بوصفها “خطوط الدفاع” الأخيرة ضد “الغزو المسيحي” الأجنبي، إذ دائماً ما تكون الندوات ذات الطابع الديني المتشدد من أهم الأنشطة التي يحرص على وجودها القائمين على هذا النوع من الأندية إلى جانب ألعاب كرة القدم وكرة الطائرة والألعاب القتالية على وجه الخصوص للتذكير بالعدو، وللتصدي لموجات ما يسمى “الغزو الثقافي”.
ختاماً، بات من الصعب تجاهل صعود الظاهرة الدينية المستمر منذ منتصف القرن الماضي، وهذا بلا شك يؤثر في طريقة تفكير الناس، ومنها الجماهير الرياضية التي تعرف ماذا يعني أن يقدم لاعب على أداء حركات وإشارات دينية. إنه ببساطة يريد أن يقول “إن هذه المواجهة الرياضية تتطلب دعماً إلهياً”، وهذا بالتأكيد ما تحرص الأصوليات المختلفة على إظهاره، لكن ذلك – لسوء الحظ – يجعل الرياضة في خطر دائم.
© منبر الحرية، 14 نوفمبر/تشرين الأول2009

One comment

  • خليفة الشبلي

    14 أكتوبر، 2013 at 1:24 ص

    السلام عليكم…استاذي ارجو منك ارشادي هل هناك دراسات عن علاقة الدين بالرياضة ؟؟؟
    ﻷن رسالة بحثي في الماجستير في هذا الجانب وارجو ارشادي لهذا…
    وجزاكم الله خير ،،،

    Reply

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018