المجتمع الخامل والظاهرة الحنونية

peshwazarabic12 يناير، 20110
لم تعرف الحضارات الشرق أوسطيه الفكر الفلسفي كما عرفته أوربا منذ الحضارة اليونانية القديمة (حوالي 400 قبل الميلاد)، حيث كان الرواد الأوائل سقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس، راسمي خط النشاط الفكري المتسائل.

لم تعرف الحضارات الشرق أوسطيه الفكر الفلسفي كما عرفته أوربا منذ الحضارة اليونانية القديمة (حوالي 400 قبل الميلاد)، حيث كان الرواد الأوائل سقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس و ….راسمي خط النشاط الفكري المتسائل. وعندما جاءت الديانة المسيحية (الشرق أوسطية) إلى أوربا لقيت في الفكر اليوناني حاضنا ساعدها على أن تتبلور في فكر فلسفي منسق (أوغسطينوس و وليم أوكام و توما الاكويني و….). و على ذلك ألف الفكر المسيحي المنطق والجدال الفلسفي. وعندما حاول الفكر الديني التسلط من خلال سلطة الكنيسة الدنيوية، انبرى الفكر الفلسفي ذاته و ذو الجذور الاجتماعية العريقة لمحاولات الهيمنة هذه وتمكن من تحجيمها. إن  روح النقد والمنطق التي كانت سائدة قبل سيادة الفكر المسيحي في أوربا كانت هي السبب وراء تحجيم السلطة الدينية. هذه الروح الفعالة لم تكن منعزلة عن مجتمعها لأنها ولدت ونمت في هذا المجتمع. لذا فان أي إبداع فكري يمكن أن يحتضن حتى لو واجهته ظروف و أساليب قمعية مرحلية، و هكذا ظهر المبدعون في شتى مجالات المعرفة نتيجة لقوة و تجذر روح النقد و المنطق في المجتمعات الأوربية التي تبنت الفكر الفلسفي اليوناني و طورته واعتبرت نفسها وريثة له.
لقد عرفت حضارات الشرق الأوسط القديمة الفكر التطبيقي، حيث بنوا واكتشفوا ما ساعدهم في حياتهم اليوميةK ولجئوا للتأمل الروحي متمثلا بالكثير من الديانات التي ظهرت في المنطقة. كل هذا النشاط الفكري و الانجازات الكبيرة السباقة لحضارات لم ترقى إلى الفكر الفلسفي المنطقي المنظم كما كان في شرق أوربا،  وبقيت الثقافة لسانية بعيدة عن المنطق الفلسفي و الحوار الجدلي.
و هكذا عند ظهور الإسلام في الجزيرة العربية لم يكن هناك فكر فلسفي سابق له، والنشاط الفكري الذي كان سائدا لا يتعدى الفنون الأدبية التي اشتهرت بها المنطقة والتصورات الدينية المحلية. فالعرب لم يكونوا على معرفة بالفكر الفلسفي مطلقا ولا بالنقاش الفكري. و حتى من خلال اختلاط العرب بعد الإسلام بأقوام المنطقة لم يكن هناك ما يماثل النشاط الفلسفي المنظم، و لكن في نهاية الفترة الأموية و بداية العصر العباسي انفتح  العرب على الثقافة الفكرية اليونانية وأخذت الفلسفة تجد لها من متقبلين. و هذا ما يفسر الانفتاح الفكري وظهور أفكار فلسفية جريئة في العهد العباسي الأول.  فاخذ الحوار و الجدال الفلسفي طريقه إلى المدارس الدينية التي استقبلته إلى حد ما، و لكن مع ذلك كان الفكر الفلسفي هذا فكرا وافدا و ليس ابنا وليدا في المنطقة، و لم يكن له هناك تقبل اجتماعي واسع، إنه بمعنى آخر كان فكرا نخبويا. لقد افرز الفكر الفلسفي وقت ذاك آراء جريئة و حوارات فكريه ساخنة. لقد كانت محاولات الفلاسفة العرب الجدد رائعة وقت ذاك وقادت إلى نهضة فكرية وعلمية كبيرة امتدت إلى القرن العاشر الميلادي تقريبا.
إلا أن هذه النهضة الفكرية لم تستمر إلا حوالي ثلاثة قرون تقريبا، حيث وئِدت في عهد الخليفة العباسي المعتمد ليرزح بعدها الفكر الإسلامي في قوالب صنميه متنامية   في سكونيتها.  و هكذا فإن  الفكر الإسلامي لم يتم احتضانه فلسفيا كما سبق للمسيحية و أن تم احتضانها. لقد كان وئد الفكر الفلسفي الإسلامي الوليد سهلا  وسريعا وذلك لعدم وجود جذور فكرية للعقل الفلسفي في المجتمعات العربية والإسلامية أساسا. لقد قادت عملية الوئد هذه إلى كوارث هائلة حلت  بالمجتمعات العربية والإسلامية امتدت منذ ذلك التاريخ و حتى يومنا هذا.
هكذا تم تجميد الفكر والمجتمع ليعيش سباتا و لمدة قرون عدة حتى سقوط و تلاشي الدولة العثمانية.  لذا فان المجتمعات العربية مجتمعات لا تعرف القراءة الفكرية، إذ أنها أميل للقراءة الدينية و الأدبية والتاريخية السردية. أما الإنتاج الفكري التحليلي أو النقدي فإنهم بعيدون عنه. و هذا ما قاد إلى ما دعاه أركون بالجهل المقدس. الجهل المقدس هدا حَرَم الإبداع و اعتبره ظلاَل ووضع خطوط فكرية حمراء كثيرة، وحَوَلَ الشخصية الاجتماعية إلى دُمية تحركها أصابع المفسربن النقليين والباحثين في كتب التاريخ القديمة عن نماذج جاهزة للتطبيق. أما المفكر السعودي إبراهيم البليهي فإنه يحلل الوضع بصورة أخرى، حيث يرى أن العرب المسلمون هم أمة “إقر” و التي تطلب من الآخرين التعلم منها دون أن تتعلم هي من الآخرين.  إنها أمة تأمر الآخرين بالقراءة دون أن تقرأ هي. هذه التحاليل سواءً الجهل المقدس أو الأمة التي لا تتعلم و لا تريد أن تتعلم يعني أن هناك حدودا معرفية تم الوصول لها ولا شيء بعدها. وهكذا وقفت هذه المجتمعات ساكنة منذ أكثر من عشرة قرون. هذا ما أفرزته مرحلة الوئد الفكري الأول في عهد المعتمد العباسي و الذي نمى وتطور حتى وصلت الحالة الفكرية إلى ما هي عليه الآن.
لقد مرت أمم العالم أجمع بمختلف الأدوار والتطورات التاريخية سلبية كانت أم ايجابية و إذا لم تتطور علميا فإنها نشطت فكريا إلا المجتمعات العربية الإسلامية فإنها عاشت منعزلة عن الآخرين حامية نفسها بخطوطها الحمراء التي تم خطها منذ أكثر من عشرة قرون. وفقد العرب حتى إبداعهم الوحيد الذي كانوا يتفاخرون به وهو الأدب و لغة الشعر، حيث دخل العرب القرن العشرين وهم أبعد ما يكونوا عن لغة عنترة و حسان بن ثابت.
لقد خلقت الخطوط الحمراء حاجزا فكريا هائلا قاد و مازال يقود إلى كوارث اجتماعية خطرة، وأصبحت هذه الخطوط تشكل إعاقة فكرية اجتماعية ممتدة ومتنامية إلى قرون ويصعب تجاوزها في مناخ صنمي جامد يأكل بعضه بعض. من دون إشعاع فكري نشأت أجيال و أجيال وهي كما هي والعالم يتطور بشكل أو بآخر. خلال القرون الخمسة الماضية تطورت الحياة العلمية والفكرية والاجتماعية و حتى الدينية في الكثير من مجتمعات العالم، وظهر الكثير من المبدعين في مختلف المجالات منهم من رفضهم مجتمعهم ومنهم من تقبله مجتمعه وهكذا تأخذ الحياة مسار تطورها. أما المجتمعات التي كانت قابعة تحت السيطرات الفكرية الإسلامية عثمانية كانت أو صفوية أو أي نمط آخر، فإنها لم تعرف حرية للفكر التي توقفت منذ قرون، و التي هي شرط الإبداع الأساسي لذا لم تعرف هذه المجتمعات ظاهرة النشاط الفكري الإبداعي و الحوار الفلسفي، و إذا ما شاء القدر وان يظهر من يقدم فكرة أو بدعه رُمي بالكفر و الخروج عن المألوف.
من التسميات التي تتداولها المجتمعات العربية في الاستهانة بطاريحي الأفكار أو المتحاورين الجريئين هي تسمية “حَنون “. ظاهرة الاستهانة بالمبدعين نتيجة الفرق الفكري الواسع ما بين المبدع و مجتمعه تشكل حاجزا كبيرا أمام تطور هذه المجتمعات . و هنا سندعوها بالظاهرة الحَنونية. الحَنونية نسبة لشخص ما يُقال له حَنونا . شاء حنونا هذا  يوما أن يغير دينه و لكنه عاد من جديد إلى دينه الأول و هذا ما قاد إلى الاستهانة به ببيت الشعر التالي:
ما زاد حنون في الإسلام خردلة      ولا النصارى لهم شان بحنونِ
و بمرور الزمن تجاوز العرب المعاصرون في استخدامهم للحنونية من التقلب الديني إلى عدم أهمية المبدع في مجتمعه. أن كل المفكرين العرب الغير مرغوبين من السواد المتراجع من العامة ليسوا أكثر من حَنانين لا قيمة لهم.  و كما أن حَنونا لم يتمكن من أن يحدث شيئا في الإسلام و لم يؤثر  بشيء في المسيحية، فان من يدعى بحَنونا لا قيمة له.
خلال محاولات الاستفاقة العربية الإسلامية البسيطة بعد الحرب العالمية الأولى (والتي ما تزال متخبطة و ستبقى لقرون) ظهر في هذه المجتمعات أفرادا حاولوا تجاوز الواقع كل بطريقته مستفيدين من البسيط من هامش الحرية المحدودة التي أفرزتها الأجواء المعاصرة.  و لكن مجتمعات بالمواصفات السابقة ستبقى بعيدة عن أي إبداع، و إذا ما ظهرت إمكانية تقبل بسيط لما هو جديد فإن إمكانية الارتداد أكبر وأقسى. و من ثم يكون هذا المبدع حَنونا لأنه لم يترك أثرا فيما حاول أن يقدمه لهذا المجتمع الساكن. محاولات الاستفاقة التي بدئت بعد الحرب العالمية الأولى وئدت في السبعينيات من القرن الماضي، لتعود هذه المجتمعات إلى غفوتها التي أقلقتها المدافع التي أسقطت الدولة العثمانية. إنها أشبه ما تكون بالوئدة الأولى في عهد المعتمد العباسي. لقد استمرت النهضة الأولى حوالي الثلاثة قرون أما محاولات الاستفاقة الأخيرة فلم تستمر إلا بضعة عقود من الزمن. ولاشك في أن سرعة الوئد الأخيرة ترجع للتراكم الهائل في الموروث الاجتماعي الميت خلال القرون العشرة الماضية.
إن الثقافة والإبداع لا تشكلان ظاهرة اجتماعيه متجذرة في هذه المجتمعات، والمثقفين و المبدعين ليسوا أكثر من أفراد معزولين اجتماعيا فهم إما متهمين بالفسق أو عبادة الغرب الكافر أو….، و هنا لابد للمثقف أو المبدع إما الانزواء أو الارتماء في أحضان سلطة ما ليتسلق عليها و من ثم يسقط بسقوطها. كم من الإبداع المؤدلج ذهب أدراج الرياح مع ذهاب السلطة التي ارتكز عليها. إن أفرادا بهذه المواصفات لا تأثير اجتماعي لهم و لن يتمكنوا من أن يحققوا أشياء لمجتمعهم. في أحسن الأحوال يتم الاحتفاء بهم و تحويلهم إلى سلعة يتاجر بها الساسة  أو المتسلطون و للتفاخر بهم أمام الخصوم أو للتعبئة السياسية.  هنا لنتسائل أي تأثير اجتماعي تركه مفكرون من أمثال طه حسين و علي الوردي و نوال السعداوي و …، هذه الأسماء و عشرات غيرها لا يتعامل معها سوى طلاب المعرفة و المثقفون وبنطاق اهتمامات محدودة. إن كل هؤلاء ليسوا أكثر من حَنانين في مجتمعاتهم. فهم لم يزيدوا أشياءا و لم يقدموا أكثر من أوراق مكتوبة لم تغير شيئا في مجتمعاتها…، وإضافة لذلك لم تتركهم مجتمعاتهم لحالهم بل تعرضوا لمختلف أنواع الاستهانة و الملاحقات.
خلال هذه السنة (2010) فقدت الثقافة العربية ثلاثة كبار من مفكريها هم محمد عابد الجابري و نصر حامد أبو زيد و محمد اركون، و لكل منهم طريقة تفكيره و أسلوبه الفكري. وتناولت الصحافة المثقفة والبرامج التلفزيونية رحيلهم بنوع بائس من الاهتمام. و كالعادة يطرح العرب أسئلتهم الخالدة بعد رحيل أحد مشاهيرهم مثل من سيخلفه أو سيحل مكانه؟  و ما هو تأثير رحيله؟ …، وكأن كل واحد من هؤلاء الراحلين كان ذو تأثير اجتماعي هائل و برحيله ستُترك فجوة هائلة.  لقد كان هؤلاء و آخرون غير مقبولين من أكثر طبقات مجتمعهم، وكثيرا ما تعرضوا لشتى أصناف العنف و الازدراء.  و للأسف إنهم في مجتمعاتهم ليسوا أكثر من حَنانين مثل من سبقوهم و من سيأتون بعدهم.
إن مجتمع لا قيمة اجتماعية للثقافة فيه لا أمل  في تطوره. لنتسائل هنا من الذي سرق المتحف العراقي هل هم اللصوص؟ و هل في العراق لصوص بهذه الكثرة؟ إنهم ليسوا لصوصا و إنما من عامة الناس الذين لا تشكل هذه الكنوز لهم قيمة حضارية وطنية، وبذلك لا يقيمون احتراما لها و لا تعتبر من الملكية العامة. و هذه الحالة ذاتها للآثار المصرية التي تعرضت وما تزال للنبش و السرقة. من الذي سرق و دمر متحف الفنون في بغداد؟ إنهم ليسوا لصوصا ولا مخربين إنهم من عامة الناس الذين خَرجتهم مدارس العراق عبر تاريخ الحكم الوطني، وساهم في إعدادهم المجتمع العراقي ذاته؟  من الذي يقتل أو يهدد المثقفين و العلماء في العراق أو مصر؟ إنهم من أبناء هذا المجتمع و لم يأتوا من الكواكب الأخرى. المجتمع العراقي واحدا من المجتمعات العربية و لا يختلف عنها كثيرا. في هذه المجتمعات تنعزل الثقافة عن المجتمع فالثقافة تنحصر في مجتمع للنخبة المتعالية و السواد الأعظم بعيد عنهم، ولهم ثقافتهم الساكنة و ما هؤلاء المثقفون إلا حَنانين ما زادوا في مجتمعاتهم شيئا و لا مجتمعاتهم تقيم قدرا لهم.  هذه المجتمعات ليست بسيئة في طبيعتها ولكن الثقافة الاجتماعية الراكدة منذ قرون هي السبب وراء هذه الظواهر الشاذة. و ما الفكر والفن و المسرح و الشعر إلا زوائد معاصرة تكاد أن تكون منعزلة كليا عن المجتمع الذي لا ينظر لها إلا من زوايا خاصة مريبة.
نحن أمام مشكلة اجتماعية معقدة جدا لا يمكن حلها خلال جيل أو جيلين بل تتطلب خطوات جريئة في إعادة تكييف هذه المجتمعات لتعيش زمنها الحالي بعيدا عن بالوعة الزمن الشافطة.
© منبر الحرية،22 دجنبر/كانون الأول 2010

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018