نوح الهرموزي4 أغسطس، 20111
إن المجتمعات المعاصرة عبارة عن منظومات معاصرة وغاية في التعقيد . وتطورت عبر قرون وبالذات خلال القرون الخمسة الماضية. إنها ليست مجرد منظومة حاكمة كما تبدوا للوهلة الأولى أو للبسطاء في التحليل الاجتماعي. والسؤال الذي يطرح هو من بإمكانه خلق منظومة سلسة تجنب المجتمع وأجياله من الكوارث و الانهيارات؟.....

تناقلت بعض وسائل الإعلام المحلية العراقية خبرا محليا  من إحدى قرى مدينة البصرة عن مواطن عراقي بسيط طموح يحاول أن يصنع حوامة (طائرة سمتيه – هليكوبتر) وبإمكانياته المادية والتكنولوجية البسيطة  ومن دون مساعدة من خارج أسرته ذات الدخل المحدود.  لقد أثار الخبر أبناء قريته  منهم من شجعه ومنهم من سخر منه. لقد صنع الطائرة شكلا و هيكلا مقاربا و مماثلا لما هو معروف عن هذا النوع من الطائرات وصورت الصحافة المحلية تلك الطائرة. ولكن الطائرة لم ترتفع سوى مترا أو قليل و بصورة مضطربة قلقة أثارت فزعا لدى سكان قريته خشية ارتفاعها وسقوطها عليهم لان مصممها وصانعها لا يملك الدراية الكافية لإتقان هذا المخلوق التكنولوجي المعقد.  إنها ولا شك جهد ذاتي وعلى بساطتها محاولة رائعة لإنسان بسيط يمكن تطويرها ولكن بمساعدة متخصصين وإمكانيات مادية كبيرة.  فيما لو تمكن هذا الصانع من الارتفاع بطائرته القلقة فان سقوطها و انهيارها لاشك  في انه سيكون كارثة محلية في تلك القرية البسيطة ومن ثم سيصير التبني التكنولوجي الخاطئ  كارثة على هذا المجتمع البسيط. إن سبب هذه الكارثة في حالة وقوعها لن يكون التكنولوجيا المعقدة ذاتها بل السبب هو في عدم استيفاء شروطها المعقدة للتطبيق .

إن هذا المخلوق التكنولوجي تم بإمكانيات بسيطة و ذاتية اقل كثيرا مما يتطلب توفره لتبني تكنولوجيا معقدة،  هذا من جهة و من جهة أخرى إن أي بناء تكنولوجي  يتطلب الخبرة و المهارة الفنية في مجالات مختلفة ومتعددة. إن الحوامة ليست منظومة واحدة بل منظومات متعددة ميكانيكة وكهربائية وحاسوبية (كومبيوتر) و… كل هذه المنظومات مترابطة و تعمل بنسق معين و تقود جميعها إلى ما نشاهده كحوامة طائرة. كما أن تصميمها يعتمد على علوم هندسية وفيزيائية مختلفة ومعقدة.  لذا فان كارثة الانهيار ستعني الابتعاد عن كل هذه المعارف و عدم استيفاء الشروط العلمية المطلوبة.

المجتمعات المعاصرة هي الأخرى منظومات معاصرة وغاية في التعقيد وأكثر تعقيدا من الحوامة. تطورت منظومات المجتمع المعاصر عبر قرون وبالذات خلال القرون الخمسة الماضية. إنها ليست مجرد منظومة حاكمة كما تبدوا للوهلة الأولى أو للبسطاء في التحليل الاجتماعي. ربما من يحاول بناء مجتمع معاصر قد يسلك ذات السلوك لصانع الحوامة البسيط. بعد الحرب العالمية الأولى ظهرت محاولات مختلفة لبناء مجتمعات عربية وإسلامية معاصرة وبحماس لا يقل عن حماس صانع الحوامة و لكن للأسف فان محاولي بناء المجتمعات المعاصرة في العالم العربي والإسلامي لا يقلون بساطة عن صانع الحوامة. و كما صُنعت حوامة بذات الشكل المعروف و لكن بعيدة كل البعد عن تكنولوجيا الحوامة فان بُناة المجتمعات العربية المعاصر يبنون بذات الأسلوب الساذج.  لقد تم إنشاء العمارات و استيراد السيارات و فتح المدارس والكثير من مظاهر المجتمعات المعاصرة و لكن لم يكن هناك بناء على أسس علمية و مدروسة لهذا البناء. بناء كهذا مصيره ذات مصير الحوامة البسيطة. و إذا ما شاء حظ هذا البناء أن يستمر لفترة ما فانه تأكيدا لا بد وان ينهار. والسبب بسيط جدا هو عدم القدرة على حل الإشكالات الكثيرة التي يخلقها البناء المشوه. أما الانهيار فانه كارثة مدمرة…

الانهيارات الاجتماعية تظهر كثورات. و ما أكثر الثورات في مجتمعاتنا و ما أكثر أنواعها و كل ثورة تأتي لحل مشكلة و لكنها تخلق الكثير الكثير من المشاكل. و يبقى المجتمع غير قادر على خلق منظومته السلسة التي تتمكن من تعديل المسار دائما دون الحاجة للانهيارات و خسائرها. أمام سلسلة الإخفاقات والانكسارات والانهيارات المتتالية لابد من النقد الذاتي ومراجعة الحسابات وليس التعالي الأجوف ولعن الآخرين ومؤامراتهم المزعومة. سوف لن تطير الحوامة بيسر و أمان ما لم تكن هناك تصاميم مبنية على أسس علمية و توفير متطلبات التكنولوجيا اللازمة. إن سلسة الثورات لن تدفع للأمام ولن تقدم إلا حلول وقتيه. المجتمعات العربية والإسلامية بحاجة إلى نظم قابلة لمواجهة المشاكل و حلها من دون تراكم و ثورات و حروب.

و لكن من بإمكانه خلق هذه المنظومة السلسة التي تجنب المجتمع وأجياله من الكوارث و الانهيارات؟ إنهم بالتأكيد ليس الأحزاب السياسية التي دمرت أكثر مما بنت و ليس القادة الأبطال المعصومون وعوائلهم المناضلة التي تعيش معاناة المجتمع و لا الساسة المخلصين أعداء الاستعمار والصهيونية الذين لا يملكون سوى الشعارات الرنانة والاستثمار الشخصي ولا استجلاب تجارب الغرب الجاهزة و البعيدة عن واقع البيئة المحلية. إن كل هؤلاء اقرب ما يكونوا لصانع الحوامة البسيط الذي تصورها بالمهمة السهلة. إنهم بنوا بالطريقة الساذجة لذا سقطت تجاربهم ومنها ما هو في طريقه للسقوط و لكن للأسف الانهيار الاجتماعي المصاحب للسقوط أكثر تدميرا من سقوط حوامة بسيطة على قرية.

و نعيد التساؤل من جديد من بإمكانه خلق المنظومة السلسة؟ لا احد يتمكن من ذلك سوى المجتمع ذاته شرط أن يتم بناء أجياله على أسس علمية واعية لزمنها وبعيدة عن أمراض الماضي ومخلفاته القاسية. مثل هذه الأجيال ستتمكن من إدراك عمق المشاكل بمنطق علمي بعيدا عن أمراض الماضي والأمة. أمام هذه المجتمعات إن أرادت الحياة ضمن البيئة العالمية السريعة التطور طريق أساسي و مهم ألا وهو طريق بناء أفرادها مع البناء المادي الذي تحاوله.

في حزيران الماضي (عام 2010) و بدعوة كريمة من مكتبة الإسكندرية في جمهورية مصر زرت مصر للمشاركةِ في مؤتمرا خصص لمبادرات في التربية والمجتمع كمحاولة لبداية جديدة في العلاقة بين الولايات المتحدة و العالم الإسلامي وكان ذلك بمناسبة الذكرى الأولى لزيارة الرئيس الأمريكي باراك اوباما للقاهرة. لقد كانت ورقتي التي شاركت بها والتي نشرت في كتاب المؤتمر بعنوان “التحديات والمبادرات باتجاه تعزيز التعاون بين الولايات المتحدة و العالم الإسلامي”

“The Challenges and the Initiatives Towards the Enhancement of US-Muslims Collaborations”.

 ركزت الورقة على إظهار عمق التحديات التي تواجه المجتمعات العربية والإسلامية و التي ذات جذور تاريخية عميقة تعيق عمليات البناء. و تركزت عمليات الإعاقة في الحرمان الذي يعانيه معظم أفراد المجتمعات تلك في القرى والنواحي الفقيرة التي تشكل معظم السكان. وعلى ضوء إحصائية للأمم المتحدة بخصوص الهجرة من الريف للمدينة توصَلتُ بعدها لضرورة العمل في جذور المجتمع وليس الطبقة السطحية البسيطة والطيعة المتمثلة في القلة من سكان المدن الرئيسية والمناطق السكنية المُرفهة. طُرٍحت في المؤتمر تجارب متعددة تحاكي عمل منظمات المجتمع المدني في الغرب المتطور وعلى مستوى عددي بسيط لا يقدم شيئا يذكر للبحر الهائل من التراجع و الأعداد البشرية الهائلة التي هي أحوج ما تكون لهذه المبادرات.

مشكلة هذه المجتمعات اكبر واكبر من المُبادرات الفردية البسيطة أو تلك التي تقدمها المنظمات و المؤسسات الإنسانية. مشكلة السلطة العربية و أحزابها أنها لا تدرك أن البناء المعاصر يحتاج منظومات معاصرة للدولة و المجتمع وهذه تحتاج فرداً من نمط جديد. قصر النظر هذا قاد و يقود إلى الانهيارات الاجتماعية التي سوف لن تحلها الثورات المتتالية.

إن بناء مجتمع معاصر لهو اعقد و اعقد بكثير من بناء أو إنشاء مصانع للحوامات. وكما أن طموح إنسان بسيط لا يمكنه أن يدفع بالحوامةِ حركةً دون معرفة أسرارها التكنولوجية فان الساسة البسطاء و أحزابهم الساذجة لا و لن يتمكنوا من بناء مجتمع عصري يعرف كيف يتعامل مع مشاكله ويطور حاله من دون ثورات وخسائر مدمرة.

    © منبر الحرية،4 غشت/اب2011

نوح الهرموزي

الدكتور نوح الهرموزي: أستاذ الاقتصاد في جامعة ابن طفيل في القنيطرة بالمغرب.


One comment

  • كوران خورشيد رشيد

    5 أغسطس، 2011 at 4:43 ص

    (و نعيد التساؤل من جديد من بإمكانه خلق المنظومة السلسة؟ لا احد يتمكن من ذلك سوى المجتمع ذاته شرط أن يتم بناء أجياله على أسس علمية واعية لزمنها وبعيدة عن أمراض الماضي ومخلفاته القاسية.)
    انا اتفق مع ما ورد في المقال في ان المجتمعات العربية والاسلامية لا تملك منظومات سلسة معاصرة تشبه تلك المتوفرة في العالم الغربي. ومن ثم تقول بأن المجتمع ذاته فقط بامكانه خلق المنظومة السلسة. ولكن من هو هذا المجتمع؟ هل هم نفس الناس بنفس الموروث الفكري والعقائدي العقيم ام هم اناس نفضوا عن انفسهم غبار التعسف الفكري المزيف وتبنوا افكارا حرة تعتمد المنطق والتسامح كي تساعدهم على التواصل مع باقي المجتمعات الانسانية المعاصرة؟
    بهذا المقال قد بدات الخطوة الاولى بتشخيصك للداء والان من سيقوم بالعلاج والاهم من ذلك كيف؟

    Reply

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018