منبر الحرية31 أغسطس، 20114
إن ما كان من تقلبات اجتماعية خطرة عاشتها المجتمعات العربية لا يقع فيما يدعى علميا بالتجريب أو طريقة الصح و الخطأ المعتمدة في الدراسات العلمية أحيانا. لأنه ليس هناك أية استفادة من التجارب السابقة و السبب أن كل الثورات تأتي مندفعة متعالية على ما سبق و ليست دَارسة و نَاقدة و مُحللة لفترة مضت......

ليس هناك أعظم من التحرر في تاريخ الشعوب، سواء كان التحرر من استعمار خارجي أو من دكتاتور محلي. الحرية تفتح طريق العمل للإنسان الواعي و المدرك لما يريد لبناء حياته بالأسلوب الذي يرتأيه. وكذلك الحال بالنسبة للحرية الاجتماعية التي تفتح الطريق للمجتمع الواعي لبناء مؤسساته على أسس واقعية صلدة توفر العيش الكريم للجميع.

الحرية لا قيمة لها إن لم تكن مقرونة بالوعي الاجتماعي للمسؤولية. منذ فتحنا عيوننا و دخلنا المدارس ونحن ننشد للحرية التي لم نعرف عنها شيء في الواقع، سوى حرية الحاكم في اختيار ما يريد. أما المجتمع فإنه يعشق الأدلجة التي أدرك الحُكام سِرها لكونهم من ذات المجتمع لذا تم تخصيص أجهزة الإعلام و الكتب الدراسية لتُشبع الشعب الموعظة الحسنة و المبادئ ( والتي هي المبادئ الإيديولوجية للسلطة) التي لا يُعلى عليها و ليس هناك أقل من التضحية في سبيلها.

لقد كانت ثوراتنا مؤدلجة تتغلف بمبادئ سامية و أهداف شاعرية و ضمن فورة الثورات يظهر البطل المنقذ الذي لم يأتي من مجرة أخرى بل أفرزه المجتمع ذاته. و مع التطبيق العملي نجد أن البطل المنقذ ينتمي إلى عائلة بطلة مناضلة و إلى قرية بطلة مناضلة و إلى و إلى….. و كل هذه الانتماءات لابد وأن تجني ربحها من تسلق البطل لهرم السلطة الثورية. و هذا المنطق لم يتم استيراده كذلك من مجرات أخرى بل هو من الموروث الاجتماعي . و يُلام البطل المنقذ على تصرفاته و تُقام ثورة ضده من أجل الجياع و المحروميين و و و…. ليتسلق السلطة بطل مُنقذ آخر يكرر حكاية البطولة و يأخذ الثمن من مجتمعه.

أين الخلل؟ هل السُلطة مَفسدة أم أن المجتمع ذاته جعلها هكذا؟ أم أن مفهوم الدولة المعاصرة أكبر من أن تستوعبه هذه المجتمعات التي طحنها الزمن من سجنه لقرون بعيدا عن التربية و التكوين الطبيعيين؟ إن المجتمعات العربية و الإسلامية على اختلافها تعاني و منذ عام 655 ميلادية ولحد وقتنا الحاضر من ظاهرة الصراع الدموي بين المجتمع و السلطة. علما بأن كلاهما من ذات البيئة الاجتماعية و يتم دائما اعتبار الحاكم المدحور عميلا للاستعمار و الصهيونية و سارق و ذات الحاكم كان في بداية عهده البطل المُنقذ  الذي هَتفت له الملايين.

لقد عاش العرب ثورات و تقلبات مختلفة منذ مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان و حتى الآن. كل ما كان يحدث هو تبديل حاكم أو سلطة و يبقى النمط الفكري السائد ذاته من دون تغيير و تبقى الأخطاء من دون حلول.  لو قارننا التُهم التي قادت إلى مقتل الخليفة عثمان (عام 655 ميلادية) بالتهم التي توجه للحكام العرب الحاليين لوجدناها متشابهة إلى حد ما.  لمدة 1356 سنة و لم تتمكن هذه المجتمعات من إيجاد إصلاح فكري يطور منظومة الحكم. و هكذا استمر الركود الفكري و الاجتماعي حتى يومنا هذا. لقد قادت الثورة الفرنسية رغم دمويتها ليس لإسقاط الملكية فحسب بل لمحاكمة فكر ساد و كان السبب في الكثير من الكوارث و هكذا قادت الثورة و بمراحل تجريبية مختلفة إلى حركات فكرية و تنويرية في أوربا. الثورة لذاتها لا تعني شيءا أبدا.

التحديث الفكري و دعواته في مجتمعات الشرق الأوسط  العربية و الإسلامية لا جذور اجتماعية  لها ومرفوضة من الأغلبية الاجتماعية (إذا كانت هذه الأغلبية على علم بها). إنها ليست أكثر من ترف فكري للنخبة المثقفة. و لكن التحولات الاجتماعية و التحديث أكبر و أكبر من القضاء على حاكم أو أسرة حاكمة.

من أبرز ما تدعى بتجارب التحديث التي عرفتها المجتمعات الإسلامية في الشرق الأوسط و التي يقود التحديث فيها المسلمون هي تجربة إيران و تركيا. لقد حاول شاه إيران بناء دولة عصرية حسب تَصوره الساذج و لكن بنائه كان سطحيا لم يصل إلى جذور المجتمعات الإيرانية التي أكلها الزمن لقرون لذا كانت إزالته سهلة من قبل تلك المجتمعات. و الذي حل محله لا يملك تصورا علميا عن الماضي و ماذا يجب أن ُيؤسس للحاضر و المستقبل بعد الثورة. و كذلك الحال مع أتاتورك الذي حاول بناء دولة عصرية بحماية العسكر و لكن هو الآخر كان بنائه سطحيا و قد لا تحتاج سوى عدة كيلومترات خارج أي مدينة تركية  كبيرة أو تدخل الأزقة المظلمة لتجد الدولة العثمانية ما تزال متربعة في أفكار و حياة المجتمع التركي الذي ربما هو الآخر في طريقه إلى دولة على النمط الإيراني.

إن ما كان من تقلبات اجتماعية خطرة عاشتها هذه المجتمعات لا يقع فيما يدعى علميا بالتجريب أو طريقة الصح و الخطأ المعتمدة في الدراسات العلمية أحيانا. لأنه ليس هناك أية استفادة من التجارب السابقة و السبب أن كل الثورات تأتي مندفعة متعالية على ما سبق و ليست دَارسة و نَاقدة و مُحللة لفترة مضت.

البناء السطحي أو قشرة المعاصرة التي تتغلف بها المجتمعات العربية الإسلامية لا تعكس أبدا الواقع الحقيقي للمجتمع. عمق التراجع الحضاري لا يمكن إزالته بالمكياج المعاصر و لابد و أن يتهاوى ليظهر الواقع المرير.

منذ عام 2003 و بعد سقوط النظام في بغداد أخذت الأنظمة  العربية بالتساقط واحدا تلو الآخر. وكالعادة تتم تحميل مسؤولية الكوارث للهرم المهزوم  السارق المجرم ال….و لكن لنتسائل مَن الذي سقط؟ أو من هذا الذي يسقط دائما ببرك من دماء و انهيارات اقتصادية؟ هل سقط صدام حسين و زين العابدين بن علي و حسني مبارك و معمر القذافي ….؟

إن من سقط ليس إلا رمزا من رموز الفكر البالي الذي توسل بالتحديث ليصطبغ به. لقد سقط ولي الأمر و عصمته . لقد سقط جانب من الفكر الجمعي الذي يُعظم الحاكم و يركع له. لقد سقطت مرحلة  صغيرة من مراحل التخلف حاولت التحديث السطحي.  لقد سقطت جوانب تعارضت مع المعاصرة و لكن لم يسقط الفكر المتراجع بعد. و هذه هي المُشكلة الكبرى.

إن من وقف و يقف في أقفاص الاتهام ليسوا بأشخاص بل نماذج للفكر الأبوي و القَبَلي . نماذج خلقها المجتمع ذاته و ضمن تقاليده و مفاهيمه. لقد فعل هؤلاء القادة ما فعلوا دون أن تكون هناك ردة فعل جماعية أو نقد أو رفض جماعي وقتها. القبول الجمعي بما فعلوا يصب في قبول ولي الأمر على علته ومهما كان.

لذا من وقف ويقف في قفص الاتهام هم نماذج للتخلف العربي الإسلامي الذي استمر قرونا. نماذج لموروث اجتماعي مزيج عصي على التحديث. و لكن هل سيتمكن المُجتمع المُنتفض من أن يُدرك أنه لا يُحارب إلا فِكرهُ و تقاليدهُ؟ و ليس الحَاكم  الشخص؟

إن من سيأتي فردا كان أو حزبا أو … لا يُمكنه أن يتجاوز الموروث الاجتماعي  المقدس الذي تربى عليه و تشربت خلاياه به. إن من سيأتي هو من ذات الأرومة و من ذات التربية الفكرية. و لكي يحكم لابد و أن يكون ولياً للأمر مفروض الطاعة والاحترام. ولابد و أن يقر بأن الأقربون أولى بالمعروف ولابد من أن يَستر من أخطأ ليستره الله. و لابد من أن يأخذ بيد الرعية إلى…بمعنى آخر لابد وأن يكون ظل الله في الأرض. و إن لم يكن كذلك فسوف تَبول عليه الثعالبُ. الفكر الجمعي الموروث يقر بأن :

إذا لم تكن ذئبا على الناس اجردُ  كثير الأذى بالت عليك الثعالب

و البطل الاجتماعي أكبر من أن تبول عليه الثعالب و يهان. إنها ثقافة عنتر و أبو زيد الهلالي التي لم يستطع المجتمع منها انفكاكا عبر العصور.

مجتمعات لا تستطيع أن تطور الفكر الاجتماعي من خلال ثوراتها المتتابعة لا يمكنها أن تتطور و ستبقى تعيش ثورات دموية و مشاكل من دون حل. إن الموروث الاجتماعي المتراجع و المتجذر أكثر عمقا من الأوراق الخضراء السطحية.  من دون ثورات فكرية اجتماعية و ليست نخبوية لا ولن تنجح أية ثورة. كل ما سيحدث هو أن يتبدل الحاكم أو الحزب و ليس أكثر.

© منبر الحرية،31 غشت/اب2011

4 comments

  • Rashid Al

    1 سبتمبر، 2011 at 9:57 م

    An excellent analysis for past, current and future Arabic social society. I hope that we really understand and learn from this to fix our issues. As the writer put it seems that Arab people in dark valley and they can not get rid of old thinking, they are stuck between religion and tradition. I bet it will take them another 1000 years to see the light at end of the tunnel.

    Reply

  • zoozoo zahra

    2 سبتمبر، 2011 at 12:05 م

    إن أي حاكم وصل الى ما وصل إليه ،فنحن المسؤولون عنه سواءا كان ايجابيا أو سلبيا.في بداية الأمر الشعب هو الذي يختار من يكون عليه حاكما… ويهتف ويصفق له… لأنه أهلا لذالك . والتساؤل الذي يطرح نفسه هو ماذا يحصل لهذا الحاكم؟ لماذا هذا التحول الجدري في أسلوبه أتجاه شعبه….؟ لماذا عليه أن يكون ذئبا لأخيه الإنسان؟ وإلى أي مدى يمكن أن يصل تشبت الحاكم بكرسيه ؟ نعيب أزماننا والعييب فينا………. وما لزماننا عيب سوانا

    Reply

  • ابوفاعور الزبيدي

    3 سبتمبر، 2011 at 8:36 ص

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..أما ىبعد لايجوز دمج قائد العراق مع القادة الآخرين على أن ربيع الثورات من قام بهما بأستثناء العراق لافضل لأحد بالتغيير لأن السيناريو معد منذ ثمانيين القرن الماضي منذ قبل عهد ريغان،بل من بعد1973 عندما أبلى العراق في معركة الشرف ضد الكيان الصهيوني المسخ،وكان من البلدان العربية القلائل ممن قاتلوا بشرف وبشجاعة ويريدون تحريرفلسطين.أمريكا واسرائيل ومن الرعاع من بعض حكام الخليج (الكانتونات والمحميات)هم سددوا فواتير تدمير العراق وأتى محور الشر(الثلاثي المحتل)بأناس ثبت عدم حبهم وولائهم لوطنهم،فتحول جمجمة العرب(أسماه الخليفة الثاني عمر الفاروق-رضي الله عنه)البوابة الشرقية للوطن العربي الى وضع بائس حيث الفساد المالي والقيمي والأداري والأخلاقي المتراجع والتبذير وسرقة المال العام،وأصبحنا ثاني دولة بعد الصومال بالفساد المالي والأداري.والعبرة أن الأنتفاضات والمطالبات الشعبية في البلدان العربية والأسلامية(ومنها ايران التي تضطهد كافة القوميات تسير الأمور بالحديد والنار وبفتاوى المرشدين/سجون ومعتقلات وأغتصاب وأعدامات)مشروعة ونؤيدها بعيدآ عن القتل والتخريب والتجاوزات على أن تبقى وطنية خالصة من دون تدخل الخارج الأقليمي أو الدولي..لأن وصفاتهم جاهزة،وسيأتون بنموذج الدم-ظراط،وينصبون حكومة احتلال يديرونها بالرمول كونترول،اعتمدوا على الله وعلى الشرفاء وأجمعوا شملكم ووحدتكم وكلمتكم وليكون ناطق واحد ملم بأمور الوضع والسياسة الداخلية والخارجية وملاحظة المندسين والمأجورين..مثال برنار الصهيوني المرشح بعد شمعون يدخل على خط التغييرالمصري وجماعة عبدالجليل وضباطه في بنغازي يشرحون له على الخريطة العسكرية(للأسف غشمة)وتعطي35%من ثروة الشعب والأجيال الى ساركوزي،المستعد أن يغير اذا أعطاه القذافي أكث أي بعد أخلاقي وأنساني يتحدث عنه البعض؟والسلام

    Reply

  • ساري

    12 سبتمبر، 2011 at 3:15 م

    استعراض دقيق للاحداث التاريخية وقراءة نقدية صحيحة لما يجري من احداث في الساحة العربية
    المشكلة الاساسية تكمن في القيم والموروث الاجتماعي والثقافي والديني
    ان لم يتم تصحيح هذا الموروث بما يتناسب مع معطيات العصر في احترام حقوق الانسان والحريات المدنية لن تقوم قائمة لبلداننا حتى وان تكرر التغيير مرات ومرات
    نحن بامس الحاجة الى نظم حكم علمانية ديمقراطية تحترم حقوق الانسان تحت ظل دولة النظام والقانون
    في بيت كل عربي طاغية مقدس ينبغي خلعه قبل خلع الديكتاتور الذي يحكم البلاد
    نعم علينا خلع الطاغية الكبير في بلادنا الذي امتهن حقوق الانسان عامة وحقوق المراة خاصة قبل التفكير بخلع الدكتاتور الصغير الذي تولى السلطة في غفلة من الزمن

    Reply

ابوفاعور الزبيدي اترك ردا على إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018