في سبعينيات القرن الماضي تنبأ الأمريكي ألفن توفلر بتحول جذري في طبيعة السلطة تبعا لتطور المجتمعات وقال في كتابه صدمة المستقبل أن” الانتقال التاريخي من عالم ذي قسمين إلى عالم منقسم ثلاثة أقسام، يمكنه أن يثير في الأرض صراعات هائلة، من أجل السلطة، من حيث أن كل بلد يحاول أن يُقيم وضعه في البنية الجديدة ذات الثلاثة أدوار التي تلوح أمامه. ومن وراء إعادة التوزيع الضخمة جداً للسلطة، يلوح في الأفق تغيّر في دور المعرفة، ومعناها وطبيعتها”
نبوءة صدمة المستقبل لم تتأخر كثيرا وانتقلت مجتمعات إنسانية عديدة من العهد الصناعي إلى مرحلة مجتمعات المعرفة وتغيرت مفاهيم اقتصادية واجتماعية وسياسية كثيرة. لكن أحدث تجليات صدمة المستقبل ترتبط بهذا المد الجارف من الثورات التي تشهدها المنطقة العربية بعد أن ظلت إلى وقت قريب مستبعدة من كل أشكال الحراك. تعددت المقاربات وتناقضت حول سبب الجمود . واختلف القائلون ما بين من يعزو ذلك إلى عوامل ثقافية ودينية ومن قائل بيد “الخارج المندسة” من استعمار وتبعية وغيرها.
لا يهمنا الآن العودة إلى هذه المقاربات ومدى صدقيتها، بقدر ما يهمنا تأمل انطلاق ثورات عربية وجدت في وسائط الاتصال الجديدة سندها الرئيسي في وقت لم يكن يعر المراقبون كبير اهتمام لما يجري في هذه المجتمعات، مادام كان ينظر إليها “كمجتمعات أغلبها لازال بالكاد لم يتخط مرحلة المجتمعات الزراعية على الأقل من ناحية البنيات الذهنية والثقافية”.
بفعل هذا التمثل السائد كان وقع المفاجأة كبيرا. وخرج من حيث لم يتوقع المراقبون فاعل تاريخي جديد . إنه نظام متكامل من إنتاج المعلومة وتداولها واستهلاكها. منظومة التواصل الجديدة من إنترنيت وشبكات اجتماعية وهواتف ذكية وفضائيات هدمت المفاهيم السائدة حول السلطة. وهنا نعود إلى “ألفن توفلر”، فإذا كانت مرتكزات السلطة حسبه هي ” العنف والثروة والمعرفة” فإن القرن الواحد والعشرين سيصبح قرنا للمعرفة وأي سلطة لا تأخذ بعين الاعتبار هذه المتغيرات سيكون مآلها الزوال”.
وبسقوط القذافي والمآل المجهول لأسد سوريا، ومن قبله بنعلي ومبارك يكون العالم فعلا بإزاء تغيير جذري في مفهوم السلطة وفشل التصورات التي تعتمد العنف مرتكزا لممارسة السلطة. وينكشف بالأساس أن المجتمعات العربية لم تتجاوز فقط نموذج السلطة القائم على العنف بل تجاوزت أيضا نموذج السلطة القائم على مرتكز الثروة.
وإذا تركنا جانباً أنهار الدم التي أُريقت من أجل ما يحدث، فإن نظرة سريعة على مجريات الأحداث تكشف أن الشعوب لا تبغي فقط استبدال نظام بنظام، بل تريد بالأساس تحديث طريقة تنظيم حياة الأفراد، بل تبغي بصورة أكثر عمقاً، حرية أكثر في تداول وتنظيم المعرفة، بعيدا عن الرقابة والحجر عليها.
إن وظيفة الأنظمة السياسية القائمة والتي نسفتها الثورات كانت تقوم على ما يشبه نظام الحزب الوحيد رغم ما يبدو في بعض الدول العربية من تعددية. نموذج الحزب الواحد، يقوم على مراقبة الاتصالات السياسية، والتضيّق من تنوّع الإعلام السياسي الذي يتداول في المجتمع، والحيلولة دون الأثر الإرتجاعي feedback، ورفض الانفتاح على تصحيح أخطاء أولئك الذين يحتلون مراكز السلطة وعن تعقيد المشاكل.
في وضعية كهذه يصبح من الصعب جداً على كل سلطة ملاحظة الأخطاء وتصحيحها لان نموذج الإعلامي السائد يعتمد على التطابق بين مختلف عناصره- من القاعدة إلى القمة، بالطرق الوحيدة المرخَص بها، وبمقدار ما تنزل الأوامر، بنفس الطرق.
في معظم الدول العربية التي حدثت فيها الثورات يسود نموذج تداول المعلومة على الطريقة الرقابة التي كانت سائدة في البلاد الاشتراكية. يقوم هذا النموذج على الكذب، وتشويه الإعلام المضاد، أو منعه. وذلك لأنه كان من أعسر الأشياء وأخطرها، نقل أخبار سيئة. إن اختيار نموذج الرقابة الصارمة على المعرفة وتداول المعلومة تبعاً لمنطق نظام الحزب الواحد، يعني في الواقع، احتكار كل القرارات في شأن المعرفة.
إن البيروقراطية الساحقة التي أقامتها الأنظمة العربية على النموذج الاشتراكي كانت وسيلة للتحكم في المعرفة وتضييق الخناق على الاتصالات، بحيث تقصرها على “طرق رسمية” جاعلة كل اتصال، وكل تنظيم إعلامي، شيئاً غير مشروع. وعلى هذا الأساس تضخمت الشرطة السرّية، ووضعت الدولة يدها على وسائل الإعلام. وتصاعدت حملات وإرهاب المفكرين، وقمع الحريات الفنية. إنها إجراءات لا تعكس في النهاية سوى تصورا متعجرفا الذي يرى أن الذين يملكون السلطة يمتلكون حق تحديد ما يجب على الآخرين أن يعرفوه.
هذه الخصائص المشتركة بين البلدان العربية تذكر بتلك النماذج الاشتراكية التي آلت إلى الانهيار، إنها خصائص تنظر إلى المجتمع كآلة للتوجيه، توجيه مطبّق على المجتمع، والحياة، والاقتصاد والسياسة والإعلام، بغباء ظاهر. وتصبح السلطة كآلة يريد العمال وهنا نقصد أنظمة الحكم: تحريكها؛ وإشعال محركها وتبدأ هي، عندئذٍ، عملها دون أيِّ حساب لما يجري في محيطها الخارجي.
مقاربات مثل هذه، لا تأخذ بعين الاعتبار طبيعة المجتمعات المعقدة والحركية. وأن النسق الإنساني الشديد التعقيد يمكن أن ينتج ما لا يمكن توقعه.. إن المجتمعات تتغير وتضع الأنظمة أمام اختيارات صعبة أهمها أن زوالها يمكن أن يأتي في كل وقت وحين. مهما استجارت بالحلول الدموية.
لقد أثبتت الثورات أن الذين يراهنون على كسر شوكة الربيع العربي باستعمال العنف يوجدون خارج دائرة الوعي بالمتغيرات. فيما الحقيقة التي بدأت تتأسس من جديد مفادها أن نموذج السلطة القائم على العنف قد انتهت صلاحيته. وأن المواطن العربي حينما يفقد المعنى من خضوعه للسلطة، لا يمكن لأي قوة مهما كانت جرٌارة ودموية أن توقف رغبته الجارفة نحو الحرية.
إن إفلاس المقاربات الأمنية يقود بالضرورة إلى إفلاس نموذج السلطة القائم على احتكار الثروة واستغلال النفوذ الاقتصادي. لان هذا النموذج ما يلبث أن يتحول إلى عنف من درجة أعلى حينما تسيطر العلاقات الزبونية والمحسوبية وتتركز المصالح في يد أقلية فاسدة تمنع المنافسة الحرة مدعومة باستغلال النفوذ. ومع غياب الأطر المؤسساتية السليمة للتبادل واستقلالية القضاء يشرع الباب عاليا لمزيد من التدهور، بفعل تكلس إمكانيات خلق الثروة والوفرة ، واستتباعات ذلك على النسيج الاجتماعي والمستوى الاقتصادي.
إن اللجوء إلى العنف والقوة ومحاولة دعم ذلك بالنفوذ المالي غير السليم دليل ليس فقط ضعف بل دليل على قراءة قاصرة للتطورات الحاصلة في تمثلات الأفراد لذواتهم ولعلاقاتهم ولدورهم في الوجود. وكل لجوء إلى العنف من أجل ممارسة السلطة يعتبر نموذجا أقل ما يمكن ان يقال عنه انه بدائي…لماذا؟ لأن المجتمعات العربية وتحت وقع مناخ عولمي قوي انتقلت بالقوة من مجتمعات زراعية أو حتى صناعية إلى مجتمعات أحببنا أو كرهنا معرفية. صار المواطن العربي منتجا ومستهلكا للمعلومة.
ليس إنتاج واستهلاك المعلومة المتدفقة من شبكات الاتصال العولمية مجرد سلوك تواصلي فقط محايد. إنه أكثر من ذلك، إنه بناء جديد لمفهوم الإنسان حول ذاته. وهو في الوقت ذاته انفتاح متواصل على ما وصلته الإنسانية من تطور. وهنا لا نقصد التطور في شقه التقني بقدر ما نعني التطورات الحاصلة في مفهوم الإنسان وتعريفاته المرتبطة بالكرامة والحرية والوعي.
أمام هذه التطورات ظلت نماذج السلطة العربية بدائية لأنها لم تتطور مع تطور طبيعة المجتمعات.فإذا كانت المجتمعات الزراعية يلائمها العنف كوسيلة لاحتكار السلطة، والعهدة على السوسيولوجي الأمريكي الفن توفلر، فإن الحاكم العربي ظل وفيا لهذا العنف دون أن يفتح عينيه على درجة التطور الذي خضع له مجتمعه. وفي أحسن الحالات استبدلت الأنظمة العربية مرتكزاتها السلطوية من العنف إلى الثروة ومزجت بطريقة غرائبية بين السلطة والمال. فانفتح عالم الفساد على مصراعيه.
أفرز تزاوج السلطة والمال في العالم العربي فئات طفيلية فاسدة تعتاش بطريقة غير طبيعية على مجهودات الآخرين وبفعل الاحتكار والسلوكات المافيوزية اختنقت في العالم العربي مساحات خلق الثروة. والنتيجة كانت ملايين المصريين بدون مأوى في القاهرة. وملايين أخرى مهمشة بالجنوب التونسي وغير قليل من “الحكرة” والمهانة والألم وقوارب الموت بكل من المغرب والجزائر وخنق للأنفاس بليبيا وسوريا والبقية الباقية أنظمة حكم تتدثر بإيديولوجيات ومسكنات إما قومية أو دينية أو برصيدها المالي الناتج عن بيع مقدرات طبيعية تمكنها من تهدئة الأوضاع بتقديم مزيد من الرشاوي والعلاوات.
المحاكمة المستمرة لمبارك واختفاء زين العابدين وسقوط القذافي المهين، ومن قبله صدام حسين، والمصير المجهول الذي ينتظر أسد سوريا وصالح اليمن تدعو الذين مازالو قائمين على كراسيهم الوثيرة بالتفكير سريعا في التحولات التي يشهدها العالم وتشهدها المجتمعات العربية. أما النموذج المثالي لسلطة المستقبل فلا بد أن يرتقي من العنف والثروة إلى المعرفة،وما عدا ذلك لن تدخل الأنظمة سواء التي لا زالت قائمة أو المرتقب قيامها في المستقبل سوى في أنفاق مظلمة من إعادة إنتاج الاستبداد، لكن طبيعة التغييرات ستجعل أمد عمر هذا الاستبداد قصيرا مهما غير من جلده وحاول التخفي ومحاولة التدثر واستحداث لعبة ديمقراطية تمويهية أو إصلاحات ترميمية لا تمس عمق نموذج السلطة السائد.
© منبر الحرية،22 أكتوبر/تشرين الاول2011