طوال عام ٢٠١١ اكتشفنا أن الحاكم العربي يقاتل حتى الرمق الأخير من أجل السلطة، وتعلمنا أنه مستعد لكل أنواع الفتك غير عابئ بالنتائج على بلاده ومجتمعه وعلى أقرب المحيطين به. نكتشف أن الحاكم في دول الثورات والانتفاضات فردي التوجه ضعيف الانتماء إلى شعبه وبلاده، لا قيمة لشيء في نظره سوى تعظيم نفوذه.....

واجه الشباب العربي في عام ٢٠١١ الرصاص والدبابات بعد أن أعلن تمرداً على الأنظمة والقوانين والأجهزة والنخب الحاكمة في سلسلة بلدان عربية. بكل تصميم وشجاعة وبكل ذكاء وحنكة ناور الشباب حول الدبابات وأمامها كاشفين هزالة سياسات الأنظمة تجاه شعوبها. شاهدناهم عبر وسائل الإعلام يقفزون من أطراف الأزقة زاحفين بإصرار نحو الساحات بينما يستميتون في إنقاذ بعضهم بعضاً فيلحق الأول بالثاني بالثالث بعد إصابات قاتلة. في سرعة حركتهم وفي احتفالهم بحريتهم المنبثقة من جراء كسرهم لحواجز الخوف أعلن الشباب العربي عن حبه لبعضه البعض ولأوطانه.

كانت حقيقتنا كعرب في عام ٢٠١١ دامية لأن ألوف الشبان العرب قتلوا بدم بارد وهم ينتزعون حقوقهم الطبيعية والإنسانية، إذ روت دماء الشبان العرب أزقة ومتاريس المدن والقرى العربية من اليمن إلى سورية ومن البحرين إلى مصر وتونس وليبيا. هكذا فرضت الحقيقة العربية على الشباب العربي التضحية بأرواحه من أجل التعبير عن رأي وتغيير رئيس حكومة ودولة أو إزاحة مسـؤول وإيقاف فساد. من بين كل الشعوب في العالم دفع الشباب العربي الثمن الأكبر من اجل الحرية.

طوال عام ٢٠١١ اكتشفنا أن الحاكم العربي يقاتل حتى الرمق الأخير من أجل السلطة، وتعلمنا أنه مستعد لكل أنواع الفتك غير عابئ بالنتائج على بلاده ومجتمعه وعلى أقرب المحيطين به. نكتشف أن الحاكم في دول الثورات والانتفاضات فردي التوجه ضعيف الانتماء إلى شعبه وبلاده، لا قيمة لشيء في نظره سوى تعظيم نفوذه. لم نكن نعرف قبل الثورات العربية أن حاكماً كالقذافي سيقاتل حتى النهاية وأن الرئيس اليمني المستقيل سيتمسك بالسلطة حتى الرمق الأخير وأن الرئيس السوري سيقتل الألوف على رغم إجماع غالبية السكان على خروجه من السلطة. لم نكن نعرف مدى تعطش قادة الأنظمة وأبنائهم للقوة والسلطة كغاية وليس كوسيلة لتحقيق رفاه الشعوب. لم نكن نعرف أن سيف الإسلام لا يختلف عن أبناء صدام وأن القذافي وآخرين من القادة وأبنائهم أكثر بطشاً من أسوأ حكام أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية القدامى ممن قبلوا في أحيان كثيرة بحلول وسط وخروج آمن قبل أن تستفحل الأوضاع والثورات.

كنا مغيبين عن مدى احتقار الحكام للشعوب وللمهمشين وللضعفاء. بعض من هذا الاحتقار كان واضحاً في سلوك القادة وفي عدم اهتمامهم بأبناء وبنات بلدهم. عندما قال الرئيس السابق حسني مبارك في وصف العبّارات التي تغرق (مين دول اللي بيغرقوا؟) وعندما رفض جمال مبارك الرد على شاب مصري طرح عليه سؤالاً حول التحاور مع المعارضة (قبل الثورات بشهور طويلة) يتضح مدى احتقار القادة للناس والمجتمع. لكن التوريث بكل أنواعه وأشكاله في الأنظمة الجمهورية كان أعلى مراحل الاحتقار للمجتمع ولكل فئاته ومكوناته. احتقار الشعوب هوس مارسه صدام والأسد والقذافي وزين العابدين ومبارك وصالح وكل من شعر أن صلاحياته بلا حدود وأن شعبه ضعيف مفكك.

لم نكن نعي جيداً أن علاقات مشبوهة أقيمت بين الكثير من الأنظمة وبين أكثر التيارات الإسلامية تطرفاً، وأن بعض الأعمال المرتكبة باسم الإسلام هي الأخرى من صناعة بعض الأجهزة الأمنية. لم نكن نفهم كيف يقع هذا التداخل، لكن أحداث عام ٢٠١١ أشارت إلى التداخل (كما حصل في تفجير الكنيسة في الإسكندرية في ليلة ٣١-١٢-٢٠١٠).

في عام ٢٠١١ انكشفت طبيعة العلاقة بين الأنظمة وإسرائيل. لم تكن أبعاد صفقة الغاز الإسرائيلي المصري قد اتضحت. فكل شيء بدا في إطاره الوطني والمعقول. لم يكن الفساد قد انفضح، ولا حصار غزة لإرضاء لإسرائيل. في عام ٢٠١١ اكتشفنا مدى غرقنا في بحر من الفساد، وفي بحر من التبعية خدمة لمصالح ليست مصالحنا.

في عام ٢٠١١ برزت الإشكالية الوجودية للشاب العربي بين أن يكون حراً وأن ينتمي لنفسه وبين أن يقبل بكل ما يرمى إليه لإبقائه في سجن كبير. في عام ٢٠١١ اكتشف الشباب العربي أن مستقبله ليس ممكناً إلا إذا صنعه بنفسه، وعرف أن تحرره مرتبط بقدرته على انتزاع حريته من سالبيها. انفجار الشباب العربي من خلال التعبير وتحدي الخطوط الحمر والوقوف في وجه المعاملة التعسفية والتمييز مثل أهم تغير في علاقة الأجيال في البلاد العربية عام ٢٠١١.

عام ٢٠١١ برزت الحرية بين العرب بصفتها حقاً أصيلا يرتبط بالكرامة الإنسانية والمعاملة العادلة والشراكة والتعاقد. فالحر يثور لحريته وهو الوحيد الذي يطالب بها. فما أن تسكن الحرية في النفس الإنسانية في ظل وضع يحد منها إلا وتؤسس للثورة والتمرد. الشعوب العربية اليوم في أولى خطواتها لبعث روح الحرية.

الجيل الثائر من المحيط إلى الخليج يثور بطرق مختلفة. ففي أماكن نجده يتحدى بالكلمات والتعابير، وفي أماكن أخرى نجده يتظاهر ويعتصم ليلاً ونهاراً في دوار وساحة حرية وتحرير، وفي مناطق نجده يتظاهر بين الحين والآخر بينما في دول عربية أخرى يعبّر عن نفسه عبر المسيرات اليومية. في دول عربية عدة يريد الشعب تغيير النظام وفي دول عربية أخرى يريد إصلاح أنظمته وتطويرها وفي ثالثة يريد مجتمعاً مدنياً واضح المعالم وحقوقاً ثابتة تحمي الفرد وتسمح له بتنفس نسمات الحرية قولاً ومضموناً قبل الشروع بإصلاحات تصيب جوهر السياسة.

العرب في عام ٢٠١١ ازدادوا معرفة بأنفسهم وغضباً من قوى الإكراه، سواء كانت في الدولة أو خارجها. عام ٢٠١٢ سيكون عام التصدي للإكراه أينما جاء. فثورات العرب هي ثورات ضد الإكراه والتمييز. أسوأ أنواع الإكراه جاء من الأنظمة الديكتاتورية، لكن الإكراه جاء أيضا من الذين تحكموا بالمراحل الانتقالية وعلى الأخص من العسكريين الذين لم يتأقلموا بعد مع التغيير ومعناه.

لهذا استمرت الثورات والإرهاصات في المراحل الانتقالية لأن الثورات العربية في الأساس ثورات ضد التعسف والعليائية في الأنظمة قبل أن تكون ضد نظام محدد. في الجوهر يريد الناس حرية من الإهانة والقيود وسلب الحقوق. يريد الجيل العربي الجديد في كل مكان، وهذا يشمل كل الدول العربية بلا استثناء، دولة عادلة ودولة أقل تدخلاً في حياة الأفراد وأكثر احتراماً لحقوق الناس والمجتمع، كما يريدون دولة تحترم الكفاءة وتساوي كل الناس أمام القانون ويكون مصدر شرعيتها صناديق الاقتراع وانتخاب المسؤولين.

ثورة الشباب العربي ضد الديكتاتورية هي بداية للتعامل مع مرض الاستبداد المزمن الذي سيطر على الحياة العربية. مرض الاستبداد العربي منتشر في المؤسسات وفي التعليم وفي المدرسة وفي الشركات والاقتصاد، وهو أساس الاستبداد السياسي الذي ينتهي بتحكم فئة صغيرة بأمة وشعوب وأفراد.

وأهم ما سيتعلمه الشباب العربي في عام ٢٠١٢ انه إذا لم يؤسس لثقافة حقوق جديدة سيجد نفسه يثور بعد عشرة أعوام من اجل القضايا والأسباب ذاتها. سيكتشف الناس بالملموس أن إسكات الرأي الآخر، واضطهاد الفرد وإقصاء الآخرين سواء كانوا أقلية أم أغلبية، أو كانوا فئة صغيرة من الناس أم فئة كبيرة، هو في الجوهر أصل الاستبداد ويؤسس لنشر بذور الثورة المقبلة.

عام ٢٠١١ أشعل المخزون الثوري والإنساني الذي يكمن في باطن أمتنا شعوبنا العربية. هذه أمة مفاجآت حادة، تثور عندما يعتبر الجميع أنها ماتت، وتنهض وتسير بخطى واثقة عندما تظهر عليها علامات الإعاقة والركود.

المصدر: الحياة

* أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت

© منبر الحرية،07 يناير/كانون الثاني2012

PAGE
PAGE  4
 HYPERLINK “HTTP://WWW.MINBARALHURRIYYA.ORG                                  © مشروع منبر الحرية        ======================   WWW.MINBARALHURRIYYA.ORG                                  © مشروع منبر الحرية        ======================   

3 comments

  • أسمر

    8 يناير، 2012 at 1:30 م

    كلام فارغ بالتأكيد فهذا الكلام ما كان في الواجهة أما المبطن منه فهو جعل البلاد في مهب الريح وقد تعمل تلك السلفية عمل اسرائيل وما كانت الا واحدة منهم وهي دائما تقوم على اضعاف البلاد وجعل شعوبها والبلاد في مهب الريح وهكذا هو حال العرب والمسلمين منذ أن ظهرت تلك السلفية والحركة الاخوانية والتي تعتبر الجهاز التنفيذي لها وما قيل في هذا المقال ملتوي وصاحبه ليس الا ناقل لبقية من كتبوا عن تلك الثورات وهذا ما نقرأءه هنا وهناك وهم متفقين على هذه الأقوال فيما بينهم وهم الفاسدون في البلاد بالتأكيد

    Reply

  • أسمر

    8 يناير، 2012 at 1:43 م

    ملوك السعودية وأمراء الخليج هم من افتعل هذه الثورات وما رأيناه من ثورات لم يكن حقيقيا فالثورات الشعبية لا تكون بهذا الشكل أبدا والا فانه يجب اسقاط ملوك وأمراء بلاد الحجاز و أن يسقط أبو متعب عن عرشه وذاك الحمد واخوانه عن مناصبهم وعروشهم أليست هذه ثورات الربيع العربي ويجب تغييرهم كلهم ,,,, وما كان منهم الا عمل مفتعل وبالاتفاق مع الجهات الأميركية التي تعتبر القوة الضاربة ببوارجها وصواريخها وأحلافها ومنظماتها وكل هذا ليبقوا متربعين على عروشهم ويتربحوا من أموال الحج والبترول ويبقوا مسيطرين على العالم العربي والمسلم والقبض على خيرات البلاد وجميع الأموال من مال الحج التي تصب في خزينة آل سعود تبقى بالتريليونات والمبالغ الهائلة التي لا يمكن حصرها ويفيدون بها اليهود المغضوب عليهم وهم بذلك يخالفون أمر الله ويغييرون بدايتا في أمر آية الفاتحة التي تحكي عن أمر المغضوب عليهم ولذلك فالأمر لا يمكن أن يصدق الا أنهم هؤلاء السلفيين هم اليهود والصهاينة بذاتهم ويتسترون بلباس الدين الاسلامي ويتحكمون بالشعوب العربية جمعاء

    Reply

  • أسمر

    8 يناير، 2012 at 1:59 م

    أسأل الكاتب الأستاذ صاحب الكلمة الحانية والقلم المكسور شفيق ناظم الغبرا كيف يمكن أن ترى ثورة الربيع العربي هذه في الكويت وهل يمكن أن يكون التغيير فيها واسقاط الطاغوط والحاكم فيها والتجديد في أمر الدولة والاصلاح ,,,, كيف !!؟؟

    Reply

أسمر اترك ردا على إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018