يمكن القول بأن ظاهرة اختلاف المصالح وتباين وجهات النظر والرأي بين الدول والجماعات السياسية هو حالة صحية شبه طبيعية تدل على تعدد الآراء وتنوع الأغراض والتطلعات وسبل الحل لأية مشكلة من المشاكل السياسية أو غير السياسية التي تمر بها الدول والمجتمعات البشرية..
ولكن المشكلة والقضية الأساسية هنا عندما تتحول تلك الاختلافات في الرأي والتباينات في المصالح من حالتها السياسية السلمية الهادئة (التي قد تتمظهر بنوع من الخصومة الرمزية والنفسية غير السلوكية) إلى حالة المواجهة والخصومة المادية العنفية الميدانية المترافقة مع مختلف مظاهر التدخل والفرض والإكراه، واستخدام وسائل وسبل وأدوات غير سلمية في الوصول إلى الغايات والأغراض والمصالح المستهدفة.. حيث أنه من حق الدول والنظم والجماعات السياسية استعمال واستثمار ما هو متوافر بين أيديها من أساليب وأوراق ومواقع قوى وضغط سلمية للوصول إلى مصالحها وأهدافها بناءً على معايير وضوابط القانون وقوة الحق المستندة على ما تمتلكه من قدرات وطاقات وإمكانيات داخلية كبيرة منظورة وغير منظورة، وعلى مستوى متانة العلاقات والتحالفات والمصالح الإستراتيجية التي يمكن أن تشبكها وتنسجها مع الدول والقوى والمراكز الدولية هنا وهناك..
وكمثال على هذا يمكننا ملاحظة العلاقات القائمة بين أية دولة من الدول الغربية أو بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية حيث نجد أن تلك الخلافات صحية تراكمية إيجابية، مع وجود كثير من القضايا والمسائل السياسية والاقتصادية المختلف عليها.. أي أن هناك اختلافات سياسية واقتصادية شديدة وعديدة بين تلك القوتين على مستوى طبيعة التعاطي والتعامل مع كثير من الملفات السياسية الساخنة والقضايا الاقتصادية العالقة كالقضية الفلسطينية مثلاً (على الصعيد السياسي).. ولكننا لم نشهد تحول تلك الاختلافات إلى حالة التنابذ والخصومة المادية العسكرية، لا بل أكثر من ذلك ربما حدث تحول في موقف أحد الأطراف نتيجة الحوار والاشتباك السياسي إلى موقف آخر جديد قد يتطابق مع موقف خصمه السياسي.. وحتى لو كانت العلاقات السياسية والشخصية واصلة إلى درجة من الخصومة والاشتباك السياسي والإعلامي فإنها لا تصل حد قطع العلاقات أو الجفاء السياسي أو تدفيع المجتمعات ثمن وتبعات تلك الخلافات في وجهات النظر..
أما في حالتنا العربية، بحسب ما نستهدفه في مقالتنا هذه، فالقاعدة هنا هي الاستثناء عند الآخرين، والقاعدة عندنا للأسف هي أن التباين بين النخب السياسية العربية الحاكمة حول موضوع من المواضيع الخلافية المطروحة (وما أكثرها عند أمة العرب!!) يشكل مدخلاً للقطيعة والجفاء والتباعد والتدافع والتوتر وإذكاء مواقع الانقسام والتدخل على الأرض في الشؤون الداخلية لهذا البلد أو الفريق ضد الفريق الآخر قد تدفع المجتمعات والأفراد أثماناً باهظة من معيشتها ومستقبلها وأمنها واستقرارها، خاصةً على مستوى إبطاء عجلة تقدمها وإعاقة تطورها ونهضتها، وتوقف خطط وبرامج التنمية فيها..
وتتنوع حالة النزاعات العربية-العربية من المحيط إلى الخليج إلى، فبعضها ذو منشأ عرقي (حالة السودان بين شماله وجنوبه) وبعضها ذو منشأ قومي (الأكراد والعرب وغيرهم من الأقوام) وبعضها الآخر ذو منشأ وبعد ديني وعشائري أقلوي أو أكثري (الصراعات اللبنانية والعراقية وغيرها).. الخ.. كما أن هناك خلافات مستديمة دائمة بين معظم تلك الدول العربية وبين جماعاتها ومكوناتها المجتمعية في الداخل لم تحسم إيجاباً حتى تاريخه.. ونعني بكلمة إيجاباً عدم وجود نظم سياسية ديمقراطية منتخبة طوعياً ومباشرة من الناس وفقدان المناخات السياسية الصحية السلمية التي كان من الممكن –كما هو موجود في الغرب السياسي الديمقراطي الحديث- أن تشكل مظلة قانونية مؤسساتية تعمل تحتها مجموعة التنوعات والأحزاب والتشكيلات والتيارات السياسية تحت سقف المواطنة الصالحة والحكم التعددي الديمقراطي السلمي خدمة للوطن والصالح العام.
طبعاً ويا للأسف، نقول بأن الجامعة العربية التي يستظل ويتفيأ بها العرب جميعاً –وقد بلغوا ما شاء الله 23 دولة- لم تتمكن طيلة فترة وجودها منذ أول تأسيسها قبل أكثر من ستة عقود خلت من حسم أي ملف سياسي مختلف عليه، ولا حتى على مستوى فض نزاع بسيط أو تحقيق مصالحة بين دولة وأخرى، كما أن القائمين عليها –على اختلافهم وتباين انتماءاتهم ومصالحهم ومراكز قوتهم- لم يستطيعوا دفع أية دولة عربية موقعة على ميثاق الجامعة من التراجع عن موقف أو قرار سياسي متهور كما حدث مع الغزو العراقي للكويت مثلاً، حيث لا يزال العرب –والعراق والكويت على وجه الخصوص- يدفعون جميعاً التكاليف والأعباء المادية الباهظة لذلك الحدث المشؤوم الذي دل على الجهل والرعونة السياسية والتصحر الفكري والسياسي عند النخب والقيادات الحاكمة.
وربما كان السبب الأساسي لوجود مثل هذه النزاعات والخصومات السياسية العنيفة بين الدول العربية (بما فيها من حروب وتدخلات عبر قوى حزبية مليشياوية وغيرها من قبل هذه الدولة ضد تلك الدولة) هو تغلغل وتمكن حالة الانشطار والتشظي الاجتماعي والتفكك السياسي الموجودة بصورة عميقة في داخل كل مجتمع من مجتمعاتنا العربية.. أي وجود حالة شبه حرب أهلية كامنة غير معلنة أو متفجرة على السطح كما هي حالة اليمن أو لبنان أو الصومال أو السودان أو العراق وغيرها.
أي أن العلة أولاً وأخيراً داخلية ذاتية قائمة في كل دولنا ومجتمعاتنا العربية في الأساس، لأنه عندما يقوم النظام السياسي -في أية دولة عربية- على قاعدة القهر والغلبة والاستبداد والطغيان وقمع المجتمع وسحق الناس ومصادرة الحريات وجعْلهم يعيشون تحت ضغط وسائل الإكراه اليومية العنفية رمزياً وعضوياً، والاستئثار بالسلطة والتركيز على مصلحة النخب الحاكمة، والانغلاق على همومها الأمنية ومراكمتها للثروة والنهب المنظم (وما يمكن أن يؤدي إليه كل ذلك من غياب وتغييب شبه كامل للمشاريع التنموية في مختلف مواقع وميادين التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتكريس حالة الفقر والتفاوتات الاجتماعية)، فمن الطبيعي –عندئذ- ألا تتجسد خلافات هذا النظام أو ذاك سواء داخل مجتمعه (مع باقي التيارات والأحزاب والجماعات السياسية المناوئة) أو خارجه (مع باقي الدول العربية الأخرى المحيطة أو البعيدة عنه) على قاعدة الخصومة السياسية الحضارية السلمية القائمة على الحوار والسجال السلمي لتكون المسألة هي مجرد تباين أو خلاف في الرأي لا يفسد للود (والعلاقات المتنوعة) قضية كما يقولون..
وإننا إذ نؤكد على أهمية تلك الأسباب الداخلية (الفكرية والثقافية التاريخية العميقة) في وجود تلك النزاعات وبقاء حالة التباعد والتنابذ العربي العربي، فيجب ألا نغض النظر عن تلك الأسباب الموجبة الخارجية التي يمكن ملاحظتها وضبطها من خلال هذا الكم الهائل لحجم التدخلات الدولية والإقليمية السافرة في شؤون وقضايا الواقع العربي الداخلي.. وهي لا تقتصر لا على تدخل إسرائيل ولا على الغرب وأمريكا فقط، وإنما أيضاً يمكن ملاحظتها –خلال السنوات وربما العقدين الأخيرين- من خلال تدخلات دول الجوار والإقليم المجاور. والكل في البحث عن مصالحه واحد..
طبعاً نحن لا نريد هنا في هذه العجالة الاستغراق في وصف ورصد النتائج الكارثية التي أدت (وتؤدي) إليها ديمومة تلك الصراعات والنزاعات القائمة بين البلدان العربية –على مستوى تفكك وتشظي الاجتماع السياسي والديني العربي وتحوله إلى اجتماع ضعيف ومضعضع وهش بما يفضي إليه من إبقاء العرب في حالة التخلف العلمي والاقتصادي والسياسي.. فهذه أمور وتوصيفات أصبحت واضحة وواقعة وماثلة أمام الجميع.. ولكننا نريد هنا إبقاء الأسئلة والإشكاليات مثارة في الرأي العام ليتحمل الكل مسؤولياتهم الوطنية والمجتمعية أمام شعوبهم وأجيالهم الطالعة التي لا تزال أعباء سلبيات العمل العربي المعقد والخلافات العربية البينية والعميقة، الداخلية والخارجية..
كما أننا نهدف إلى إبراز أهمية إحداث تغيير بنيوي نوعي في طبيعة ونوعية آليات العمل والتفكير والممارسة القائمة والتركيز الدائم على إجراء إصلاحات في صلب الواقع العربي القائم من خلال القوى والنخب المستفيدة من التغيير والإصلاح الداخلي قبل الخارجي.
وفي ظني أن الطريق والمدخل المطلوب لإيقاف حالة النزف الدائم في العلاقات العربية يمر بصورة قسرية على مسار إصلاح الداخل في كل بلد عربي، عبر قيام إصلاحات سياسية تقوم على إعادة السياسية إلى حضن المجتمع ككل.. وإشراك الناس في صنع القرار ومسؤوليتهم عنه بصورة جماعية.. مع أهمية قيام النخب الفكرية والثقافية والدينية العقلانية المتنورة بالتركيز على أهمية النقد للتراث والتاريخ الذي لا يزال يرهن وجودنا للماضي العتيق بمختلف تياراته وتصنيفاته وامتداداته وانتماءات أصحابه..
إن قيامنا جميعاً كنخب عربية مثقفة –كل في مجال عمله واختصاصه المهني والفكري الرسالي- بممارسة مسؤولياتنا التاريخية النوعية هو الطريق الآمن لتفجر الطاقات العربية المهدورة والعمل على توظيفها في خدمة حاضر هذه الأجيال الغائبة المغيبة، ومستقبلها أيضاً..
*كاتب من سوريا
منبر الحرية،09 مارس/اذار2012
PAGE
PAGE 1
HYPERLINK “HTTP://WWW.MINBARALHURRIYYA.ORG © مشروع منبر الحرية ====================== ” WWW.MINBARALHURRIYYA.ORG © مشروع منبر الحرية ======================