منذ بداية الحراك يأبى الربيع العربي إلا يكون إلا ربيعا أعرابيا. فهل يا ترى يمكن أن يكون الدرس الديمقراطي السنغالي من عمق القارة السمراء مناسبة لهذا العود؟ السنغال دولة في غرب إفريقيا تتسم بتعددية عرقية ولغوية ودينية، فالمجتمع السنغالي ذو بنية اجتماعية متنوعة اللغات والأجناس مع اختلاف معتقداتهم الدينية، إلا أن هذه الاختلافات لم تمنعه من تحقيق المصلحة الوطنية للجمهورية السنغالية، بعيدا عن حسابات السياسيين كما هو حال بعض الدول (لبنان، البحرين،…).
درس ديمقراطي أو بالأصح منجز تاريخي تمكن السنغاليون من تحقيقه في غضون شهر (فبراير/شباط و مارس/آذار)، من غير ربيع كالذي عاشته تونس ومصر واليمن، ولا تدخل أجنبي كما كان حال ليبيا، ولا حرب أهلية وجلسات الأمم المتحدة ومؤتمرات صديقة، كالتي يعيش على إيقاعاتها الشعب السوري حاليا.
لقد تمكنت قيم المواطنة من غرس جذورها في التربة السنغالية، بعدما تنسم السنغاليون نسائم الحرية إبان خروج المستعمر الفرنسي، فصاروا من أشرس من يدود عن هذه النسائم.
ففي قارة تعاني من العنف العرقي والسياسي الذي يكون ملاذا لحل كل الخلافات، ما انفكت السنغال تقدم نموذجا متفردا من زاوية إيجابية للغاية عكس السائد في هذه القارة. شرع النظام الحاكم – بعد فترة ما بعد الاستقلال المضطربة – ابتداء من السبعينات بالتحرر تدريجيا على المستويين السياسي والاقتصادي، بقيادة الرئيس الشاعر ليوبولد سيدار سنغور. فقد وجدت التعددية الحزبية فضاءات حرة مكنت عبدو ضيوف من تقديم نفسه كزعيم للمعارضة وقوة بديلة ذات مصداقية.
تخلى سنغور الرئيس الشاعر عن السلطة في سنة 1980 قبل انتهاء فترة ولايته، تولى زعيم المعارضة عبدو ضيوف الحكم في البلاد لعقدين من الزمن، تخللتهما فترات متناوبة من الانفتاح الديمقراطي البطيء. تخلى عبدو ضيوف بدوره سنة 2000 عن منصبه لخصمه القديم عبد الله واد، في ما وُصف آنذاك بواحدة من أولى الانتخابات الحرة والنزيهة في غرب أفريقيا. لقد مكنت هذه الانتخابات السنغاليين من تقديم درس في “الديمقراطية الناشئة”، في وقت كانت فيه ساحل العاج تغرق في أزمة ما بعد هوفويت بوانيي.
عزم عبد الله واد القطع مع هذا المسار الديمقراطي، بخوضه غمار الانتخابات لولاية ثالثة، متحديا القواعد الديمقراطية استعدادا لتوريث ابنه. غير أن إرادة الشعب السنغالي كانت أقوى منه حين منحت أصواتها لرئيس الوزراء الأسبق ماكي سال، في عرس ديمقراطي متفرد قادته جبهة عريضة تضم كل أطياف المعارضة (ليبراليين، اشتراكيين و ماركسيين) ومكونات المجتمع المدني، أطلقت على نفسها اسم حركة 23 يونيو. التي ضمت كل المرشحين الذين انهزموا في الدورة الأولى من الرئاسيات، والذين دعوا للتصويت لصالح ماكي سال ضدا على عبد الله واد. جبهة توفقت في إنجاح هذا الدرس الديمقراطي الناشئ، أمام أعين جارتها الشمالية مالي التي تغرق في إحدى حلقات المسلسل الانقلابي الافريقي ذي المصير المجهول.
إن هذه الديمقراطية الناشئة كانت من وراء بقاء السنغال من الدول القلائل في القارة السمراء التي لم تعرف في تاريخها انقلابا عسكريا واحدا. هي ذاتها التي أتاحت هامشا كبيرا من حرية التعبير التي جعلت البلد يفتخر بصحفه المستقلة والساخرة، التي بوأته المرتبة 47 في حرية الصحافة وفقا لتصنيف منظمة “مراسلون بلا حدود”.
إن مقومات نجاح التجربة السياسية السنغالية ذاتيا بامتياز قياسا بتجارب جيرانها “الفاشلة” (موريتانيا، ساحل العاج، مالي وكينيا) القائم على قاعدة القهر والاستبداد والقمع ومصادرة الحريات والاستئثار بالسلطة وتغييب مشاريع التنمية كليا. تجربة أحاطت نفسها بقيم الحرية والتحرر واحترام الخصوصيات والتنوع الذي يعرفه المجتمع السنغالي بغية ضمان نجاحها. تجربة حرص روادها من توظيف العوامل الداخلية لصالح بناء دولة مدنية ديمقراطية قائمة على إحقاق مواطنة كامل لمختلف مكونات المجتمع السنغالي لا لخدمة مصالح أقلية معينة.
مكن حسن توظيف هذه الخصوصيات الشعب السنغالي من تجاوز بعض الحواجز (قضايا الإثنية، الهوية والجهوية) التي لا تزال تنخر النسيج الاجتماعي للدول غرب افريقيا. هذا دون تجاوز معطى جوهري عزز هذه التجربة يكمن في حياد المؤسسة العسكرية عن السجال السياسي، حيث ظلت تمارس وظائفها الدستورية رافعة شعار الشعب مصدر كل السلط.
لاشك أن دولة السنغال ليس بالنموذج المثالي للديمقراطية، فكل ما سلف لا يعدو أن يكون سوى الحصة الأولى من سلسلة دروس الديمقراطية الطويلة الأمد والعسيرة المخاض التي تنتظر السنغاليين حكومة وشعبا. بيد أن مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة كما ورد في الأثر، خطوة تكشف عن تباشير نموذج رائد يلوح في الأفق يلزم فقط مواكبته بما يضمن له الاستمرارية من جهة. ومن جهة أخرى ينبغي الاهتمام بالجانب الاقتصادي الذي يعد أكبر ضمان لبقاء ونجاح هذا المسلسل الشائك والشاق. فلا ريب أن إقامة قواعد تؤسس للمبادرة الحرة وتكرس الشفافية ومبادئ المنافسة تفتح أفاقا كبيرة لانخراط البلاد في اقتصاد السوق الذي يضمن تنمية مستدامة تواكب حصص الدرس الديمقراطي.
*باحث من المغرب
منبر الحرية،15 أبريل/نيسان2012
2 comments
عادلة
16 أبريل، 2012 at 6:49 ص
مقال رائع وتحليل أروع
Pingback: قراءة فى الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب افريقيا | المركز الديمقراطى العربى