منبر الحرية3 مايو، 20120
بينما نجد أن هنالك الكثير من الدروس المستوحاة من مساوئ الحكومة، قدَّمَتْ لنا هذه الاحتجاجات العديد من الأمثلة الايجابية حول التنظيم العَفَويْ. وتعد مصر أفضل الأمثلة التي تم توثيقها حيث ظهر المُحتجّون دون أي قائد يُدير الجموع، على الرغم من أن هذه الظاهرة كانت موجودة في تونس......

آدام ألوبا*

بتاريخ 17 كانون الأول/ديسمبر 2010 قام البائع المتجوّل محمد بوعزيزي بسكب الوقود على نفسه وإشعالها أمام مبنىً حكومي في قرية سيدي بوزيد التونسية البعيدة. ولم يؤدي وفاة أي شخص منذ مقتل الارشيدوق فرديناند إلى تغير مجرى التاريخ وعلى نحوٍ كبير. أطلق فعل بوعزيزي الناتج من إهانة من بين الكثير من الإهانات التي تعرّض لها من قِبَل الشرطة المحلية، أطلق عاصفة من الغضب العربي والتي جَرَفَتْ بالرئيس التونسي زين العابدين بن علي ونظيره المصري حسني مُبارك… وذلك في وقتٍ كان يرتجف فيه المستبدّون الإقليميون الآخرون.

هذا مع العلم أن كلاً من تونس ومصر غير مُعدّتان لتصبحان دولتان لحماية الأفراد ولا حتى لتطبيق الليبرالية والديمقراطية على غرار الطراز الغربي، لأنهما على بعد الكثير من السنين من ذلك. إلا أن هذه الثورات تُعد بالتأكيد خطوة مُلهِمة في الطريق الصحيح. ومن وجهة نظر ليبرتارية فإن الكثير من الفعاليات التي تُحيط بهم تعمل على تعزيز إيماننا بأن إجراءات الدولة مؤذية وبأن الأفراد قادرين على إدارة شؤونهم دون قيادة قسرية. وبينما لا يُحقّق التركيز على هذه الجوانب الضيقة أي عدالة تجاه الانجازات الشُجاعة للمُتظاهرين، إلا أنها تُسلّط الضوء على العواقب الكارثية لمبدء الدولة (التدوّل) ومرونة الإبداع البشري.

سوف لن أتطرق إلى الوضعية الفظيعة للحقوق المدنية التي عاشها الناس تحت الأنظمة التي سبقت الثورات. ويكفي أن نقول بأنه في الوقت الذي كان كل من بن علي ومُبارك يعملان على التسويق لبلديهما على أنهما مكانين مُشمسَين لمُتعة السواح، قام كلاهما ببناء دولتين بوليسيّتين وحشيّتين وعلى نحوٍ غير مسبوق حيث كانت هاتان الدولتان من بين أكثر الدول قمعاً في العالم. من يستطيع أن يطعن في نذالة هذه الأنظمة؟ ومن منّا لا يستطيع أن يفهم الدور الذي لعبوه في إثارة الغضب العام؟

إن النقطة الأقل وضوحاً هي الدور الذي لعبته عملية تحديد الحُرية الاقتصادية في إطلاق المظاهرات. حيث لعِبَت سياسة التدخل الاقتصادي دوراً منذ بداية هذه الاحتجاجات وكانت مصدراً رئيسياً للغضب العام الذي زادَ من تأجيجها.

كان محمد بوعزيزي مسؤولاً عن إعالة أمه وزوج أمه وخمسة من إخوانه وأخواته عن طريق بيع الفواكه والخُضار في السوق المحلي في منطقته – كلما استطاع ذلك –، لأن الشرطة كانت دائمة تُضايقه إما على شكل طلب الرشوة منه أو مُصادرة بضاعته والميزان، أو فرض الغرامات عليه بداعِ العمل دون ترخيص. هذا وقد تمَّ تغريمه مبلغاً يُعادل شهرين من العمل وذلك قبل انتحاره بستة اشهر. وكان آخر الفيض عبارة عن مُصادرة مصدر رزقه والذي انتهى بالبصق عليه وصفعه. وبذلك فقد عملت الدولة على حرمانه من كرامة الاسترزاق بشرف. وتُعد مشكلة البوعزيزي نموذجاً لما يوجد بالمنطقة العربية  وعندما تكون سياسة الحكومة مُعدّة أحيانا  للسيطرة على الفعالية الاقتصادية.

وبينما تعمل الدول العربية على حرمان الجماهير من حق العمل، فهي تُعطي الامتيازات الاقتصادية – وعادة ما تكون بالأساس عبارة عن إجازات مُمارسة للسرقة – للقلّة من الذين يتم انتقائهم، وكان التونسيون يُسمّون قبيلة الطربلسي (وهم قبيلة زوجة بن علي) ببساطة بـ “العائلة.” وقد وضّحت رسالة دبلوماسية كشف عنها موقع ويكيليكس ” أن عائلة بن علي تحصل على ما تُريد سواء كان ذلك مبلغاً نقدياً أو خدمات أو ارض أو مُمتلكات وهي تحصل عادة على ما ترغب به.” وكان طمعهم كبيرا إلى حد أن المستثمرين المحليين يقومون بالتنازل عن الفرص المتوفرة لهم خوفاً من تعرضهم للإفلاس، وذلك “بالحفاظ على نسب الاستثمار المحلية منخفضة والحفاظ على مستوى البطالة مرتفعاً.” وبالطبع فان تعامل النظام على هذه الشاكلة لم يكن مقتصراً فقط بعائلة الطرابلسي. فعلى نفس المنوال اظهر التحقيق في قضايا الفساد الخاصة بمُبارك بأن إجبار أصحاب الأعمال على منح وَلَدَي مُبارك نسبة 20% إلى 50% فقط لفتح محل تجاري مُعين كانت مسألة “روتينية.” ويُقال بأن ثروة عائلته تُقدّر بالمليارات.

هذا وقد عمل الفساد الحكومي في مصر وتونس على تحطيم الآمال الاقتصادية للمواطنين، في الوقت الذي تم فيه إعطاء الحرية للّصوص. وهو ما يفسر تزايد النقمة الشعبية لهذه الشعوب.

بعد يوم من الهروب المخزي لبن علي أصدر الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي تصريحاً أكد فيه أن سياسة فرنسا مبنية على شيئين ثابتين وهما: عدم التدخل في الشؤون الداخلية للبُلدان ذات السيادة، ودعم الديمقراطية والحرية. وبعد ساعات من استقالة مُبارك عَرَضَ الرئيس الأمريكي اوباما المساعدة على المصريين لكي “يتوصّلوا إلى انتقال ديمقراطي يتمتع بالمصداقية.” وعلى رغم كون كلا التصريحين ايجابيين، إلا أن القادة الذين يتمتعون بشعور أفضل بالخزي قد تردّدوا قبل إطلاق هذه التصريحات النبيلة. هذا وكانت كل من الولايات المتحدة وفرنسا من بين اشد الحلفاء لأنظمة هذين الدكتاتوريين منذ تسلّمهما الحُكم.

وعلى الرغم من استقلال تونس عام 1957 والانقلاب الذي قاده بن علي على قصر الرئاسة بعد ذلك بـ 30 عاماً، بَقَيت العلاقات مابين باريس وتونس وطيدة. إلا أن وَعدْ الرئيس الفرنسي آنذاك فرانسوا ميتيران بربط المساعدات بحقوق الإنسان لم يمنع مئات الملايين من الفرنكات الفرنسية من التدفّق إلى تونس في عام 1994.  وبعد سنة زاد الرئيس جاك شيراك المبلغ ليصل إلى أكثر من مليار. وقد أعلن أن التقدم الذي يُحرزهُ بن علي كان على طريق الديمقراطية، بينما ادعى من تلاه (ساركوزي) بأن الناس كانوا “قُساة” على تونس والتي كانت تتقدّم نحو “الانفتاح والتسامح” في وقتٍ توسَّعَ فيه “فضاء الحريات.”

وفعلت باريس كل ما بوسعها في الأيام الأخيرة لإحياء النظام الآيل إلى السقوط: فقبل رحيل بن علي بثلاثة أيام قال وزير الخارجية الفرنسي بأن “قوات الأمن الفرنسية المعروفة على النطاق الدولي” على أهبة الاستعداد للمساعدة على إنهاء العنف في البلاد. وفي اليوم التالي وافقت الحكومة [الفرنسية] على إرسال شحنة من القنابل المسيلة للدموع لإعادة تجهيز الشرطة التونسية.

إلا أن أواصر العلاقة الفرنسية التونسية ضعفت بالمقارنة مع العلاقة الوطيدة مابين واشنطن والقاهرة والتي امتدّت على مدى عقود. فمنذ توقيع مُعاهدة السلام مع إسرائيل في عام 1979 قدّمت الولايات المتحدة مبلغ 2 مليار دولار بمعدّل سنوي على شكل مساعدات للحكومة المصرية وكان أكثرها لمساعدة الجيش المصري. كان نظام مُبارك عنصراً مهما لبرنامج الولايات المتحدة السري لتسليم المطلوبين. وكما قال احد العُملاء السابقين لوكالة الاستخبارات الأمريكية “إن أردت أن تُخفي احدهم، أي أن لا تراه مُجدّداً، فما عليك سوى إرساله إلى مصر.”

وكما هو الحال مع فرنسا، فقد كان من الصعب على الإدارة الأمريكية أن تتنازل عن حليفتها التي استمرت العلاقة بها لوقتٍ طويل حتى عندما اقتربت النهاية. فقد وصَفَتْ وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون حكومة مُبارك بأنها “مُستقرّة” وذكرت بأنها [أي حكومة مُبارك] “تبحث عن طرق للاستجابة للمطالب والمصالح الشرعية للشعب المصري.” وبعد عدّة أيام قال نائب الرئيس الأمريكية جو بايدن “لن أشير إلى [مُبارك] على انه ديكتاتور” – بناءً على المنطق الغريب القائل بأنه قد ساعد في تقدّم السياسية الخارجية للولايات المتحدة.

لا يجب إلقاء اللّوم على الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا والبُلدان الأجنبية الأخرى بسبب وجود ومُطاولة هذين النظامين الديكتاتوريين. فقد حافظ الطُغاة من أمثال روبرت موغابي رئيس زمبابوي ومُعمّر القذافي رئيس ليبيا على زمام السُلطة لعقود دون الاعتماد على القوى الأجنبية من النوع الذي اعتمد عليه كل من بن علي ومُبارك. إلا أن الدعم الذي كان يحظون به لم يساعدهم بالتأكيد، مما يُقلّل احتمالية نظرهم إلى الديمقراطيات التي تتمتع بالحرية على أنها نموذج للاقتداء به وبذلك يجب على أي شخص يتوجه بالسؤال الذي لطالما طرحهُ الكثيرين: “لماذا يكرهوننا؟” أن يتذكر هذا الشيء.

وبينما نجد أن هنالك الكثير من الدروس المستوحاة من مساوئ الحكومة، قدَّمَتْ لنا هذه الاحتجاجات العديد من الأمثلة الايجابية حول التنظيم العَفَويْ. وتعد  مصر أفضل الأمثلة التي تم توثيقها حيث ظهر المُحتجّون دون أي قائد يُدير الجموع، على الرغم من أن هذه الظاهرة كانت موجودة في تونس.

اختفت الشرطة من الشوارع في الوقت الذي انتشر فيه المحتجون، فاستجاب المواطنون وذلك بتنظيم المرور بأنفسهم وبتشكيل “مجاميع قامت بتعيين نفسها بنفسها على نحوٍ عشوائي” لتوفي الأمن عن طريق إنشاء نقاط تفتيش. وبذلك أصبحوا أكثر تعقيداً وعلى نحوٍ مُتزايد بعد أن قاموا بتطوير نظام يسمح للسيارات بتجاوز نقاط التفتيش. وعلى الرغم من احتواء هذا النظام على احتمالية تأجّج العُنف، إلا أن الخطر الرئيس كان موجهاً للصحفيين بسبب قيام الإعلام الحكومي بإلقاء اللوم على مؤامرة أجنبية كتفسير لاضطراب النظام. وعمل النظام على دفع المشكلة نحو المزيد من التعقيد عن طريق إطلاق سراح آلاف السجناء وإصدار الأمر للشرطة بارتداء الزي المدني وإذكاء العُنف. وطِبقاً لأغلب التقارير فإن نظام “اللجان الشعبية” عَمِلَ بسلاسة قياساً بالظروف التي كان الجميع تحتها.

وبقدر ما كان نظام المناطق السكنية المحلية مثيراً للإعجاب، فقد احتوت الثورة المصرية على إحدى أكثر القضايا المُتَعَلّقة بالنظام العفوي في ذاكرة الإنسان، ألا وهي التحرّر من سيطرة الدولة في ساحة التحرير التي هي اسمٌ على مُسمّى.
كانت ساحة التحرير، التي هي الساحة الرئيسة في القاهرة، المكان الذي تجمّع فيه المُتظاهرون في اليوم الأول من الاحتجاجات حيث كانوا ينصبون خيمهم على الرغم من إصرار النظام على إيقافهم. وبسرعة أصبحت هذه الساحة مركز الثورة حيث انفجر المُتظاهرون في “جمعة الغضب.” وبعد أيام أصبحت محل عُنفٍ حيث أطلق النظام العنان لمجاميع من البلطجية والشرطة بلباس مدني لقاء مبلغ مالي لمواجهة المتظاهرين وكان البعض منهم يمتطي أحصنةً وجِمال. وتحولت الساحة في تلك الليلة إلى ساحة قتال حيث أطلق البلطجية خليط من الأعيرة النارية وقناني المولوتوف بالإضافة إلى القناصة وذلك لسحق الانتفاضة. وقد تم إنقاذ الثورة فقط بفعل الشجاعة والجرأة الكامنتين في رغبة الشعب للموت من أجل حريتهم. وكانت ساحة التحرير مسرحاً عبّرَ المصريون فيه عن فرحتهم الغامرة عندما سقط النظام أخيرا.

وفي المراحل الأولية للاحتجاجات تركت الدولة ساحة التحرير للمُتظاهرين. وكرد فعل أنشأ المُتظاهرون “جمهورية التحرير.” وبعد ذلك أُضيفَ للثورة اللافتات وفُتِحَتْ الطُرُق وأصبحت الحمامات مجانية داخل وحول الساحة وتواجدت شبكة من العيادات الطبية وحلاق ومحطات لشحن الهواتف النقالة وسجن للمُساندين لنظام مُبارك الذي كانوا يحاولون اختراق الساحة وفريق صغير وإذاعة للبث الصوتي ومكان للمفقودات والموجودات. وباختصار كان هنالك كل أنواع الخدمات بضمنها بعض الخدمات التي يُدَّعى بان الحكومة هي الوحيدة القادرة على توفيرها. لقد استضافت ساحة التحرير زواجاً وصلاة ليوم الأحد. وتم تأمين المواطنين عن طريق شبكة من نقاط التفتيش الأمنية المُتواجدة على حدود الساحة. فما أن يتم الهجوم عليها حتى يتم إبلاغ الجموع عن طريق نظام للإنذار المُبكر للاحتماء بالحواجز. وقد ادعى احد المُتظاهرين بأن الساحة كانت “أكثر الأماكن التي شاهدها تنظيماً في القاهرة.”

لقد أنشأ المُقيمون في الساحة “جمهورية” خاصة بهم ليس فقط بغياب المساعدة من الدولة بل في الوقت الذي كانت حكومتهم تعمل وبنشاط على تقويض عملهم، لا بل حتى قتلهم! ستترك هذه الثورة آثاراها في ذكريات عشرات الآلاف من الناس الذين احتلوا مكاناً عاماً ونظّموا أنفسهم بغياب الإجبار القسري أو الإرشاد. وقد يتساءل البعض فيما لو أن هنالك داعٍ للتخطيط المركزي لنا كي نُدير حياتنا.

لقد عملت الدولة على إلحاق الخيبة بنفسها في أول ثورتين عربيّتين شعبيّتين في العالم، بينما اظهر الشعب ما يستطيع الناس الأحرار فعله عندما يُترَكون وشأنهم. يظهر أن المستقبل مشرقٌ حيث عمل التونسيون والمصريون على إنارة دربٍ بعيد عن الطُغيان والتسلّط.

عبّر البعض عن قلقهم حيال ما قد يحصل لو أن هذه البُلدان اعتنقت الديمقراطية. في الوقت الذي لا نستطيع أن نحدّد فيه النظام الذي سيحل محل الأنظمة الزائلة، أعطيكم آخر تصريح لرجل لا يُعرَف عنه ميوله إلى القومية العربية أو الإسلام، ألا وهو رئيس الوزراء الإسرائيلي وعضو الليكود بنيامين نتنياهو.

“إن مصدر إلهام كل الذين يثمّنون الحُرية هو نداءات الإصلاحات الديمقراطية في مصر. والمصري الذي يتبنى هذه الإصلاحات سيكون مصدر أمل للعالم. هذا وإن قوة أُسس السلام هي بقدر قوة أُسس الديمقراطية.”

*محامي وكاتب سياسي من كندا

منبر الحرية،03 ماي/أيار2012

PAGE

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018