التحولات الراهنة وأسئلة الديمقراطية والتوافق

عصام العدوني6 مايو، 20120
لقد جسد حدث إحراق البوعزيزي لنفسه، وما ترتب عليه من وقائع ونتائج النقطة التي أفاضت الكأس المملوءة، فرغم ارتباطه في الوهلة الأولى بقرار وتصرف شخصي، وتعبيره عن دوافع فردية، إلا أنه أفرز مجموعة من الظواهر السوسيولوجية التي لم تكن حاضرة في انطلاقته.....

عصام العدوني*

لقد  جسد هذا الحدث  وما ترتب عليه من وقائع ونتائج  النقطة التي أفاضت الكأس المملوءة، فرغم  ارتباطه في الوهلة الأولى بقرار وتصرف شخصي،  وتعبيره عن  دوافع فردية، إلا أنه أفرز مجموعة من الظواهر السوسيولوجية التي لم تكن حاضرة في انطلاقته.

إن الموقف الانتحاري اللاعقلاني  في الظاهر الذي قام به هذا المواطن تقف خلفه دوافع عقلانية  حقيقية (إثارة الانتباه إلى التمييز والإقصاء، مقاومة النفوذ والتسلط،  رفض الإهانة خاصة حينما تأتي من طرف امرأة يتم تمثلها شعبيا كأقل مرتبة من الرجل… ) ).

 لقد أنتج هذا الفعل أثارا غير متوقعة أخذت في تفاعلها مع مواقف ووقائع أخرى أبعادا مجتمعية أكبر وترتبت عليها سلسلة من الأحداث والنتائج الغير المرغوب فيها لحظة انطلاقته ( إن الاحتجاجات الأولى التي شهدتها مدينة سيدي بوزيد لم تكن تريد تغيير النظام) ، وفي حالتنا هذه  ترتب عليها إعادة النظر في نظام سياسي برمته.

لقد مارست هذه الحادثة وما تلاها من حراك اجتماعي وسياسي وثورات تأثيرا كبيرا على الفكر الذي كان يقوم بتنظير الواقع العربي وعلى الواقع نفسه، فقد ثبت له انه كان فكرا نظريا تجريديا غارقا في تعاليه عن مجريات الأمور، ويقينياته مشدودة إلى البناءات والأنساق المجردة أكثر من انتباهها إلى المعيش اليومي، إلى التجارب والخبرات الفردية التي تواجه وتتفاعل كل يوم مع النظام السياسي والثقافي في جبروته وقسوته و لامساواته الاجتماعية.

إن الإنعتاق السياسي الذي ترتب عن هذه الوقائع ما كان له أن يحدث لو لم تكن وراءه  أسباب قوية ودوافع موضوعية تم قمعها وتدجينها وتلطيفها لعقود طويلة بواسطة الأجهزة القمعية والإيديولوجية:

1- إن التحولات النفسية والذهنية التي حدثت قبل وأثناء وبعد هذه الثورات ليست أقل أهمية عن النتائج السياسية التي أفضت إليها. لقد تحررت الشخصية العربية من الخوف والشعور بالدونية والنقص التي كانت بالنسبة لها في السابق تنتمي إلى النظام الطبيعي للأشياء، إلى الفطرة، بفعل تشريب الهابتوسات  التي تنتجها مؤسسات مختلفة من الدولة والإعلام إلى المدرسة والأسرة ومكان العمل. لقد قام الحراك العربي بخلخلة الأسس الذهنية للبنية البطريركية التي تقوم على الولاء والطاعة لرب الأسرة وشيخ القبيلة ورئيس الزاوية ومؤسس الحزب والزعيم الكاريزمي الذي تجتمع في شخصه الثورة والوحدة والقيادة. فعلى غرار الأب بفعل قوته البيولوجية وقدرته المادية على الإنتاج  والإكراه سيتحكم في المرأة والأبناء، فان الزعيم كذلك بفعل شخصيته الملهمة وانجازاته الخارقة  وقدرته التوزيعية سترتقي التشكيلات السكانية من عصبويتها وطائفيتها وقبليتها و”بدويتها” إلى  مصاف الأمم الحديثة! ومن تم فمن واجب  “الشعب” أو “الأمة”  و”الأبناء” الاعتراف بالجميل وتقديم الولاء والخدمة لرب النعمة ضمن طقوس وأساليب يتداخل فيها الديني بالزمني، الشخصي بالمؤسساتي، المادي بالرمزي…

2- إن هذا الحراك بقدر ما كان مزعزعا لأسس السيطرة الأبوية ولتقاليد وأعراف التبعية والخضوع بقدر ما كان مزلزلا للإيديولوجيات التي اعتادت على  اليقينيات والمطلقات “العلمية”. لقد كان الباحثون الغربيون يقولون في الماضي انه في العالم العربي كل شيء يتغير من اجل أن لا يتغير أي شيء. فخلف مظاهر الاضطراب والتوتر والعنف توجد طبقة سميكة من الثبات والتكرار، والتغييرات لا تحدث بإرادة الشعوب وإنما من خلال الانقلابات والتواطئات والدسائس، و جوهر الأنظمة لا يتغير مادام أن النخب المتنافسة تنهل من نفس المرجعية الثقافية (المحافظة، الاستبداد، الفساد، الريع الاقتصادي ). لقد تم حصر الديناميات الاجتماعية في الثبات وإعادة الإنتاج، والاستبداد والركود الاقتصادي والتقني، والطابع الجماعي التجزيئي، وسيطرة التضامن الآلي، وغياب الفرد وضعف الملكية الخاصة، وسيطرة الفكر الخرافي والغيبي وغياب الثقافة السياسية الحديثة،  وتعارض الإسلام والحداثة… دون اعتبار للفروق بين المجتمعات، ولاختلاف السياقات التاريخية والمصالح الزمنية والصراعات الفكرية والإيديولوجية المرتبطة بها. فعلى سبيل المثال لم يدركوا الفرق بين الإسلام والتجربة التاريخية للمسلمين، بين المقدس وتجلياته البشرية. ولم يعوا أن المصالح المادية للأفراد والجماعات تتغلب على مصالحهم المثالية، وان القواعد المعيارية المنتمية إلى الحقل المرجعي للإسلام ( فقه، علم الكلام…) ليست سوى القواعد التي أنتجها البشر في صراعاتهم السياسية، وان تأويل الشريعة ليس سوى التأويل التاريخي لفئة اجتماعية في ظرفية معينة. في مقابل ذلك تم إهمال القضايا المصيرية التي كانت تواجه تلك المجتمعات مثل نوع الخيارات التنموية المطلوبة، وكيفية الخروج من التخلف والتبعية…

لقد كرس التمركز الغربي إهمال التغيرات التي كانت تعتمل في البنيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية  مفضلا عنها ثوابثا ثقافية وسيكولوجية وبيولوجية أحيانا كالعرق والعقلية والشخصية والدين.

لكن حينما أتى  الحراك العربي بالقوة والعنفوان اللذان زلزلا الأحكام المسبقة والتقييمات الذاتية، فقد حتم   إعادة النظر في المنطلقات والخلفيات و إعادة ترتيب الأولويات والأهداف بشكل يضمن إعادة توزيع الموارد والقوى بأقل خسارة ممكنة: إن إعادة النظر هذه كانت إرهاصاتها قد بدأت منذ التسعينيات، حيث أدى انهيار المعسكر الشرقي والتحولات الدولية والإقليمية التي رافقته بزوال العدو الأول أمام انطلاق “العالم الحر”، إلى تعديل في منطق التحالفات والأهداف على الصعيد العالمي، فبعدما كانت  سيادة الدولة لا تقبل النقاش ظهر مبدأ التدخل من اجل أغراض إنسانية ليحاصرها. وعلى الصعيد الاقتصادي،  كما هيئت التكنولوجيا الجديدة للإعلام والتواصل NTIC الأرضية لتنامي رأي عام عالمي ذي قدرة كبيرة على التعبئة والضغط.

لقد تضافرت هذه العوامل مجتمعة في الوعي بكون استمرار التحالف مع أنظمة استبدادية لا تحظى بمشروعية شعبية يواجه صعوبة في إقناع الرأي العام الداخلي و تضائل المصداقية على الصعيد الخارجي، من هنا ستحتل قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان أولوية القضايا المطروحة على أجندة العلاقات الدولية منذ اتفاقية برلين سنة 1991 التي أنهت مبدأ عدم التدخل إلى مؤتمر فيينا 1993 الذي اقر خطة عمل لحماية حول حقوق الإنسان،  مرورا بالمحكمة الجنائية الدولية التي تختص بمحاكمة مقترفي جرائم  حقوق الإنسان، إلى أن وصلنا إلى التدخل العسكري في ليبيا من قبل قوات الناتو تحت غطاء مجلس الأمن لأغراض حماية المدنيين.

3- إن أهم نتائج هذا الحراك العربي سياسيا هي صعود نجم التنظيمات الإسلامية المعتدلة  سواء في تونس أو ليبيا أو المغرب أو مصر، فقد فاز حزب النهضة التونسي بالأغلبية في انتخابات المجلس التأسيس للدستور، كما أن تشكيلة المجلس الانتقالي الليبي  يغلب عليها الإسلاميون، وفي مصر تراهن جماعة الإخوان المسلمون من خلال حزبها الجديد”الحرية والعدالة” على المساهمة في السلطة من موقع المشاركة المطمئنة للجميع في الداخل والخارج، وفي المغرب أفرزت انتخابات 25 نونبر 2011 عن احتلال حزب العدالة والتنمية للمرتبة الأولى والتي تخوله رئاسة الحكومة الجديدة التي ستتمتع بصلاحيات تنفيذية كبيرة في ظل دستور جديد.

من خلال هذه المتغيرات والتي أجملناها في تحول الشخصية العربية، وتزحزح المركزية الغربية عن مواقعها وتصاعد الوعي التدريجي بأسبقية الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتزايد تأثير الحركات الإسلامية،  تتبادر إلى الذهن ملاحظات أساسية في علاقة بها:

1-  إن مسار التحول إلى الديمقراطية الجاري أمامنا ليس  هو نفسه الذي عرفته أوروبا بدءا من القرن 15 إلى غاية الثورات السياسية  للقرن 18 من حيث خلفيته الفكرية والفلسفية المتمثلة في العقلانية والحرية والمساواة،  وليس نفسه الذي عرفته أوروبا الشرقية في التسعينات من القرن الماضي خاصة في مكوناته الإيديولوجية. إننا أمام نموذج مختلف للتحرر تقوده حركات سياسية ذات مرجعية دينية، وهو نموذج لا يعارض الديمقراطية جملة وتفصيلا، فهو بقدر ما يوظفها في الصراع ضد الاستبداد والحكم الفردي وفي إضفاء المشروعية على اختياراته المذهبية وسلوكاته السياسية بقدر ما لا يعتبرها المرجع الوحيد الذي يتم الاحتكام إليه.

2-   لم تبد العديد من العواصم الغربية قلقها وتخوفها من استلام الإسلاميين للسلطة، فقد أكدت الولايات المتحدة رغبتها في التواصل والحوار مع جماعة الإخوان المسلمون، وعبر ألان جوبي وزير الخارجية الفرنسي عن استعداد بلاده للحوار مع  حزب النهضة التونسي… إن هذا المواقف الايجابية هل تعني تحولا فكريا عميقا في الرؤية الغربية تجاه العالم العربي؟ هل اختفت مقولة صراع الحضارات ليحل محلها حوار الحضارات؟ وهل تراجع تأثير القيم في صياغة العلاقات الدولية كما كان يدعي البعض مادام تأثير الاقتصاد والسياسة احتل الصدارة في الأولويات؟ ألا يتعلق الأمر فقط  بتوافق مصلحي، ظرفي  وبرغبة في احتواء  الحركات الإسلامية المعتدلة مادام أنها لا تمس الأساس الاقتصادي والإطار المؤسساتي  للمنظومة الرأسمالية؟

3- إن مسار التحول الديمقراطي الجاري أمامنا قد لا يؤدي إلى الديمقراطية  في مفهومها وفلسفتها المتداولة عالميا، وبالتالي قد لا يستجيب لانتظارات فئات وشرائح واسعة من المجتمعات العربية ساهمت  بدور لا يستهان به في الحراك الحالي لكنها لم تجن ثماره. فهل يستدعي الأمر رفض هذا المسار من منطلق معارضته للحداثة والعلمانية وبالتالي التموقع مع أعداء الديمقراطية؟ أم يستدعي التفكير في إعادة تعريف  الديمقراطية وعلاقتها بالشعب بشكل يجعلها تستوعب الجميع؟ هل نحصرها في تمثيلية الحاكمين ونختزلها إلى لعبة صناديق الاقتراع دون الاكتراث بما دون الأغلبية السوسيولوجية؟ أليس هناك مجال أوسع من تمثيلية صناديق الاقتراع التي تكرس منطق الغالب والمغلوب؟ لماذا يغلب البعد المسطري والإجرائي  ويغفل البعد الفلسفي والفكري في تحديد الديمقراطية؟ ولماذا لا يتم التفكير في تعزيز مشروعية الانتخاب بمشروعية التوافق والتشارك؟

إن هذه المعاني  المتكاملة للديمقراطية الحقة نجدها متضمنة على سبيل المثال لا الحصر في تعريفي هابرماس وألان تورين،  فبالنسبة للأول يفرز النقاش في المجال العام  ديمقراطية أكثر تمثيلية لكونها تعتمد على  أخلاقيات الحوار والمناقشة والإقناع  بالاستناد إلى الأدلة الموضوعية والحجج العقلانية أكثر من اعتمادها على الصراع. إن الإجماع لن يترتب عن  صراع الأغلبية والأقلية، ولن يكون نتاجا لميزان قوى وتسويات ظرفية، بقدر ما سيترتب عن الاعتراف بدعاوي الصلاحية  لدى كل طرف والرغبة في تحقيق مصلحة الجميع. وبالنسبة للثاني، وان كان يقرر بأهمية الصراع كمحدد للدمقرطة، فانه ينظر إليها من منظور أكثر شمولية وعمقا يدمج ثلاثة أبعاد متكاملة وهي تمثيلية المحكومين عبر آلية الاقتراع العام الدوري والمنتظم، وتحديد السلط عن طريق فصل السلطات وسيادة القانون والعقل وصيانة حقوق الإنسان، ثم المواطنة من خلال المشاركة في الشأن العام وفي نفس الوقت الدفاع والتعبير عن خصوصية فردية. فبالنسبة له ” يجب أن نقول انه لا وجود لديمقراطية بدون مواطنة ولا مواطنة بدون توافق، ليس فقط توافقا حول المساطر والمؤسسات وإنما توافقا حول المضامين أيضا”.

*كاتب من المغرب

منبر الحرية،05 ماي/أيار2012

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018