صلاح علي إنقاب*
من رحم الثورة يولد نقيضها، هذه مشكلةٌ ننطلق عبرها ناحية الوصول إلى الحل، يقول باولو فرايري في كتاب تعليم المقهورين : [ … عن نزعة بعض القاهرين في هجر طبقتهم القهريّة والانحياز إلى طبقة المقهورين حيث ينتقلون من النقيض إلى النقيض، فأمثال هؤلاء يلعبون دوراً خطيراً، إذ أنّهم يحملون أدوات طبقتهم الأولى التي تتمثّل في الكراهية و التحيّز وعدم الثّقة في قدرات الآخرين ] وهذه مشكلةٌ أخرى تبحث أيضاً عن حل، وقبل البحث عن حلول لهذه المشكلات، نبدأ الحديث عن الدولة الدينيّة، والتي هي في واقع الأمر دولة [ فقه ] لا أكثر ولا أقل. الفقه ظاهرة مؤقّتة تعكس القوّة لا غير، هكذا يخبرنا التاريخ والواقع أيضاً، وعلى صعيدٍ آخر فإنّ الكرم الزائف الذي يهب عبره الثوّار للناس حريّاتٍ طارئةٍ تجعلهم مملوكين لهؤلاء الثوار، من ينصّبون أنفسهم ملاكاً للحق مانحين إيّاه، كل هذا يمر عبر عناصر ثقافة الصمت والخوف من الحريّة التي كرّس لها الاستبداد الثوري الديني أيضاً. لا نقصد الثورة أو الدين هنا، بل نقصد الثوّار من يستغلّون الثورة، ورجال الدين من يستغلون الدين في الأمس واليوم أيضاً، أخطر ما يمكن أن يحدث هو أن يتحوّل الثوّار إلى رجعيّين و يتحول الفقهاء إلى أرباب، حينها يضيع المواطن ويضيع الوطن و في نهاية المطاف يضيع الإنسان أيضاً، والذي يفقد القدرة على ممارسة الوجود البشري كاملاً والمتمثّل في الحق في الكلام، التعبير، التصرف، التنقّل والكسب، فتتحوّل رحلة التحرّر في الاتجاه الخاطئ ويصبح الثائر مجرد جزءٍ من اللعبة ، يلعب دوره كطرفٍ في عملية القهر التي تتكرّر لكن بألوان أخرى جديدة ، برّاقةٍ أحايين كثيرة.
لا أحد يستطيع أن ينكر أن [ الفقه ] شيءٌ و [ الدين ] شيءٌ آخر، الفقه أوجدته المبرّرات والدين على جانبٍ آخر بعيدٌ كل البعد عن كلّ الرغبات، ولا أحد يستطيع أن ينكر عجز [الثوّار] دائماً في صناعة [ الدولة ] في حال لم ينزع هؤلاء عنهم حلّتهم و يتجهوا ناحية عقلنة هذه الثورة و أنسنتها، ببساطة لأنّه وفي كل من الحالتين تضيع الحسابات بين [الذاتي] و [ الموضوعي ] بالنسبة لهؤلاء وأولئك، فالفقه ينظر لنفسه هو فقط من يمتلك الحقيقة المطلقة، [ المتصوّفة ] في ليبيا يجابهون حرباً مسلّحةً ضد [ الحنابلة ]، و[الإباضية ] يعانون من إجحاف و إقصاء بل وإنكار [ المالكيّة ]، الأول [ قبوري ]، يتسلّح في مجابهة من يناصبه العداء [ المشبّه ]، والآخران [ قدريٌّ ] يجابه [ مرجئأً ]، هكذا يقول كلٌّ عن الآخر، وفي نهاية المطاف تسود علاقةٌ يسودها [ العنف ] ليتغيّر فقط شكل الطبقة المهيمنة على الدولة، لكن قبل كل هذا نسأل ما هي الدولة؟، وهل هنالك [دولةٌ دينيّة ] أو [ دولةٌ ثوريّةٌ ] يمكن أن تنشأ في خدمة الإنسان أو لأجل تقديم أدنى مستويات الحريّة و التحرّر حتّى عبر النماذج الموجودة في العالم اليوم والبارحة أيضاً ؟
الدولة هي الشكل الموضوعي للمواطن، معطى بديهي للمواطنة، إذ أن الدولة كظاهرة إنسانيّة عامّة تعني تجسيد السلطة عبر محاور الهدف من تكوينها، وسائل عملها، وظيفتها لمن يعيش تحت ظلّها، وعلى جانبٍ آخر فإن الدين مرتبطٌ بالدرجة الأولى بالوجدان الفردي، هذا الوعي لا يدخل في إطار المرئيّات أو الحياة الدنيا إلا عبر نظام [الأخلاق ]، الدولة غير ممكنة في نظامٍ ينفصل فيه الفرد عن الحياة الدنيا حيث تتجسّد سلطة الدولة، داخل الوعي الديني الذي يهيأ الفرد لحياة السعادة في الحياة الآخرة، الدولة عندما تتبنّى الدين فإنّها تلغي الدّين أصلاً كونها لا تستطيع بل لا يمكنها أن تتضمّن أي قيمةٍ أعلى من قيمة الحياة الدنيا، إذ أن الماديّات تنكمش في الخطاب الديني، خلاف مبرّرات تكوين الدولة التي تقوم في الأساس لتلبية رغبات الإنسان [ الحيوانيّة ]، فتحجب الدولة غايتها خلف الدين، ويختفي الدين خلف غايات الدولة، التسلّط، احتكار الثروة، إدخال المواطن في لعبة [التجنيد] بدلاً عن [ التنشئة ]، فتفقد الدولة مواطنيها داخل فوضى الأدوار المبعثرة في منظومة فقدان هذه الأدوار في الخطاب اللاورائي، ويفقد المواطنين دولتهم داخل خطاب اللاهوت الغير مبالي بالحياة الدنيا أصلاً، الأمر بهذه البساطة .
الدولة غير مقيّدةٍ بنظريّة الأخلاق، السلوك الفردي الذي ينظمّه الدين شيء، والسلوك الجماعي الذي يحدّده القانون بناءً على مصالح هذه الدولة شيءٌ آخر، والعلاقة بين الاثنين لا تتعدّى دور وسيلة الأولى/الدولة [ تبليغ ] الثانية/الدين، واحتكار التبليغ بتحديد نوع الشريعة في اتّجاهٍ واحدٍ يلغي الدين عن طريق الدولة عندما تتبنّى الدولة شريعةً بعينها أو مذهباً بعينه، و هو أمرٌ حتميٌّ في حالة الإسلام الذي تفرّق فيه الفقهاء في فهم النّص القرآني عبر أربعة منابر كبرى 1: المعتزلة ، 2: الأشاعرة ، 3: المتصوّفة و 4: الماتريدية ، وتفرّق فيه الفقه في تدوين سنّة الرسول عبر أربع تيّارات أخرى موازيةٍ و الأولى : الإباضيّة / أهل السنّة والجماعة ، 2: الشيعة /الجعفريّة ، 3: السنّة/ الشافعيّة/المالكيّة/الأحناف/الحنابلة و 4: الشيعة /الزيديّة، وفي حالتنا اللّيبيّة تتشعّب هذه المنابر داخل وعي المواطن الذي نشأ داخل منظومة تجهيلٍ ممنهجٍ، أدّت به في نهاية المطاف إلى تقديس الجهل، أو كما يسمّيه أركون : [ … الجهل المقدّس ] ، حيث المعرفة محصورةٌ في المعلوم من الأشياء و المتاح من المعلومات عبر تكريس [ دكتاتوريّة الأغلبيّة]، ليختلط الحابل بالنابل، في علاقة الشراكة المستمرة بين الإنسان والشريعة الدينيّة والتي أوقف استمرارها الفقه بإقفال الباب أمام العقل لجديد الاستدلال خارج المنابر المتشابكة أعلاه، هذه الشراكة التي تنطلق نحو الإنسان مباشرةً ، في تحدّي مستمرٍ للمسير نحو الخوض في تجربة [ الاستدلال ] من الأصل [ القرآن ] أو [ الشريعة ] وصولاً إلى الفرع [ الفقه ] أو [ الشرع ]، عبر تتبّع البرهان و الدليل، حيث العقل الخالص والحياة بمعنى [ نقطة اليقظة ]، تمنع التصادم الذي يعلنه الفقه بين [ الواجب الإجتماعي ] و [الإرادة الحرة المنفردة ]، حيث ينحاز الفقه دائماً ناحية السلطة بتقديم [ المبرّرات ] المعلّلة لقيود [التسلّط ] لا غير، تلك التي تبيح [ إرادة القوّة ] المتسلّطة للجماعة، على [ قوّة الإرادة ] الفرديّة، الفقه ليس سوى قانونٍ صاغه المجتمع في مرحلةٍ مرّ بها، تلغى فاعليّته بمرور المرحلة التي واكبت صياغته، وعلى جانبٍ آخر فإن غايات الإنسان من الدولة لا تصل إلى مستوى إدخاله الجنّة أو إخراجه من النار، بل أن دور الدولة [ تنظيميّ ] لا غير لأجل تنظيم العلاقات، تشجيع الكسب، حماية المواطن، السعي للرفاهيّة و السعادة، وخلاف هذه الأهداف لا توجد سوى دولة الاستبداد حيث يرسّخ النظام الحاكم لتكريس سطوة الخرافة والأسطورة على المنطق العقلي تحت ستار الدين، من أجل كبح جماح المواطن في المطالبة بتطبيق الدولة لدورها، تركه وشانه يسعى لتطبيق دوره داخل منظومة الأخلاق خارج وصاية أيٍّ كان، ليكون الدين حرّاً، والإنسان تبعاً لذلك مواطناً لا غير لا تسيطر عليه أسطورة الشر و الخير الخاضعة للمبرّرات النفعيّة الغير أخلاقيّةٍ أصلاً .
* كاتب من ليبيا
منبر الحرية، 21 سبتمبر/ايلول2012