لا تزال بعض العقول الفكرية العربية غير قادرة على فهم أو مواكبة الحجم الكبير والهائل لجملة المتغيرات السياسية والاجتماعية والإعلامية التي حدثت في عالمنا المعاصر منذ عدة سنوات.. والتي تجلت في إعادة الاعتبار للقيم الإنسانية الكونية، وأهمية وجود الفرد الإنساني ككائن مؤثر وفاعل ومنتج في واقعه وبيئته ومجتمعه على كافة الصعد والمستويات.. حيث ساعد التطور المذهل في تقنيات التواصل الإعلامي وشبكات المعرفة الإلكترونية وتقارب المصائر الإنسانية في تقريب وجهات النظر والأفكار والقيم وتشارك الناس في نفس الآمال والتطلعات والغايات الكبرى.. مما ساهم أيضاً في تخفيف غلواء العقائد وتعصب الناس لمذاهبهم وأفكارهم وقناعاتهم الذاتية.
ولا أدري حقيقةً، لماذا لا تزال تلك النخب العربية –ممن ينتمون إلى تيار العلمنة المستبدة بالتحديد- واقفة عند حدودها ومقولاتها الذاتية العقائدية الأولى، متبنيةً قوالب فكرية قديمة مغلقة في فهمها وتوصيفها ووعيها لتلك المتغيرات التي أصابت عالمنا العربي في صميمه، وبدأت تستعيد الشعوب من خلالها حيويتها وقوتها ودورها ومكانتها على صعيد الفعل السياسي والمشاركة في صنع المصائر والمآلات الوجودية.
والمشكلة أن كثيرين من هؤلاء الكتبة -لا المفكرين- سبقتهم التحولات بأشواط عديدة، وبقوا متترّسين خلف حواجز أوهامهم العقدية، ومنغلقين في كهوفهم الفكرية، مستخدمين لغة عالمة متعالمة تدعي القبض على الجوهر وامتلاك الحقيقة لوحدها، ومتخشبين حول مجموعة صنميات ورؤى نظرية قديمة ثابتة يسقطونها دوماً على أية أحداث ومتغيرات سياسية ومجتمعية لاحقة، مع أنهم كانوا يتهمون غيرهم على الدوام بالثبات والانغلاق على الذات لغةً ومفاهيم وتحليلات.. أي أنهم باتوا يقعون ويغرقون باستمرار في نفس المستنقعات والمطبات الفكرية والمعرفية التي يتهمون خصومهم بالغرق فيها، بعيداً عن الرؤى النقدية العقلانية المتحركة المعروفة.. فمن ليس معي فهو ضدي، ومن هو ضدي فقد بات عدواً لي، تصح في حقه كل مقولات التخوين وأقذع ألفاظ ومصطلحات التآمر ومصطلحات التزمت العقائدي التاريخي.. وكأننا أصبحنا أمام محاكم تفتيش علمانية جديدة..
ومؤخراً اطلعت على رؤية لأحد هؤلاء “الكتبة” ممن أدمنوا لغة الاتهام والتخوين وغرقوا في مستنقعات اليقين المعرفي “العلماني” حتى الثمالة يشن هجوماً على النخب الإسلامية الملتزمة المعتدلة (التي أثبتت الساحة العربية وجود تأييد شعبي عارم لهم)، وبالذات منهم دعاة الانفتاح على التجربة التركية الحديثة في الحكم والإدارة والتنمية، والاستفادة منها ما أمكن في داخل مجالنا السياسي والاقتصادي العربي والإسلامي بحكم الجوار الجغرافي والبشري والمجال الحيوي الطبيعي، وأيضاً بحكم النجاح والتميز الكبير الذي وصلت إليه تلك التجربة الضخمة خلال السنوات العشر الماضية كما أظهرتها لغة الأرقام والإحصائيات المعروفة المتداولة، وليس بالتغني بالأقوال والأمجاد وغيرها كما هي عادة بعض العرب ممن تصدح حناجرهم على منابر الفضائيات بالتهليل والتكبير والتطبيل لأنظمة الخوف وجمهوريات القتل الوحشي (العلمانية!) جداً التي لم تكن عادلة في شيء أكثر من عدالتها في توزيع الظلم والقهر وتعميمها المتوازن للفقر على جميع الناس.
وفي ظني أن هذه التجربة التركية ما كانت لتحدث وتصل تركيا بموجبها إلى ما هي عليه من دور ومكانة راهنية معاصرة اقتصادياً وسياسياً في عالم الغرب والشرق والتي بنتها نتيجة جهود ذاتية، لولا تضافر عدة عوامل داخلية وخارجية، ولكنها تعود أساساً لطبيعة القادة ومواصفاتهم الذاتية ومن ثم لنوعية البناء وتحدي التنمية الداخلية التي انتهجتها حكومة العدالة والتنمية منذ سنوات عديدة أوصلتها إلى ما هي عليه الآن من نجاح داخلي وخارجي..
* كاتب سوري
منبر الحرية،31أكتوبر/تشرين الاول2012