اكرام عدنني13 فبراير، 20133
شكلت الفوضى الفكرية في علوم الفيزياء الجديدة في أوائل القرن الماضي، الخلفية التي نشأت من ورائها فلسفة كارل بوبر المتميزة، وخاصة بعد التغيرات التي أدخلتها نظرية اينشتاين حول النسبية، والتي تم بموجبها دحض العديد من النظريات بعد أن كانت من المسلمات، وهو ما شكل دافعا لكارل بوبر لبلورة نظريته حول قابلية العلم للتخطيء......

شكلت الفوضى الفكرية في علوم الفيزياء  الجديدة في أوائل القرن الماضي، الخلفية التي نشأت من ورائها فلسفة كارل بوبر المتميزة، وخاصة بعد التغيرات التي أدخلتها نظرية اينشتاين حول النسبية، والتي تم بموجبها دحض العديد من النظريات بعد أن كانت من المسلمات، وهو ما شكل دافعا لكارل بوبر لبلورة نظريته حول قابلية العلم للتخطيء.

ولد كارل بوبر بمدينة قريبة من فيينا بالنمسا في أوائل القرن الماضي سنة 1902، داخل أسرة مثقفة، حيث كان والده يشتغل بمهنة المحاماة، كما كان شغوفا بالشعر وعلوم التاريخ والفلسفة وأيضا الموسيقى الكلاسيكية، وكان يهودي الأصل لكنه تحول إلى الديانة المسيحية.

درس كارل بوبر علوم عديدة كالرياضيات والفيزياء والفلسفة والأدب والتاريخ وعلم النفس وعلوم التربية، وحصل على الإجازة من دار المعلمين سنة 1024، واشتغل بشهادته كمساعد للأطفال المهملين، لكن هذا العمل لم يكن ليشبع نهم كارل بوبر الفكري. وبعد حصوله على شهادة الدكتوراه سنة 1928 حول مسألة المنهج في طرائق التفكير، بدأ رحلته في مجال الكتابة، وظهر مؤلفه الأول “منطق الاكتشاف العلمي” التي أصدرها مركز “حلقة فيينا” ، وقد لقي الكتاب شهرة واسعة، وهو ما ساعده على الحصول على مركز أستاذ محاضر في الفلسفة بجامعة كانتبري بنيوزيلاندا، وتوالت بعد ذلك كتاباته ومن أبرزها “المجتمع المفتوح وأعدائه”، ثم عين أستاذا في المنطق في مدرسة الاقتصاد بلندن، وحصل على لقب “سير”  وأصبح من أعلام المفكرين الانجلوساكسون وتتلمذ على يديه مفكرين من أمثال لاكاتوس وفيرباند، لتنتهي حياته سنة 1994 بعد تاريخ فكري حافل وكتابات متميزة من قبيل “المعرفة الموضوعية” و”بؤس التاريخ”.

كان كارل بوبر  يرفض أن يتبع مذهبا معينا، وكانت نظريته للعلم ذات منهج يختلف عن غيره من الفلاسفة وعلماء الاجتماع، حيث يبدأ بتحديد النظرية وصياغتها ثم يقوم بتحليلها ولكن بصورة نقدية، وذلك لأن البحث العلمي بالنسبة له لا يؤدي إلى الحقيقة المطلقة أي الحقيقة التي يمكن اعتمادها دائما وأبدا، فكل عقلانية علمية هي وليدة مرحلة معينة وصالحة لتلك الحقبة فقط.

وبالتالي فكل نظرية هي قابلة للتخطيء. والقابلية للتخطيء أو التكذيب تنطبق على  نظرية المعرفة العلمية على أساس أن المعرفة في تطور مستمر وهكذا فالنظريات في تطور بدرجات أعلى حتى تصل إلى أرفع مستويات الصدق. وهذا البحث من شأنه أن يقود إلى نظريات أكثر عمقا وواقعية، ولكن دون بلوغ الحقيقة المطلقة الكامنة وراء الظواهر الطبيعية، والتي تبقى متوارية عن الأنظار.

وعلى ذلك فإن الباحث لا يجب أن يأمل في تأسيس نظرية علمية صادقة فعلا، ولكن كل نظرية تعرض بمجرد قيامها _حسب بوبر_ للاختبار، وأي اختبار إما أن ينتج عنه أن تبقى النظرية أو ترفض، وعملية اختبار النظريات العلمية على النحو المشار إليه لا تتضمن أو لا تعتمد على الاعتقادات الذاتية لأي فرد .

فالخبرة الذاتية والشعور بالاقتناع لن يبرر قضية علمية، ومن ثم لن يؤدي دورا في العلم، فيما عدا كونه موضوعا للبحث الامبريقي (السيكولوجي) ومع ذلك فمهما كان الشعور بالاقتناع فإنه لن يبرر قضية ما. إن الباحث يجب أن يتسلح بما أسماه كارل بوبر بالإيمان البراغماتي الذي يعتقد بموجبه بصحة الفرضيات التي انطلق منها، والتي يجب في نفس الوقت أن يخضعها للنقد .

ويمكن القول أن نظرية بوبر حول التخطيء أو التكذيب تقارب مقولة سقراط حول المعرفة حيث كان يقول “كل ما أعرفه أنني جاهل”، وهو بذلك يحاول حث الإنسان على المزيد من المعرفة والبحث والتدقيق، ومن جهته أيضا فبوبر لا يريد للباحث أن يقف عند حقيقة واحدة، ويستسلم لها، بل أن يتسلح بالنقد الذاتي لكل أفكاره وأبحاثه، وذلك لأن الحقيقة دائما متجددة، وحقيقة اليوم قد تدحضها أبحاث الغد.

ومع ذلك لا يمكن أن نقول أن  بوبر خلص إلى موقف سلبي ومتشاءم حول العلم ونظريته، بل إنه يرى أن المعرفة العلمية هي أفضل معرفة يمكن الركون إليها في الحياة الفردية والاجتماعية….، وإذا كان لابد من الاختيار بين أنواع المعارف فإن العلم الحديث يبقى أكثرها عقلانية كونه يسمح بنقد نظرياته ودحضها واستبدالها كليا، بينما لا تسمح طرائق المعرفة الأخرى بذلك نظرا لطبيعتها الدوغمائية .

وبسبب إيمانه بنظريته فبوبر يرفض كل نظريات الفلسفة عند أفلاطون وهيغل وماركس لأنهم امنوا بأنهم توصلوا إلى إيجاد قوانين للتاريخ على غرار قوانين الطبيعة، وهو ما ينفيه كارل بوبر الذي يعتبر نظرياتهم مجرد فروض قابلة للتخطيء ولا ترقى إلى مستوى قوانين علوم الطبيعة. وكارل بوبر لا يريد بذلك التقليل من النظريات العلمية ومن العقلانية، بل هو يؤمن بأن الفكر البشري غير قادر على الوصول إلى الحقيقة المطلقة أو الحتمية التاريخية.

والتزام كارل بوبر ليس التزاما فلسفيا أو نظريا فقط بل يتعداه إلى التزام سياسي صريح كما هو جلي في الإهداء الوارد في كتابه “بؤس التاريخ”، حيث يقول: (في ذكرى الرجال والنساء الذين لا يمكن إحصاؤهم من كل المعتقدات والقوميات والأجناس الذين سقطوا ضحايا الاعتقاد الفاشي والشيوعي بالقوانين الحتمية للضرورة التاريخية….). وبذلك فبوبر كان يناهض كل التيارات الفاشية والماركسية والنازية التي تحاول فرض قيمها على الأفراد، على اعتبار أن هذه القيم هي الحقيقة المثلى للتاريخ وأن نظامها هو النظام الأصح على مدى التاريخ.

إن كارل بوبر كان يدعو إلى إقامة مجتمع منفتح حيث يحق للأفراد داخله أن ينتقدوا بحرية السياسات الحكومية، وحيث تأخذ الدولة في عين الاعتبار الحاجات الأساسية المشتركة للأفراد …، وإذا ما أقرت الحكومة سياسة ما، واتضح أن بعض جوانبها ضار عند التطبيق فيتوجب إلغاء تلك السياسة أو الجوانب الضارة منها، كما يتم إقصاء النظريات الضعيفة خلال اختبار نظريات العلوم الطبيعية، وكما أن الجدال النقدي هو الوسيلة للحكم والتقييم بين الفرضيات العلمية، كذلك فإن النقاش المفتوح هو الطريق إلى تبني أو تعديل أو رفض السياسات في المجتمع. ويمكن إرجاع موقف بوبر من المجتمع الحديث إلى أنه تعرف على المجتمع الأمريكي عندما تلقى دعوة لإلقاء محاضرات في جامعة هارفارد، وكانت لهذه الزيارة أهمية في تغيير مساره الفكري وإعجابه بالنظام الديمقراطي الليبرالي السائد بأمريكا، وهناك قابل العديد من الفلاسفة وعلماء الاجتماع، والحدث الأهم كان بالنسبة له لقاءه بأينشتاين الذي دخل معه في سجالات معرفية هامة وحاول خلالها إقناعه بالتخلي عن الحتمية التي يؤمن بها.

هذا أيضا ما جعل كارل بوبر يدعو ويؤيد الديمقراطية الليبرالية التي تعد بالنسبة إليه أفضل النظم الاجتماعية حيث تسمح بمناقشة كل النظريات وتسود داخلها حريات التعبير والرأي، ويعطى داخلها الحق لكل فرد في النقاش والجدال والانتقاد.

لقد ساهم كارل بوبر إسهاما واضحا في تطوير العلم ، وذلك من خلال مساهماته في تطور النظريات العلمية، وحاول العديد من الفلاسفة وعلماء الاجتماع بعده تبني نظريته وتنقية الأفكار والنظريات الفلسفية من كل ما هو غير علمي. لعل الانجازات العلمية الحديثة والمتجددة هي اكبر دليل على صحة نظرياته المتميزة.

*باحثة في علم السياسة من المغرب

منبر الحرية، 12فبراير/شباط 2013

3 comments

  • فادي

    20 نوفمبر، 2013 at 2:36 م

    تحليل رائع ووافي

    Reply

  • ABDENBI

    20 فبراير، 2014 at 2:22 م

    السلام عليكم ممكن مساعدة في هذا الموضوع . مقدمة ؛ عرض ؛ خاتمة ( ( هل النظريات العلمية قابلة للإنتقاد وإدا انتقدت هذه النظريات هل معنى ذلك أنها فقدت قيمتها؟؟) مع تركيز على الفيلسوف كارل بوبر . وشكرا
    الإجابة في هذا الفيسبوك https://www.facebook.com/abdenbi.abtetoui

    Reply

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018