بعد شيء من التردد، سمع الرئيس الأمريكي باراك أوباما لنصيحة جنرالاته بزيادة عدد الجنود الأمريكيين في أفغانستان من أجل التمكن من طرد طالبان من منطقة هيلمند. وكانت الإستراتيجية هي أن تقوم القوات الأمريكية بإبقاء نوع من الحضور الميداني بمجرد أن يتم تأمين هذه المنطقة ، بينما تتحرك قوات الشرطة ووكالات التنمية نحو استعادة سلطة الحكومة الأفغانية، وتوفير كل سبل إعادة الإعمار الاقتصادي للمنطقة. وكخطوة ثالثة سيتم اختيار العناصر “المعتدلة” من حركة طالبان لتعيينهم في الحكومة الأفغانية.
هذه الإستراتيجية تذكّرنا بالسياسة التي انتهجها الجنرال بترايوس لتهدئة الأوضاع في العراق تمهيدا للانسحاب منه، ولكن هنالك شكوك كبيرة حول مدى إمكانية نجاح هذه الإستراتيجية. وهذا راجع لعدة أسباب:
أولا، إن الرغبة في تعيين طالبان في الحكومة أمر يبعث على القلق. فعلى خلاف الوضع في العراق، كان المتمردون أقلية، وكان تفعيل الأغلبية ودعمها لأجل تشكيل حكومة أمرا معقولا نسبيا، أما في أفغانستان، المتمردون هم الأكثر عددا بحيث ينتمون إلى أكبر قبيلة في المنطقة، وهي: قبيلة الباشتون.
إن تعيين طالبان، وهي حركة وهابية المنهج، سيحوّل أفغانستان إلى دولة إسلامية بامتياز، مما سيوفر قاعدة جديدة للـ”جهاديين” الذين سيشكلون تهديدا للدول المجاورة، ولا سيما الهند. أما الصينيون، الذين يخشون من زعزعة الأمن في مقاطعة كسينجيانج، فقد ابدوا اعتراضهم على هذه قيام الولايات المتحدة بهذه الخطوة.
ثانيا، إن محاولات بعث الروح في الاقتصاد التقليدي للمنطقة، وهو اقتصاد أنهكته سنوات الحرب الأهلية، ستواجه عقبات لا يمكن تجاوزها في اقتصاد المخدرات (narco-economy) الذي كان قد ازدهر منذ زمن طويل. ففي عام 2007،وفّرت المحافظات الجنوبية من أفغانستان 92% من أفيون العالم، بقيمة استيراد دنيا (farm gate value) مقدارها مليار دولار أمريكي. واقتصاد المخدرات هذا يوفّر لطالبان المال الكافي لشراء السلاح والسيطرة على المحافظات التي تزرع الأفيون، من خلال حماية المزارعين من استراتيجيات القضاء على المخدرات التي تتزعمها الولايات المتحدة، كجزء من حربها على المخدرات في العالم ككل.
ثالثا، محاولات إقناع المزارعين بالتخلي عن زراعة المخدرات والتوجّه نحو زراعة المحاصيل المشروعة ستعرقلها المكاسب الأكبر نسبيا المتأتية من زراعة المخدرات. حيث أظهر تقييم مكتب الأمم المتحدة للمخدرات والجريمة (UNODC) لمشروع تنمية البدائل [التابع للأمم المتحدة] بين عام 1997 وعام 2000، في ثلاث مناطق من إقليم قندهار، أظهر أنه على الرغم من نجاح المشروع في رفع محاصيل المزروعات القانونية (كالقمح، والكمون، والفاصوليا، والبصل والفواكه) بنسبة 90% تقريبا، إلا أن هذه التحسينات لم تكن كافية وقادرة على جعل المحاصيل المشروعة أكثر ربحا ومردودا ماليا من زراعة الخشخاش. كما أن عمر محصول الخشخاش أقصر، وحصاده يسبق حصاد القمح، مما يتيح للفلاحين أن يضاعفوا المحاصيل من خلال زراعة الذرة بعد حصاد الخشخاش. فضلا عن أن الخشخاش يقاوم الأحوال الجوية، مما يجعله محصولا معتمدا أكثر من القمح. والخشخاش أيضا سهل التخزين، والنقل، والبيع، مما يوفّر للمزارعين الفقراء وسيلة سهلة للحصول على دخل سلس، وبذلك يسدون احتياجاتهم الاستهلاكية الوقتية في ظل غياب جميع أسواق الائتمان الرسمية. ولقد كان معدل الدخل للهكتار الواحد من الخشخاش عام 2000 ستة عشر ألف دولارا أمريكيا. وكما استنتج تقرير مكتب الأمم المتحدة للمخدرات والجريمة في ’اقتصاد المخدرات‘فإنه ” لدى هذه المستويات الضخمة من الدخل، لا يمكن لأي محصول آخر، يزرع على نطاق واسع، أن ينافس الخشخاش في أفغانستان” (أنظر مقالي عن “مجازفة الحرب على الإرهاب بالحرب على المخدرات”، في مجلة وورلد إيكونوميكس، 2008).
رابعا، نما اقتصاد محظور واسع وتطوّر بعد انسحاب روسيا والحرب الأهلية بين فرق المجاهدين المتعددة التي شهدتها أفغانستان، مما وفّر البنى التحتية للتنقل، والاتصالات، والأسلحة والحماية اللازمة التي تحتاج إليها تلك الفرق والجماعات المتعددة لبسط سيطرتهم كلٌ على منطقته.
وشهد اقتصاد الخشخاش ازدهارا متواصلا تحت رعاية طالبان. وعلى الرغم من منعهم زراعة وإنتاج ’الحشيش‘ الذي يستهلكه الأفغان والمسلمون، إلا أنهم سمحوا بزراعة الأفيون الذي يستهلكه ’الكفار‘ في الغرب! كما أن حظرهم للأفيون عام 2000 لمقاومة الضغوط الدولية لحقوق الإنسان، كان بدوافع مالية. فبهذا الحظر، ارتفع سعر الأفيون في أفغانستان من 44 دولارا للكيلو غرام إلى 350 دولارا للكيلو غرام الواحد. فقبل الحظر، كان 60% من الأفيون يخزن لأغراض البيع المستقبلية، فجنا أصحاب المخزون ثروات طائلة. و قسم كبير من هذه الثروات ذهبت إلى أسامة بن لادن وأتباعه، الذين يعملون كوسطاء أو سماسرة لمنتجي الأفيون الأفغان، مستخدمين هذا الدخل لتمويل معسكرات التدريب الإرهابية في أفغانستان. (أنظر لال، المصدر السابق).
ومع سقوط طالبان وانتهاء الحظر، وصل إنتاج الأفيون إلى مستوى عام 2000 مرة أخرى، وبسرعة كبيرة. أما بالنسبة للقادة العسكريين، الذين ما زالوا يحكمون أجزاء واسعة من أفغانستان، ما زال اقتصاد المخدرات يوفّر مصدرا للإيرادات. في مثل هذه الظروف، لا يمكن الانتصار في حرب أفغانستان إلا من خلال تحطيم اقتصاد المخدرات أثناء مواجهة طالبان. وستكون الاستجابة العقلانية بالنسبة إلى وكالات التنمية التابعة للناتو هي استخدام الأموال التي ينفقونها الآن في جهود التنمية الاقتصادية التي يبذلونها في أفغانستان، والتي باءت بالفشل، وكذلك الأموال التي ينفقونها في مكافحة المخدرات لشراء محاصيل الأفيون والخشخاش وغيرهما من أنواع المخدرات من المزارعين والدخول مباشرة في منافسة مع طالبان وكبار تجار سوق المخدرات. كما يمكن إلزام المزارعين بأن يضعوا نسبة العشرة بالمائة من دخلهم المتأتي من زراعة الخشخاش، والتي يقومون الآن بتقديمها إلى طالبان، أن يضعوها في ودائع للتنمية development funds ، تدار بأيادٍ محلية، ويكون مقرها محليا أيضا، وتستخدم في تجديد البنى التحتية الزراعية المدمرة، والتي يمكن بمرور الزمن أن يرتفع مستوى إنتاجها من المحاصيل الأخرى البديلة بشكل يمكنها من التحوّل نحو المحاصيل غير الممنوعة.
أما الأفيون الذي يُشترى من المزارعين مباشرة، فيمكن أن تستخدمه وكالات التنمية الغربية لتوفير مسكّن المورفين لتسكين الآلام الناجمة عن مختلف الأمراض الفتاكة، بما فيها الإيدز وهذا ما يحدث في العديد من أنحاء العالم، ولا سيما في مناطق جنوب الصحراء الأفريقية الكبرى.
و يرى تقرير منظمة الصحة العالمية أن 4.8 مليون شخص في العام، من المصابين بأمراض السرطان على اختلاف درجاته من المعتدل إلى الشديد، لا يحظون بالعلاج الملائم. وكذلك الحال بالنسبة إلى 1.4 مليون مصاب بمرض الإيدز في المراحل الأخيرة من المرض. أما بخصوص الحالات الأخرى المسببة للآلام، فليست هناك تقديرات لأعداد المصابين بها، ولكن منظمة الصحة العالمية تعتقد أن الملايين من الناس لا يحظون بفرص العلاج. والأغلبية العظمى من هؤلاء هم من سكان الدول النامية (لال، المصدر السابق).
إن أي فائض من الأفيون يمكن تخزينه للمستقبل ليستخدم للأغراض الطبية، وكذلك للسيطرة على أسواق المهدئات. ولكن مثل هذه الحلول العقلانية لمشكلة طالبان وإلحاق الهزيمة بها، من خلال قبول اقتصاد المخدرات في أفغانستان واستخدامه لأجل النصر بدلا من المخاطرة بالحرب على الإرهاب، مثل هذه الحلول لا يمكن تحقيقها إلا إذا تخلّت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا عن حربها على المخدرات التي استمرت عقودا من الزمن. وهذا هو موضوع مقالي القادم.
*أستاذ التنمية الدولية بجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلس وكاتب من الهند
منبر الحرية، 11مارس/آذار 2013