ترجمة: علي الحارس
الرسالة الثانية: الحكومة المدنية
الفصل الخامس: المُلكية
27. على الرغم من أن الأرض بأكملها، وبكل ما فيها من مخلوقات، مشاع لبني البشر جميعا، إلا أن الإنسان يتمتع بملكية تخصه بشخصه دون غيره، وليس لأحد الحق بادعائها لنفسه إلا هو؛ إذ يمكن القول بأن العمل البدني الذي يقوم به، وما تصنعه يداه، هو ملك له دون جدال، ولذلك فإن كل ما يقوم الإنسان بإزالته من حالته التي أوجدته الطبيعة عليها، وتركته عليها، فمزجه بشيء من عمله، وأضاف إليه شيئا مما يملك، يصبح بهذه الطريقة داخلا في إطار ملكيته. إذن، فهذا الشيء يستثنى من الحق المشاعي للآخرين لأنه أزيل من وضعه المشاعي الذي أوجدته الطبيعة عليه بسبب ما قام أحدهم به من إضافة شيء من عمله إليه. وبما أن ثمرة العمل تعتبر حقا لا جدال فيه لمن يقوم بهذا العمل، فليس لأحد غيره الحق في ادعاء ملكية شيء اتصل به هذا العمل، وذلك على الأقل: ما دام هنالك ما يكفي من الأشياء المماثلة ضمن الملكية المشاعية للجميع، وعلى أن تضاهيها في الجودة أيضا.
28. إن من يتغذى على الحبات المتساقطة من شجرة البلوط، أو ثمار التفاح التي جمعها من الأشجار في الغابة، لا شك في أنها تعتبر ملكا له، ولا يمكن لأحد أن ينكر بأن هذا الطعام طعامه. وهنا يجدر طرح السؤال: متى أصبحت هذه الثمار ملكه؟ هل حدث ذلك عندما هضمها؟ أم عندما التهمها؟ أم عندما طبخها؟ أم عندما أحضرها إلى المنزل؟ أم عندما التقطها؟ ولا شك في أنه إذا كانت عملية الجمع الأولية لم تجعله مالكا لها، فليس هنالك بعدها ما يخوله بملكيتها. إن العمل يصنع حاجزا بين ما يمتلكه وبين العموم، وهذا الحاجز يتكون مما أضافه على الشيء كزيادة على الوضع الذي جاءت به الطبيعة، الأم المشتركة للجميع، وهكذا يصبح هذا الشيء حقا خاصا به. وهل يحق لأي شخص أن يأتي وينكر حق صاحبنا بثماره التي تملّكها بحجة أنه لم يحصل على موافقة جميع بني البشر على ذلك؟ أفلا يعني ذلك بأن صاحبنا قد ارتكب جرم السرقة عندما ادعى لنفسه شيئا تعود ملكيته للجميع؟ وهنا نجيب: لو كان الحصول على مثل هذه الموافقة أمرا ضروريا لكان الإنسان سيعاني الجوع على الرغم من كل الأشياء الوفيرة التي منحها الرب. إننا نلاحظ بأنه في المشاعات، والتي تظل مشاعات بموجب اتفاق معين، إذا لم يقم أحدهم بأخذ أي جزء منها وإزالته من الحالة التي أبقته الطبيعة عليها، وهي بداية الملكية، فإن المشاعات لن يكون لها أي نفع. وإن أخذ هذا الجزء أو ذاك لا يعتمد على موافقة صريحة من العموم جميعهم، وهكذا فإن العشب الذي يأكله حصاني، والأعشاب التي يجزّها خادمي، والمعادن التي أستخرجها من أي أرض، وذلك في الأماكن التي أمتلك حقا فيها يتساوى مع حقوق الآخرين، تصبح جميعها ملكا لي دون تخويل أو موافقة من أحد؛ فالعمل الخاص بي الذي بذلته في إزالتها من الحالة المشاعية التي كانت عليها هو الذي ألحق بها حق امتلاكي لها.
32. لكن المسألة الأساسية في الملكية لا تتعلق هنا بما تنتجه الأرض من ثمار، أو بالحيوانات التي تعيش عليها، وإنما تتعلق بالأرض نفسها، فهي الإطار الحاوي لما سبق؛ وأنا أرى بأن من الواضح أن ملكية الأرض يتم اكتسابها بالطريقة نفسها التي تحدثنا عنها سابقا، فما يستطيع الإنسان حراثته وزراعته وتحسينه ورعايته واستخدام منتجاته من الأرض إنما هو ملك له، فمن خلال عمله هذا يقوم باقتطاع هذه الأرض عن المشاع؛ وهذا الحق لا يمكن إبطاله من خلال القول بأن الآخرين جميعهم لهم حق مساوٍ في هذه الأرض، ولذلك فإنه لا يمكنه امتلاكها أو اقتطاعها دون موافقة غيره من العموم، أي: البشرية بأجمعها. إن الرب عندما أعطى الأرض مشاعا لكل البشر، أمر الإنسان أيضا بأن يعمل فيها، وقد كان لزاما عليه أن يعمل بسبب فقر الحالة التي جاء عليها. إن الرب بحكمته أمر الإنسان بحراثة الأرض، أي: بتحسينها لكي يحصل على منافع الحياة، وأن يضع فيها شيئا من عنده، وهذا الشيء هو عمله؛ ولذلك فإن من يطيع أمر الرب ويحرث أي رقعة من الأرض ويزرعها ويحصدها، إنما هو يلحق بها شيئا من ملكه، وهو شيء لا حق لأحد غيره به، ولا يمكن أخذه منه دون إلحاق الضرر به.
الفصل الثامن: بداية المجتمعات السياسية
95. بما أن الناس جميعا، كما أشرنا سابقا، تقتضي طبيعتهم بأن يكونوا أحرارا متساوين مستقلين، فلا يمكن إخراج أحدهم من هذه الحالة وإخضاعه إلى السلطة السياسية لشخص آخر دون موافقته الشخصية. وإن الطريقة الوحيدة التي يمكن بها لأي شخص أن يجرد نفسه من حريته الطبيعية ويتقيد بقيود المجتمع المدني هي أن يتفق مع الآخرين على الالتقاء والتوحد ضمن مجتمع يحقق العيش براحة وأمان وسلام بين الناس، مع ضمان التمتع بالملكية، والتمتع بحماية أكبر ضد من لا يدخل في إطار هذا المجتمع. وعندما يلجأ عدد من الناس إلى هذا الإجراء فإنه لا يؤدي إلى الإضرار بحرية الآخرين، فهم يتركون على حرية حالتهم الطبيعية. وإذا وافق أي عدد من الناس على تشكيل مجتمع أو حكومة، وبأن يشكلوا كيانا سياسيا واحدا، فإن الأكثرية ستمتلك حينها الحق بالتصرف وشمول الآخرين بهذا التصرف.
96. عندما يقوم أي عدد من الناس، بموافقة كل فرد منهم، بتشكيل مجتمع ما، فإنهم يكونون بذلك قد جعلوا من هذا المجتمع جسدا واحدا، إذ يمتلك سلطة التصرف كجسد واحد على أن يكون ذلك بإرادة الأكثرية وقرارها، ولذلك فإن أي مجتمع عندما يتصرف فإنه لا يقوم بذلك إلا بموجب موافقة الأفراد الذين يشكلونه، وهذا الأمر لا بد منه إذا أردنا لهذا الجسد أن يتحرك في أحد الاتجاهات؛ ومن الضروري أن يتحرك هذا الجسد بالاتجاه الذي تدفعه إليه القوة الأعظم، وهي موافقة الأكثرية، وإلا فمن المستحيل أن يتصرف أو يستمر كجسد واحد، كمجتمع واحد، وهذه الموافقة هي موافقة كل فرد اتحد بغيره من خلال هذا المجتمع، واتفق على إمكانية تصرفه كذلك، ولذلك فإن الجميع ملزم بموجب هذه الموافقة على شمولهم بقرار الأكثرية. ولهذا السبب نرى في المجالس التمثيلية التي تستمد سلطتها في التصرف بموجب قوانين رسمية، وحيثما لا ينص القانون على عدد محدد مخول بالسلطة، فإن تصرف الأكثرية يمضي باعتباره تصرف الجميع، ولا شك بأنه يقرر مسار الأمور لأنه يمتلك سلطة الجميع بموجب قانون الطبيعة والعقل.
الفصل التاسع: غايات المجتمع السياسي والحكومة
123. إذا كان الإنسان يعيش في كنف الطبيعة حرا كما أسلفنا، وإذا كان يمكنه أن يكون السيد الأوحد على شخصه وممتلكاته، مساويا لأعظم الناس، وليس تابعا لأحد، فلماذا يشاطر حريته مع غيره؟ لماذا يقوم بالتخلي عن مملكته الخاصة به ويخضع نفسه لهيمنة سلطة أخرى وسيطرتها؟ من الواضح بأن الإجابة تتلخص في أنه على الرغم من أن الإنسان يحق له ما ذكرناه في كنف الطبيعة، فإن التمتع بهذا الحق ليس مؤكدا في كثير من الأحيان، وهو يتعرض باستمرار إلى تعديات الآخرين؛ وعندما يكون الجميع ملوكا كما هو تماما، وعندما يكون الجميع مساوين له، وعندما لا يكون القسم الأكبر من الناس مراقبين صارمين بشأن الإنصاف والعدل، فإن التمتع بما يملك في هذه الحالة لا يتصف بالأمان ولا يحصل على الحماية في كثير من الأحيان؛ وهذا الأمر يجعله مستعدا للخروج من حالة مليئة بالمخاوف والمخاطر المستمرة بغض النظر عن مقدار الحرية التي تظللها؛ وليس غياب العقل هو من يجعله يسعى ويتهيأ للانضمام في مجتمع مع الآخرين الذين ربما يكونون قد توحدوا، أو ربما فكروا في التوحد، من أجل توفير المحافظة المشتركة على حياتهم وحرياتهم ومقتنياتهم، وهو ما أدعوه باسم عام: (الملكية).
124. لذلك فإن الغاية العظمى والرئيسية لتوحيد الناس ضمن دول، ووضع أنفسهم تحت مظلة الحكومة، هي المحافظة على ملكياتهم، وهذه المحافظة تحتاج إلى الكثير من الأمور في كنف الطبيعة: فأولا هنالك الحاجة إلى قانون رسمي ومحسوم ومعروف يتم تلقيه والسماح به من خلال الموافقة المشتركة على أن يكون هو معيار الصواب والخطأ، وعلى أن يكون هو المعيار المشترك للبت في الخلافات التي تنشأ بينهم؛ فعلى الرغم من أن قانون الطبيعة واضح لا لبس فيه في عين كل مخلوق عاقل، فإن الناس ينحازون إلى مصالحهم، كما إنهم يجهلون الحاجة إلى تعلم هذا القانون، ولهذا فإنهم لا يميلون إلى السماح به كقانون لازم التطبيق في القضايا الخاصة بهم.
125. وثانيا، تبرز في كنف الطبيعة الحاجة إلى قاضٍ معروف محايد يمتلك سلطة البت في كل النزاعات بموجب القانون الرسمي؛ وذلك لأنه عندما يكون كل فرد في كنف الطبيعة هو القاضي ومنفذ القانون (قانون الطبيعة)، وبما أن الناس ينحازون إلى مصالحهم، فإنهم ميالون بسبب العاطفة وحب الانتقام إلى الإفراط والحماس في معالجة قضاياهم، وإلى الإهمال واللامبالاة والتقصير الشديد في قضايا الآخرين.
126. وثالثا، هنالك في كنف الطبيعة حاجة في الكثير من الأحيان لسلطة إسناد ودعم الحكم عندما يكون مصيبا، ومنحه التطبيق الملائم. ومن يذنب بارتكابه نوعا من أنواع الظلم نادرا ما يفشل، عندما يستطيع، في استخدام القوة لتحسين صورة ما قام به؛ وهذا الفعل المقاوم يجعل تطبيق العقوبة من الأمور الخطيرة في الكثير من الأحيان، ومن الأمور المدمرة أحيانا، لمن يحاول القيام به.
127. ولهذا فإن البشرية لا ترى في العيش في كنف الطبيعة، على الرغم من كل حسناته، إلا حالة سيئة يندفعون منها بسرعة إلى العيش في كنف المجتمع، ولهذا السبب فإننا نادرا ما نجد أي عدد من الناس يستطيعون العيش في أي عصر من العصور ضمن كنف الطبيعة؛ فالمتاعب التي سيتعرضون لها بسبب قيام كل شخص بالممارسة العشوائية غير الأكيدة لسلطة معاقبة الآخرين على تعدياتهم تجعلهم يلجؤون إلى حرم القوانين الرسمية للحكومة، ويسعون من خلالها إلى المحافظة على ملكياتهم. إن هذا هو ما يجعل كل شخص من الأشخاص على استعداد كبير للتخلي عن سلطته الخاصة به في العقاب وتخويل طرف وحيد يتم تعيينه من بينهم لتطبيق القواعد التي يجب أن يتفقوا عليها، أو أن ينيبوا عنهم من يتفق عليها. ومن هنا ينبثق الحق الأصلي لإنشاء كل من السلطتين التشريعية والتنفيذية، والحق الأصلي لإنشاء الحكومات والمجتمعات.
131. لكن على الرغم من أن الناس عندما يدخلون في إطار المجتمع ويتخلون عما عاشوا عليه في كنف الطبيعة من مساواة وحرية وسلطة تنفيذية ويجعلونها في يد المجتمع لكي يتولاها المجلس التشريعي بحسب ما يتطلبه صالح المجتمع، و ذلك لا يجري إلا بنيّة يحملها كل شخص تتمثل في رغبته في المحافظة على حياته وحريته وممتلكاته (لأنه ليس هنالك كائن عاقل يفترض به أن يغير حاله بنيّة الرغبة في أن تسوء)، فإن سلطة المجتمع، أو المجلس التشريعي المتكون من أفراد المجتمع، يفترض بها أن لا تتوسع إلى أبعد من ذلك، أي: إلى ما وراء الصالح العام، لكنه يبقى ملزما بحماية ممتلكات كل فرد من العيوب الثلاثة التي ذكرناها في ما سبق والتي تجعل العيش في كنف الطبيعة على ذلك القدر الشديد من الخطر والصعوبة. ولذلك فبغض النظر عمن يمتلك السلطة التشريعية أو السلطة العليا في أي دولة، فإنه ملزم بالحكم من خلال قوانين رسمية متينة معلنة يعرفها الناس، وليس بواسطة مراسيم ارتجالية؛ ومن خلال قضاة معروفين بالحياد والاستقامة يقومون بالفصل في الخلافات المتعلقة بهذه القوانين؛ ومن خلال الاقتصار في استخدام قوة المجتمع في المستوى المحلي على تنفيذ هذه القوانين، وفي المستوى الخارجي على وقاية المجتمع من الأذى الأجنبي أو دفعه وحماية المجتمع من التعديات والغزو؛ وعلى أن لا يكون هذا كله موجها نحو أي غاية إلا السلام والأمان والصالح العام للناس.
الفصل الحادي عشر: نطاق السلطة التشريعية
134. عندما تكون الغاية العظمى من دخول الناس في إطار المجتمع هي أن يتمتعوا بممتلكاتهم في سلام وأمان، وعندما تكون الوسيلة العظمى لبلوغ هذه الغاية هي القوانين الرسمية في هذا المجتمع، فإن القانون الرسمي الأول والأساسي لكل الدول يجب أن يتمثل في تأسيس السلطة التشريعية، تماما كما أن القانون الطبيعي الأول والأساسي، والذي يحكم حتى المجلس التشريعي نفسه، يتمثل في المحافظة على المجتمع وعلى كل شخص فيه (بما يتوافق مع الصالح العام).
وهذا المجلس التشريعي لا يمثل السلطة العليا في الدولة فحسب، وإنما يمثل أيضا سلطة مقدسة لا تتزحزح من الأيدي التي وكلها المجتمع بها؛ كما لا يمكن لأي قانون من أي كيان آخر، مهما كانت هيئته، ومهما كانت القوة التي تدعمه، أن تكون له قوة القانون وإلزامه إذا لم يوافق عليه المجلس التشريعي الذي قام العموم باختياره وتعيينه؛ فمن دون ذلك لن يحظى القانون بالعنصر الضروري الذي لا غنى عنه في كونه قانونا، وهو موافقة المجتمع، فلا سلطة لأحد في سن القوانين من دون موافقة المجتمع، أو من دون سلطة مستمدة من المجتمع. ولهذا فإن كل وجوه الطاعة، والتي قد يلزم الجميع بإبدائها بأكثر الأشكال احتراما، تنتهي في آخر المطاف في يد هذه السلطة العليا، وتتوجه بالقوانين التي تسنها هذه السلطة؛ كما لا يمكن لأي التزام تجاه أي سلطة أجنبية أو أي سلطة محلية ثانوية أن يعفي أي فرد من المجتمع من طاعته للمجلس التشريعي الذي يعمل بموجب ثقة أفراد المجتمع، ولا يلزمه بأي طاعة تتعارض مع القوانين المسنونة على هذا الأساس، وبما يتعدى الحدود التي تسمح بها؛ ولا بد أن من السخف تخيل شخص يمكن إلزامه في النهاية بطاعة أي سلطة في المجتمع غير السلطة العليا.
135. على الرغم من أن المجلس التشريعي، سواء كان في موقع واحد أم أكثر، وسواء كان ينعقد بصورة دائمة أم متقطعة، وسواء كان يشكل السلطة العليا في دولة واحدة أم في أكثر من دولة، فلا بد نشير إلى أربعة أمور تخرج عن نطاقه:
فأولا، إن المجلس التشريعي ليس، ولا يمكن أن يكون، سلطة اعتباطية مطلقة على حياة الناس وثرواتهم، فهو ليس إلا مجموعة من سلطات كل فرد من أفراد المجتمع يتخلى عنها إلى فرد آخر أو إلى مجلس هو المجلس التشريعي، ولا يمكن أن يكون له أكثر مما كان لدى الناس في كنف الطبيعة قبل انضمامهم إلى المجتمع، فتخلوا عن هذه السلطات للمجتمع؛ وذلك لأنه لا يمكن لأي شخص أن ينقل إلى غيره من السلطة ما يزيد على ما يملكه هو منها، وليس هنالك من يملك سلطة اعتباطية مطلقة على نفسه، أو على غيره، تخوله الإضرار بحياته أو قتل الآخرين أو الاستيلاء على ممتلكاتهم. وقد ثبت بأن الإنسان لا يمكنه أن يخضع نفسه للسلطة الاعتباطية للآخرين؛ وبما أنه لا يملك في كنف الطبيعة أي سلطة اعتباطية على حياة الآخرين أو حريتهم أو ممتلكاتهم إلا ما سمح به قانون الطبيعة لغرض المحافظة على نفسه وعلى باقي أفراد الجنس البشري، فإن ما ذكرناه سابقا هو كل ما يمكنه أن يفعله أو يتخلى عنه للدولة، ومن خلالها للمجلس التشريعي، ولذلك فإن المجلس التشريعي لا يحصل على أكثر من ذلك؛ فهذا المجلس في صورته الأكثر تقييدا، محصور بتحقيق الصالح العام للمجتمع، فهذه السلطة ليس لها من غاية غير المحافظة على رعاياها، وبالتالي فلا يمكنها أبدا أن تمتلك الحق بإيذائهم أو استعبداهم أو العمل على إفقارهم. إن التزامات قانون الطبيعة لا تتوقف عندما يدخل الفرد في إطار المجتمع، بل إن هذا القانون يصبح أكثر مساسا بالفرد في الكثير من الحالات، ويدخل في العقوبات التي تتضمنها القوانين البشرية من أجل ضمان فرضها، وهكذا فإن قانون الطبيعة يتبوأ مكانة القاعدة الأبدية لكل البشر، ومن ضمنهم: المشرعون؛ وعندما يضع هؤلاء المشرعون القواعد لأفعال الناس وأفعالهم فلا بد أن تكون هذه القواعد منسجمة مع قوانين الطبيعة (أي: الإرادة الإلهية، فقوانين الطبيعة تعبّر عنها)؛ وبما أن “القانون الأساسي للطبيعة يتمثل في الحفاظ على البشرية” فإنه ليس هنالك مرسوم بشري يمكنه أن يكون مناسبا أو نافذا إذا كان يعارض هذا القانون.
136. وثانيا، لا يمكن للسلطة التشريعية أو السلطة العليا أن تدعي لنفسها سلطة الحكم من خلال مراسيم اعتباطية ارتجالية، فهي ملزمة بتوفير العدل، والبت في حقوق الرعايا، من خلال قوانين رسمية معلنة وقضاة معروفين مصرح لهم بممارسة القضاء. وبما أن قانون الطبيعة غير مكتوب، ولا يمكن العثور عليه في أي مكان إلا في أذهان البشر، فإن من يخطئ في تفسير هذا القانون أو في استخدامه بدافع من العاطفة أو المصلحة لا يمكن إقناعه بسهولة بأنه قد ارتكب خطأ إذا لم يكن هنالك قاضٍ رسمي؛ ولهذا فإن القانون الطبيعي لا يمكنه أن يقوم، كما يفترض به، بتحديد الحقوق والدافع عن ممتلكات الذين يعيشون في ظله، وبالأخص إذا كان كل فرد قاضيا ومفسرا للقانون ومنفذا للحكم في وقت واحد، فترى أن من يقف الحق إلى جانبه في قضية ما لا يمتلك في العادة إلا قوته الذاتية التي لا تكفي للدفاع عن نفسه ضد الضرر أو لإيقاع العقوبة بالمذنبين. ولتفادي هذا الحال التعيس، والذي يجلب الفوضى إلى ممتلكات الناس في كنف الطبيعة، يتوحد الناس في كنف المجتمعات سعيا وراء امتلاك القوة الموحدة للمجتمع بأكمله من أجل حماية ممتلكاتهم والدفاع عنها، وربما يصيغون قوانين متينة لتحديدها فيمكن لكل فرد أن يعرف ما له منها. وهذه الغاية هي التي تجعل البشر يتخلون عن سلطاتهم الطبيعية بأكملها إلى المجتمع الذي يدخلون في إطاره، ثم يجعلون السلطة التشريعية بعدها في الأيدي التي يعتقدون بأنها تناسب المهمة، ومقابل هذه الثقة يجب أن يكون حكمها على أساس قوانين معلنة، وإلا فإن السلام والطمأنينة والملكية ستظل على المستوى نفسه من اللايقين الذي كانت عليه في كنف الطبيعة.
137. لا يمكن للسلطة الاعتباطية المطلقة، أو للحكم من دون قوانين متينة محسومة، أن تنسجم مع غايات المجتمع والحكومة، والتي ما كان للناس أن يتخلوا عما يتمتعون به في كنف الطبيعة، وينضموا إلى بعضهم بعضا في كنف هذه السلطة أو هذا الحكم، لو لم تكن الغاية من وراء ذلك هي الحفاظ على حياتهم وحرياتهم وثرواتهم من خلال قوانين صريحة تحدد الحقوق والملكية من أجل حماية السلام والطمأنينة. ولا يمكن الافتراض بأنهم ينوون، في حال حصولهم على السلطة اللازمة، أن يعطوا لأي أحد سلطة اعتباطية مطلقة على حياتهم وممتلكاتهم أو يوسعوا السلطة في حال وجودها، وأن يمكّنوا يد السلطة التشريعية من تطبيق إرادتها المطلقة عليهم بشكل اعتباطي؛ فهذا من شأنه أن يعني بأنهم يضعون أنفسهم في وضع أكثر سوءا مما كانوا عليه في كنف الطبيعة، والتي كانوا يمتلكون فيها حرية الدفاع عن حقوقهم ضد انتهاكات الآخرين، فدأبوا على رعايتها من خلال تكافؤ ميزان القوى سواء كان الانتهاك يقوم به فرد لوحده أم جماعة من الناس. لكنهم في الوضع الآخر يفترضون بأنهم قد سلموا أنفسهم لسلطة اعتباطية مطلقة ولإرادة المجلس التشريعي، فنزعوا أسلحتهم وسلّحوا هذه السلطة بها، فأصبح المجلس التشريعي قادرا على افتراسهم متى شاء؛ فلا شك في أن الوضع يسوء أكثر عندما يجد المرء نفسه معرضا للسلطة الاعتباطية لشخص واحد يقود مئة ألف شخص بالمقارنة مع تعرضه للسلطة الاعتباطية لمئة ألف شخص يأتي كل منهم بمفرده، وذلك لأنه لا يمكن ضمان أن تكون إرادة هذا القائد أفضل من إرادة المئة ألف الآخرين، وإن كان أقوى بمئة ألف مرة. ومن هنا فمهما كان شكل الدولة يجب على السلطة الحاكمة أن تحكم من خلال قوانين معلنة ومتعارف عليها، وليس من خلال مراسيم ارتجالية وقرارات غير أكيدة، فالبشرية ستكون حينها في وضع أسوأ بكثير بالمقارنة مع وضعها في كنف الطبيعة إذا قامت، دون وضع أي معيار لتوجيه أو تبرير الأداء، بتسليح شخص أو مجموعة من الأشخاص بالقوة المشتركة لعدد من الناس، فهؤلاء سيجبرون الناس على الطاعة العبثية لما يطرأ على بالهم من أفكار مهما كانت درجة إفراطها أو اتساعها أو لإراداتهم الجامحة التي لا يمكن معرفتها عند التسليح. إن سلطة الحكومة عندما تنحصر بتحقيق صالح المجتمع، وعندما يجب أن لا تكون اعتباطية وعبثية، وعندما يجب أن تتم ممارستها من خلال قرارات متينة ومعلنة، فإن ذلك يؤدي إلى أمرين اثنين: سيعلم الناس واجباتهم، وسيتمتعون بالأمن والحماية في حدود القانون؛ كما إن الحاكمين أيضا سيلتزمون بحدودهم، ولن تغريهم السلطة التي يمتلكونها باستخدامها لأهداف وبوسائل لا يرغبون بأن يعرفها الناس أو بأن يعترفوا هم بها.
138. وثالثا، لا يمكن للسلطة العليا أن تأخذ من أي فرد جزءا من ممتلكاته دون موافقته، فبما أن المحافظة على الملكية هي غاية الحكومة، ومن أجلها يدخل الناس في إطار المجتمع، فمن الضروري أن ذلك يفترض ويتطلب وجوب حيازة الناس للملكية، ومن دونها سيخسر الناس عند دخولهم في إطار المجتمع غاية دخولهم فيه، وهو أمر على درجة كبيرة من الحماقة. ولهذا فإن الناس عندما يكون لديهم ملكية في المجتمع فهذا يعني بأن لديهم حقا في الأشياء التي يرى قانون المجتمع بأنها تعود لهم، وأنه ليس لأحد الحق في أخذ ممتلكاتهم أو أي جزء منها دون موافقتهم؛ فمن دون هذا الأمر لن يكون لديهم أي ملكية إطلاقا، فأنا ليس لدي فعلا ما أملكه إذا كان هنالك شخص آخر يحق له أخذه مني متى شاء دون موافقتي. ولهذا فإن من الخطأ أن نعتقد بأن السلطة العليا أو السلطة التشريعية في أي دولة يمكنها أن تفعل ما تحب وأن تتصرف بممتلكات الرعايا بشكل اعتباطي أو أن تأخذ أي جزء منها كما تشاء. لكن هذا الأمر لا ينبغي الخوف كثيرا من وقوعه في الحكومات التي تتكون السلطة التشريعية فيها (كليا أو جزئيا) من مجالس متعددة يصبح أعضاؤها بعد حل المجلس عرضة للقانون العام لبلادهم بالتساوي مع أي مواطن آخر. أما في الحكومات التي تتكون السلطة التشريعية فيها من مجلس وحيد مستمر، أو من شخص واحد كما هو الحال في الملكيات المطلقة، فهنالك خطر من أن يعتقد هؤلاء بأن لهم مصالح تختلف عن مصالح الناس فيميلوا إلى زيادة ثرواتهم وسلطتهم من خلال أخذ كل ما يريدونه من الناس. وفي هذا الوضع تكون ممتلكات الناس غير آمنة إطلاقا، حتى وإن كانت هنالك قوانين جيدة منصفة ترسم الحدود بين ممتلكات المرء وممتلكات الرعايا الآخرين، إذا كان من يقود هؤلاء الرعايا يمتلك سلطة أن يأخذ من أي شخص أي قسم يشاء من ملكيته ويستخدمه ويمنحه بحسب ما يراه مناسبا.
141. ورابعا، لا يمكن للسلطة التشريعية أن تنقل سلطة سن القوانين إلى أي جهة أخرى، فهي ليست إلا سلطة مفوضة من الشعب، ولا يمكن نقلها تاليا إلى جهة أخرى. والشعب هو وحده من يحدد شكل الدولة، وذلك من خلال تشكيل سلطة تشريعية وتعيين من ستكون هذه السلطة في يده. وعندما يقول الشعب بأنه سيمتثل للقواعد ولحكم القوانين التي يصوغها هؤلاء على هذا النحو فلا يحق لغيرهم أن يقول بأن القوانين يجب أن تصنع على يدي أشخاص آخرين، كما لا يمكن للشعب أن يكون ملزما بأية قوانين سوى التي صاغها من اختارهم وأجاز لهم ذلك. وبما أن سلطة المجلس التشريعي تأتي عن طريق المنح والتأسيس الرسمي، فلا يمكن له أن يتعدى حدود مقتضيات هذا المنح الرسمي، فيقتصر على سن القوانين ويمتنع عن إنشاء كيانات تشريعية، فهو لا يمتلك أي سلطة لنقل وكالة سن القوانين إلى أي جهة أخرى.
142. وفي ما يلي الشروط التي يجب أن تتقيد بها السلطة التشريعية كي تكون جديرة بالثقة التي تستمدها من المجتمع وقانون الرب والطبيعة بغض النظر عن الدولة وعن شكل الحكومة:
1. أن تحكم وفق قوانين رسمية معلنة، لا تختلف في حالات خاصة، وإنما تكون القاعدة واحدة للغني والفقير، وللحاشية في البلاط والفلاح في الحقل.
2. يجب أن لا تكون هذه القوانين مصممة لأي هدف آخر سوى هدف تحقيق الصالح العام للشعب.
3. يجب أن لا تقوم بزيادة الضرائب على ممتلكات الشعب دون موافقته، سواء كانت هذه الموافقة مباشرة أم بالوكالة. وهذا الشرط ليس مهما إلا في حالة الحكومات التي تكون فيها السلطة التشريعية ثابتة بشكل دائم، أو في الحالات التي لم يشترط فيها الشعب اختياره لجزء من هذا المجلس من وقت لآخر.
4. يجب عدم إجبار المجلس أو تمكينه في مجال نقل سلطة سن القوانين إلى أي كيان آخر، أو وضعها في أي موضع غير الموضع الذي وضعها الناس فيه.
جون لوك فيلسوف بريطاني (1632-1704)
منبر الحرية، 05 نونبر/تشرين الثاني 2013
One comment
farida hakim
5 مارس، 2014 at 4:23 م
اتتتتتبتويبلا اتنلاتب الببيسفقبلر