جون لوك، مقتطفات من كتاب (رسالتان في الحكومة)
فيلسوف بريطاني (1632-1704) ج2
ترجمة: علي الحارس
الفصل الثامن عشر: الاستبداد
199. كما أن الاعتداء هو ممارسة السلطة على أمر للآخرين حق فيه، فإن الاستبداد هو ممارسة السلطة على أمر لا يمكن أن يكون لأي أحد حق فيه؛ وهو يتمثل في استخدام السلطة التي يملكها المرء، لا من أجل صالح الذين يخضعون لها، وإنما من أجل منفعته الشخصية الخاصة به، أي: عندما يقوم الحاكم، مهما كانت صلاحياته، بجعل إرادته، لا القانون، هي القاعدة المتبعة، وعندما يجعل أوامره وأفعاله غير موجهة بهدف المحافظة على ممتلكات شعبه، وإنما لإرضاء ما يخصه من طموحات وثارات وشهوات أو أي رغبة غير مقبولة.
الفصل التاسع عشر: تفكك الحكومة
211. إذا أردنا الحديث بوضوح عن تفكك الحكومة فلا بد أولا من التمييز بين تفكك المجتمع وبين تفكك الحكومة. إن ما يكوّن المجتمع، وما يخرج الناس من الوضع المقلقل في الطبيعة ويدخلهم في إطار مجتمع سياسي، هو الاتفاق الذي يجمع كل فرد مع الآخرين على الاندماج والعمل كجسد واحد، فتنشأ عن ذلك دولة تتميز عن غيرها. وإن الطريقة المعتادة، وتكاد تكون الوحيدة، التي يتفكك بها هذا الاتحاد تتمثل في عدوان قوة خارجية تغزو البلاد، وفي هذه الحالة (حيث لا يعود الناس قادرين على تأمين الرعاية والدعم لأنفسهم كجسد واحد مستقل) فإن الاتحاد الذي يربط هذا الجسد لا بد أن ينتهي، وعندها يعود كل شخص إلى الوضع الذي كان عليه سابقا، فيمتلك الحرية لتوفير أمنه كما يشاء في مجتمع آخر. وعندما يتفكك المجتمع فلا شك في أن حكومة هذا المجتمع لن تستمر، ولهذا تجد سيوف الغزاة وهي تقتلع الحكومات من جذورها في أكثر الأحيان، وتمزق المجتمعات إلى أشلاء، وتفصل الجماهير المهزومة المبعثرة عن الاعتماد أو الاحتماء بالمجتمع الذي كان يفترض به المحافظة عليهم من العنف. إن هذه الطريقة في تفكيك الحكومات يعرفها العالم جيدا، بل إنه يسمح بها كثيرا، ولذلك فهي لا تحتاج إلى الاستفاضة في شرحها؛ كما إنه ليس هنالك من حاجة لطرح الكثير من الحجج لإثبات أن الحكومة لا تستطيع أن تستمر إذا تفكك المجتمع، فذلك من المستحيل كما أن من المستحيل لهيكل البناء أن يستمر عندما تتعرض أحجاره إلى التبعثر بسبب إعصار قوي، أو إلى الانهيار في كومة عشوائية بسبب زلزال.
212. بالإضافة إلى ما ذكرناه عن تفكك الحكومة من الخارج، فإنها قد تتفكك من الداخل، وذلك يحدث بطريقتين:
الأولى: عندما يحصل تغيير في السلطة التشريعية. فالمجتمع المدني يمثل حالة من السلام بين من يشكلونه، حيث لا مكان للحرب بوجود الكيان التحكيمي الذي يتوفر من خلال السلطة التشريعية التي تنهي كافة الخلافات التي قد تنشأ بين الناس؛ فالسلطة التشريعية هي التي توحد أفراد الدولة وتربطهم ببعض البعض ضمن جسد حي واحد مترابط. إن هذه هي الروح التي تعطي للدولة شكلها وحياتها ووحدتها، ومنها يستمد أفرادها الكثيرون نفوذهم وتعاطفهم وارتباطهم المتبادل؛ ولهذا فإن السلطة التشريعية إذا اختلت أو تفككت فسيلي ذلك الانهيار والموت، لأن جوهر المجتمع ووحدته يرتكزان على امتلاك إرادة واحدة، والمجلس التشريعي عندما تؤسسه الأكثرية فإنه يعتبر إعلانا لهذه الإرادة ووسيلة للمحافظة عليها. إن تأسيس السلطة التشريعية يعتبر العمل الأول والأساسي للمجتمع، فهو يعمل على استمرار الوحدة بتوجيه من الأشخاص والقيود القانونية التي وضعها أشخاص مخولون بهذه المهمة وبموافقة الشعب عليهم وتعيينه لهم؛ وباستثناء هؤلاء لا يمكن لأي شخص، أو مجموعة من الأشخاص، من الشعب أن تكون له سلطة سن القوانين التي يجب على الآخرين إطاعتها. وعندما يتولى أي شخص، أو مجموعة من الأشخاص، مهمة سن القوانين دون أن يكون الشعب قد اختاره لهذه المهمة، فإن القوانين المسنونة بهذه الطريقة لن تكون لها أي شرعية، ولهذا لن يكون الشعب مجبرا على إطاعتها، وهذا يعني عودة الناس مجددا إلى وضع لا يخضعون فيه لأي سلطة، وربما يقدمون على تشكيل سلطة تشريعية جديدة تخصهم على النحو الأنسب برأيهم، مما يعطيهم الحرية الكاملة لمقاومة قوة أولئك الذين يريدون فرض أي شيء عليهم دون شرعية. وهكذا فإن كل شخص يصبح تحت تصرف إرادته الخاصة به عندما يتعرض هؤلاء الذين فوضهم المجتمع ليكونوا لسان حال الإرادة العمومية إلى الخلع من موقعهم هذا بسبب الاستيلاء عليه من آخرين لا يملكون هذه الشرعية أو هذا التفويض.
220. في هذه الحالات وما شابهها، عندما تتفكك الحكومة فإن الناس تصبح لهم حرية تدبر أمورهم من خلال إنشاء سلطة تشريعية جديدة تختلف عن السابقة بالأشخاص أو بالشكل أو بكلا الأمرين بحسب ما يرونه الأنسب برأيهم لأمانهم وصالحهم؛ فالمجتمع لا يمكنه أن يخسر، بسبب أخطاء الآخرين، حقه الجوهري الأصلي بالمحافظة على نفسه، وهو ما لا يمكن القيام به إلا من خلال سلطة تشريعية متينة تسن القوانين وتطبقها بشكل عادل وحيادي. لكن البشرية لم تصل إلى وضع يبلغ من السوء حدا شديدا يجعلها عاجزة عن استخدام هذا العلاج قبل فوات الأوان؛ فإذا سقطت السلطة التشريعية القديمة بفعل الاضطهاد أو المكر أو الاستيلاء عليها من قبل قوة أجنبية، يصبح نصح الناس بتدبير شؤونهم من خلال تأسيس سلطة تشريعية جديدة أمرا أشبه بإيهامهم بأن الفرج قادم عندما يفوت الأوان ولا يعود هنالك إمكانية لمعالجة الضرر الواقع؛ وهذا لا يختلف أبدا عن أن يطلب منهم أولا أن يكونوا عبيدا ثم يتدبروا شؤون حريتهم في ما بعد، وبأنهم يمكنهم التصرف كأحرار على الرغم من كل القيود التي تكبلهم. إن هذه المزاعم ليست إلا استهزاء بالناس، وليست تفريجا عنهم، إذ لا يمكن لأي إنسان أن يضمن وقايته من الوقوع تحت نير الاستبداد إذا لم يكن لديه وسيلة للتخلص منه إلا بالوقوع فيه أولا، ولهذا السبب نجد بأن الإنسان لا يمتلك حق الخلاص من الاستبداد فحسب، وإنما يمتلك حق الوقاية منه أيضا.
221. أما الطريقة الثانية التي تتفكك بها الحكومة من الداخل فتحدث عندما يتصرف المجلس التشريعي، أو الحاكم، أو كلاهما، على نحو يجعله غير جدير بالثقة. فالمجلس التشريعي قد يخرق الثقة من خلال التعدي على ممتلكات الرعايا وجعل نفسه، أو جعل جزء من المجتمع، سيدا أو منتفعا اعتباطيا من حياة الناس أو حرياتهم أو ثرواتهم.
222. إن السبب الذي يدفع الناس إلى الدخول في إطار المجتمع هو المحافظة على ممتلكاتهم؛ وإن الغاية التي يسعون إليها من وراء اختيار السلطة التشريعية وتفويضها، ومن وراء ما تسنه هذه السلطة من قوانين وقواعد تحمي وتؤطر ممتلكات كل أفراد المجتمع، هي: الحد من السلطة، وتخفيف الهيمنة، التي يتعرض لها أي جزء أو فرد من المجتمع؛ إذ لا يمكن الافتراض بأن إرادة المجتمع تقضي بأن تمتلك السلطة التشريعية سلطة تدمير ما كان الناس يريدون حمايته عند دخولهم في إطار المجتمع، ومن أجله أخضع الناس أنفسهم لمشرعين من اختيارهم. لذلك فإذا سعى المشرعون إلى سلب أو تدمير ممتلكات الناس، أو جعلهم عبيدا يخضعون لسلطة اعتباطية، فإنهم يعلنون بذلك الحرب على الناس، وهؤلاء بدورهم يعفون أنفسهم من أي التزام إضافي، ويلجؤون إلى الملجأ المشترك الذي وفره الرب لكل من يتعرض للقوة والعنف. ولذلك فمتى ما أقدمت السلطة التشريعية على انتهاك هذه القاعدة الرئيسية في المجتمع، سواء كان ذلك بدافع الطموح أم الخوف أم المكر أم الفساد، وسعت إلى امتلاك، أو تمليك، سلطة مطلقة على حياة وحريات وممتلكات الناس، فإن هذا الأمر يعتبر إخلالا بالثقة لأنها صادرت سلطة الجماهير وجيرتها لغايات معاكسة تماما؛ وعندها يعود الأمر إلى الناس الذين يملكون الحق باستئناف حريتهم الأصلية، فيؤسسون سلطة تشريعية جديدة (على النحو الذي يرونه مناسبا) لتدبير شؤون أمنهم وحمايتهم، وهي الغاية التي يدخلون من أجلها في إطار المجتمع. وما أوردته سابقا حول السلطة التشريعية بشكل عام يصح قوله أيضا حول السلطة التنفيذية العليا، والتي تمتلك ثقة مضاعفة، حيث تشترك في عمل السلطة التشريعية وتمارس دور الجهة العليا لتنفيذ القوانين؛ لكن هذه السلطة تعمل على العكس من هذه الثقة المضاعفة عندما تسعى إلى فرض إرادتها الاعتباطية الخاصة باعتبارها قانون المجتمع. كما إنها تعمل على العكس من الثقة التي منحت لها هي عندما توظف قوة وثروة ومناصب المجتمع لإفساد ممثلي الناس وتجييرهم لغاياتها، أو عندما تسعى بشكل معلن إلى التلاعب المسبق بالناخبين وتوجيه خياراتهم، باستخدام الترغيب أو الترهيب أو الوعود أو ما شابه، على نحو يحقق الانتصار لمرشحيها الذين وعدوها مسبقا بإطاعة أوامرها في ما يصوتون عليه من قرارات وما يسنونه من قوانين. إن هذا التحكم بالمرشحين والناخبين وإعادة تشكيل طرق الانتخاب ليس إلا اقتلاعا للحكومة من جذورها، وسمّا يلقى في النبع الذي يستقي منه الأمن الاجتماعي؛ فالناس لم يحافظوا على خيار اختيار المرشحين إلا لأن هذا الإجراء يحمي ممتلكاتهم، وهذا ما لا يمكن تحقيقه إلا عندما يكون الناخب حرا باختيار مرشحه، والمرشح الفائز حرا بالتصرف وتقديم النصح كلما رأى أن مصلحة الدولة والصالح العام تقتضيان ذلك بعد تفحص وجدل حقيقيين، أما إذا قام المشرع بإعطاء صوته قبل سماعه للجدل وتقييمه للأسباب التي تطرحها جميع الأطراف، فلا يمكنه أداء هذه المهمة. وإذا أراد أحدهم أن ينشئ مجلسا تشريعيا على هذا النحو المرفوض، وأن يجعل مجموعة تصرح بتأييدها لإرادته بمثابة ممثلين حقيقيين عن الناس، وعن من يصنع القوانين للمجتمع، فلا شك بأن هذا الأمر يعتبر انتهاكا للثقة، وإعلانا صريحا عن التخطيط لتدمير الحكومة، وهو ما قد يتحقق فعلا. وإذا كان هنالك شك في حدوث ذلك فيمكن الاستدلال عليه بالنظر إلى كل أساليب الترغيب والترهيب التي يتم توظيفها علانية للغاية نفسها، وكل فنون التلاعب بالقانون، لإزالة وتدمير كل ما يقف بوجه هذا المخطط، وكل من يرفض الامتثال والموافقة على خيانة حريات البلاد. إن من السهل معرفة السلطة التي يجدر إعطاؤها لهؤلاء الذين قاموا في ما سبق بتوظيف سلطتهم لغايات معاكسة للثقة التي لا بد منها للحصول على هذه السلطة، إذ ليس من الصعب أن نلاحظ بأن من حاول ارتكاب أمر كهذا في ما سبق لا يمكن الثقة به مجددا.
223. وهنا ربما ينبري أحدنا إلى القول بأن الناس جاهلون وساخطون دائما، وإذا أردنا أن نضع أساس الحكومة في هذا المزيج من تذبذب الآراء وتخلخل الأمزجة لدى الناس، فهذا يعني تعريضها لدمار حتمي، فلا يمكن أن تكون هنالك حكومة تستطيع الاستمرار طويلا إذا كان الناس يستطيعون تأسيس سلطة تشريعية جديدة كلما عارضوا الحكومة القديمة. وأنا أرد على هذا القول بأن الأمر على العكس تماما من ذلك، فليس بهذه السهولة يقدم الناس على الخروج من الأشكال القديمة كما يدعي البعض، ويكاد يكون من المستحيل إقناعهم على تغيير أخطائهم التي يعترفون بها ضمن الإطار الذي اعتادوا عليه؛ وإذا كانت هنالك أي عيوب، سواء كانت أصلية أم طارئة بسبب مرور الزمن أو الفساد، فليس من السهل تغييرها، حتى وإن كان العالم بأجمعه يرى بأن الفرصة مواتية لتغييرها. إن هذا البطء والتجنب الذي يبديه الناس بشأن ترك دساتيرهم القديمة، وعلى الرغم من الثورات الكبيرة التي شهدتها المملكة البريطانية في هذا العصر وما سبقه، قد جعلنا، وبعد فترة من المحاولات الفاشلة، نعود مجددا إلى سلطتنا التشريعية القديمة المكونة من صيغة (الملك واللوردات والعموم)، ومهما كان التحريض الذي تعرض له الملوك وزالت تيجانهم بسببه، فإنه لم يؤدّ أبدا إلى نقل التاج إلى أسرة أخرى.
229. غاية الحكومة هي تحقيق الخير للبشرية؛ وهنا نسأل: أيهما أفضل للبشرية؛ أن يتعرض الناس دائما لإرادة مستبدة لا تعرف الحدود، أم أن يكون الحاكمون معرضين أحيانا للمعارضة إذا أفرطوا في استخدام السلطة ووظفوها في دمار ممتلكات الناس عوضا عن المحافظة عليها؟
232. كل من يستخدم القوة دون حق، كما هو الحال عندما يقوم أفراد المجتمع باستخدام القوة بشكل مخالف للقانون، يضع نفسه في حالة حرب مع من يستخدم القوة ضدهم؛ وإذا حدث ذلك فإن كل الروابط السابقة تصبح ملغاة، وتتوقف كافة الحقوق الأخرى، ويصبح لدى الجميع حق الدفاع عن أنفسهم ومقاومة المعتدي.
240. وهنا يطرح سؤال شائع: “من الذي يجب أن يصدر حكمه في ما إذا كان الأمير أو السلطة التشريعية قد عمل بالعكس مما تقتضيه الثقة الممنوحة له”، وهذا السؤال ربما ينشره بين الناس أشخاص ساخطون مشاغبون بينما لا يكون الأمير قد أدى إلا صلاحياته الموكلة إليه. وأجيب على هذا السؤال بأن الشعب هو من يجب عليه أن يبت في هذه المسألة؛ فمن يحق له البت في ما إذا كان هذا الوكيل أو المفوض يعمل بشكل مناسب وبحسب الثقة التي وضعت فيه غير الذي أوكله؟ فلأنه أوكله فهو لا يزال يمتلك السلطة للتخلص منه عندما يفشل في اؤتمن عليه؛ وعندما يعتبر هذا الأمر معقولا في نطاق القضايا الشخصية، فلماذا لا يكون معقولا في أحلك اللحظات عندما تصبح معيشة الملايين من الناس على المحك، وعندما يصبح الخطر أعظم إذا لم تجري الحيلولة دونه، وعندما يصبح تصحيح الأمور شديد الصعوبة والتكلفة والخطورة؟!
241. وعلاوة على ذلك، لا يمكن للسؤال السابق (“من الذي يجب أن يصدر حكمه؟”) أن يعني بأنه ليس هنالك قاضٍ يصدر حكمه في هذا المجال، فإذا خلت الأرض من أي جهة قضائية للبت في النزاعات التي تنشأ بين البشر، فإن الرب هو القاضي. ولا شك في أن الرب وحده هو من يقضي بالحق، لكن الإنسان ينصّب نفسه قاضيا في قضاياه الخاصة وفي كل القضايا الأخرى، وذلك سواء كان الآخرون هم من اعتدوا عليه، أم كان هو من رفع قضيته إلى القاضي الأعلى.
242. إذا نشأ خلاف بين الأمير وبعض أفراد الشعب، ولم يكن القضاء قادرا على النطق بالحكم أو كانت تعتريه الشكوك في هذه القضية، وكان الخلاف ينذر بعواقب عظيمة، فإنني أعتقد بأن الحَكَم المناسب في هذه الحالة هو الكيان الشعبي؛ ففي الحالات التي يكون فيها الأمير مخولا بثقة الناس ومعفى من اتباع القواعد السارية للقانون، ووجد أي شخص بأنه يتعرض للضرر أو بأن الأمير يخالف مقتضيات الثقة أو يعاكسها، فليس هنالك من هو أفضل للبت في ذلك من الكيان الشعبي (والشعب هو من منح الثقة في الأصل للأمير) لتحديد المدى الذي يمكن أن يصل إليه في العمل وفق هذه الثقة. لكن إذا كان الأمير، أو غيره ممن يتولون إدارة البلاد، يرفض هذه الطريقة في فض الخلاف، فلا يمكن التحاكم إلا إلى السماء وحسب؛ فعندما يلجأ أي من الطرفين إلى القوة، دون أن يكون هنالك سلطة عليا أعظم منه على الأرض، أو دون أن يقبل بالتحاكم إلى أي قاضٍ على الأرض، فعندها يكون القاضي هو السماء؛ وفي هذه الحالة لا بد أن يقدّر الطرف المتضرر كيفية التصرف في ظل هذا التحاكم، ويستعد لما يصدر عنه.
243. نستنتج مما سبق أن السلطة التي أعطاها كل فرد للمجتمع عندما دخل في إطاره لا يمكن إعادتها إلى الأفراد ما دام المجتمع مستمرا في الوجود، لكنها ستظل موجودة في ما بينهم، لأنه من دون ذلك لن يكون هنالك مجتمع ولا دولة، وهو ما يتناقض مع الاتفاق الأصلي؛ ولذلك فإن المجتمع عندما يضع هذه السلطة التشريعية بيد مجموعة من الناس، لتستمر فيهم وفي من يخلفهم، مع توفير التوجيه والسلطة اللازمة لاختيار من يخلفهم، فإن السلطة التشريعية لن تعود إلى الناس أبدا ما دامت الحكومة مستمرة، لأنهم عندما أعطوا للسلطة التشريعية القدرة على الاستمرار إلى الأبد فإنهم تخلوا بذلك عن سلطتهم السياسية المتعلقة بالسلطة التشريعية، ولا يمكنهم استرجاعها مجددا. لكن إذا قام الناس بوضع حدود لمدة ولاية السلطة التشريعية، ولم يعطوا هذه السلطة العليا لأي شخص أو مجلس إلا بشكل مؤقت، أو إذا قام أرباب السلطة بإساءة استخدامها وتم انتزاعها منهم لهذا السبب، فإن هذه السلطة تعود للمجتمع عند انتزاعها أو عند انتهاء المدة المقررة، ويمتلك الناس حق التصرف كسلطة عليا، وتستمر السلطة التشريعية فيهم ككل، وربما يقومون بدلا من ذلك بتأسيس شكل جديد من الحكومة، أو يعتمدون الشكل القديم لكن في أيدٍ جديدة، على النحو الذي يرونه مناسبا لهم.
منبر الحرية،17 ديسمبر /كانون الأول 2013