هل تنظير الحرية العربية يعبر عن واقع الحرية العربية؟ وهل سمح هذا التنظير بمنح هامش من الحرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية للأفراد والجماعات في واقع عربي ديدنه الاستبداد والظلم والهوان؟..... .
هل تنظير الحرية العربية يعبر عن واقع الحرية العربية؟ وهل سمح هذا التنظير بمنح هامش من الحرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية للأفراد والجماعات في واقع عربي ديدنه الاستبداد والظلم والهوان؟..... .
تعد قضية توزيع الثروة المادية المتراكمة والمنتجة، أحد أهم المواضيع التي تثير الكثير من الانتقادات من لدن رواد الفكر الاشتراكي عموما ممن يعارضون بشدة عدم عدالة اقتصاد السوق، بالمقابل يرى رواد الرأسمالية أن دعوات العدالة الاجتماعية تحمل الكثير من التناقض.....
هنالك اعتبارات كثيرة يجب وضعها في الحسبان ونحن نتتَّبع مسارات الوعي بالحرية كمطلب فردي وجماعي قبل أن يتحول لمطلب سياسي محض. فتمثلات الحرية في الوعي العربي ارتبطت بشكل تاريخي بطبيعة إدراكها معرفيا ودينيا بشكل جوهري لم تخرج من بوثقة التأزم المعرفي الديني الذي يشهده العالم العربي والإسلامي.... .
إذا أردنا الحديث بوضوح عن تفكك الحكومة فلا بد أولا من التمييز بين تفكك المجتمع وبين تفكك الحكومة. إن ما يكوّن المجتمع، وما يخرج الناس من الوضع المقلقل في الطبيعة ويدخلهم في إطار مجتمع سياسي، هو الاتفاق الذي يجمع كل فرد مع الآخرين على الاندماج والعمل كجسد واحد.....
اضغط هنا لتحميل النسخة الكاملة لكتاب الحرية الاقتصادية والتنمية
طبعة منقحة
وولفغانغ كاسبر
أستاذ فخري للاقتصاد في جامعة نيو ساوث ويلز
أستراليا
2011
كلمة شكر
لم يكن لهذا البحث أن يرى النور من دون الاستفادة من حكمة الكثيرين الذين لم أذكر أسماء إلا بضعة منهم عند إيراد المراجع التي استندت إليها أو نصحت بقراءتها؛ وهذا عدا عن جهلي بالكثير ممن أسهموا إسهامات هامة في تشكيل قناعاتي. لقد استفاد هذا البحث بشكل عميق من تأليف كتاب عن الاقتصاد المؤسساتي في جهد مشترك مع الصديق القديم البروفيسور مانفريد ستريت، مدير معهد ماكس بلانك لأبحاث الأنظمة الاقتصادية في مدينة جينا الألمانية (طبع الكتاب تحت عنوان “مبادئ الاقتصاد المؤسساتي.. النظام الاجتماعي والسياسة العامة” في بريطانيا، وظهر في الصين بترجمة صينية، كما إن هنالك طبعة ثانية منقحة ومزيدة بالكامل ستظهر من هذا الكتاب بعد أن قمت بمراجعتها بالاشتراك مع البروفيسور بيتر بويتكة من جامعة جورج ماسون في ولاية فيرجينيا الأمريكية، ومن المتوقع أن تجد طريقها للمكتبات في العام 2012).
كما أعترف بكل فخر بالتعليقات الناقدة المفيدة التي تلقيتها من قراء وأساتذة اطلعوا على طبعات سابقة من هذا الكتاب، ومن طلبتي وممن شارك في محاضرات (الحرية والمجتمع) التي استضافها مركز الدراسات المستقلة في سيدني، وكانت تلك المحاضرات ميدانا لدراسة المفاهيم الواردة في هذا الكتاب. وقد كان مركز الدراسات المستقلة (CIS)، والذي أصدر النسخة الأولى من هذا البحث تحت عنوان (حقوق الملكية والتنافس) عام 1998، كريما في السماح لي بإعادة إصدار مسودة هذا البحث بعد تنقيحه بشكل كامل وإضافة الباب الأول الذي لم يكن يحتويه من قبل، وذلك في الطبعات التي صدرت في الهند عن مركز المجتمع المدني في نيودلهي باللغتين الإنكليزية والهندية، وفي نيجيريا عن معهد تحليل السياسة العامة في لاغوس، وفي تركيا عن جمعية الفكر الحر في أنقرة باللغة التركية. كما انتشر هذا الكتاب على نحو أوسع عبر (مشروع يوريكا) التابع لشبكة السياسة العالمية في لندن، والتي توزع نسخا إلكترونية من هذا الكتاب في مختلف دول العالم، ومن بينها الدول التي تعتبر الحرية الاقتصادية من البدع المنكرة.
ورغم أنني استفدت من تعليقات وانتقادات العديد من القراء، فإنني أبقى، بالطبع وكما هو الحال دائما، أتحمل المسؤولية الحصرية عن ما يرد في الكتاب كافة من تقييمات وأخطاء.
أتمنى أن يقدر قراء هذه النسخة المترجمة إلى اللغة العربية ما يمكن أن تقدمه لهم الحرية الاقتصادية من حرية وسلام وأمن وعدالة.
سيدني، أستراليا
مايو 2011
و. ك.
على سبيل المقدمة.. منظور شخصي
آمل أن أقدم في هذا الكتاب الصغير ما يوضح للقارئ أن تحقيق التقدم المادي والأمان والحرية والانسجام الاجتماعي والكثير غيرها إنما يعتمد بشكل حاسم على تأمين حقوق الملكية الخاصة، وحرية المرء في استخدام ممتلكاته ما دام بعيدا عن أذى الآخرين، وحكم القانون؛ وهذا ما ندعوه “الحرية الاقتصادية“. إن أي نظام اقتصادي حر ينبغي تدعيمه عاجلا أم آجلا بالحرية المدنية والسياسية، أي: الديمقراطية الأصيلة، والفصل ما بين الدين والدولة غير الفاسدة، وانسياق الحاكم والمسؤول للقوانين نفسها التي تطبق على المواطنين جميعا.
إن ما أطرحه فكرة الدور الذي لا يستغنى عنه للحرية الاقتصادية في التنمية الحديثة المستدامة يتأتى من خبرتي الشخصية في الحياة، وما دعّم هذه الخبرة من قراءات جاء ذكر بعضها في نهاية الكتاب. وباعتباري أستاذا أكاديميا، وباحثا، ومستشارا حكوميا، وناشطا في منظمات المجتمع المدني العالمية، ومستشارا صناعيا، فلقد اكتشفت مرارا وتكرارا، بأن الحرية الاقتصادية أمر لا غنى عنه للتنمية الناجحة وأن “المعرفة الكاملة“، وهي مفهوم تعج به كتب تدريس الاقتصاد، ليست إلا هراء لا يمت للواقع بصلة. فالعملية المعقدة للتنمية الاقتصادية تنتج عن ملايين التجارب والاكتشافات والتفاعلات الصغيرة غير المركزية التي لا يمكن أن يعلم بها أحد. وكل ما توصلت إليه يتلخص في ضرورة توفر الظروف الثقافية والقانونية الملائمة لحدوث هذه الاكتشافات، وبكل اختصار: توفر (المؤسسات) الملائمة.
لقد تشكل وعيي أثناء وجودي في ألمانيا الغربية (ما بعد الحرب العالمية الثانية)، والتي كانت دولة يعيش فيها شعب مهزوم استطاع خلال أقل من عقد أن يعيد الحياة إلى اقتصاده المعطل وأنشأ فرص عمل تكفي للجميع بمن فيهم الملايين من الجنود العائدين من الجبهات وملايين الألمان المطرودين من بولندا وتشيكوسلوفاكيا وغيرهما من الدول التي عاشوا فيها قرونا كثيرة. أما ما كان يطرح من أنماط النمو الاقتصادي في كتب الاقتصاد التعليمية، وكانت رائجة في ذلك الوقت، فقد عجزت عن مساعدتي على فهم ما كنت أشاهده في ألمانيا ما بعد الحرب. وكان أفضل ما اطلعت عليه محاضرة لفريدريك هايك1(1899-1992) ألقاها في معهد كييل للاقتصاد العالمي الذي كنت أدرس فيه أثناء وجودي في ألمانيا، وكان قد تحدث فيها عن الاكتشاف بوصفه جوهر الحياة الاقتصادية (هايك، 1978)، فالفرق الجوهري ما بين التنمية والركود يكمن في إيجاد واختبار المعرفة النافعة على يد مستثمرين رياديين واثقين في أسواق تنافسية.
وأثبتت هذه الرؤية كثيرا من المصداقية عندما عملت في وزارة المالية الماليزية وتمكنت من مشاهدة قوى السوق التحريرية نفسها وهي تعمل في دول شرق آسيا التي كانت تشهد في ذلك الحين انطلاقة تنمية اقتصادية، ولكنني كنت شاهدا أيضا على العواقب الاقتصادية والاجتماعية المحزنة للضوابط التعسفية وبدائل الاستيراد والتأميم بالإضافة إلى الحكومات الاستبدادية الفاسدة في المنطقة. وفي نهاية سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن الماضي تمكنت من الإسهام في الجدل العام وما تلا ذلك من إصلاحات اقتصادية في أستراليا ونيوزيلندا، والتي حولت اقتصادات راكدة وقطاعات سكانية غير مستقرة ماليا إلى قصص نجاح وازدهار مما منح المواطنين القلقين ثقة متينة كاملة حيال مستقبلهم. وباعتباري أحد أوائل الخبراء الاقتصاديين الغربيين المدعوين إلى مقاطعة سيشوان الصينية في بداية ثمانينيات القرن العشرين، شاهدت كيف استرجعت “الوحدات الأسرية” وعمال المصانع حقوق ملكية معقولة جديرة بالثقة (وإن لم تكن كاملة، وتم التغلب على القمع وانتفاضات الخبز خلال سنوات قليلة عبر أكبر عملية خصخصة (فعلية) في تاريخ البشرية، وارتفع إنتاج الغذاء بسرعة ونشرت الأسواق شعورا بالبهجة الغامرة بين الناس العاديين (كاسبر 1981)؛ ومنذ ذلك الحين انتشرت القوى الخلاقة للأسواق التنافسية على امتداد الصين، والأهم أنها نشرت معها شعورا معديا بالتفاؤل بإمكانية الإنجاز بالإضافة إلى طاقة جديدة عمت كل بقاع هذا البلد الكبير.
***
لكن عملي في شرق آسيا لم يكن أول لقاء لي مع حضارة غير غربية. فقبل أكثر من خمسين عاما، عشت لفترة من الزمن مع عائلة مغربية تقليدية في مدينة فاس القديمة، وكان ذلك بمثابة لقاء رائع مع تقاليد غنية أخاذة ومؤسسات غير معهودة؛ حيث كان لدى العائلة التي استضافتني ثلاثة أبناء يقاربونني في السن: الأول فقيه متشكك بكل ما هو غربي، والثاني جيولوجي شاب درس في فرنسا وكان مولعا بالعلوم الغربية، والثالث تاجر أثرى من تجارة النسيج وكان يضحك على النقاشات الايديولوجية بين أخويه اللذين يكبرانه سنا. وبعد أن تكشفت لي الأمور أدركت أن أصدقائي أولئك كانوا يمثلون أطراف معركة التحديث، وهي معركة خاضتها العقول والقلوب على امتداد العالم. لقد أدى الوقت الذي قضيته مع هذه العائلة المغربية إلى تعلقي طيلة حياتي بمعرفة التفاعلات ما بين المؤسسات الثقافية والقانونية (قيم العادات والتقاليد والمعايير القانونية للمجتمع) من جهة، وبين التحديث الاجتماعي والاقتصادي من جهة أخرى. كما إن ما عايشته في المغرب من هذه المعارك الخاصة ما بين التقاليد والتقدم الاقتصادي لم يكن خاصا بهذا البلد أو بغيره من الدول التي زرتها لاحقا كتركيا ومصر ودول الخليج العربي، بل وجدتها أيضا في دول زرتها وعملت فيها من شرق آسيا وأمريكا اللاتينية.
وبينما تقبلت الظروف الثقافية والسياسية في المغرب أثناء شبابي، فإن تجاربي التالية في شرق آسيا جعلتني نافد الصبر إزاء المواقف والقيم والمؤسسات التي تقف عائقا أمام تحقيق النمو في الشرق الأوسط وشمال افريقيا. ورغم إعجابي الذي لم ينقطع بالفن والحضارات التاريخية التي تزخر بها هذه المنطقة، فقد وصلت إلى نتيجة مفادها أن البنى الثقافية ليست سواء في التمهيد لتبني وتطوير طرائق ناجحة مستوردة من الغرب. كما أدركت أيضا أن معظم الناس على امتداد العالم يطمحون إلى التمتع بالتقدم المدهش في وسائل الراحة المادية والمعرفة والصحة وطول العمر والأمان، وهي وسائل ظهرت أولا في الغرب وانتشرت في وقت لاحق إلى “اقتصادات النمور” في شرق آسيا، والتي أصبحت أيضا في وقتنا “ديمقراطيات النمور“، وذلك بالإضافة إلى الصين. ولكن ليس الجميع مستعدين للقيام بالتغييرات الثقافية والقانونية التي لا غنى عنها، واعتناق قيم من أمثال الحرية الفردية واحترام التنوع والالتزام بالسلام، وهي قيم لا يمكن من دونها تبني وتطوير التكنولوجيا والمنظمات الغربية التي تصنع الثروة.
يبدو لي أن العديد من تفسيرات التقاليد الإسلامية قد أضافت صعوبة خاصة أمام تقبل هذه الشروط المؤسساتية الضرورية للتنمية الاقتصادية؛ فالفصل ما بين الكنيسة والدولة، وهو أمر أصبح محسوما في التنمية السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الغرب، لا يعتبر من الأمور التي تلقى تقبلا أو تفهما على نطاق واسع باعتبارها شرطا لازما لا بد منه من أجل التحديث. كما نجد في القرآن والسنة تمييزا صريحا للفوارق ما بين السادة والعبيد، والمؤمنين والكفار، والرجال والنساء، وهذا يتضارب مع شعار (تساوي الجميع أمام القانون). وفي أعمال المفكر الأمريكي التركي الأصل تيمور كوران نجد توضيحا للعقبات المؤسساتية التي تعترض سبيل مراكمة رأس المال عبر أسواق مال غير مشخصنة لتمويل الصناعات الحديثة (كوران 2009، 2011؛ وراجع أيضا: بيثيل 1998 ص225-242). وهنالك عقبة أخرى تقف في وجه التحديث وهي وجود الكثير من المراقبين المسلمين المعاصرين من ذوي السلطة والنفوذ ممن يعتبرون أن القوانين والمؤسسات المنصوص عليها في الشريعة أمر لا يتغير إلى أبد الآبدين، ولهذا فإنهم يعتبرون محاولات إصلاح القوانين والمؤسسات منافية للدين، وذلك على الرغم من تغير الظروف. كما إن عددا من حكومات الشرق الأوسط قد حشدت جهودها في هيئة الأمم المتحدة لصياغة قانون لحقوق الإنسان مخصص للدول الإسلامية، وكأن البشر لم يخلقوا في الأصل متساوين، وكأنهم لا يطمحون جميعا لحقوق الإنسان الأساسية ذاتها. إن التشديد على سن قواعد وقوانين مخصصة وغير قابلة للتطور في عالم لا يكف عن السير في درب التغير والعولمة ربما يؤدي إلى دعم المصالح الراسخة والبنى السياسية، لكنه يبطئ من مسيرة التنمية الاقتصادية الحديثة والانفتاح على مستقبل أفضل لجميع الناس. ونجد في تقرير التنمية العربية الصادر عن هيئة الأمم المتحدة توثيقا للخسائر الناجمة عن المواقف المتعنتة الرافضة لتطوير وتغيير “الرأسمال المؤسساتي” للدول العربية (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي 2002). ومن لا يكفيه هذا الدليل، فإنه سيجد صرخة مدوية ترتفع من “الصحوة العربية” الحالية والمطالب الشجاعة للشباب والفقراء، وذلك في سبيل تعزيز التنمية الاقتصادية وإتاحة فرص أكثر أمام الدفع بمسيرة الحرية الاقتصادية وغيرها من الحريات.
وعلى الرغم من أن تجارب الحياة التي مررت بها في القارات الخمس جعلتني متبرما من الشوفينية الثقافية الغربية وعلمتني الإعجاب بالطرق المتنوعة التي تسلكها المجتمعات المختلفة حاليا في اتجاه الحداثة والتنمية، فإنني أنظر بنظرة جادة إلى العقبات الثقافية الخاصة التي تواجهها التنمية الاقتصادية في العالم العربي (كاسبر 2005أ). فإذا أدت “الصحوة” الحالية إلى “النهضة العربية” التي آن أوانها، فإن أبواب تفسير القواعد الاقتصادية والمدنية الأساسية ينبغ أن تفتح على مصاريعها مرة أخرى! ولا شك في أن من يدرس التاريخ العربي يعلم أن قرون الإسلام الأولى شهدت الانفتاح الواسع للمؤسسات والدراسات العلمية والتكنولوجية والآراء القانونية والتوجهات السياسية على الإبداع والجدل التفسيري. وكان أن ازدهرت الحضارة الإسلامية وألهمت الآخرين بتقليدها، وكان من هؤلاء: أوروبا المتخلفة. ثم فقد العالم العربي ريادته الثقافية والاقتصادية بإغلاق باب (الاجتهاد) بعنف (بيركي 2003 ص219-223). إن إعادة فتح (باب الاجتهاد) في عصر العولمة وشبكة الانترنت لن تقتصر مضامينها على إعادة تفحص مؤسسات الأمم ونصوصها القانونية فحسب، وإنما ستؤدي إلى إعادة تقييم أكثر شمولا لكيفية تنسيق النشاطات البشرية أساسا، وما يمكن التسامح معه، وكيفية تحديث العقائد التقليدية. إنها مهمة شاقة، ولكنها تحمل معها وعودا عظيمة للأجيال القادمة.
…
قبل عقدين من الزمان حاولت أن أنقل أفكاري، وأفكار غيري، إلى طلبة الدراسات العليا في مقرر التنمية الاقتصادية، والذين كان الكثير منهم رجالا ونساء ناضجين خبروا بأنفسهم آلية العمل في دول العالم الثالث، فقلبت صفحات أفضل ثلاثين كتابا لتعليم الاقتصاد في الولايات المتحدة وبريطانيا، وكانت جميعها، باستثناء واحد منها جدير بالثناء، لا تقدم تعريفات واقعية نافعة للمفاهيم الاقتصادية الأساسية من أمثال: المستثمر الريادي (Entrepreneur)، أو التنافس (competition)، أو الابتكار (Innovation)، أو الربح (Profit)، أو الملكية الخاصة (private property)، أو حكم القانون (Rule of Law).2وإنما كانت ترتكز جميعها على افتراض نيوكلاسيكي بعيد تماما عن الواقع بادعاء حيازة “المعرفة الكاملة“، مما حفزني لكتابة محاضراتي الخاصة للمقررات التي كنت أقوم بتدريسها.
هذا الكتاب الذي بين يديك، عزيزي القارئ، نتيجة من نتائج هذا الجهد، فهو لا يكتفي بالتعامل مع الحرية (الاقتصادية) ومجرد التنمية (الاقتصادية)؛ وذلك لأن السياسة الاقتصادية ليست عملا ضيقا مجانيا، وإنما يتطلب تشربه بما يعتقد الناس صحته لا في مجال الرعاية الاقتصادية فحسب، وإنما يتضمن طموحات بشرية أساسية كالسلام والعدل والإنصاف والأمان. ولهذا ينبغي ان يتأسس الاقتصاد المؤسساتي أيضا على مثل الاعتبارات القياسية. ولقد وجدت بحكم خبرتي التدريسية الخاصة ان الجوانب القياسية من الاقتصاد السياسي تستهوي الشباب أكثر بكثير من النماذج الرياضية، والتي لا تُنتج غير صحة الافتراضات الموضوعة ابتداء.
إنني آمل بأن يكتشف القارئ العربي أيضا أن الشعب الحر الذي يمكنه أن يتمتع بثقة معقولة بالقوانين (المؤسسات) التي يمكن لأبنائه التعامل من خلالها، هو الشعب الذي يقوم بالملايين من الاكتشافات النافعة الصغيرة والكبيرة التي تصب في النمو الاقتصادي. ويبقى من المهم أن نذكر بأن القارئ قد يصل بقراءة بحثنا هذا إلى إدراك أن الحرية شرط حاسم لإنجاز الكرامة الإنسانية للجميع، وما دعاه مدونو الدستور الأمريكي على نحو بليغ: “السعي إلى السعادة
لتحميل النسخة الكاملة لكتاب الحرية الاقتصادية والتنمية اضغط هنا.
1 من المستحسن أن يرجع القارئ إلى السير المختصرة لمشاهير الاقتصاديين ممن سترد أسماؤهم في هذا الكتاب تاليا مع تاريخ ولادة ووفاة كل منهم، وذلك عبر الاستعانة بالموسوعة الموجزة للاقتصاد من إعداد د. هيندرسون (2008)، أو موقع ويكيبيديا.
2 الاستثناء كان كتاب (التبادل والإنتاج) من تأليف أ. ألكيان و دبليو. ر. آلين، والذي صدر في العام 1977. ومن حسن الحظ أن رفوف المكتبات تحتوي حاليا على كتاب (الاقتصاد للجامعات) من تأليف ألكيان وآلين و أ. هويل، والذي صدر في العام 2005.
اضغط هنا لتحميل نسخة بي دي إف من التقرير
مركز الدراسات المستقلة
سلسلة (قضية وتحليل)
الإصدار (67)
19 يناير 2006
وولفغانغ كاسبر
بروفيسور فخري للاقتصاد في جامعة نيو ساوث ويلز، وزميل أقدم في مركز الدراسات المستقلة.
الكاتب يقدم شكره إلى زوجته ريجين وإلى سو وينديباك لما واجهتاه من مشقة في التعامل مع مسودة سابقة لهذا البحث، كما يقدم شكره أيضا إلى هيلين هيوز ومانفريد شتريت لما أبدياه من الكثير من الاقتراحات المفيدة.
الكاتب مسؤول عن البحث وما يرد فيه بشكل كامل.
ملخص
* (الفساد آفة تهدد الاستقرار الاجتماعي والنمو الاقتصادي، كما إن إساءة استخدام السلطة السياسية للمنفعة الشخصية مجحف تماما بحق الشرفاء أو الفقراء). جاء ذلك في مبادرة جديدة لمنظمة الأمم المتحدة تحت عنوان (الاتحاد ضد الفساد)، والتي أصبحت قيد التطبيق في ديسمبر 2005.
* يقدم التقرير المنشور مؤخرا تحت عنوان (مؤشر تمييز الفساد) تقديرات ذات مصداقية لمستويات الفساد في 250 دولة. وهو يكشف اختلافات هائلة ما بين الدول في هذا المجال، حيث نجد ميلا أكبر للفساد في الدول الفقيرة بالمقارنة مع الدول المتقدمة الثرية. كما إن بعض الدول تمتلك معايير للنزاهة الحكومية تطورت مع مرور الوقت (بما في ذلك أستراليا ونيوزيلندا التي تأتي في مقدمة قائمة النزاهة)، بينما تراجعت دول أخرى عن مواقعها السابقة (كالولايات المتحدة الأمريكية واليابان والدول الكبرى في الاتحاد الأوروبي)، كما يشيع الكسب غير المشروع في معظم دول العالم الثالث والكثير من الدول الشيوعية سابقا، ونجد أن الفساد يخترق كل مفاصل الدول المجاورة لأستراليا (بما فيها اندونيسيا وبابوا نيو غينيا).
* الفساد يترسخ أكثر في الدول التي تعاني من الحماية غير الكافية لحقوق الملكية، والإفراط في تنظيم الأسواق، والدور الضعيف للقانون.
* الغنى بالموارد الطبيعية (النفط والغاز خصوصا) يعزز الفساد مما يؤدي إلى غياب الاستقرار السياسي، وربما يؤدي أيضا إلى الفشل الحكومي. وهذا من الأمور التي تقلق الغرب باعتباره سيظل معتمدا على استيراد المواد الأولية خلال المدة القادمة. كما يبين مؤشر تمييز الفساد أن التدخل العسكري الغربي لم يؤد، ومع الأسف، إلى إنشاء حكومات نزيهة في أفغانستان وتيمور الشرقية والعراق، وإنما أدى إلى العكس من ذلك.
* تميل المعونات الأجنبية إلى تعزيز الفساد. وهنالك محاولات تبذل لتحسين مصداقية المعونات الأجنبية، وهذه المحاولات مكلفة ولكنها تنتشر شيئا فشيئا، وذلك لأن تقديم المعونات إلى الأنظمة اللصوصية أدى، ببساطة، إلى الحط من أهمية المؤسسات الضرورية للنمو الاقتصادي، وإلى تقوية النخب الفاسدة.
* إن الطبقة الحاكمة من أصحاب الامتيازات تعتمد دائما على المشاعر الوطنية وعلى الاشتراكية للدفاع عن امتيازاتها ومحاربة الانفتاح والشفافية. واليوم تستمد الدعم من معارضي العولمة.
* كان الفساد مقبولا خلال مدة طويلة باعتباره أمرا مقضيا لا بد من التسليم به، ولكن الانتشار الحالي للأفكار الليبرالية، الغربية أصلا، أدى إلى تغيير هذا الموقف في الكثير من أنحاء العالم. ونجد اليوم تفاؤلا جديدا بإمكانية معالجة الكسب غير المشروع بين الطبقات الوسطى التي تظهر في الكثير من الدول؛ حيث تبين أن هذا الطريق هو الأمثل لتعزيز النمو الاقتصادي في دول يائسة من أمثال سنغافورا واستونيا، وبالتالي: للقضاء على الفقر
الفساد والعدل والازدهار
إذا أصيب (الأحسن) بالفساد، تحول إلى (الأسوأ). مثلا لاتيني
كلما كثرت القوانين، كثر معها اللصوص وقطاع الطرق. لاو تزي (القرن الرابع أو الثالث قبل الميلاد)
إن العبارات السابقة ترينا أن الفساد (إساءة استخدام السلطة السياسية لمكاسب شخصية) كان ولا يزال سببا في الإضرار بالناس العاديين شرقا وغربا منذ أمد سحيق. ولقد كان هنالك تقليد من القبول القدَري بأن “تزييت أيدي” المسؤولين ضروري لتحريك عجلات الحكومة، وكان القليل من (الكسب غير المشروع) تعبيرا عن حسن النية تجاه المسؤولين منخفضي الدخل أو شكلا مشروعا من أشكال التنافس. أضف إلى ذلك أن معظم الأديان سلّمت بوجود الفساد، ونجد ذلك مثلا في العديد من فقرات التلمود والكتاب المقدس، حيث نقرأ في سفر التكوين (6، 12): “ونظر الرب إلى الأرض فإذا هي قد فسدت؛ إذ كان كل بشر من لحم ودم قد أفسد طريقه على الأرض”.
أما في عصرنا هذا فتتعاظم النظرة إلى الفساد باعتباره انتهاكا للفكرة القائلة بأن البشر يولدون جميعا وهم متساوون في حق السعي إلى السعادة بكافة السبل المشروعة المتاحة لهم. لقد حازت هذه الفكرة الفردانية على القبول الشعبي أساسا إبان عصر التنوير في الغرب، وكان لها آثار في تحديد الدور الذي يلعبه الحاكم والمحكوم. ونجد لهذه الفكرة نصا صريحا وواضحا، على سبيل المثال، في إعلان بنسلفانيا للحقوق (1776)، وهو بيان رائد جاء فيه: “الشعب مصدر السلطات؛ ولهذا فإن جميع المسؤولين الحكوميين، سواء أكانوا تابعين للسلطة التشريعية أو التنفيذية، يعتبرون أمناء وخدما للشعب، ويتحملون المسؤولية أمامه في كل حين”. وبتعبير آخر، فإن المواطنين هم المشرفون، أما المسؤولون الحكوميون فليسوا إلا وكلاء للمواطنين يفترض فيهم العمل بنزاهة. وقد بدأت هذه الروحية بالانتشار في أنحاء العالم بعد الحرب العالمية الثانية، ولكنها كانت طموحا أكثر من كونها واقعا عمليا.
لقد خاض فلاسفة القرن الثامن عشر، من أمثال آدم سميث، صراعا كبيرا في عصرهم عندما اعتبروا الفساد أمرا سيئا من الناحية الأخلاقية، واليوم نجد تعاليمهم وهي تنتشر في أنحاء العالم لتعزز تفاؤلا جديدا بإمكانية القضاء على الكسب غير المشروع. وقد قامت منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) بحثّ الحكومات الأعضاء فيها على اعتبار تقديم الرشى إلى المسؤولين الأجانب والشركات الأجنبية جنحة جنائية. وفي نهاية العام 2005 أصبحت بنود معاهدة الأمم المتحدة ضد الفساد قيد التطبيق، والتي تهدف إلى وضع معوقات أكثر أمام عمليات غسيل الأموال وتسهيل استعادة الأموال المسروقة. ولكننا إذا نظرنا إلى السجل التاريخي لمعاهدات الأمم المتحدة فلا يمكننا أن نتيقن من تبني الدول الفقيرة للمعايير الممتازة لهذه المعاهدة. وقد احتج المصدرون من دول منظمة (OECD) أحيانا بأن ذلك يضعهم في الجهة الخاسرة عند التنافس مع جهات محلية فاسدة، ولكن بعض دول منظمة (OECD) أصبحت تعتبر التعامل الفاسد لمواطنيها جنحة يعاقب عليها القانون، وذلك لأنها لاحظت بأن الفساد يؤدي إلى امتيازات غير عادلة تحوزها النخب والصناعات ذات النفوذ، مما يعود بالخسارة المجحفة بحق باقي المواطنين كافة. كما يعد الفساد عقبة بوجه التنافس الأصيل عبر السعر والنوعية، وهكذا تمتد آثاره إلى النمو الاقتصادي.
إن من يتسامح مع الفساد، ومن يدعو إليه، ينتقص من أهمية المؤسسات التي تعتبر شرطا أساسيا للنمو الاقتصادي، وذلك يؤدي إلى إدامة الفقر والظلم والبؤس. كما إن المتنافسين الذين يعتمدون على الفساد في الارتقاء بأعمالهم إنما يرتكبون خيانة بحق الشروط الأساسية لاقتصاد السوق، وذلك لأن التقسيم الحديث للعمل يعتمد على استثمار ما يعرفه الناس، وليس على من يدفع الرشوة الأكبر. والثروة تتكون على أساس المعرفة التكنولوجية والتجارية وعلى تواصلها الفعال مع إشارات السوق التي توجه التخصص الفعال والابتكار؛ وإذا أردنا لذلك أن يحدث، فيجب حينها أن تؤسس الأسواق على قاعدة الثقة بين الغرباء، والفساد يستهدف هذه النقطة بسمومه، فيجعل القرارات تتخذ على أساس (من يعرفه المرء) وليس (أفضل ما يعرفه المرء)، وفي قطاع الأعمال يؤدي الفساد إلى فرض ضوابط مرهقة تجعل الأسواق تبث إشارات بنشاط أقل كفاءة.
إن التجربة التنموية خلال نصف قرن تظهر لنا أن النمو الاقتصادي الضعيف لا ينتج عن نقص الثروات الطبيعية أو رأس المال أو غير ذلك من الموارد. وإنما تشترك كافة الاقتصادات التي فشلت في تحقيق النمو بأنها تمتلك قواعد ضعيفة لتنسيق الحياة الاجتماعية والاقتصادية (المؤسسات)، والتي تقف عائقا بوجه الادخار والاستثمار واستكشاف الموارد وغيرها من الجهود الريادية لتحريك القوى الإنتاجية. وينقل عن عميد الاقتصاد التنموي، الراحل لورد بيتر باور، أنه قال بوضوح: “الأداء الاقتصادي يعتمد على العوامل الشخصية والثقافية والسياسية، وعلى مواهب الناس ومواقفهم ومحفزاتهم والمؤسسات الاجتماعية والسياسية”. وتتأتى هذه الأهمية العالية للمؤسسات من أن عملية النمو تتطلب تنسيق جهود العديد من الأشخاص ذوي المعارف الخاصة، والذين يتحملون تكاليف التعامل ويتجشمون عناء المخاطرة في استكشاف طرق جديدة أفضل لأداء المهام. ولا حاجة هنا للتأكيد على أن النمو الاقتصادي قد أدى إلى التخلص من العديد من الأمراض التقليدية التي ابتليت بها الإنسانية طويلا: كنسبة الوفيات الكبيرة لدى الأطفال، والأعمال الشاقة، وتكرار المجاعات، والأوبئة، وانتشار القذارة، والجهل، والإحساس الدائم بالضيق والضجر، والشيخوخة المبكرة وقصر العمر.
إن ما يهم بالنسبة للنمو الاقتصادي ليس نوعية المؤسسات فحسب، وإنما مستوى الفعالية والإنصاف في تطبيقها وفرضها. فمن القواعد ما يُفرض من ضمن المجتمع: حيث يتعرض الغشاش، مثلا، إلى تحاشي الناس له تلقائيا وخسارته سمعته، والكاذب يتعرض للتوبيخ، وهكذا دواليك؛ ومن القواعد ما يُصمم ويُفرض بواسطة فعل سياسي من قمة الهرم: حيث تقوم الحكومة بإصدار تشريعات تحمي الأنفس والملكية الخاصة، وتشكل منظومة قضائية وقوة شرطة لفرض هذه القواعد؛ وعندما تؤدي بعض النشاطات إلى التسبب بالأذى للآخرين، فإنها تصبح خاضعة للترخيص الحكومي، وهكذا دواليك. إن هذه الوكالات تحصل على سلطات احتكارية لممارسة الإجبار الشرعي، ومن الضروري لتحقيق العدل والازدهار أن تُطبّق هذه السلطات دون ترهيب أو ترغيب، ودون أن يعمد وكلاء الحكومة إلى استغلال هذه السلطات لتحقيق منافع شخصية.
إن المجتمعات التي تحقق التنسيق غالبا بواسطة قواعد داخلية في المجتمع وعبر الفرض التلقائي، وبالتالي فهي لا تعتمد إلا بشكل محدود على القواعد الخارجية للحكومة، هي مجتمعات تميل إلى إبداء فعالية أكبر في تحقيق النمو الاقتصادي وتكافؤ الفرص، وذلك بالمقارنة مع مجتمعات تحكمها قبضة قوية وتخضع إلى قواعد إيعازية متعددة. ويصح هذا بالأخص عندما يستسلم وكلاء الحكومة إلى الإغراء البشري المشترك بالانتهازية التي تبحث عن المنفعة الذاتية فيقعون في فخ الفساد؛ ففي المحصلة، يتمتع وكلاء الحكومة دائما بالقدرة على استغلال نقص معرفة الناس بجميع التفاصيل والظروف المتعلقة بالشؤون التي يقومون عليها، ويقدمون على تعزيز مصالحهم الخاصة على حساب عامة الناس (وهذا هو الفساد).
ما أن يترسخ الفساد حتى تتغلغل تأثيراته وتتعمق جذوره؛ ومن أمثلة ذلك: المزاد العلني أو السري للعمولات والتعيينات في وظائف التعليم المدرسي أو الشرطة؛ ولقد شاهدت بنفسي في اندونيسيا كيف أن الآباء يشترون الوظائف لأبنائهم وبناتهم بعد أن يكملوا تعليمهم، وغالبا ما يكون ذلك بتضحيات مالية كبيرة، فما أن يتم الحصول على الوظيفة فإنها تكون “ملكا” لمن نجح في الفوز بها دون الحاجة إلى أن يضمن الاحتفاظ بها عبر الاستمرار في أداء العمل. وبالإضافة إلى ذلك، ينبغي على العائلة أن تستعيد “استثمارها” عبر بيع التفضيل في التعامل أو عبر جمع “المستحقات”، والتي تعد من عوائد الاستثمار في هذه الوظيفة. أما الدعوة إلى الترقية الوظيفية عبر الاختبارات والجدارة في الأداء فينظر إليها باعتبارها مبادرة لحرمان المسؤولين من عوائد شرعية ناتجة عن “استثمارات” سابقة. إن هذه الإصلاحات لا يمكن فرضها من الخارج، وإنما يجب التعامل معها عبر مصلحين محليين.
من الحقائق المعروفة أن الفساد الرسمي يرتبط بعلاقة متبادلة مع الحرية الاقتصادية، أي: أن العلاقة ما بين مستوى الموثوقية في صيانة المؤسسات لحقوق الملكية الخاصة وحرية استخدامها، وبين مستوى الاستقلالية والموثوقية في دور القانون في البلاد. إن إصدار الضوابط المرهقة المعقدة، والتي تلقي بتأثيراتها على الدخل الخاص والثروة بشكل دائم، يعتبر من أسباب تغلغل الكسب غير المشروع. وفي الحقيقة، لا يمكن الحيلولة دون الخروج باستنتاج مفاده أن بعض الضوابط تفرض أساسا لتمكين أرباب السلطة من الحصول على الرشى. وفي آراء الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، أمارتيا سين، والذي يحق في اعتباره حدوث التنمية الاقتصادية في الدول الفقيرة نوعا من أنواع التحرير، نجد أنه يرى أن إلغاء الضوابط من جانب واحد في الدول النامية يبرر ما ينتج عنه من انحسار للفساد، وذلك بغض النظر عما إذا كان يؤدي إلى فوائد أخرى. كما إن الحكومة النزيهة تساهم أيضا في رفع مستوى الثقة ما بين الناس.
خلال حقبة طويلة من القرن العشرين لم يكن هنالك فهم في صفوف المفكرين وجهات التخطيط للدور المحوري للمؤسسات كما عرّفه آدم سميث. ولم يكن يتبع المدرسة الاقتصادية النمساوية المؤسساتية غير أقلية من الاقتصاديين من أمثال بيتر باور. ولكن المقاربة التطورية المؤسساتية بدأت في ثمانينيات القرن العشرين باتخاذ موطئ قدم لها وكان لها أثر كبير على التخطيط والإصلاح. ومؤخرا نجد أن حتى بعض المنظمات العالمية قد بدأت في الاهتمام جديا بالمؤسسات وتطبيقها بنزاهة، ولهذا ركزت نسخة العام 2005 من تقرير صندوق النقد الدولي المعنون (المشهد الاقتصادي الدولي) على “بناء المؤسسات” (الفصل الثالث) بما نصه: “ارتفاع النمو يعتمد على… حقوق ملكية أمتن، وفساد أقل، وأداء حكومي أفضل”. وهذا ينبغي أن يكون له تأثيرات مهمة على السياسة، ومن أمثلة ذلك: كيف يمكن للمعونات الأجنبية أن تصل إلى مستحقيها بوجود مؤسسات ضعيفة؟
ولا مانع من التذكير هنا بنقطة أساسية، وهي: إن اختلاف مواقف الناس من الفساد والحرية الاقتصادية ينشأ من فجوة أساسية تفصل ما بين وجهات النظر؛ فوجهة النظر الغربية التي تعتبر الأفراد مالكين ومصالحهم ذات أهمية عليا في الأداء الحكومي إنما تتعارض مع وجهة نظر النخب السياسية في معظم المجتمعات التقليدية غير الغربية. فهذه النخب تعتبر نفسها هي المالكة وأن “شعوبها” موارد متاحة للاستغلال في سبيل تعزيز السلطة والثروة. أما الآن فالعولمة تنشر وجهة النظر الفردانية، وشعوب العالم توجه هجماتها إلى المصالح الأنانية للنخب القوية باعتبارها فسادا، كما أن صوتها لا يتعرض للاضطهاد كما كان يحدث في السابق.
قياس الفساد ومقارنته
يستطيع العلماء دائما أن يتعلموا الكثير، وأن يقدموا نصائح أفضل، عندما تكون الظاهرة التي ينظرون لها قابلة للتكميم؛ وينطبق ذلك على العلاقة التي تربط ما بين النمو الاقتصادي والحرية الاقتصادية والفساد.
إن قياس إجمالي الدخل الوطني والناتج الوطني (GDP/GNP) يمكن تأسيسه على منهجية متينة ومعايير مقبولة تم التوافق عليها في المنظمات الدولية عبر عقود طويلة. كما إن المقارنة بين دول العالم بحسب دخل الفرد تستند إلى أسعار الصرف أو تقديرات القوة الشرائية، مما يعكس الواقع بشكل أكثر مصداقية في معظم الحالات. ولا شك في أن هنالك هامشا من الخطأ يعتري البيانات الدولية، ولكن ذلك لا يمنع من تمتعها بالمتانة والقبول الواسع.
أما تحديد مستوى المؤسسات التي تستند إليها الحرية الاقتصادية فهي مهمة أصعب من ناحية القياس والمقارنة على المستوى الدولي، وذلك لأنه لا يمكن الحيلولة دون تضمنها لتقييمات ذاتية واعتمادها على نماذج صغيرة. وفي ثمانينيات القرن العشرين توصل عدد أكبر من الاقتصاديين إلى إدراك الأهمية العظيمة لمؤسسات الحرية الاقتصادية، مما أدى إلى البدء بعدة جهود لتقدير مستوى حقوق الملكية والأداء الحكومي، وحرية العمل، وأسواق رأس المال والمنتجات ومدى انفتاحها على التنافس العالمي. ومنذ العام 1986، قام مركز فريزر (Fraser Institute) الكندي بتنسيق جهد عالمي ضخم لتطوير منهجية متفق عليها وجمع المعلومات اللازمة حول معايير الحرية الاقتصادية. وقد لاقت البيانات المجموعة قبولا واسعا وقدمت أفكارا قيمة تدعم السوق الحر والخيار الشخصي. وإلى جانب ذلك، كان هنالك جهد مشابه يقوم به مركز هيريتيج (Heritage Foundation) الأمريكي بالتعاون مع صحيفة وول ستريت جورنال، وعلى الرغم من اختلاف المنهجية المتبعة فإن النتائج التي تمخضت عنهما هاتان الدراستان تروي القصة نفسها: الحرية الاقتصادية تلائم النمو والمستوى المعيشي المرتفع.
إن درجة الفساد في فرض القواعد لم تتلق الاهتمام نفسه خلال مدة طويلة؛ ثم ملئت هذه الفجوة خلال العقد الماضي بواسطة مشروع للتقدير السنوي لمستويات التعامل غير النزيه في مجال السياسة والإدارة، وهو ما أطلق عليه: مؤشر تمييز الفساد (Corruption Perceptions Index: CorrPI). ويتم احتساب هذا المؤشر في جامعة باسو الألمانية تحت إشراف البروفيسور يوهان غراف لامبسدورف، وذلك بالتعاون مع منظمة الشفافية الدولية، وهي مركز أبحاث يقوم سنويا بنشر (تقرير الفساد العالمي). وهذا المؤشر، جنبا إلى جنب مع التحليلات ودراسات الحالات الواردة في (تقرير الفساد العالمي)، يهدف إلى تقوية عزيمة شريحة الناخبين وما لها من وكلاء على المستوى السياسي والقضائي والتنفيذي على محاربة الفساد.
أصبح هذا المؤشر يتضمن في العام 2005 بيانات 159 دولة، وذلك على الرغم من أنه يعتمد على قاعدة بيانية أكثر اختلافا من ناحية البيانات الرئيسية؛ ففي عدد كبير من الدول، يرجع المؤشر إلى بيانات تعود إلى ثمانينيات القرن العشرين، ولهذا يمكننا تقفي أثر بعض التوجهات بعيدة المدى بفضل هذه البيانات، على أن لا ننسى حدوث بعض التغيرات في شمول المعلومات ونوعيتها عبر الزمن.
حالات الفساد حول العالم
إن تقرير مؤشر تمييز الفساد للعام 2005 الذي نشر في أكتوبر الماضي يوفر لجهات التخطيط العديد من الأفكار المفيدة؛ إذ يقدم لها مادة كمية تدعم الاعتبارات التي وردت في مقدمة التقرير.
وفي الشكل المدرج أدناه (يرد في نهاية الدراسة) يورد التقرير تقديرات المؤشر للعام 2005 بالمقارنة مع متوسطات المدة (1980-1985). وبالإضافة إلى ذلك يحتوي الشكل على تقديرات بعض الدول للعام 2005 ممن لا تتوفر حولها أية بيانات على المدى البعيد. إن المرتبة العالية في الشكل تعكس تطبيق أفضل معايير النزاهة في الإدارة الحكومية، والعكس بالعكس. كما ينبغي النظر إلى المقارنات الزمنية للفساد بشكل تقريبي بسبب تغيرات المنهجية المتبعة وطبيعتها الذاتية. وعلى الرغم من جميع ذلك، فإن المعلومات الواردة تفيدنا بما يلي:
* الانطباع الأهم الذي يتركه التقرير يتمثل في أن الدول الثرية المتقدمة تحرز مرتبة أعلى عموما في هذا المؤشر بالمقارنة مع الدول الأقل تقدما. ولا يمكن إرجاع سبب ذلك أبدا إلى العلاقة ما بين معدلات الدخل ومعدلات الفساد، ولكن يبدو من المقبول الاعتقاد بوجود تفاعل غير مباشر في ما بينهما: حيث تفتقر الدول عندما يشيع الفساد بين حاكميها، والمستوى المعيشي البائس يؤدي إلى الفساد.
* ومع ذلك، فقد تغيرت معايير النزاهة في الإدارة الحكومية كثيرا خلال العقود القليلة الماضية في الدول الغنية والفقيرة على حد سواء. ومنها ما تحسن منذ أوائل الثمانينيات، ومنها ما لا يزال منحدرا (في معدلات الفساد). وهكذا، يتبين من الشكل أن الفساد ظل يرتفع في الدول ذات الإدارة الحكومية الجيدة نسبيا (المدرجة على يسار الشكل) من أمثال الولايات المتحدة وفرنسا واليابان وجنوب أفريقيا وماليزيا، وذلك بالإضافة إلى دول تعرف تقليديا بأنها أكثر فسادا بكثير (المدرجة على يمين الشكل) من أمثال الصين وروسيا وتركيا وكينيا. أما الدول الأخرى فقد تمكنت من تحسين معدلاتها من أمثال أستراليا ونيوزيلندا وفنلندا وتشيلي وهنغاريا واندونيسيا.
* كانت أستراليا تعتبر من أقل الدول فسادا (المرتبة الثامنة في العام 2005)، وقد تحسن أداؤها منذ أوائل الثمانينات الماضية. كما إن نيوزيلندا تحسن أداؤها بشكل أكبر في العام 2005 (تحتل المرتبة الثانية بعد فنلندا) ولا يزال أداؤها يتطور بمرور الوقت.
* تحسن بشكل عام أداء الدول الانغلوساكسونية ودول شمال أوروبا (لا تظهر جميعها في الشكل) التي تحتل مرتبة متقدمة أصلا، وذلك باستثناء الولايات المتحدة.
* يبدو أن هنالك بعض الدول الأوروبية التي تنجرف باتجاه مشكلات جدية، كفرنسا وألمانيا، حيث عانت مطولا من الركود الاقتصادي والاستياء السياسي، وظلت تراوح مكانها في مراتب متوسطة على سلم معدلات الفساد.
* مشروع الاتحاد الأوروبي لربط ثقافات الحكم مع معايير النزاهة شديدة الاختلاف يواجه فجوات واسعة، وأحيانا: متوسعة، في مستوى الإدارة الحكومية. إن المعايير المتفاوتة للفساد تعسر مسعى الاتحاد الأوروبي نحو تساوي الدخل؛ فهذا المسعى ربما يحتاج إلى تحويل مبالغ مالية كبيرة ومستمرة من الدول الغنية المتمتعة بمستوى منخفض من الفساد إلى دول فقيرة يسودها الفساد. إن تفاوت مستويات الفساد بين الدول، واختلاف سرعة مستلمي التمويل في استغلال قواعد الاتحاد الأوروبي من قبل مختلف الدول، قد أدى فعلا إلى لعب دور كبير في الرفض الشعبي المتزايد للحركة المتنامية في توسع الاتحاد الأوروبي وتقارب دوله.
* يلاحظ الانخفاض الشديد في معايير النزاهة لدى الدول التي حكمتها الشيوعية؛ فمنذ انهيار الشيوعية وهذه الدول تتصارع مع الفساد المستشري بدرجات مختلفة: ففي هنغاريا مثال ناجح يلفت الانتباه، كما إن استونيا وسلوفينيا وليتوانيا تتبوأ مراتب ضمن الدول المتقدمة الأقل فسادا؛ أما معايير النزاهة في روسيا وبولندا والتشيك فقد تدهورت على نحو سيئ. وربما يعكس هذا، جزئيا على الأقل، شفافية أكبر في الجهاز الحكومي؛ ولكن، حتى وإن اعتبرنا جزءا من التدهور ناتجا عن تنامي الإدراك لهذه المشكلة، تدل هذه الحالات على أن المنظومات الإجبارية المركزية لا تزال حية ترزق، أو أن الفراغ الذي تركه غياب التخطيط المركزي لم تملأه المؤسسات وآليات الفرض التي تدعم قيام اقتصاد سوق فعال ومجتمع حر. وقد يتبين أن بناء النظام الفعال أكثر صعوبة من إلغاء تأميم الملكية وسياسة الضوابط الشاملة.
* تعاني الدول النامية عموما من معدلات عالية للفساد، باستثناء عدد من الأمثلة المميزة كالدول الثرية من أمثال سنغافورا وهونغ كونغ وتايوان. كما إن كوريا الجنوبية التي كانت تعد يوما من أكثر دول العالم فسادا أصبحت اليوم تتجه بوضوح نحو مرتبة عليا في مؤشر تمييز الفساد وتعتبر ذلك هدفا من أهداف سياساتها.
الفساد والتخلف التنموي
إن ما يزال سائدا في الإدارة الحكومية في العالم الثالث من معايير متدنية للنزاهة يقدم تفسيرا لاستعصاء القضاء على الفقر؛ حيث لا يبدو أن هذا العالم قد تفهم على نحو واسع أخلاقيات التحكم بالفساد التي كان كتاب التنوير الأوروبي يشددون عليها في القرن الثامن عشر. ويرى فرانسيس فوكوياما في تقديمه لنسخة العام الماضي من (تقرير الفساد العالمي) أن الممارسات الفاسدة لا تزال متغلغلة بعمق في أوصال الثقافة والتقاليد المحلية، بل إنها تشكل جوهر المنظومة السياسية، وأن من شأن الإصلاحات أن تؤدي إلى تهديد مصالح النخب التي تتمتع بالمال والسلطة، كما يلاحظ بأن “حتى المؤسسات ذات التصميم الأفضل لن تتمكن من الوقوف بوجه الفساد إذا كانت الأعراف الاجتماعية تتقبل تعاطي الرشوة، أو إذا كانت نخب البلاد تعتبر السياسة حلبة للإثراء”. ويضيف فوكوياما أنه حتى عندما يأتي طرف متنور أجنبي ليشير إلى الحاجة الملحة لمحاربة الفساد فإن جهوده ستتوقف على يد السياسيين المحليين في نهاية المطاف؛ وهي نقطة إذا تم الاكتفاء بها فستؤدي إلى الاستنتاج بأن الفقر في عصر العولمة ينتج عن قرار مسبق؛ ولكن مما يؤسف له أن هذا القرار تتخذه النخب السياسية ومن يحابيها في السلطة، وهكذا يستمر الفقر مخيما على الجماهير المسحوقة!
لقد ظهر في بعض الدول الفقيرة قادة سياسيون منحوا أولوية كبرى للنمو الاقتصادي الإجمالي ووضعوا نصب أعينهم أن تحقيق الازدهار للجميع يمثل مصدرا للشرعية والقوة، واستمدوا الإلهام أحيانا من تحديات وصراعات عالمية، كما حصل في شرق آسيا التي هيمن عليها شبح الصين الشيوعية، ومن اهتمام أصيل بانتشال الناس من الفقر. وأدت الرغبة في تحقيق النمو الاقتصادي إلى تحفيز جهات التخطيط على البدء بتطبيق قواعد اقتصاد حر منفتح وعلى الاستثمار في التعليم، ومع ظهور طبقة وسطى ثابتة ماديا أصبحت الحرية السياسية ينظر إليها باعتبارها مرغوبة بشدة وبدأت الأجيال الغنية حديثا بالوقوف في وجه الفساد التقليدي. ومع تنامي الاقتصاد واتساع القاعدة الضريبية، أصبحت الحكومات قادرة على توفير رواتب أفضل لجهات الخدمة المدنية، وهذا أدى أيضا إلى المساعدة في الحد من الفساد، ولم يقتصر ذلك على سنغافورا وهونغ كونغ وتايوان وكوريا، حيث امتد نوعا ما إلى تشيلي وموريشيوس وبوتسوانا، وهي دول تتحرك بالتدريج من العالم الثالث إلى العالم الأول. وقد بدأت هذه العملية غالبا بسبب إجراءات قام بها حاكمون مستبدون من أمثال: لي كوان يو في سنغافورا، وبارك تشونغ هي في كوريا، وأوغستو بينوشيت في تشيلي، وأدت هذه الإجراءات إلى نمو اقتصادي مستدام، أي: التحسن التدريجي للمؤسسات السياسية والاقتصادية والمدنية وتطبيقها دون فساد. وكما حصل سابقا في التاريخ الأوروبي، فإن الإصلاحات الاقتصادية التي بادر بها الحاكمون المستبدون أدت إلى نتائج جانبية بعيدة المدى في مجال الحرية السياسية.
إن التحدي الكبير الذي نواجهه حاليا يتمثل في إقناع النخب التقليدية والحديثة في الدول النامية الأخرى بأن النمو الاقتصادي لا يتطلب الإصلاح المؤسساتي فحسب (صياغة القواعد التي تعزز الحرية الاقتصادية)، وإنما يحتاج أيضا إلى حملة حاسمة على الفساد (التطبيق الشفاف المنصف لهذه القواعد). وليس هذا بالأمر الهين لأن الانطلاق بالنمو الاقتصادي يؤدي غالبا إلى ظهور فرص جديدة للتعاملات الفاسدة، كما تتكاثر البيروقراطية وتخلق ضوابط جديدة توفر إغراءات أكثر بكثير. أضف إلى ذلك أن الرشى تصبح أكثر تكلفة؛ فبينما كان الثمن التقليدي لخدمات الموظف الرسمي يتمثل في جهاز راديو أو ما يقترب من ثمنه، أصبح هذا الموظف يطالب بعطلة في لندن أو بفيلا في سيدني. وفي هذه الجبهة الحاسمة، يقوم (تقرير الفساد العالمي) و(مؤشر تمييز الفساد) بتجهيز الأجيال الشابة من محاربي الفساد في الاقتصادات الانتقالية بما يلزم من أفكار ومعايير قيمة.
إن أفريقيا تعاني من مستوى مرتفع من الفساد في الإدارة الحكومية، وقد كان التخلف التنموي الأفريقي في هذا العام محل تركيز جهود جبارة متجددة لبذل المزيد من المساعدات الرسمية وإطفاء الديون المستحقة. وليس من المفاجئ أن نجد الحكومات التي تشربت الفساد في الاقتصادات الراكدة لا تبدي ميلا قويا إلى دفع ديونها، كما إن الدول الأفريقية الفقيرة المثقلة بالديون، بالإضافة إلى فيتنام وبورما، لا تكف عن إحراز المراتب الأسوأ في سلم الفساد، وعندما يقوم دافع الضرائب في الدول الغنية بإعفاء الدول الفقيرة من الديون أو فوائد الديون التي يقدمها البنك الدولي وغيره من الوكالات الرسمية فإن ذلك يؤدي إلى “ضرر معنوي” ويشكل دعوة إلى التصرف بشكل غير مسؤول، كما يشجع على تفاقم الفساد وترسيخه، وعلى الاستدانة مجددا لدعم المستوى المعيشي المبذر للنخب، وذلك في ظل أنظمة تحرم مواطنيها من الحرية الاقتصادية غالبا.
إن الاقتصادات ذات المنظومات السياسية والقضائية والإدارية الفاسدة تبقى دون شك قادرة على التنافس العالمي في أسواق التصدير وفي اجتذاب رأس المال المتحرك عالميا والمعرفة العملية والاستثمارات. وعندما يتم تحصيل الرشى فإن رأس المال المتحرك عالميا والاستثمارات تبقى هنالك ما دامت عوامل الإنتاج المحلية، بما فيها الإدارة الحكومية، تتحمل تكاليف الفساد. والفساد يعني أن العمال وأصحاب الأراضي المحليين ينبغي عليهم أن يتقبلوا أجورا أقل مما قد يحصلون عليه في غياب الفساد، وهكذا تظل الأجور المحلية منخفضة، وعلى الرغم من أن الأجور تميل إلى الارتفاع في المصانع المتوجهة للتصدير بالمقارنة مع الصناعة المحلية، فإن مناهضي العولمة قادرون مع ذلك على طرح أمثلة عن أجور منخفضة وراكدة، وهكذا يمكن تشويه سمعة الشركات العالمية والعولمة، وتبقى، بالإضافة لذلك، المحصلة الضريبية الرسمية منخفضة، مما يؤدي إلى تقليص الخدمات الحكومية إلى الحد الأدنى وعدم إنشاء البنى التحتية؛ كما إن الموظفين الحكوميين يتلقون أجورا منخفضة، مما يؤدي إلى التشجيع على الفساد. إن الجانب الحقيقي (الفساد) لا يمكن ملاحظته بسهولة، ومن الأسلم سياسيا في جميع الأحوال أن توجه سهام اللوم إلى الأجانب والرأسماليين.
من المعتقد بأن معدلات الفساد في الصين والهند قد تفاقمت بشدة منذ أوائل الثمانينات الماضية (الشكل)، ولكنها تحسنت شيئا ما بعد الانفتاح المتنامي لاقتصاد كلا البلدين. ويعتقد بأن الصين شهدت صعودا في ممارسات الفساد منذ بداية الإصلاحات الاقتصادية في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، ولكن ذلك قد يكون انعكاسا لتحسن الشفافية ولإدراك الشعب الصيني بأن الفساد شر يمكن محاربته. ومع ذلك، فإن العمال وجباة الضرائب في كلا البلدين سيتمكنون من تحصيل حصة أكبر من الدخل بسبب جهودهم في حال تفعيل الضوابط الفعالة في مكافحة الفساد وفرضها بشكل منسجم ومقنع. وإذا لم يتم تخفيف عبء الفساد فمن المرجح أن يؤدي ذلك إلى اتهامات متبادلة بين السياسيين، وإبطاء النمو، وصراعات اجتماعية مع تزايد النفوذ الذي تكتسبه الطبقة الوسطى في كلا البلدين.
وترتفع مستويات الفساد في الدول المحيطة بأستراليا أيضا؛ إذ يضع مؤشر تمييز الفساد علامة اهتمام عاجل بالوضع في اندونيسيا وتيمور الشرقية وبابوا نيو غينيا والفيليبين ولاوس وسريلانكا وتايلاند وساموا وفيجي (الشكل). أما في أفريقيا فقد تشربت بالفساد إلى مستوى شديد، مما قد يؤدي إلى فشل الدولة، وهي ظاهرة أصبحت في يومنا هذا تتصدر اهتمام العالم، ولهذا فإن من يتبرعون بالمعونات يحاولون التأكيد على مراعاة شروطهم قبل تقديم المعونات للدول الفاشلة، ولكن دون جدوى. إن الأنظمة الفاسدة تفشل شعبها فيضطر إلى التحول إلى مصدر للهجرة الجماعية غير الشرعية بمعدلات لا يمكن للديمقراطيات الغربية أن تتحملها دون الإضرار بمواطنيها الأصليين؛ بل إن الشباب الفقير المحبط يتحول إلى جنود لدى الإرهاب والإجرام والاضطرابات السياسية الداخلية، وهذا ما نشاهد في أفريقيا مرورا بالشرق الأوسط وصولا إلى جزر سليمان في المحيط الهادئ.
كما تتصاعد إشارة تحذير سياسية أخرى من بيانات الفساد في الدول الغنية بالنفط والغاز، حيث تعاني السعودية وإيران والجزائر وليبيا وروسيا وأذربيجان واندونيسيا ونيجيريا من مستويات مفرطة للفساد (الشكل)، ويبدو من البيانات السنوية للفساد أن معايير النزاهة انحدرت في الأعوام القليلة الماضية. وفي فنزويلا، وهي من المصدرين الرئيسيين للنفط، ارتفع معدل الفساد بشكل ملحوظ في ظل نظام الرئيس تشافيز. وفي ماليزيا، وهي دولة ذات أداء أفضل في مكافحة الفساد، يبدو أنها سمحت لمعايير النزاهة بالانحدار في حقبة رئيس الوزراء مهاتير محمد. ومن الواضح أن الثروة النفطية والغازية تسمح للنخب الحاكمة بالتدخل أكثر في الاقتصاد وبالاستحواذ على حصة هائلة مما تحصل عليه البلاد من مردود هذه الموارد. كما إن معظم الدول الأولى في تصدير النفط والغاز لم تقم بتوزيع الدخل والثروة على نحو متساو، بل على العكس، وهذا يشير إلى وجود بذور اضطرابات اجتماعية وسياسية في المستقبل، مما يؤدي إلى إعاقة الإمدادات في مجال الطاقة. ومع ذلك، وكما تشير التجارب المؤسفة مع قادة هذه الأنظمة كآل سعود وماليزيا مهاتير وإيران آيات الله وفنزويلا تشافيز، فليس بإمكان الغرب أن يفعل إلا القليل بشكل مباشر لخفض مستوى الفساد في الأنظمة الغنية بالموارد.
إن بوسع القادة العنيدين هؤلاء أن يحصلوا بسهولة على الدعم الفكري والسياسي للبقاء على مواقفهم عبر المسرحيات التقليدية للسلطة الوطنية ومعارضة النظرة الغربية للانفتاح والأداء الحكومي الشفاف. لكن مقاومة ضغوط التنافس العالمي تضر بمجمل السكان ومن لا يتصل بدائرة المحسوبية، ومن المؤسف أن نجد بعض جماعات الضغط الداعية لإطفاء الديون والمعونات الرسمية والتجارة “العادلة” (وليست الحرة)، من أمثال منظمة أوكسفام (Oxfam) الخيرية البريطانية، وهي ترسل إشارات إلى هؤلاء القادة بأنهم قادرون على الاستمرار في نهجهم.
وهنالك ملاحظة أخرى أبرزتها بيانات الفساد للعام (2005)، وهي أن التدخل العسكري الغربي، كما حصل في أفغانستان وتيمور الشرقية والعراق (الشكل)، من الواضح أنه لا يؤدي إلى معايير مقبولة للنزاهة. والدليل الذي تطرحه جهود مكافحة الفساد وتحقيق النمو والقضاء على الفقر وإنجاز الاستقرار الاجتماعي نستنتج منه أن التدخل العسكري يتبعه بسهولة فشل اقتصادي واضطراب اجتماعي. كما إن الوكالات المكلفة بالتدخل تقع بسهولة في شرك ثقافات الفساد للدول الفاشلة، والحكومات العسكرية متشبعة بثقافة القيادة والسيطرة الهرمية، وتميل إلى الارتياب من التنافس غير المركزي والحرية الاقتصادية، وتفضل اللجوء السريع إلى النهج التدخلي، مما يؤدي إلى أضرار جانبية غير مقصودة تتمثل في تقوية الأسباب نفسها التي ينتج عنها ركود الاقتصاد واضطرابه.
يجب أن لا يكون هنالك في المستقبل أية محاولة للتدخل في الأنظمة الفاشلة دون وجود خطط واضحة حول كيفية تحرير المؤسسات الاقتصادية وضمان معايير غير فاسدة للإدارة الحكومية، وهي مهمة أصعب بكثير من تقديم الديون والسلع الرأسمالية أو بناء الكليات التكنولوجية، كما إنها أهم بكثير؛ فالدول الفاشلة تفتقر في الغالب إلى الخبرة والمهارات لتشغيل الإدارات والأجهزة القضائية غير الفاسدة، ولهذا يجب أن لا تكون هنالك محاولة لتطبيق سوى الشكل الأبسط والأكثر تواضعا من الإدارة الحكومية، ولكن مما يؤسف له أن موظفي منظمة الأمم المتحدة والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي ومعظم هيئات الإغاثة يميلون إلى الدفع باتجاه بنى إدارية طموحة لدول العالم الثالث، ولكن هذه البنى تتداعى تاليا بسبب الافتقار إلى كفاءات محلية متمكنة من الإدارة الحكومية عموما، والإدارة الحكومية النزيهة خصوصا، فالإدارات التي تطمح إلى الكمال محكوم عليها بالفشل دون شك، ومثال ذلك ما تم تطبيقه في بابوا نيو غينيا بعد استقلالها، وما حاولوا تطبيقه في تيمور الشرقية.
مؤازرة الفساد في الدول الفقيرة
هل ينبغي في المستقبل استثناء الأنظمة الفاسدة جميعها من المعونات الأجنبية؟ إن تقرير (كرم الألفية) الصادر حديثا يشير إلى زيادات كبيرة في المعونات الغربية الرسمية التي تتلقاها الدول الأفقر، والتي تكون الأكثر فسادا في الغالب. فالدول الأفريقية الواقعة جنوب الصحراء، والتي تستلم حاليا 80 مليار دولار سنويا كمعونات أجنبية، يتوقع أنها ستستلم 125 مليار دولار سنويا بحلول العام 2010، ولكن التريليون من الدولارات التي تدفقت إلى هذه الدول خلال نصف قرن مضى لم يكد يستفد منها أحد من الأفريقيين، بل إن معدلات الدخل قد انخفضت باستثناء القليل من الدول، وهنالك الكثير من الحالات الموثقة التي أدت فيها المعونات الغزيرة إلى خسارة هائلة، بينما تم التغاضي عن حلول أكثر بساطة وأقل تكلفة؛ ومن الأمثلة النموذجية على ذلك: الخدمات الطبية العامة في الدول الأشد فقرا، حيث ينفق مبلغ (50,000-60,000 دولار) على إنقاذ كل طفل، بينما تشير الدراسات إلى إمكانية تحقيق ذلك بإنفاق (10 دولارات) فقط، وهذا الفشل يمكن تفسيره بوجود الفساد في منظمات الإغاثة وفي الحكومات الأفريقية، وينجم عن ذلك أن الدخل يعاد توزيعه من الفقراء إلى النخب المهووسة بالسرقة، مما يؤدي إلى دوران حلقة (الفساد-الفقر). ولذلك فإن المعونات الأجنبية قد تتسبب بالضرر بدلا من النفع، وهذا ما عبر عنه بيتر باور بعبارة بليغة حين قال: “إن إعطاء الأموال للحاكم بسبب فقر رعاياه إنما يصب مباشرة في صالح سياسات الإفقار”، ويصل إلى نتيجة مفادها أن “من الواضح أن تقديم المعونات التنموية ليس ضروريا لإنقاذ المجتمعات الفقيرة من حلقة الفقر المتوحشة، بل إنه يؤدي بدلا من ذلك إلى إبقائهم في هذه الحالة”.
إن الحكومات التي تشكل المعونات الأجنبية جزءا كبيرا من ميزانياتها، كما هو الحال في دول جنوب الصحراء الأفريقية وجنوب المحيط الهادي، لا تحتاج إلى أن تبذل جهدا كبيرا في سبيل تحصيل العائدات الوطنية المحتملة من تعزيز النمو، ولا تهتم بطموحات المواطن العادي؛ فالمعونات تخلق بيئة لا تناسب المنادين بالديمقراطية.
إن أداء الدول الفقيرة المثقلة بالديون في أفريقيا يتناقض مع تجربة دول شرق آسيا، حيث لا تكاد المعونات الأجنبية المقدمة تساوي شيئا، وهنا تنبغي الإشارة إلى أن المواطن الذي يدفع الضرائب في الكثير من دول شرق آسيا ذات النمو السريع أصبح الآن يمتلك قدرا جيدا من السيطرة الديمقراطية.
لا شك في أن القائمين على إعداد مؤشر تمييز الفساد قد تساءلوا عما إذا كان يجب إيقاف المعونات الأجنبية للأنظمة الفاسدة، وكانت إجابتهم بأنه لا يمكن التخلي عن الدول الأشد فقرا، وأنه إذا ثبت بأن هذه الدولة أو تلك مصابة بالفساد، فإن ذلك ينبغي أن يكون إشارة للجهات المتبرعة بضرورة الاستثمار في مقاربات منهجية لمحاربة الفساد، وأن هذه الجهات يجب أن تهتم خصوصا بإشارات التحذير وتتأكد من القيام بالعمليات المناسبة للسيطرة على الوضع. وهي مهمة شاقة لجهات التبرع، ولا تحظى بالشعبية لدى مستلمي المعونات، كما جاء بوضوح في خطاب مايكل سومير (رئيس وزراء بابوا نيو غينيا) للأستراليين مؤخرا خلال مقابلة تلفزيونية. وهكذا يسهل استحضار الانتقادات التي تحذر من الاستعمار الجديد وتنادي بالخصوصية الثقافية، أما حين يتحدثون عن موثوقيتهم الكبيرة فلن يتطرقوا إلى هذه الخصوصية.
إن وكالات المعونات متعددة الأطراف لا تقدم لدافع الضرائب الذي يمولها دلائل ذات مصداقية متينة؛ وهي في الغالب تحسب “نجاحها” بمقدار ما تحصل عليه من ملايين الدولارات. وقد اشتكى جيفري ساكس (المستشار الاقتصادي للأمين العام السابق لمنظمة الأمم المتحدة كوفي عنان)، والذي كان يدعو إلى زيادات كبيرة في المعونات الأجنبية، من أن جزءا كبيرا جدا من المعونات المقدمة قد ذهب إلى جيوب المستشارين الأجانب. لكن الموثوقية تتضمن مراقبة إنفاق المعونات لضمان استخدامها بفعالية، وهذا يتطلب حتما الاستعانة المكثفة بخبراء أجانب في فرق عمل مشتركة من المسؤولين في الدول التي تقدم المعونات والدول التي تستلمها. وهذه العمليات المشتركة من شأنها أن تشكل مدارس للإدارة الفعالة الأمينة، فالهيئة التي أدارت عملية تقديم المعونات الأسترالية (بخبرات أسترالية) إلى ضحايا التسونامي في اندونيسيا تقدم نموذجا جديرا بالدراسة، وحتى بالاقتداء.
جوقة التهليل للفساد
إن القضاء على الفساد يعتبر أمرا حيويا لتحقيق الازدهار والاستقرار على الرغم من أنه لا يزال يفتقر إلى الشعبية، وعلى الرغم من تزايد الدلائل التي تشير إلى أن الكسب غير المشروع سرطان يمكن علاجه، وأن القرارات التجارية بنقل رأس المال والاستثمارات مبنية على تحليلات للواقع السياسي الخطر، وأن العديد من شباب العالم الثالث مهتاجون بحماس ضد السرقة، فإن ذلك لا يمنع من البعد عن تحقيق الانتصار في معركة الأفكار. وستدافع الطبقة المتنعمة بالامتيازات عن مواقعها وامتيازاتها المحصنة، وستحتج على انفتاح التجارة والاستثمار والأفكار، وستلهج ألسنتها بشجب العولمة. وما دامت المعركة مستمرة بين الفردانية والجماعية فإن جوقة التهليل للفساد ذات المصالح الشخصية يمكنها الاعتماد على أساس فكري؛ فالفاسدون قادرون على إخفاء تعاملاتهم بشكل طبيعي خلف دوافع نبيلة مزعومة حينما لا يكون هنالك إلا قلة من ذوي الثقافة العالية، ومع إخضاعهم لوسائل الإعلام لن تكون الحياة السياسية شفافة، وسيسهل عليهم الحصول على الأموال بسبب الثروة القادمة من الموارد الطبيعية أو المعونات الأجنبية الغزيرة. وعندما يواجه القادة باتهامات الفساد فإنهم يلجؤون إلى افتعال الشعور بالإهانة وتوجيه اللوم إلى جهات أجنبية: من استثمارات وإعلاميين ومراكز أبحاث؛ ففي الدول التي تتصف بغياب الحرية ومحدودية المستوى التعليمي يسهل على النخب الحاكمة أن تتفادى الانتقادات وتستمر في مقاومتها لدعوات التغيير.
إن المقارنات الدولية، كمؤشر تمييز الفساد، تقدم دليلا قيما وتجهز القادة السياسيين الشرفاء على الصعيد المحلي والخارجي بسلاح قوي في حلبة الصراع ضد سرطان الفساد.اضغط هنا لتحميل نسخة بي دي إف من التقرير
الانسجام
لاو تزو
اقضِ على الحاكم، وتخلص من تعاليمه، وسيكون الناس أفضل حالا بكثير.
من دون قانون أو إجبار سيعيش الناس في انسجام.
كل الأشياء تحتوي الين واليانغ، وهي تحقق الانسجام من خلال تفاعلها مع بعضها البعض.
كلما ازدادت المحظورات أصبح الناس أكثر فقرا.
كلما ازدادت القوانين ازداد اللصوص وقطاع الطرق.
لذلك قال أحد الحكام: ما دمت لا أفعل شيئا فسيتغير الناس من تلقاء أنفسهم، وما دمت أحب الهدوء فسيمضي الناس باستقامة من تلقاء أنفسهم، وما دمت لا أتبع غير طريق الخمول فسيشيع الثراء بين الناس من تلقاء أنفسهم.
يجوع الناس لأن من يحكمهم يأخذ الكثير جدا من محصولهم كضريبة؛ وهذا هو السبب الوحيد للمجاعات. كما إن الناس يصعب تنظيمهم لأن من يحكمهم يتدخل في شؤونهم؛ وهذا هو السبب الوحيد لهذه الصعوبة.
الحكومة مؤسسة تتبوأ مركز السلطة الحصرية «لفرض» قوانين محددة للأداء الاجتماعي في منطقة جغرافية معينة.
هل يحتاج البشر إلى مثل هذه المؤسسة؟ ولماذا؟ بما أن عقل الإنسان هو أداته الرئيسية للبقاء ووسيلته لاستحصال المعلومات من أجل توجيه تصرفاته فقد بات الشرط الرئيسي لوجوده متمثلا في حرية التفكير والتصرف وفقا لتقييماته العقلانية. وهذا لا يعني أن الإنسان يجب أن يعيش لوحده وأن أي جزيرة مهجورة هي البيئة المثلى التي تلائم حاجاته. إذ يمكن للبشر أن يحصلوا على فوائد جمة من التعامل مع بعضهم البعض، والبيئة الاجتماعية هي الطريق الأفضل للنجاح في البقاء، «ولكن ضمن شروط بعينها فحسب».
«إن المنفعتين العظيمتين التي يمكن أن نكسبهما من الوجود الاجتماعي هما: المعرفة والتجارة. فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يستطيع نشر وتوسيع مخزونه المعرفي من جيل إلى آخر، ومقدار المعرفة المتوفرة مسبقا للإنسان أكبر من مما يستطيع البدء في استحصاله خلال دورة حياته الخاصة به، وكل إنسان يحصل على فوائد لا حصر لها من المعرفة التي اكتشفها غيره. والفائدة العظيمة الثانية هي تقسيم العمل، والذي يمكّن الإنسان من تكريس جهوده في مجال محدد من مجالات العمل والتجارة مع غيره من المتخصصين في مجالات أخرى. إن هذا النوع من التعاون يمكّن كل المشتركين فيه من الحصول على قدر أكبر من المعرفة والمهارات والعائد الإنتاجي المتولد عن جهدهم وذلك بالمقارنة مع ما يمكنهم إنجازه لو توجب على كل واحد منهم أن ينتج كل ما يحتاجه في جزيرة مهجورة أو مزرعة يرعاها شخص واحد.
ولكن هذه المنافع ذاتها توضح وتحدد وتعرّف نمط الناس الذين تكون لهم قيمة ضمن بعضهم البعض، وكذلك نمط هذا المجتمع، وهم: الناس العقلانيون المنتجون المستقلون في مجتمع عقلاني منتج حر». (أخلاقيات الموضوعاني، فضيلة الأثرة).
أما المجتمع الذي يسلب من الفرد نتاج جهده، أو يقوم باستعباده، أو يحاول الحد من حرية عقله، أو يجبره على التصرف بخلاف ما تمليه عليه تقييماته العقلية الخاصة، أي: المجتمع الذي يشعل صراعا ما بين قوانينه وبين متطلبات الطبيعة البشرية، ليس مجتمعا بصريح العبارة، وإنما هو عصابة تجمعها قوانين إجرامية ضمن إطار مؤسساتي. إن مجتمعا كهذا يدمر كل قيم التعايش البشري، ولا يمكن إيجاد مبرر لتصرفاته، ولا يمثل مصدرا للمنفعة، وإنما الخطر الأكبر على بقاء الإنسان. والحياة على جزيرة مهجورة أكثر أمانا من العيش في روسيا السوفييتية أو ألمانيا النازية ولا يمكن المقارنة مع أفضليتها عليهما.
إذا أراد البشر أن يعيشوا سوية ضمن مجتمع مسالم ومنتج وعقلاني وأن يتعاملوا مع بعضهم البعض لتحقيق منفعة متبادلة، فعليهم حينها أن يقبلوا المبدأ الاجتماعي الأساسي الذي لا يمكن من دونه أن يوجد أي مجتمع أخلاقي أو متحضر، وهو: مبدأ الحقوق الفردية. والاعتراف بالحقوق الفردية يعني الاعتراف والقبول بالشروط التي تتطلبها طبيعة الإنسان لتحقيق البقاء على نحو ملائم. ولا يمكن انتهاك حقوق الإنسان إلا باستخدام القوة المادية؛ فبهذه القوة وحدها يمكن لإنسان أن يحرم إنسانا آخر من حياته، أو يقوم باستعباده، أو سلبه، أو منعه من السعي إلى تحقيق أهدافه الخاصة به، أو إجباره على التصرف بما ينافي تقييمه العقلي الخاص به. إن الشرط الأساسي في أي مجتمع متحضر يتمثل في الحيلولة دون تدخل القوة المادية في شؤون العلاقات الاجتماعية، ومن هنا يتأسس مبدأ ينص على أن من يرغب في التعاون مع الآخرين فعليه أن يقوم بذلك باستخدام (المنطق) فحسب، وذلك من خلال: النقاش، والإقناع، والاتفاق الطوعي غير المفروض.
تتمثل النتيجة الحتمية لحق الإنسان بالحياة بحقه في الدفاع عن النفس، ففي أي مجتمع متحضر لا يمكن للقوة أن تستخدم إلا في الرد على من استخدمها أولا وضده حصرا. وكل الأسباب التي تجعل البدء باستخدام القوة المادية أمرا شريرا، تجعل الاستخدام الانتقامي للقوة الانتقامية واجبا أخلاقيا. وإذا أعلن مجتمع «مسالم» عن شجبه للاستخدام الانتقامي للقوة، فسيضع نفسه بلا حول ولا قوة تحت رحمة أول سفاح يقرر التخلي عن أخلاقه، وهكذا ينتهي هذا المجتمع إلى تحقيق العكس من نيته: فعوضا عن إنهاء الشر سيقوم بتشجيعه ومكافأته.
إذا لم يقدم المجتمع حماية منظمة ضد القوة، فهذا سيجبر كل مواطن على البدء بالتسلح وتحويل منزله إلى قلعة وإطلاق النار على أي غريب يقترب من بابه، أو سيدفعه ذلك إلى الالتحاق بعصابة حماية تتكون من مواطنين آخرين للقتال ضد عصابات أخرى أنشئت للغاية نفسها؛ وينتج عن هذا تدهور المجتمع إلى هاوية فوضى حكم العصابات (أي: الحكم بواسطة القوة الهمجية)، والانغماس في آتون حرب قبلية مستمرة يخوضها برابرة من عصور ما قبل التاريخ.
إن استخدام القوة المادية، وإن كانت لأغراض انتقامية، لا يمكن أن يترك بحسب مشيئة المواطن لوحده؛ فالتعايش السلمي يصبح مستحيلا إذا توجب على المرء أن يعيش تحت تهديد مستمر بالقوة التي يمكن أن تطاله من أحد جيرانه في أية لحظة، وسواء أكانت نوايا جيرانه طيبة أم شريرة، وسواء أكان تقييمهم للأمور عقلانيا أم لا، وسواء أكانت تحرّكهم دوافع العدالة أم الجهل أم الحقد أم الكراهية، فإن استخدام القوة ضد أي شخص يجب أن لا يترك كقرار اعتباطي يتخذه شخص آخر. وعلى سبيل المثال: تخيل معي ماذا سيحدث لو فقد أحدهم محفظته، واعتقد بأنه قد تعرض للسرقة، فاقتحم كل بيوت الحي الذي يسكن فيه للبحث عنها، وأطلق النار على أول من نظر إليه بتجهم، معتبرا تلك النظرة دليلا على التهمة!
يتطلب الاستخدام الانتقامي للقوة قوانين (موضوعية) لتحديد ماهية الدليل لإثبات ارتكاب الجريمة و(إثبات) هوية من ارتكبها، بالإضافة إلى قوانين (موضوعية) لتحديد العقوبات وإجراءات تطبيقها؛ وإذا حاول الناس إقامة محاكمات للجرائم دون وجود قوانين كهذه فسيتحول الأمر إلى محكمة غوغاء، وعندما يترك المجتمع الاستخدام الانتقامي للقوة في يد المواطنين العاديين فسيتدهور حينها ليقع تحت سيطرة حكم الغوغاء وقانونهم ويعاني من سلسلة لا تنتهي من حالات الثأر الشخصي الدموية.
إذا تم إبعاد القوة المادية عن نطاق العلاقات الاجتماعية، فسيحتاج الناس عندها إلى مؤسسة تناط بها مسؤولية حماية حقوقهم وفق لائحة (موضوعية) من القوانين. وهذه هي مهمة الحكومة (الحقيقية)، وهي مهمتها الأساسية، والمبرر الأخلاقي الوحيد لوجودها، والسبب الذي يحتاج الناس من أجله إلى الحكومة. (فالحكومة هي الوسيلة التي يمكن من خلالها وضع الاستخدام الانتقامي للقوة المادية تحت السيطرة الموضوعية، أي: تحت قوانين محددة موضوعيا).
إن الاختلاف الجوهري ما بين التصرف الشخصي والتصرف الحكومي، والذي يتم تجاهله والتغاضي عنه حاليا، يتمثل في حقيقة مفادها أن الحكومة تحتفظ بحق حصري في الاستخدام المشروع للقوة المادية. ومن الواجب أن يكون للحكومة هذه الحصرية لأنها هي الوكيل المنوط به مسؤولية كبح استخدام القوة ومكافحته، ولهذا السبب ذاته ينبغي أن تكون تصرفاتها دقيقة التعريف والتحديد والتقييد، ولا مجال أبدا للسماح بالأهواء والنزوات في أدائها؛ إذ يجب أن تكون روبوتا لا روح فيه ولا دوافع غير ما تمليه عليه القوانين، وإذ ا أراد المجتمع أن يعيش حرا فيجب أن يسيطر على الحكومة.
يتمتع الفرد في النظام الاجتماعي السليم بحرية قانونية للتصرف كما يشاء (ما دام لا ينتهك حقوق الآخرين)، بينما يتقيد المسؤول الحكومي بما يمليه القانون في كافة الإجراءات الرسمية. وللفرد العادي أن يفعل أي شيء باستثناء ما (يحظره) القانون، بينما لا يفعل المسؤول الحكومي أي شيء إلا ما (يسمح) به القانون. إن هذا هو الوسيلة التي يمكن بها إخضاع «الجبروت» تحت سلطة «الحق»، وهو المفهوم الأمريكي عن «حكومة القوانين لا الناس».
إن طبيعة القوانين الملائمة للمجتمع الحر ومصدر شرعية حكومته يجب أن يشتقا كلاهما من طبيعة وهدف حكومة هذا المجتمع، وقد أشار إعلان الاستقلال إلى المبدأ الأساسي لهذين العنصرين بالقول: «لتأمين هذه الحقوق [الفردية]، يتم إنشاء الحكومات ضمن الناس، وتستمد سلطاتها المشروعة من موافقة المحكوم…»؛ وبما أن حماية الحقوق الفردية هي الهدف المناسب الوحيد للحكومة، فهي ذاتها العنصر الوحيد الذي يدور حوله التشريع، فكل القوانين ينبغي أن تكون على أساس الحقوق الفردية وتهدف إلى حمايتها. ويجب أن تكون كل القوانين موضوعية (ومبررة موضوعيا): إذ ينبغي على الناس أن يعلموا بوضوح، وقبل أي تصرف، ما يحظره القانون (ولماذا)، وماذا يعتبر جريمة وماهية العقوبة في حال ارتكابها.
تشكل «موافقة المحكوم» أساس سلطة الحكومة، وهذا يعني أن الحكومة ليست (الحاكم)، وإنما الخادم أو (الوكيل) للمواطنين، أي: أن هذه الحكومة لا تملك من الحقوق غير التي «يفوضها» لها المواطنون لغرض معين. وليس هنالك غير مبدأ أساسي وحيد يجب على المواطن أن يوافق عليه إذا أراد العيش في مجتمع حر ومتحضر: وهو مبدأ رفض استخدام القوة المادية وتفويض حقه في الدفاع المادي عن النفس إلى الحكومة وذلك بهدف تنفيذ هذا الدفاع بطريقة منظمة وموضوعية وبحسب القانون؛ أي: أن عليه، بعبارة أخرى، أن يتقبل (الفصل بين القوة والنزوات)، مهما تكن هذه النزوات، ومنها نزواته الشخصية.
ولكن، كيف نستفيد مما سبق في فض النزاعات بين المتخاصمين؟
لا يمكن، في المجتمع الحر، أن يُجبر الناس على التعامل مع بعضهم البعض، فهم لا يفعلون ذلك إلا في إطار الاتفاق الإرادي، وإذا تضمن التعامل عنصر الوقت فسيكون هذا (الاتفاق) عبارة عن (عقد). وإذا تعرض العقد للخرق بقرار اعتباطي من أحد المتعاقدين، فقد ينشأ عن ذلك ضرر مالي مدمر للمتعاقد الآخر، ولن يكون للضحية من تعويض إلا في الحجز على أملاك المذنب كتعويض لما أصابه؛ ولكننا نلاحظ هنا مرة أخرى أن استخدام القوة لا يمكن أن يترك لقرار الأفراد العاديين، وهذا يقودنا إلى واحدة من أهم وظائف الحكومة وأكثرها تعقيدا، وهي وظيفة (الحَكَم) الذي يبت في المنازعات بين الناس وفق قوانين موضوعية. إن المجرمين أقلية قليلة في أي مجتمع متحضر، ولكن حماية العقود وفرضها عبر محاكم القانون المدني تعتبر الحاجة الأكثر إلحاحا في أي مجتمع مسالم؛ فمن دونها لا يمكن لأي حضارة أن تتطور أو تستمر.
إن الإنسان عاجز عن البقاء بالطريقة التي تتبعها الحيوانات عبر التصرف في إطار اللحظة الراهنة؛ وإنما يجب عليه أن يخطط لأهدافه وينجزها خلال مدة زمنية معينة، وعليه أن يحسب تصرفاته ويرسم الخطط لمدة زمنية تمتد بطول عمره، وكلما كان عقله أذكى ومعارفه أكبر طال مدى تخطيطه. وكلما كانت الحضارة أكثر رفعة وتعقيدا استطال أمد الفعاليات التي تحتاجها، وهذا يؤدي إلى توسع مدى المواثيق العقدية بين الناس، وازدياد إلحاح حاجتهم إلى حماية سلامة هذه التوافقات. وحتى مجتمع المقايضة البدائي لا يمكنه أن يواصل فعالياته إذا اتفق شخصان على مقايضة كمية من البطاطا بسلة من البيض، وعندما استلم أحدهما البيض رفض تسليم البطاطا؛ فتخيل معي ماذا سيعني هذا التصرف الذي توجهه النزوات ضمن مجتمع صناعي يقوم فيه المرء بتسليم بضائع بمليون دولار مقابل اعتماد مالي، أو التعاقد لبناء منشآت تتكلف ملايين الدولارات، أو توقيع عقود إيجار تمتد إلى تسعة وتسعين عاما.
يتضمن انتهاك العقد من جانب واحد استخداما غير مباشر للقوة المادية: فهو يتكون في جوهره من شخص يستلم أغراضا مادية (بضاعة أو خدمات) من شخص آخر، ثم يرفض تسديد ثمنها، وهكذا يقوم بحيازتها عبر القوة (الحيازة المادية المجردة)، وليس عبر حقه فيها، أي أنه يحتفظ بها دون موافقة مالكها. وكذلك يتضمن الغش استخداما غير مباشر للقوة: فهو يتضمن الحصول على أغراض مادية دون موافقة مالكها بعد خداعه بادعاءات ووعود مزيفة. وكذلك الابتزاز: فهو يتضمن الحصول على أغراض مادية دون أن تكون مقابل أغراض أخرى، وإنما التهديد باستخدام القوة أو العنف أو بإلحاق الضرر.
من الواضح أن بعض هذه الأفعال إجرامية؛ وبعضها الآخر، كانتهاك العقد من جانب واحد، ربما لا ينتج عن دوافع إجرامية وإنما عن الاستهتار واللامنطقية. وهنالك أيضا قضايا معقدة قد يدعي فيها كل من الطرفين أن الحق في جانبه، ولكن مهما تكن هذه القضايا فإنها جميعها يجب أن تخضع لقوانين محددة موضوعيا وأن يوجد لها حل من خلال حكَم محايد يقوم بتطبيقها، أي: من خلال قاضٍ (وهيئة محلفين عندما يكون ذلك مناسبا).
لاحظ معي المبدأ الأساسي الذي يدور عليه محور العدل في تلك القضايا جميعها: وهو مبدأ مفاده أن المرء لا يمكنه الحصول على أي قيمة مادية من الآخرين دون موافقة المالك، وهذا يستدعي أن من حق المرء أن لا يترك تحت رحمة قرار من طرف واحد، أي: ما يقوم به الآخرون من خيارات اعتباطية أو غير عقلانية أو نزوات. وهكذا هو الغرض المقبول من الحكومة في جوهرها: تمكين الناس من الوجود الاجتماعي من خلال حماية المصالح ومكافحة الشرور التي يمكن أن يتسبب بها الإنسان لأخيه الإنسان.
إن الوظائف المناسبة للحكومة تتوزع في ثلاث فئات واسعة، وكلها تتعلق بقضايا القوة المادية وحماية حقوق الإنسان:
1.الشرطة: لحماية الناس من المجرمين.
2.القوات المسلحة: لحماية الناس من الغزاة الأجانب.
3.محاكم القانون: لفض المنازعات ما بين الناس وفقا لقوانين موضوعية.
وتنبثق عن هذه الفئات الثلاث العديد من القضايا والنتائج الثانوية التي يكون تطبيقها على أرض الواقع بصياغتها على هيئة تشريع معين أمرا فائق التعقيد. ويندرج ذلك ضمن مجال خاص من العلوم، وهو (فلسفة القانون). فالعديد من الأخطاء والخلافات قد تحدث أثناء التطبيق، ولكن الضروري هو تطبيق المبدأ، أي: المبدأ الذي يرى أن الهدف من القانون والحكومة يكمن في حماية الحقوق الفردية. أما اليوم فقد غاب هذا المبدأ في غياهب النسيان والتجاهل والتجنب؛ وكانت نتيجة ذلك الحالة التي نعيشها على امتداد العالم: من تراجع البشرية إلى حالة انعدام القانون في ظلة سلطة طاغية غير شرعية، إلى الهمجية البدائية التي يمارسها حكم وحشي.
وفي معارضة ساذجة لهذا التوجه يطرح البعض سؤالا عما إذا كان مفهوم الحكومة لدينا يجعلها شريرة بطبعها، وما إذا كانت الفوضى هي النظام الاجتماعي الأمثل. إن الفوضى، كمفهوم سياسي، هي تجريد ساذج متذبذب: فلجميع الأسباب التي ذكرناها في ما سبق، يقع المجتمع الذي ليست له حكومة منظمة تحت رحمة أول الواصلين من المجرمين ليدخلها في فوضى حرب بين العصابات. ولكن إمكانية حدوث أعمال غير أخلاقية ليست هي الاعتراض الوحيد على الفوضى: فحتى إذا كان جميع أفراد المجتمع عقلانيين تماما ومعصومين أخلاقيا فلا يمكنهم أن يمارسوا نشاطاتهم في حالة الفوضى: حيث تبرز الحاجة إلى تأسيس حكومة بسبب الحاجة إلى قوانين (موضوعية) وحكَم يفصل في المنازعات النزيهة.
لقد شهدنا مؤخرا ظهور أحد تجليات النظرية الفوضوية، وقد بدأ يستميل بعض المؤيدين الشباب للحرية، وهو السخافة الغريبة المدعوة «الحكومات المتنافسة»، وإذا ما قبلنا الطرح الأساسي للدولانيين الحديثين، والذين لا يفرقون بين وظائف الحكومة ووظائف الصناعة، وبين القوة والإنتاج، ومن يدعو إلى ملكية الحكومة لقطاع الأعمال، فإن مؤيدي «الحكومات المتنافسة» ليسوا إلا الوجه الآخر للعملة، حيث يرون بأن الأثر المفيد للتنافس في قطاع الأعمال يستدعي تطبيقه في مجال الحكومة، وعوضا عن حكومة وحيدة حصرية يجب أن يكون هنالك عدد من الحكومات المختلفة في الرقعة الجغرافية ذاتها تتنافس على الإخلاص للمواطنين، ويبقى كل مواطن حرا في «التسوق» والتعامل مع الحكومة التي يختارها. وهنا يجب أن لا ننسى أن الضبط باستخدام القوة هو الخدمة الوحيدة التي ينبغي على الحكومة أن تقدمها، وهنا يطرح السؤال التالي: كيف يتم تطبيق المنافسة في مجال (الضبط باستخدام القوة)؟
لا يمكن أن نصم هذه النظرية بتناقض المصطلحات، وذلك لأنه من الواضح خلوها من فهم لمصطلحات «التنافس» و»الحكومة»؛ كما لا يمكن أن ندعوها تجريدا متذبذبا، وذلك لخلوها من أي صلة أو إشارة إلى الواقع ولا يمكن تحويلها إلى واقع بأي حال من الأحوال. ويمكن إثبات ذلك بعرض الصورة التالية: لنفترض أن زيد، وهو زبون لدى الحكومة (أ)، يشك بأن جاره عمرو، وهو زبون لدى الحكومة (ب)، قد سطا على منزله، عندها تتجه فرقة من الشرطة (أ) إلى منزل عمرو وهناك تلاقيها فرقة من الشرطة (ب) لا تقبل بصحة ما ورد في شكوى زيد ولا تعترف بسلطة الحكومة (أ)؛ فمالذي سيحدث بعدها؟ لك أن تحزر ذلك.
لقد مر مفهوم «الحكومة» بتطورات عبر تاريخ طويل ومعقد، ويمكنك أن تجد ومضات عن وظائف الحكومة المناسبة في كل مجتمع منظم تقريبا، متجسدا في ظاهرة الاعتراف بوجود اختلاف خفي (وإن كان لا يوجد في معظم الأحيان) بين الحكومة وعصابات السرقة، أي: هالة الاحترام والسلطة الأخلاقية الممنوحة للحكومة باعتبارها حارس «القانون والنظام»، وهي حقيقة مفادها أن حتى أكثر أشكال الحكومة شرا أثبت أنه ضروري للحفاظ على شيء من النظام ومظهر للعدالة، حتى ولو كان ذلك عبر الروتين والتقاليد، والادعاء بوجود مبرر أخلاقي لسلطتها قد يكون منشؤه روحيا أو اجتماعيا. وذلك مطابق تماما لما حدث عندما لجأت الملكية في فرنسا إلى استخدام «الحق الإلهي للملوك»، وكذلك ما فعله طواغيت الاتحاد السوفييتي عندما أنفقوا ثروات هائلة على الدعاية الإعلامية التي تبرر حكمهم في أعين المحكومين المستعبدين.
لم يقم الإنسان عبر التاريخ باستيعاب الوظائف المناسبة للحكومة إلا في وقت قريب جدا: فلم تمض إلا مئتان من السنوات على عصر الآباء المؤسسين للثورة الأمريكية، وهم الذين لم يقوموا بتحديد طبيعة المجتمع الحر وحاجاته فحسب، وإنما صمموا الوسائل التي تترجم ذلك إلى واقع ملموس أيضا. إن المجتمع الحر، شأنه في ذلك شأن أي منتج بشري، لا يمكن تحقيقه بوسائل عشوائية، أو بالاكتفاء بالأماني و»النوايا الحسنة» للقادة. إذ ينبغي وجود نظام قضائي معقد يقوم على مبادئ نافذة (موضوعيا) لإنشاء مجتمع حر و(الحفاظ على حريته)، وهو نظام لا يستند إلى دوافع أي مسؤول أو شخصيته الأخلاقية أو نواياه، ولا يدع فرصة أو ثغرة قانونية تساعد على ظهور الاستبداد.
إن نظام (التوازنات) الأمريكي كان إنجازا رائع بحق، وعلى الرغم من وجود تناقضات معينة في الدستور تركت ثغرات تسمح بنمو الدولانية، فإن استثنائية الإنجاز كانت تتمثل في مفهوم الدستور كوسيلة للحد من سلطة الحكومة وتقييدها. وعندما تتعاون الجهود في يومنا هذا على طمس هذه النقطة، فلا يمكن أن نقول لمن يعمل على ذلك غير أن الدستور يحدد ماهية الحكومة، لا الفرد، أي أنه لا يصف كيفية أداء الأفراد، وإنما أداء الحكومة؛ وأنه ليس ميثاقا لسلطة الحكومة، وإنما لحماية المواطن من الحكومة.
لاحظ معي الآن إلى أي مدى وصل الانقلاب في الرؤية السائدة عن الحكومة؛ فعوضا عن أن تكون حامية لحقوق الفرد، تتحول إلى أخطر من ينتهكها؛ وبدلا من أن تحرس الحرية، تجدها تؤسس للعبودية؛ وعوضا عن حماية الفرد ممن يوجه ضده قوة مادية، تراها هي التي تستعمل القوة المادية والإجبار كما تشاء وفي أية قضية من القضايا؛ وبدلا من أن تؤدي دورها كأداة (للموضوعية) في العلاقات البشرية، هاهي تنشئ عهدا فتاكا سريا من الشك والخوف عبر قوانين غير موضوعية يُترك تفسيرها لقرارات اعتباطية تتخذها شريحة عشوائية من الموظفين؛ وعوضا عن حماية الناس من أن تطالهم النزوات بأضرارها، تقوم الحكومة بادعاء سلطة النزوة غير المحدودة؛ ولذلك فإننا نتجه بسرعة إلى مرحلة الانقلاب النهائي: المرحلة التي تكون فيها الحكومة (حرة) لتفعل ما تحب وتشتهي، بينما لا يتصرف المواطن أي تصرف إلا بعد الحصول على (رخصة)؛ وهي مرحلة شكلت العهود الأكثر ظلاما في تاريخ البشر، مرحلة الحكم بالقوة الهمجية.
لقد لوحظ دائما بأن البشرية لم تصل حتى يومنا هذا إلى درجة من التقدم الأخلاقي تضاهي ما حققته في سلم التطور المادي. وقد درجت العادة أن يتبع هذه الملاحظة استنتاج متشائم حول طبيعة الإنسان. ولا شك في أن الحالة الأخلاقية للبشر متدنية إلى حد مشين، ولكن إذا أخذ القارئ بعين الاعتبار الانقلابات الأخلاقية المتوحشة لدى الحكومة (والتي أصبحت ممكنة من خلال السلوكيات الإيثارية الجماعية)، والتي توجب على الإنسان أن يعيش تحت وطأتها في معظم مراحل التاريخ، فسيبدأ بالتعجب من كيفية تدبر الناس لأمر الاحتفاظ ولو بأقل القليل من الحضارة، ومما بقي فيهم من عزة النفس الجبارة التي أبقتهم يسيرون منتصبي الظهر وعلى قدمين اثنتين، لا أربع.
إن ذلك سوف يجعلنا أكثر قدرة على النظر بوضوح إلى طبيعة المبادئ السياسية التي يجب القبول بها والدفاع عنها كجزء من معركة الإنسان في سبيل النهضة الفكرية.
من كتاب (فضيلة الأثرة) للكاتبة الأمريكية آين راند
ديسمبر 1963
المثقف والاشتراكية
(1)
في كافة الدول الديمقراطية، وفي الولايات المتحدة الأمريكية خصوصا، تجد اعتقادا قويا سائدا مفاده أن للمثقف تأثيرا على السياسة لا يمكن إنكاره. وهو اعتقاد لا شك في صحته إذا كان يتعلق باقتدار المثقف على جعل آرائه في قضايا الساعة تؤثر في الميدان السياسي إلى المدى الذي تستطيع فيه أن تقود صوت الناخب إلى جهة تختلف عما ترتئيه الآراء السائدة لدى الجماهير، لكن النظر بعين تهتم بتاريخ هذه الظاهرة في العصور الغابرة التي استغرقت آجالا تتجاوز عمر عصرنا الحالي، يصل بنا إلى الاستنتاج بأن المثقفين ربما لم يتمتعوا أبدا بمثل هذا التأثير الكبير الذي نلاحظه في أيامنا هذه في الدول الديمقراطية، وهي القوة التي يمتلكونها بفعل قدرتهم على تشكيل الرأي العام.
على ضوء أحداث التاريخ المعاصر يبدو من المثير للفضول نوعا ما أن لا نجد حتى الآن اعترافا عاما بوجود هذه القوة الحاسمة في أيدي مجموعة من المحترفين بالتداول الثانوي بالأفكار؛ والتطور السياسي للعالم الغربي خلال مئة عام مضت يرسم لنا أوضح صورة عن واقع الحال؛ فالاشتراكية لم تكن في بدايتها حركة في صفوف الطبقة العاملة في أي مكان أو زمان؛ إذ لا تقدم بأي شكل من الأشكال علاجا واضحا لأي مفسدة واضحة تجاوبا مع حاجة ملحة تقتضيها مصالح تلك الطبقة، وإنما هي بنية شيّدتها أفكار استمدها المنظرون من توجهات محددة للفكر المجرد الذي ظل لمدة طويلة منحصرا باهتمام المثقف فحسب، وتطلبت هذه البنية جهودا مديدة من المثقفين قبل أن تقتنع الطبقات العاملة بتبنيها كبرنامج عمل.
في جميع الدول التي اتبعت المسار الاشتراكي، كانت هنالك مرحلة تسبق بسنوات عديدة مرحلة التطورات التي جعلت الاشتراكية عاملا حاسما في العملية السياسية، وهي مرحلة هيمنت فيها القيم الاشتراكية العليا على تفكير أكثر المثقفين نشاطا؛ ويمكن القول بأن ألمانيا وصلت إلى هذه المرحلة في نهاية القرن التاسع عشر، ووصلت بريطانيا وفرنسا إليها إبان الحرب العالمية الأولى تقريبا. ويمكن للمتتبع العادي أن يرى في المشهد الحالي للولايات المتحدة وكأنها قد وصلت إلى هذه المرحلة بعد الحرب العالمية الثانية وأن جاذبية النظام الاقتصادي الذي يخضع للتخطيط والتوجيه تتمتع في الوقت الراهن بقوة في صفوف المثقفين الأمريكيين تضاهي في شدتها أقصى ما وصلت إليه بين أقرانهم الألمان أو الانجليز. إن الخبرة تقول بأن بلوغ هذه المرحلة يعني أن الزمن لوحده هو الذي يفصلها عن مرحلة تحول الآراء التي يعتقد بها سياسيو اليوم إلى قوة سياسية مهيمنة غدا.
إن طابع العملية التي يجري وفقها تأثير المثقف على سياسة الغد يتصف، لذلك، بأنه أكثر من مصلحة أكاديمية، فسواء أكان ذلك يتعلق بمجرد رغبتنا لتوقع حدوث تأثير ما في مجرى الأحداث، أو محاولة إيقاع هذا التأثير، فإنه يعد عاملا ذا أهمية تتجاوز بكثير المستوى الذي يتبوؤه ضمن الفهم المعهود؛ فما يبدو للمراقب المعاصر في وقتنا هذا كمعركة بين المصالح المتضاربة ليس في حقيقته إلا أمرا يتقرر في العادة قبل أمد بعيد من انحصار صراع الأفكار في دوائر ضيقة. ومع ذلك فإن تناقضا شديدا يكمن في موقف أحزاب اليسار بشكل عام، والتي قامت فعلا ببذل أقصى جهودها لنشر اعتقاد مفاده بأنها كانت القوة البشرية الداعمة للمصالح المادية المعارضة التي فرضت رأيها في القضايا السياسية، ولكن الواقع يشهد بأن هذه الأحزاب نفسها عملت بصورة منتظمة وناجحة وكأنها تفهم المكانة الجوهرية للمثقف. وسواء أكان ذلك ناتجا عن تخطيط مسبق أم عن انسياق مع وطأة الظروف المحيطة، فقد استطاعت تلك الأحزاب دائما أن توجه جهدها الرئيسي في اتجاه الحصول على دعم هذه «النخبة»، بينما عملت المجموعات الأكثر محافظية، وبالانتظام نفسه دون إحراز نجاح مماثل، وفق منظور أكثر سذاجة عن الديمقراطية الجماهيرية، وحاولت، بشكل مباشر عادة ودون جدوى، أن تصل إلى الناخب كفرد وتحاول إقناعه بطروحاتها.
(2)
بالرغم مما سبق، فإن مصطلح «المثقف» لا يقدم بشكل مباشر صورة حقيقية للفئة الواسعة التي نشير إليها بهذا المصطلح، كما إن حقيقة عدم توفر مصطلح أفضل للإشارة إلى ما دعوناه «التداول الثانوي بالأفكار» لا ترقى أبدا لمنزلة أسباب عدم القدرة على فهم سلطة المثقف بشكل أفضل. وحتى من يستخدم مصطلح «المثقف» بشكل خاطئ فإنه يميل إلى الامتناع عن استخدامه للإشارة إلى من يؤدي دون شك الوظيفة النمطية «للمثقف»، أي: المفكر الأصلي أو العالم أو الخبير بحقل خاص من حقول الفكر؛ فالمثقف النمطي لا ينبغي عليه أن يكون أيا منهما: فلا حاجة لامتلاكه معرفة خاصة بأي حقل معين، كما لا حاجة لأن يكون ذكيا بشكل خاص، وذلك كي يؤدي دوره كوسيط في عملية نشر الأفكار؛ فما يؤهله لوظيفته هو المدى الواسع من الموضوعات التي يمكنه الحديث أو الكتابة عنها مباشرة، بالإضافة إلى موقع أو عادات يصبح من خلالها قادرا على الإلمام بأفكار جديدة قبل أولئك الذين يقدم لهم نفسه.
قبل أن نتمكن من سرد كافة المهن والنشاطات التي تندرج ضمن هذا التصنيف، فمن الصعب أن ندرك ضخامته، وكيف يتوسع مداه باستمرار في المجتمع الحديث، وكيف أصبحنا جميعنا معتمدين عليه. إن هذا التصنيف لا يتكون فحسب من محامين أو معلمين أو رجال دين أو محاضرين أو إعلاميين أو محللين إخباريين أو روائيين أو رسامي كاريكاتير أو فنانين، فكل منهم قادر على أن يبرع في تقنية نقل الأفكار ولكنه في العادة من الهواة عندما يتعلق الأمر بماهية المادة المنقولة. كما إن هذا التصنيف يتضمن الكثير من المحترفين والتقنيين، كالعلماء والأطباء، والذين يصبحون من خلال تعاملهم اليومي مع الكلمة المكتوبة حملة لأفكار جديدة خارج حقولهم الخاصة بهم، والذين تصغي لهم معظم الآذان بفضل معارفهم الخبيرة بحقول اختصاصهم. إن الإنسان العادي في وقتنا هذا يكاد لا يعلم إلا القليل عن الأحداث أو الأفكار من أوساط أخرى غير هذه الفئة؛ وبهذا نكاد نكون جميعا وفق هذا الاعتبار أناسا عاديين عندما يتعلق الأمر بما هو خارج اختصاصات عملنا، ونعتمد في استحصال المعلومات والإرشادات على من يجعل وظيفته مواكبة آخر مستجدات الآراء. وبهذا المعنى يكون المثقف هو الذي يقرر أي الآراء التي ينبغي أن تصلنا، وأي الحقائق التي تكون مهمة بما يكفي ليتم إخبارنا بها، وبأي شكل ومن أية زاوية يجب عرضها؛ أما العلم بنتائج عمل الخبير أو المفكر الأصلي الذي أنتج الأفكار فهو خيار يعتمد أساسا على قرار هذا الشخص.
ربما لا يكون الفرد العادي ملما تماما بالحد الذي يمكن لهذه الفئة أن تصل إليه في الترويج لسمعة شخص ما على المستوى الشعبي، حتى إن كان هذا الشخص عالما أو خبيرا؛ وهو يقع حتما فريسة لآثار آرائها في موضوعات ليس لها إلا صلة ضئيلة بفوائد الإنجازات الحقيقية. ومن المهم في هذا المجال خصوصا أن نشير إلى أن كل عالم من العلماء قادر على أن يعدد في حقل اختصاصه عدة أسماء لأشخاص حازوا على سمعة شعبية كعلماء عظام دون أن يكونوا جديرين بها إلا في أعين المثقفين الذين أنزلوهم هذه المنزلة أساسا بسبب امتلاكهم لما اعتبروه آراء سياسية «تقدمية»؛ ورغم ذلك فإنني سأقدم مثالا واحدا عن سمعة علمية مزيفة حازها لأسباب سياسية عالم ذو ميول أكثر محافظية. إن عملية (صناعة السمعة) هذه التي يقوم بها المثقف ذات أهمية خاصة في المجالات التي لا تكون فيها نتائج دراسات الخبراء مخصصة للاستخدام من قبل خبراء آخرين، وإنما تعتمد على القرار السياسي الشعبي على المدى الأوسع. وليس هنالك من صورة أوضح لهذه الظاهرة من الموقف الذي اتخذه خبراء الاقتصاد أمام نمو معتقدات بعينها كالاشتراكية أو الحمائية؛ إذ ربما لم تظهر أبدا في السابق أغلبية من الاقتصاديين، والذين يعترف بهم زملاؤهم كاقتصاديين، تؤيد الاشتراكية (أو الحمائية وفق هذا الاعتبار) كما يحصل الآن، كما يمكن القول بثقة تامة أيضا أننا لم نشهد من قبل أبدا مثل هذه النسبة الكبيرة أيضا من الطلاب الذين يعارضون الاشتراكية (أو الحمائية) كقرار واع. ويتبوأ هذا الأمر أهمية كبرى في يومنا هذا لأن من المحتمل جدا أن تكون مصالح المخططات الاشتراكية قد انتبهت إلى أن الرغبة في الإصلاح تقود المرء إلى أن يتخذ الاقتصاد مادة للاختصاص. ومع ذلك فإن ما يسود اليوم من آراء ليس من نتاج الخبراء، وإنما أنتجته أقلية ليست ذات قدم ثابتة في هذا الاختصاص، ولكن المثقفين تبنوا آراءها وعملوا على نشرها.
إن التأثير الكبير الذي يمتلكه المثقف في كافة أرجاء المجتمع المعاصر يتلقى قوة إضافية بفضل الأهمية المتنامية «للتنظيم». ومن الاعتقادات الشائعة، وربما الباطلة، أن زيادة التنظيم تؤدي إلى زيادة تأثير الخبير أو المختص؛ إذ قد يكون هذا الاعتقاد صحيحا إذا كان المدير أو من يقوم على عملية التنظيم من الخبراء (في حال وجوده أصلا)، ولكنه لا يكاد يصح عن الخبراء في أي مجال معين من مجالات المعرفة. فضلا عن ذلك، فإن زيادة التنظيم تؤدي إلى زيادة تأثير الشخص الذي يفترض بمستواه المعرفي العام أن يؤهله لتقدير رأي الخبير، والتحكيم بين الخبراء في المجالات المختلفة. لكن النقطة المهمة هاهنا تتمثل في أن العالم الذي يصبح رئيسا للجامعة، أو مسؤولا عن إدارة معهد أو مؤسسة، أو ناشطا في الترويج لمنظمة ذات هدف خاص، تجده يتوقف حينها سريعا عن كونه عالما أو خبيرا ليصبح (مثقفا) بالمعنى الذي أوردناه: شخصا يحكم على الأمور كلها لا من منطلق مزايا محددة، وإنما بحسب الطبيعة النمطية للمثقف، أي بالاعتماد أساسا على مجموعة محددة من الأفكار العامة الرائجة في وقتها. إن عدد أمثال هذه المؤسسات التي تنتج هؤلاء المثقفين وتزيد من عددهم وقوتهم في تكاثر مستمر؛ إذ يكاد يكون جميع «الخبراء» بمجرد تقنية الحصول على المعلومات، وذلك بحسب الموضوع التي تتعلق به هذه المعلومات، هم من المثقفين، لا من الخبراء.
بحسب المفهوم الذي طرحناه للمثقف في بحثنا هذا، يكون (المثقف) في حقيقته ظاهرة جديدة تماما في مجرى التاريخ؛ فعلى الرغم من أنك لا تجد أحدا يأسف على الأيام التي كان فيها التعليم حكرا على الطبقات الغنية، فإن هنالك أمرين يعرضهما لنا الواقع ويحتلان أهمية لفهم دور المثقف، وهما: أن الطبقات الغنية لم تعد الأفضل من الناحية التعليمية، وأن العدد الكبير ممن يدينون بمواقعهم للتعليم العام لا يمتلكون خبرة تشغيل النظام الاقتصادي التي تتأتى من خلال إدارة الملكية. فالبروفيسور شومبيتر، والذي خصص فصلا جليا من كتابه (الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية) لمناقشة بعض أوجه قضيتنا مدار البحث، لم يخرج عن الإنصاف عندما شدد على الفارق الذي يميز المثقف النمطي عن باقي الناس الذين يمتلكون أيضا قوة الكلمة المسموعة والمكتوبة، وهو غياب المسؤولية المباشرة عن الشؤون العملية وما يتلو ذلك من غياب (التداول الأولي للمعرفة). لكن من المستبعد هنا أن نصل إلى تناول قضية تطور هذه الطبقة ومناقشة الادعاء الذي تقدم به أحد منظريها مؤخرا ومفاده أن هذه الطبقة كانت الوحيدة التي لم تتعمد تأثر آرائها بمصالحها الاقتصادية. وإنما سيكون من النقاط المهمة التي نحللها في مثل هذا البحث: تقصي المدى الذي بلغه نمو هذه الطبقة كنتيجة للمحفز المصطنع الذي وفرته قوانين حماية الملكية الأدبية.(1)
1.قد يكون من المثير للاهتمام أن نكتشف المدى الذي تصل إليه الآراء الجادة الناقدة للمنافع التي يعود بها هذا القانون على المجتمع، أو الإفصاح عن الشكوك في المصلحة العامة من وجود طبقة تعتاش من تأليف الكتب، وذلك في حجم الفرص المتاحة لها في مجال التعبير عنها في مجتمع يهيمن على قنوات التعبير فيه أناس لهم مصلحة شخصية في الوضع القائم.(الكاتب)
(3)
ليس من المفاجئ أن نرى الازدراء الذي يشعر به العالم الحقيقي أو الخبير الحقيقي أو من يتداول مع شؤون الحياة بواقعية إزاء المثقف، وعدم استعدادهم للاعتراف بسلطته، واستياءهم عند اكتشافها؛ فكل واحد منهم ينظر إلى المثقف في معظم الأحيان على أنه الشخص الذي لا يفهم أي شيء لوحده على نحو جيد، ولا يبدي علامات الحكمة الخاصة عندما يقدر الأمور التي يفهمونها. ولكن الحط من سلطة المثقفين على هذا الأساس يعد خطأ قاتلا؛ فحتى وإن كانت معارفهم سطحية وذكاؤهم محدودا في الغالب، فإن هذا لا يغير شيئا من حقيقة مفادها أن تقديرهم للأمور هو الذي يهيمن بشكل رئيسي على تحديد الرؤى التي سيتصرف المجتمع على أساسها بعد أمد غير بعيد. وليس من المبالغة القول بأنه ما أن يتحول الجزء الأكثر نشاطا من المثقفين إلى اعتناق مجموعة من المعتقدات فإن العملية التي يتم من خلالها قبول هذه المعتقدات على المستوى العام لا تكاد تلقى أي مقاومة وتمضي في سيرها بشكل آلي. إن هؤلاء المثقفين هم الأعضاء التي طورها المجتمع الحديث لنشر المعرفة والأفكار، ومعتقداتهم وآراؤهم هي التي تعمل كجهاز تصفية يجب أن تمر عليه كافة المفاهيم الجديدة قبل أن تجد طريقها إلى الجماهير.
إن من طبيعة وظيفة المثقف أنه يجب عليه استخدام معارفه ومعتقداته الخاصة في أداء مهمته اليومية. إنه يحتل موقعه لأنه يمتلك المعرفة التي لا يمتلكها رئيسه في العمل، أو لأنه يتوجب عليه التعامل يوميا مع هذه المعرفة، ولهذا يمكن لنشاطاته أن تنقاد للتوجيه إلى مدى محدود فقط. ولمجرد أن المثقفين في الغالب منصفون فكريا، فمما لا شك فيه أنهم سوف يتبعون ما تمليه عليهم معتقداتهم متى ما حصلوا على الصلاحيات اللازمة وأنهم سوف يحرفون كل ما يقع في أيديهم بما يتماشى مع هذه المعتقدات. وحتى وإن كان اتجاه السياسة المتبعة في قبضة مجموعة ذات ميول مختلفة، فإن تنفيذ هذه السياسة سوف يقع عموما في أيدي المثقفين، وفي كثير من الأحوال تتحدد النتيجة النهائية للعمل بحسب القرارات المتعلقة بتفاصيله. إننا نكاد نجد هذه الظاهرة بادية للعيان في كافة مجالات المجتمع المعاصر؛ حيث ترى صحفا يملكها «الرأسماليون»، وجامعات تديرها مجالس «رجعية»، وأجهزة إعلامية تمتلكها دول محافظية، وقد عرف عنها تأثيرها على الرأي العام باتجاه الاشتراكية، وذلك لأن الاشتراكية هي المبدأ الذي يعتقده العاملون في هذه المؤسسات. لقد حدثت هذه الظاهرة على الرغم من محاولات إدارات هذه المؤسسات أن تتحكم بالآراء وتفرض المبادئ المتشددة، وربما كانت هذه الممارسات سببا في حدوث الظاهرة أصلا.
إن الجماهير لوحدها ليست المتأثر الوحيد أبدا بعملية (التصفية) تلك التي تجري وفق معتقدات فئة تميل مبدئيا إلى آراء محددة؛ فالخبير لا يقل عنها اعتمادا على المثقفين في ما يقع خارج حقل اختصاصه ونادرا ما يكون أقل تأثرا باختياراتهم، وينتج عن هذا أنك ترى اليوم في معظم أرجاء العالم الغربي أشد معارضي الاشتراكية وهم يستمدون معارفهم من مصادر اشتراكية في معظم المجالات التي لا يمتلكون فيها معلومات أصيلة. إن العديد من المبادئ العامة للفكر الاشتراكي لا تبدو بالوضوح الفوري ذاته عندما تكون على صورة مقترحات عملية، ونتيجة لذلك تجد العديد ممن يرون في أنفسهم معارضين صلبين للاشتراكية وقد تحولوا في الواقع إلى مروجين لأفكارها. ومن منا لم يصادف شخصا عمليا يشجب الاشتراكية في ميدان عمله باعتبارها «العفن الفتاك»، وعندما يتجاوز هذا الميدان تجده يثرثر عنها دون توقف كأي صحفي يساري؟!
لا يمكنك أن تجد ميدانا تحس فيه بقوة هيمنة تأثير المثقفين الاشتراكيين كما حصل في التلاقي ما بين الحضارات القومية المختلفة خلال السنوات المئة الماضية. وقد نخرج عن مجال بحثنا إذا رغبنا بتقصي أسباب وأهمية الحقيقة التي تطرح نفسها بقوة ومفادها أن المثقفين يكادون يطرحون في العالم الحديث الأسلوب الوحيد للتعامل مع المجتمع الدولي. إن هذا الأمر يفسر المشهد الغريب الذي يبدو فيه الغرب «الرأسمالي» وهو يقدم الدعم المادي والمعنوي لوحده تقريبا إلى الحركات الايديولوجية في دول شرق أوروبا والتي تهدف إلى تدمير الحضارة الغربية، وكذلك تجد في الوقت نفسه عموم الغربيين يستمدون معلوماتهم عن أحداث أوروبا الوسطى والشرقية بعد أن تتعرض حتما لتأثير الانحياز إلى الاشتراكية؛ وهنالك أمثلة معاصرة واضحة عن هذا الميل في العديد من الأنشطة «التثقيفية» للقوات الأمريكية في ألمانيا.
(4)
بعد ما أوردناه تتبين لنا الأهمية القصوى للحصول على فهم جيد للأسباب التي يبدو أنها تقف خلف ميل هذا العدد الكبير من المثقفين إلى الاشتراكية. وأول نقطة يلاحظها بوضوح أولئك الذين لا يتشاركون الميل الاشتراكي تتمثل في أن هؤلاء المثقفين لم يتحركوا نحو الاشتراكية بسبب مصالح أنانية أو نوايا شريرة، بل تندرج معظم دوافعهم في خانة المعتقدات المخلصة والنوايا الخيّرة التي تحدد آراءهم. وفي الحقيقة، من الضروري الاعتراف بشكل مجمل بأن المثقف النمطي في هذه الأيام يميل أكثر إلى أن يكون اشتراكيا كلما كانت تقوده النوايا الطيبة والذكاء، وإذا ناقشنا القضية من مستوى نقاش المثقف المجرد فإنه سيكون قادرا في العموم على صياغة حجج تخدم طروحاته بما يتفوق على مثيلاتها لدى أغلبية معارضيه الذين ينتمون إلى الطبقة نفسها (المثقفين). وإذا استمرت تخطئتنا لهذا المثقف، فينبغي علينا أن نعترف بأن هنالك خطأ جوهريا ربما أدى إلى توجيه أشخاص أذكياء ذوي نوايا حسنة وفي مواقع مهمة اجتماعيا إلى نشر أفكار تبدو لنا كخطر يتهدد حضارتنا.(2) ولا يمكن لأي شيء أن يكون أكثر أهمية من محاولة فهم مصدر هذا الخطأ كي نكون قادرين على مواجهته، ولكن الذين يُعتبرون ممثلي النظام القائم ويعتقدون بأنهم يستوعبون مخاطر الاشتراكية تجدهم دائما بعيدين جدا عن حيازة هذا الفهم؛ وإنما يميلون إلى اعتبار المثقفين الاشتراكيين مجرد حفنة خبيثة من المتشددين ذوي الاطلاع الكبير دون تقدير حجم نفوذهم، ويتجهون إلى دفعهم أكثر في صفوف معارضة النظام القائم بسبب موقفهم هذا.
2.ولهذا السبب رأى البروفيسور شومبيتر في عرضه لكتابي (الطريق إلى العبودية) أن أهمية هذا الطرح هي التي دفعتني إلى أن أكاد لا أعزو لمن يعارضني غير (أخطاء المثقفين)، دون أن يكون ذلك ناتجا عن تأدبا مني تجاه هذه الأخطاء.(الكاتب)
إذا أردنا استيعاب هذا الانحياز الخاص بين جزء كبير من المثقفين ينبغي علينا أن نمتلك فهما واضحا لنقطتين اثنتين: الأولى هي أنهم يحكمون على كل القضايا التخصصية بشكل عام من منطلق منحصر بأفكار عامة ذات صبغة محددة، والثاني أن الأخطاء النمطية لكل عصر كثيرا ما تكون مشتقة من بعض الأفكار الأصيلة الجديدة التي تكتشف فيه، بالإضافة إلى تطبيقات خاطئة لتعميمات جديدة أثبتت قيمتها في مجالات أخرى. إن الاستنتاج الذي ينبغي أن نصل إليه بعد الاستيعاب الكامل لهذه القضايا يتمثل في أن تفنيد مثل هذه الأخطاء كثيرا ما يتطلب تقدما فكريا أكبر، وغالبا ما يكون هذا التقدم في نقاط شديدة التجريد وتبدو كثيرة البعد عن الشؤون العملية.
ربما تتمثل أهم المميزات الشخصية للمثقف في أنه يحكم على الأفكار الجديدة لا من خلال قيم محددة وإنما من خلال مدى استعداد هذه القيم للتلاؤم مع مقاسات مفاهيمه العامة، وذلك ضمن صورة للعالم الذي يعتبره حديثا أو متقدما. إن قوة أفكار الخير والشر تنمو لديه من خلال تأثيرها عليه وعلى ما يختاره من آراء في قضايا محددة وذلك بالتناسب مع ما بها من تعميم وتجريد وغموض. وبما أنه يعلم القليل عن كل قضية على حدة، فإن معاييره في التعامل معها سوف تنسجم مع آرائه الأخرى وملاءمتها للانضمام إلى صورة متكاملة عن العالم. ولكن هذا الاختيار الذي يرتئيه من بين مجموعة من الأفكار الجديدة التي تواجهه في كل لحظة من لحظات الحياة يخلق مناخا نمطيا من الآراء، أو ما يدعى بـ(الرؤية الشاملة) في كل حقبة زمنية، والتي تؤدي إلى توفير الأجواء التي تشجع على استقبال أفكار بعينها دون غيرها مما يجعل المثقف مستعدا لقبول استنتاج بعينه ورفض آخر دون أن يكون على فهم حقيقي للقضية المطروحة.
بالنظر إلى بعض الاعتبارات يكون المثقف في الواقع أقرب إلى الفيلسوف من أي اختصاص آخر، كما إن الفيلسوف يتبوأ منزلة الأمير بين المثقفين بأكثر من وجه، وعلى الرغم من أن تأثيره أبعد عن الشؤون الحياتية من المثقف العادي، وبالتالي فهو أبطأ منه وأصعب في العثور عليه وتمييزه من بين الآخرين، فإنهما يتشابهان على المدى البعيد وربما يكون تأثير الفيلسوف حينها أشد من تأثير المثقف. إنهما يخوضان الرحلة ذاتها، وإن كان أحدهما يستخدم منهجية بحثية أدق تجاه الحصول على التقييم المصطنع نفسه حول آراء معينة ما دام ذلك يتلاءم مع منظومة فكرية عامة، وليس قيما محددة يعتنقها، وذلك ضمن السعي نفسه نحو (رؤية شاملة) متماسكة تشكل لكليهما قاعدة أساسية لقبول الأفكار أو رفضها. ولهذا السبب تجد أن الفيلسوف قد يمتلك تأثيرا أكبر على المثقفين بالمقارنة مع أي عالم أو مختص آخر، وهو يقوم أكثر من أي شخص آخر بتحديد النمط الذي يمارس المثقفون من خلاله وظيفة الرقابة. ولا يمكن للتأثير الشعبي للمختص في أحد مجالات العلوم أن يبدأ بمنافسة تأثير الفيلسوف إلا حينما يتوقف هذا المختص عن كونه مختصا ويبدأ بالتفلسف حول تقدم مادة تخصصه، وفي العادة لا يكون ذلك إلا عندما يلتف حوله المثقفون لأسباب ليس لها إلا علاقة ضئيلة بمكانته العلمية.
إن «مناخ الآراء» في أية حقبة زمنية هو بالضرورة، بحسب ما سبق، مجموعة من التصورات المسبقة التي يستخدمها المثقف في تقييم أهمية الحقائق والآراء الجديدة. وهذه (التصورات المسبقة) هي في الأساس تطبيقات لما يبدو له من أهم جوانب الإنجازات العلمية، وهو الانتقال إلى مجالات أخرى تطال أعمال المختصين التي تركت فيه انطباعا خاصا. ويمكننا هنا أن نورد قائمة طويلة بالممارسات والعبارات الشائعة التي هيمنت على تفكير المثقفين طيلة جيلين أو ثلاثة؛ ويدخل في هذه القائمة: «المقاربة التاريخية»، ونظرية التطور، ونظرية الحتمية في القرن التاسع عشر، والإيمان بالتأثير المهيمن للبيئة مقابل تأثير الوراثة، ونظرية النسبية، والإيمان بقوة اللاوعي… كل واحد من هذه المفاهيم العامة أصبح حينها معيارا تقارن به الإبداعات الجديدة في مختلف المجالات. ويبدو هنا أن هذه الأفكار كلما كانت أقل تحديدا أو دقة (أو أقل فهما) زاد تأثيرها، وفي بعض الأحيان تجد تأثيرا كبيرا ينبع عن مجرد انطباع غامض، وبهذه الطريقة تأثرت عملية التطور السياسي تأثرا فادحا بفعل أفكار من أمثال: أن التحكم القصدي أو التنظيم الواعي يمكنه أن يتفوق في الشؤون الاجتماعية على نتائج العمليات التلقائية التي لا يوجهها العقل البشري، أو أن أي نظام يتأسس على خطة مرسومة مسبقا يجب أن يكون أفضل من أي نظام ينتج عن موازنة القوى المتضادة.
ليس هنالك إلا اختلاف شكلي في دور المثقف عندما يتعلق الأمر بعملية تطوير أفكار اجتماعية أكثر اكتمالا؛ فهنا تعبر ميولهم الخاصة بهم عن نفسها في التشدق بعبارات إلهائية، وعقلنة طموحات معينة تنشأ من التصرفات البشرية الطبيعية وإيصالها إلى حالة متطرفة. وبما أن الديمقراطية أمر جيد، فكلما أمكن الدفع بعجلة المبدأ الديمقراطي كلما كان ذلك أفضل في نظرهم. إن أقوى هذه الأفكار العامة التي طبعت التطورات السياسية المعاصرة بطابعها الخاص هي دون شك فكرة السعي إلى المساواة المادية، وهي فكرة تتميز بأنها ليست من المعتقدات الأخلاقية التي نمت تلقائيا بعد تطبيقها أولا على العلاقات التي تربط أفرادا بعينهم، ولكنها بنية فكرية نشأت من مفاهيم مجردة ويشوبها الغموض من ناحيتي معناها وأمثلة تطبيقها في حالات خاصة؛ ومع ذلك تجدها اليوم وقد فعلت فعلها بقوة على أساس أنها مبدأ تم اختياره من بين عدة مناهج بديلة في السياسة الاجتماعية، لتمارس ضغطا مستمرا تجاه ترتيب الشؤون الاجتماعية على نحو لا يمتلك أحد رؤية واضحة له. وإذا كان هنالك إجراء يبدي علامات تحقيق قدر أكبر من المساواة فهذا يعني أنه يتبوأ منزلة التوصية الأولى التي لا يكاد يلقى لغيرها أي بال. وبما أن كل القضايا أصبح ينظر إليها من هذا الجانب من قبل القائمين على توجيه الرأي العام، تمكنت فكرة المساواة من تحديد مسار التغيير الاجتماعي، حتى أنها بلغت من القوة في ذلك حدا تجاوز ما خطط له الداعون إليها.
إن القيم الأخلاقية ليست وحدها في التصرف وفق هذا المسلك؛ إذ نجد أحيانا أن مواقف المثقفين تجاه مشاكل النظام الاجتماعي تتولد من الاكتشافات العلمية الجديدة لوحدها، وفي هذا الحال يكون للآراء الخاطئة في قضايا وأوقات معينة ما يبدو أنه المكانة المرموقة للإنجازات العلمية الأخيرة التي سبقتها. وليس من المدهش في حد ذاته أن نجد إنجازا علميا أصيلا قد تحول بهذه الطريقة إلى مصدر يتولد منه خطأ جديد. وإذا لم تتولد استنتاجات خاطئة من تعميمات جديدة فعندها تكون حقائق نهائية لا تحتاج لأي مراجعة أبدا. وعلى الرغم من أن القاعدة تقول بأن أمثال هذه التعميمات الجديدة سوف تكتفي بتقاسم العواقب الخاطئة التي يمكن أن تتولد منها مع الآراء التي كان يعتقد بها سابقا، وهكذا فإنها لا تؤدي إلى خطأ جديد، فمن المحتمل بشدة أن تقوم النظرية الجديدة، وبنفس الطريقة التي تتضح فيها قيمتها بما تقدمه من استنتاجات جديدة مقبولة، بإنتاج استنتاجات منطقية أخرى تؤدي الإنجازات العلمية التالية إلى كشف بطلانها، ولكن هذا الحال سيكشف عن وجود معتقد خاطئ يظهر مترافقا مع المكانة المرموقة للمعرفة العلمية الأخيرة التي تدعمه، حتى وإن كان المجال التخصصي الذي يستند إليه هذا المعتقد متناقضا معه، فهو يظهر كرأي ليس له مثيل في توافقه مع روح العصر إذا خضع لتقييم محكمة المثقفين والأفكار التي تتحكم بتفكيرهم. وهكذا فإن الخبراء الذين سيفوزون بالشعبية بين الناس والتأثير الواسع عليهم لن يكونوا ممن يحوز على اعتراف أقرانهم بمكانتهم هذه، وإنما سيظلون دائما من الذين ينعتهم الخبراء بصفات من قبيل: غريبي الأطوار أو الهواة أو المزيفين، ولكنهم سيصبحون في أعين الناس أفضل الخبراء في مجالاتهم.
يمكن أن يكون هنالك بشكل خاص قليل من الشك حول ما إذا كانت الطريقة التي تعلم الإنسان استخدامها خلال السنوات المئة الماضية لتنظيم قوى الطبيعة قد أسهمت بشكل كبير في نشوء اعتقاد مفاده أن مثل هذه السيطرة في مجال القوى الاجتماعية يمكنها أن تؤدي إلى إدخال تحسينات مشابهة على حياة الإنسان؛ وإذا أضفنا إلى ذلك تطبيق تقنيات الهندسة، فسيكون من المفترض وفق هذا الطرح أن يؤدي توجيه كافة أوجه النشاط البشري وفق خطة متماسكة واحدة إلى تحقيق النجاح في المجتمع بمثل ما يكون عليه النجاح الذي يحققه ما لا يحصى من المشاريع الهندسية، وهو استنتاج شديد الخداع يستدرج أولئك الذين تبهرهم إنجازات العلوم الطبيعية. هنا يجب علينا أن نعترف بأمرين اثنين: أن مواجهة الافتراض القوي الذي يدعم هذا الاستنتاج تحتاج إلى حجج متينة، وأن هذه الحجج لم يتم التعبير عنها حتى اليوم بما يكفي، إذ لا يمكن الاكتفاء بالإشارة إلى عيوب طرح معين بالاستناد على هذا النوع من المحاججة العقلية، فالحجة لن تخسر قوتها حتى يكون هنالك عرض حاسم للأسباب التي تجعل ما شهد الواقع بنجاحه المؤزر في إنتاج الإنجازات أمرا يتطلب وضع حدود لنفعه في كثير من المجالات، ويفرز ضررا واقعا إذا ما تعدى هذه الحدود. إن هذه مهمة لم تُنجَز حتى الآن بالشكل الكافي، وسيكون من اللازم إنجازها قبل أن تخمد الحركة الحالية المناوئة للاشتراكية.
إن ما طرحته لا يمثل دون شك غير مثال واحد من أمثلة كثيرة عن الحاجة إلى تقدم فكري إذا ما رغبنا في دحض الأفكار الضارة التي تبرز في يومنا هذا، وهي تبين لنا أن البداية المثلى لمهمتنا تكمن في مناقشة قضايا شديدة التجريد. ولا يكفي لمن تهمه شؤون الساعة أن يكون واثقا، وذلك بفضل معرفته الصميمية بمجال معين، بأن الزمن كفيل بإثبات عدم جدوى نظريات الاشتراكية المشتقة من أفكار أكثر تعميما؛ فقد يكون محقا تماما في ذلك، ولكن مقاومته سوف تطغى عليها التحديات وستحدث كافة العواقب السيئة التي تنبأ بحدوثها إذا لم يكن مدعوما بحجج متينة لدحض (الأفكار الأم)، وما دام المثقف قادرا على هزيمة الحجج العامة، فإن أمتن الاعتراضات التي يواجهها في قضية معينة لن تجد من يلقي لها أي بال.
(5)
إن ما طرحناه في ما سبق لا يستوفي كافة مناحي القضية موضوع البحث؛ فالقوى التي تؤثر على عملية تحشيد الناس للانضمام إلى صفوف المثقفين تعمل على النحو ذاته في توضيح سبب ميل هذا العدد الكبير من البارزين فيهم إلى الاشتراكية. ولا شك في أن هنالك الكثير من الاختلاف في الرأي بين المثقفين بالقدر ذاته الذي يوجد في الفئات الأخرى من الناس، ولكن يبدو من الصواب أن نقول إجمالا بأن أكثر المثقفين نشاطا وذكاء وأصالة هم الأكثر ميلا إلى الاشتراكية، أما أعداؤها فيغلب عليهم انتماؤهم إلى منزلة أدنى، وهذا يصح بالأخص خلال المراحل الأولى من تغلغل الأفكار الاشتراكية، أما في ما بعد فعلى الرغم من أن المرء خارج حلقات المثقفين قد يحتاج إلى الشجاعة ليجهر بمعتقداته الاشتراكية، فإن التأثير الضاغط لآراء المثقفين المؤيدة للاشتراكية يصل في الغالب إلى حد من الشدة يجعل المرء بحاجة إلى قدر أكبر من القوة والاستقلالية ليعارض هذه الآراء ولا ينضم إلى ما يعتبره زملاؤه آراء حديثة. وعلى سبيل المثال، لا يمكن لأحد من الملمين بالعدد الكبير من الكليات في الجامعات (بهذا الاعتبار ربما ينبغي علينا أن نصنف الأساتذة الجامعيين كمثقفين لا كخبراء) أن يتجاهل حقيقة مفادها أن أكثر الأساتذة ذكاء ونجاحا في يومنا هذا هم من الاشتراكيين، أما من يعتنقون آراء سياسية أكثر محافظية فيغلب عليهم تواضع المستوى؛ وهذه الظاهرة تكفي لوحدها في قيادة الجيل الشاب إلى معسكر الاشتراكية.
لا شك في أن الإرادة الاشتراكية لا ترى في هذا إلا دليلا على أنه كلما زاد الإنسان ذكاء في يومنا هذا كلما ازداد ارتباطه بالاشتراكية، ولكن هذا الطرح لا يرقى إلى أن يقدم قاعدة راسخة أو شرحا ممكنا؛ فالسبب الرئيسي الذي يكمن خلف هذه الظاهرة قد يتمثل في وجود العديد من الطرق المتاحة للوصول إلى النفوذ والسلطة أمام الشخص القادر استثنائيا على تقبل النظام الاجتماعي الراهن، أما المتذمر والساخط فتمثل له مكانة المثقف الطريق الأمثل للوصول إلى النفوذ والقوة اللذين يساهمان في تحقيق أهدافه العليا. وعلاوة على ذلك: فإن من يكون أكثر محافظية ويتمتع بقدرات متميزة يقوم على الأعم باختيار عمل فكري (وما يستتبع ذلك من تضحية بالعوائد المادية) لمجرد ما به من متعة في حد ذاته، ومن شأن ذلك أن يجعل منه عالما خبيرا وليس مثقفا (بالمعنى الخاص لهذه الكلمة)؛ أما ذوو العقول المتشددة فيغلب عليهم تبوؤهم لمنزلة المثقف باعتبارها وسيلة لا غاية، وطريقا يوصلهم إلى النفوذ الواسع نفسه الذي يتمتع به المثقف المحترف. وهنا قد تكون الحقيقة كما يلي: ليس أغلب الأذكياء هم من الاشتراكيين على الأعم، وإنما توجد نسبة كبيرة من الاشتراكيين ضمن الأذكياء ممن يحشدون جهودهم لمسعى فكري يمنحهم في المجتمع الحديث نفوذا ذا تأثير حاسم على الراي العام.(3)
3.يتصل بهذا الشأن ظاهرة مألوفة أخرى: فليس من المعقول أن نصدق بندرة وجود قدرة فكرية ممتازة لإنتاج أعمال أصيلة لدى غير اليهود مقارنة باليهود؛ بينما لا يوجد شك في أن اليهود يشكلون في كل مكان نسبة لا تضاهى من المثقفين بحسب المعنى الذي أوردناه، أي في منزلة المفسر المحترف للأفكار، وقد يكون ذلك من مواهبهم المميزة، وبالأخص في الدول التي تضع عراقيل تمييزية تمنع مساهمتهم في المجالات الأخرى؛ ومن المرجح أن نسبتهم الكبيرة في صفوف المثقفين ساهمت أكثر من أي سبب آخر في استعدادهم أكثر من غيرهم لتقبل الأفكار الاشتراكية.(الكاتب)
إن اتخاذ القرار بالانضمام إلى المثقفين يرتبط ارتباطا وثيقا بالمصلحة الغالبة التي يظهرونها إزاء الأفكار العامة والمجردة؛ فالأفكار التي تدور حول إمكانية إعادة بناء المجتمع بشكل كامل تقدم للمثقف غذاء يستهويه أكثر من الاعتبارات العملية قصيرة المدى التي يحملها أولئك الذين يسعون إلى تحسين النظام القائم بصورة تدريجية. وبالأخص، تدين الاشتراكية بالفضل في اجتذابها للشباب إلى طابعها الحالم، ومجرد شجاعتها في الانغماس في الفكر الطوباوي يكون بهذا الاعتبار مصدر قوة للاشتراكية تفتقر إليه الليبرالية التقليدية، وهو اختلاف يصب في مصلحة الاشتراكية، وذلك ليس لأن التفكر في المبادئ العامة يوفر فرصة يسرح فيها خيال أولئك الذين لا تنشغل أذهانهم بكثير من معارف الحياة المعاصرة فحسب، وإنما يعود ذلك أيضا إلى أن هذا التفكر يرضي رغبة مشروعة بفهم الأساس العقلاني لأي نظام اجتماعي ويفتح مجالا لممارسة هذه الغريزة البناءة التي لم تدع لها الليبرالية إلا متنفسا ضيقا بعد أن حققت انتصاراتها الكبيرة. وهذه النزعة تجعل المثقف غير عابئ بالتفاصيل التقنية أو الصعوبات العملية، فما يجذبه هو الصورة الكبيرة والاستيعاب الزائف للنظام الاجتماعي ككل وفق ما تعده به المنظومات المخطط لها مسبقا.
إن الحقيقة القائلة بأن أذواق المثقفين أكثر تقبلا لطروحات الاشتراكيين أدت إلى ضرر فتاك على نفوذ الأفكار الليبرالية؛ فعندما ظهر بأن المطالب الأساسية للبرامج الليبرالية قد تمت تلبيتها، توجه المفكرون الليبراليون إلى معالجة مشكلات تفصيلية ونزعوا إلى إهمال تطوير الفلسفة العامة لليبرالية، والتي توقفت بسبب ذلك عن أن تكون قضية حية تقدم مجالا للتنظير العام، وهكذا ظل الاشتراكيون طيلة أكثر من نصف قرن وهم يقدمون لوحدهم ما يشبه برنامجا واضحا للتطور الاجتماعي، وصورة لمجتمع المستقبل الذي يهدفون إليه، ومجموعة من المبادئ العامة التي تقود القرار في مسائل معينة. ولو صح زعمي فإن ما تعانيه مثلهم العليا من تناقضات جوهرية، وفشل أي محاولة لتطبيقها على أرض الواقع في الخروج بنتيجة لا تختلف عن توقعاتهم، لا يغير من حقيقة مفادها أن برنامجهم للتغيير هو البرنامج الوحيد الذي أثر بحق على تطور المؤسسات الاجتماعية. فبما أنهم كانوا من قدم الفلسفة العامة الواضحة الوحيدة للسياسة الاجتماعية التي تعتنقها جماعة كبيرة، والمنظومة أو النظرية الوحيدة التي تسلط الضوء على مشكلات جديدة وتفتح آفاقا جديدة، تمكنوا من النجاح في إلهام مخيلة المثقفين.
إن التقدم الحقيقي للمجتمع خلال تلك الحقبة لم يتقرر على أساس معركة بين القيم العليا المتضاربة، وإنما بالتضاد بين واقع معاش ومثل أعلى يسعى إلى مجتمع مستقبلي احتمالي لا يقدمه للناس غير الاشتراكيين، ولم يكن هنالك إلا القليل جدا من البرامج الأخرى التي قدمت نفسها كبدائل فريدة من نوعها، ذلك أن معظمها لم يكن غير تسويات أو خلائط متناقضة تجمع بين النظام الراهن وأشد حالات الاشتراكية تطرفا. ولم يكن يلزم لإظهار أي طرح اشتراكي بمظهر معقول أمام تلك العقول «الحصيفة» المقتنعة بطبعها بأن الحقيقة يجب أن تكون دائما في الوسط بين الطرفين، غير النصح باتباع طرح أكثر تطرفا. وبدا كما لو أن هنالك جهة واحدة يمكن المضي فيها، وسؤالا واحدا قابلا للطرح، وهو: ما هي سرعة هذه الحركة وإلى أين يمكنها أن تتمادى؟
(6)
يمكن توضيح أهمية ما يمنحه الطابع الاستشرافي للاشتراكية من جاذبية خاصة لها في نظر المثقفين إذا تمكنا من الاستغراق أكثر في مقارنة موقع المنظر الاشتراكي مع ندّه الذي يكون ليبراليا وفق المعنى القديم لمصطلح الليبرالية. وتفيدنا هذه المقارنة أيضا بالحصول على ما يمكن من الدروس التي يحصل عليها من يقوم بتقييم كاف للقوى الفكرية التي تدمر أسس أي مجتمع حر.
وثمة تناقض كبير في أن نرى أحد المعوقات التي تحرم المفكر الليبرالي من النفوذ الشعبي وهو يتصل اتصالا وثيقا مع حقيقة مفادها أن بعده عن الاشتراكية يعطيه فرصة أكبر للتأثير المباشر على قرارات السياسة الراهنة، وبالتالي فهو لا يكون منجذبا فحسب نحو الاستشراف بعيد المدى الذي يمثل مصدر قوة الاشتراكيين، وإنما لا يتشجع لسلوك هذا الدرب الذي يؤدي في العادة إلى تقليص مجال النفع المباشر الذي يمكنه القيام به. إن القوة التي يمتلكها للتأثير على القرارات العملية تتعلق بموقعه ضمن ممثلي النظام القائم، وهذا الموقع يتعرض للخطر إذا كرس جهده للاستشرافات التي تجتذب المثقفين ويمكنه من خلالها أن يتسبب بتطورات في مدد زمنية طويلة. ولكي يستطيع التأثير على القوى الموجودة يجب عليه أن يكون «عمليا» و»عقلانيا» و»واقعيا»؛ فما دام منخرطا بالقضايا الراهنة يمنحه ذلك النفوذ والنجاح المادي والشعبية مع الذين الذي يتشاطرون معه نظرته العامة نوعا ما؛ لكن هؤلاء ليس لديهم إلا القليل من الاحترام للاستشرافات حول المبادئ العامة التي تشكل المناخ الفكري؛ وفي الواقع، إذا أقدم المفكر على الانخراط بجدية في الاستشرافات بعيدة المدى فسيجعله ذلك ميالا إلى اكتساب صيت «فقدان متانة الرؤية» أو أنه شبه اشتراكي، وذلك لأنه غير عازم على ربط النظام الراهن بالمنظومة الحرة التي يسعى إليها.(4)
4.أكثر الأمثلة الراهنة وضوحا عن مثل هذه الإدانة لكتاب ليبرالي نوعا ما بوصمه بالاشتراكية يمكن العثور عليها في بعض التعليقات التي طالت كتاب (السياسة الاقتصادية في مجتمع حر) الذي صدر عام 1948 للكاتب الراحل هنري سيمون. إذ قد لا يتفق القارئ مع الكتاب بالمجمل وربما يعتبر بعض اقتراحاته لا تتوافق مع المجتمع الحر، ولكنه لا بد أن يعترف بأنه من أهم المساهمات الحديثة في موضوعنا وأنه الكتاب الذي نحتاجه تماما لبدء النقاش حول القضايا الرئيسية. وحتى هؤلاء الذي يختلفون بقوة مع بعض طروحاته يجب عليهم أن يستقبلوه كمساهمة تطرح المشكلات المركزية في وقتنا الراهن بوضوح وشجاعة.(الكاتب)
وإذا استمرت جهود المفكر في اتجاه الاستشرافات العامة بالرغم من كل ما أسلفناه، فسيكتشف عاجلا وجود مخاطرة في الارتباط الوثيق جدا بمن يبدو عليهم أنهم يتشاطرون معتقداته، مما يلقيه سريعا في هاوية الانعزال. وفي الواقع لا يمكن أن يوجد الكثير من المهمات التي لا تلاقي التقدير المناسب كما يحصل مع المهمة الضرورية التي تتمثل في تهيئة الأساس الفلسفي الذي يجب أن يبنى عليه تطور أي مجتمع حر. وبما أن من يضع على عاتقه تنفيذ هذه المهمة يتوجب عليه أن يتقبل كثيرا من جوانب الإطار العام للنظام القائم، فإنه سيبدو بذلك أمام الكثيرين من المثقفين الأكثر ميلا إلى الاستشراف وكأنه مجرد تبريري جبان يلتمس الأعذار لبقاء الأمور كما هي؛ وسيتعرض في الوقت نفسه للطرد من القائمين على الأمور لاعتباره منظّرا غير عملي؛ فهو ليس ثوريا بما يكفي لإرضاء أذواق من يفهمون العالم على أساس أن «الأفكار المختلفة يمكنها أن تتعايش بسلام»، ولأنه ثوري جدا في أعين من لا يرون سوى «الصراع العنيف للأشياء في الحيز الواحد». فإذا استغل الدعم الذي يمكنه الحصول عليه من القائمين على الأمور فسيجعله ذلك دون مصداقية أمام الذين يعتمد عليهم لنشر أفكاره؛ وفي الوقت نفسه سيحتاج إلى الحذر الشدبد كي يتفادى كل ما يجعله مثالا للغلو أو المبالغة. وبينما لا يوجد بين المنظرين الاشتراكيين من تسبب بفقدان مصداقيته بين زملائه ولو تفوه بأتفه الطروحات، فإن الليبرالي (من النمط القديم) سيتعرض للعار والبوار إذا قدم اقتراحا غير قابل للتطبيق. ولكنه إذا امتنع عن هذه المحظورات فسيظل أمام المثقفين في منزلة من لا يمتلك ما يكفي من القدرة على الاستشراف أو المغامرة، وسينظرون إلى ما يقترحه من تغيير أو تحسين للبنية الاجتماعية على أنها محدودة بالمقارنة مع ما يمكن أن يتولد عن مخيلتهم الأقل قيودا.
إن البرنامج الليبرالي ليس له أن يتمتع بجاذبية الاختراع الجديد ما لم يكن، على الأقل، ضمن مجتمع توفرت فيه المتطلبات الأساسية للحرية وأصبحت فيه التحسينات الإضافية أمرا يبعث على الاهتمام بنقاط لها قدر مشابه من التفاصيل. إن إدراك قيمة هذه التحسينات التي يجب أن يقدمها هذا البرنامج يتطلب معرفة بآليات عمل المجتمع القائم أكثر مما يمتلكه المثقف العادي. كما إن مناقشة هذه التحسينات ينبغي أن تجري في مستوى أكثر واقعية مما هو موجود في البرامج الأكثر ثورية، مما ينتج خليطا لا يجذب المثقف إلا قليلا ويميل إلى استحضار عناصر يشعر تجاهها بالضدية المباشرة. إن أكثر الناس اطلاعا على آليات عمل المجتمع الراهن يكون مهتما في العادة بالمحافظة على مزايا معينة للمجتمع ربما لا يمكن الدفاع عنها ضمن إطار المبادئ العامة؛ فبخلاف من يسعى إلى نظام مستقبلي جديد تماما ويرجع إلى المنظّر بشكل طبيعي طلبا للتوجيه، يفكر من يعتقد بالنظام القائم عادة بأنه يفهم هذا النظام على نحو أفضل بكثير من أي منظّر، ويميل بالتالي إلى رفض ما يعتبره تنظيريا أو غير مألوف بحسب رأيه.
إن صعوبة العثور على دعم أصيل وموضوعي لسياسة منهجية للحرية ليست بالأمر الجديد. فقد كتب اللورد اكتون منذ أمد بعيد فقرة تذكرني دائما بالكيفية التي تم بها استقبال أحد الكتب التي ألفتها، حيث قال:
لقد كان أصدقاء الحرية المخلصون من الأمور النادرة في جميع العصور، وما حققَتْه الحرية من انتصارات كان بفضل أقليات انتصرت بتضافر جهودها مع عناصر مساعدة اختلفت أهدافها عن أهدافهم؛ وهذا التضافر، وهو خطير دائما، كانت له نتائج مدمرة أحيانا، وذلك من خلال منح الأعداء أرضية عادلة يمارسون عليها معارضتهم…(5)
5.اللورد اكتون: تاريخ الحرية (لندن، 1922).
وفي عصر أحدث اشتكى بالطريقة ذاتها أحد الاقتصاديين الأمريكيين المرموقين من أن المهمة الأساسية لمن يؤمن بالمبادئ الأساسية للنظام الرأسمالي كثيرا ما تتمثل في الدفاع عن هذا النظام ضد الرأسماليين؛ وهذه حقيقة كان يعلمها الاقتصاديون الليبراليون العظام من آدم سميث حتى وقتنا هذا.
إن العقبة الأكثر خطرا التي تفصل الشخص العملي الذي يحمل راية الحرية في قلبه بأصالة عن هذه القوى التي تقوم في مجال الأفكار بتقرير مسار التطور تتمثل في ما يحمله من ارتياب عميق تجاه الاستشراف التنظيري وميله إلى التشدد؛ وهذا، أكثر من غيره، يخلق حاجزا لا يمكن اختراقه بينه وبين المثقف الذي يكرس نفسه للهدف ذاته، ويكون العون الذي يقدمه أمرا لا يستغنى عنه إذا كان يؤمل للمسعى أن ينتصر. وبالرغم من أن هذا الميل قد يكون طبيعيا عند من يدافع عن نظام ما لأنه أثبت رجاحته بالممارسة، وعند من يبدو لهم تبريره الفكري غير ممكن ماديا، فإنه عنصر فتاك يكبح استمرارية النظام لأنه يجرده من الدعم الذي يحتاجه. إن التشدد بكافة أنواعه، وأي تظاهر بأن أي منظومة أفكار هي نهائية وينبغي قبولها بالمجمل، هو الرأي الذي يتعارض حتما مع كل المثقفين مهما كانت آراؤهم حول القضايا المطروحة. إن أي نظام يقيّم الناس من خلال إتمامهم عملية التلاؤم مع مجموعة ثابتة من الآراء، ومن خلال «متانة» موقفهم أو مدى إمكانية الاعتماد عليهم للتمسك بكافة نقاط الرؤى التي يوافق عليها، يجرد نفسه من الدعم الذي لا يمكن أن تتخلى عنه أي مجموعة من الأفكار إذا أرادت استمرار تأثيرها في المجتمع الحديث. إن إمكانية انتقاد الرؤى المقبولة، واستكشاف آفاق جديدة، وتجربة مفاهيم جديدة، تخلق جوا لا يمكن للمثقف أن يتنفس بدونه؛ وإذا كان المسعى لا تتوفر فيه مثل هذه الصفات فلا يمكنه أن يحصل على دعم المثقف ويبوء بالخسران في أي مجتمع يعتمد على خدماته كما هو حال مجتمعاتنا.
(7)
ربما يكون من طبيعة المجتمع الحر كما نعرفه أنه يحمل قوى تدميره بنفسه، ذلك أن الحرية ما أن تتحقق حتى يتوقف الإحساس بقيمتها حتما، وأن نمو الأفكار التي تشكل جوهر المجتمع الحر يحمل معه انهدام الأسس التي يعتمد عليها. ويكاد لا يكون هنالك شك في أن بعض الدول من أمثال الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت فيها قيمة الحرية ذات جاذبية أقل في أذهان الشباب بالمقارنة مع الدول التي تعلمت معنى خسارة الحرية. ومن جهة أخرى، هنالك مؤشرات كثيرة في ألمانيا وغيرها على أن الشباب الذي لم يعرف العيش ضمن مجتمع حر يرى مهمة بناء المجتمع الحر ذات متعة وإبهار كما في أي مخطط اشتراكي ظهر خلال السنوات المئة الماضية. وهنالك حقيقة غير طبيعية لاحظها الكثير ممن زاروا ألمانيا، حيث أن الحديث مع الطلبة الألمان حول مبادئ المجتمع الحر تثير قدرا أكبر من الاستجابة والحماس بالمقارنة مع ما يأمل المرء أن يلاقيه في أي دولة أخرى من الدول الديمقراطية الغربية. وكذلك يمكننا أن نلاحظ في بريطانيا ظهور حالة من الاهتمام في صفوف الشباب بمبادئ الليبرالية الحقيقية، وهو ما لم يكن موجودا قبل سنوات قليلة.
هل يعني هذا بأن الشعور بقيمة الحرية لا يكون إلا حين فقدانها، وأن كل دول العالم ينبغي أن تعايش مرحلة مظلمة في ظل الشمولية الاشتراكية قبل أن تتمكن قوى الحرية من امتلاك القوة مرة أخرى؟ ربما يكون ذلك صحيحا، ولكنني آمل أن لا يتوجب علينا ذلك. ولكن ما دام هؤلاء الذين يمتلكون ناصية القرار الشعبي خلال مدد زمنية طويلة مستمرين في انجذابهم إلى المثل العليا للاشتراكية، فإن ذلك المسار سيتكرر. أما إذا أردنا أن لا تتطور الأمور كذلك، فينبغي علينا أن نقدم برنامجا ليبراليا جديدا يجذب خيال الناس. يجب علينا أن نجعل عملية بناء المجتمع الحر مرة أخرى مغامرة فكرية وتصرفا شجاعا. إن ما ينقصنا هو يوتوبيا ليبرالية: برنامج لا يبدو كمجرد دفاع عن بقاء الأمور كما هي ولا كنوع مخفف من الاشتراكية، وإنما كتشدد ليبرالي حقيقي لا يحتوي نقاط ضعف البنى الكبرى (بما فيها النقابات)، وليس عمليا بإفراط، ولا يحصر جهوده في ما يعتبر اليوم ممكنا من الناحية السياسية. إننا بحاجة إلى قادة ذوي فكر واستعداد لمقاومة إغراءات السلطة والنفوذ، وعازمين على العمل في سبيل مثل عليا مهما تضاءلت إمكانية تحقيقها في أولى مراحلها. إن هؤلاء القادة ينبغي أن يتحلوا بالالتزام بالمبادئ والنضال في سبيل تحقيقها بشكل كامل مهما كان ذلك بعيد المنال، أما التسويات العملية فهي مهمة ينبغي أن يتركوها إلى السياسيين. إن التجارة الحرة وحرية اقتناص الفرص هي قيم عليا ربما لا تزال حية في أذهان الكثيرين، ولكن مجرد «قدر معقول من حرية التجارة» أو مجرد «تخفيف القيود» ليس من الأمور المقبولة فكريا كما إنها قد لا تؤدي إلى إثارة أية حماسة.
إن الدرس الأساسي الذي يجب على الليبرالي الحقيقي أن يتعلمه من نجاح الاشتراكيين يتمثل في أن شجاعتهم في أن يكونوا طوباويين هي التي منحتهم دعم المثقفين، وتمكنوا بالتالي من التأثير على الرأي العام اليومي فأصبح من الممكن إنجاز ما كان يعتبر في الأمس القريب أمرا بعيدا تماما عن إمكانية الإنجاز. أما من حصروا اهتمامهم مع ما بدا ممكنا إنجازه في الحالة الراهنة للرأي العام فقد دأبوا على اكتشاف أن حتى هذا المجال يصبح سريعا من المستحيلات السياسية نتيجة لتغيرات الرأي العام الذي لم يقوموا بأي شيء لتوجيهه. إننا ما لم نجعل من الأسس الفلسفية للمجتمع الحر مسألة فكرية أكثر إلحاحا، وتطبيقها مهمة تتحدى عبقرية وخيال أمهر العقول فحينها ستبدو آفاق الحرية مظلمة، أما إذا تمكنا من استرجاع إيماننا بقوة الأفكار التي كانت علامة الليبرالية في أفضل مراحلها، فحينها لن نخسر المعركة. إن عملية الإحياء الفكري لليبرالية تجري الآن في عدد من أنحاء العالم، فهل ستكتمل في الوقت المناسب؟
إذا أراد المرء أن يناصر مجتمعا حرا فعليه أن يدرك بأن هذا المجتمع يرتكز على أساس لا غنى عنه، وهو مبدأ الحقوق الفردية. وإذا أراد المرء أن يساند الحقوق الفردية فعليه أن يدرك بأن الرأسمالية هي النظام الوحيد الذي يمكنه مساندتها وحمايتها. وإذا أراد المرء أن يعرف مدى العلاقة بين الحرية والأهداف الحالية للمثقفين، فيمكنه أن يعتمد على حقيقة مفادها أن مفهوم الحقوق الفردية يتعرض للتهرب والتشويه والتضليل ونادرا ما تتم مناقشته في أوساط من يدعون «بالمحافظيين» بشكل خاص.
إن «الحقوق» مفهوم أخلاقي يقدم انتقالا منطقيا من المبادئ التي توجه تصرفات المرء إلى المبادئ التي توجه علاقته مع الآخرين، وهو مفهوم يحافظ على الأخلاقيات الفردية ويحميها في سياق اجتماعي، وهو الصلة ما بين المنظومة الأخلاقية للفرد والمنظومة القانونية للمجتمع، وما بين الأخلاق والسياسة، وبعبارة موجزة: الحقوق الفردية هي وسيلة إخضاع المجتمع إلى قانون أخلاقي.
يتأسس كل نظام سياسي على منظومة أخلاقية معينة، وقد سيطرت على تاريخ البشرية منظومة أخلاقية متنوعة الأشكال ولكنها تعتمد في جوهرها على قاعدة (الإيثار والجماعة) التي أخضعت الفرد إلى سلطة عليا، سواء أكانت روحية أم اجتماعية، ونتج عن ذلك أن معظم الأنظمة السياسية كانت مجرد أشكال متنوعة للطغيان الدولاني نفسه، ولا تختلف عن بعضها البعض إلا بالشدة، لا بالمبدأ الأساسي؛ واستمرت هذه الأنظمة عبر الزمن ولم تكن لتتوقف لولا حالات استثنائية مرت بها بفعل التقاليد والفوضى والصراعات الدموية والانهيار من حين لآخر. وكانت الأخلاق في هذه الأنظمة منظومة قابلة للتطبيق على مستوى الفرد، لا المجتمع؛ حيث وُضع المجتمع (خارج) القانون الأخلاقي باعتباره رمزا أو مصدرا أو مفسرا حصريا له، وتم تلقين الناس بأن واجب الإخلاص والتضحية بالنفس للمجتمع هو الهدف الأسمى للأخلاق خلال وجود الإنسان في هذه الدنيا.
وبما أن «المجتمع» ليس كيانا حقيقيا، وإنما هو عدد من الأفراد؛ فقد أدى ذلك في الواقع إلى أن يكون قادة المجتمع مستثنين من القانون الأخلاقي؛ وبما أنهم لا يخضعون لغير العادات والتقاليد فقد تمتعوا بسلطة كاملة فرضت الطاعة العمياء ضمن مبدأ ضمني مفاده: «الصالح هو ما يصلح للمجتمع (أو القبيلة، العرق، الأمة)، وما أوامر الحاكم إلا صوت المجتمع على أرض الواقع». ويصح هذا في كافة الأنظمة الدولانية، وضمن كافة أشكال الأخلاقيات (الإيثارية الجماعية) سواء أكانت روحية أم اجتماعية، وهما جانبان يتلخص الأول منهما في مقولة «الحق الإلهي للملوك»، ويتلخص الثاني في مقولة «صوت الشعب هو صوت الرب»، ومن أمثلة ذلك: الدولة الدينية في مصر القديمة حيث يعتبر الفرعون تجسيدا للرب، والحكم غير المحدود للأغلبية في أثينا القديمة، ودولة الرعاية التي حكمها الأباطرة في روما، ومحاكم التفتيش في منتصف العصور الوسطى، والملكية المطلقة في فرنسا، ودولة الرعاية في بروسيا إبان حكم بسمارك، وغرف الغاز في ألمانيا النازية، ومجازر الاتحاد السوفييتي. إن كافة هذه الأنظمة السياسية كانت تعبيرا عن الأخلاقيات (الإيثارية الجماعية)، وتجمع بينها صفة مميزة تتمثل في حقيقة مفادها أولوية المجتمع على القانون الأخلاقي ككيان يستهويه الطغيان والسيادة والنزوات، وبالتالي فهذه الأنظمة جميعها تعتبر، من الناحية السياسية، أشكالا متنوعة لمجتمع واحد عديم الأخلاق.
لقد كان (إخضاع المجتمع إلى قانون أخلاقي) أهم إنجاز ثوري قامت به الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث مثّل مبدأ الحقوق الفردية للإنسان امتداد يد الأخلاق لتطال النظام الاجتماعي. ومن خلال الحد من سلطة الدولة، وحماية الإنسان من همجية قوة الجماعة، وإخضاع «الجبروت» إلى «الحق»، أصبحت الولايات المتحدة أول مجتمع أخلاقي في التاريخ.
اعتبرت الأنظمة السابقة جميعها الإنسان بمثابة وسيلة يمكن التضحية بها لتنفيذ غايات الآخرين، والمجتمع الذي هو غاية بحد ذاته؛ أما الولايات المتحدة فقد اعتبرت الإنسان غاية بحد ذاته، والمجتمع كوسيلة لتحقيق تعايش الأفراد بشكل مسالم ومنظم وطوعي. وكل الأنظمة السابقة اعتبرت حياة المرء ملكا للمجتمع وأن المجتمع يمكنه التصرف بها بالطريقة التي يشاء، وأن أية حرية يتمتع بها ما هي إلا منّة من المجتمع يسمح بها حين يشاء، ويبطلها حين يشاء؛ أما الولايات المتحدة فاعتبرت حياة المرء ملكا له كحق من حقوقه (بمعنى المبدأ الأخلاقي والطبيعة البشرية)، وأن حق المرء ملكية فردية، وبهذا لا يكون للمجتمع أية حقوق، وأن الهدف الأخلاقي الوحيد للحكومة يتمثل في حماية الحقوق الفردية.
إن «الحق» مبدأ أخلاقي يعرّف ويصادق على حرية تصرف المرء ضمن السياق الاجتماعي. وهنالك حق أساسي (وحيد) فحسب (وكل ما عداه نتائج له)، وهو حق الإنسان في الحياة. إن الحياة عملية تتم فيها فعاليات للدعم والإنتاج على مستوى الذات، وهذا يعني: حرية اتخاذ كافة التصرفات اللازمة التي تقتضيها طبيعة الكائن العاقل لتوفير ما يلزم حياته الخاصة به من دعم وتطوير وإنجاز ومتعة. (وكذلك هو معنى الحق بالحياة والحرية والسعي إلى السعادة). ويرتبط مفهوم «الحق» ارتباطا مباشرا بتصرفات الإنسان، وبالأخص: حرية التصرف؛ وهي تعني التحرر من استخدام القوة للحث أو الإجبار أو التدخل ضد الآخرين؛ ومن هنا يكون الحق، بالنسبة لجميع الأفراد، إقرارا أخلاقيا للشخص (الموجب)، أي: حريته في التصرف وفق تقييمه الخاص، ومن أجل أهدافه الخاصة، وباستخدام خياره الخاص (الطوعي ودون إكراه). أما بالنسبة للمحيطين بهذا الشخص، فإن حقوقه لا تلزمهم بأية التزامات ما عدا (السالبة) منها، أي: الامتناع عن انتهاك حقوقه.
ويعتبر حق الحياة مصدر الحقوق جميعها، وحق الملكية هو التطبيق الوحيد لها جميعا؛ ومن دون حقوق الملكية لا يمكن للحقوق الأخرى أن تكون ممكنة؛ وبما أن الإنسان يجب عليه أن يستمر بحياته اعتمادا على جهده الخاص، فإن من لا يملك حق ملكية نتاج جهده يفتقر إلى وسيلة الاستمرار في الحياة، والإنسان الذي ينتج بينما يتصرف الآخرون بإنتاجه، هو عبد ولا ريب.
إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن حق الملكية هو حق اتخاذ التصرفات، فهو كأي حق آخر: ليسا حقا (بشيء)، وإنما هو حق بالتصرف وبنتائج إنتاج أو اكتساب ذلك (الشيء)، وهو ليس ضمانة للمرء بأنه (سوف) يكتسب ملكية ما، وإنما مجرد ضمانة بأنه سوف يمتلكها إذا اكتسبها؛ فهو حق اكتساب الأمور المادية، والاحتفاظ بها، واستعمالها، والتصرف بها.
إن مفهوم الحقوق الفردية حديث جدا في مسيرة التاريخ البشري إلى درجة نلاحظ معها أن معظم الناس لم يستوعبوها بشكل كامل إلى يومنا هذا؛ فبحسب النظريتين الأخلاقيتين الروحية والاجتماعية يشدد البعض على أن الحقوق هبة من الرب، ويشدد آخرون على أنها هبة من المجتمع؛ ولكن الحقيقة تقول بأن مصدر الحقوق ينبثق من الطبيعة البشرية.
لقد نص إعلان الاستقلال على أن الناس «منحهم خالقهم حقوقا ثابتة لا يمكن فصلها عنهم»؛ وسواء آمن المرء بأن الإنسان صنيعة الخالق أم الطبيعة، فإن قضية أصل الإنسان لا تغير من حقيقة أنه كيان ذو نوع خاص (كائن عقلاني) وأنه عاجز عن التصرف بنجاح إذا تعرض للإجبار، وأن الحقوق شرط ضروري لنمط البقاء الخاص به.
«إن مصدر حقوق الإنسان لا ينبع من قانون يأتي من السماء أو من قبة الكونغرس الأمريكي، وإنما من قانون الهوية؛ حيث (س = س) دائما، والإنسان هو الإنسان دائما؛ والحقوق شروط للوجود تقتضيها الطبيعة البشرية لتحقيق بقاء الإنسان بشكل مناسب؛ فحينما يتعين على الإنسان أن يعيش على كوكب الأرض، فمن (حقه) أن يستعمل عقله، ومن (حقه) أن يتصرف بحسب تقييمه الحر، ومن (حقه) أن يعمل لصالح قيَمه العليا وأن يحتفظ بنتاج عمله. ومن تكون الحياة على الأرض هدفا له، يكون من (حقه) أن يعيش باعتباره كائنا عقلانيا: فالطبيعة تحظر عليه أن لا يكون عقلانيا.» (أطلس يستريح)
إن انتهاك حقوق الإنسان يعني إجباره على التصرف بعكس ما يرتئيه تقييمه الخاص، أو مصادرة قيمه العليا؛ ولفعل ذلك توجد طريقة أساسية واحدة: استخدام القوة المادية. وهنالك عنصران اثنان يمكن استخدامهما لانتهاك حقوق الإنسان: المجرمون والحكومة. وقد تمثل الإنجاز الأعظم للولايات المتحدة في رسم حد فاصل يميز بين هذين العنصرين، وهو منع العنصر الثاني من أن يصبح نسخة مشروعة لنشاطات العنصر الأول. وقد وضع إعلان الاستقلال مبدأً مفاده أنه «لحماية هذه الحقوق تم تأسيس الحكومات بين الناس»، وقد قدم هذا النص التبرير المقبول الوحيد لوجود الحكومة وحدد الهدف الوحيد الذي يلائمها: وهو حماية حقوق الإنسان من خلال حمايته من العنف المادي. وهكذا تم تغيير وظيفة الحكومة من دور الحاكم إلى دور الخادم؛ حيث تم وضعها لحماية المرء من المجرمين، وتمت كتابة الدستور لحماية الإنسان من الحكومة، كما إن (وثيقة الحقوق) لم تكن موجهة ضد المواطن الفرد، وإنما ضد الحكومة كإعلان صريح بأن حقوق الفرد تتقدم على أية قوة شعبية أو اجتماعية أخرى.
نتج عن ذلك نمط اجتماعي متحضر اقتربت أمريكا من تحقيقه خلال حقبة زمنية قاربت قرنا ونصف القرن. والمجتمع المتحضر هو مجتمع يُحظر فيه على القوة المادية أن تتدخل في العلاقات البشرية، وتلعب فيه الحكومة دور الشرطي الذي يستعمل القوة للرد (فقط) وضد من بدأ باستخدامها (فقط)؛ وهذا هو المعنى الأساسي الذي كان في نية الفلسفة السياسية الأمريكية، مضمَّنا في مبدأ الحقوق الفردية، ولكن لم تتم صياغته بشكل صريح، ولم يتم القبول به تماما، ولم يمارَس على نحو متكامل.
لقد عانت أمريكا من تناقض داخلي يتمثل في الأخلاقيات (الإيثارية الجماعية)؛ فالإيثار يتضارب مع الحرية والرأسمالية والحقوق الفردية؛ إذ لا يمكن الجمع بين السعي إلى السعادة وبين الحالة المعنوية لحيوان تضحوي. لقد كان مبدأ الحقوق الفردية هو الذي تمخض عن المجتمع الحر، كما إن تدمير الحقوق الفردية هو الذي أدى إلى تدمير الحرية.
إن الاستبداد الجماعي لا يجرؤ على استعباد البلاد من خلال مصادرة قيمها على نحو صريح ومباشر؛ إنما يقوم بذلك عبر عملية فساد داخلي، كما يحدث على الصعيد المادي من خلال تبذير ثروة البلاد عبر التسبب بتضخم العملة، حيث نشاهد اليوم عملية التضخم وهي تطبق في مجال الحقوق، وهي عملية يتبعها نمو كبير في «الحقوق» الصادرة حديثا إلى حد لا يتمكن فيه الناس من ملاحظة حقيقة ما وقع، وهو أن مفهوم الحقوق قد تعرض إلى الانعكاس؛ وكما أن الأوراق المالية المزورة تسيء إلى قيمة الأوراق المالية الحقيقية، فإن «حقوق (اطبع وانشر)» تتناقض مع الحقوق الأصيلة. وهنالك حقيقة مثيرة للفضول ينبغي أخذها بعين الاعتبار، وهي أن العالم لم يشهد أبدا مثل هذا النمو السريع لظاهرتين متناقضتين، وهما: «الحقوق» الجديدة المزعومة، ومعسكرات العمل الإجباري.
تمثلت أشد حالات التناقض في تحول مفهوم الحقوق من ميدان السياسة إلى ميدان الاقتصاد، وقد لخص (إعلان المبادئ) الذي أصدره الحزب الديمقراطي عام 1960 هذا التحول بجرأة وصراحة، حيث جاء فيه أن الإدارة الرئاسية الديمقراطية «سوف تؤكد مجددا على وثيقة الحقوق الاقتصادية التي كتبها فرانكلين روزفلت في ضمير الأمة قبل 16 عاما». وينبغي الانتباه هنا إلى معنى مفهوم «الحقوق» عندما تقرأ القائمة التالية التي جاءت في الإعلان:
1.الحق بوظيفة مفيدة وذات عائد مالي جيد في مصانع أو متاجر أو حقول أو مناجم الأمة.
2.الحق بتقاضي أجر كافٍ يفي بحاجات الغذاء واللباس والتسلية.
3.الحق لكل مزارع بتربية وبيع منتجاته بسعر يوفر معيشة كريمة له ولأسرته.
4.حق كل أرباب الأعمال، مهما كان حجم هذه الأعمال، بالتجارة في مناخ يتحرر فيه من المنافسة غير العادلة والهيمنة الناتجة عن الاحتكارات الداخلية والخارجية.
5.حق كل عائلة بمنزل مناسب.
6.الحق برعاية صحية مناسبة وتوفير فرصة تحقيق مستوى صحي جيد والتمتع به.
7.الحق بمستوى كاف من الحماية ضد المخاوف الاقتصادية التي سادت في عصور الماضي، والمرض، والحوادث، والبطالة.
8.الحق بمستوى جيد من التعليم.
يمكننا إضافة سؤال توضيحي وحيد في نهاية كل من البنود التي وردت أعلاه، وهو: (على حساب من؟)؛ فالوظائف والغذاء والتسلية (!) والمنازل والرعاية الصحية والتعليم وغيرها ليست من نتاج الطبيعة؛ وإنما هي قيم مادية يوفرها الإنسان كما يوفر البضائع والخدمات، (فمن) سيوفرها؟ وإذا كانت (حقوق) البعض تخولهم الحصول على منتجات عمل الآخرين، فهذا يعني أن هؤلاء (الآخرين) مجردون من الحقوق ومجبرون على العمل كعبيد.
إن أي «حق» يزعمه إنسان ما ويقتضي انتهاك حقوق إنسان آخر ليس حقا، ولا يمكن أن يكون حقا؛ فليس للإنسان أن يمتلك حقا يفرض على إنسان آخر التزاما لم يختره، أو واجبا دون عائد، أو خدمة غير طوعية. ولا يمكن أن يكون هنالك ما يشبه «حق الاستعباد»؛ فالحق لا يتضمن التطبيق المادي للحق من قبل الآخرين، وإنما يقف عند حدود الحرية باكتساب هذا التطبيق عبر الجهد الشخصي. وفي هذا السياق ينبغي أن نلاحظ الدقة الفكرية عند الآباء المؤسسين للولايات المتحدة عندما تكلموا عن حق «السعي إلى السعادة»، (وليس) الحق بالسعادة؛ وهذا يعني أن للإنسان حق اتخاذ الإجراءات التي يراها ضرورية لتحقيق سعادته، وهذا (لا) يعني أن الآخرين يجب عليهم أن يجعلوه سعيدا.
إن حق الحياة يعني أن من حق الإنسان أن يوفر احتياجات حياته من خلال عمله (على المستوى الاقتصادي وبمقدار ما يمكن أن تصل إليه قدراته)، وهذا (لا) يعني أن الآخرين يجب عليهم أن يزودوه بالممتلكات. كما إن حق حرية التعبير يعني أن من حق الإنسان التعبير عن أفكاره دون أن يتهدده خطر تعرضه للاضطهاد أو التدخل أو العقاب من الحكومة، وهذا (لا) يعني أن الآخرين يجب عليهم أن يزودوه بقاعة محاضرات أو محطة إذاعية أو مطبعة للتعبير عن أفكاره. إن أي التزام يتضمن مشاركة أكثر من شخص يقتضي الموافقة (الطوعية) من جانب كل المشاركين، وكل واحد منهم له (الحق) بصياغة خياره الشخصي، ولكن لا أحد منهم له الحق في فرض قراره على الآخرين.
ليس هنالك شيء يمكن أن يدعى «حق الوظيفة»، وإنما هنالك حق التجارة الحرة، أي: حق الإنسان بالحصول على وظيفة إذا قرر شخص آخر أن يوظفه. وليس هنالك «حق المنزل»، وإنما هنالك حق التجارة الحرة، أي: حق بناء منزل أو شرائه. وليس هنالك حقوق بأجر «عادل» أو سعر «عادل» إذا لم يقرر أحد أن يدفع هذا السعر أو يوظف هذا الشخص أو يشتري تلك السلعة. وليس هنالك «حقوق المستهلك» في الحليب أو الأحذية أو الأفلام أو العصير إذا لم يقرر المنتجون تصنيعها (وهنالك فحسب حق التصنيع لمن يريد ذلك). وليس هنالك حقوق لفئات خاصة، من أمثال «حقوق الفلاحين أو العمال أو أرباب الأعمال أو الموظفين أو من يوظفهم أو المسنين أو الشباب أو الأجنّة»، وإنما هنالك فقط «حقوق الإنسان»: الحقوق التي يمتلكها كل فرد و(جميع) البشر كأفراد.
إن حقوق الملكية وحق التجارة الحرة هي «الحقوق الاقتصادية» الوحيدة للإنسان (وهي حقوق سياسية في حقيقتها)، ولهذا لا يمكن أن يوجد ما يسمى «وثيقة الحقوق (الاقتصادية)»، ولاحظ معي هنا أن مؤيدي هذه الوثيقة الجديدة كادوا ينتهون من تدمير النسخة القديمة. ولا بد للمرء أن يتذكر هنا أن الحقوق مبادئ أخلاقية تعرّف وتحمي حرية الإنسان بالتصرف، ولكنها لا تفرض أية التزامات على الآخرين. فالمواطنون كأفراد لا يمثل أي واحد منهم تهديدا لحقوق الآخر أو حريته، ومن يلجأ منهم إلى القوة المادية وينتهك حقوق الآخرين فهو مجرم، والآخرون يملكون حماية قانونية ضده.
لا يشكل المجرمون إلا أقلية ضئيلة في أي عصر أو بلد، وما أحدثوه من أذى للبشرية يكاد لا يقارن بالأهوال والمجازر والحروب والاضطهاد والمصادرة والمجاعات والاستعباد والتدمير الشامل الذي ارتكبته حكومات البشرية؛ فمن طبيعة الحكومة أنها تشكل أخطر تهديد تواجهه حقوق الإنسان: فهي تمتلك تصريحا قانونيا حصريا باستخدام القوة المادية ضد ضحية منزوعة السلاح بشكل قانوني. وعندما لا تكون هذه الحكومة محدودة أو مقيدة بالحقوق الفردية فإنها تتحول إلى أشد أعداء الإنسان فتكا؛ ولهذا جاءت (وثيقة الحقوق) لا لتحمي من التصرفات (الفردية)، وإنما من التصرفات الحكومية.
لنلاحظ الآن العملية التي يتم من خلالها تدمير هذه الحماية؛ حيث تتضمن هذه العملية أن تعزى إلى المواطن الفرد تلك الانتهاكات التي يحظر الدستور على الحكومة ارتكابها (والتي لا يملك الفرد سلطة ارتكابها)، مما يحرر الحكومة من كل الضوابط. وهذا التحول يبدو شيئا فشيئا بأوضح صوره في ميدان حرية التعبير. فطيلة سنين وأنصار الجماعية يروجون لرأي مفاده أن رفض الفرد لتمويل من يعارضه يعد انتهاكا لحق هذا المعارض في حرية التعبير وعملا «رقابيا»؛ فالرقابة في رأيهم هي ما يحدث حينما ترفض إحدى الصحف توظيف أو نشر كتابات من تتعارض أفكارهم مع سياسة الصحيفة جملة وتفصيلا؛ أو حينما يرفض رجال الأعمال نشر إعلاناتهم في مجلات تشن عليهم حملات الانتقاد والإهانة وتشويه السمعة؛ أو حينما تعارض جهة راعية لبرنامج تلفزيوني أن يتضمن هذا البرنامج تصرفات غاضبة كما حدث عندما وجهت الدعوة إلى ألجار هيس ليشنع على نائب الرئيس السابق ريتشارد نيكسون. أضف إلى ذلك ما جاء على لسان رئيس اللجنة الفيدرالية للاتصالات نيوتن ميناو الذي أعلن ذات مرة: «هنالك رقابة بواسطة جهات التصنيف، والمعلنين، وشبكات البث، ومن يتبع لها ممن يرفضون البرامج المقدمة إلى مناطقهم». وهذا هو السيد ميناو نفسه الذي هدد بإبطال رخصة أي محطة لا تستجيب لما يرتئيه من برامج، وهو نفسه الذي زعم بأن هذا التهديد ليس من الرقابة في شيء.
لنناقش المعاني المضمنة في مثل التوجه؛ فالرقابة مصطلح لا يصح إلا على التصرفات الحكومية، فليس هنالك من تصرف فردي يمكن أن يندرج تحت هذا المصطلح، وليس من فرد أو وكالة يمكنها أن تخرس شخصا أو توقف مطبوعة، وإنما هذا ما تفعله الحكومات. إن حرية التعبير للفرد تتضمن حقه في أن لا يتفق مع معارضيه وأن لا يصغي إليهم وأن لا يقدم لهم التمويل، ولكن بعض الطروحات من أمثال «وثيقة الحقوق الاقتصادية» لا ترى للفرد حقا في استخدام وسائله المادية الخاصة على ضوء توجيه معتقداته الخاصة، وإنما ينبغي عليه وفقها أن يسلم ماله دون تمييز إلى أي خطيب أو مروج، فهم يملكون «الحق» في ممتلكاته.
هذا يعني أن توفير الأدوات المادية للتعبير عن الأفكار يحرم الإنسان من حق إيقاف أية فكرة؛ أي: أن الناشر يتوجب عليه نشر الكتب التي يعتبرها عديمة القيمة أو مزيفة أو شريرة، وأن من يرعى برنامجا تلفزيونيا ينبغي عليه أن يقدم المال للمعلقين الذين يختارون الإساءة إلى معتقداته، وأن مالك الصحيفة يجب عليه أن يسلم صفحات مقالات الرأي إلى أي شاب طائش يرغي ويزبد غضبا على «استعباد الصحافة». إن هذا يعني أن مجموعة من الناس تمتلك «الحق» برخصة غير محدودة، بينما يُضيَّق على الآخرين بطريقة غير مسؤولة لا يرتجى منها أي صلاح.
ولكن ما دام من الواضح استحالة توفير وظيفة أو ميكروفون أو عمود في صحيفة لكل من يطلب؛ فمن ذا الذي سيقرر عملية «توزيع الحقوق الاقتصادية» ويختار المستفيدين عندما يتم إبطال حق المالك بتقرير مصير ممتلكاته؟ حسنا، لقد أجاب السيد ميناو على هذا السؤال بوضوح كاف.
أما من يظن مخطئا بأن ما ذكرناه ينطبق على المالكين الكبار فحسب، فعليه أن يدرك بأن نظرية «الحقوق الاقتصادية» تتضمن «حق» كل كاتب مسرحي هاوٍ أو كل شاعر متطرف أو كل ملحن لا يعزف إلا الضجيج أو كل رسام دون هدف (وله تأثير سياسي) في الحصول على الدعم المالي الذي لم يتمكن من الحصول عليه عبر العروض الفنية. وإلا فما هو المغزى من مشروع ينفق أموال الضرائب للإنفاق على الفن؟
وبينما يثور الضجيج حول «الحقوق الاقتصادية» تجد تراخيا تجاه مفهوم الحقوق السياسية؛ حيث أصبح في طي النسيان أن حق حرية التعبير يعني حرية الإنسان في الدفاع عن آرائه وتحمل مسؤولية ما ينتج عنها تجاه الآخرين من خلاف ومعارضة وانعدام شعبية وقلة دعم. وتتمثل الوظيفة السياسية «لحق التعبير عن الرأي» في حماية المنشقين والأقليات التي لا تحظى بالشعبية من الاضطهاد العنيف، و(ليس) ضمان حصولها على الدعم والمنافع والمنح مقابل شعبية لم تكسبها.
لقد جاء في (وثيقة الحقوق): «يجب على الكونغرس أن لا يسن أي قانون… يحد من حرية التعبير، أو حرية الصحافة…»، فهو لا يطالب المواطنين بتوفير الميكروفون لمن ينادي بدمارهم، أو المفتاح للص الذي يسعى إلى سرقة خزائنهم، أو السكين للقاتل الذي يروم قطع رقابهم؛ لكن هذا هو حال أكثر القضايا إلحاحا في وقتنا الحاضر: إذ تتواجه الحقوق (السياسية) مع «الحقوق (الاقتصادية)» في معركة لا تنتهي بالتعادل، حيث يجب على أحدهما أن يدمر الآخر. وفي الحقيقة، ليس هنالك ما يسمى «الحقوق الاقتصادية»، أو «الحقوق الجماعية»، أو «حقوق المصلحة العامة»؛ حتى أن مصطلح «الحقوق الفردية» يعاني من زيادة الألفاظ، إذ ليس هنالك نوع آخر من الحقوق، وليس هنالك غير الفرد كي يدعي عائديتها؛ ومن يدافع عن سياسة (عدم التدخل الحكومي في الاقتصاد) الرأسمالية، إنما هو المدافع الوحيد عن حقوق الإنسان.
آين راند
الفصل الأول من كتاب (الرأسمالية.. المثل الأعلى المجهول)
أبريل 1963