يعتبر الشعب السوري حالياً أكثر شعوب الأرض التي تكتب وتغرد و”تفسبك” عن وطنها الأم، وتنشد له الأناشيد، وتغني له الألحان، وتتغنى بطبيعته وجغرافيته وحضارته وطيبة وعراقة شعبه ووالخ.. نعم الآن وليس الأمس.. وكأن مواطن هذا البلد قد بدأ للتو بالتعرف على وطنه كوطن نهائي لجميع أبنائه، وكقيمة وحضارة وأصالة إنسانية..
لكن عن أي وطن نتحدث ويتحدثون بحسرة، وأيضاً بأمل يمتزج مع الألم.. عن وطن الواقع والحقيقة، وطن الحضارات والأبجدية والتعايش والانفتاح الواقعي، أم عن أوطان الخيال والحلم ورومانسية الفكر الأيديولوجي.. وطن الأرض أم وطن الفكر والمثال!!!..
الوطن الذي كنا -مثل كثيرين- نجهل كثيراً من تفاصيله الوطنية الجغرافية والفكرية والتعددية الحضارية التي كان من المفترض تعلمها منذ الصغر، لا أن نبدأ التعرف عليها بعد أن اشتعلت النيران ووقعت الواقعة، واقعة الحديد والنار، والعيش القسري في أتون نار الحروب والصراعات الداخلية والخارجية، وتحول البلد إلى ساحة مستباحة لكل من هب ودب من ساسة وتجار الحروب من اللاعبين العرب والإقليميين والدوليين، كلٌ بحسب اختصاصه ومصالحه ومطامعه
وحساباته الخاصة المتضاربة التي لم ولن تأتي للأسف إلا على حساب الناس البسطاء وجثث الأبرياء والضحايا من أبناء هذا الوطن المستضعف، ممن كان يعول عليهم بناء مستقبله الإنساني والحضاري المشرق، والمساهمة في تطوره وازدهاره وحضوره الفاعل بين الأمم والحضارات الأخرى..
ولكن عن أية فاعلية أو حضور نتحدث ونتأمل ونرتجي، حضور الذات الجريحة أو المقتولة، في ظل استمرارية مطرقة الموت والعنف المستديم، وانعدام أية آفاق لحلول سياسية سلمية لا نزال نأمل أن تكون بعيدة عن عقلية القوة والعنف التي لا تبني حكماً أو سلطة حقيقية، ولا تقيم دولة راشدة ورشيدة وصالحة للحضور العقلاني والإنساني كدولة مؤسسات وقانون وعدل وإنسانية وكرامة..
في العمق الفكري، مشروع الخلاص السياسي واضح وصريح لدى الجميع، والخطاب الفكري السياسي العقلاني المستند على هوية وطنية أصيلة، قائم وموجود، وليس هو على تلك الدرجة من الضبابية أو التعقيد سوى انعدام إرادة الفاعلين على الالتزام والعمل الجدي لإنهاء هذه الأزمة والمقتلة السورية المستمرة..
وهو حل يمكن له -حتى اللحظة- إنهاء الصراع القائم، بالانتهاء من مرحلة الاستبداد، والحد من جنوح الفوضى والتطرف المهددين لوحدة وسيادة وحرية البلد، من خلال المساهمة في التنفيذ العملي لهذا التصور السياسي العقلاني لبلد المستقبل السوري المنشود بعيداً عن الغلو والمغالاة، والتطرف والعنصرية والأصولية والتسلط السياسي. ولكن، كله قائم وموجود نظرياً، وليس عملياً.. كل هذا معروف وموجود في ضمائر وعقول ونداءات وآمال أبناء هذا الوطن المعطاء، وهم غالبية هذا الشعب الأبي..
نعم هذا الشعب الأبي، الذي كنا نكتب ونغرّد له بأنه هو منطلق التغيير وهو قاعدته، وأنه لا تطور حقيقي لهذا الشعب من دون تنمية حقيقية يشارك فيها هو بوعيه وإرادته، ويستفيد منها على صعيده الشخصي والفردي والمجتمعي والمؤسساتي.. وأنه لا تنمية فعالة ستتحرك بين مختلف جوانبه من دون بناء قدرات ومهارات “الفرد-المواطن” السوري الحر الآمن الكريم… وأنه لا بناء فعال ومنتج للفرد أولاً والبلد ثانياً بلا توعية وتربية ناسه على قيم الخير والحق والجمال، وتنظيم حياتهم وتربيتهم على المبادئ الوطنية العليا، وبث روح العمل والمبادأة والمبادرة والثقة فيهم جميعاً بلا أدلجة ولا حزبية ضيقة.. وهذه الأخيرة لها شرط جوهري هو: إعطاء “الفرد-المواطن” حريته، وصون كرامته، ونيله لحقوقه ومن ثم محاسبته على العمل والأداء والنتيجة..
فهل هذا صعب مستصعب؟! وهل كل الأماني بعيدة عن الواقع؟ و أليس أفراد ومواطني معظم دول هذا العالم الصغير قد حققوا وجسدوا تلك القيم الوضعية، وأنجزوا ما أنجزوه من تطور كبير وتقدم فريد في مجتمعاتهم في ظل وجود سلطات حكيمة وواعية ومهتمة بشؤونهم وشجونهم ومستقبلهم؟!!
..طبعاً كل هذه التغريدات والدعوات والنداءات والالتماسات والرجاءات والتمنيات ووالخ، بقيت وتبقى (في عوالم السياسة الوضعية والعقلية الميكيافيلية التي يلتزمها أطراف الصراع) مجرد دعوات واستغاثات أخلاقية قيمية بلا أثر ولا تأثير، ولا معنى لها، ولا نتيجة طيبة تذكر معها في حسابات الواقع المادي النفعي الذي يتمحور حوله كل الأفرقاء والأطراف اللاعبة على امتداد ساحات الوطن.
طبعاً في نهاية المطاف، المثقف أو المفكر أو الناقد أو حتى الإنسان العادي البسيط يقول ما يريد (وفي حدود ضيقة ما يشاء!!!)، ولكن السياسي (صاحب السلطان والقوة والأمر والنهي) هو الذي بإمكانه أن يقول ويفعل ما يشاء على أرض الميدان.
فالكلمة الأعلى باتت لمنطق الغلبة والقوة، القوة الباطشة كقانون ومعيار يراد فرضه على أي حلٍ سياسي مرتجى قادم، على الأقل في حسابات مراكز القوى المادية.. خاصة أننا نعيش في عالم لا يقدر ولا يحترم ولا يحسب أية حسابات حقيقية إلا للأقوياء والقادرين على الفعل والتأثير وامتلاك القدرة العملية على إيذاء الخصم.
أما وقد وصلت الأمور إلى هذه الدرجة من الخراب والتدمير والفوضى المدمرة، ودخول وسائل صراع وقتل جديدة (استخدام أسلحة الدمار الشامل، الكيماوي منها بالتحديد) فقد بات ترفاً القول بأنه كان من الممكن سابقاً اختيار طريق الخلاص السياسي بكل بساطة وأريحية، وبلا تكاليف ولا أثمان قليلة أو باهظة..
الواقع المعقد الآن، بات يتطلب الاعتراف بحقائق الأمور على الأرض كما هي، بلا مواربة، وبلا تجميل.. ودراسة نقاط الضعف، ومواطن الاهتراء، وتشخيص المرض على حقيقته دونما تلاعب ولا تذاكي أو تشاطر، باعتبار أن هذا هو أول أو بداية الطريق نحو العلاج الصحيح والتعافي من الداء الداخلي.. داء ومرض السياسة الخاصة، وحرمان المجتمع من فرصة الاختيار الحقيقي، واستبعاده عن ساحة الفعل والحضور المجتمعي المنتج بكل أبعادها العمومية.
أما ما كان يجري على الأرض فلم يكن يخرج عن استمرار عقلية تزييف الحقائق وتحوير الوقائع، وحجب الواضحات ومنع الناس من قولها ووعيها، وتصوير المرض العضال على أنه مجرد التهاب بسيط.. فكان ذلك هو أول وبداية السير على طريق الانهيار، وتحويل الساحة الداخلية إلى مركز استقطاب عربي ودولي حاد، دينياً وسياسياً واثنياً..
وفي ظل هذا الاستعصاء، وهذا الاستقطاب، والتهديدات الدولية المدانة والمرفوضة بعمليات عسكرية موضعية أو شاملة، وتعقيد وضع البلد أكثر مما هو عليه الآن.. نسأل بشكل عام ولا نخصص في الموضوع السوري فقط، (فالمنطقة برمتها لها نفس التشخيص المرضي، وتعاني من نفس الداء والمرض العضال، وإن بدرجات متفاوتة كماً ونوعاً): هل من الممكن -بعد كل هذا الدمار والخراب السياسي والاقتصادي والمجتمعي الداخلي- أن نفكر ونعيد التأكيد ونحلم مجدداً بوجود إمكانية ما داخلية لانبثاق الحالة المدنية العربية الحقيقية (النابعة من قناعات الناس بها، وغير المفروضة بالقوة والضغط عليهم) في واقع الدولة والمؤسسات التي هي ملك كل الناس بكافة أطيافهم وقومياتهم واثنياتهم واختلافاتهم الدينية وغير الدينية.. بحيث نقول عملياً بأن “العلمنة” أو “المدنية” كفكرة حيادية تجاه الدين والقومية والمذهب، هي ما يجب أن نعمل عليه (في ظل حالة الغليان الاستقطابي السياسي والديني) مع بقاء قناعات الناس المتعددة والمتنوعة الأخرى قائمة، تدار بالاختلاف والحوار العقلاني في فضاء مجتمعي سياسي حقوقي قانوني ودستوري يكفل ويضمن للجميع إدارة حزبياتهم وخلافاتهم السياسية وغير السياسية سلمياً وحضارياً؟!!..
في الواقع، حتى نضمن تحقيق ذلك (مع أنه لا ضمانات جدية في عملية التغيير المجتمعي العربي الحافلة بالتناقضات الأولية والثانوية)، لابد من إبراز أهمية الخطاب الديني العقلاني المعتدل، وعدم التركيز فقط على موضوعة التطرف والإرهاب الإسلامي، دون النظر إلى جوهر ولب الصراع القائم حالياً، المتسبب بالأزمة منذ لحظات تفجرها الأولى.. والمنطلق أساساً من حالة ومناخ الفرض والهيمنة والتسلط وليل الاستبداد الطويل..
وهذا الفكر والخطاب الديني المعتدل المطلوب العمل على تحويله لحالة عامة، بل لا يزال للأسف حبيس الفكر والنظريات، أي أنه لا يزال غائباً أو مغيباً في هذه المرحلة من مراحل اجتماعنا الديني العربي والإسلامي عن ساحة الفعل الحضاري.. والمضامين السياسية العملية التي يطرحها كثير من شباب اليوم الملتزم دينياً، هي مضامين فكرية برافعات دينية شديدة الاشتعال في الواقع العملي، ولكنها مغرقة في تبعيتها النصوصية المستلبة للذات وإرادة الفعل الذاتي.. ولهذا لابد من العمل على تجديد الفكر وعقلنة الخطاب الديني وتوعية فاعليه سياسياً.. خاصة مع هذا الدخول الواسع للتيارات المتشددة المنحازة لخطابات وأفكار تنظيم “القاعدة” (وجماعاتها الأخرى) والإرهاب من بوابة السياسة التي يهدفون من خلالها إلى تشكيل دولة “دينية”، الأمر الذي ضاعف من الخطورة، وزاد من تعقيد المسألة سياسياً وعملانياً.
إنني أعتقد أن قناعات الناس الدينية لا يمكن محوها وإزالتها، وهذا ليس مطلوباً بطبيعة الحال، مع عدم القدرة عليه أساساً، بل لابد من تشذيبها وتهذيبها وتنقيتها ونقدها، وإعادة ضح هواء الحياة المعاصرة العليل بين مختلف جنباتها، كي تكون قادرة على الحضور والتأثير في سلوك الناس المؤمنين والمعتقدين بها..
إن مجتمعاتنا العربية المتدينة عموماً، لن تشارك بقوة وفعالية في عملية التنمية والإنتاج الحقيقي من دون محرضات ومحفزات من داخل بنيتها الفكرية والمفاهيمية التاريخية الحاضرة دوماً في وعيها أو لا وعيها.. هذه المحفزات الكامنة في النصوص والبنية الاعتقادية جاءت في عصور تاريخية قديمة، وكثير منها لم يعد صالحاً للحياة والعصر، فلابد من جسر الهوة بين الاعتقاد القديم والسلوك المعاصر من خلال التجديد والنقد والتكيف مع الحال المعاصرة.. كي لا يعيش الفرد حالة التناقض بين ما يؤمن ويفكر وبين ما يعمل في حياته..
إن استغلال السلطويين للدين وقيم التدين في عملية الحكم والسلطة، والتغييب الممنهج والمقصود وشبه الكامل لإرادة الناس في المشاركة في اختيار حاكميهم وطبيعة النظام السياسي الذي يؤمنون به لحكمهم ونظم أمورهم المختلفة، أي في ظل غياب للمشاركة الواعية المبنية على رغبة وقناعة ورضى الناس بالنظم السياسية التي تقوم بأمر الحكم وإدارة الشؤون العامة، وتدبير مصالح الناس.. إن كل ذلك لم يعد مقبولاً في عالم اليوم حيث أن المشاركة والمسؤولية في البناء والتطوير السياسي والمجتمعي هي من أهم معايير تحضر وتمدن البلدان والنظم والدول التي جاءت على محمل العقلانية والتنوير.. التنوير القائم على تحرير الإنسان من هيمنة وسطوة الفهم التقليدي للدين، كي ينطلق ليفكر بحرية.. في عالم الوعي والمعرفة بلا وصائية ولا أبوية من احد.. بما يعني إعادة الثقة إلى العقل نفسه، ليمارس دوره الحقيقي من جديد، بعد عهود من الاستلاب والإقصاء.. على مستوى التفكير والإبداع الحر الخلاق..
وعندما نقول بأنه من الممكن تفسير وتأويل نصوص و”معرفيات” الدين الإسلامي كحالة أو كإمكانية عقلانية وتنويرية ومدنية في فكره وسبيله وتوجهه العمومي، القائم على حفظ النفس والإنسان ورعايته كخليفة لله على الأرض، مطلوب منه العمل والإنتاج والإبداع والنهوض والتكامل النفسي والمعرفي والسلوكي.. فنحن نستند أساساً على مقولات ورؤى نظرية ومفاهيمية ونصوص دينية نهائية تعتبر أن الحرية هي قيمة القيم، وهي خيار الناس وحقهم الأساسي الجوهري في الاقتناع والرفض في الإيمان والكفر، وهذا من أهم حالات الاختيار الذاتي الفردي:
(..فمن شاء فيؤمن ومن شاء فليكفر)..
(إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء)..
(..إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)..
(الناس أدرى بشؤون دنياهم)..
(متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً..)..ووالخ.
بهذا التفسير أو التأويل، يمكن البدء، ليس للاحتيال على قناعات الناس، بل لإفهامها حقائقها الفكرية على ضوء مستجدات وتحولات العصر وتغيرات الحياة..
إن قرننا الحالي هو قرن الوعي والاختيار، قرن الشعوب، وليس قرن الإقصاء والتهميش والأنظمة.. هذه الشعوب التي تريد الخلاص والفرار من العقل الأيديولوجي المغلق إلى رحاب السياسة والحرية.. وهذا أمر صعب ولا شك، كصعوبة الولادة المتأخرة بمخاضاتها العسيرة واختلاطاتها الخطيرة.. فقد يأتي الوليد مشوهاً.. ولكن هي الرغبة والفطرة والوعي الذاتي ومذاق الحرية الذي لا يوصف..
فقد عاشت تلك الشعوب ردحاً طويلاً من الزمان مهملة ومستبعدة ومغيبة عن ساحة الفعل والتأثير، ولم يسمح لها بالمشاركة في صنع القرار الخاص بها، وإدارة مواردها بنفسها، والتحكم بثرواتها الهائلة بلا وصاية مكلفة، وتسليم قيادها لنخب فاشلة عقيمة كانت سبباً في دمارها وخسائرها الهائلة..
وهذه الشعوب الرافضة لأدلجة السياسة، وتديينها بالمعنى الحزبي الضيق، هي نفسها سترسم معالم المراحل المقبلة بتكاليف باهظة للأسف.. فالزمان الآن هو زمان الاحترام الكامل للحياة البشرية الفردية إلى حدود غير مسبوقة في التاريخ القديم والمعاصر.. وهو أمر متمّم لما وصل إليه الإنسان من تفوق علمي وتقني واقتصادي مالئ للوجود وشاغل للحياة…
* باحث وكاتب سوري
منبر الحرية،2 فبراير /شباط 2014