حواس محمود24 أبريل، 20140
لا يخفى على أحد أن الثورات العربية قد دخلت مسارات متعددة، ولا زالت تعاني صراع القديم والجديد في منظومات الفكر والثقافة والقيم، لذلك نجد هذه المسارات تأخذ حالة بطيئة على صعيد الأثر التحولي الايجابي الملموس.... .

لا يخفى على أحد أن  الثورات العربية قد دخلت مسارات متعددة، ولا زالت تعاني صراع القديم والجديد في منظومات الفكر والثقافة والقيم، لذلك نجد هذه المسارات تأخذ حالة بطيئة على صعيد الأثر  التحولي الايجابي الملموس، هذا التحول البطيء الذي يأتي بفعل كوابح ومعرقلات قوى الثورة المضادة التي استيقظت بعد أكثر من عامين من صدمتها ودهشتها على ما حدث، تأتي الآن لتستثمر عنفيا في استعادة حيويتها الضائعة بفعل الصيرورة التاريخية، وللأسف نجد العديد من الكتاب والإعلاميين والمثقفين وحتى بعض المفكرين يقعون في أحابيل  قوى الثورة المضادة عبر بروباغنداها الشيطانية الأخطبوطية التي لا يستهان بقوتها بوسائل وإمكانات الكمون التناقضي المكبوت والمزيج من النزعات المتفجرة حديثا والمتآلفة مع الاستبداد من عرقية ودينية وطائفية وابديولوجية، فتقدم للوحة المشهد السياسي حالة من التشويه المتعمد والمبرمج بفعل ارث الاستبداد ومآزراته الداخلية والإقليمية والدولية، مما يفقد المثقف (الذي لم يكن مؤسسا لثورات الربيع العربي بل مشاركا جزئيا مع تمهيدات ثقافوية نادرة جدا ) قدراته التحليلية العميقة ، فيتعرض إلى التحدث بلغة وفكر السلطات الاستبدادية وتفرعاتها الطائفية والعرقية والإيديولوجية .

إن الثورات العربية التي اجتاحت العالم العربي كانت ذات جذور وعوامل اقتصادية واجتماعية ونفسية، عبر سنوات كبح تحطيمية لبنية الإنسان وفكره وقيمه، فكانت هذه الثورات هائلة وعظيمة ومديدة التأثير،  وهي كانت ولا تزال تحتاج إلى جهود المثقفين والمفكرين والإعلاميين والشعراء والسينمائيين لإطلاق ثورة ثقافية كبيرة بأهدافها وقوية بزخمها الإبداعي الفكري وعظيمة بقوة تأثيرها المحلي والإقليمي والدولي .

إن الانتهاء من إسقاط الزعماء العرب لا يعني شيئا أمام بقاء الثقافة الاستبدادية في أوساط وشرائح عديدة لا زالت تردد مقولة السلطات الاستبدادية ( كانت أيام الماضي في ظل الاستبداد أفضل ) وكذلك في مقولة سخيفة تبسيطية مخلة بقيمة الحرية العظيمة ( ها هي الحرية اللي  كنتوا عم تطالبوا فيها )، ناسين أو متناسين أن الاستبداد منح أربعين عاما ويزيد للحكم وما ترتب عليه من فساد وإفساد وتخريب وتشويه لكل شيء قويم معافى في الإنسان والمجتمع ، ولم تمنح الحرية إلا أشهرا معدودات لتتنفس.

يقول النويهي ” إن التغيير الحقيقي للمجتمعات لا يمكن أن يتم بإزالة الحكام السابقين أو تغيير القوانين التي تفرض سطوة الموجودين منهم، وإنما يحدث التغير الحقيقي إذا استطاعت الثورة أن تدخل تغيراً أساسياً على وعي المجتمع نفسه بتغير نظرته إلى العلاقات الأساسية بين الإنسان والواقع وبين الإنسان والإنسان , وذلك في عملية تطهيرٍ شاملة عميقة تضرب جذور عللنا ونقائصنا ومخازينا , يحققها مفكرو المجتمع ومثقفوه،  يقومون من خلالها بفحص الآراء السائدة والتقاليد الراسخة والعادات المتوارثة فينفون عنها ما يجدون أنه لم يعد صالحاً للعهد الجديد، ويقومون بحركة إقناعٍ للمجتمع يستخدمون فيها كل وسائل التعبير الفكري والفني وكل أساليب الجدل العلمي , أما مجرد التغيير السياسي للأفراد أو الأنظمة فليس كفيلاً في حد ذاته بإنجاز التغير المطلوب.

 (1) التغيير الحقيقي هو تغيير الأنماط والبنى والأعماق لا الظواهر والسطوح والقشور في المجتمعات والدول والأمم، لذلك فالمجتمعات العربية بحاجة ماسة – بعد الربيع السياسي العربي الذي لم يأخذ ملامحه الثورية الكاملة –  إلى ثورة ثقافية ومعرفية شاملة  تعيد الاعتبار إلى الفكر، وللمثقفين دور مطلوب  ومهم من المفترض أن يقوموا به في المرحلة القادمة وأن تجرى عملية تفنيد ونقد ونقض ودحض المزاعم والخرافات والمقولات السطحية التافهة التي تصب في  مصلحة الأنظمة المستبدة  والثورة المضادة.

فالثورة  الثقافية وحدها بإمكانها  إحداث تغييرات جذرية وبعيدة التأثير، وجدير بالإشارة أن أوروبا لم تنجح في ثوراتها السياسية ألا بعد الثورات العلمية والثورات الفلسفية ،  “لأن القيم التي انبنت عليها تلك الثورات كانت موجهة بعناية نحو الإصلاح لا الإفساد ”  (2)  أما ثورات الربيع العربي فأمامها أشواط وأشواط لكي تحقق نجاحات ثورات أوروبا القرنين الثامن عشر والتاسع عشر .

الثورات العربية فتحت أفاقا ومجالات واسعة لحرية الرأي والتعبير والتأثير الشعبي للمثقفين العرب، وأمامهم فرصة تاريخية مفتوحة للعب دور ريادي ثوري ثقافي  للتأثير في منظومات الوعي المتكلس لدى قطاع لا يستهان به من شرائح المجتمعات العربية وهي نفس تلك الشرائح التي تقف صامتة إزاء ما يجري من حولها من حركات احتجاج عارمة وما يستتبعها من مخاضات وصراعات أحيانا فائقة الدموية والعنف  تمارسها أنظمة الاستبداد  التي ضربت في الصميم، وتهتز على ضربات الثوار، إلى درجة من السوريالية الواقعية، يعجز أدب الخيال العلمي أو الخيال  الأدبي أن يصور أحداثها ووقائعها المأسوية.

والثورة الثقافية في ظروفنا الراهنة من انتشار وسائل الإعلام الحديثة وبرامج التواصل الاجتماعي، يمكن أن تأخذ أشكالا عدة من الفكر والفلسفة والاجتماع وعلم النفس والتعليم والآداب  والسينما والفنون السمعية البصرية وهي الآن يمكن أن تجد فرصتها المتاحة بعد الإخفاقات العديدة التي تعترض مسيرة الثورات العربية الراهنة والتي تتنازع على وقعها التيارات العربية التقليدية من قومية وإسلامية وليبرالية وتنتعش شيئا فشيئا الهويات ما قبل الوطنية كالطائفية والدينية والمذهبية والعشائرية والإثنية مع تدخلات إقليمية ودولية واضحة وفاقعة.

الهوامش :

  1. محمود مراد ” محمد النويهي .. وثورة الفكر الديني ”  مجلة العربي – عدد 659- اكتوبر 2013 ص109

 سعيد سهمي ” في الحاجة إلى ثورة ثقافية ” موقع الأحداث المغربية – 28 يونيو 2012

* كاتب من سوريا

منبر الحرية،23 ابريل/نيسان 2014

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018