المنافسة، والتنظيم، وعملية السوق: منظور "نمساوي"

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

ملخص إجرائي
يعتبر علم الاقتصاد وللوهلة الأولى، بالنسبة للإنسان العادي، تعبيراً مبهماً، فهو يتألف من مجموعة من الأفراد يكون الشغل الشاغل لكل منهم التركيز على أهدافه الخاصة، غير مكترث بما تنطوي عليه المصلحة العامة. إذ ليست هناك سيطرة أية وكالة مركزية لتسيطر بل لتراقب على قرارات الإنتاج والتبادل المستقل التي لا حصر لها، والتي يتخذها هؤلاء الأفراد الذين لا حصر لهم. ولا غرابة في أن اقتصاد السوق لا يبدو سوى غابة من الصراعات والنشاطات الفردية غير المتناسقة. ووفقاً لهذا المنظار، فان تنظيمات الدولة لا تسد سوى حاجة بسيطة وواضحة ألا وهي تقديم جزءاً يسيراً من التنسيق في هذا الخضم الهائل من العماء الفوضوي. إن ما نحتاج إليه بشكل واضح لإنقاذ الناس من النتائج الكارثية الناجمة عن سعي كل فرد خلف مصالحه والتي تولد تضارباً مع مصالح أخرى لأفراد آخرين هو الإرشاد المتأتي من وكالة تتمتع بالقوة اللازمة والمعرفة والدافع لتبني التوافق أو التنسيق.
وبالطبع، منذ آدم سميث ولحد الآن، دأب الاقتصاديون على رفض هذه النظرة الساذجة للسوق. على الرغم من الاختلاف الشاسع في تقييماتهم لفوائد التنظيم الحكومي، كان رجال الاقتصاد قد أرغموا على أن يأخذوا تلك التنظيمات بعين الاعتبار ضمن إطار السوق، وبأساليبهم المتنوعة، والتي تعكس—بالنسبة لسميث—النتائج الحميدة للـ “اليد الخفية”. وفي غمرة الجدالات الحديثة الدائرة حول التنظيم، جاءت الانتقادات الأكثر شهرة للتنظيم الحكومي مقترنة بنموذج “كلاسيكي محدث”. كما ستقدم هذه المقالة أيضاً وجهة نظر تشكك، على نحو جاد، بوظائف التنظيمات، ولكنها متأتية من نموذج نمساوي. كما يتوجب علينا أن نحدد، وبشكل حذر، بعض الاختلافات بين هذين المنظارين، ولكننا قد نصف جوهر الاختلاف بشكل موجز. فالتنظيم الحكومي، بحسب المنظور الكلاسيكي المحدث الشهير، موضع شك لأن النتائج غير المقيدة لعملية السوق الحر هي حميدة، في إحدى مظاهرها. ومن ناحية أخرى، وحسب المنظور النمساوي، تعرض التنظيم الحكومي للانتقاد على أساس النظر المعمق المتعلق بالشخصية الحميدة (نسبياً) لعملية السوق الحرة. على الرغم من أن كليهما يرفضان وجهة النظر الساذجة القائلة بأن السوق فوضوي، فإن هنالك الكثير من التباين بين هذين النوعين من الانتقادات الموجهة للتنظيم الحكومي. كما يجب أن نلاحظ أن كليهما، سواء كانا مبنيين على “نتائج حميدة” أو “عملية حميدة”، فإن المعيار العام لتحديد مدى جودة ولطف ما هو حميد هو مدى تلبيته لبعض الأهداف المحددة. فهنالك، في الواقع، بعض الغموض النظري الإشكالي الذي ينطوي عليه هذا المعيار، ولكننا قد نتجنب الخوض في هذا الأمر في ورقتنا هذه. والأمر ببساطة هو أن الخبير الاقتصادي، من خلال التشكيك بالتنظيم الحكومي، لا ينادي بضرورة أن يكون هناك هدفاً أخلاقياً حميداً خلف عملية السوق أو نتائجها. والقضية ذات العلاقة هي التأثير الذي من خلاله يقوم النظام بخدمة أهداف المشتركين من الأفراد.
نتائج السوق
ينبع تقييم النتائج الحميدة للتنظيم الحكومي من الاعتقاد بأن الأسواق يمكن في كل الأوقات أن نفترض بأنها في توازن تنافسي أو قريبة منه. يُنظر إلى نظام السوق على أنه كفوء لدرجة أن يضمن وفي كل الأوقات أن تكون الأسعار عند المستوى الضروري تقريباً لترتيب أسواقها الخاصة. بعيداً عن الفوضوية، ينظر إلى السوق على أنه مؤسسة تنسيقية هائلة، تستطيع أن تساوي بين المشترين المفترضين مع البائعين المفترضين ضامنة في الوقت ذاته أن تتم كل فرص التبادلات ذات الفائدة للطرفين والممكنة التحقيق بنجاح. يُنظر إلى الإخفاقات التي يزعم أن تُلاحظ في تخصيص السوق للموارد، حسب وجهة النظر هذه، على أنها إخفاقات حسب رأي أولئك الذين لا يتفقون مع تفضيلات المستهلك، أو الذين يفشلون في فهم الضغوطات التي لا مفر منها والتي تفرضها الشحة. وحتى لو كنا مهيأين لتبرير دوافع المنظمين على أنها لاتتسم بالأنانية وعدم الانحياز، للعبث بالنتائج الحميدة المنسوبة للسوق والتي يجب أن تحرف مسار الإنتاج، وتخصيص الموارد، من القنوات التي تم تعيينها حسب تفضيلات مشتركي السوق أنفسهم (في ضوء هبات الموارد المعطاة) إلى القنوات المفروضة بشكل عشوائي والتي هي “أقل حسناً”. وحسب وجهة النظر هذه، فإن التتابع الدقيق لأحداث السوق والتي يمكن الحصول من خلاله على توازن بين الأسواق، وضمنها، هو أقل أهمية من الظرف الذي بموجبه يكون توازن من هذا النوع قد أُنجز تقريباً مسبقاً.
ومن أجل الاستنتاج بأن نتائج السوق هي حميدة حقاً، فإن وجهة النظر هذه تعتمد بشكل كبير على افتراض وجود أسواق تنافسية مثالية. إن التوازن الحاصل بين الأسواق، وضمنها، هو التوازن السوقي التنافسي الأمثل—وهو التقييم المفضل للتوازن التنافسي من قبل اقتصاد الرفاه الذي يعلم الاستنتاجات المضادة للتنظيم ويخبرها حول وجهة النظر هذه. ولا عجب بأن رجال الاقتصاد الداعمين لسياسات الحكومة التنظيمية—وبدون الحاجة إلى رفض وجهة نظر التوازن في السوق ولا نظريات الرفاه المرتبطة بالتوازن—كانوا قادرين ببساطة على الإشارة إلى الإفتراضات الخاصة جداً، والتي هناك حاجة لها قبل النطق بقرار حول السوق الذي يفتقر إلى تدخل الدولة. ولعل أهم تلك الافتراضات هو التنافس المثالي—أي أن السوق يتألف من مشترين وباعة صغار العدد يمثل سعر السوق لهم بياناً من البيانات غير المتأثرة بالتسعيرة أو المخرجات أو قرار الشراء لأي واحد منها. يفشل هذا الافتراض الخاص في التلاؤم مع حقائق الأسواق المعاصرة. وهذا حقيقي تماماً حيث أن العديد من الاقتصاديين—وبسبب الاعتماد على أساس توازن السوق—نظروا بصورة عامة بعدم ارتياح للتنظيم الحكومي، كما أنهم اعتبروا رغم هذا كله أنه من المستحسن أن تتدخل الحكومة لضمان تقريب معقول لظروف التنافس المثالية.
ليس من الضروري أن نقتات على التساؤلات التي يمكن أن يطرحها المناصرون للتنظيم الحكومي، أو التي طرحوها ضد وجهة النظر هذه (فيما يتعلق بصلة الافتراضات الضرورية لوجهة النظر هذه في أن تكون معقولة وضرورة أن تكون الأطروحة، القائلة بأن الأسواق تتوازن بنجاح، صادقة). أما الآن فسنتوجه إلى المنظور النمساوي لتحليل التنظيم.
السوق كعملية
وحسب وجهة النظر الثانية هذه لا يزعم أحد أنه، وتحت أي ظرف، يمكن للسوق أن يصل إلى مجرد اقتراب من حالة التوازن. لقد حدث جدل فقط على أنه حيثما لم يتم تحقيق ظروف التوازن، فإن هذا الظرف بذاته يخلق الدوافع من أجل التغييرات النظامية التي تميل إلى إقصاء اللاتوازن الموجود. إن القضية المضادة لتنظيم السوق (حتى من قبل حسني النية من موظفي الخدمة المدنية) تستند على تكهنات حول هذه العملية التصحيحية، وحول شخصيتها الحميدة. وقبل أن تقود هذه العملية التصحيحية إلى أي تنسيق مشترك بوقت طويل، كان من الممكن أن تحدث تغييرات في البيانات الأساسية للسوق (كتفضيلات الأفراد وهبات الموارد والتكنولوجيا المتوفرة) وأن تحول الحالة الافتراضية لتوازن السوق (المعرف حسب صلته بالحالة الابتدائية للبيانات) إلى شيء غير ذي صلة تماماً. ولكن التباينات بدورها تُنشّط وعلى الدوام التغييرات في هذه الأنساق الموجودة لتخصيص الموارد.
إن التأكيد على خصائص عملية صناعة السوق، بدلاً من النموذج التخصيصي الذي يتم عن طريق العملية، يسلط الضوء على عدم الترابط الكلي لأفكار المدينة الفاضلة (الطوباوية) ذات التنسيق المثالي. ووفق هذه النظرة لاقتصاد السوق، فإن الحكم على نظام اقتصادي عملي وواقعي في ضوء معيار التنسيق المثالي لا يعني فقط أن تعامل إمكانية التنسيق المثالي بجدية مفرطة (وبذلك تعامل الأسواق بتوازن كامل) وهذا بحد ذاته سوء فهم كبير للمشكلة الاقتصادية الأساسية التي تواجه المجتمعات المتمدنة. والحقيقة هي، كما أشار هايك قبل أربعة عقود خلت، أن المشكلة الاقتصادية التي تواجه المجتمع تتكون من الحاجة إلى ضمان أن تسهم نتف المعرفة المتوفرة للأشخاص المنعزلين أو المفردين، في القرارات ذات العلاقة، والتي تؤثر على النمط المجتمعي لتخصيص المورد. إن محاولة قياس النجاح الذي يتعامل بموجبه المجتمع مع مشكلته الاقتصادية، وبمعيار يعكس نمطاً ملائماً لمعرفة غير محدودة لمركزية افتراضية، هو أشبه بمحاولة تقييم كفاءة نمط التخصيص لموارد نادرة، وذلك عن طريق مقارنة نتائجها مع تلك التي يمكن تصورها لعالم تتلاشى فيه الندرة أو الشحة: إن المشكلة بمجملها هي كيفية الانسجام مع الندرة أو الشحة على نحو ممتاز. وعلى نحو مماثل فالمشكلة الاقتصادية-الاجتماعية هي كيفية الانسجام مع لامركزية المعرفة التي لامناص منها.
بعد أن اطلعنا على عدم ترابط استخدام معيار المعرفة المطلقة، والتعقيدات التي تتكون منها المشكلة الاقتصادية التي تواجه المجتمع عندما تؤخذ عواقب التغيير المشكالي في البيانات الأساسية في الحسبان، يصبح من الواضح وجوب إيجاد القياس المعياري، بدلاً عن التنسيق المثالي. تقترح وجهة نظر “العملية” بأن القياس الأمثل يجب أن يفتش عنه في المقدرة التي تعزى لعملية السوق والتي تكون خدمتها على شكل “إجراء اكتشافي” (العبارة لهايك). يرى هايك أن ما يحدث خلال عملية السوق من تفاعل للقرارات الفردية، هو أن المشاركين يكونون ميالين إلى اكتشاف النواحي ذات العلاقة لكل القدرات والرغبات. وهنا يبدو أن لدينا محكّاً مفاهيمياً ذا علاقة، يمكن من خلاله تقييم كل من عملية اقتصاد السوق، وسياسة التوصيات التي تصنع لتعديل تلك العملية (أي عملية اقتصاد السوق). ولا داع لأن يكون سؤالنا: هل إن نتائج عملية السوق هي على نحو لا يمكن اكتشاف شيء بعدها، أو إنها قريبة من ذلك؟ بل علينا أن نسأل: هل بإمكان البنية المؤسساتية (أو تعديلات مقترحة عليها) أن تحفز التدفق المهم والثابت للاكتشافات المتبادلة (الصحيحة)؟ فإلى المدى الذي يمكن أن تكون فيه الإجابة على هذا السؤال بالإثبات ممكنة، يمكننا أن نقول بوجود عملية “حميدة”. وإلى المدى الذي يعزز فيه التعديل المقترح نزعة النظام لتحفيز الاكتشافات (الصحيحة)، فإنها تمثل مقترحاً “حميداً”. من ناحية أخرى، إذا كان المقترح يعيق أو يشوه إجراء الاكتشاف، فهو مقترح “ضار”.
وبالتأكيد فإن تبني طريقة العملية لا يعني أننا لسنا مهتمين بالنتائج. ومع ذلك فإن الفاعلية التي تحفز العملية عن طريقها الاكتشافات يمكن أن يتم قياسها، بشكل جزئي، عن طريق ملاحظة النتائج. ولكن حتى وإن كانت الحال على هذا النحو، لا تتم الإشارة إلى النتائج بسبب الرغبة المطلقة في نمط التخصيص الذي تستعرضه، ولكن بسبب مدى الاكتشافات المعمولة سلفاً والتي تفصح عنها. فلنر كيف أن اقتصاد السوق، ومن خلال منظور العملية، ينسق نشاطات المشاركين.
السوق كإجراء اكتشافي
تتخذ القرارات في اقتصاد السوق بشكل مستقل من قبل المشاركين بالسوق كمستهلكين أو مالكي موارد أو منتجين أو أصحاب مبادرة. وتتخذ هذه القرارات على أساس ما يعتقده الأفراد كأفضل الخيارات المتوفرة لديهم. وبما أن المتوفر من الخيارات هي ذاتها نتائج خيارات الآخرين الفردية، فإن قرارات الأفراد تتم على أساس تقييم قرارات الآخرين المتوقعة. ومن الواضح أن تكون هذه التقييمات محتملة الخطأ بدرجة كبيرة أو صغيرة. قد يقدم المشترون أسعاراً عالية لاعتقادهم الخاطئ بأن لا أحد مستعد للبيع بسعر أقل. فالبائعون يعرضون البيع بأسعار مخفضة لأنهم يعتقدون بأن لا أحد مستعد للشراء بأسعار أعلى. ويحجم المنتجون عن إنتاج مادة ما لاعتقادهم الخاطئ بأن الموارد المطلوبة لإنتاجه لا يمكن الحصول عليها إلا بكلفة ستضع المنتج بعيداً عن متناول المستهلكين المحتملين. أو قد ينتجون مادة أخرى بسعر مرتفع لاعتقادهم بأن المشترين المحتملين متلهفين أكثر لشرائه وهلم جرى.
إن كل قرار خاطئ من تلك القرارات سيميل إلى حدوث عواقب معينة، وبصورة منتظمة، فالمغالاة في الظن بإعجاب المستهلكين بالمنتج سيترتب عليه خسائر في السوق. فعندما يبالغ مُنتِج ما في كلف الإنتاج، أو يبخس تقدير منتَج ما لدى المستهلك، فإنه يتجاهل الفرص لكسب الربح مما من شأنه جذب المزيد من أصحاب المبادرة. وكنتيجة لتلك الأنواع المعروفة من خبرات الكسب والخسارة، فإن المشاركين في السوق يتعلمون تقييم حدود المعاملات ذات الربح المتبادل الممكن مع شركائهم بدقة أكثر.
لاحظ إننا لا نقول بأن هذه الإخفاقات واكتشافات الربح تستبعد كل الأخطاء التي تم ارتكابها. نحن نقول فقط بأن نشاط السوق المبني على الخطأ يولد الباعث والخبرة التي تميل إلى تشخيص مكان ارتكاب الخطأ، وتحفز نشاطات أقل خطأً. سيتعلم البائع المحبط في توقعه تحقيق كسب كبير أن بإمكانه توقع أسعاراً منخفضة في أحسن الأحوال. أما البائع الذي يتقبل سعراً أقل من السعر المدفوع من قبل المشترين الآخرين في السوق، فيساعد في خلق موقفٍ يباع فيه المنتج ذاته بسعرين مختلفين—وهكذا يقدم الفرصة لتنبيه أصحاب المبادرة للشراء ضمن حدود السعر الواطئ وبيعه بالسعر العالي. إن مثل هذه الفرص الواضحة المعالم من أجل كسب خالص، تميل إلى جلب الانتباه، فيتم استغلالها ولذلك تستبعد—في خلال مسيرتها التي يكون فيها الخطأ الأولي ذاته قابل للتصحيح. ولهذا التتابع صفة شعرية تقريباً:1) تتجلى الأخطاء ذاتها في خلق فرص الربح أو النكسات المجربة، 2) تميل فرص الربح إلى أن تستغل وتكتشف، وتميل الإخفاقات إلى إعطاء المشاركين في السوق، ولا سيما المتفائلين منهم، معلومات أكثر واقعية، وتتوحد هذه الميول من أجل: 3) إقصاء الأخطاء الابتدائية (وفرص الربح والإخفاقات التي تتولد). وهنا يتوفر الباعث من أجل اكتشاف متبادل عن طريق تبعات الاكتشاف الابتدائي لهفوات وإخفاقات السوق.
الربح، المبادرة، وعملية الاكتشاف
من الأهمية بمكان أن نلاحظ الدور الذي يلعبه في عملية السوق هذه الربح الصافي من المبادرة. تظهر فرص الربح الصافي باستمرار وكأنها أخطاء يرتكبها المشاركون في السوق في هذا العالم المتغير. وتنشأ السمة العابرة لتلك الفرص، والتي لا يمكن تفاديها، من ميل السوق الهائل لجعل أصحاب المبادرة يلاحظون ويستغلون ومن ثم يستبعدون تلك الاختلافات في السعر الصافي. إن التناقض في فرص الربح الصافي يكمن بالتحديد في أنها تبرز بصورة مستمرة، ولكنها ومع ذلك تتلاشى باستمرار في الوقت ذاته. إن عملية الخلق والهدم المستمرة لفرص الربح الصافي هي التي تصنع الجراء الاكتشافي للسوق.
إنها العملية التي تجعل أصحاب المبادرة يتماشون مع التغيرات في تفضيلات المستهلكين، وضمن التقنيات المتوفرة والموارد المتاحة. وكما لاحظنا فإن فرص الربح تعكس فروقات الأسعار. بل إن هذه الفروقات في السعر تعكس الخطأ المرتكب في الماضي. بيد أن فرصة الربح المتحققة على هذا النحو تمارس قوة جذب هائلة على يقظة أصحاب المبادرة. بينما قد يظهر الخطأ بذاته وبصورة عامة كمحفز للتصحيح الذاتي، كما أن الخطأ الذي يولد فرص الربح الصافية يجعل أصحاب المبادرة أكثر دراية بتلك الفرص وهكذا فهو يحفز الإقصاء الذاتي.
إن اعتقادنا بوجوب عدم تشويه فرص الربح الصافي التي سيتم الانقضاض عليها من قبل أصحاب المبادرة لتوحي بأن جميع فرص الربح الصافي قد تم اقتناصها مسبقاً وفي كل الأوقات حتى قبل ظهورها؛ إن هذا الخطأ شائع جداً بيننا. ومن ناحية أخرى، يجب أن لا يوحي الوجود الدائم للخطأ بعدم وجود قوى نظامية في السوق تميل إلى إقصاء الخطأ. إن القوة الدافعة لعملية السوق في الاكتشاف المستمر للخطأ المستمر على الظهور هو الإدراك أو الحذر التجاري. إن الحقيقة هي أننا (سواء كنا رجال اقتصاد أو أطباء نفسيين أو رجال أعمال) نعرف القليل جداً عن مصادر وطبيعة الدراية التجارية، ولكننا نعرف ما يكفي لفهم أن السوق يعتمد عليها لمقدرتها المتميزة للعمل كإجراء اكتشاف اجتماعي. وإذا ما توجب على السوق الحر أن يعتمد على عملية الاكتشاف التجاري لحسن نواياه الاجتماعية، حسب ما نفترض في هذه المقالة، يتوجب علينا إذن، كصناع سياسات أن نفهم بعمق الأوجه الحساسة لهذه العملية، وأن نأخذ كل خطوة من شأنها أن تجنبنا التشويه والإعاقة.
لا يقتصر الإدراك التجاري على ملاحظة فروقات الأسعار الموجودة سلفاً. فالإدراك التجاري يذهب إلى أبعد من استغلال الفرص المتاحة من أجل المضاربة الفورية في الأسواق اليومية. إن صاحب المبادرة الاستكشافي الذي يتوقع ارتفاعاً في سعر مادة ما، فيشتري الآن وبالسعر المنخفض من أجل حصد ربح صاف عند بيع المادة غداً أو بعد عشرين عاماً، فهو بذلك يعمل على محفز “درايته” أو إدراكه لغياب التنسيق بين ما هو متوفر اليوم وما يمكن الحاجة إليه غداً أو بعد عشرين عاماً. إذا ما اتضح أن صاحب المبادرة التكهني هذا صائب، فإن غياب التنسيق هذا سيُرى على أنه ناشئ عن أخطاء أولئك الذين فشلوا في توقع ميول السوق المستقبلي بشكل صحيح.
وقد نوغل في الإسهاب في الأمر. وقد لا يمكن ملاحظة فرصة الربح الوقتي أو السريع من قبل المضارب ولكنه في الحقيقة قد يخلقها. إن صاحب المبادرة ذا الخيال الواسع والخلاق الذي يشتري موارد اليوم بثمن بخس من أجل تسويق فكرة جديدة تماماً، الغد أو بعد عشرين عاماً من الآن، قد عمل على جلب تخصيص لموارد المجتمع وإدخالها في تنسيق أعظم مع الاحتمالات الحقيقية التي تكشفها عبقريته المبدعة. ومن منظار تاريخي، إن ما سيتم الكشف عنه على أنه “أخطاء” الأجيال السابقة الذين لم يحلموا بالاكتشافات الهائلة “المنتظر” تحقيقها قد تم “تصحيحها” من خلال العملية الإبداعية للخلق التجاري المبادِر. ولا يهم فيما إذا ظهر الإدراك التجاري في هيئة وعي بفرص الربح أو فرص المضاربة الصافية أو فرص الإبداع التقني أو التسويقي فإنه ذلك الإدراك الذي يدفع باتجاه عملية الاستكشاف التصحيحي للسوق.
المنافسة والمبادرة

يجب أن نلاحظ إضافة الى ذلك، أن عملية الاسكتشاف المبادر تشكل عملية تنافسية أساسية. وهذه المسألة تتطلب توضيحاً موجزاً.
وكما شاهدنا فإن المحرك الأساس لعملية السوق يتأتى من تنفيذ الاكتشافات المبادِرة. ومن أجل هذا التنفيذ، من الضروري بالطبع أن يكون أصحاب المبادرة أو أصحاب المشاريع أحراراً لكي يتمكنوا من العمل على اكتشافاتهم—بغض النظر عن كيفية خدمة هذا الأمر لمصلحة الذين لم يقوموا بهذه الاكتشافات بأنفسهم. وتتطلب حرية الفعل هذه أن لا يقوم أحد بمنع أي صاحب مبادرة من الولوج في أي مضمار تجاري يريد. فحرية الدخول مشروعة كشرط أساسي لأجراء الاكتشاف للسوق.
لقد بات من السهل رؤية كيف يجب أن تكون حرية دخول أصحاب المبادرة أو المشاريع اليقظين، الذين يعتقدون أنهم اكتشفوا فرصاً للربح الصافي، مصدر قلق لأولئك الذين منعت “أخطاؤهم” خدمة المستهلكين على نحو أفضل مما كان. أما بالنسبة للذين يبيعون بأسعار مرتفعة (في الوقت الذي تتوفر فيه المادة بسعر أقل)، فإن المنافسة بين المضاربين في الأسعار تعني نهاية سريعة لأسعارهم المرتفعة. (أما هؤلاء الذين يشترون بأسعار منخفضة، فإن هذه المنافسة من المضاربين تعني تهديداً مشابهاً). وبالنسبة للذين يستخدمون موارد شحيحة لإنتاج منتوج لا يحتاجه المستهلك أكثر من حاجته لمنتوج ثانوي (يمكن إنتاجه بنفس الموارد)، لا يتم تصنيعه الآن، فإن منافسة أصحاب المبادرة الذين أخذوا يعرضون سعرهم من أجل تلك الموارد النادرة لغرض إنتاج المنتوج الثاني يجب أن تبدو تهديداً تنافسياً أشد خطورة. وسيبدو من المرغوب فيه، لكل من يشعرون بالتهديد، منع أولئك أصحاب المبادرة المجددين ومحطمي التقاليد والمندفعين، من الدخول في هذه الأسواق الموجودة وتشويشها. من الواضح أن محرك الاكتشاف المضاربي يعمل على شكل عرقلة مستمرة للحياة الهادئة التي قد يتم التمتع بها من قبل الذين يتابعون أنماطاً معينة (مغلوطة جزئياً) لسلوك السوق.
وبالمعنى الذي يفهم به رجال الأعمال معنى المنافسة، فإن عملية الاكتشاف المضاربي في السوق هي تنافسية بالأساس: فهي تعمل فقط بقدر لا يسمح فيه بحماية أي شخص في السوق من دخول القادمين الجدد. إن حرية الدخول لا تجعل الداخلين المحتملين أكثر وعياً بالـ”هفوات”—مناطق الربح الكبير—فحسب؛ بل إن الوعي بهذه الحرية سيجعل من المتواجدين في السوق أكثر إدراكاً ويقظة لتهديدات الداخلين المحتملين. عندئذٍ، سيفتش المتواجدون في السوق عن طريقة لمنع الدخول بواسطة إجراء تعديل “مبادِر” على أنشطتهم.
ولتحفيز يقظة أصحاب المبادرة بهذه الطريقة—أي لضمان سمة التنافس لعملية السوق—لسنا بحاجة إلى التخمين بأن السوق، ولأجل أية مادة معينة، يحتوي أصلاً على الكثير من المشترين والباعة. كما أننا بالتأكيد لسنا بحاجة إلى التخمين بأن كل مشارك في السوق ينظر إلى نفسه على أنه غير قادر على اختيار عروضه للأسعار—كما افترضت الاصطلاحات التقليدية للاقتصاديين التقنيين بأن ذلك ضروري لوجود ظروف تنافسية كاملة. كل ما نحن بحاجة إلى تخمينه هو أنه ليست هناك عقبات إضافية للسوق لكي تمنع دخول المنافسين المحتملين في أي اتجاه كان من اتجاهات المحاولة. وعند مناقشة الخواص الحميدة التي عزوناها لعملية السوق، والتي تعتمد على سمة السوق التنافسية، لا نعني بأن تلك الخواص تعتمد على نتيجة العملية التنافسية التي دخل خلالها العديد من المشاركين في السوق لكي يحالوا إلى عاجزين. إن ما نقوله هو أن الشروط التي تحفز عملية المنافسة—أي الغياب الكامل للقيود المؤسساتية—تميل إلى ضمان عملية اكتشاف متبادل.
التنظيم الحكومي: عقبة أمام عملية الاكتشاف

نحن الآن في وضع أفضل لمشاهدة كيف أن النظرة النمساوية للسوق، التي تحدثنا عنها فيما تقدم، قد تؤدي إلى وضع انتقادي للتنظيم الحكومي، وكيف يختلف الأساس لمثل هذا الوضع عن ذلك الرأي المألوف، أي الدفاع الكلاسيكي الجديد عن السوق الحرة. قد نضع الأمر بصورة موجزة: من أجل تنسيق ناجح معقول ضمن نظام لامركزي لاتخاذ القرارات، فإن عملية الاكتشاف التي يشكلها وعي أصحاب المبادرة التنافسي من أجل الربح، لهي أمر في غاية الأهمية. قد تستند المحاولات الهادفة للتحسين بالتنظيم المباشر على معلومات خاطئة (وذلك لأن المنظمين لا يستطيعون الإفادة من عملية الاكتشاف للسعي خلف الربح)، ومن الممكن أن تشوه عملية اكتشاف السوق الدقيقة أو تغلقها.
لنفترض أن الحاجة للتنظيم قد تأكدت على أساس ظاهرة “غير مرغوب فيها” ناجمة عن السوق غير المنظم. فعلى سبيل المثال، إن أسعار بعض البضائع المعينة ينظر إليها على أنها “عالية جداً” (كأسعار الحليب للمستهلكين؟)، أو “واطئة جداً” (كأسعار الحنطة التي يستلمها الفلاحون؟). أو ينظر إلى الكمية المتوفرة لمنتوج معين على أنها “واطئة جداً” (العناية الطبية؟) أو “عالية جداً” (كاللُعَب غير الآمنة”؟) وهلم جرى. فلنتخيل بأن صانعي القرارات الحكومية لا يحفزون إلا عن طريق الحافز لأن يعملوا نسقاً لظاهرة ما تعكس بصدق تفضيلات المستهلكين، (والتي يعتقدون أنها تُحبط بالسوق الحر الذي يفتقر إلى التنسيق). من المفترض أن تكون مناقشتنا قد وضحت بأن أولئك المسؤولين ذوي العقلية المكرسة للعامة والناكرين لذاتهم يفتقرون للوسائل التي تمكنهم من الاستجابة للتفصيلات التي لا حصر لها (للمستهلكين ومالكي الموارد) والتي قد لا يكونوا على دراية بها بصورة مباشرة. ليست هناك طريقة يعرفون بها الكمية “الصحيحة” أو السعر “الصحيح” لأي منتوج أو مورد معين. ليس هناك (نظير للباعث التجاري لاكتشاف فرص الربح الصافي) ما يمكن أن يقودهم إلى اكتشاف مكامن الخلل في التنسيق وبشكل منتظم.
وإن ما هو أكثر جدية هو حقيقة أن السيطرة الحكومية على الأسعار والكميات ونوعيات إنتاج المخرجات وتوظيف المدخلات، قد تقوم عن غير قصد بمنع أو حجز الأنشطة التي لم تكن قد خطرت ببال احد. وبينما يمكن أن تكون هذه الأنشطة الممنوعة أو المعطلة أنشطة نافعة من الناحية التجارية (ربما يكون ذلك ناتجاً من التغييرات غير المتوقعة في البيانات)، فإن احتمالية اكتشافها تكون حينها قد اضمحلت بالكامل. وبالتالي كانت عملية الاكتشاف التلقائي للسوق الحرة، حتى وإن لم تكن قصدية بالضرورة، مخنوقة ومشوهه إلى حد ما.
لقد لاحظنا مسبقاً مدى أهمية المقدرة على الدخول غير المقيد لأصحاب المبادرة الباحثين عن الربح بالنسبة لعملية الاكتشاف المبادِر التنافسي. ومما لا مناص منه هو أن قيود الحكومة التنظيمية تمنع هذا الدخول. إن القيود من هذا النوع هي قيود ضد التنافس. فهي تميل إلى إحباط الاكتشافات التي تولدها العملية التنافسية. حتى عندما يكون تنظيم الحكومة (مستوحى ربما على شكل نموذج مغلوط “للتنافس” حيث يكون فيه كل حجم مهم مشكوك فيه بحد ذاته) مصمم لـ “الإبقاء على التنافس” (على سبيل المثال عن طريق منع الاندماجات)، وهذا أيضاً يجب أن يعتبر شكلاً من الأشكال التي لا تساعد على التنافس. لأن هذا مثلاً قد يغلق العملية المبادِرة التي يمكن أن يكتشف بها الحجم الأمثل للشركة المنتجة.
من السهل على مسؤولي الحكومة المؤهلين أن يتصوروا أن بإمكانهم معرفة ما هو جيد للاقتصاد. ولكن من المحتمل أن يعني هذا أن في الاقتصاد المعقد جداً في زمننا الحاضر يكون من السهل للأفراد ذوي النية الحسنة أن لا يدركوا جهلهم بأمور معينة. أما بالنسبة لأصحاب المشاريع الخاصة، فإن وسيلة إيصال المعلومات الغير مشتبه بأنها مفقودة توفرها جاذبية فرص الربح الصافي الذي تولده معلومات الفرص المفقودة تلك. ليس المنظمون وحدهم غير قادرين على الاستفادة من الاكتشافات المستوحاة من الربح: فتدخلهم المباشر في السوق يمكن أن يحبط ويخنق ويشوه عملية الاكتشاف الحميدة اجتماعياً والتي تعتمد على حرية الدخول في فروع النشاط الذي لم يتم التأسيس لقبوله اجتماعياً لحد الآن.
ويتبع ذلك أن التأثيرات الضارة للتنظيم (والتي تم الحكم عليها من منظور تفضيلات المستهلك، وليس عن طريق القوانين المتبناة عشوائياً للأهمية الاجتماعية) ليس بالضرورة أن تكون موجودة في الفشل الواضح (كما يعبّر عنه مثلاً في النقصان وغياب التنسيق الواضح). وقد تتمظهر التأثيرات الضارة للتنظيم في حالات حيث يكون هناك غياب للتنسيق لا يعلم به احد. إن النقطة التي نريدها هي أن التنظيم يمكن أن يكون مسؤولاً عن هذا الغياب في التنسيق الذي لم يتم اكتشافه. إن ما يثير العجب في السوق التنافسي المبادِر هو مقدرته في إلهام نشاطات تنسيقية لا يتم الكشف عنها في غياب السوق.
في الحقيقة، إن “اليد الخفية” للسوق الحرة هي خفية ايضاً من حيث أن مشاكل التنسيق نفسها والتي تسعى إلى حلها هي مشاكل خفية حتى على أعلم العلماء المخلصين، أو على المنظمين الحكوميين أنفسهم.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 28 كانون الثاني 2006.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018