هرناندو دي سوتو26 ديسمبر، 20140
لقد برهنت دول العالم، من الصين فالبيرو إلى بوتسوانا، بأن الفقراء يمكنهم التكيف بسرعة عندما يحصلون على إطار من قواعد حديثة للملكية ورأس المال، فجوهر الأمر يكمن في البدء بالعمل، ولا بد أن لا ننسى بأن الرأسمالية، وعلى امتداد التاريخ، تحققت على يد أشخاص كانوا يعانون الفقر يوما ما......

هرناندودي سوتو*

ترجمة علي الحارس

مع تحرك الولايات المتحدة الأمريكية للقتال في مسرح جديد من مسارح الحرب على الإرهاب، فإنها قد تفوّت على نفسها أفضل فرصة لهزيمة تنظيم (الدولة الإسلامية) وغيره من الجماعات المتطرفة في الشرق الأوسط إذا لم تقم بتفعيل سلاح مصيري قليل الاستخدام، وهو: وضع أجندة حازمة لتقوية الناس اقتصاديا؛ فكل ما نسمع عنه حاليا هو القصف الجوي والمناورات العسكرية، وهي من الإجراءات المتوقعة عندما يكون العدو مجموعة من السفاحين المصممين على الفوضى والدمار.

أما إذا كان الهدف لا ينحصر في إذلال ما وصفه الرئيس باراك أوباما مصيبا بأنه “شبكة الموت” التابعة لتنظيم (الدولة الإسلامية)، وإنما كان يتمثل في نزع قدرة قادة المتطرفين على تجنيد الإرهابيين في المقام الأول، فلا بد للغرب حينها من أن يتعلم درسا بسيطا، وهو أن الأمل الاقتصادي هو الطريق الوحيد للانتصار في معركة اجتذاب الحواضن الاجتماعية التي يتغذى الإرهاب عليها.

ولدي بعض المعلومات في هذا المجال، فقبل جيل واحد كانت معظم بلدان أمريكا اللاتينية يسودها الاضطراب، وفي العام 1990 قام تنظيم إرهابي ماركسي لينيني يدعى (الطريق المضيء) بالسيطرة على معظم أنحاء بلدي، البيرو، وحينها كنت أشغل منصب المستشار الأول لرئيس الجمهورية. وكان الرأي السائد يعتقد بأن المتمردين هم الأجَراء المستعبدون المحرومون الذين يحصلون على أجور متدنية، وأن الرأسمالية لا يمكنها أن تفعل فعلها خارج الغرب، وأن الثقافات اللاتينية لم تستوعب اقتصاديات السوق بشكل فعلي.

لكن الوقائع أثبت خطأ هذا الرأي التقليدي، فالإصلاحات التي شهدتها البيرو منحت المستثمرين الرياديين والمزارعين، من السكان الأصليين، حق التحكم في ممتلكاتهم، ووفرت لهم إطارا قانونيا يمكنهم الاستفادة منه في إدارة الاستثمارات والتعاقد والاقتراض، مما أدى إلى تحفيز قفزة غير مسبوقة في المستوى المعيشي.

وفي المدة (1980-1993) أحرزت البيرو الانتصار الوحيد الذي حققته أي دولة ضد الحركات الإرهابية منذ سقوط الشيوعية دون تدخل القوات الأجنبية أو الحصول على دعم مالي أجنبي كبير لقواتها المسلحة؛ وخلال العقدين التاليين نما إجمالي الناتج الوطني الفردي بسرعة بلغت ضعفي السرعة الوسطية لنمو نظرائه في أمريكا اللاتينية، وذلك مع نمو الطبقة الوسطى بسرعة بلغت أربعة أضعاف السرعة الوسطية لنظيراتها في القارة.

واليوم نسمع الكلام المتشائم نفسه حول الوضع الاقتصادي والثقافي في العالم العربي كما سمعناه من قبل في البيرو إبان ثمانينيات القرن الماضي، لكننا نعلم ما هو أفضل من هذا الكلام، فكما أن تنظيم (الطريق المضيء) تعرض للهزيمة في البيرو، فإن الإرهابيين في العالم العربي يمكن هزيمتهم من خلال إصلاحات تخلق حواضن اجتماعية لا تتوقف في سعيها إلى رفع مستويات المعيشة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

ولتحويل هذه الأجندة إلى واقع لا يتطلب الأمر سوى بعض الخيال، وجرعة قوية من الرأسمالية (يجري حقنها من القاعدة إلى القمة)، وقيادة حكومية تعمل لبناء وتبسيط وتقوية القوانين والبنى التي تتيح للرأسمالية فرص الازدهار؛ فكل من تجول في شوارع ليما وتونس والقاهرة يعلم بأن رأس المال ليس المشكلة، وإنما هو الحل.

وإليكم قصة البيرو بإيجاز: حاول تنظيم (الطريق المضيء)، بقيادة أستاذ جامعي سابق يدعى أبيمايل غوسمان، أن يسقط الحكومة البيروفية في ثمانينيات القرن الماضي، وقد اجتذب التنظيم في البداية بعض المزارعين الفقراء اليائسين في الريف ممن كانوا يشاركون التنظيم فقدان ثقته كليا بالنخب البيروفية، حيث طرح غوسمان نفسه كمخلص للبروليتاريا التي عانت طويلا تحت حكم الرأسماليين المفسدين في البيرو.

لكن الأمر الذي غيّر الجدل الدائر، وغيّر رد فعل الحكومة بشكل نهائي، كان الدليل الذي يشير إلى أن فقراء البيرو لم يكونوا عاطلين عن العمل، أو يعملون بأجور متدنية، أو مزارعين، كما كان الرأي السائد في ذلك الحين، وإنما كان معظمهم مستثمرين رياديين صغارا يعملون خارج إطار سجلات الحكومات ضمن الاقتصاد “اللارسمي” للبيرو، وقد بلغت نسبتهم (62%) من السكان وكانوا ينتجون (34%) من إجمالي الناتج الوطني، ناهيك عن أنهم قاموا بتجميع ثروة من الأصول المالية العقارية تقترب من (70 مليار دولار).

إن هذه الطريقة الجديدة في النظر إلى الواقع الاقتصادي تمخضت عن إصلاحات كبرى على الصعيدين الدستوري والقانوني، فأقدمت البيرو على التخلص من (75%) من الإجراءات الروتينية التي تعيق النفاذ إلى النشاطات الاقتصادية، ووفرت مكاتب للتظلّم وآليات لتقديم الشكاوى ضد الوكالات الحكومية، واعترفت بحقوق الملكية لأغلبية السكان. وقد قامت إحدى الحزم التشريعية لوحدها بمنح الاعتراف الرسمي لـ(380,000) نشاط استثماري غير رسمي، فظهرت إلى السطح في المدة (1990-1994) حوالي (500,000 وظيفة) وقدمت للحكومة (8 مليارات دولار) من الإيرادات الضريبية.

واستطاعت الخطوات السابقة أن تجرد الإرهابيين في البيرو من الحواضن الاجتماعية المتينة في المدن، لكنهم كانوا أكثر قسوة في الريف، فبحلول العام 1990 كانوا قد قتلوا (30,000) من المزارعين الذين قاوموا عملية تجميعهم ضمن المجتمعات المشاعية الكبيرة؛ ووفقا لتقرير صدر عن مؤسسة (راند) للأبحاث فإن تنظيم (الطريق المضيء) كان يسيطر على (60%) من مساحة البيرو، وكان يتهيأ للاستيلاء على البلد بأكمله خلال عامين.

كان الجيش البيروفي يعلم بأن المزارعين يمكنهم المساعد في التعرف على العدو وإلحاق الهزيمة به، لكن الحكومة قاومت جهود إقامة تحالف بين التنظيمات الدفاعية غير الرسمية التي شكلها المزارعون للدفاع عن أنفسهم. وكنا محظوظين بتحقيق اختراق في العام 1991 عندما قام دان كويل، نائب الرئيس الأمريكي في ذلك الحين، والذي كان يتابع جهودنا، بترتيب اجتماع في البيت الأبيض مع الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب، والذي قال لنا: “إذن، فأنتم تقولون لي بأن هؤلاء الأشخاص النحيلين يقفون إلى جانبنا بالفعل”، وذلك بعد أن أدرك ما نصبو إليه.

وتمخض هذا الاجتماع عن معاهدة مع الولايات المتحدة تشجع البيرو على التخطيط لجبهة دفاعية مسلحة شعبيا ضد تنظيم “الطريق المضيء” مع التزام الولايات المتحدة بدعم الإصلاح الاقتصادي كبديل لأجندة هذا التنظيم الإرهابي. وعلى هذا الأساس سارعت البيرو إلى تشكيل جيش من المتطوعين المنتمين إلى طبقات متنوعة، وكان تعداد هذه الجيش أكبر بكثير من الجيش السابق (أربعة أضعاف)، واستطاع الانتصار في الحرب خلال مدة وجيزة. وكتب غوسمان حينها في وثيقة نشرها الحزب الشيوعي البيروفي: “لقد تمت إزاحتنا بسبب خطة صممها وطبقها دي سوتو والإمبريالية الأمريكية”.

وإذا استرجعنا تلك الأحداث فسنجد أن العنصر المصيري في هذا الجهد كان يتمثل في النجاح في إقناع القادة وصانعي السياسات في الولايات المتحدة، ومعهم شخصيات رئيسية في منظمة الأمم المتحدة، بأن ينظروا إلى الريف البيروفي على نحو مختلف: كأرض خصبة، لا للثورة الماركسية، وإنما لاقتصاد جديد يتبع مبادئ الرأسمالية والحداثة. ولقد ساعدتنا أساليب التفكير الجديدة على هزيمة الإرهاب في البيرو، ويمكنها أن تكرر ذلك، كما أعتقد، في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ولا يمكن للرهان أن يكون أعلى مما هو عليه حاليا، فالاقتصاد غير الرسمي في العالم العربي يتضمن أعدادا كبيرة من الأشخاص المرشحين للانخراط في تنظيم (الدولة الإسلامية)، وأينما سيذهب هؤلاء فسيأخذون المنطقة بأجمعها معهم.

من المعلوم لدى الكثير من الناس أن الربيع العربي انطلقت شرارته في العام 2011 عندما ضحى بنفسه الشاب التونسي محمد بوعزيزي، وهو بائع متجول يبلغ من العمر (26) عاما؛ لكن القليل تساءلوا عن السبب الذي دفع بوعزيزي إلى الشعور بالرغبة في قتل نفسه، أو عن السبب الذي دفع (63) شخصا على الأقل، وخلال ستين يوما من حادثة بوعزيزي، إلى حرق أنفسهم أيضا في تونس والجزائر والمغرب واليمن والسعودية ومصر، مما أدى إلى خروج الملايين للشوارع، وإسقاط أربعة أنظمة، والسير بنا نحو إلى حالة الاضطراب التي يشهدها الشرق الأوسط حاليا.

ولفهم هذا السبب قام المعهد الذي أعمل فيه، وبالتعاون مع الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية (أوتيكا)، وهو أكبر منظمة استثمارية في تونس، بإعداد فريق بحثي ضم حوالي ثلاثين شخصا من العرب والبيروفيين، والذين توزعوا على المنطقة بأجمعها؛ وقمنا خلال عامين بإجراء مقابلات مع أسر الضحايا وزملائهم، وذلك بالإضافة إلى عدد ممن أشعلوا النار في أنفسهم دون أن يفارقوا الحياة.

ووجدنا بأن حالات الانتحار تلك لم تكن تهدف إلى تسليط الضوء على حقوق سياسية أو دينية أو تطالب بالدعم الحكومي لزيادة الرواتب، كما حاجج البعض؛ فبوعزيزي والآخرين ممن أحرقوا أنفسهم كانوا مستثمرين رياديين خارج الإطار القانوني: من عمال بناء، ومقاولين، ومتعهدي خدمات، وباعة متجولين وما أشبه؛ كما إن الوصايا التي تركوها لم تحمل أي إشارة إلى الدين أو السياسة. أما من بقوا على قيد الحياة بعد إحراقهم لأنفسهم فإن معظم من وافقوا على تسجيل شهاداتهم تحدثوا لنا عن “الإقصاء الاقتصادي”، وأن هدفهم الرئيسي كان الحصول على “رأسمال”، وأن يأسهم وسخطهم نبعا من المصادرة التعسفية لما كان لديهم من رأسمال ضئيل.

إن محنة بوعزيزي، كأحد المستثمرين الرياديين الصغار، تعبر عن حالات الإحباط التي ما زال يواجهها الملايين من العرب، فهذا الشاب التونسي لم يكن مجرد عامل عادي، وإنما كان يعمل في التجارة منذ أن كان في الثانية عشرة من عمره، وعندما أصبح في التاسعة عشرة عمل محاسبا في السوق المحلي، وفي السادسة والعشرين كان يبيع الفواكه والخضار من عربات ومواقع مختلفة.

ولقد أخبرتنا والدة بوعزيزي أنه كان يعمل لتأسيس شركة خاصة به، وأنه كان يحلم بتوسيع عمله من خلال شراء شاحنة صغيرة تأخذ تلك المنتجات إلى منافذ أخرى للبيع بالتجزئة، لكن الحصول على قرض لشراء الشاحنة كان يستلزم ضمانات، وبما أن ممتلكاته لم تكن مسجلة بشكل قانوني، أو لأنها مبهمة، فلم يكن مؤهلا للحصول على هذا القرض.

وفي غضون ذلك استمر المفتشون الحكوميون في تنكيدهم حياة بوعزيزي، فكانوا يضغطون عليه للحصول على الرشوة عندما كان يعجز عن تقديم تراخيص لا يمكن الحصول عليها عمليا (بسبب طريقة صياغتها). ولم يعد بوعزيزي يتحمل هذا الأذى، وفي اليوم الذي أحرق نفسه فيه، جاء المفتشون لمصادرة بضاعته والميزان الإلكتروني الذي يستخدمه لوزن السلع، فنشب نزاع بين الطرفين، وأقدمت إحدى المفتشات على توجيه صفعة إلى وجهه، ويقال بأن هذا الإذلال، جنبا إلى جنب مع مصادرة بضاعة قيمتها (225 دولارا) فقط، هو الذي دفع هذا الشاب إلى الانتحار.

إن منظومة المحسوبية في تونس، والتي تقتضي الدفع مقابل الحماية الرسمية في كل المجالات، سحبت دعمها لبوعزيزي ثم قامت بتدميره، فلم يعد قادرا على تحقيق الأرباح أو دفع ديونه التي اقترضها لبيع البضاعة التي صودرت منه، فأصيب بالإفلاس وتحولت الشاحنة التي كان يرغب بشرائها إلى حلم بعيد المنال، ولم يعد يستطيع أن يبيع أي شيء أو ينتقل إلى مكان آخر لأنه لا يمتلك تصنيفا قانونيا لعمله، ولذلك قرر الموت حرقا وهو يرتدي ألبسة غربية الطراز مطالبا بحقه في العمل ضمن اقتصاد سوق قانوني.

وقد سألت شقيق بوعزيزي، سالم، عما إذا كان يعتقد بأن أخاه ترك وراءه إرثا ما، فقال: “طبعا، لقد كان يؤمن بأن الفقراء يحق لهم البيع والشراء”. كما قال لي مهدي بيلي، وهو خريج إحدى كليات تقنيات المعلومات ويعمل تاجرا في أحد أسواق تونس: “كلنا محمد بوعزيزي”.

إن “الشارع العربي” يريد أن يجد له مكانا في الاقتصاد الرأسمالي الحديث، لكن مئات الملايين ممن ينتمي إليه ما زالوا يعجزون عن تحقيق ذلك بسبب القيود القانونية التي لا يراها غالبا كل من القادة المحليين وحلفائهم الغربيين، فانتهى بهم الحال كلاجئين اقتصاديين في بلدانهم نفسها.

ومن أراد النجاة من هذا الوضع توجب عليهم أن يراكموا المئات من الترتيبات الاجتهادية الفوضوية التي تدعى غالبا “الاقتصاد اللارسمي”؛ ومما يؤسف له أن هذا القطاع ينظر إليه باحتقار من قبل العديد من خبراء التنمية العرب والغربيين، والذين يفضلون مشروعات النوايا الحسنة الخيرية، كتقديم شبكات الحماية من البعوض وبعض المتممات الغذائية.

لكن صانعي السياسات يخطئون في إدراك المواضع الحقيقية للخطر: فإذا كان الشخص العادي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عاجزا عن ممارسة اللعبة بشكل قانوني، وعلى الرغم مما قدمه من تضحيات بطولية، فسيكون أقل مقدرة بكثير على مقاومة الهجمة الإرهابية، وربما يصل الأمر إلى درجة انخراط الأكثر يأسا منهم في الحركات الجهادية.

وربما يفشل الخبراء الغربيون في رؤية هذه الحقائق الاقتصادية، لكن هذه الحقائق يتزايد فهمها في العالم العربي نفسه، وهذا ما أدركته خلال زيارتي له. ولقد عرضت النتائج التي توصلت إليها في مؤتمرات انعقدت على امتداد هذه المنطقة خلال العام الفائت، وقدمتها لكبار المستثمرين والمسؤولين الحكوميين ووسائل الإعلام، وبيّنت لهم كيف أن الملايين من المستثمرين الرياديين الصغار الذين يعملون خارج إطار القانون، من أمثال بوعزيزي، يمكنهم تغيير اقتصاد أوطانهم.

وعلى سبيل المثال: عندما طلب منا الرئيس المصري الجديد، عبد الفتاح السيسي، أن نقوم بتحديث أرقامنا المتعلقة باقتصاد بلده، اكتشفنا أن الفقير المصري يحصل على دخل من إيرادات رأس ماله يتساوى مع ما يحصل عليه من العمل براتب محدد؛ ففي العام 2013، كان لدى مصر حوالي (24 مليون) مواطن يحصلون على رواتب تحت عنوان “عامل”، ويحصل هؤلاء على مبلغ إجمالي يناهز (21 مليار دولار) سنويا، لكن هؤلاء يمتلكون أيضا ما تصل قيمته إلى حوالي (360 مليار دولار) من رأس المال “الميت”، أي: رأس المال الذي لا يمكن استخدامه فعليا بسبب وجوده في الظل بعيدا عن الاعتراف القانوني.

ولتصوير ضخامة هذا الأمر يمكن القول بأن هذا المبلغ أكبر بمئة ضعف تقريبا مما سيقدمه الغرب لمصر من مساعدات مالية وعسكرية وتنموية، وأكبر بثمانية أضعاف من قيمة إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر منذ أن غزاها نابليون قبل أكثر من قرنين.

ولا شك في أن الدول العربية تمتلك حاليا قوانين تسمح باستخدام الممتلكات كضمانات اقتراض أو تحويلها إلى رؤوس أموال يمكن استثمارها أو ادخارها، لكن العمليات المطلوبة لتحقيق ذلك تعاني من عقبات لا يمكن تخطيها، وخصوصا عندما يواجهها الذين يفتقرون إلى ما يكفي من التعليم أو العلاقات؛ ففي الكثير من الدول العربية ربما يحتاج الفقير إلى أعوام وأعوام قبل أن يتمكن من تحقيق أمر بسيط كالتصديق على حقه في ملكية عقارية.

وفي إحدى المؤتمرات التي انعقدت مؤخرا في تونس توجهت للقادة الحاضرين بالكلام قائلا: “إنكم تفتقرون إلى البنية التحتية اللازمة لإدخال الفقراء تحت مظلة المنظومة القانونية”، فأجابني أحد المستثمرين: “لا حاجة لأن تخبرنا بذلك، فنحن كنا إلى جانب المستثمر الريادي دائما، ونبيّك هو الذي طرد التجار من الهيكل، أما نبيّنا فقد كان تاجرا!”.

إن العديد من المجموعات الاستثمارية العربية متحمسة لبدء عصر جديد من الإصلاحات القانونية، وقد تحدث الرئيس أوباما في خطابه الذي ألقاه في القاهرة في العام 2009، والذي أثار الكثير من النقاش، عن الالتزام الأمريكي العميق بـ”حكم القانون والتطبيق المتساوي للعدل”، لكن الولايات المتحدة لم تقم حتى الآن بدعم أجندة الإصلاح القانوني والدستوري في العالم العربي، وإذا كانت الولايات المتحدة مترددة في ذلك فلن يكون هنالك الكثير من القوى الدولية التي ستدعم هذه الأجندة.

ويجب على واشنطن أن تدعم القادة العرب الذين لا يكتفون بمقاومة تطرف الجهاديين، وإنما من ينتبه منهم لنداء بوعزيزي وكل الآخرين الذين بذلوا حياتهم في الاعتراض على سرقة رؤوس أموالهم، فبوعزيزي وأمثاله ليسوا شخصيات هامشية في القصة التي تسطرها هذه المنطقة، وإنما هم شخصيات رئيسية في مجرى أحداثها.

وفي الغالب، فإن الطريقة التي يفكر بها الغرب حول فقراء العالم تؤدي إلى عدم رؤيته لما يجري على أرض الواقع، فقد تبين في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بأن هنالك الكثير الكثير من المستثمرين الرياديين الطموحين الذين يفعلون كل ما بوسعهم، ويواجهون الصعوبات المديدة، للتسلق نحو موقع ضمن الطبقة الوسطى؛ وهذا الأمر يصح في كل أرجاء العالم، وباختلاف الشعوب والأديان، فالطموحات الاقتصادية تتغلب على “الفجوات الاقتصادية” التي يكثر الترويج لها غالبا لتبرير الامتناع عن القيام بأي شيء.

لقد برهنت دول العالم، من الصين فالبيرو إلى بوتسوانا، بأن الفقراء يمكنهم التكيف بسرعة عندما يحصلون على إطار من قواعد حديثة للملكية ورأس المال، فجوهر الأمر يكمن في البدء بالعمل، ولا بد أن لا ننسى بأن الرأسمالية، وعلى امتداد التاريخ، تحققت على يد أشخاص كانوا يعانون الفقر يوما ما.

ويمكن أن أؤكد، بحكم خبرتي الشخصية، أن قادة الإرهابيين يختلفون كثيرا عن مجنَّديهم، فالقادة المتطرفون الذين واجهتهم في البيرو كانوا بشكل عام مجرمين يقتلون الناس بدم بارد ويخططون لجرائمهم على نحو تكتيكي لخدمة طموحهم الذي لا يتزحزح بالاستيلاء على الحكم. أما المتعاطفون معهم والمجنَّدون المحتملون للقتال معهم فإن معظمهم على العكس من ذلك، وهم يفضلون أن يعملوا ضمن بيئة اقتصادية قانونية ليوفروا حياة أفضل لأنفسهم ولأسرهم.

إن السبيل الأفضل لإنهاء عنف الإرهابيين يتمثل في العمل على أن لا تلاقي الدعوات الخبيثة التي يطلقها الإرهابيون أي آذان مصغية لدى الناس.

* مؤسس معهد الحرية والديمقراطية، البيرو.

منبر الحرية، 26 ديسمبر/كانون الأول2014

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018