ترجمة علي الحارس
نقلا عن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير قوله في وقت سابق من هذا العام:
“إن تهديد الإسلام المتطرف يتنامى، وهو ينتشر على امتداد العالم، ويؤسس مجتمعات وحتى أمما. إنه يقوض إمكانية التعايش السلمي في عصر تسوده العولمة. ويبدو بأننا في وجه هذه التهديد مترددون بحذر في الاعتراف به ولا نملك حولا ولا قوة في الرد عليه بفعالية.
توفير السلع العمومية المحلية
لماذا يبدو نجاح الإسلاميين متصلا بتوفير الخدمات الاجتماعية والسلع العمومية المحلية؟ ففي نهاية المطاف، إذا كان التفسير التقليدي صحيحا وكانت شعوب البلدان العربية مشتاقة فقط إلى حضور خطط السياسة الإسلامية في الميدان السياسي، فلن يبقى بعدها من سبب يدعو إلى التوقع بأن يكون الإسلاميون أكثر نشاطا في توفير الخدمات الاجتماعية والسلع العمومية المحلية وما أشبهها بالمقارنة مع المجموعات السياسية الأخرى.
وعلى الرغم من ذلك فقد أظهر الإسلاميون، وعلى امتداد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بأنهم انخرطوا في توفير هذه الخدمات، بما فيها: الرعاية الصحية والتعليم ومعونات الرعاية الاجتماعية والمعونات الإنسانية. وفي الجزائر كانت الجماعات الإسلامية من بين المنظمات الأولى والأكثر فعالية في مساعدة ضحايا زلزال الجزائر في العام 1989. وفي المغرب لا يلعب حزب العدالة والتنمية دورا مباشرا في توفير الخدمات الاجتماعية، لكنه يمتلك تنظيما يدعى حركة التوحيد والإصلاح يلعب الدور الأكثر فعالية وبروزا على الصعيد المحلي في البلديات والمحافظات. وفي تونس، قامت حركة الاتجاه الإسلامي، وهي التنظيم الأولي الذي انطلق منه حزب النهضة الإسلامي الحاكم، بتطوير شبكة لتقديم الخدمات الاجتماعية وبنت حضورا لها في المستويات المحلية للحكومة؛ ويضاف إلى ما سبق أنها قامت على نحو تقليدي بتشغيل العديد من الجمعيات الحضرية، بما فيها: النوادي الرياضية، والأعراس الجماعية المنظمة، دون أن تأخذ على ذلك ثمنا. أما في مصر فإن “تنظيم الإخوان المسلمين يدير (22 مستشفى) وله مدارس في كل محافظات البلاد، كما يدير العديد من مراكز رعاية الأرامل والأيتام الفقراء بالإضافة إلى برامج التأهيل المهني للعاطلين عن العمل، وتشير التوقعات إلى أن تنظيم الإخوان المسلمين يدير حوالي (20%) مما يقارب (5,000) منظمة وجمعية مسجلة رسميا من منظمات المجتمع المدني في مصر”. وفي الأردن يقوم تنظيم الإخوان المسلمين بإدارة المستشفى الإسلامي في عمان، وجمعية العفاف الخيرية التي تقيم الأعراس الجماعية وتساعد العازبين في البحث عن الزوجة المناسبة. وفي اليمن قام حزب الإصلاح بتأسيس منظمات تقدم خدمات للمجتمع في مجال الرعاية الاجتماعية والتعليم والنشاطات الدينية، وأكثر ما يلفت الانتباه من هذه المنظمات: جمعية الإصلاح للرعاية الاجتماعية التي تمارس عد نشاطات كحملات التوعية الصحية والتعليم الديني ومحو الأمية والتبرعات الخيرية. وأخيرا لا بد من ذكر “الوحدة الاجتماعية” التي تشكل أحد الأجزاء الرئيسية الثمانية في هيكلية حزب الله، وهي تقدم خدمات الرعاية الاجتماعية والمساعدة الفنية وأسست عدة مؤسسات تتنوع من التعاونيات الزراعية إلى المراكز الثقافية. والأمر نفسه ينطبق على حركة حماس في الأراضي الفلسطينية، حيث يقوم الإسلاميون هناك بإدارة برامج للمعونات، وتمويل المدارس والمياتم والمساجد وعيادات الرعاية الصحية ومراكز إطعام الفقراء، والنوادي الرياضية.
الإسلام السياسي وموثوقية السياسات
هاتان الحقيقتان توحيان بأن تأثير جاذبية المحتوى الجوهري للدين على الناخب ليس هو العامل الوحيد المؤثر في البلدان العربية؛ فبالإضافة إلى المحتوى الثيولوجي، يمثل الدين نقطة محورية للتنظيم الاجتماعي، إذ يمكن للخصائص التنظيمية للدين أن تلعب دورا مهما في تخفيف بعض المشكلات السياسية الملحة في المنطقة.
ويمكن القول، بشكل محدد، بأن السياسة الدينية يمكن أن ينظر إليها كحل لمشكلة الالتزام الانتخابي الموثوق التي تتفشى في الديمقراطيات الجديدة والوليدة؛ فالناخبون يفضلون المجموعات السياسية التي يمكنها أن تقطع وعودا موثوقة بتوفير سلع عمومية بعد الانتخابات، لكن هذه المجموعات السياسية يندر مثيلها في مرحلة ما بعد تغيير الأنظمة، فالسياسيون في الديمقراطيات الجديدة والوليدة نادرا ما ينظر إليهم بأنهم يستطيعون قطع التزامات موثوقة، وهو أمر يتطلب تأسيس قنوات تواصل مع الناخبين يمكن الاعتماد عليها، وأساليب لتتبع الوعود المقطوعة.
والحصيلة المعتادة تتمثل في أن السياسيين يقطعون وعودا بإعادة التوزيع لمجموعة صغيرة ضمن دائرة المحسوبية السياسية (الجهات الراعية) الذين يمكنهم بدورهم أن يقطعوا وعودا موثوقة لعملائهم، وذلك بينما يسحبون قسما من الأموال لأنفسهم. وينتج عن ذلك أن الديمقراطيات الجديدة والوليدة ستعاني من (الرعائية)، مما يتسبب بظهور برامج لإعادة التوزيع تتصف بضخامة الحجم وهدر الموارد، وبنقص السلع العمومية التي تقوم الحكومة بتوفيرها.
إن السياسات القائمة على الرعائية قد تتبدد بمرور الوقت مع قيام السياسيين ببناء سمعة تتيح لهم قطع التزامات موثوقة في ما يتعلق بتوفير السلع العمومية. لكن الرعائية يمكنها، من جهة أخرى، أن تخلق مثبطات تبعد السياسيين عن الاستثمار في تنمية قدراتهم على قطع وعود موثوقة لناخبيهم، مما يؤدي إلى مدد طويلة من السياسات السيئة على صعيد الحوكمة وإعادة التوزيع.
والجماعات السياسية في بلدان الشرق الأوسط قادرة، بخلاف منافسيها، على قطع وعود موثوقة بشأن البرامج السياسية وتوفير السلع العمومية؛ فهي معروفة بشكل جيد بانخراطها في توفير السلع العمومية والخدمات الاجتماعية على المستوى المحلي لأعضائها ولأوساط اجتماعية أوسع خلال مدة طويلة، مما يؤدي إلى تقوية موثوقيتها في قطع الوعود المتعلقة بتوفير السلع العمومية في المستقبل. ولقد استطاعت جماعة الإخوان المسلمين أن تنشط في البلدان العربية طيلة عقود، وذلك على الرغم مما تعرضت له من اضطهاد رسمي في أغلب الأحيان. ويضاف إلى ما سبق أن الطبيعة الدينية لهذه الجماعات تتيح لها التعامل مع الفعل الجماعي بطرائق غير متاحة للتنظيمات العلمانية.
وهذه الآليات تتضمن في أغلب الأحيان: التضحية والعار؛ فالجماعات الدينية تحتاج إلى أعضاء يكرسون وقتهم للنشاطات الدينية وإلى الإنتاج المشترك للسلع التي يحتاجها أعضاء الجماعة، ولردع الآخرين عن الانتفاع المجاني تقوم هذه الجماعات بفرض تكاليف على أعضائها، كالقيود المفروضة في اللباس والطعام، وهي إجراءات تساعد الأعضاء على التعبير عن التزامهم بالجماعة وإنشاء حاجز ضد الأعضاء غير المتحمسين الذين قد يمارسون الانتفاع المجاني من السلع التي ينتجها التنظيم الديني.
التأثيرات الواقعة على السياسات
إن هذا التفسير يوحي بأن الناخب الذي يدلي بصوته في البلدان العربية ربما يفضل الأحزاب الدينية على الجهات السياسية الأخرى لأسباب ليس لها إلا صلة ضئيلة بالمعتقدات الدينية؛ فعلى العكس من السياسة الرعائية التي تؤدي إلى إعادة التوزيع الهدرية وأزمات الشح في السلع العمومية، فإن الأحزاب الدينية التي تتمتع بالموثوقية يمكنها أن تقطع وعودا بشأن توفير السلع العمومية، مما يجعلها أكثر جاذبية في عيون الناخبين بالمقارنة مع بدائلها.
لكن ذلك يجب أن لا يقرأ على أنه تأييد للإسلام السياسي؛ ففي نهاية المطاف، وكما يبين لنا مثالا حماس وحزب الله، يمكن القول بأن التنظيمات الدينية التي تنجح في توفير السلع الفئوية والسلع العمومية المحلية من شأنها أن تتمتع أيضا بأفضلية مميزة في مجال العنف المنظم. وتتلخص أطروحة هذه المقالة بأنه في البيئات الانتقالية يكون النجاح الانتخابي للإسلاميين نتيجة طبيعية للبيئة السياسية، وهي ظاهرة لا يمكن تخفيفها إلا من خلال زيادة موثوقية الجماعات السياسية البديلة. إن التفوق الانتخابي الذي تتمتع به الأحزاب السياسية من المتوقع أنه سيتبدد بمرور الوقت مع قيام الجماعات السياسية المنافسة بتأسيس قنوات للتواصل وقطع وعود بالصدق لناخبيها وبناء سمعة حسنة بمرور الوقت؛ وهذا الأمر يتوافق مع النمط الذي يلاحظ في بلدان أخرى ذات أغلبية مسلمة ممن قامت بتحرير العملية السياسية فيها؛ وأكثرها إثارة للانتباه: إندونيسيا، حيث استمرت حصة الأحزاب الإسلامية من الأصوات بالانخفاض منذ انتخابات العام 1999، من (39.2%) في العام 1999 إلى (38.4%) في العام 2004 لتصل إلى (29.2%) في العام 2009، ويبقى علينا أن ننتظر لنرى ما إذا كان النمط ذاته سيتكرر في بلدان الربيع العربي.
ليس بمقدور أي أحد أن ينكر بأن الدين والسياسة لا يمكنهما الامتزاج جيدا بشكل دائم، لكن الاستجابة المناسبة للجانب القبيح من السياسة الدينية لا تتمثل في الاضطهاد السياسي من النوع الذي نشاهده في مصر، وإنما بإتباع سياسة ديمقراطية تنافسية أكثر انفتاحا. وقد أظهر بحث أجراه الخبير الاقتصادي آلان كروغر بأن اضطهاد الإسلاميين وحجزهم عن المشاركة السياسية يشكل حافزا يدفع هذه التنظيمات إلى التطرف واللجوء إلى العنف والإرهاب،وهو أمر من شأنه التمدد أحيانا ليتجاوز حدود العالم العربي؛ وهنالك قضية راهنة تدل على ذلك: ففي العراق لعبت السياسة الشقاقية والاستبداد والانعدام الصريح في كفاءة حكومة المالكي دورا مصيريا في عملية تحويل العراقيين السنة إلى متطرفين؛ ولنأمل بأن لا يتوجب على الكثير من بلدان المنطقة أن تسلك طريق التجربة العراقية.
* محلل سياسيات في مركز الحرية والازدهار في العالم وهو من أقسام معهد الكاتو
منبر الحرية، 7 فبراير/شباط 2015