أن نكتب عن الحرية في وضع كالذي تعيشه منطقتنا اليوم، لهو أمر يحمل الكثير من الدلالات، كما تواجهه الكثير من التعقيدات الواقعية والمعرفية، ما هو هذا الوضع الذي نحن فيه، ومن نكون في علاقتنا بالحرية ؟
لماذا التساؤل في سياق تقديمي حول مقالة ممكنة حول الحرية، ولماذا لا نقرر بدأ كما دأبت على ذلك الكثير من كتاباتنا بترسم مفهوم الحرية وتاريخها وأدبياتها، وتنوعها بين الانشغال الكلاسيكي والحديث، وغير ذلك من تقعيرات المثقفين المعروفة التي دوخت الناس وأربكت الدنيا، واقتات منها أصحابها دون أن تجد الحرية بعد بابها لدينا، ولتعبر من خلاله إلينا.
لا نصب جام غضب واقعنا على المثقف أو نخبنا، فذلك مما لم يعد يحتاج مزيد تدليل عليه لمعرفته. نريد – فحسب – أن نعبر لعمق المشكلة كما نتصوره، إن كان لها عمق.
1
وضعنا اليوم تسمه تركيبة اجتماعية وسياسية دولية جد معقدة كما هو ملحوظ للجميع، وهو أكبر من أن يدعي أي منا مهما علا شأنه تفسيرها الكلي أو فك عقدها التي ما فتئت تعاود الانعقاد كطائر الفينيق الذي ما فتئ يعود، تعقيد يرجع بالأساس إلى أننا ولأول مرة بعد استقلال بلدان منطقة الحراك الديمقراطي ونشوء دولها بمفهومها القطري الجديد نعيش تفلتا على مستوى الأحداث وتتابعا درامتيكيا مختلفا عن الذي ألفناه، كانت الديكتاتوريات تحاصر كل شي في مجتمعاتنا، تفبرك كل شيئ، تضع سيناريو الولادة والوفاة. لذا، لم يكن الواقع مغريا للكثيرين منا بما يقع فيه من أحداث نظرا لما نعرفه عن مقدماتها ومآلاتها المكرورة. فلا نستغرب بذلك اليأس الذي كان طافحا ومنبعثا من كل موجوداتنا اليومية، فحتى ما كان يكتب في سياق التحرر والتغيير عند من سلك مسار المعارضة السياسية أو المعارضة ذات البعد المعرفي الحضاري تلمسنا فيه دوما أرواحا ميتة هنا وهناك، تهبك بصيص أمل هارب وشريد، وقتامة لا ينبغي التعويل عليها مطلقا.
لقد كان الوضع أشبه بعادة اصطياد الشهب في قصة الكاتب الفرنسي أنطوان دو سانت-أكزوبيري (الأمير الصغير)، اصطياد غرضه بعث حياة في واقع يتكرر/ميت، لن أبرع في التعبير عنه بأفضل من تلك العبارة الخالدة لابن الخلدون “وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض، فبادر بالإجابة، والله وراث الأرض ومن عليها، وإذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره، وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة، وعالم محدق”.
لسنا في موضع التيئيس هنا، أو الدفع بنا لمزيد من الإحساس بالقنوط، ولكننا نريد أن نقنع أنفسنا بأننا بالفعل عايشنا واقعا كانت له الملامح التي ذكرنا، فأخذت في التغير اليوم باتجاه ملامح اجتماعية وسياسية وثقافية جديدة لم تكتمل صورتها بعد، بل لا زالت تتشكل ولا يستطيع أحد أن يحسم في صيغتها النهائية. لكننا نستطيع أن نتمثل بعضا مما ستؤول إليه دون شك باعتبارنا جزءا من الذي يفتعل في عالمنا اليوم وصانعا لما يحدث فيه وإن بردود أفعالنا. السؤال الذي لا يزال عالقا هنا: ما علاقة كل هذا الذي وصفنا بالحرية؟.
لنستوعب هذه العلاقة ينبغي أن نقرر بدأ بأننا أمام تغيرات بدأت اجتماعية صرفة لم تحركها توجهات الإيديولوجيا أو مقررات حزب أو توجه ما. ثانيها أننا استرجعنا قيمة الممكن خلقه، ونقصد أننا عاودنا بتوجيه من الجماهير لا من النخب التفكير باتجاه الواقعي أكثر، وكما يقول الحداد، الواقعي الذي يجعلنا أقرب للممكن وأبعد عن المثالي. لهذا، فنحن نتدخل بالإيجاب – اليوم – في صنع مستقبلنا وإن كان ظاهر الأمر عكس ذلك( محمد الحداد. التنويرة والثورة ).
مما ينبغي لنا إقراره أيضا أن لحظة الثورات تلتها أحداث وضعت الجماهير أمام وعي شقي؛ وعي مقتنع في شقه الأول بقيمة انتزاعه للكرامة وتحقيقه إياها وفق رغبته وعلى وقع خطو شبابه ونفوق خيرتهم في الساحات العمومية، لكنه الوعي ذاته في شقه الآخر الذي تخوف من المستقبل بعد أن تحولت المجتمعات التي أريد لها التغيير إلى مستنقعات من الدم والتقتيل، إذن فالصورة أخذت في واقعيتها ما كان فوق تصور الجماهير التي سبق وصفنا لها بالاتجاه نحو الواقعية، فارتبكت في الأذهان المطالب والرغبات والتخوفات والمستقبل.
كل هذا سيجعل من الحرية في علاقتها بنا والوضع إجمالا محط استشكال ينبغي لنا اجتراحه قصد الخلوص بما يمكن أن يوضح لنا بعضا من ملامح هذه العلاقة.
تحاصرني بداية فرضية تنبني على فكرة للمفكر والاقتصادي الهندي آمارتيا صن Amartya San تقوم على التسليم لجميع الثقافات غير الغربية في أن تسهم في بناء الحداثة بحيث تحولها لحداثات نسبية، من حيث تنزلها بما يتناسب وواقعها وما يتناسب وأفق توقعاتها وثقافتها وهويتها، دون الانغلاق القاتل على الهوية، فحسب صن دائما الهوية “يمكن أيضا أن تقتل”.
مفاد هذه الفرضية أن الحرية، حريتنا، لا نتعلمها عبر المحاضرات وليس هذا تنقيصا من شأن المعرفة، بل نحاول توصيف واقعنا حسب زاوية النظر الخاصة بنا. إذن فالحرية نتعلمها كما نتعلم الديمقراطية، فمجتمعاتنا لم يحركها في البداية إلا الحرية ممزوجة بكل معاني الكرامة، ولذا ليس مستغربا أن يعنون صن أحد كتبه بـ “التنمية حرية”.
إن كل ما حف واقعنا من خراب وحروب أهلية مما افتعلته الأطراف الدولية بعد تدخلاتها وتلبية لأغراضها في صون مصالحها المحتملة، وما وجد تربة مناسبة لتقبله فينا مما لازال يعتمل بأفكارنا. كل ذلك لا ينبغي أن ينسينا دوما بان اللحظة الأولى للحراك الديمقراطي كانت من أجل الحرية والكرامة. هذه الجذور الإنسانية ستكون دائما مرجعنا الذي ينبغي أن ننسب إليه حراكنا التحرري كما أكد على ذلك برهان غليون بخصوص الثورة السورية، التي وإن وجهتها الأطراف المتنازعة حسب نزوعاتها البراغماتية فالصورة تجاهها لا ينبغي أن تتشوش، لأنها في البدء كانت من أجل الحرية والكرامة دون أي شيء آخر.
*باحث من المغرب
منبر الحرية، 5 فبراير/شباط 2016
أن نكتب عن الحرية في وضع كالذي تعيشه منطقتنا اليوم، لهو أمر يحمل الكثير من الدلالات، كما تواجهه الكثير من التعقيدات الواقعية والمعرفية، ما هو هذا الوضع الذي نحن فيه، ومن نكون في علاقتنا بالحرية ؟..... .