
لن نختلف بأن كل منا فهم الحرية بطريقته، فمنا من فهمها حرية فردية، وحرية في التعبير، و حرية في الانتخاب، وحرية في الحكم، وحرية في الاعتقاد، وحرية في صوغ الدساتير، ومنا من فهمها رغدا في العيش وتجاوزا لبؤس واقعنا، بل منا من اعتبرها حرية في بناء سكن في المكان الذي تشتهيه نفسه دون عناء، ومنا أيضا من فهمها حرية في إيجاد عمل داخل رقعة الوطن التي يعيش فوقها، وفهمها البعض حرية في إنشاء دولته الدينية التي آن الأوان لانبلاج صبحها المفتقد..الخ. هي كلها تمثلات لا يمكننا أن نرفض أي منها وليس لنا الحق في ذلك، ببساطة لأنها تطلعات حكمها منطق المثالية عندما كانت نظرية، فهامت في متخيلات الشعوب تنتظر لحظة التوافق، أي اللحظة التي تتقابل فيها كل هذه الإرادات في التحرر.
استعرنا هنا مفهوم التحرر عند الفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي للتدليل على قيمة الفعل في ارتباطه بالإرادة ونسبيته على الواقع، أي أن الحرية عندما تتحول باتجاه التحرر وتسهم فيه، فإنها تتحول نحو ميثاق للحرية يجمع توافقات الجماهير ويقارب بين المختلف منها دون أن يضر بحرية أي منا، ويرضي تطلع الجميع. بمعنى أننا نتوافق على الحد من تحوير ما اعتقدناه حريات نحو صيغ أخرى جديدة، قد تحوز قبولنا التوافقي في سبيل خدمة مصالح لعل أهمها حريتنا في المحصلة، وحريتنا كذلك في أن نشكل حريتنا باللون الذي نريد.
إذن، فالإنسان هو نقطة الارتكاز في كل شيء، انطلاقا من أبعاده الفردية في استيعاب حريته اجتماعيا وسياسيا وفي كل ما يتعلق بشؤون معيشته المدنية، فليس تحول الحرية إلى كائن من لحم ودم – حسب عبارة هونيت – عند الشعوب بغريب عن مكونات وخصائص الإنسان، فارتباط كل مفعولات هذا الأخير بإرادته ونسبية كل شيء فيه تجعله يغلب دائما انسجامية وتكاملية ما يتعقد به وما يمكن له أن يسهم في خدمة صالحه الخاص أولا، وعبره صالحه العام.
يحضرني مثال بسيط وسابق لأوانه للتمثيل على هذا الوعي المستجد لدينا، عبر ما عايشه المغرب مؤخرا من عملية انتخابية، ويعنينا في هذا المثال تحديدا مشاركة الشباب، أو على الأصح طبيعة هذه المشاركة ومميزاتها عن سابقاتها من المشركات السياسية.
فدون أن نتوقع جديدا وحسب اعتقاد الكثيرين؛ فالشباب انصرف مجددا للبحث عن الخبز والماء ( شعار الثورة في تونس)، والاحتماء بالرمادي من الألوان حسب اعتقاد الكثيرين دائما، لكن الطرافة أن روح الحراك لازالت تعتمل في الدواخل وفي بنيات التفكير، لهذا وجدنا الكثيرين منهم ينادي بالتصويت ويفكر في الالتحاق بالأحزاب وإحياء من اندثر منها، يفكرون في إمكانات إيجاد مخارج ومواقع جديدة للفعل، وهو في نظرنا فعل تحرري يروم الغاية الكبرى أي الحرية في صيغتها المنفعلة بالواقع في خصوصياته.
ببساطة ترشح الكثيرون منهم دون خجل، ودون ترديد عبارات الامتعاض من السياسة والسياسيين والوطن .. الكثيرون منهم تلبس لونا ورمزا حزبيا .. كأنهم الربيع يحاصر كل ذلك الاصفرار الذي غلف أضرحة الأحزاب .. وهم واعون فيما يقدمون على خوضه، لكنهم يضربون عن الكلام ويجعلون الفعل قولهم الآني، يفضلون الاختيار على اللامبالاة، لذلك اتسم سلوكهم هذا بخصائص منها:
الواقعية السياسية، فلم تعد تجدي سياسة الابتعاد والتخوف والنفور من واقع الفساد فحسب .. الفكرة أن الأمر يقتضي فعلا مغايرا .. وهو ما ستبحث عنه روح الثورة عبر الشباب دائما، وعبر روح الواقعية التي تلبستهم، ولا ندعي أنهم قد تحصلوا عليه.
التغيير الفجائي والكلي صار من ضروب المثالية النظرية والعملية، فالكل يعي أننا نخطو خطواتنا واحدة تلو أخرى، نحو ما نريد .. ولن نصل دون أن نقطع المسافة. فالثورة على طريقة النبي نوح (الطوفان) ليست فعلا بشريا … إنها اختيارات السماء التي لا تنطبع بها طباع البشر ولا تقبلها قدرات ونسبية اختياراتهم. وهذه الملاحظة ستسهم تدريجيا في تجاوز مبررات الاندماج عند الشباب في المد الجهادي ذي الوعي الشمولي السطحي.
باختصار فالعنوان الجامع لكل ما قلناه .. ( الواقعية السياسية في بعدها التحرري ) .. هي القيمة التي تؤطر روح الشباب بعيدا عن مقولات التخوين والفساد .. فقد اختلطت أوراق المفسدين بالمصلحين والثوار لحظات بعد نشوب الثورات في العديد من بلدان المنطقة، كما اختلطت الأوراق السياسية والاجتماعية والخارجية بالداخلية، كما تعرف الشباب على اختياراتهم الممكنة، وتعرفوا على حدودها، لقد عايشوا أخطاءهم وهموم ما قد يختارونه، هموم الإصلاح والتغيير والتنمية، هموم الحلم.
هذه التركيبة المعقدة جعلتهم يوقنون أن الواقعية في كل ذلك شيء مهم، والأمور بمآلاتها، حسب – دائما – اختيارات ومبادرات جديدة، ترفض السكون وردود الأفعال، والاكتفاء بالنظر والنقد فحسب. يمكننا أن نشبه فعلهم هذا بما يقارب نظرية اللعب عند ناش في تركيبها وتداخل ما يعتقد باستحالة ترابطه، إنهم يبحثون عن مخارج جديدة بدلا من ترديد عبارات ملتها مسامعهم، مخارج ستتخذ كل الوجهات الممكنة، لتنصاغ لعبة التجربة عنده بأبعادها المنفتحة على كل خيط واقعي ممكن.
هذا الذي صغناه أعلاه يؤكد أن قيمة التحرر فينا أو في جيل الحراك الديمقراطي تجاوزت من حيث الوعي ما درج عليه أبناء الجيل السابق. واقعية طافحة تميز جيل اليوم لا يهمهم فيها إلا أن يعاود الواقع الاندمال بين أيديهم، قصد أن يغيروا فيه ما أمكن بدل العودة لسالف الحال الذي عايشته شعوبنا قبل الثورات. جيل شبكات التواصل والمعلوميات اليوم آفاقه لا تحدها خرائط الوطن ولا حكايات الوطنيين، لهم مقصد واحد وواضح هو أن يجد هؤلاء بعد كل ما قدموه من تضحية سبيلا لتحررهم، سبيلا لأن يكون لهم من فرص العيش الكريم ما لغيرهم من شعوب الأرض.
وحسب عبارة خالد الحروب “في المدى القصير، صحيح أن هناك مرارة فوضى ما بعد الثورة، لكن في المدى المتوسط والطويل هناك هواء الحرية والكرامة واحترام الذات والاندراج في المستقبل ( خالد الحروب. في مديح الثورة).
قد نقول بأن الحرية في علاقتها بشعوبنا اليوم تسير في أفق أن نتعلمها ونستنشقها في واقعنا، عبر انفعالاتنا ونقاشاتنا واختلافاتنا وتوافقاتنا السياسية والاجتماعية، بل إننا في أحلك أوضاعنا كما هو الحال في سوريا وليبيا لن نقبع في الوضع نفسه دون مراكمة أو تجاوز، كما كان حال الكثير من شعوب الأرض التي صاغت تجربتها مع الحرية ولا تزال دون توقف، إن شعوبنا كغيرها قادرة على ابتعاث “العبقرية الليبرالية” في واقعها حسب عبارة المفكر العظيم دي توكفيل، لأن حرياتنا مهددة دوما بأن تتقلص أمام الراغبين في الاستعلاء في الأرض، هذه العبقرية التي ستجد سبيلها بين فراغات استبداد العولمة بنا واعتقادها احتكار وتوجيه كل شيء في واقعنا لصالح نظام أحادي الطرف والميول. حريتنا تعي في المقابل أنها مهددة بالعدو الذي دوما يتهددنا داخليا وهو “النحن” لأننا أكبر عدو لأنفسنا كما عبر ذات مقال تيزفيتان تودوروف “بحثنا عن العدو، فوجدنا أنه نحن”.
*كاتب من المغرب
منبر الحرية، 18 مارس/آذار 2016