تعد مسألة “التأويل” من المصطلحات الخلافية التي لم يستقر حولها رأي موحّد، ويشتد هذا الخلاف عند استعماله في مجال تأويل النصوص الدينية القرآنية والحديثية. في هذه المقالة، لا نريد الخوض في هذا الخلاف، إنما سنخوض في انعكاسات الخلاف حول مسألة التأويل على فهم التراث، فبعد بروز ظاهرة المذهبية أخذت “كل فرقة من فراق الصراع الناجم عن الفتنة، تؤوّل آيات الكتاب تأويلا موافقا لنظريتها السياسية في السلطة” كما ينزع إلى ذلك عبد الجواد ياسين، وتزخر بعض الكتب والدراسات التي تتناول موضوع التراث، بالعديد من المغالطات والتأويلات غير المنطقية للكثير من القضايا الخلافية، ولعل أبرزها؛ تلك المرتبطة بالخلط بين “الدين” والإنتاجات البشرية لما بعد مرحلة “الفتنة الكبرى” التي تلت مقتل الصحابي والخليفة الثالث “عثمان بن عفان” (23هـ /644م – 35هـ / 656م)؛ فطيلة هذه الفترة التاريخية أخذت دولة الإسلام تتشعب إلى مجموعة من المذاهب والفرق، الأمر الذي أذكى روح التنافس في إنتاج روايات حديثيه يتم رفعها ونسبها إلى النبي الأكرم؛ بما يخدم مصالح الفرق الدينية المعنية بالرواية. وأضيف إلى ذلك ما يسميه فقهاء الحديث بـ”الإسرائيليات”، لنصبح اليوم أمام إشكالية عويصة تتمثل في تقويض واقع الديمقراطية في ظل هذا الخلط. الأمر الذي يقتضي إعادة تمحيص الإنتاجات الدينية وفق مناهج علمية أكاديمية في أفق رفع اللبس الحاصل في هذا المجال. وفي هذا الصدد جاءت هذه المقالة كمحاولة نسلط من خلالها الضوء على مظهرين بارزين يبينان حجم الخطر الذي يفرزه هذا الخلط بين التراث الديني(النصوص الدينية) والإنتاج البشري.
المظهر الأول: يتعلق بالطائفية الدينية، حيث إن الثقافة التي تسود بين فئات عريضة داخل المجتمعات المسلمة إلى اليوم، تكرس العصبية الدينية التي يذكيها الصراع “السني” “الشيعي ” الذي ظهر بعد مقتل عثمان بن عفان سنة 35هـ الموافق لـ 656 م. ويسود اعتقاد شديد عند مناصري الطائفتين بأن الفرقة التي يناصرها هي صاحبة الحق والضلال تهمة لصيقة بالفرقة الثانية، بل أن النصرة ضرورة دينية، في حين أن الحقيقة عكس ذلك تماما؛ إذ أن هذا التقسيم مرتبط بفترة عرف فيها المجتمع الإسلامي إرهاصا سياسيا خطيرا ارتبط بما يعرف في كتب التاريخ بـمرحلة ” الفتنة الكبرى”، التي تطورت لترقى إلى مستوى المواجهة المسلحة في المعركتين المعروفتين بـ “معركة الجمل” و “معركة صفين”؛ فالأولى التقى فيها الجمعان سنة 36هـ/657م: جيش “علي بن أبي طالب” وجيش الصحابيان ” طلحة بين عبيد الله” و “الزبير بن العوام” التي أجمع الطبري في مؤلفه تاريخ الأمم والملوك وابن الأثير في موسوعته الكامل في التاريخ على أنها حسمت لصالح “علي بن أبي طالب”. والثانية جمعت بين أنصار علي (الشيعة) وأنصار معاوية (أهل السنة والجماعة فيما بعد) في معركة “صفين” سنة 37 هـ /658م حيث انتصر فيها الدهاء السياسي لمعاوية بن أبي سفيان بعد قضية التحكيم التي انتهى إليها التفاوض بين “عمرو بن العاص” المفاوض باسم حلف “معاوية بن أبي سفيان” و “أبو موسى الأشعري” المفاوض باسم “علي بن أبي طالب”.
يتبين أن المرحلة التي تلت مقتل عثمان، تميزت ببروز مجموعة من الفتن كانت بدايتها مع الصحابيين ” طلحة بن عبيدالله” و “الزبير بن العوام”؛ اللذين قادا حملة الثأر لعثمان، مقابل تعنت علي بن أبي طالب بخصوص أسبقية مبايعته على الثأر لمقتل الخليفة عثمان، لتصل ذروة الصراع مع الأطماع التي أبداها معاوية في الاستيلاء على الخلافة، تحقيقا لشعار ” الغاية تبرر الوسيلة ” ومكرسا للطائفية التي تصب في صالح أطماعه السياسية، التي كبرت حتى وصلت إلى مرقى توريث الحكم داخل أسرته؛ حيث أسقط ركنا أساسيا من أركان نظام الحكم بعد وفاة النبي الكريم، وهو ركن “الشورى” الذي أمر به الله عز وجل نبيه في قوله ” فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين”(آل عمران أية 159). وبذلك كرس معاوية وجها من أوجه الديكتاتورية المغلفة بالدين لتتناسل نفس المنهجية مع حكام جل الدول العربية مع اختلاف السياقات التاريخية.
في الوقت الذي كان من المفروض أن نعي هذا الدرس جيدا، ونحول هذه الثنائية الطائفية من إنتاج للعنف، والعنف المضاد (الصراعات الطائفية في العراق، والصراع الدائر اليوم بين ديكتاتورية بشار الأسد والمعارضة السورية والصراع في اليمن مثلا) إلى إنتاج الحوار الجاد والبناء، في أفق بناء فكر ديني واضح مبني على المنطق القرآني: “فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال” (الرعد آية 17) “، تحاك مؤامرات مقصودة، ضد كل من يحاول قراءة التراث قراءة ترتهن للمنطق العقلي السليم في التفكير المبني
المبني على التمحيص والتدقيق. ونصل إلى العقلية المتشبعة بثقافة مرحلة الفتنة الكبرى، تنتج خيطا رابطا بين هذه الثقافة، والواقع المعاش لتعطي عقليات مريضة تجد ضالتها في القيام بالعنف، متناسية الحقائق التاريخية التي أثبتت أن العنف لا يولد إلا العنف ولا يؤدي إلا إلى الهزائم، بل أن ممارسة العنف، صفة تلتصق بالجبن والضعف.
المظهر الثاني: يتمثل في “ليّ أعناق النصوص الدينية”، لتبرير العنف الذي يمارس تحت مضلة “الجهاد” أو لتبرير الممارسة الديكتاتورية في الحياة السياسية، حيث تستدعى نصوص قرآنية وحديثيه في غير مواضيعها، رغبة في الشحذ وتكريس العداء الأعمى لمن صدرت في حقه تهمة الإساءة للدين الإسلامي أو لإضفاء الطهرانية والقدسية على الأشخاص، فنحن إذا، إزاء خطر يتغذى يوم بعد يوم في ظل السياسة الدولية غير العادلة والممارسات السياسية داخل الدول العربية والإسلامية التي تكرس الظلم والقهر، لتوفر بذلك زادا كبيرا لدعاة العنف والتطرف يسمح لهم بالاستمرار، بل ويضفي لسلوكياتهم شرعية في نظر ذووا الثقافة الدينية البسيطة، الذين يغلّبون التفكير العاطفي على التفكير العقلي المستند على الحجاج.
إن الجهاد في القرآن الكريم، لا يعني حمل السيف، بل يحمل دلالات أعمق تتغير بتغير الزمن والثقافات، فالجهاد اليوم، هو تربية الأجيال في المجتمعات المسلمة على القراءة وتمكينهم من تشييد مشاريع فكرية وعلمية تمكنهم من فرض أنفسهم داخل مجتمع العولمة والثورة التكنولوجية، لمحاربة أكبر كافر وهو ” الأمية” التي تتغول في مجتمعاتنا. إننا اليوم في حاجة إلى تدبر الواقع ومحاولة استيعابه وفهمه، وليس تدبر طرق سفك الدماء.
وبالعودة إلى المرحلة النبوية التي يتحجج بها دعاة العنف لشرعنه هواياتهم الدموية، نجد أن القرآن الكريم قد شرع الجهاد وفق ضوابط واضحة، حيث لا يكرس فكرة محاربة الكافر، بل يؤكد على محاربة الظالم الذي يتعدى حدود الله ويخرب وطنه ويتلاعب على البراءة، فالرسول الكريم لم يؤمر بمحاربة الكفار لأنهم كفروا؛ بل أمر بمحاربة الظالم، بدليل قوله تعالى ” أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وان الله على نصرهم لقدير” (الحج آية 39)، مما يعني أن الكافر غير الظالم تحرم مقاتلته، بل يجب مقارعته بالحجة والبرهان وإلا فقتله حرام. وقياسا على ذلك، فإسرائيل لا يجب أن نحاربها لأنها كافرة، بل لأنها ظالمة مغتصبة لأراضي الفلسطينيين الأبرياء، وهذا هو المنطق الذي يجب أن نفهم من خلاله الصراع مع إسرائيل، حتى تكسب القضية ود كل الناس وتصبح المعركة غير منحصرة بين إسرائيل والفلسطينيين، أو بين المسلمين وإسرائيل، أو العرب وإسرائيل، بل بين الظالم والمظلوم وبين إسرائيل والعالم؛ عالم تحكمه الإنسانية”. لقد حان الأوان لإعادة النظر في تراثنا ومحاولة إنتاج عقليات قرآنية تفهم معنى الحب والتسامح والتعايش؛ الذي كرسه محمد ابن عبد الله صلى الله عليه وسلم مع اليهود في صحيفة المدينة، بل وحتى مع قريش الذي أخرجته من مكة قصرا ” اذهبوا فأنتم الطلقاء “. عندما نتحدث عن التعايش فذلك يجب أن يتم في إطار الحفاظ على كرامتنا ومقوماتنا الثقافية والحضارية، وهذا لا يتأتى إلا بإعادة قراءة التراث كله، لا بعين الرفض، ولا بعين الانغماس، بل بعين التمحيص والتدقيق. إننا اليوم في حاجة إلى مزيد من الجهد؛ لإزالة العوائق المتمثلة في الحَجر والوصايا وتهديد حياة المفكرين الذين امتنع بعضهم عن الكتابة بعد أن كانت حياته في خطر، فلا يحق لأي كان أن يقاتل باسم الدين.كما لا يحق لأحد أن يوسم حاكما بأوصاف قدسية ويستدل عن ذلك بنصوص دينية؛ لأنه بذلك يستغل الموروث الديني في شرعنة الديكتاتورية ويقضي على أمل الشعوب العربية والمسلمة في بناء صرح أوطان تسودها الديمقراطية والكرامة الإنسانية.
* كاتب وباحث من المغرب
منبر الحرية، 5 أبريل/شباط 2016
عبدالجواد ياسين، السلطة في الاسلام. المركز الثقافي العربي.ط الثانية، سنة 2000 ص 201
© مشروع منبر الحرية ======================
تعد مسألة "التأويل" من المصطلحات الخلافية التي لم يستقر حولها رأي موحّد، ويشتد هذا الخلاف عند استعماله في مجال تأويل النصوص الدينية القرآنية والحديثية. في هذه المقالة، لا نريد الخوض في هذا الخلاف، إنما سنخوض في انعكاسات الخلاف حول مسألة التأويل على فهم التراث... .