المدخل الأخلاقي في الدفاع عن الرأسمالية ج2
من خلال كتاب : أخلاقيات الرأسمالية لتوم جي بالمر
إنتاج الثورة وتوزيعها
تُعد قضية توزيع الثروة المادية المتراكمة والمنتجة، أحد أهم المواضيع التي تثير الكثير من الانتقادات من لدن رواد الفكر الاشتراكي عموما ممن يعارضون بشدة عدم عدالة اقتصاد السوق وهو يقوم بتوزيع الثروة. ذلك لأنهم يُشدِّدون على ضرورة التقسيم العادل للثروة لأنها تركة مشتركة ساهم في إنتاجها الجميع سواء عبر العمل المشترك المتداخل أو عبر التركة الجماعية. بالمقابل يرى رواد الرأسمالية والمدافعين عن اقتصاد السوق ومنهم الاقتصادي البارز ” لودفيج لاكمان” ، أن الثروة تُوَزع باستمرار داخل اقتصاد السوق، وأن دعوات العدالة الاجتماعية تحمل الكثير من التناقض. فإمكانيات الأفراد المبدئية وكذا الشركات الربحية تختلف حسب قدرات هؤلاء الإبداعية، وتختلف معها تباعا لمساهماتهم الإنتاجية داخل السوق وكذا محاصيلهم الإنتاجية.
يؤكد الاقتصادي ” لاكمان” على أن امتلاك الأشياء وحده ليس من شأنه بالضرورة أن يولد الثروة، بل استخدامها الصحيح هو ما يولد الثروة. وبالمقابل ليست الملكية هي مصدر الدخل والثروة، بل استخدام الموارد. يؤكد رواد الرأسمالية واقتصاد السوق، أن قيمة الثروة تكمن في الموارد المستخدمة في إنتاجها وفي فاعلية المساهمين في عملية السوق. أما الملكية المادية، فهي تفقد قيمتها وهي غير مساهمة في تنمية وتنشيط الموارد وفي عدم استخدامها للموارد التي تحافظ على تجدُّدها واستمرارها. إن عملية توزيع الثروة ، كما يقول لاكمان، تعكس انتقال المعرفة من عقل لعقل، وهي ممكنة فقط لأن بعض الأشخاص يملكون معرفة لم يكتسبها آخرون بعد. لأن المعرفة بالتغيير وتداعياته تنتشر تدريجيا وعلى نحو غير متساو في أرجاء المجتمع.
القسم الرابع : عولمة الرأسمالية
هل العولمة نتاج للرأسمالية، أم العكس؟ هل كانت ستعمل الرأسمالية بشكل جيد لو لم تكن قِيم العولمة حاضرة؟ كيف استطاعت الرأسمالية بمعية العولمة من أن تغير العالم وتحدث ثورة اقتصادية واجتماعية وسياسية عالمية ؟
كل هذه الأسئلة تُطرح غداة التطرق لتطور الرأسمالية وللثورة التي أحدثتها لشعوب المعمورة. فلقد أدَّت عولمة الرأسمالية إلى تمكين مجتمعات ودول عديدة من الانتقال من دول هشة وضعيفة إلى دول سائرة في طريق النمو، بل أدَّت بدول أخرى إلى الانتقال لصف الدول الغنية. كما ساهمت هده الكوننة للنظام الرأسمالي، وذلك عبر ترابط اقتصاديات دول عالمية وتنامي شبكات التجارة الحرة والأعمال الاجتماعية والمنظمات السياسية العالمية، إلى تنمية الموارد البشرية وتحسين ظروف العيش عبر محاربة الفقر و الهشاشة والأمية وإلى انتشار واسع لقيم العدالة والحريات وحقوق الإنسان. لكن بالطبع هنالك إخفاقات عديدة وتجاوزات سياسية مستمرة من طرف أنظمة استبدادية تجعل تطور الإقتصادات الوطنية أمرا عسيرا. فاستمرار الاستبداد السياسي وتدخل الدول في توجيه الإقتصادات الوطنية وانتشار الفساد والمحاباة والزبونية، كلها سلوكيات أدَّت إلى تعطُّل عجلة النمو في العديد من الدول.
يدافع الاقتصادي المرموق ” فيرنون سميث” الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد، عن الرأسمالية العالمية وكيف ساهمت في تطور الثروة البشرية وتحسين أحوال البشر. يرتبط التطور الاقتصادي ،كما يقول سميث، بالأنظمة الاقتصادية والسياسية الحرة التي ترعاها سيادة القانون وحقوق الملكية الخاصة. والعولمة ليست بالأمر المُستحدث، فهي كلمة حديثة تصف حركة إنسانية قديمة، كلمة تعبر عن سعي الجنس البشري لتحسين ظروفه عن طريق التبادل واتساع دائرة التخصص على مستوى العالم، إنها كلمة سلام. وكما قال عالم الاقتصاد العظيم فريديريك باستياFrédéric Bastiat في عبارته الحكيمة : إذا لم تعبر السلع الحدود فسيعبُرها الجنود.
لم تُحدث عولمة الرأسمالية الثورة الاقتصادية فقط، بل ساهمت في تنامي الثقافات والحضارات وتلاقحها، وساهمت هذه العملية في انتشار قيم التسامح والعدل وحقوق الإنسان. ولما كانت انتقادات اليسار للرأسمالية مرتكزة على الشق الاقتصادي، فلقد انتقل هذا الانتقاد للجانب الاجتماعي والثقافي أيضا، خصوصا تعرُّضُهم للعولمة واتهامها بالحيف الاجتماعي والثقافي. يخاف رواد الفكر الاشتراكي من اضمحلال القيم والثقافات المحلية لصالح قيم وثقافة الدول القوية، وهذه الدعاوي كان قد روَّج لها الكثير من المفكرين والمتدينين إبان بداية الثروة العولماتية، لتتبين فيما بعد زيف كثير من هذه الدعاوي. يبدد المفكر والروائي المرموق ” ماريو بارخاس يوسا” الحاصل على جائزة نوبل للآداب هذه المزاعم بالقول : توفر العولمة على نحو جذري لجميع مواطني هذا الكوكب إمكانية صنع هوياتهم الثقافية الفردية من خلال الفعل الاختياري، وذلك وفق تفضيلاتهم ودوافعهم الشخصية. الآن ليس المواطنون مجبرين دوما- كما كان الحال في الماضي وفي أماكن عديدة في الحاضر- على احترام هوية تجعلهم أسرى معسكر اعتقال لا مفر منه، تلك الهوية المفروضة عليهم بواسطة اللغة والجنسية والكنيسة وأعراف المكان الذي ولدوا فيه. وبهذا المعنى – يقول يوسا- يجب أن تكون العولمة محل ترحيب لأنها تُوسع آفاق الحرية الفردية على نحو ملحوظ.
بينما يضعنا مؤلف هذا الكتاب في خانة المدافعين عن الرأسمالية، ليس اقتصاديا هذه المرة، بل أخلاقيا وهي الدعاوي التي رافقت ظهور وتطور الرأسمالية والتي سعى روادها إلى إبراز الجوانب الأخلاقية وقوة الفلسفة الأخلاقية التي تقوم عليها الرأسمالية. ف “اَدم سميث” كتب كتابا في نظرية المشاعر الأخلاقية و ” اتش بي اكتون ” هو الأخر كتب عن أخلاق الأسواق .ولقد كانت بالتأكيد مقاصد هؤلاء جميعا ليس التبرير الأخلاقي لنظام الرأسمالية وللعديد من أفكارها غير المرغوب فيها، ولكن كان هدفهم هو إبراز المقومات الأخلاقية والسياسية والاقتصادية المتناسقة والموضوعية التي تقوم عليها الرأسمالية. وبالتأكيد فالرأسمالية ساهمت بشكل كبير في تطور العالم ورفاهية مجتمعاته على مدى قرنين أو ثلاثة قرون الماضية، لكي تصطدم في مطلع هذا القرن بواحدة من أكثر الضربات تأثيرا على سمعتها ومستقبلها. ونعرض هنا واحدا من الأعمال الأكاديمية الحديثة التي تنحو نحو نقد الرأسمالية خصوصا على مستوى نتائجها الاقتصادية والاجتماعية على الدول والشعوب.
توما بيكيتي وأطروحة اللامساواة
شكَّل كتاب الاقتصادي الفرنسي ” توما بيكيتي” الموسوم : الرأس المال في القرن الواحد والعشرون” Capital in the 21st century، أكبر حدث أكاديمي عرفته الساحة الأكاديمية والاقتصادية العالمية. صدر الكتاب سنة 2013 باللغة الفرنسية ثم تلته الطبعة الإنجليزية سنة 2014 ليخلق نقاشا كبيرا في أوساط الأكاديميين والاقتصاديين خصوصا، ولدى رواد الاقتصاد الرأسمالي والاقتصاد الاشتراكي أيضا. بعض الاقتصاديين والدارسين لاقتصاد السوق، اعتبروا كتاب بيكيتي بمثابة نسخة جديدة من كتاب كارل ماركس “رأس المال”، لما حمله من هجوم على اقتصاد السوق الحر وعلى الرأسمالية عموما وما سببته –حسب زعمهم- من عواقب اقتصادية واجتماعية وأخرها الأزمة المالية الأخيرة وتفشي الفوارق الطبقية الحادة بين الفئات الاجتماعية وبين الاقتصاديات العالمية.
تابع الاقتصادي ” توما بيكيتي” تطوُّر تركيز رأس المال والثروة في كل من أوروبا وأمريكا على عقود تاريخية ممتدة منذ قيام الثورة الصناعية، ليخلص إلى أن تطور تراكم رأس المال في المجتمع الغربي أدى إلى تركيزه في يد فئة قليلة، وبالتالي فإن توزيع الثروة غير المتكافئ أدى إلى فوارق اقتصادية واجتماعية وتوترات سياسية. فالرأسمالية ، حسب بيكيتي، هي التي تسببت في اللامساواة في امتلاك الثروة وفي توزيعها وأن تدخل الدولة لضبط كيفية خلق الثروة هو الكفيل بوضع حد لمعضلة اللامساواة. والعالم اليوم يعود أدراجه نحو ما سماه ب”الرأسمالية الوراثية” Patrimonial Capitalism، حيث الاقتصاد تهيمن عليه الثروة الحاصل عليه بواسطة نظام الوراثة، ما يجعل أصحاب هذه الثروة يراكمون تطور ثرواتهم حتى أصبحوا يشكلون أقلية ضاغطة وحاكمة أيضا Oligarchy. ولقد استشهد بيكيتي بالعديد من الأعمال الأدبية مثل، روايات أونوريه دي بلزاك Honoré de Balzac، جين أوستن Jane Austen وهنري جيمس Henry James، لوصف البنية الطبقية الجامدة القائمة على أساس رأس المال المتراكم الذي كان موجودا في انكلترا وفرنسا في أوائل 1800. ليختم كتابه بالقول أن الاقتصاد سيستمر في تباطئه ما لم تتدخل الدولة في فرض ضرائب مستمرة على الثروة، أما الثورة التكنولوجية الحالية فيقول أنها لن تحقق أي تطور اقتصادي كالذي حدث في القرن العشرين.
عقب اقتصاديون كثر على منهجية جمع المعلومات واستنتاج النتائج، فيما آخرون ردُّوا بقوة على مقترحات الكاتب الداعية لفرض ضرائب متواصلة على الأثرياء لتقريب الفجوة الشاسعة بين الفقراء والأغنياء. اعتبر الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد ” روبرت شيلر” كتاب بيكيتي مهم من ناحية الموضوع الذي ناقشه والمتعلق بالفوارق الاقتصادية، ولكنه ضعيف من حيث الحلول المقترحة. في كتابه ” النظام المالي الجديد، مخاطر القرن الواحد والعشرين”، دعى روبرت شيلر إلى حل اعتبره أكثر علمية وإبداعية عبر ما اصطلح عليه بضمانة الفوارق. ويتمحور حول عقلنة التسيير المؤدي للفوارق الطبقية بحيث تؤدي هذه العملية إلى الحيلولة دون الوصول إلى أزمة الفوارق مستقبلا. إن فرض الضريبة المباشرة على الأثرياء قد تكون لها نتائج لحظية، لكن بالتأكيد – كما يؤكد شيللر- لن تؤدي إلى نتائج بعيدة المدى للمخاطر التي ستفرزها إجبارية الأداء على الثروة، وكانت دول كثيرة قد اتخذت مثل هذا القرار وتراجعت عنه كفلندا واستراليا والدانمارك واسبانيا والسويد وألمانيا.
يضرب كتاب توما بيكيتي في العمق النظام الرأسمالي بشكل مباشر، عندما يُورد وطيلة عقود من الزمن، كيف أن الرأسمالية لم تفي بوعودها إزاء ادعاءها بالمقدرة على القضاء على الفقر والفوارق الاجتماعية والتضخم المالي. وتبعا لنتائج الدراسة التي اعتمدها بيكيتي والحلول التي اقترحها، فإن النظام الرأسمالي يحوي خلالا منضوماتيا ساهم في خلخلة الفوارق الاقتصادية والاجتماعية.
يدحض الاقتصادي البارز ” حوزيف إ ستيكليتز” والحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد هذه الإدعاءات في مقال مثير نُشر على صفحات مجلة بروجيكت سانديكايت بعنوان : الديمقراطية في القرن الواحد والعشرين. فالأسواق تبعا لستيكليتز، لا تنشأ من فراغ، فهناك قوانين وتشريعات ونُظم سياسية هي التي تنظم وتسير الأسواق، وهذه النظم السياسية هي بالضبط سبب المشكل وليس رأس المال بعينه. وعندما نتحدث عن النظم السياسية فنعني بها مخططات الحكومات التدبيرية للاقتصاديات الوطنية، والتي تفرز بطرق مباشرة وغير مباشرة نمط النمو الاقتصادي والذي ينعكس بدوره على الوضع الاجتماعي. إن الحديث إذن – حسب ستيكليتز- يجب أن ينصب على سؤال الديمقراطية في القرن الواحد والعشرين، بمعنى ضرورة دَمقرطة العمل السياسي بصورة يسمح بتواجد الشفافية الاقتصادية والمساواة في الفرص ومحاربة اللوبيات وطرق تكوُّنها والمحاباة وسياسة الدعم والتفضيل المتبعة من طرف حكومات الموجهة للسوق.
* كاتب وباحث من المغرب
منبر الحرية، 15 أبريل/شباط 2016
اقتصادي ألماني بارز، له إصدارات وإسهامات بارزة في نظرية رأس المال والنمو الاقتصادي، له العديد من الكتب منها: “رأس المال وبنيته” و “إرث ماكس فيبر” و “فكر الاقتصاد الكلي واقتصاد السوق” و “السوق كعملية اقتصادية”…
نفس المصدر ص 111.
نفس المصدر ص 113.
اقتصادي أمريكي حاصل على جائزة نوبل للاقتصاد سنة 2002 مناصفة لمساهمته في ترسيخ التجارب العلمية كأداة للتحليل الاقتصادي التجريبي خاصة في دراسة آلية السوق البديلة.
نفس المصدر ص 137.
روائي عالمي مرموق، حصل على جائزة نوبل للآداب سنة 2010 عن رسمه هياكل السلطة والتصوير الواضح لمقاومة الفرد وثورته وهزيمته.
نفس المصدر ص 143.
© مشروع منبر الحرية
تعد قضية توزيع الثروة المادية المتراكمة والمنتجة، أحد أهم المواضيع التي تثير الكثير من الانتقادات من لدن رواد الفكر الاشتراكي عموما ممن يعارضون بشدة عدم عدالة اقتصاد السوق، بالمقابل يرى رواد الرأسمالية أن دعوات العدالة الاجتماعية تحمل الكثير من التناقض.....