رأسمالية المحاسيب وأسطورة الإصلاح. ج 1

رأسمالية المحاسيب وأسطورة الإصلاح. ج 1

20140315_IRD001_0.jpg
إن أهم ما يميز رأسمالية المحاسييب أنها لا تقوم على أساس المنافسة الحرة و الشفافية وسيادة القانون، ويمكن ملاحظة وجود هذه الظاهرة في البلدان المتقدمة و النامية على حد سواء ولكن تأثيرها على الاقتصاد و المجتمع تعتمد على مدى توافق مؤسسات البلد مع قيم الحرية الاقتصادية والديمقراطية..... .

منذ انهيار الاتحاد السوفيتي في بداية التسعينيات من القرن الماضي، تعالت أصوات الإصلاح في معظم البلدان النامية مطالبةً بتبني نماذج اقتصادية وسياسية واجتماعية جديدة للتأقلم مع التغييرات العالمية الجديدة، كما روجت من جانبها الكثير من المؤسسات والمراكز البحثية الغربية ومن بينها البنك وصندوق النقد الدوليين سياسات حول أهمية الإصلاح الاقتصادي والتحول نحو اقتصاد السوق الحر، وظهرت العديد من البحوث والكتب حول مدى أهمية التحول نحو اقتصاد السوق الحر والديمقراطية باعتبارهما أساس للنمو والتنمية. وفعلاً، تبنت العديد من البلدان النامية سياسات الانفتاح الاقتصادي حيث فتحت أبوابها للاستثمارات والتجارة الدولية وقامت بخصخصة كثير من مؤسسات القطاع العام كما قامت بإعادة هيكلة القطاع الحكومي بما يتوافق مع أسس الحرية الاقتصادية وصاغت عدد من القوانين والإجراءات لدعم القطاع الخاص. إلا أن عملية التحول نحو الاقتصاد الحر شابتها العديد من القصور حيث أن معظم السياسات والبرامج المتعلقة بالإصلاح الاقتصادي والسياسي كانت تصلح للفترة القصيرة ولم تكن صالحة للفترة المتوسطة والطويلة والتي شأنها أن تبني مؤسسات جديدة وتطور المؤسسات القديمة منها، وتهيئة بيئة مؤاتية ومستديمة للمشاريع والأعمال الحرة.
وعليه ظهرت نتيجة هذا القصور العديد من المشاكل و التشوهات في النظام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، حيث رافقت عملية التحول المحسوبية والرشوة أي الفساد بكل أنواعه، إذ تم خصخصة العديد من المشاريع بدون منافسة وبشكل غير شفاف ولصالح طبقة اجتماعية معينة معظمهم كانوا من السياسيين و البيروقراطيين والعسكريين ولوبيات الأعمال، ونتيجة لذلك تزوج المال بالسياسة و ظهرت رأسمالية المحاسيب Crony Capitalism. وبالرغم من عدم وجود مفهوم جامع ومتفق عليه من قبل المهتمين بالاقتصاد السياسي حول رأسمالية المحاسيب، إلا انه يمكن أن نعطي مفهموماً مبسطاً على أنها عبارة عن ظاهرة اقتصادية تنشأ نتيجة وجود علاقات غير قانونية بين السياسيين و رجال الأعمال والأفراد المقربين من السلطة السياسية من اجل تحقيق مصالح اقتصادية ضيقة. كما يسميها بعض الاقتصاديين بسياسة المصالح الخاصة أو الريعية Rent-Seeking التي ترتبط السياسيين والعسكريين ورجال الأعمال والبيروقراطيين وتمتد هذه العلاقة إلى معظم القطاعات الاقتصادية وخاصة المالية والمصرفية والعقارية والتجارية، فيتم استغلال المصارف لغسل الأموال وتحويلها إلى القطاعات التي تدر الربح السريع، مما تشوه المنافسة الحرة التي تقوم عليه الاقتصاد الحر والمنافسة السياسية الحرة التي تقوم عليه الديمقراطية، وبالتالي ستظهر لوبيات أو مافيات للسيطرة على الاقتصاد والسياسة في آن واحد، وهذا يعني أنها ظاهرة تشوه القيم والأخلاقيات التي تقوم عليه الرأسمالية التنافسية والديمقراطية.
وبالتالي فان ضعف المؤسسات بشكل عام وخاصة التشريعية والقضائية منها، يشكل فرصة كبيرة يستغلها السياسيون ورجال الأعمال من اجل الحصول على المنح والمقاولات والهبات بطريقة غير قانونية، ومن جانب آخر، فإن أهم ما يميز رأسمالية المحاسييب أنها لا تقوم على أساس المنافسة الحرة و الشفافية وسيادة القانون، ويمكن ملاحظة وجود هذه الظاهرة في البلدان المتقدمة و النامية على حد سواء ولكن تأثيرها على الاقتصاد و المجتمع تعتمد على مدى توافق مؤسسات البلد مع قيم الحرية الاقتصادية والديمقراطية، فكلما زاد توافق المؤسسات مع الحرية الاقتصادية والديمقراطية انخفض الرشوة و المحاباة و الفساد بشكل عام.
وهكذا فان رأسمالية المحاسيب يبين ضعف وعدم كفاءة النظام الاقتصادي للبلد، حيث أن لها آثار سلبية على الأنشطة الاقتصادية بشكل عام، إذ أن منح تصاريح الإنتاج والتجارة والمقاولات والمشاريع لجهات معينة مقابل الهبات والأموال والمصالح الخاصة و من دون احترام لسيادة القانون، سيؤدي إلى ظهور احتكار تام أو احتكار القلة في السوق و بالتالي سوف يسيطر على السوق مجموعة محددة من الأشخاص يتحكمون في حركة الأسعار وفق مصالحهم الخاصة بعيداً عن آلية الأسواق، وحتى إن كان هناك مشاريع تجارية خاصة أخرى فان هذه الجهات التي لديها المال والسلطة معاً سوف تزاحم هذه المشاريع و بالتالي ستجبره للخروج من السوق، وهذا تشويه عملية الاستغلال الأمثل للموارد المادية والبشرية وقيّم العمل وروح المبادرة الفردية وبالتالي فان معظم هذه الأعمال ستكون غير كفؤة وغير مستديمة من الناحية الاقتصادية، وبالتالي فإن رأسمالية المحاسيب لا تؤدي إلى تقليل البطالة والفقر، بل وأن أثرها على معدلات دخل الفرد Per-capitaوالنمو الاقتصادي سيكون سلبياً، وبالنتيجة فان أي تغيير في ظروف السوق والاقتصاد بشكل عام ستؤدي إلى حدوث الأزمة اقتصادية كما حدث في عدد من البلدان الأسيوية عام 1997 ، حيث ارجع الاقتصاديون أسباب هذه الأزمة إلى المحاباة و المحسوبية بين السياسيين ورجال الأعمال.
كما أن لظاهرة رأسمالية المحاسيب آثار مدمرة على الديمقراطية ونسيج الأحزاب السياسية، حيث سيتكون نتيجة هذه الظاهرة أحزاب هشة وضعيفة تسيطر عليها المصالح المادية الضيقة وستمتد هذه الهشاشة والضعف إلى المؤسسات الحكومية وستنشأ نتيجة لذلك حكومة غير مستقرة وغير كفؤة وقصيرة الرؤية وذلك لان التوجه العام للنخب والأحزاب السياسية المنضوية في الحكومة وخارجها ستكون المنافسة غير الشفافة للحصول على المكاسب وتحقيق المصالح الذاتية فقط. ونتيجة لهذا الخلط في المصالح السياسية والاقتصادية سوف تظهر ديمقراطية فئوية هشة تستمد دعمها من شبكات المال والمصالح والتي يمكن تسميتها بـ “زبانية Clientelistic الحكومة أو الأحزاب”، و بالتالي فان النظام السياسي سيكون محاطاً بهذه الشبكة المتطفلة على المجتمع والتي تستخدمها العديد من الأنظمة السياسية لقمع المظاهرات وتصفية الحسابات مع الخصوم السياسيين أو تصفية أية رؤية بعيدة عن توجه الحكومة والأحزاب الحاكمة وهذا ما حدث في كل من العراق وليبيا ومصر وروسيا…الخ. وبعبارة أخرى، إن اثر رأسمالية المحاسيب سيكون مدمراً على الديمقراطية والحرية السياسية، فالتداول السلمي للسلطة على سبيل المثال سيكون صعباً على الأقل في الأمدين المتوسط و الطويل.
إضافة إلى ما تقدم، تؤثر رأسمالية المحاسيب سلباً على هيكل المجتمع من خلال تأثيرها على عملية توزيع الموارد الاقتصادية بين طبقات المجتمع، وكما هو واضح إن توزيع الموارد الاقتصادية ستتم بشكل غير عادل و لصالح فئة معينة من المجتمع، مما ستخلق طبقة اجتماعية غنية تسمى بـالأغنياء الجدد Nouveau Riche على حساب طبقة واسعة من الفقراء. وتتميز هذه الطبقة بثرائها الفاحش ومستواها الثقافي والتعليمي الضعيف عادةً، فهي مجرد طبقة تشكلت نتيجة الفساد والتشوه في النظام الاقتصادي والسياسي للبلد. أي أن رأسمالية المحاسيب تؤدي إلى ظهور اختلافات وتفاوت طبقي والغبن الاجتماعي بين أفراد المجتمع، مما يترتب على ذلك التأثير ظهور فئات اجتماعية واسعة تعاني من الفقر والحرمان من العمل والتعليم مما يغذي ذلك روح الانتقام والاستقرار والإرهاب، أي أن هذه الظاهرة تؤثر على هيكل المجتمع وتجانسه وسلمه.
المصادر:
1. نژدارسعدالله خالد، الحرية الاقتصادية وبعض المتغيرات المؤثرة في النمو الاقتصادي لبلدان مختارة للمدة 1995-2008، رسالة ماجستير مقدمة الى مجلس كلية الادارة والاقتصاد،جامعة دهوك،2010.
2. Davis,J.M., Ossowki,R., Fedelino,A., Fiscal Policy Formulation and Implementation in Oil – Producing Countries, International Monetary Fund, 2003.
3. Friedman, M., Capitalism and Freedom, The University of Chicago, 1962.
4. Haber,S.(ed.), Crony Capitalism and Economic Growth in Latin America- Theory and Evidence, Hoover Institution Press, 2002.
5. www.fundforpeace.org
6. www.freedomhouse.org
7. www.worldbank.com
*طالب دكتوراه في الاقتصاد – مركز الدراسات العراقية. جامعة إرلنگن – نورنبيرگ – ألمانيا.
منبر الحرية، 7 يونيو /حزيران 2017

نــژدار سعدالله خالد


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.
جميع الحقول المشار إليها بعلامة * إلزامية

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018