يعتبر العنف لعنة تلاحق الإنسانية منذ بداية التاريخ، منذ أن قال ابن آدم لأخيه:”لأقتلنك”، ولا يمكن التعامل مع هذه الإشكالية بمزيد عنف على مستوى التأويل أثناء محاول التفكيك والفهم أو بتوجيه أصبع الاتهام للمقدس بكل بساطة، لأن النصوص المقدسة تقترح تعاملا لاعنفيا بالمقابل في سياق نفس الحادثة التاريخية لرد رعونة الأخ القاتل، بذلك يرد المقدس التهم عن نفسه، ويحاول توريط الإرادة الإنسانية في أسباب وقوع كل هذا العنف، الذي أمسى عنصرا مكونا للطبيعة البشرية، فقد قال هابيل لأخيه حينها: لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ، إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ”، سورة المائدة28، إن بعض الذين يمارسون العنف اليوم يؤثثون سلعتهم بالنصوص المقدسة، ولهم إمكانيات وقدرات لا محدودة من التأويل تستقوي بالتاريخ والممارسات الدوغمائية، التي لا تنتهي بفهم مؤسس للتعايش بل العكس، فرسالتهم لا تهدف لتحقيق الاستقرار بقدر سعيها لتحقيق اللاتوازن من أجل التعجيل بخروج المصلح المُبَشَّر به في آخر الزمان والفوز بالموعود، إذ أن الفوضى إذا امتدت تقرب نهاية العالم حسب المعتقد الإسلامي [ خروج المهدي المنتظر] أو اليهودي أو المسيحي[ معركة الهرمجدون]، وهذا يمثل عتبة حتمية أولى للعمل لتحقيق المبتغى من إسراع الإصلاح الجذري والتخلص من المدنس والفساد الذي ساد العالم.
إن الأديان السماوية تحاول التخفيف من التوتر الذي يزكي النعرات ويحفز العنف، ولكن يخطئ المتدينون في اختيار لحظات استمدادهم من المقدس، فيختارون لحظات الارتباك الإنساني كالحرب وسوء الفهم أو الصراع السياسي والاقتصادي والاجتماعي ليتحول الدين لمقصلة عظيمة أو لسيف يسطع بالحقيقة فجأة ويصبح هو الحل الوحيد، ولا تجد هذه الحقيقة لسانا تتحدث به غير لغة المهووسين بإنزال إله إلى الأرض مجبرا أو جعله يختفي مجبرا كالذي في الأساطير اليونانية، ليصادروا بعدها المعاني المقدسة، ويجعلوا أنفسهم قائمين على باب الحقيقة والحق، وسواهم مجرد غوغاء يضيع معهم المعنى والفضيلة.
إن تخفيف العنف وفق تصور الأديان التوحيدية لا يكون إلا بالأضحية الحيوانية، كالكبش الذي أمسى رمزا من رموز الفداء مع قصة إسماعيل الذبيح، كأن الأديان التوحيدية تقوم بتحويل العنف وتلطيف ممارساته وما يرتبط به من تأويلات، وتقطع مع طقس التضحية بالإنسان على المذبح، والذي انتشر في معابد الأديان الطوطمية القديمة. ثم تأتي بعدها بعض العبادات والطقوس الأخرى؛ كالصلاة والصوم والوضوء لقوله عليه السلام:”فإذا غضب أحدكم فليغتسل”.
إن تاريخ الصراع السياسي والديني الإسلامي ليكشف لنا كل مرة عن لحظات التحولات الكبيرة الطارئة على التجربة الإسلامية بسبب ما يلحق بالوعي الإنساني المؤطر بالنص المقدس من تغيرات والتي قد تؤثر سلبا على المعرفة الدينية وسلوكات المتدينين، وقد أبدت عدة جهات إسلامية رسمية تخوفها من أن يخطف المعنى بتوظيف التأويل المذموم، ويسطر الخاطفون الحقيقة باسم إلاههم المتخيل ويكرسونها بعنف ويجعلون كل المعاني الأخرى المحتملة والمضمرة غير قابلة للظهور ولا للكشف، فتتأسس مؤسسة مقابلة تستند لتلك الرمزية لغلق الباب أمام أي اجتهاد أو اختلاف في الرؤى واستراتيجيات الفهم والممارسة.
إن قصة مسجد ضرار في الإسلام والذي بني إلى جانب مسجد قباء كان محاولة للاحتيال على السلطة الرمزية التي شكلها الرسول الأكرم مع الصحابة في المدينة المنورة، وهي محاولة من المنافقين لمصادرتها بإنشاء مقابل لها ليشكلوا جبهة تصادم المؤسسة الرسمية ولتعم فوضى المؤمنين ثم يبدأ صراع المؤسسات والتأويلات. ولقد قاموا بعدها بمحاولة الاغتيال المشهورة للنبي الأكرم في غزوة تبوك.
أما اعتراض ذو الخويصرة التميمي المحسوب على توجه طائفة الخوارج المتطرفة على تقسيم النبي صلى الله عليه وسلم للغنائم فقد كان محاولة لتفكيك رمزية الرسول في إحقاق مفاهيم كالعدل والمساواة والرحمة والأخوة..، وإبداء الرجل اعتراضه كان ممارسة تأويلية متطرفة منه، قصد بها إحراج وإرباك مؤسسة الرسالة المحمدية وإفراغها من مضامينها الأساسية والتشكيك في صدق توجهها وموضوعيتها، باعتبارها هي التي تنشئ القيم وتتفرع عنها وتُشَرّع وتراقب السلوكات الاجتماعية الصادرة عن المؤمنين. وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذاك الرجل وقيمه النَّزقة التي ستكون بؤرة مثالية وخصبة لنمو أهم فرقة خوارج في التاريخ السياسي والعقدي الإسلامي. والتي أسست للعنف وخاض مع المجتمع تجربة مريرة معها استمرت لعقود. ونتج عنها ولادة مدرسة عقدية مبنية على تأويلات خاصة وإستراتيجية إصلاحية فريدة، ولا تزال تلك التجربة ترمي بظلالها على سياقنا المعرفي والسياسي إلى اليوم مع الفرق والحركات السلفية والجهادية المختلفة.
إن الصراع اليوم بين المتدينين المتطرفين والمعتدلين هو صراع قدرة على التأويل، ومن يمتلك المرجعية الفكرية والعقدية وينشئ مؤسسة مبنية على خلفية تاريخية توازي ما كان في عهد الصدر الأول في الإسلام، فسيتمكن من بناء طائفة قوية ومجتمع منسجم مع نتاج التأويلات الاجتماعية والدينية. وإن نجح المتطرفون في كسب معركة التأويل تنتهي الأنماط الإيمانية الأخرى والمدارس الإسلامية العقدية والفقهية التي لا تنسجم مع تطلعات وقراءات المتطرفين للمقدس، وستتحول المؤسسة الرسمية التي تحمي الخطاب الديني وتعيد بلورته وتجديده وتوجهه مستوعبة الزمان ومدركات المؤمنين وذهنياتهم وحاجتهم..، لمؤسسة تستعيد التاريخ والأنماط الإيمانية غير المفككة والتي كانت تعاني من تشوهات عقدية ونفسية وعرقية وتاريخية مستعادة، والتي شكلت عائقا في تقدم العقل الإسلامي في لحظة من لحظاته الماضية وما تزال. وما يحدث اليوم من عنف واصطدام بالعقل المنغلق إنما كان صورة تحديثية لهذه الصور المصغرة للمستعاد من تلك التشوهات ومزالقها، كما أن تحدياتها الخطيرة كامنة في كونها في حالة حركة ونشاط مع تنامي جغرافية الصراع الديني وسعة الإستقاطب لصالح هذه الحركات التي تنبعث بين الفينة والأخرى، وهذا كله راجع لخصوبة الظروف الجيوسياسية وسعة القلاقل في المنطقة الممتدة على مدى الجغرافية العربية والإسلامية.
لقد فهم الخليفة الراشدي علي بن أبي طالب مسألة الصراع بين دولته الفتية والمؤسسات التي يقوم على تدبيرها وبين طائفة الخوارج، إن الصراع قائم على أساس التأويل وانه صراع على امتلاك المعنى وفهم المقدس، لذلك لما بعث ابن عباس لمحاججتهم قال له:” لا تخاصمهم بالقرآن فإن القرآن حمال أوجه، ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسنة، فإنهم لن يجدوا عنها محيصا”، هذه الالتفاتة العجيبة والفطنة من الخليفة تظهر مدى إدراكه للحرب التي تشن عليه وقتها وأساليبها، لذلك استبق حيلة الخوارج بتضييق المعنى عليهم وهدم ملجأهم المتضمن في النص المقدس المفتوح على التأويل والمفعم بالحيوية والخصوبة، إنه في الأخير يعبر عن عنف التأويل وخطورته، وقد عبر كذلك حَبْر الأمة وعالمها عبد الله ابن عباس عن هذا المعنى بقوله:”القُرآن ذو وجوه؛ فاحْمِلوه على أحسنِ وجوهِه”، لأن الإنسان قادر على تحوير وتحويل النصوص ولي أعناقها لتخدم مصالح طائفته ونفسية المؤمنين على وجه قبيح وغير مستحسن. والجهل والتأويل المذموم والانتحال مزالق تهدد المقدس وتحول إلى غول أسطوري قاطع طريق أو سيل من المعاني تجرف كل ما تجد في طريقها وتؤسس لدوامة عنف لا تنتهي،وقد حذر النبي الأكرم عليه السلام من هذه المخاطر بقوله:”يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين”.
إن رهان المؤمنين اليوم هو إثبات قدرتهم على الإبقاء على صفاء المعنى في ظل تأويلاتهم لأنماط الإيمان في ظل التعدد، وتأسيس رؤية جديدة لفلسفة التعايش ومراجعة مبادئ تدبير الاختلاف وفق رؤية تستوعب المخالف ولا تصادر الآراء الإنسانية المغايرة، وتفكيك نزعة امتلاك الحقيقة المطلقة التي تعمي بصيرة المتطرفين وتغري عقولهم ببدء التحرك للحديث باسم الله وممارسة الحرب على غيرهم من المخالفين. وتجاوز العنف لا يتأتى بإغلاق النص المقدس ونزع إيمان الناس ومعتقداتهم والسخرية منها سواء من المؤمنين المتطرفين أو اللادينيين، وإنما يكون بأنسنة المفاهيم وجعل الدين في خدمة الإنسان، وتقديم منهجية معرفية متكاملة ومصدقة بما قدمه العقل البشري من معارف لتخدم النص وتسعف العقل المسلم للاجتهاد والتجديد، وعدم نزع النفعية والفضيلة والشرعية عن المعرفة الإنسانية ومناهجها، والسعي الحثيث للسمو بالعقل وتفكيك كل الدوغمائيات والجزميات التي راكمها التاريخ على ضفاف الحضارة الإسلامية.
إن الأديان السماوية تحاول التخفيف من التوتر الذي يزكي النعرات ويحفز العنف، ولكن يخطئ المتدينون في اختيار لحظات استمدادهم من المقدس، فيختارون لحظات الارتباك الإنساني كالحرب وسوء الفهم أو الصراع السياسي والاقتصادي والاجتماعي ليتحول الدين لمقصلة عظيمة....... .