peshwazarabic

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

تنحو الصراعات العالمية الرئيسة اليوم منحى غريباً، وكأنها يمكن أن تختزل على نحو “حرب باردة” جديدة، بين الإسلام والغرب، هذه المرة. وتشير الأنماط السلوكية للإعلام و لاستطلاعات الرأي العام إلى ثمة أيادِ خفية تعمق (على نحو واع أو غير واع) من هذا الإنشطار، وكأن العالم قد إستبدل الكتلة الشيوعية بالعالم الإسلامي كي تدور رحى الصراع القائم اليوم حول محور جديد. واحد من الأدلة على صحة هذه الملاحظة تقدمه اليوم مؤسسة “غلوب” العالمية الأكثر شهرة في حقول إستطلاع الرأي العام، حيث أنها قدمت خلاصات “سوداوية” شديدة التشاؤم حول “الشرخ” بين الإسلام والغرب، بوصفه شرخ متسع، متنوع، مدمر!
على الرغم من أنن الكثير كتب عن تعقيدات هذا الموضوع فإن علينا الإعتراف بأن المقصود في هذا السياق هو تتبع أصول وتبرعمات الصورة الأكثر شيوعاً في الثقافة الغربية للإسلام وللعالم الذي يعتنقه. أما أن تحال الصراعات العالمية السائدة إلى كينونتين مفترضتين غير متجانستين، فإن في ذلك خطأً مفهومياً يستوجب التأشير. الإسلام ليس دولة أو كتلة دولية منافسة قائمة، كما كانت عليه الكتلة الإشتراكية على سنوات الحرب الباردة. كما أن الغرب لم يعد كما كنا نراه في عصر الكولونياليات والوصايات الأوربية وما بعده. لذا ترتكب مؤسسة غالوب خطأً عندما تتحدث عن “العلاقة” بين الإسلام والغرب نظراً لسيولة المفهومين وتجريديتهما الزائدة: فهل أن المقصود بـ”الإسلام” هو الحكومات القائمة في دول العالم الإسلامي، وهي (كما ندرك جيداً) تحتفظ بعلاقات طيبة (عامة) مع مثيلاتها في العالم الغربي. ثم هل أن المعني بالإسلام الحركات الراديكالية الأصولية التي ترجمت أفكارها إلى برامج مضمخة بالدماء وبالعنف والإرهاب؟ هذا سؤال آخر يسري عبر الكثير من التشعبات والإنحناءات. إن الحديث عن “الإسلام” نظاماً دينياً عقائدياً، كما هي عليه الحال مع الأنظمة الدينية الأخرى كاليهودية والمسيحية وسواهما، فإن الموضوع يحتاج إلى شيء من التأمل المتأني، ذلك أننا لا يمكن أن نقرن أو نرصد علاقة بين كينونتين غير متجانستين: يمكن أن ندرس العلاقة بين الإسلام والهندوسية في شبه القارة الهندية، بإعتبارهما دينين شائعين هناك، ولكن من غير اليسير أن ندرس العلاقة بين مفهوم هلامي كـ”الغرب” وبين دين كبير: ليس هناك تجانس يسمح بمثل هذه الدراسة أو المقارنة.
ثمة تعقيد آخر في الشرق العربي الإسلامي: فالغرب في الجزائر عموماً يعني فرنسا، في مراكش هو يعني فرنسا وإسبانيا، في ليبيا هو يعني إيطاليا خاصة، في المشرق العربي الإسلامي كان الغرب يعني بريطانيا وفرنسا حتى دخول الولايات المتحدة الأميركية معترك صراعات الشرق الأوسط لتكسب صفة “الغرب” غير الواضحة. هل أن الغرب هو صفة جغرافية تشير إلى كل ما يمتد إلى اليسار على الخارطة؟ هذا مفهوم مضحك لأنه يلغي كروية الأرض وحركتها الدورانية حيث يكون مفهوم “شرق / غرب” مفهوماً نسبياً متغيراً. ثم كيف يمكن لنا أن نصنف الدول إلى “غربية” و “شرقية”، وأي الأسس يمكن أن تعتمد في هذا السياق: فهناك تعقيد شائك آخر هنا: هل أن الغرب أسلوب حياة وتقنيات عالية وعلاقات مجتمعية من نوع خاص، هل لنا أن نعد اليابان جزءاً من العالم الغربي؛ ثم ماذا عن أستراليا أو نيوزيلاندا وحتى إسرائيل، هل لنا أن نضع هذه الأسماء في “سلة” العالم الغربي، نظراً لمعطيات هذا المعيار، بالرغم من أنها (جغرافياً) تتموضع في الشرق التقليدي القديم؟
أما إذا كان المقصود بـ”الغرب” بعداً روحياً دينياً، بمعنى أن الغرب هو “العالم المسيحي” Christendom، فلماذا نخجل من الكلام عن هذا العالم بصفته الدينية هذه؟ وكيف يمكن لنا أن نصنف المسيحيين الموجودين بين ظهرانينا في العالم الإسلامي؟ وبطبيعة الحال، ثمة إضطراب على الجانب الآخر من هذه المعادلة الإفتراضية الخاطئة، ذلك أن العالم الغربي هو الآخر غير متجانس لأنه مجموعة كبيرة من الدول والحكومات والأمم أو الأقوام التي تدين غالبيتها (ولو إسمياً) بالمسيحية. هذه دول تأسست أو تبلورت على أسس قومية في القرن التاسع عشر كألمانيا وإيطاليا وفرنسا، ولكنها سرعان ما طلّقت الفكرة القومية ثلاثاً كي تحتضن فلسفة علمانية لا صلة لها بالقومية ولا بالأديان. لهذا تكون الحوارات عن الغرب والإسلام بلا أسس فكرية مقبولة، خاصة وإن حكومات الدول الغربية وشركاتها الكبرى لا تعاملنا على أساس ما نعتنق من دين بقدر ما تعاملنا على أساس المصالح وحسابات الربح والخسارة. إن الحكومات القائمة في الدول الغربية من أوربا إلى الولايات المتحدة وحتى اليابان وأستراليا هي حكومات علمانية تخص الأديان عامة بنظرة ملؤها التسوية والتحجيم كي تدفعها إلى الخلف، الأمر الذي يفسر التسامح الواضح حيال إنتشار الإسلام داخل العالم الغربي، خاصة في أوربا وحتى في الولايات المتحدة وكندا.
وتأسيساً على ما تقدم من جدل لا يمكن للمرء أن يجد مسوغاً منطقياً كافياً كي يخدم لتأسيس وتهويل علاقة متوترة بين كينونتين غير متجانستين، حيث يتطلب هذا منا أن ندير ظهورنا لهذا الجدل المفتعل كي نقف بدقة أشد على المفاهيم الصحيحة التي يمكن أن تقودنا نحو إدراك أفضل لما يجري في العالم اليوم. فإذا ما أردنا تسوية الصراع على نحو مفهومي ديني نقع في مطب الكلام عن “صليبية” جديدة؛ أما إذا ما حاولنا أن نبتسر المفاهيم إلى فلسفات دينية مقابل فلسفات علمانية مادية، فإننا نقترب إلى شيء من الصواب، ولكننا نبقى بعيداً عن ملامسة الحقيقة كاملة. ثمة سيولة مرهقة ومربكة في المفاهيم ينبغي أن تباشر بشيء من الثبات والقدرة الواضحة على رؤية الأشياء.
© منبر الحرية، 22 مايو 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

الدكتور علي شريعتي (1933-1977) الذي كتب ونشر مؤلفاته قبيل سقوط حكم الشاه في إيران من أشهر المفكرين الإيرانيين في القرن العشرين. وأنا رغم تقديري لقوةِ عقلِه إلا أنني أختلف معه في مسائلٍ كثيرة. أما أبرز نقاط إختلافي معه فتتعلق بإيمانه الراسخ بأن الحضارة الغربية تتميز بمعطياتٍ مادية فقط وليس بسببِ منظومة قيمٍ هي التي جعلتها ما هي عليه اليوم (رغم الكثيرِ من عيوبها ونواقصها). فأنا على نقيض الدكتور شريعتي أؤمن أن الروح الثقافية التي بدأت منذ عصر النهضة ومجموعة القيمة السياسية والمجتمعية والثقافية والتي ذاعت وشاعت في الغرب هي التي قلصت سلطان الحكام المطلق وهي التي أوجدت الديموقراطية وهي التي وفرت المُناخ الذي تحقق فيه التقدم العلمي والمادي والإقتصادي. أما الدكتور شريعتي فكان يعتقدُ أن القيم والأخلاق فمكانها الشرق المتخلف، وأما التميز المادي فقط فهو الذي يسود في الغرب. وبناءً على هذا الإختلاف فلا أعتقد أن الدكتور علي شريعتي (رغم قوة عقله) كان يفهم معنى عبارات مثل: “الإنسانية” و”عالمية المعرفة” و”حضارة واحدة وثقافات عدّة”. فمن المؤكد أنه لم يكن يؤمن بذلك وأكاد أجزم أنه لم يحاول التفكير في ذلك. ولكن في المقابل فهناك أولاً شجاعته الفكرية الرائعة وكراهيته الشديدة لمن يسمون أنفسهم برجال الدين في أي مجتمع أو ثقافة أو دين ورؤيته أنهم يكوِّنون مع سلطان السياسة والمال ضفيرة واحدة لما كان يسميه “إستحمار الناس”
أمس كنت أُلقي نظرة ثانية على أعماله التي ترجمت للعربية والإنجليزية وأعدت قراءة كتيبه الصغير “النباهة-الإستحمار” الذي صدرت ترجمته العربية سنة 1991. في هذا الكتيب الصغير يقول علي شريعتي: (وقع مصير الدين في أيدي قوات إستحمارية مضادة للإنسانية تتسمى بأسماءٍ كالطبقة الروحانية والطبقة المعنوية والطبقة الصوفية وطبقة الكهنوت الذين إتخذوا من الدين وسيلة لإستحمار الناس-الإستحمار الفردي والإستحمار الإجتماعي. وكلامي هنا يدور حول الدين الإستحماري المضلل … الدين الحاكم وشريك المال والقوة الذي يتولاه طبقة من الرسميين الذين لديهم بطاقات للدين أي لديهم إجازات للإكتساب تُنبئ عن إحتفاظهم بالدين وأنهم هم الدعاة وشركاء السلطة والمال والقوة. ماذا يفعل هذا الدين بالإنسان فيستحمره؟ ليس بإستطاعة الدين أن يسلب مني نباهتي الفردية أو مسئوليتي المجتمعية إن عمله ينصب في نقل الإنسان بالنسبة إلى الظروف والزمان أي يقول لك: (:دع الدنيا فإن عاقبتها الموت” … “إدخر كل هذه المشاعر والأمنيات إلى الآخرة؟!” ليس الفاصل الزمني بكثير: ثلاثون أو أربعون أو خمسون سنة: ما قيمتها؟؟.. بعدها كل شيء سيكون تحت أمرك. إنها سنوات العمر القصير لا قيمة لها دع الدنيا لأهلها … وهو يقصد بأهلها نفسه وشركاءه “السلطة والمال والقوة”). هنا يقترب علي شريعتي أشد الإقتراب من كارل ماركس في كل ما كتبه عن الدين، وإن إختلفت الدوافع وتباينت الأهداف … فأحدهما كان يسعى لتدمير الدين … والآخر لتغيير جوهر فهم الناس له تغييراً جذرياً … ولكنهما معاً يتفقان بتصريحٍ أو تلميحٍ أن الدين “أفيون الشعوب” أو في الحقيقة أن إستعمال رجال الدين للدين هو الذي يجب أن يوصف بأنه أفيون الشعوب
إن كتابات المفكرين الإيرانيين المعاصرين ومعظمهم من الإسلاميين هي في إعتقادي (ورغم إختلافي مع الكثير منها) أرقى بمراحلٍ من الفكر الإسلامي في العالم السني الذي هو الآن (في شقٍٍ واحدٍ منه) ضفيرة من أفكار إبن تيميه ومحمد بن عبد الوهاب وأبي الأعلى المودودي وسيد قطب وأدبيات الجماعة الإسلامية في مصر قبل التطوير الأخير في أفكارها
إنني آمل أن يتوقف العالم السني عن ظلمه البيّن للعالم الشيعي … وأن ندرك أننا لا نعلم إلا أقل القليل عن مساهمات الشيعة الفكرية منذ جعفر الصادق عليه السلام وحتى لحظتنا هذه. لا نعرف عن مذاهبهم الفقهية (وبعضها بالغ الرقي) ولا نعرف عن أدبياتهم المعاصرة ويتسم الإنسان المتعلم لدينا (ل وكبار المثقفين) بدرجة غريبة من لجهل بأفكار الشيعة-وكان نصيب الشيعة منا هم “الظلم البين” من لحظة إغتيال أسمى الصحابة (على بن أبي طالب) وإبنه (الحسين بن علي) وحتى جرائم صدام حسين في حقهم … رغم إيماني أن إيران إذا تركت ولم تهاجم من الخارج، فسوف تقوم بتنقية حياتها السياسية والمجتمعية والفكرية وربما تصبح (بعد ماليزيا وتركيا) ثالث الديموقراطيات في المجتمعات الإسلامية-وإن كان نصيبها (عندئذ) من الديموقراطية سيكون أكبر بكثير من نصيب ماليزيا وتركيا لأسباب ليس هذا موضوع تبيانها…
© منبر الحرية، 20 مايو 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

ثمة مفارقة تستحق عناء التأمل المتأني تنطلق من عنوان “عصر الحوارات” الذي فضل عدد من المفكرين إطلاقه على عصرنا الجاري، استذكارا لعناوين أخرى من نوع حوار الشمال/الجنوب، الشرق/الغرب، الدول الصناعية/الدول النامية أو “النايمة”. وإذا كانت جميع هذه الحوارات تصب في هدف واحد، وهو بلوغ عالم مزدهر تسوده قيم السلام والمحبة واحترام الإنسان لأخيه الإنسان بغض النظر عن العقيدة واللون، الأصل والفصل، إلخ. أما المفارقة، فإنها تتجلى في أن هذا يمكن أن يسمى “عصر الحوارات الدامية” كذلك، إذ آثر الإنسان، كما يبدو، أن ينزف، سوية مع أخيه الإنسان، دماً على طريق حوار تشوبه النيات المبيتة والضغائن القديمة والأهداف المتعاكسة.
ضمن هذا السياق المؤسف الذي نلاحظه حال متابعة أية نشرة للأخبار، يأتي الحديث عن حوار الأديان، وهو حديث طيب بقدر تعلق الأمر بأهدافه السامية التي تتبلور في رؤيا إنسان “معولم” قادر على أن يحيا مع سواه من البشر دون ملاحظة الفروقات الدينية أو المذهبية، كدافع للعداء أو للإرهاب والجريمة. ومع هذه الرؤيا السامية ينبغي أن نباشر عدداً من الأسئلة المهمة، ومنها: (1) ما معنى حوار الأديان، وماهي الأديان التي ينبغي أن تدخل الحوار الآن؟؛ (2) من يحاور من؟؛ (3) ما الهدف النهائي لمثل هذا الحوار؟
إن أول ما يقفز إلى رأس المتأمل في مثل هذه الأسئلة هو أن مثل هذا الحوار ينبغي أن يقوده رجال الدين الذين يمثلون كل معتقد أو نظام روحي. وللمرء أن يتوقع أن مائدة حوار، إذا ما فرشت اليوم، ستكون مثالاً للمحبة والتعايش والأواصر المشتركة، خاصة إذا ما عقدها كبار رجال الدين من أديان متنوعة. وقد حدث مثل هذا النشاط عبر التاريخ، كما هي عليه الحال في “برلمان الأديان” الذي عقد في مدينة شيكاغو في القرن التاسع عشر، على هامش معرض شيكاغو التجاري، إذ تمكن المضيفون الأميركان من استقدام عدد من رجال الأديان الكبرى من آسيا وأفريقيا وأوربا للجلوس سوية وللقيام بمناظرات دينية أمام الجمهور الأميركي حين كانت الولايات المتحدة لم تزل جمهورية فتية ترنو لأن ترى “العالم القديم” بمنظور “العالم الجديد” المتعالِ. كما أن حواراً آخر شبيها قد حدث في نفس القرن بين الطوائف الإسلامية، برعاية وتنظيم الوالي العثماني في بغداد، وقد سمي الاجتماع بـ”مؤتمر النجف” الشهير الذي أرخ له العلامة الراحل الأستاذ علي الوردي في أحد مجلدات (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث). ولكن يبقى السؤال قائماً: هل تمكنت هذه الأنشطة من تجاوز تفاهمات رجال الدين (على جلال قدرهم) كي تشيع مفاهيم المحبة والتعاون بين سواد الناس من أتباع الأديان المختلفة؟
إن أية قراءة متأنية للعقائد الأساس لجميع الأديان الكبرى في العالم ستقودنا إلى حقيقة لا غبار عليها، وهي أن جميع الأديان تدعو إلى التسامح والمحبة والتعايش في جوهرها. إلاّ أن الاختلاف يأتي من الجهلة الذين يركبهم شبح التعصب والعصبية درجة الانجراف في تيار الكراهية و الضغينة. لذا يكون حوار رجال الدين فيما بينهم حواراً محدود الجدوى بقدر تعلق الأمر بتعميم دلالاته ومعانيه على أتباع المعتقدات المختلفة. إن المشكلة لا تكمن في رجال الدين الراسخين في العلم، ولكنها تكمن في الجهل وفي شعور كل فرد بأنه هو لوحده ينتمي إلى الفئة غير الضالة أو الفئة الناجية، بعونه تعالى.
إن أهم مسببات التنافس الديني الذي غالباً ما يؤججه أفراد غير متدينين (وهذه المفارقة تستحق المعاينة كذلك) هو أن اغلب الأديان الكبرى في العالم هي أديان تبشيرية، أي أنها أديان مفتوحة لكسب المزيد من الأتباع والمؤمنين. وهكذا يكون التنافس عنيفاً، ليس بين الأديان، وإنما بين الأتباع الأقل إستنارة، من أجل الإنسان.
وللمرء أن يدعي بأن أجواء التقدم والرفاهية تحت هيمنة مركز سلطة قوي كافية لجعل الناس يؤمنون بأنهم إنما ينتمون لأديان مختلفة وأن مفاهيم التعايش والتضامن الاجتماعي ممكنة الاحتضان ضمن حركة المجتمع الشاملة. هذا ما حدث في التاريخ دون حوارات بين رجال الدين، ودون الحاجة إلى بيانات وتفاهمات وبلاغات مشتركة يمضي عليها ممثلو الأديان المتنوعة. وعلينا الاعتراف في هذا السياق أن عصراً ذهبياً للتنوع والتعايش الديني كان قد تحقق في بغداد العباسية عبر العصر الوسيط، إذ أجتمع في هذه المدينة الكوزموبوليتان أتباع مختلف الأديان تحت مظلة الإسلام المتسامح، باحثين عن لقمة العيش وعن فرص التفوق والإبداع، بالرغم من أن غير المسلمين كان يتوجب عليهم ارتداء ملابس خاصة تفرقهم عن عامة المسلمين. وقد كان “بيت الحكمة” العباسي أنموذجاً لهذا التعايش، إذ أنه كان يضج باليهود والمسيحيين وحتى الزرادشتيين والمجوس والهندوس من مترجمين وأطباء وعلماء وفلكيين تحت خيمة الخليفة العباسي المأمون الذي كان يهدف من وراء توظيفهم الإفادة من علوم الأعاجم وغيبيات الجميع على طريق بناء واحدة من أرقى حضارات التاريخ، الحضارة العربية الإسلامية، وهي الحضارة التي حفظت لأوربا تراثها الكلاسيكي الإغريقي عبر التعريب، إذ عادت أمهات الكتب الإغريقية والرومانية إلى أوربا عبر الأندلس وجزيرة صقلية بواسطة المسلمين العرب لتطلق عصري الأنوار والنهضة في أوربا.
أما الآن، فإننا نلاحظ ثمة يقظة للتعصب الديني والفرقي والفئوي، وهي من نتائج التنافسات السياسية التي تقود دوماً إلى سيادة قانون “فرق تسد” Divide and Rule الذي غالباً ما يستعمله المتنفذون والمهيمنون، إما على المستوى الكوني أو المحلي، من أجل فرض سيادتهم وإدامة سيطرتهم على المجتمعات من خلال توظيف التعامي المتعصب للتنافس بين الإنسان والإنسان، المعتقد والمعتقد. إنه عصر يقظة الولاءات الصغيرة والمجهرية التي تبقي القوي قوياً والضعيف ضعيفاً إلى ما لا نهاية.
© منبر الحرية، 06 مايو 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

تجتمع عناصرُ وأبعادُ عددٍ من عيوب التفكير التي انتشرت في واقعنا فيما يشبه المعادلة الكيميائية لتخرج لنا عيباً (أو عيوباً) إضافية جديدة. فمن اختلاط “تقلص السماحة” و”تآكل هامش الموضوعية” ينبثق عيبٌ آخر جديد هو عجز الكثيرين منا عن رؤية (من ليس معنـا) إلاَّ بصفته (ضـدنا) أو (علينا). وقد ضاعف من عمق جذور هذا العيب، أن تاريخنا المملوكي الذي ترك أعمق الآثار في تكوين شخصيتنا قد عرف هذا الأسلوب في التفكير والحكم على الآخرين على أوسع نطاق. فطيلة القرون التي قبض فيها المماليكُ على زمـامِ الأمـور فـي حياتنا، كان المجتمـعُ يرى بوضوحٍ وكل يوم تطبيقاً عملياً على (أن من ليس معنا فهو ضدنا أو علينا) مع تـوابـعِ هـذه المقـولـة وآثارها المترجمة في مواقفٍ كثيراً ما اتسمت بالعنفِ والقسوةِ والدمِ. وكما يقول أُستاذ جامعي مرموق، فإن علم الاجتمـاع التاريخـي يؤكد أن آثار العهد المملوكـي علـى التفكيـر المصـري لا تـزال قـويـةً وحيـةً رغم انتهاء دولة المماليك في مصر بمذبحة القلعة منذ أكثر من مائة وثمانين سنة، (وبالتحديد في سنة 1811).
وجـوهـر هـذه المسـألـة، أننا ننشـأ في منـاخٍ ثقافـيٍّ عـام يتسمُ -إلى حد بعيد- بالشـخـصـانيـة أو الذاتية في مواجهـة الموضوعيـة، كما يتسم بضيقِ الصـدرِ بالنقدِ وعدم الاحترام العميق لكون الآخرين مختلفين وهو ما يحتم أن يرى الكثيرون منا “الآخرين” من منظورِ السؤال النمطي: أهو معي؟.. أم ضدي؟ ويزيد من تأصيلِ حقيقةِ هذا البعد من أبعادِ تفكير الكثيرين منا أن أعداداً كبيرة منا “قرويون” جاءوا حديثاً إلى المدن وهم يحملون في تكوينهم قانون تأسيسِ الانتماءِ على أرضيةِ الاشتراكِ في الخلفيةِ المكانيةِ والعائليةِ. وهذه الضفيرة من الأبعاد (ذاتيون لا موضوعيون…. تقلص السماحة تجاه الآخر المختلف…. الضيق بالنقد) هي ما تجعل العملَ الجماعي أبعد ما يكون عن التوفر. فروحُ الفريق تنسفُ نسفاً عندما تضربها هذه الأبعادُ في ذاتِ الوقت. وهذا الجانب هو أحد أهم أسباب تأخرنا عن عددٍ من الشعوبِ الآسيوية في اللحاقِ بركبِ التقدم الاقتصادي الحديث، فبينما كانت الحضارةُ الآسيوية (لا سيما في اليابان والمجتمعات التي انتشرت فيها الأقلياتُ الصينية )عاملاً من أقوى عوامل دفع العمل الاقتصادي والصناعي إلى درجاتٍ مرتفعةٍ للغاية، لوجود هذا الاستعداد القوى للعملِ الجماعي، كنا نحن بعيدين إلى حدٍ بعيدٍ جداً عن توفر روح الفريق في العملِ التي يصعب بدونها تصور أي إنجازٍ كبيرٍ في العملِ والإنتاج.
وخلال سنوات عديدة أمضيتها في مؤسسة اقتصادية عالمية كبرى كنت أرى -كل يوم تقريباً- كيف ينفرط عقدُ أي مجموعةٍ عمل منا بفعلِ غيابِ روحِ الفريقِ والعملِ الجماعي وغلبةِ تأسيسِ العلاقات على أرض (معنا أم ضدنا؟). وفى نفسِ الوقتِ كانت مجموعات العملِ التي ينتمي أفرادُها لخلفياتٍ أوروبيةٍ أو آسيويةٍ تنخرطُ في العملِ الجماعي دون أية تشققاتٍ في وحدة الفريق بسببِ العوامل الثقافية التي تلغى أسباب الفرقة وتغلب أَسباب الوحدة. ومن الضروري أن أُبرز أنه في ظل ظروف عامة معينة، وعندما تكون قيادة وحدات العمل في يدِ من هو مشربُ للغاية بنفسِ الروح (“معنا” أم “علينا”؟) فإن قيمَ تفسخِ روحِ الفريق تتعاظم وتضرب المناخ العام بسهامها من كل جانبٍ، تاركة إيانا أمام ما يشبه حالة استحالة لأن نعمل كفريقٍ واحدٍ متجانس ومتوائم.
© منبر الحرية، 01 مايو 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

ربما كان “الابتكار” أحد أهم أسباب ومقومات تفوق الحضارات، إذ أن الأفكار المبتكرة، مترجمة إلى برامج وأدوات وأجهزة وطرائق حياة، كانت دائماً متلازمة مع الحضارات النامية الواعدة. وعلى نحو معاكس، تسود الحضارة الراكدة أو المتراجعة حالة غياب الابتكار، الأمر الذي يبرر محاولة أبناؤها الالتزام بالموروث حد العبادة المتعامية! لذا نجد حضارات تتقدم، وأخرى تركد وثالثة تتراجع. وهكذا يكون المعيار متاحاً بأيدي المؤرخين الحقيقيين: ما درجة الابتكار وأعداد المبتكرات التي تقدمها حضارة معينة، وما درجة وطبيعة إستقبال العقول الابتكارية العبقرية القادرة على توليد المبتكرات. إن الحضارة المتطورة تستقبل الابتكار بحفاوة وتكريم، بينما ترتجع الحضارات الآسنة إلى المحافظة، فهي تقاوم الجديد المبتكر وتضطهد العقول المبتكرة وربما تنفيها إلى عوالم الجمود والتحجر. لقد اعتُمد هذا المعيار في تقييم وتقويم الحضارات القديمة والحديثة، إذ ينظر إلى الحضارة السومرية (في بلاد الرافدين) بوصفها حضارة متقدمة بسبب ما ابتكره الإنسان الرافديني آنذاك من أفكار جديدة لم تكن متاحة لحضارات معاصرة لها ولكنها كانت حضارات جمود وتخلف. لقد فكر العقل السومري القديم بزيادة كميات الغلال من خلال اكتشاف الزراعة وتحويل نفسه من مخلوق جامع للقوت إلى مخلوق منتج له، الأمر الذي أطلق سلسلة أخرى من المبتكرات ابتداءً من الأدوات الحادة للحرث والحصاد وانتهاءً بتحريك الأواني الكبيرة بواسطة العجلات.
ربما كان هذا وراء سك وإضافة فعل جديد إلى اللغة الإنكليزية، فعل مشتق من كلمة “فكرة” Idea. الفعل بحد ذاته ابتكار لأنه إضافة جديدة للقاموس الإنكليزي، ولأنه كذلك يعني صناعة أو إنتاج الأفكار “ideate”. الطريف هنا هو أحد الإعلانات التجارية التي تقدم عدداً من الشبان والشابات الأميركيون وهم مضطجعون أرضاً وقد سدوا عيونهم في هدوء تام، لأنهم في حالة إنتاج أفكار جديدة “ideating”. وهذه حالة قد تكون مثيرة للتندر لدينا: فكم واحد منا يترك لنفسه فسحة من الزمن للتفكير بالجديد؟ لنلاحظ جداول أنشطة حياتنا اليومية: كذا ساعة عمل، كذا ساعة نوم وراحة، كذا ساعة استجمام وجلوس أمام التلفاز، وكذا ساعة تمارين رياضية، إن وجدت. ولكن من منا يفكر بتخصيص وقت معين لإنتاج الأفكار أو للتأمل، على الرغم من أن التأمل بحد ذاته ولذاته هو نشاط عقلي مهم نحتاج إليه لنرفع الغشاوة أو الغيمية التي تغلف أذهاننا والتي تفرضها متطلبات الحياة والهموم اليومية على أبصارنا وبصائرنا. نصف ساعة تأمل قد تكفي لتريك أين أنت؟ وهل أن ما تفعله صحيح، وهل ينبغي أن تستمر كما أنت أم أنك يجب أن تضفي شيئاً جديداً على حياتك، وما الذي يمكن أن تخرج به من مبتكر لحياتك العملية أو لمجتمعك أو للآخرين من الذين يحيطون بك أو يعتمدون عليك؟ هذه أسئلة غالباً ما نتعامى عنها، بالرغم من أن حضارتنا العربية الإسلامية كانت مملوءة بالأذهان التأملية العملاقة القادرة على بلوغ خلاصات مبتكرة من خلال التأمل، الأمر الذي يبرر ظهور ظواهر من نوع “الصومعة” حيث يختلي العقل المفكر بنفسه، أو “المعتكف” حيث يكرس الطالب نفسه، لوحده، للتأمل وللتعامل مع المكتوب والمطبوع من مبتكرات عقول الآخرين، القدماء والمحدثين. وقد بزّ الإمام الغزالي مجايليه في ميله إلى الإنفراد بنفسه وتوليد الأفكار العملاقة. ولم نزل نقرأ الإمام الغزالي ونرتجع إليه كنبع غزير للأفكار.
إننا إذا ما حاولنا أن نعدد الأدوات والآلات البسيطة التي ابتكرتها عقول من الأمم الأخرى وقد جاءتنا مستوردة، سنلاحظ أن هناك العديد منها كان يمكن أن نبتكره في مجتمعاتنا العطشى للمبتكر: فلماذا نستورد المبتكرات البسيطة، من فرشة الأسنان الهزازة إلكترونياً إلى الأفران الإلكترونية ولا نتوقع أن يبتكرها عقل محلي، على الرغم من بساطتها؟ هذه علامات الركود والإستكانة التي ينبغي أن ترصد بحذر والتي نعاني منها حيث لا تمنحها مناهجنا الدراسية لتلاميذنا، من مراحل روض الأطفال والتمهيدي إلى مراحل الدراسات العليا. ليس هناك ما يكفي من تدريب على التفكير الحر المولد للمبتكرات. إن مناهجنا الدراسية، في أغلب الحالات، مؤسسة على آليات الحفظ وإعادة إنتاج المعلومات في الامتحانات. لذا فإن أذكى العقول لدينا هي تلك التي تتمتع بذاكرة قوية، استرجاع للمعلومات المطلع عليها. هذه الآلية لا تنمي خلايا الدماغ القادرة على ابتكار الجديد من الأفكار، فالطالب يذهب إلى قاعة الامتحان لاجترار ما حفظه خلال اليوم السابق، وربما الليلة السابقة؛ أما إذا لم يتمكن من استرداد هذه المعلومات المطلوبة كإجابات على الأسئلة، فله الله! فدراستنا هي مذاكرة وحفظ واستذكار، ولا مجال للاجتهاد ولترويض العقل برياضات إنتاج الجديد والأصيل من الأفكار. أما إذا ما تجرأ أحد من تلاميذنا وحاول أن يقدم شيئاً جديداً فإننا نقابله بالتهكم وبالتصفير وربما بالتندر حد إعلانه التوبة من الفكرة الجديدة أو من محاولة التفكير بطريقة إبداعية.
وما دمنا نناقش قدرات الحضارات المتنوعة على الابتكار وتقديم الجديد والشجاع من الأفكار، فإن للمرء أن يلاحظ أن الإعلام يمثل أحد أهم البيئات أو الأواني المشجعة على الأفكار الجديدة، ابتداءً من سك وتركيب الكلمات الجديدة وتثوير اللغة إلى تقديم أفكار مفيدة ومهمة للمجتمع. هذا، بكل دقة، ما تحقق قبل بضعة أسابيع في نيويورك حيث تم ابتكار إسم جديد يضاف إلى قاموس اللغة الإنكليزية، وهو: Newseum، وهي لفظة مركبة من news بمعنى الأخبار، والنصف الثاني من كلمة museum بمعنى المتحف. وهكذا جاء العقل الإعلامي هناك بفكرة متحف الإعلام أو المتحف الإعلامي. هذا متحف طريف ومهم، ليس لطلبة أقسام الإعلام فقط، باعتباره يؤرخ للأدوات التي استخدمت في العمل الصحفي من بداياتها حتى اللحظة، ولكنه مهم كذلك بالنسبة للجميع لأنه يؤرخ للأحداث التاريخية التي رصدها الإعلام والتي حظيت باهتمامه: من صور وأخبار وتعليقات ومقالات وأجهزة واتصالات. هذا نوع مهم من الأرشفة الثقافية التي يتوجب أن تتوافر في بلداننا العربية. ولكن، مع هذا، يبقى المبتكر (إذا ما حاولنا محاكاته) مستورد. والسؤال الأهم هو: لماذا لم نبتكر مثل هذه الفكرة “هنا”، ولماذا ننظر إليها كفكرة أصيلة جديدة تستحق المحاكاة “هناك”؟
© منبر الحرية، 29 أبريل 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

ما احتاج العقلُ الأصوليّ إلى كثير من إعمال الفكر ليهتمّ بالآخر “المغاير” له دينيا وثقافيا، وإنّما بادر بإعلان “جاهلية العالم” منذ اللحظة الأولى لتشكله متذرعا في ذلك بسيادة وهيمنة ما أسماه “عقلية الغاب” على مقدراتِ العالم. ومن المفارقات الغرائبيّةِ في هذا الإطار أنّ العقل الأصوليّ، وفيما يسوق براهينه لتبرير نظريتهِ هذه، قد تذرّع بالقول: إنّ الجاهليّة الجهلاء التي باتت تسود عالم اليوم ستؤدي حتما إلى نشأةِ حروب وحشيّة وطاحنة، على النحو الذي عانت منه البشرية إبان الحربين العالميتين: الأولى والثانية!
في مقابل ذلك، زاوجتِ الأصوليّة في طرحها بين مصطلحين مهمين في إطار القول بجاهليّة العالم وهما: الجهاد والسلام، مؤكدة أنّ تعطيلَ دور الإسلام قد أدّى إلى تحريك النعراتِ القوميّة والمذهبيّة وصولا إلى الطائفية. ممّا يعني أنّه في حال “عدم تعطيل دور الإسلام” لن يكون لمثل هذه التنويعاتِ والتعددّات السياسيّة والثقافيّة أيّ وجود يُذكر نظرا لسيادة المنظور الأحاديّ والمنطق الاقصائيّ الاختزاليّ الذي يُفهم الإسلام من خلاله لدى العقل الأصوليّ.
وبحسب الأصوليّة الإسلامويّة أيضا، فإنّ الإسلام لا يجوز له أن يخضع بدوره إلى الواقع العالميّ “الجاهلي”، وإنّما يتوجبُ عليه أن يواجهه لا ليتحاور معه وإنما ليُخضعه لتصوراته ومفاهيمه ومنهجه فيُبقي منه ما هو فطريٌ وضروريّ ويتركُ ما هو “طفيلي” ومؤدٍ إلى فساد العالم. وبهذا تتحدد ملامح النظرة إلى النظام العالميّ لدى الأصوليّة في إعمال مبدأ المواجهة لا الحوار، والإقصاء لا القبول بالتعددية، في احتواء الآخر لا تركه يختار طريقة حياته وإلا سيتابع خطى الجاهلية التي تهيمن على العالم!
وتلك معركة مصيرية بحسب الأصولية التي تؤكد أنّه هكذا كان الإسلام يوم أن واجه جاهلية البشرية منذ قرون، وهكذا هو اليوم يواجه الجاهلية في كل زمان ومكان. فالمجتمع الجاهلي، سواء في القرن السابع الميلادي/الأول الهجري أو في القرن العشرين/الرابع عشر الهجري، يتمتع بنفس صفات الجاهلية، وعلى رأسها ظهور الخلل في العقيدة وتعدد صور الشرك العقدي.
وفي المحصلة، تعتبر الأصولية الإسلاموية (سواء في شكلها الحركي أو في شكلها المؤسساتي) عدم الخضوع للقوى الحاكمة واجبا مقدسا لا يمكن المساس به. ليس غريبا إذاً، والحالة هذه، أن يُصدر رموز هذه الحركات بيانات تكفيرية للغرب فيما هم يتمتعون بحق اللجوء السياسي فيه!
وإلى جانب ذلك، تعاملت معظم الحركات الأصولية الإسلاموية مع الأنظمة السياسية القائمة، منذ أوائل العشرينات وحتى اليوم، على أنّها أنظمة جاهلية حتى وإن ادعت عكس ذلك.
وفي السياق ذاته تؤكد الأصولية رفضها القاطع لكافة أشكال التعددية السياسية والدينية (والاقتصادية أيضا حيث لا مجال للحديث عن أية أنظمة اقتصادية أخرى بخلاف ما يسمى بالنظام الاقتصادي الإسلامي)، وذلك بحجة الخوف على المجتمع المسلم من الوقوع في “الفتنة” (فتنة التحزب بالنسبة للسياسة، والتمذهب بالنسبة للدين، وفتنة الوقوع في فح المعاملات الربوية بالنسبة للاقتصاد…إلخ).
ليس غريبا إذا أن تؤكد الأصولية أن انتشار النزعة القومية تعد من أهم النكسات الحديثة التي لحقت بالأمة الإسلامية. وتبعا لذلك، فإن ظاهرة الشخصية الإقليمية أو القومية هي برأي الأصولية “صنعة الاستعمار الكافر، وتقوم على أساس تعميق الفواصل اللغوية والمذهبية والعرقية بما يخدم مصالح الاستعمار المتجددة، ولهذا فإن القومية هي عنصر إضعاف وإثارة تناقضات”.
القومية بهذا المعنى مرفوضة جملة وتفصيلا لدى الأصولية بذريعة أن مهمة الإسلام لا تكمن في الذوبان التام ضمن تضاعيف المفاهيم الإنسانية المفتعلة برأيها داخل أو خارج العالم الإسلامي (تعددية، عِلمانية، ديمقراطية، ليبرالية…إلخ) وذلك بحكم “الأمانة” أو “المسئولية” التي ألقاها الله على عاتق هذه الأمة والتي تستوجب، ضمن ما تستوجب من أمور أخرى بطبيعة الحال، أن لا تُذَل لأحد وألا تُستعبد لأحد لأنّ الله قد قضى أنْ لا “يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا”.
وهذا المعنى تحديدا يتردد كثيرا في أدبياتهم، بمعنى أنه لا يجوز للمؤمن الذي رضي بالاحتكام لشريعة الله مطلقا أن يحتكم لأية شريعة إنسانية أخرى كمرجعية حاكمة لتوجهاته العلمية والعملية “فالمؤمن لا يستحق لقب الإيمان حتى يجعل منهج الله منهجه وشريعة الله شريعته فلا يتخذ من عند بني الإنسان منهجا ولا شريعة ولا نظما لأنّه ما إن اتخذ أيا منها كفر على الفور بألوهية الله”!
بمعنىً آخر، فإنّ كل من يرفض إفراد الله بالإلوهية إنما يكفر معه كل من يُقره على ادعاء حق الألوهية لنفسه، فالطاغوت هو كل سلطان لا يستند إلى سلطان الله وكل وضع لا يجعل شريعة الله أساسا للحياة.
ومن ثم، لا يجوز الاحتكام مطلقا إلى التشريعات العالمية بزعم أن الإنسان لا يملك لا القدرة ولا حتى الاستعداد الذي يؤهله لوضع منهج عادل ومتكامل فيما هو يجهل مآلات رغباتِه وأعمالِه مدللين على ذلك بقوله تعالى: “ثم جعلناك على شريعةٍ من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون”.
وانطلاقا مما سبق، ترى الأصولية في الجهاد حلا مناسبا لمواجهة هذا الواقع وتقويمه ليناسب منهج الله ويزيل الجهالة عن المجتمع العالمي المعاصر. ووفقا لهم، فإنّ كل مجتمع تتجمع فيه الناس لروابط لا تتعلق فيه الإرادة الإلهية، كرابطة المال والعاطفة واللغة والإنتاج والأرض والانتماء المذهبي أو العرقي أو حتى السياسي، فهو مجتمع “جاهلي”.
من أجل هذا يتوجب على المسلمين اليوم، وكل يوم، ملاحقة الأصل الذي شرّعه الله “وفتح المواجهة مع الجاهلية التي لا تتحدد بزمان أو مكان. المواجهة التي تهدف إلى هدم الجاهلية واقتلاع جذورها من أجل الشروع في بناء بنيان راسخ وعادل”. ( سيد قطب: المستقبل لهذا الدين)
فالإسلام، بنظر الأصولية، مكلف
أولا بالدفاع عن الأمة والذود عنها ماديا ومعنويا
ثانيا بضمان حرية الدعوة للإسلام وإزالة كل قوة طاغية تمنع وصول هذه الدعوة للعالمين
ثالثا بإقرار سلطان الله في الأرض ومقاتلة المعتدين على هذا السلطان الذين يدّعون “حق التشريع من دون الله”.
يتحصل مما سبق أن الفكر الأصولي ينزع في مجمله لنفي كل تعددية قائمة أو حتى محتملة مستقبلا وهو ما يعبر عنه سيد قطب في عبارة مكثفة يقول فيها: “إنَّ المؤمن هو الأعلى..الأعلى سندا ومصدرا، فمَا تكونُ الأرضُ كلها؟ وما يكونُ الناس؟ وما تكونُ القيمُ السائدةُ في الأرض؟ والاعتباراتُ السائدةُ عند الناس؟ وهْوَ من اللهِ يتلقى، وإلى اللهِ يرجع، وعلى مَنْهَجِهِ يسيْر؟”.
* د. محمد حلمي عبد الوهاب باحث وكاتب مصري
© منبر الحرية، 17 أبريل 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

منذ اللحظات الأولى لتأسيسه، نَظَرَ تنظيم “القاعدة” إلى الصومال نظرة خاصة، ومنذ مطلع تسعينيات القرن الماضي احتلّت هذه الدولة، التي تحوّلت شيئاً فشيئاً إلى أشلاء دولة، احتلّت موقعاً مميزاًً في إستراتيجيته العالمية. وتكشف وثائق التنظيم ومراسلاته السرية، كما عملياته، عن هذه المكانة بوضوح. ففي العام 1993، توجّه بعض قادة “القاعدة” إلى هذا البلد في رحلة وصفتها أدبيات التنظيم بـ “رحلة الثواب” أو “عملية المسك”. وكان الهدف منها إنشاء معسكرات بديلة أو موازية لمعسكرات “القاعدة” بأفغانستان في كُلٍّ من بوصاصو ولوق وإقليم أوغادين، وتأمين كادر تدريبي فعّال ونشِط. وقد عُدّت هذه الزيارة البداية الحقيقية لتغلغل تنظيم “القاعدة” في الصومال وبقية بلدان القرن الأفريقي.
ومنذ ذلك الحين وتنظيم “القاعدة” يحاول الحفاظ على موطئ قدم دائم له في الصومال، مُستغِلاً حالة الحرب الأهلية الطويلة الأمد وهشاشة المؤسسات المركزية الحاكمة فيه، بهدف تحويل هذا البلد إلى ساحة مركزية لنشاطاته (التي تتضمن نقل العملاء والمعدات والتجهيزات العسكرية عبر الحدود الصومالية إلى دول الجوار)، وكذلك إلى ملاذٍ آمنٍ وقاعدة خلفية لتحركاته وهجماته الإرهابية التي تستهدف تلك الدول.
ورغم أن أنشطة “القاعدة” في الصومال لم تأخذ زخماً كبيراً وتصاعدياً كما كان متوقعاً، لاسيما بعد تمكُّن الأميركيين من تقويضها بشكل كبير في إطار حربهم على الإرهاب، لكن قدرة التنظيم على حماية وجوده ما تزال واضحة للعيان، خاصةً بعد دخوله في تحالفات وتفاهمات مع بعض جماعات العنف الصومالية الإسلامية المتشددة كحركة “شباب المجاهدين” (الفصيل الذي انشق مؤخراً، وتحديداً في كانون الأول/ ديسمبر من العام 2007، عن المحاكم الإسلامية). والظاهر أن التنظيم بدأ يدرك أن بقاءه هناك يتطلب مجهوداً إضافياً، وأن عليه العمل بسرعة على توسيع نطاق تحالفاته على الأرض الصومالية، وفي الوقت نفسه تأمين التمويل اللازم لاستمرار أنشطته وقدرته على التجنيد والاستقطاب وتخطيط العمليات وتنفيذها في الزمان والمكان اللذين يحددهما.
ويبدو أن التنظيم وجد في الآونة الأخيرة ما يبحث عنه، من خلال ملاحظته لتطور عمليات القرصنة قبالة السواحل الصومالية. فمن ناحية، تُغري ظاهرة القرصنة البحرية التنظيم بإعادة التفكير في أولوياته الإستراتيجية في المنطقة؛ فبدلاً من التركيز على البرّ بشكل شبه مطلق ثمة فرصة حقيقية لشنّ عمليات مؤثرة وصاخبة في البحر أو ضد أهدافٍ مُحاذيةٍ له، وهذه الأهداف كثيرة وضربها يَسيْرٌ ولا شك (مرافئ، وسفن تجارية، وناقلات نفط، وأساطيل وقطع حربية غربية تمخر عباب خليج عدن والمحيط الهندي بلا توقف). أما وسائل الهجوم والدعم اللوجيستي فمتوافرة هي الأخرى؛ وإذا صدقت معلومات جهاز الاستخبارات النرويجية، فإن “القاعدة” قد تكون تملك (أو تتحكم في) ما يتراوح بين 15 و23 سفينة تحمل أعلام اليمن أو الصومال وتونغا.
وفي هذا السياق، يمكننا فهم الدعوة التي أطلقها تنظيم “القاعدة” لأتباعه وأنصاره في اليمن قبل أشهر قليلة، وحضّهم فيها على “السيطرة” على الملاحة البحرية في جزيرة العرب في إطار ما عدّه التنظيم “ضرورة إستراتيجية” له. ففي رسالة بعنوان “الإرهاب البحري ضرورة إستراتيجية” تناقلتها في نيسان/ أبريل من العام الماضي 2008 مواقع إسلامية عديدة مقربة من التنظيم، ثمة تأكيد على “أن طلائع مُسلّحة قبالة الشواطئ اليمنية تقوم [منذ أكثر من عام] باصطياد السفن التجارية والسياحية والنفطية واحدة تلو الأخرى، و[أنه] بات من الضروري في المرحلة الحالية على المجاهدين وهم يديرون معركة عالمية لاستعادة الخلافة الإسلامية وحكم العالم بها، أن تكون الخطوة التالية هي السيطرة على البحر والمنافذ البحرية بدءاً بما حول الجزيرة العربية”، وأنه “كما نجح المجاهدون بتشكيل سرايا الاستشهاديين على الأرض، يبقى البحر الخطوة الإستراتيجية التالية نحو سيادة العالم وإعادة الخلافة الإسلامية”.
وتشدد الرسالة على أن “الشواطئ اليمنية تعد من أهم المنافذ البحرية للسيطرة على البحر العربي وخليج عدن”، وأنها “نقطة إستراتيجية لطرد العدو من أهم أركان معركته؛ فإذا لم يتمكن من حماية نفسه في تلك المنطقة الإستراتيجية فإنه لن يستطيع حماية نفسه على الأرض وقواعده البحرية تحت ضربات المجاهدين”. وكالعادة، استعرضت الرسالة بعض ما وصفته “نجاحات المجاهدين البحرية العالمية والعربية”، مُشيرةً إلى أنهم نجحوا في “ضرب أهداف صهيو- صليبية في البحر مرتين: الأولى كانت تهيئة للغزوتين المباركتين في نيويورك وواشنطن بضرب المدمرة الأميركية (كول) في تشرين الثاني/ أكتوبر 2000، ثم ناقلة النفط الفرنسية (ليمبورج) في العام 2002”. وتمضي الرسالة في تهديدها، مؤكدة أن “ساعة الحسم” قد اقتربت، وحينها سيشهد الجميع لحظة “تركيع قيادة الحملة الصهيو-  صليبية إلى طاولة المجاهدين ليفرضوا عليهم شروطهم؛ بالخروج من ديار المسلمين مع تسليم أسلحتهم للمجاهدين، وإيقاف الدعم للاحتلال اليهودي في فلسطين، وعدم التدخل في شؤون المسلمين أو دعم حكامهم وأنظمة الجور والفجور والفساد فيها”.
ومن ناحية ثانية، وعطفاً على ما سبق، قد يرى التنظيم الذي يُراقب باهتمامٍ متزايد نشاط القراصنة الصوماليين المثير في مياه خليج عدن والمحيط الهندي، أن له مصلحة مؤكّدة في دعم هؤلاء وتوثيق صلاته معهم على نحوٍ يتيح له توفير عوائد مالية ضخمة تساهم في تمويل أنشطته المختلفة، وتعزيز وجوده في المنطقة. وعلى الرغم من عدم توفر دليل حاسم حتى اللحظة يؤكد تورّط “القاعدة” في أنشطة القراصنة المتزايدة، إلا أن ملاحظة سيكولوجية جماعات العنف المسلح بشكل عام تُبيّن، وباستمرار، أن لديها ميولاً كامنة تُحفّزها على استغلال (وانتهاز) أي فرصة متاحة من أجل رفد كيانها بفائض قوة ما انفكت تحتاج إليه في إطار محاولتها الحفاظ على نفسها وحماية وجودها في مواجهة جميع الأخطار المُحدِقة بها؛ والشاهد الأكثر وضوحاً على ميلٍ كهذا لجوء تنظيم “القاعدة” ذاته إلى الاتجار بالمخدرات في إطار حرصه الدءوب على البقاء، ومقاومة شتى الضغوط والسياسات التي تهدف إلى تجفيف ينابيع تمويله ومحاصرته تمهيداً للقضاء عليه.
© منبر الحرية، 14 أبريل 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

على عكس بديهيات العالم، بدلا من أن تؤدي كثرة النقاش حول قضية ما إلى المساهمة في ثرائها ومن ثم الوصول إلى حل بشأنها؛ لا يزيد النقاش المحتدم في عالمنا العربيّ حول الدينيّ والسياسيّ إلا في ازدياد ضبابية المواقف والقضايا وبالتالي عدم إمكانية حسمها، على الأقل في الوقت الراهن.
غير أنَّ لكلِّ زمان “وقته الراهن” ولكل جيل زمنه الخاص والنتيجة الطبيعية لتتابع الأوقات “الراهنة” هي البقاء “محلك سر”، كما يقول المصريون، بحيث تتأبد “الراهنيَّة” ويتأبد معها الإشكالُ موضعَ الخلافِ أو التساؤل!!.
وربما يحِّقُ للقارئ أن يتساءل: إذن ما الحل الذي بإمكانك أن تقدمه هنا؟ وما الجديد الذي يمكن أن يحمله مقالكَ في ضوء تقديم استفزازيٍّ كهذا؟!. واقع الأمر أنني لن أسعى إلى إعمال مبدأ المراوغة الفكرية والإجابة عن تساؤل القارئ بطرح سؤال آخر. لكني أعتقد أنه من دون مصارحة الذات والحديث عن القضية محل النقاش بوضوح شديد والتنفيس عمَّا يعتمِلُ في نفس الكاتب والقارئ معا فلا إمكانية لحل مثل هذه القضايا.
وهنا سأضطر آسفا للرجوع مرة أخرى لسياق الأسئلة الشائعة وعلى رأسها: لماذا نجحت اليابانُ وفشلت مصر (بطبيعة الحال ليس في مجال كرة القدم!!)؟! ولماذا نجحت أيضا المجتمعات الأوربية إبان عصر النهضة في الانتقال إلى نمط العلمنة فيما فشلنا نحن؟ ولماذا كل هذا الوقت والجهد الذي يبدو للبعض أنه لا طائل من ورائه في الحديث عن الإسلام والعلمنة؟ أليس من المريح القول بأننا شعوب إسلامية وكفى!، وأنه لا حاجة بنا إلى التعويل على أية أنظمة أخرى؟!.
لنعكس وجهة السؤال الأخير كي ما تتضح الصورة أكثر فأكثر: وما الذي أفضت إليه أفكار العقلانية والتنوير والعلمانية التي أخذ بها البعض في مجتمعاتنا العربيّة الإسلاميّة؟!، وهو ما يجرنا إلى تساؤل آخر: هل المشكلة تكمن في بنية مجتمعاتنا أم في الأنساق الفكرية أولا، السياسية ثانيا، التي تتبعها الدولة في تسيير شؤونها؟ ولماذا يُنظر إلى الدين لدى البعض باعتباره عائقا يحول دون إحراز التقدم فيما على العكس من ذلك تماما ينظر إليه الآخرون باعتباره قوة دافعة للإنجاز والعمل؟!.
سأتوقف عن إثارة المزيد من الأسئلة، ربما لأنَّها بدورها لا تنتهي، محاولا إلقاء الضوء على بعض جوانب المشكلة. ولنبدأ بتحليل مأزق “العلمنة” في عالمنا العربيّ مقارنة بعصر النهضة الأوربي لنتعرف على السياقات والتمايزات وأوجه الاتفاق والاختلاف ما بين التجربتين التاريخيتين.
غير أنه يتعين علينا أن نوضح بداية أنَّ تمايز الأوضاع في عالمنا العربيّ عن نظيره الأوربيّ لا يصِح أنْ يُتخذ ذريعة، كما يروقُ للبعض، لرفض العِلمانية كليَّة، أو التذرع بما يسمى الخصوصيّة/ “الاستثنائيّة العربيَّة” لتفسير تعثر حدوث التحول الديمقراطي بدول المنطقة. ففي الحالتين معا نحن إزاء التفافٍ على موضع الإشكال وهروبٍ من مواجهة الذات ليبقى التساؤل كما هو: لماذا فشلنا وتقدم غيرنا؟!.
وفي الواقع، لا يزالُ البعض يتوهم أنَّ الدول الأوربيَّة التي أنجزت في مراحلَ تاريخيّة معينة فصلا وظيفيا ما بين المؤسسات السياسيّة والدينيّة، خاصة ما يتعلقُ بوضعيّة الرموز الدينيّة في الفضاء الرسميّ وما ارتبط بذلك من صراع دامٍّ توزّع بين منطق الاستبعاد الكامل (الحالة الفرنسية) أو محاولة البحث عن حلول وسطى (الحالة الألمانية)؛ يُخيَّلُ للبعض أنَّ هذه الدول لا تدور في رحاها اليوم نقاشات ثرية حول وضعية الدين في المجتمع المعاصر، أو بالأحرى استمرارية الانشغال بالظاهرة الدينية ككل!
فعلى العكس من ذلك تماما، وعلى الرغم من الطابع العلماني للمجال السياسيّ في الدول الأوربيّة الحديثة، لا تزال هناك مساحة من التداخل بين الدينيّ والسياسيّ في الخارطة الثقافية للمجتمعات الأوربيّة وهو ما يبدو واضحا من خلال التشكيلات الحزبيّة ذات الطابع المسيحي، وأيضا من خلال تعاظم الدور العام والوزن النسبي للمؤسسة الدينيّة وخطابها المجتمعي، كما في حالتي إيطاليا وألمانيا على وجه الخصوص.
ومع الأخذ في الحسبان تنوع الخبرات التاريخيّة في العالمين العربيّ والغربيّ، إلا أنَّ الفارق الرئيسي بين التجربتين ربما يتعلق بتوافر أو غياب آلياتٍ مؤسسيّة مقبولةٍ مجتمعيا تساهم في تطوير صياغات توافقية للعلاقة الحاكمة بين كل من: الدّين والمجتمع والسيّاسة.
غير أنَّ محاولات العلمنة التي تمت في إطار ما يسمى بالنهضة العربيّة الحديثة تختلف في الواقع اختلافا كبيرا عن منظومة التحولات الشاملة التي تمت في أوربا وعلى مستوياتٍ عدة من بينها: أنّ علمنة المجتمعات الأوربيّة كانت جزءا من عمليات تحول شامل حيث لم يقتصر الأمر على تغيير بُنى العلاقة القائمة ما بين الكنيسة والدولة فقط، وإنما شملت أيضا وضع حدّ قانونيّ لحق الملوك في السيادة وبالتالي التحول إلى الجمهورية وانتقال السلطة إلى الشعب (حالتي فرنسا وأميركا) أو إلى البرلمان (حالة بريطانيا).
الملمح الثاني من ملامح اختلاف الخبرتين التاريخيتين يتمثل في طول حقبةِ عمليات التحوّل الشاملة بأوربا مقارنة بالعالم العربيّ حيث امتد النضال الإصلاحيُّ من القرن الثالث عشر حتى قيام الثورة الفرنسيّة في القرن الثامن عشر الميلاديّ، أي قرابة خمسة قرون متتالية بدأت بظهور حركة الإصلاح الدينيّ، مرورا بظهور الفكر السياسيّ العقلانيّ التجريبيّ، وليس انتهاءً بظهور موجات الحداثة والتنوير المعاصرة، فيما لم تتعدَّ الخبرة العربيَّة المعاصرة حدود قرنين من الزمان.
أضف إلى ذلك أيضا أنَّ المؤسسة الدينيّة الغربيّة قد تفاعلت مع التحولات المجتمعية بصورة مباشرة فقامت بعلمنة رؤاها الدينيّة وغيّرت من هياكلها التنظيميّة في ضوء هذه العلمنة. أمّا في التجربة العربيّة الإسلاميّة، فلا يزال الكثيرون داخل المؤسسات الدينيّة وخارجها يحاجونَ ضد القول بوجود ما يسمى بطبقة “رجال الدَّين” في الإسلام، فضلا عن الارتباط الوثيق بينهم وبين كل من القداسة والأنظمة السياسيّة.
وفي ضوء هذا الملمح الأخير يتعذر القول بإمكانيّة علمنة المؤسسة الدينيّة، مثلما يتعذر على رجال الدّين الإقرار بوجود قواسم مشتركة، أو على الأقل مساحات تقريب، بين الإسلام والعِلمانيّة. لكن ماذا عن اجتهادات المصلحين والمجددّين؟ وما حقيقة موقفهم من إشكالية السياسة والدّين؟ وهل من الممكن أن تتضمن رؤاهم الإصلاحيّة حلا لمعضلة الدّين والدّولة، والتي أعيت الإسلاميين والعِلمانيين معا؟ .. تلك أسئلة تبقى قائمة.
© منبر الحرية، 27 فبراير 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

أحيا انتخاب باراك أوباما رئيساً للولايات المتحدة آمالاً عريضة بالتغيير في العالم أجمع. وعلى قاعدة هذه الآمال العريضة تجرأ بعض المفكرين والمحللين الأمريكيين إلى اعتبار انتخابه مثابة ترميم السمعة الأمريكية في العالم. تلك السمعة التي يرى فرنسيس فوكوياما أنها تضررت أشد الضرر في عهد الرئيس جورج بوش الابن. والحديث عن السمعة في هذا المجال يتصل بدور الولايات المتحدة الأمريكية في العالم، من ناحية أولى، أقله بالنسبة للأمريكيين أنفسهم، لكنه أيضا يتصل اتصالاً وثيقاً، من ناحية ثانية، بحظوظ التغيير في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها.
مروحة هذا التغيير المرتقب واسعة جداً. حيث يعقد البعض أمالاً كبيرة على أصول باراك أوباما الإفريقية، بوصفها إن لم تكن انتماء بالدم إلى عالم ثالث مغرق في أزماته، فهي على الأقل معرفة ملموسة بأحوال هذا العالم ومشكلاته العميقة والمعقدة. إلى آخرين يظنون إن تحدر الرئيس المنتخب من صلب أب مسلم سيجعله يولي العالم الإسلامي جل عنايته، هذا إذا لم ينحز إلى قضاياه ويعبر عن مصالحه وهو يشغل أعلى موقع في دائرة القرار الأمريكية. وبين هذا وذاك، ثمة في العالم من يعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية ستكون في ظل حكم أوباما أكثر قرباً وتفهماً لمفاهيم العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروات، وهذه تعابير ملطفة يجهر بها يساريو العالم اليوم لتحل محل تعابير ومفاهيم الاشتراكية والشيوعية في الستينات والسبعينات من القرن الماضي.
لكن الحريصين والمتشائمين في أمريكا وخارجها يرون أن هذه الآمال ليست مبالغاً فيها فحسب، بل أنها لا تمت إلى الوقائع بصلة من الصلات. حجة هؤلاء المفحمة، أن الولايات المتحدة الأمريكية أولاً وآخراً، هي دولة تدافع عن مصالحها، وان مصالحها الحيوية، داخلاً وخارجاً، تفرض عليها أن تبقى في موقع مختلف ومناقض تماماً لهذه الآمال. والحق أن المسألة التي ينبغي مناقشتها في هذا السياق لا تتعلق بحظ هذه الفئة من المتشائمين أو تلك الفئة من المتفائلين من الواقعية والصحة. بل أن الأمر يتعدى مجالي الصحة والواقعية إلى مجال أكثر دقة يتعلق تعلقاً مباشراً بصحة المفاهيم التي يقيس أهل الفئتين على أساسها أراءهم ويعلنون مواقفهم.
الفئة الأولى تفترض أن أصول الرئيس المنتخب العرقية والدينية والجغرافية سوف تتغلب على حبال الوقائع التي تشد أوباما إلى مواطنته الأمريكية وتالياً إلى الأحكام التي تفرضها رئاسته للولايات المتحدة، بوصفه المخول بالدفاع عن مصالحها أولاً وأخيراً. وفي هذا التمني الذي يبديه البعض حيال حتمية غلبة الأصول على الوقائع، ما يجافي منطق الأنظمة الديموقراطية برمتها، التي يصعب الإفلات من قيودها المحكمة، والتي تستبعد ثورات التغيير وتكبل الانقلابات الكبرى بألف قيد وقيد. فيما تسمح للتغيرات البطيئة أن تمر عبر قنواتها منذرة بتغييرات طفيفة يمكن أن يؤدي تراكمها على مر الزمن إلى تغييرات ملحوظة. والحق أن مثل هذا الرأي لا يملك حظاً من الوجاهة قد يدفع أي كان إلى صرف الوقت في مناقشته، فأوباما ليس إفريقيا ً اسوداً وليس مسلماً، بالمعنى الذي يكون عليه رجل مسلم يعيش في كينيا ويخضع لمترتبات العيش هناك. فهو في نهاية الأمر واحد من الذين تدرجوا في مدارج السياسة الأمريكية وتعلم في مدارسها وتخرج من أحد حزبيها الكبيرين، ولم يأت من مجهول غامض لا تاريخ له ليسكن البيت الأبيض ويقود السياسة الأمريكية.
أما الرأي الثاني الذي ينكر كل احتمال تغيير في ظل رئاسة أوباما، فيبدو في حقيقة الأمر متناقضاً مع المنطق الذي ينطلق منه. مثل هذا الرأي يبنى في كل مكان من العالم على قاعدة قناعة بأن الولايات المتحدة الأمريكية بسبب موقعها ومصالحها، هي الدولة التي يجدر باليساريين مقاتلتها على طول الخط، لأنها تمثل واقعاً، وعملياً هي خلاصة التعسف الرأسمالي الذي يعيث فساداً في مجتمعه وفي العالم طولاً وعرضاً. هذا الرأي الذي لا يشذ عن الإيمان به يساريو الولايات المتحدة أنفسهم، يفصح أن التغيير ممكن في كل مكان من العالم، إلا في الولايات المتحدة. وأن الولايات المتحدة الأمريكية محكومة بأن تبقى، إلى حين هزيمتها النهائية، شيطان الرأسمالية الذي لا يرحم. ورغم أن الحكم في روسيا مثلاً ليس اقل رأسماليةً ولا أقل اعتماداً على اقتصاد السوق من الولايات المتحدة، إلا أن هؤلاء الذين يشيطنون أمريكا لا يتورعون عن إبداء رغبتهم بعودة العملاق الروسي لينافس أمريكا على حكم العالم وقيادته وهزيمتها أن أمكن. فالرأسمالية الروسية والفوضى الاقتصادية المتوحشة التي تسير السوق الروسية لا تخيف هؤلاء ولا تجعلهم يفكرون في ما يدعون إليه مرتين. هؤلاء اليساريون على ما نعلم هم ورثة كارل ماركس الذي كان ركناً أساسياً من الأركان الفكرية الثلاثة، (ماركس، نيتشه وفرويد) التي أحلت التاريخ محل الغيب، وقدمت الوقائع على الأحلام، بل سعت في ما سعت إليه ( أي هذه الأركان الثلاثة) إلى عقلنة الأحلام نفسها، وأخضعتها إلى تقنيات التأويل التي نعرفها ونجيدها اليوم. لكن هؤلاء اليساريون، يخالفون منطق التأويل برمته حين يتعلق الأمر بالولايات المتحدة، فيمنعون عنها كل احتمال تغيير، وينصبونها عدواً أبدياً لأفكارهم وتطلعاتهم، لا لسبب يتعلق بنظامها السياسي، وهو نظام له ما يناظره في أنحاء العالم كله، ولا لعلة كامنة في ديموقراطيتها، وهي ديموقراطية متقدمة على ما يعترف الجميع. بل لأن يساريي اليوم، على غرار الأصوليين المذهبيين يريدون شيطاناً ليرجموه. ومن دون وجود هذا الشيطان واستحالة إصلاح حاله، لا تستقيم دعاويهم ولا تعود افكارهم قابلة للتداول.
والحال هذه، لا يعود مستغرباً أن يعلن نعوم تشومسكي، احد المع نجوم اليسار في العالم أجمع، بعد زيارته أمين عام حزب الله في لبنان السيد حسن نصر الله، بعيد انتهاء حرب تموز العام 2006، انه تعلم من هذا الأخير الكثير. ذلك أن الكتاب الذي يقرآن فيه له غلاف واحد. لكن ما ينبغي التأكيد عليه في هذا المجال هو أن السيد نصر الله لا يقرأ في رأس المال.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 13 ديسمبر 2008.

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

شكلت هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) وما تبعها من ’حرب على الإرهاب‘ الفرصة السانحة لمؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية، والتي افتقدت منذ نهاية الحرب الباردة لخطر العدو. كانت فرصة لخلق عدو و بعبع جديد متمثلا بالإسلام الراديكالي، أو ما يعرف ب”الخطر الأخضر” . مصطلح كنت قد استخدمته في مقال قبل 15 عاما في مجلة الشؤون الخارجية في ربيع العام 1993. فقد شكَّكتُ بنظرية صموئيل هنتنغتون بخصوص صدام الحضارات. نظرية تتوقع أن الغرب والإسلام سينخرطان في صراع دموي طويل من أجل السيطرة على الشرق الأوسط، بما في ذلك منابع النفط.
لقد اعتنق المحافظون الجدد المتحمسون، والذين هيمنوا على مؤسسة السياسة الخارجية للرئيس جورج بوش الابن، فكرة هنتغتون حول المجابهة بين الإسلام والغرب. فهم ينظرون إليها على أنها سبيل يمكن من خلاله تبرير استخدام القوة العسكرية الأمريكية لبسط سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، وفرض القيم الأمريكية أو ما يعرف بـ”أجندة الحرية” للتعامل مع احتمال ظهور خميني جديد من الفاشية الإسلامية، مسلحا بالفكر الراديكالي، مزودا بالأسلحة النووية، راغبا في شن هجوم جهادي عنيف ضد الحضارة الغربية.
واستنادا إلى معتقدات المحافظين الجدد، التي حاول بوش تطبيقها في بلاد الرافدين، سيكون العراق الحر والديمقراطي مثالا يحتدى في الإصلاح السياسي والاقتصادي للعالم العربي، وللشرق الأوسط برمته، وسيطلق العنان لسلسلة من الثورات السلمية الديمقراطية من الحدود الإسلامية المتاخمة للصين، مرورا بإيران وسوريا ولبنان وفلسطين وصولا إلى حدود البلقان. لذا توقع أنصار بوش، واضعين نصب أعينهم التغيرات الكبرى التي حصلت في أوربا الشرقية بعيد انهيار الاتحاد السوفيتي، توقعوا أن تسقط قطع دومينو الديمقراطية في كل من سوريا وإيران بعد سقوط صدام حسين. ورأوا أن “ثورة الأرز” اللبنانية، والانتخابات المخطط لها في فلسطين إنما يعكسان الشكل الجديد الذي ستكون عليه الأمور.
في الوقت نفسه، أصر حتى العديد من النقاد الليبراليين وخبراء السياسة الدولية، من أمثال توم فريدمان أحد أبرز كتاب الأعمدة الصحفية في صحيفة نيويورك تايمز، والمنتقد لكثير من جوانب أجندة المحافظين الجدد، أصرّوا على أن الولايات المتحدة بحاجة لإطلاق حملة ضخمة للمساعدة على تحديث/ دمقرطة / تحرير / علمنة الشرق الأوسط وبالتالي العالم الإسلامي برمته، ويفضل أن يتم ذلك من خلال الدبلوماسية والسياسات التعليمية، أو بالقوة العسكرية كآخر الحلول.
وعلى خلفية التدخل الأمريكي في حربين كبيرتين في الشرق الأوسط، والوضع المتفاقم في إيران وحلفائها الإقليميين، بدأ يتشكل إجماع متنامي بين أوساط المتحدثين في واشنطن حول ضرورة إطلاق حملة لنقل الشرق الأوسط للعصر الحديث، و القضاء في نفس الوقت على الإسلام الراديكالي. فالارتفاع السابق و المطرد لأسعار الطاقة زاد من قلق واشنطن وأثار مخاوفها حول الوصول إلى منابع النفط في الخليج العربي، وبالتالي اكتسبت نظرية صدام الحضارات بعدا جيواقتصاديا. تصوروا لو أن أسامة بن لادن سيطر على مصادر الطاقة في الشرق الأوسط، والتي تسمى أيضا “نفط العرب” واستخدمها كسلاح ضد الغرب! كما أن إخفاق واشنطن في القضاء على الإسلام الراديكالي سوف لن يعرض لخطر محدق سوى إسرائيل والحلفاء الآخرين.
إن السياسة الخارجية الجديدة، شأنها شأن الإيديولوجيات الدينية والسياسية الجديدة، تصنع من قبل مقاولين فكريين يتطلعون للفوز بمكانة وحظوة لدى الساعين خلف السلطة. وفي الوقت نفسه، يقوم السياسيون باستخدام هذه الآراء ليحشدوا الدعم الشعبي بصفتهم قادة الأمة / أو الشعب ضد تهديد خارجي يزعمون بأنه يهدد مصلحة وقيم البلد. ومن وجهة النظر هذه ، فان البعبع الإسلامي الجديد المزعوم، الذي نشره وروج له المقاولون من المحافظين الجدد، قد أسهم فعلا في خدمة مصالح مثلث واشنطن الحديدي المتمثل بالبيروقراطيين، ومشرّعي القوانين، وجماعات الضغط، فضلا عن جهات خارجية ضغطت باتجاه توسيع التدخل العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط.
لقد ساعد التهديد الإسلامي المزعوم المثلث الحديدي – تماما كما فعلت الشيوعية خلال الحرب الباردة – على خلق ضغط واسع على الميزانية المخصصة للدفاع والعمليات العسكرية السرّية ولمجموعات الضغط ، بينما سمح هذا التهديد الإسلامي – لأطراف خارجية كإسرائيل والهند والعديد من بلدان أسيا كباكستان، أفغانستان …– لإبراز أدوارهم الخاصة كبديل وحليف إقليمي لواشنطن. وفي نفس الوقت، تمكن مثقفو المحافظين الجدد بمساعدة زبانيتهم “الخبراء في تحليل الإرهاب” تمكنوا من الوصول إلى مرحلة تمكنهم من التأثير على الإعلام وعملية صنع القرار الحكومي، وحصد المزيد من الجوائز السياسية والمالية.
ومشكلة الخطط السياسة الخارجية ونماذجها هي أنها لا تعكس بالضرورة الواقع، ولكنها تراكيب فكرية لا تعكس إلا ما يدور في خيال صانعيها ومصالح مروجيها. ونتيجة لذلك، و عندما يتم تطبيق هذه السياسات التي صيغت على أساس مثل هذه الأطر المفاهيمية، فإن الواقع سيميل إلى نبذها، بل والانقلاب عليها. ففي هذا السياق، و خلال الحرب الباردة، فرضت فكرة الشيوعية العالمية التي تقودها قوة كبرى كالاتحاد السوفيتي على الولايات المتحدة حتمية الخلط بين المصالح الوطنية التي توجه سياساتها في فيتنام والصين وكوبا، والمصالح العالمية مع الاتحاد السوفيتي، مما أدى إلى نتائج كارثية على السياسة الأمريكية. وعلى نحو مشابه، بعد السقوط المدوي للاتحاد السوفيتي، اكتشف الأمريكيون أن انهيار الشيوعية لم ينتج عنه انتشار الحرية السياسية والاقتصادية في دول الإمبراطورية السوفيتية السابقة. فقد التحقت كل من هنغاريا وبولندا وتشيكوسلوفاكيا ( سابقا) بركب النادي الغربي كنتيجة لثقافاتها السياسية الأوربية، بينما اعتنقت أكثر الدول رجعية في أسيا الوسطى أنظمة سياسية شمولية وأنظمة اقتصادية مركزية. أما روسيا فتبدو وكأنها اختارت طريقا ثالثا متفردا خاصا بها، ألا وهو رأسمالية الدولة.
في تسعينيات القرن العشرين، ساد في واشنطن لغط كبير حول التحديات التي كانت تواجه الغرب على يد نموذج شرق آسيوي جديد يمتثل باليابان والقوى الاقتصادية الأخرى الناشئة في المنطقة. رواد هذا النموذج بما فيهم لي كوان يو قائد سنغافورة و هونتنغتون الذي اعتنق فكرة الحضارة الـصينية، يؤكدون بان القيم الكونفوشوسية المتفردة في الشرق الأقصى، كقيم العائلة، والتعاون، والولاء الوطني، وتفضيل مصلحة المجتمع واستقراره وازدهاره على المصالح والحريات الشخصية، وأخلاقيات العمل الجاد والتوفير ، تمثل الأسباب وراء دعم الآسيويين للحكومات الشمولية و مبدأ الرفاه الجماعي بدلا من الديمقراطية. كما يدافعون عن الفكرة القائلة أن الأنظمة الاقتصادية الرأسمالية التي تديرها الدولة هي أكثر نجاحا من الأنظمة الانجلو-أمريكية. ولكن الأزمة المالية الآسيوية في عقد التسعينيات والسياسات الإقليمية المتباعدة والأنظمة الاقتصادية في سنغافورة بالمقابل مع تايوان، قوّضت مفهوم نموذج آسيوي بارز وناجح، بالرغم من أن الصعود الاقتصادي الصيني ربما يكون قد أنعش هذه الفكرة من جديد.
في هذا السياق، يبدو الوقت مناسبا لانتقاد الفكرة المشهورة القائلة بان العالم الإسلامي أو الشرق الأوسط، أو العالم العربي – وهي بالمناسبة مصطلحات تستخدم بطريقة متشابهة و على نحو تبادلي في الإعلام الأمريكي- عالم يمتلك ثقافة سياسية واقتصادية أحادية متجانسة متفردة تجعل منه ندا مقاوما لتأثيرات التجديد الغربية. نلاحظ هنا أيضا انه يتم استخدام مقدار من العناوين والتوصيفات، بما فيها الديمقراطية، الرأسمالية، العلمانية والحقوق المرأة، مقترنة بالحداثة والتغريب.
ويقترح أنصار هذه الفكرة أن الجهد الذي تقوده أمريكا هو وحده القادر على إحداث التغيير الثقافي والسياسي المطلوب والإصلاحات الاقتصادية، وجعل الشرق أوسطيين/ العرب/ المسلمين “أكثر شبها بنا”. ولكن الخطأ هو أن هذه الـ (بنا) لا تمثل غربا موحدا ومتجانسا، بل خليط من : الجنوب الأمريكي البعيد والذي سادت فيه التشريعات العنصرية حتى ستينيات القرن العشرين، وسويسرا التي لم تمنح النساء حق التصويت حتى العام 1971، ونموذجا رأسماليا أنجلو- سكسونيا، ورأسمالية اشتراكية ألمانية، مدينة خليعة كلاس فيغاس، و مدينة مفرطة بالاحتشام كمدينة ليك ، وشمال أوربا “الملتزمة بالقانون”، وجنوب أوربا التي يكتسحها الفساد، وهكذا.
إن حقيقة عدم وجود نموذج غربي وحيد وفريد يمكنه تمثيل الغربيين تساعد على إدراك عدم وجود نموذج وحيد للعالم العربي أو للمسلم. حقيقة يستعصي إدراكها من قبل المسلمين الراديكاليين المتطرفين الذين يبشرون بفكر القاعدة، وأقصى اليمين المسيحي الغربي المتطرف الذي يبشر بعقيدة محافظة جديدة.
على الرغم من دعاية واشنطن للفكرة القائلة بأن الفاشية الإسلامية تشكل تهديدا شاملا، فليس هناك أسس إيديولوجية عامة توحد البلدان العربية و الإسلامية بكافة أنوعها. وتتضمن هذه البلدان، المختلفة على نحو كبير، الحركات القومية العربية العلمانية كالبعثية والناصرية، اللتان جمعتا بين الإيديولوجيات الاشتراكية والفاشية المستوردتان من أوربا، فضلا عن المذهب الوهابي السعودي المتشدد، والمبادئ الثورية الذي تحرك الشيعة الحاكمين في إيران و أتباعهم في الشرق الأوسط. كما نجد جمهورية كمال أتاتورك التركية و تقاليدها العلمانية التي تواجه الآن تحديات من قبل الأحزاب الإسلامية الحداثوية الديمقراطية المؤيدة لحرية السوق والتي تريد لتركيا الالتحاق بركب الاتحاد الأوربي. كما تتضمن هذه البلدان مجتمعات رأسمالية متسامحة ومتعددة الثقافات كاندونيسيا وماليزيا، وجماعات إسلامية متطرفة في جنوب ووسط آسيا، كما نجد النموذج اللبناني المتغرِّب المتعدد الطوائف والأديان، وأخيرا نموذج معمر القذافي الغريب و المتشدد.
من هذا المنظار، نجد أن العالم الإسلامي، أو الشرق الأوسط هو عبارة عن فسيفساء من الدول والأمم، الجماعات العرقية و القبلية، مجموعة من الطوائف الدينية، و خليط غير متجانس من الإيديولوجيات السياسية والأنظمة الاقتصادية و التوجهات الثقافية. فقد التحق بعضهم بركب العصر الحديث، وهم يلعبون دورا فاعلا في الاقتصاد العالمي كماليزيا، واندونيسيا وتركيا والأمارات العربية المتحدة. بينما بقي الآخرون على هامش الثورات الاقتصادية والتكنولوجية كالسودان، وموريتانيا، وقطاع غزة، واليمن. بينما تجد معظم الدول الأخرى ذات الغالبية المسلمة نفسها في الوسط بين هاتين الفئتين مثل مصر والأردن والسعودية وليبيا.
لا شك بأن بعض أجزاء الشرق الأوسط “معروفة بوضعيتها الاقتصادية المقلقة ” على حد قول زاكاري كارابيل، المستثمر البنكي و الخبير بشؤون الشرق الأوسط. لأنه من المتوقع، من منطقة يبلغ تعداد سكانها 350 مليون نسمة، تقع في نقطة التقاء أوربا واسيا وإفريقيا، فضلا عن تمتعها بإرث تاريخي كبير بوصفها مهدا للحضارة، ناهيك عن مصادر الطاقة الضخمة التي تمتلكها، من المتوقع أن تنمو هذه المنطقة لتحقق مستوى نمو يتماشى و مستوى الاقتصاديات الناشئة (emerging economies). فإجمالي ناتجها المحلي يبلغ 900 مليار دولارا في العام الواحد، ومعدل نموها الاقتصادي يبلغ حوالي 5 بالمائة.
كما أن الارتفاع السابق لأسعار الطاقة كان لصالح بعض دول المنطقة، لا سيما دول الخليج العربي النفطية. وعلى عكس الطفرة النفطية في سبعينيات القرن الماضي، بدأت هذه الدول تستثمر عائداتها في المنطقة، مما شجع على نمو سوق الأوراق المالية، وانطلاق موجة من التحديثات العقارية، وإنشاء بنى تحتية اقتصادية ساعدت على تحويل الإمارات العربية المتحدة وبعض دول الخليج إلى مراكز عالمية للتجارة والمال على غرار سنغافورة.
في نفس الوقت، هنالك بعض العلامات التي تدل على أن الأنظمة الاقتصادية العربية التي كانت خاضعة ولعقود طويلة للحكم العسكري الديكتاتوري – كمصر وتونس، بل وحتى العراق الآن، وسوريا وفلسطين وليبيا – قد بدأت باتخاذ خطوات جادة نحو إصلاح اقتصادها وجعله أكثر انفتاحا على الاستثمار الأجنبي والتجارة العالمية. و بمساعدة فرنسا وبعض دول الاتحاد الأوربي، يمكن إحداث إتحاد اقتصادي أورومتوسطي أن يسهّل هذه العملية ويشجع عودة المهاجرين الذين يضمون العديد من الكفاءات ورجال الأعمال من أوربا إلى دولهم.
كانت القوى الغربية مسؤولة، بشكل أو بأخر، عن وصول بعض الدكتاتوريات العسكرية إلى سدة الحكم في دول الشرق الأوسط و التي أدت إلى تراجع الإصلاح الاقتصادي لفترات طويلة من الزمن. وقد شجعت المنافسة الجيو-إستراتيجية ما بين القوى الخارجية، ولا سيما إبان الحرب الباردة، شجعت أمريكا وحلفاءها على استغلال الصراعات الإقليمية كالصراع العربي الإسرائيلي و شجعت أيضا على توفير الدعم العسكري والاقتصادي لبعض القادة المحليين الذي كان من المفترض منهم أن يخدموا المصالح الخارجية. ولكن الوقت قد حان للقوى الغربية، ولا سيما الاتحاد الأوربي، لتركز اهتمامها وجهودها على إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، وخلق الحوافز للمنطقة لتنفتح على الاقتصاد العالمي. ويشمل هذا الأمر تحرير أنظمتها الاقتصادية، وتقليل الحواجز التجارية، والتعرفة الجمركية، وتشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر.
على الرغم من أن التجارة الحرة ليست الحل الناجع لكل المشاكل، إلا أنها يمكن أن تشكل قالبا ضروريا لبناء شرق أوسط ينعم بالسلام ويرفل بالازدهار. إذ يمكنها أن تشجع على ظهور طبقة وسطى محترفة ذات قيم أكثر تناغما مع الأفكار والتكنولوجيا الحديثة. ويمكن لهذا الجهد أيضا أن يساعد على خفض الفقر و اللامساواة الاقتصادية، فكل هذه الأمور يمكن أن تعجّل بما سماه الاقتصادي الكندي ايريك غارتزكي. ب”السلام العالمي في ظل الاقتصاد الحر”.
في الحقيقة، و عندما تبدو العولمة معرقلة في منطقة الشرق الأوسط، علينا أن لا ننسى أن هذه المنطقة كانت ذات يوم مركزا للتجارة العالمية، وأن تجارها – السوريون، واللبنانيون، واليهود والأرمن، والإغريق وآخرون – قد ساعدوا في نشر ثقافة الممارسة التجارية عبر البحر المتوسط والعالم.
ففي كنف السلام الممكن في ظل اقتصاد حر، يمكن بعث الجذوة في روح المشرق العريقة، والمساعدة على تحويل الشرق الأوسط من منطقة راكدة تعيش على هامش الاقتصاد العالمي إلى واحد من أقوى محركاته.
نشرت هذه المقالة للمرة الأولى في صحيفة انيرجي تربيون في الثالث من نوفمبر (تشرين الأول) 2008.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 27 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018