peshwazarabic

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

عند هذه اللحظة المحورية في التاريخ، وفي الوقت الذي يزداد فيه التباعد بين الشرق والغرب حول قضايا الحرية والعدالة، أجد نفسي أتذكر نشأتنا في ماليزيا ذات الانتماءات والثقافات المتعددة. كانت تلك التنشئة هي التي غرست في العقل الماليزي ما وصفه أمارتيا سين الحاصل على جائزة نوبل بأنه الهوية التعددية. نحن الماليزيون محبون للمعرفة بطبيعتنا ونهتم بالاطلاع على الثقافات والأديان الأخرى. لقد درسنا القرآن وسنة النبي محمد (ص) في نفس الوقت الذي استمتعنا فيه بأعمال دانتي وشكسبير وتي. إس. إليوت. بالنسبة لي، لم يكن هناك لدي شك أبداً بأن عالمنا والعالم الغربي متطابقان وأن روح المشاركة والتعددية هذه سوف تبقى مصدراً للإلهام في جسر الفجوات بين الثقافات والحضارات.
بيد أن هناك من يصر على المجادلة بشدة بأن الحضارات الكبرى تتجه نحو المواجهة إن لم يكن الصدام المباشر. وفي الوقت الذي أعطى فيه انتهاء الحرب الباردة دفعة قوية لانتشار الحرية ورفعت من درجة الإحساس السائد بالتفاؤل، إلا أن هذه القيم لم تتجذر بعد في العديد من أنحاء الأرض. على العكس من ذلك نجد حريات أساسية يتم سحقها وإساءة استخدامها مما يشعل الخلافات بين الشعوب والحضارات. لقد أدى بي كفاحي الشخصي ضد أولئك الذين يسعون لإبقاء الإنسانية مجللة بالطغيان إلى دخول السجن لمدة ستة أعوام، وهي فترة أدركت خلالها بوضوح مبهر أن الحرية هي الجوهر الأساسي للكينونة التي تفتح طاقات الروح البشرية إلى أبعد مدى.
هناك كثيرون ممن يعتقدون أن الديمقراطية هي بنية غربية صممت على أساس الظروف التاريخية الخاصة التي شكلتها. وهناك آخرون يجادلون بأنه في حين أن الحرية والديمقراطية يلائمان مناطق معينة في العالم فإنهما ليستا أبداً سلعتين لاستهلاك سائر بني البشر، ويقولون بأنه يتعين على الشعوب الأخرى ألا تتبنى سبل الحرية والديمقراطية دون الأخذ بالاعتبار تراثها السياسي والثقافي والاجتماعي.
صحيح أن المبادئ المؤسِّسة للديمقراطية الدستورية، كما نعرفها اليوم، تعود في أساسها للفلسفة السياسية لجون لوك، والتي دخلت، من خلال كتابات فولتير إلى فرنسا ثم أثرت بعمق على أولئك الذين صاغوا الدستور الأمريكي. ولكن حقيقة أن مبادئ الحرية السياسية والديمقراطية هذه قد تم وضعها أساساً في الغرب لا تستثني تطبيقها عالمياً كما لا يمكن الجزم بأنه لم يتم التعبير عنها في سياقات أخرى.
لقد قيل مثلاً بأن “القيم الآسيوية” تطورت في تناقض واضح مع القيم الديمقراطية. ويجري الاستشهاد بالأخلاقيات الكونفوشوسية في هذا السياق على اعتبار أنها تؤكد على أهمية الطاعة الأبوية، وامتداداً لذلك الخضوع لسلطة الدولة. إلا أن هذه المحاججة تتجاهل تماماً مفاهيم جوهرية أخرى للكونفوشوسية والتي، كما يؤكد عليها تو وي-مينغ وبحق، تؤكد أيضاً على الأولوية القصوى للفرد وأهمية حث النفس على تحقيق الذات وحمايتها ضد الاستغلال من قبل القوى المهيمنة.
لقد دحض أمارتيا سين، وفائز آخر بجائزة نوبل هو رئيس جمهورية كوريا الجنوبية كيم داي جونغ، نظرية القيم الآسيوية. كما أن خبرات كوريا الجنوبية وتايوان، وهما دولتان معروفتان تماماً بتراثهما الأخلاقي الكونفوشيوسي، تمعن في نقض فكرة أن المفاهيم الغربية للديمقراطية لا تتطابق مع الحضارة الآسيوية. كما أن تايلندا، وهي دولة ذات أغلبية سكانية وبوذية، وإندونيسيا، ذات أكبر عدد من السكان المسلمين في العالم، قد نجحتا أيضاً في بناء ديمقراطيات. بالتناقض مع هذه الأمثلة فإن الخطاب المزيف لـ”القيم الآسيوية” لا يُظهر سوى المدى الذي يمكن أن يذهب إليه الحكام المستبدون وحاشيتهم والمدافعون عنهم لتبرير حكمهم والمحافظة عليه. ورغم أن الحكام المستبدين يواصلون التحصّن في أماكن معينة فإن تأثيرهم على الجماهير أخذ يضعف ولا يستطيع أحد الإنكار بأن الشعوب الآسيوية قد أظهرت ليس فقط رغبتها في ترسيخ مبادئ الديمقراطية بل أيضاً قدرتها على إدامة المؤسسات الديمقراطية والحريات.
وقد تم أيضاً تلفيق نظريات تثير الحنق مفادها وجود تناقض متأصل بين الإسلام والقيم الديمقراطية في محاولة لغرس إسفين بين حضارتين عظيمتين. يقال، مثلاً، أنه في حين أن الديمقراطية الليبرالية تضع السيادة في يدي الفرد فإن السيادة في الإسلام تعود فقط لله وبذلك تنزل بالفرد إلى كونه فقط مجرد أداة عاملة دون اهتمام يذكر بممارسة إبداعه وحريته الشخصية. إن وجهة نظر كهذه هي قراءة مُضللة لمصادر الدين وتمثل قبولاً مستسلماً للخطاب المتطرف. وجهة النظر الصحيحة هي أن الحرية هي الهدف الجوهري للقانون المقدس. والإسلام عبّر دائماً عن الأهمية القصوى للعدل وهو مفهوم تقريبي لمعنى الحرية في التعريف الغربي. الحرية تقتضي الحكم وفقاً لما يمليه القانون الإسلامي الذي يؤكد على التشاور ويشجب الحكم المطلق والطغيان.
يبين القاضي الكبير الشاطبي (المتوفي عام 790م) بأن المقاصد الشرعية تكرس أهمية كبرى للمحافظة على الدين والحياة والفكر والعائلة والثروة، وهذه كلها أهداف تحمل سمات مشتركة بشكل يبعث على الدهشة مع أفكار لوك التي تم طرحها بعد ذلك بعدة قرون. وقد أوضح مفكرون عديدون بأنه يجب إعادة تنقيح القوانين التي تتعارض مع (المقاصد) أو تعديلها لتتطابق مع الأهداف العليا وللتأكد من أنها تسهم في سلامة وتطور الفرد والمجتمع. ورغم الحالة الاستبدادية الراهنة في العالم الإسلامي فليس هناك شك في أن عناصر أساسية عديدة في الديمقراطية الدستورية والمجتمع المدني هي أيضاً مكونات أخلاقية أساسية في الإسلام—حرية الضمير، حرية التعبير، وقدسية الحياة والملكية—كما تظهر بوضوح تام في القرآن إضافة للأحاديث النبوية، وربما بشكل خاص بصورة أكثر إحكاماً وبلاغة في خطبة الوداع.
هناك جدل دائم حول هذه القضايا في العالم الإسلامي. المتطرفون بخلطهم ممارسة الدولة لسلطاتها مع سيادة (حاكمية) الله يضفون نوعاً من الشرعية على الطغيان. وعلى الجانب الآخر، يتبنى العلمانيون رؤية تدعو إلى إلغاء دور الدين في الحياة العامة. التأكيدات الحالية حول عداء الإسلام للديمقراطية لا تنطوي على قيمة أكبر من نظرية القيم الآسيوية.
موجة ديمقراطية إسلامية؟
إن سعي المسلمين للديمقراطية هذه الأيام هو أحد أبرز المعالم والتحولات في هذا العصر. كانت موجة ديمقراطية سابقة قد أطاحت بجدار برلين وحررت أوروبا الشرقية من الشيوعية وأطلقت الشرارة التي أدت إلى انهيار الإمبراطورية السوفييتية. وبعد عقد من الزمان تقريباً، تحررت إندونيسيا، وهي أكبر دولة إسلامية في العالم، من ربقة الحكم الاستبدادي العسكري واندفعت بقوة نحو الديمقراطية بعد أكثر من ثلاثين عاماً من القمع والدكتاتورية. إندونيسيا هي أكبر بلد ذي أغلبية إسلامية، ويعتبر التحول الناجح فيها هو أكبر تطور جوهري منفرد في التاريخ الحديث للديمقراطية. الصحافة في إندونيسيا حرة ونزاهة الانتخابات الإندونيسية لا نظير لها. الحريات الأساسية راسخة في الدستور وتلقى احتراماً تاماً وتقديراً من السلطات الحاكمة، ويحق للناس التجمع للاحتجاج على القرارات والسياسات الحكومية دون خوف من العواقب.
مع ذلك، فلا زال من الضروري متابعة الجهود لتثبيت المؤسسات الديمقراطية دون تردد، ويجب أن يبقى التقدم الاقتصادي عن طريق إصلاحات السوق الحر على رأس قائمة الأولويات على أن يتزامن ذلك مع تطبيق برنامج عدالة اقتصادية اجتماعية. يجب استمرار المعركة ضد الفساد بقناعة تامة. صحيح أنه لا زال على إندونيسيا أن تتخذ خطوات جوهرية خصوصاً فيما يتعلق بتحقيق الأهداف الاقتصادية الاجتماعية للديمقراطية ولكنها تبقى منارة للشعوب الإسلامية المتطلعة إلى تحقيق الديمقراطية والحرية.
ما حدث في إندونيسيا عام 1997 يبرز باعتباره إحدى اللحظات الحاسمة في تاريخ الإسلام الحديث، وما يحدث في تركيا في العقد الحالي ليس دون ذلك مدعاة للإعجاب. إذا كانت إندونيسيا تتمتع بأهمية كونها أكبر بلد إسلامي، فإن المسلمين يذكرون تركيا باعتبارها عاصمة آخر إمبراطورية كبرى لهم وسدة الخلافة الإسلامية. ظهرت الجمهورية التركية بعد الحرب العالمية الأولى كدولة حديثة تلتزم بشخصية علمانية تحت زعامة مصطفى كمال. إلا أن الديمقراطية التركية ظل يكتنفها، إلى عهد قريب، تناقض جوهري: لم تكن إدامة الهوية العلمانية نابعة من قبول شعبي ولكن عن طريق القوة العسكرية. إضافة لذلك فإن العلمانية قد تحولت إلى دين خاص بها. وساعدت الآمال في الانضمام للاتحاد الأوروبي في احتواء ما كان يعتبر يوماً بسلطة مطلقة للنخبة العسكرية وفي فتح مجال سياسي تستطيع الأحزاب العمل ضمنه دون خوف من العواقب. في هذا الجو الجديد أعطى الشعب تفويضاً ديمقراطياً واضحاً للحكومة الحالية. والعمل الذي قامت به تركيا لشق طريقها نحو “إجماع جديد” يجعل من هذا البلد واحداً من أكثر الديمقراطيات الإسلامية حيوية ونضجاً. وتتطلع هذه الأمة إلى إنعاش ذاكرتها الجمعية حول تراثها الثقافي من خلال إطار إسلامي، وتسعى تركيا إلى مزيد من النضج كبلد ديمقراطي والمحافظة في نفس الوقت على هويتها الإسلامية.
ويجسد رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان “رئيس البلدية الشعبي” السابق لاسطنبول والذي قضى زمناً في السجن لالتزامه بقناعاته السياسية الصفات المطلوبة لدفع الإصلاحات السياسية والعدالة الاجتماعية. لم يعد يُنظر إلى العلمانية، تحت قيادته، باعتبارها “مضادة للدين” بل بالأحرى إحدى المبادئ الأساسية للنزاهة وتقبُّل التعددية الدينية. وفي رأيي أنه إذا كان لدولة إسلامية ديمقراطية أن تسعى لوضع حدود لسلطة الحكومة إزاء حقوق الفرد فإن ذلك ينسجم كلياً مع متطلبات الديمقراطية الدستورية.
ورغم أن علاقة التجربة التركية ببقية العالم الإسلامي قد تبدو بغير حاجة لاستدلال فإن هناك خلافاً كبيراً حول الدروس التي ينبغي استنباطها من تلك التجربة. بعض التفسيرات، على سبيل المثال، تقول بأن الدرس الرئيسي من الحالة التركية هي أن وجود نظام سياسي علماني يعتبر شرطاً مسبقاً للديمقراطية الدستورية. إلا أن تجربة مصر والعراق في عهد الناصرية والبعثية، على التوالي، تكشف بوضوح بأن العلمانية، بدلاً من أن تكون ضماناً للديمقراطية الدستورية، قد تصبح معادلة للاستبدادية. لقد كانت إندونيسيا علمانية بشكل واضح تحت حكم سوهارتو ولكنها لم تكن بالتأكيد ديمقراطية دستورية. الأصح القول بأن الديمقراطية الدستورية لا تستطيع التجذر في مجتمعٍ، سواءً كان إسلامياً أم علمانياً، دون التزام ثابت وعميق من جانب النخبة السياسية بحماية الحقوق الأساسية للجميع.
الرغبة في الحرية
لا تفتقر التوجهات الحالية في العالم الإسلامي إلى سوابق تاريخية. لقد أطلق المؤرخ البريطاني إيريك هوبسباوم على القرن العشرين، وبحق، اسم “عصر التطرف” مبرزاً النتائج الكارثية للشيوعية والفاشية وكذلك الأوهام بأن رأسمالية السوق الحر ستنشر الثروة والرخاء إلى الشعوب الأفقر في العالم. الحقيقة أنه وبالرغم من المخاوف والتحامل ضد الأصوليين من جميع الديانات هذه الأيام، فإن أسوأ الجرائم ضد البشرية قد تم ارتكابها جميعاً من قبل قادة متعصبين لا يؤمنون بالأديان مثل هتلر وستالين وماو وبول بوت. بالنسبة للمسلمين، كان القرن العشرون قرن آمال كبرى، ولكنه ولسوء الحظ كان أيضاً قرن خداع. التحرر الوطني رفع التوقعات عالياً عندما كانت البلدان الإسلامية تحرر نفسها الواحدة بعد الأخرى من النفوذ الاستعماري. كانت صرخة الحرب للمقاتلين من أجل الحرية وللآباء المؤسسين للعديد من هذه الحركات هي الديمقراطية والحرية والعدالة، وكان قَسَمهم المقدس لشعوبهم هو إقامة وطن مستقل وديمقراطي.
ربما كان محمد علي جناح (1876-1948) مؤسس باكستان الحديثة في ذلك الوقت أكثر قادة العالم الإسلامي احتراماً لدى المسلمين في جنوب شرق آسيا. كان لهذه المشاعر ما يبررها في ضوء التزام جناح بالديمقراطية ومقته للفساد وتحذيره الشديد بضرورة عدم السماح للجيش بمغادرة الثكنات. في عام 1947، أبلغ جناح الجمعية التأسيسية الباكستانية بأن “الواجب الأول لأي حكومة هو المحافظة على القانون والنظام لكي تكون حياة الناس وممتلكاتهم ومعتقداتهم الدينية محمية تماماً من قبل الدولة.” لسوء الحظ لم يعش جناح طويلاً بعد قيام دولة باكستان كدولة مدنية وديمقراطية. وبعد موته ظل الباكستانيون دائماً وباحترام كبير يطلقون عليه لقب “القائد الأعظم”، إلا أن تطلعاته لإقامة ديمقراطية وحكم رشيد لم تحقَّق حتى الآن.
في بلدي، ماليزيا، تم الحصول على الاستقلال عام 1957، وقد نص إعلان الاستقلال على أن الأمة الجديدة ذات السيادة قد قامت على مبادئ العدالة والحرية. لسوء الحظ سرعان ما تم نسيان مبادئ الحرية والعدالة وتم اغتصاب وهلهلة الحريات الأساسية المنصوص عليها في الدستور من قبل الزمرة الحاكمة واستبدالها بقوانين وحشية وإعلام مقموع وقضاء مشبوه.
من العناصر الأساسية للديمقراطية أن تكون سلطة الحكومة مستمدة من قبول الشعب. هل إجراء انتخابات يحقق هذا الشرط أم هناك قضايا جوهرية أخرى يجب أخذها في الاعتبار؟ أولاً، ينبغي أن تكون الانتخابات نفسها حرة ونزيهة وشفافة، ويجب أن يكون هناك “ساحة مستوية ومفتوحة” للجميع. هذا يتطلب فرصة متساوية للوصول إلى وسائل الإعلام، ونقاشاً مفتوحاً، وإدارة انتخابات تستطيع الصمود أمام مراقبة دولية. كما يجب أن تتمتع أحزاب المعارضة ومرشحو المعارضة بحرية الكلام والاجتماعات والحركة التي تتيح لهم التعبير عن انتقادهم للحكومة بصراحة ولعرض سياسات بديلة ومرشحين بديلين على جمهور الناخبين. في ماليزيا يحظر على المعارضة استخدام وسائل الإعلام ولا يسمح لها بإقامة المسيرات والتجمعات، وتضطر صحف المعارضة للصدور سراً. إذا كانت الديمقراطية تعني المشاركة السياسية بمعنى الكلمة فإن وجود معارضة حيوية يصبح مسألة أساسية كحماية ضد طغيان السلطة المطلقة. وبالمثل، فإذا كانت التعددية هي الاختبار النهائي للديمقراطية، كما ينبغي أن تكون في الواقع، فإننا سنجد أن كثيراً من البلدان اليوم هي حالات فاشلة تعيسة—ليس فقط في العالم العربي بل في ديمقراطيات دستورية نالت استقلالها قبل نصف قرن من الزمن.
الديمقراطية، كما أشرنا سابقاً، تتعلق أيضاً بالعدالة. إن فكرة العدالة مركزية جداً لمعنى أن يكون المرء إنساناً بحيث لا يخلو أي مجتمع من هذا المفهوم. إضافة لذلك، ومع نضوج المجتمعات، فإن توقعات الناس في مسألة العدالة تصبح أكبر. لقد تم تحريك مجتمعات بكاملها للعمل سعياً من أجل العدالة والحكم الرشيد وإسقاط السلطات الاستعمارية والاضطهاد الأجنبي. مع ذلك، فإن هذه المجتمعات تجد نفسها اليوم، وبعد زمن طويل من الاستقلال، مجبرة على القتال ضد الاضطهاد الداخلي لأنه لا يمكن أن تكون هناك عدالة في ظل الاستبداد—النظام السياسي الذي يتميز بحكم الرجال وليس حكم القانون.
حكم القانون يتطلب أن تكون الأنظمة والإجراءات التي تطبقها الدولة عامة وواضحة وليست سرية أو تعسفية أو خاضعة للتلاعب السياسي. لا نريد أن يتم اقتحام بيوتنا وتفتيشها من قبل الشرطة دون أمر قضائي، والأمر القضائي يجب أن يصدر بموجب أسس شرعية وليس كمسألة شكلية على يد قضاة ومدعين عامين خانعين. لا نريد اعتقال أحد دون تهمة واضحة، ولا نريد أن يتم انتزاع الاعترافات عن طريق التعذيب والإيذاء الجسدي أو النفسي أو أي نوع من الترهيب أو الترغيب. بعبارة أخرى، ينبغي ألا تكون هناك إجراءات خارج سلطة القضاء أو اعتقالات تعسفية أو استخدام أجهزة الدولة لقمع المعارضة السياسية والسخط السياسي.
ونعني بسيادة القانون حماية الحقوق الأساسية أيضاً. ونستعير عبارة لأستاذ القانون الأمريكي الشهير رونالد دوركين يقول فيها بأنه يجب “أخذ هذه الحقوق بصورة جدية”. هذه الحقوق يجب حمايتها من قبل سلطة قضائية مستقلة تعمل كهيئة مراقبة وتوازن فعالة ضد سلطات الفرعين التنفيذي والتشريعي للدولة. السلطة القضائية هي الضمان الأساسي للحريات الأساسية. وإذا كان للقضاة أن يكونوا مستقلين عن الفروع الأخرى فإن الشؤون المتعلقة بمناصبهم يجب أن تكون محمية من قبل الدستور، ولضمان نزاهتهم وقدرتهم على إصدار الأحكام دون ترهيب أو ترغيب فيجب أن لا يكون بالإمكان عزلهم إلا لسبب واضح وبموجب إجراءات رسمية. يجب بالتأكيد عدم عزلهم أو حتى التهديد بالعزل لمجرد أن لديهم الجرأة الكافية ليقولوا “للأعور أعور”.
سيكون هناك من سيشير إلى شبح قضاء منفلت من عقاله يتطاول على حقوق الحكومات والتقاليد الدينية والمعنوية للناس. مع ذلك فإن استقلال القضاء ضروري لحماية المواطنين ضد حكومات تعسفية واستبداد سياسي. الواقع أن الصورة الساخرة التي تتسم بها قضايا سياسية في معظم البلدان هي تذكير صارخ بأن فصل السلطات يبقى غالباً سراباً على الساحة الدستورية.
المشاركة على أساس المبادئ العامة

إن النقاش حول الديمقراطية، بالنسبة للكثيرين منا، هو أي شيء عدا أن يكون نظرياً، فهو ينطلق من تمسكنا الفطري بالكرامة والشرف والغريزة الإنسانية الطبيعية في الحياة والتنمية. كل يوم يمر دون تغيير يعني ليلة كئيبة أخرى لسجناء سياسيين يقبعون في العزلة أو حالة وفاة أخرى ناجمة عن الجوع والمرض بسبب الإهمال والحرمان أو فرصة جديدة لفاسد للفرار بملايين نهبها من خزينة الدولة.
هذا النقاش يدور حول اندماج الناس بدولتهم، وحول الحكم الرشيد والمساءلة. إننا نرفض غطرسة السلطة ومكائد أجهزة المخابرات وتعليق الحريات المدنية سواءً كان ذلك في ديمقراطيات ناضجة أو ناشئة. علينا ألا نقبل بالمعايير المزدوجة فندين صدام حسين كمرتكب جرائم ضد الإنسانية ونغض النظر عن الفظائع التي تجري في العراق الآن. وفي الوقت الذي ندين فيه المعاملة اللاإنسانية للسجناء في أبو غريب يجب علينا ألا نتجاهل المعاملة المحزنة للسجناء السياسيين في سائر أنحاء العالم الإسلامي. لن ننجح في كفاحنا من أجل الإصلاح الديمقراطي ما لم نكن متفائلين وتعمر جوانحنا الثقة بحكمة الأمة.
مستقبل الديمقراطية الإسلامية هو الآن. وظهور الديمقراطيات الإسلامية مسألة جوهرية للغاية وتستحق منا الاهتمام. مع ذلك فإنه، وبالاستثناء الواضح لتركيا وإندونيسيا، فإن العالم الإسلامي اليوم هو مكان تواصل فيه قوى الاستبداد والطغيان، من مختلف الأطياف والدرجات، قبضتها الطفيلية على مقاليد الناس وتقضم أطراف حرياتهم الجديدة. وفي حين أن هناك ما يشير حقاً على حدوث تغيرات إيجابية في الشرق الأوسط فإن من الضروري التأكيد على أن ما زال أمامنا طريقاً طويلاً لتحقيق أهدافنا المنشودة في الحرية والديمقراطية، وهي الأهداف التي نجدها في التقاليد الفكرية الإسلامية التي توجب أن يمثل القادة الفاسدون والظالمون للمساءلة—هذه التقاليد التي عبرت عنها الحكايات الروائية الواردة في كتاب “سُلوان” (دليل الحاكم العادل) لظافر الصقلي الصادر في القرن الثاني عشر. إذا كانت الديمقراطية تتعلق برعاية “روح الاختلاف” فإنها قد كانت حقاً جزءاً أساسياً من التاريخ الثقافي الإسلامي وقد قامت على أساس أحاديث تنسب للرسول محمد (ص) مفادها أن اختلاف آراء المفكرين رحمة. لقد كان أئمة المذاهب الإسلامية الرئيسية يحتجون بإصرار ضد تبني الدولة الحاكمة في أيامهم لمذهب الواحد منهم دون المذاهب الأخرى، وقد سجن العديد منهم بسبب ذلك. نحن ورثة هذه التقاليد التي توفر للمسلمين اليوم خزاناً من الأفكار الديمقراطية. إلا أنه، وكما يذكِّرنا تي. إس. إليوت، هناك ظلال بين المثال والواقع.
الضوء الذي سيجعل هذه الظلال تختفي هو المشاركة، والتي ينبغي السعي إليها دون هوادة بشجاعة واقتناع. يجب علينا رفض تهميش الناس لمجرد اختلاف قناعاتهم السياسية. يجب علينا التأكد من أن المؤسسات الدستورية راسخة في مكانها لإيواء طيف عريض من الرؤى السياسية الحديثة منها أو القديمة، والإسلامية منها أو الليبرالية. يجب على الغرب ألا ينظر إلى المفكرين التقليديين كأعداء للحرية أو الديمقراطية؛ فالكثير منهم قاتلوا من أجل الحرية والعدالة وكثيرين منهم دفعوا ثمناً غالياً في سبيل ذلك. ومن الخطأ السعي لمشاركة الليبراليين فقط وتجاهل القادة الذين يحوزون على دعم الأغلبية. إن التحدي الذي نواجهه سيكون المشاركة مع أعرض طيف ممكن دون التضحية بالتزامنا بالحرية والديمقراطية.
النتيجة التي يجب استخلاصها من هذه الموروثات هي أن رغبة الإنسان في أن يكون حراً والعيش بكرامة هي حالة عامة لكل الناس، وينطبق ذلك على مقت الناس للاستبداد والقمع. هذه مشاعر لا تحفز المسلمين فقط، بل الناس من جميع الحضارات.
مجلة الديمقراطية، المجلد 17، العدد 3، حزيران 2006، الصفحات 5-12. جميع الحقوق محفوظة لـِناشونال إنداومنت فور ديموكراسي ومطبعة جامعة جونز هوبكنز. تم نشر هذه الورقة على موقع مصباح الحرية بموافقة مطبعة جامعة جونز هوبكنز.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 11 كانون الثاني 2007.

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

لا يكل صديقي “صابر أيوب” من شكر الله شكراً كثيراً وحمده بُكرةً وأصيلاً، لأنه ما زال يحتمل ما يتعرض له من مواقف وأحداث دون أن يستسلم لليأس والإحباط كما فعل زميله “عبد الحميد” الذي ألقى بنفسه من أعلى أحد الكباري إلى قاع النيل.
وعبد الحميد –لمن لا يعرف- شاب مكافح، فقد تحمَّل بنفسه توفير مصاريف دراسته حتى تخرج في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بتفوق.. ونال شهادة تقدير (الطالب المثالي) في دورة تشجيع العمل الحر، وشهادة أخرى لمشاركته في منتدى الشباب بقرطاج ممثلا لبلاده، وثالثة من دورة تكنولوجيا المعلومات، ورابعة في تنظيم دورة تأهيلية للالتحاق بالسلك الدبلوماسي، وكان على وشك مناقشة رسالة الماجستير، وجميع أساتذته يقدرونه ويتوقعون له مستقبلا عظيما.
لهذا تصور أن بمقدوره أن يتقدم للالتحاق بوظيفة “ملحق تجاري” بوزارة الخارجية. ومن المصادفات الجديرة بالملاحظة أن بقية المتقدمين لشغل هذه الوظيفة كانوا من الحاصلين على الدورة التأهيلية للالتحاق بالسلك الدبلوماسي، التي نظمها وشارك فيها محاضراً، لذا كان طبيعياً أن يتخطى الامتحان التحريري والشفوي بجدارة، بيد أنه الوحيد من بين 43 متقدما الذي رسب في النهاية. وفي كشوف النتيجة المعلقة على الحائط الخارجي ظهر اسمه كاملا: “عبد الحميد علي شتا”، وبجواره السبب الوحيد بارزاً في صلافة: “غير لائق اجتماعياً”!!
… بعد تعرُّضه لهذه الصدمة وُجدت جثته في قاع النيل.
انشغل الناس بهذه الحادثة ثم -كما يحدث في كل قضايانا المصيرية- تضاءل هذا الاهتمام إلى أن طواه النسيان، واستمرت الأمور على وتيرتها الرتيبة إلا مع صديقي الذي ظل يتذكر الحادث المؤلم، وفي كل مرة يأخذ شهيقاً عميقاً ويحتفظ به في صدره لفترةٍ ثم يطلقه زفرةً حارةً ويكرر في حسرةٍ: “ليت زميلي عبد الحميد عاش في زمن الجواري والعبيد، فكم من جارية مجهولة النسب وصلت بذكائها أو بجمالها أو بمجرد إجادتها للعزف والغناء، إلى سدة الحكم والرياسة، وكم من عبد لا يعرف أسياده هويته شق طريقه بنباهته وشجاعته حتى أصبح قائدا للجيوش أو حاكما للبلاد أو مؤسس دولة تستمر بعد موته لأجيال وأجيال”..
ثم يبدأ صاحبي صابر في سرد المواقف المشابهة التي تعرض لها، فقد حاول في صباه أن يلتحق بـ “الثانوية العسكرية” لكي يسهل عليه بعدها التقدم لإحدى الكليات “السيادية”، وعجز وقتها عن الحصول على “تزكية” رغم تفوقه الدراسي وارتفاع لياقته البدنية وإجادته للعديد من الرياضات.. ورغم حصوله على الثانوية “العامة” بمجموع كبير جعله من بين العشرة الأوائل على مستوى الجمهورية عاوده حنينه الأول ففشل ثانية للسبب نفسه فاضطر لمواصلة الدراسة في كلية مدنية لا تحتاج لـ “كارت توصية”. وتفوق كعادته وظل يتقدم لأي وظيفة يسمع عنها ودائما كان يسبقه إليها من هم أعلى منه في طبقات الهرم الاجتماعي.
ما حدث مع عبد الحميد، وما زال يقع مع صابر، هو الوجه الآخر لحوادث “التوريث” المتجذرة في حياتنا اليومية دون أن ينكرها أو يلتفت لوجودها أحد. وهذا الوجه يترتب بالضرورة على الوجه الأول، فمعنى أن يحصل شخص ما على وظيفة لا يستحقها، أن هناك من كان يستحق هذه الوظيفة وتم حجبها عنه أو منعه من الوصول إليها، حتى أصبح أمثال صابر وعبد الحميد يشكلون نسبة كبيرة من أبناء الوطن منهم من قضى نحبه، ومنهم من تأقلم مع الظروف القائمة، ومنهم من اختصر الطريق فاحترف التسول أو بيع السلع التافهة، ومنهم أيضا من سوَّغ لنفسه طرق الانحراف وبرع فيها لأن النابغ أينما توجهه الأحداث لا يعدم الحيلة.
وللتوريث في حياتنا بوجهيه (منح من لا يستحق، ومنع من يستحق) مظاهر كثيرة يتناقلها الجميع ولا ينكرها أحد وتتمتع بقوة أعلى من قوة القانون.
من بين هذه المظاهر أن بعض المؤسسات الحكومية تعطي لأبناء العاملين فيها أولوية مطلقة في شغل ما يشغر بها من وظائف، وهناك ما يعرف بـ “الإعلانات الداخلية” عن الوظائف المطلوب شغلها، وبالطبع لا يعلم بهذه الإعلانات إلا العاملون داخل هذه الهيئة أو تلك الإدارة، وبالتالي لن يخبروا بها إلا أقرب الأقربين، ناهيك عن الانتهاء من اختيار المحظوظين قبل الإعلان الشكلي عن الوظيفة التي كانت شاغرة.
وهناك عائلات شهيرة في أكثر من “جمهورية” عربية لا يخلو منها أي تشكيل وزاري، وبعض الدوائر الانتخابية تظل حكرا على عائلات بعينها لا ينازعها عليها أحد، وأحياناً يتم تقسيم المقاعد النيابية في هذه الدوائر بين عدد محدود من العائلات، وفي الساحة الإعلامية تتعاقب الأجيال وتبقى أسماء معروفة للمتابع البسيط. ولا يمنع ذكر أمثلة لهذه الأسماء إلا الحرص على عدم شخصنة القضية.
وبعيدا عن الكليات السيادية –إن صح هذا التعبير الذي وصفها به صاحبنا- حدث غير مرة، في أكثر من كلية -وبشهادة أشخاص عدول- أن قرر مجلس أحد الأقسام عدم تعيين معيدين لمدة ثلاث سنوات لتفريغ هيئة التدريس حتى يضمن أحد المسؤولين النافذين تعيين نجله الذي التحق بهذا القسم وهو لا يزال في الفرقة الأولى.
ولا تختلف شروط الالتحاق بسلك القضاء عن مثيلتها في السلك الدبلوماسي ولا في الكليات السيادية، ولا المؤسسات الرسمية.
وثمة نوع آخر من أشكال التوريث يختلف قليلا عن الأنواع السابقة بغياب عصبية النسب واعتماد التوجه الأيديولوجي –إن صح الوصف ووُجد الموصوف- ويتمثل في سيطرة بعض التنظيمات السياسية أو الجماعات الدينية على بعض القطاعات فيقتصر إسناد الوظائف فيها على “الرفاق” أو “الإخوة” –بحسب الجبهة المهيمنة- ولا يحق لمن عداهم الوصول إلى هذه الأماكن، وهو ما يُطلَق عليه لفظ “الشللية”.. ويظهر هذا النوع من التوريث أكثر ما يظهر -للأسف الشديد- في المؤسسات الإعلامية والثقافية..
لا تقتصر خطورة هذه السلوكيات على ما يلحق بالأفراد المحرومين من غبن وظلم، إنما تمتد إلى ما يلحق بالمجتمع من خسائر نتيجة حرمانه من جهود وكفاءات وعقول ومهارات تم استبعاد أصحابها من العمل في أماكن تحتاج لإمكاناتهم.
يبقى السؤال الملح: ما مستوى أداء أي شخص قَبِلَ أن يبدأ حياته العملية بهذه الطريقة المشبوهة، وما مدى إخلاصه لأبناء المجتمع الذين خطا فوق رقاب بعضهم ليصل إلى ما وصل إليه؟
أما مناوئو توريث رئاسة الجمهورية فعليهم أن ينظروا للصورة بكل تفاصيلها وأن يعلنوا موقفهم صراحة، دون مناورة، من أشكال التوريث البغيضة على جميع المستويات وليس فقط على مستوى الإمامة الكبرى..
‎© منبر الحرية،24 أكتوبر/تشرين الأول 2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20101

شفيق ناظم الغبرا * وعماد عمر **
في الظلمة العربية الحالكة، يساهم الإعلام العربي المتنوع بصورته المرئية وبتنوعاته عبر الإنترنت (الإعلام الإلكتروني) والصحافة والمدونات و»اليوتيوب» والشبكات الاجتماعية في إحداث تغيرات نوعية لمصلحة المعرفة والتنوير. فإلى جانب تقديمه وعلى مدى أكثر من عقد للمادة الإعلامية المسلية يقدم الإعلام العربي الصاعد معلومات وافرة تميل إلى الدقة والعلمية، وتوفر مساحة رأي ورأي مضاد تلامس الخطوط الحمراء التي رسمتها الأنظمة السياسية. فهو يناقش عبر برامجه السياسية والاجتماعية بانفتاح مضطرد حقوق الإنسان وحقوق المرأة، وعلاقات الطوائف وحقوق الأقليات والديمقراطية وتداول السلطة والمسائل الاجتماعية والدينية الحساسة. هذا الإعلام يتوسع كل يوم ويشرك باضطراد قاعدة أكبر من الجمهور العربي في نقاشاته وبرامجه بخاصة في ظل مجانيته وسهولة وصوله إلى القطاعات الشعبية. بل وصل الأمر أن الدول الرئيسية في العالم بدأت هي الأخرى إعلاما تلفزيونياً ناطقاً بالعربية كما فعلت فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وتركيا وروسيا وكوريا الجنوبية.
وعلى رغم تمويل القطاع الخاص العربي والحكومات العربية لهذا الإعلام الجديد، إلا أن تنوع الأجندات واختلاف وسائل الإعلام، ساهما في إضعاف التوجهات التي تمثلها كل وسيلة إعلامية مما عاد بالفائدة على المواطن والفرد المشاهد. فبإمكان كل فريق في العالم العربي مهما بلغت معارضته أن يوصل رسالته إلى جمهوره عبر وسائل الإعلام المختلفة. وما لا نراه في «الجزيرة» نتابعه في «العربية»، وما لا نلتقطه في المحطات المصرية نلمحه في «المستقبل» و»المنار» اللبنانيتين. هذا الانفتاح الإعلامي أعطى المساحة للمشاهد الذي ينتقي وفق ما يريد.
ويتجه الإعلام العربي في مرحلته الجديدة نحو التخصص. فهناك محطات سياسية وإخبارية إلى جانب الموسيقية، وهناك محطات خاصة بالمرأة إلى جانب محطات اقتصادية وتاريخية ودينية ووثائقية وأخرى شبابية وصحية ودراما وكرتون وغيرها. لقد أصبح كل هذا صناعة متكاملة وبنكهة شرقية عززت صناعة الدراما ودور البحث وإعادة اكتشاف التاريخ والتوثيق.
سابقاً، لجأ الكثير من العرب إلى الإعلام الإسرائيلي الموجه وهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، لاستقاء المعلومات عن الدول العربية والانقلابات والثورات والاتهامات والحروب، بل عرف جيلنا والجيل الذي سبقنا نبأ سقوط الضفة الغربية وغزة والقدس وسيناء والجولان عام 1967 من الـ «بي بي سي» وليس من إعلامنا العربي. حتى بين الفلسطينيين داخل الخط الأخضر كانت متابعة الإعلام الإسرائيلي تعود لضعف صدقية الإعلام العربي بعد هزيمة 67. ولكن يمكن القول أن تأثير الإعلام الإسرائيلي على الجمهور العربي قد تلاشى في السنوات العشر الماضية لمصلحة متابعة «الجزيرة» و «المنار» و «العربية» وغيرها.
ويلعب الإعلام العربي دوراً أهم في الصراع العربي- الإسرائيلي، وتجلى ذلك بعد عملية اغتيال المبحوح في دبي حيث استثمر قائد شرطة دبي، ضاحي خلفان، الإعلام العربي بما فيه إعلام دبي لكشف تفاصيل العملية التي قام بها الموساد الإسرائيلي. بل أدى ذلك إلى قيام أزمة دبلوماسية بين إسرائيل والغرب. وقد عبرت هذه الفعالية الإعلامية عن نفسها في حرب غزة التي بدأت في كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٨ والتي انتهت إلى تقرير غولدستون الذي شكل سابقة مهمة في إدانة الهجمات الإسرائيلية على المدنيين الفلسطينيين. وينطبق الأمر نفسه على الاعتداء الإسرائيلي على لبنان في 2006، حيث تغيرت النظرة في الإقليم إلى حصانة الجيش الإسرائيلي.
إن كل ما وقع من تغيرات في الإعلام العربي أدى إلى تطوير مهنة الصحافة العربية وخلق احترام جديد لها. لم يعد الصحافي والإعلامي مضطراً لأن يهجو ويمدح لحساب أجهزة ودول كما كان حال الصحافة في الستينات والسبعينات من القرن العشرين. فالصحافي العربي أكثر استقلالية من السابق وقادر على الانتقال من محطة إلى أخرى بسهولة ويسر وفق قناعاته. بل إن عدداً من الصحافيين يعمل لأكثر من وسيلة إعلامية في الوقت نفسه بينما ينشىء مدونته الخاصة ويعبر عن رأيه في وسائل إعلام دولية. كما أن بعض الصحافيين العرب ترك مؤسسات إعلامية مؤثرة كتسجيل موقف ورفض لسياسة المؤسسة.
وقد نتج من هذه الاستقلالية بروز رموز إعلامية عربية ذات صدقية ومكانة في الساحة العربية، بل إن بعض هذه الرموز يكتسب قيمة تتجاوز المؤسسات التي يعمل فيها. والأهم أن المرأة العربية وجدت مكاناً بارزاً لها في الإعلام العربي، فهناك رموز نسائية مؤثرة وقيادية في هذا الإعلام. هذه القيادية التي تبرز عبر وسائل الإعلام مرتبطة بتعطش العرب إلى الرموز نتيجة غياب الحريات والديمقراطية. هناك شوق بين الجمهور العربي للرأي الجريء والمقنع. بل يعزز هذه الرمزية قيام صحافيين عرب بتقديم حياتهم ثمناً لعملهم الصحافي الميداني في أماكن النزاع والحروب في العقد الماضي.
هذا لا يعني بالضرورة خفوت صوت الإعلام الموجه وإعلام التبجيل والهجاء، وقد يكون السبب في ذلك أن ظروف الصراعات في المنطقة تسيّس المجتمعات إلى جانب غياب الديمقراطية. إن التناقض بين الانفتاح وقبول الآخر وبين الانغلاق سيبقى عنصراً مؤثراً في الإعلام العربي ما يعكس طبيعة المجتمعات العربية وواقع أنظمتها السياسية في هذه المرحلة.
إن عددا من المظاهر السلبية لا زالت مستشرية في الإعلام العربي مثل سيطرة «الشللية» و«التحزب الضيق»، بالإضافة إلى انتشار حالة تعال من قبل بعض وسائل الإعلام إداريا على الإعلاميين وحقوقهم ودورهم. فالكثير من أمراض الإدارة المنتشرة في العالم العربي مثل المزاجية في صنع القرار، وعدم إشراك القطاعات الأساسية والفاعلة وصانعي الحدث في القرار تؤدي إلى ضيق في صفوف الإعلاميين. وبما أن الإعلامي هو الأساس في عملية صناعة الإعلام فمن الصعب نجاح الإدارة الإعلامية من دون مشاركة فاعلة للإعلاميين في طريقة الإدارة وفي حماية حقوقهم وصون تصوراتهم.
وقد نتج من قوة الإعلام العربي الإقليمي، إعلام محلي خاص ذو نكهة مستقلة على حساب الإعلام الحكومي الذي يزداد ضعفاً. ويمثل الإعلام المحلي الخاص والذي يركز على القضايا المحلية في كل من مصر والكويت ولبنان وفلسطين والعراق مثالاً واضحاً لهذه الظاهرة المتنامية. وبعض الإعلام المحلي الخاص لا يتعدى بثه حدود منطقة كما يحدث اليوم في فلسطين في مناطق السلطة الفلسطينية. هذا مؤشر ايجابي وعنصر مساعد للتنمية والوعي المحلي.
وفي ظل الإعلام الجديد لم يعد المنع الرسمي الذي تمارسه الحكومات إلى يومنا هذا بحق المفكرين أو الكتاب أو المؤلفين قابلاً للتحقيق. فبعض اشد المعارضين يمكنه إلقاء محاضراته كاملة عبر وسائل الإعلام فيراها كل من يريد كما فعل نصر حامد ابوزيد عندما منع من زيارة الكويت، وما قد تمنعه «الجزيرة» تبثه «العربية» وما تمنعه «العربية» تبثه «الجزيرة» أو «بي بي سي» او «ال بي سي» ومحطات «روتانا» أو «اوربت». وبالطبع هذا يعني أننا نزداد تقبلاً للرأي الآخر مهما كان غريباً عنا.
وعلى رغم التمويل الخليجي لهذا الإعلام إلا أن الخبر الخليجي وتغطية الشأن الخليجي هي الأقل في وسائل الإعلام العربية. وربما يقع هذا لأن الأحوال تبدو مستقرة في منطقة الخليج نسبة إلى الأحوال في فلسطين ولبنان والعراق واليمن وإيران، أو قد تكون بسبب شدة الحساسية في دول الخليج لما يقال في العلن ويكتب. إن المرحلة القادمة يجب أن تتضمن تثوير طريقة تناول الخبر الخليجي الذي يخص القادة والمسؤولين والأوضاع والسياسات والمجتمعات والاقتصاد والأحداث في دول الخليج. فهناك بالتأكيد أحداث تقع في هذه الدول ترقى إلى مستوى الخبر والحدث العربي والدولي.
الإعلام العربي قادر على التأثير عربياً بما لم يتوقعه أي من الحالمين بهذا الإعلام المفتوح، كما انه بدأ يؤثر على صياغة الخبر العالمي الخاص بالعالم العربي. لهذا سيستمر الإعلام جاذباً للممولين والمستثمرين الجدد، ومعه سيزداد دور الإعلام المتخصص، وسيمس كل أشكال الإعلام المكتوب والإلكتروني والمسموع والمرئي. في المرحلة القادمة سيتعزز دور المؤسسة الإعلامية المتعددة الأشكال والوسائط وسيساهم هذا في بناء المعرفة اللازمة لمجتمعات تريد هذه المعرفة. وسيستمر الصحافيون في التنقل بين المؤسسات الإعلامية حفاظاً على استقلاليتهم كما سيتعزز دور الرموز الإعلامية. في البلاد العربية الحاجة ماسة إلى إعلام مستنير يدفع بمشروع التنمية والارتقاء إلى الأمام. في الإعلام العربي الجديد قوة صاعدة تترك أثرا يتجاوز ما قد تراه أعيننا.
* أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت
** كاتب فلسطيني متخصص في الإعلام
‎© منبر الحرية،20 أكتوبر/تشرين الأول 2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

يعاني الوطن العربي من ظاهرة الأقليات التي وصلت إلى مرحلة خطيرة تهدد أمن العديد من أقطاره واستقراره، وهذه الظاهرة  هي –بلا شك- انعكاس لتعدد الهويات والانتماءات.
ولا شك –كذلك- أن ثراء المنطقة العربية بجماعاتها الثقافية فرض التمييز بينها استنادا إلى معايير شتى وفي مقدمتها معيار الدين واللغة. وتفاقمت خطورة هذه الظاهرة نتيجة عمليات الفصل والتجزئة التي مارسها الاستعمار الغربي في المجتمعات العربية، واستغلاله العديد من الجماعات الطائفية والعرقية من خلال منحها امتيازات خاصة أصبحت بمثابة الحقوق المكتسبة التي تسعى هذه الجماعات للحفاظ عليها، وزاد من حدة المعضلة عدم سعي النظم السياسية العربية  إلى الحكم على أساس المشاركة التي تأخذ في الاعتبار فئات المجتمع كافة، الأمر الذي زاد من مخاوف الأقليات في تلك النظم ودعا بعضها  إلى التمرد على أوضاعها.
وقد لاحظنا أن النظم السياسية العربية فشلت في توحيد الوطن العربي  في دولة قومية واحدة، بنفس الدرجة التي لم تنجح فيها الجهود حتى في توحيد جزء من أقطار الوطن العربي. لأن الفكر القومي لم يتناول عدة مسائل حيوية في الواقع العربي وهي ذات تأثير كبير على توحيد أقطاره ومنها موضوع الأقليات. فعلى الرغم من أن 85% من سكان الوطن العربي يشكلون مجموعة متجانسة لغويا ودينيا وثقافيا إلا أن هناك عدة تكوينات بشرية تختلف عن هذه المجموعة سواء في الدين واللغة والسلالة والثقافة. والفكر القومي لم يتعرض للدور الاجتماعي لهذه الأقليات بشكل متعمق ولم يحاول التعرف على مشكلاتها وهمومها، ولم يأخذ موقفا صريحا من رغباتها المشروعة في الحفاظ على تكاملها. كما لم تنجح النظم العربية  التي تعاني من تلك الظاهرة في التوصل إلى أشكال ملائمة للعلاقة بين الدولة والمجتمع (بتكويناته الاثنية المتعددة) حيث ظلت هذه الظاهرة موضع شد وجذب بين الجانبين بكل ما يترتب في أحيان كثيرة على هذه التوترات من انتكاسات سلبية على الاستقرار السياسي والأمن القومي. ففي دولة البحرين التي تعاني من انقسام طائفي بين سنة وشيعة، وانقسام طبقي على أسس طائفية يشكل السكان من ذوي الأصول العربية نحو 95 % من إجمالي السكان كما أنهم مسلمون. وفي  السودان  هناك تنوع اثني كبير، فهناك تعدد ديني بين مسلمين ومسيحيين ووثنيين، وهناك نحو 597 قبيلة و57 جماعة عرقية، وتعدد لغوي يربو على 400 لغة  ولهجة مختلفة.  ويصفه البعض بأنه نموذج مصغر لكل القارة الإفريقية وقد انعكس ذلك بوضوح في الانقسام بين مواقف القوى الجنوبية وبين الحكومة المركزية. وهناك نماذج أخرى في المنطقة العربية. إلا أن الجامع بين كل تلك الحالات – مع اختلاف الدرجة- أن الأقليات في المنطقة العربية يحملون أنظمتهم السياسية مسئولية تعميق شقة الخلافات  والانقسامات القائمة بين الجماعات المختلفة فيها وقيامها باتباع أسلوب سلطوي في استيعاب أقلياتها، وفرض الاندماج عليها بالقوة. مع وجود قناعة لدى النخب الحاكمة العربية بضرورة التلازم بين الإجماع السياسي من ناحية والإجماع الفكري والديني من ناحية أخرى، وبالتالي رفض الاعتراف بالتنوع والتعددية القائمة في مجتمعاتها. وقد ترجمت هذه النخب قناعاتها تلك في أساليب معالجتها لمعضلة الأقليات من خلال اتباعها سياسات الاعتقال والنفي، وإعادة التوطين خارج نطاق التمركز  الجغرافي للأقليات، والتضييق الثقافي والاقتصادي عليها، والحد من تمثيلها في مؤسسات السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية والأمنية، وتفضيلها لخيار القوة المسلحة باعتباره الحل الحاسم والسريع لهذه المشكلات.
وقد نتج عن تلك الممارسات بروز النزعات الانفصالية لدى الأقليات في بعض المناطق العربية، واستخدامها أساليب العنف والقوة لتغيير الأنظمة السياسية القائمة، الأمر الذي أدى إلى إطالة أمد النزاع والحيلولة دون التوصل إلى رؤية مشتركة لطبيعة العلاقة بين الجماعة المسيطرة والأقلية. وقد لاحظ عدد من المحلليين أن ظاهرة الأقليات في المنطقة العربية تتفاقم في الدول العربية التي تتمتع بموقع جغرافي استراتيجي يشكل ملتقى لخطوط  المواصلات الدولية، سواء في منطقة الخليج كما في حالة البحرين أو في إفريقيا في حالة السودان، وشكل ذلك العامل الجغرافي علاوة على العوامل الأخرى دافعا للتدخل الخارجي في الشئون الداخلية لتلك الدول تحت مبررات عديدة منها حق الدفاع عن الأقليات. وربما كان لمساحة القطر العربي اثر بارز على طبيعة مطالب الأقليات. حيث شكلت المساحة الشاسعة للسودان ووجود الأقليات في أقاليم  محددة نسبيا إلى بروز العديد من الدعوات لإعادة النظر في توزيع السلطة تبدأ بأشكال المطالبة بالحكم الذاتي وتمر بالفيدرالية وتنتهي بالانفصال. وفي المقابل شكلت المساحة الضيقة لدولة مثل البحرين قيدا على طبيعة المطالب التي تقدمها الطائفة الشيعية حيث ركزت على الدعوة للإصلاح السياسي والاقتصادي وفتح باب المشاركة السياسية والتعددية أمام فئات المجتمع، والمساواة في توزيع الموارد السياسية والاقتصادية، ولم تبرز أي دعوة إلى تبني مشاريع الحكم الذاتي أو الانفصال لعدم قابلية هذه المشاريع للتنفيذ.
ورغم أن حالة السودان هي الحالة الأوضح في التعدد والتنوع إلا أن هذا لا يعني شيئا في حد ذاته، أو تقطع يقينا بأن هذا التنوع هو بالضرورة ابتلاء للسودان، بل على العكس فانه في التاريخ السوداني ما يشهد بأن هذا التنوع والتعدد كان أحيانا عنصر إثراء وإغناء، ففي ظل مملكة الفنج في سنار ( في الثامن عشر ) تجسد التعايش السلمي بين الإسلام والوثنية لاسيما أن حكام سنار ( المسلمين ) كانوا من أصول قبلية زنجية وثنية. أكثر من ذلك فان احد جوانب المعضلة الجنوبية السودانية تنبعث من الجهل بخصوصية الديانات الإفريقية إسلامية كانت أو مسيحية، وهي الخصوصية التي تؤمن بمبدأ التفاعل الايجابي السمح بين عناصرها بعضها البعض، فتمكن رئيس مسيحي من تولي سلطة الحكم في بلد مسلم ( ليبولد سنجور في السنغال ) مثلما تدفع رئيسا كاثوليكيا لدولة مسيحية للتنازل عن السلطة لخلف مسلم ( الرئيس جوليوس نيريري في تنزانيا). لكن بقصور في فهم ظاهرة التنوع الثقافي في السودان والاستجابة لمقتضياتها، تعاملت النخبة المثقفة عموما وتلك الحاكمة منها خصوصا مع مفردات هذا التنوع على أساس الازدراء، فهي تشير للمتمردين ” بالعبيد ” أو ” الفروخ ” الطامحين لحكم البلاد، وتتعامل مع أهل دارفور على أنهم ” غرابة ” أي غرباء وتطلق على جماعاتهم التي تلف العاصمة ” الحزام الأسود ” ، وبذلك لا عجب أن أصبح شرق البلاد وغربها وجنوبها عبئا ثقيلا على كل الحكومات السودانية المتعاقبة منذ الاستقلال وحتى الآن، وان كان الجنوب هو الأسوأ. وما ينطبق على السودان قد يصبح عبرة لأقطار عربية أخرى تستهين بالتنوع والتعدد داخل بلدانها ليصبح مصدر قلاقل وتوتر.
© منبر الحرية،20 شتنبر/سبتمبر 2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

الثقافة نتاج مجتمعي يبدعه الأفراد فهي تتطور باستمرار، وهي ممارسة فاعلة وسلوك معرفي وحضاري نابع من منظومة القيم والأفكار المتوارثة، وهي مزيج من أمجاد الماضي وإرهاصات الحاضر أي أنها متجذرة في الواقع والتاريخ.
ولقد تخطى الإنسان صيرورته التاريخية من وضع “طبيعي” شيئاً فشيئاً إلى أن توصل إلى هذا الوضع الاجتماعي المعقد والمتقدم، وبينما كانت القوى الطبيعية العمياء والموضوعية تمارس ضرورتها مباشرة وبصورة مادية على الإنسان، فان الشروط الاجتماعية التي يخضع لها الإنسان في بيئته هي من نوع معنوي وسيكولوجي مباشر، أو غير مباشر، وتنتج له انعكاسات متنوعة ، وخيارات تكاد تكون حرة بالنسبة له.
من هذا الموقف بالذات تنشأ الحاجة إلى الثقافة وهو في الوقت نفسه الشرط الحقيقي للثقافة، علماً أن الثقافة الإنسانية تزداد تعقيداً ورقياً كلما ازدادت شروط بيئته الاجتماعية رقياً وتقدماً.
إن الحرية والثقافة هي من بين الحقوق الإنسانية، أي الحقوق التي يبدو الارتباط فيما بينها أكثر بروزاً، فكل منهما يقبل اختياراً وبالتالي هناك إمكانية للرفض، فهما لا يقبلان التقيد بالشكليات، سواء أكان الاختيار سياسياً أو دينياً أو إيديولوجياً أو اقتصادياً بعض الشيء.
وإن الشيء الذي لا مراء فيه هو أن الثقافة يجب أن تمثل مستوى معيناً من المعارف لتستحق تسميتها ” ثقافة “، كما أنه لا شك في أن هذا المستوى يجب أن يقود إلى التميز عن الآخرين.
على أنه من المؤكد أن في هذه الدرجة العليا من الثقافة توجد بعض أجزاء من ظلال وبعض أجزاء من نور: فالرجل المثقف، باعتباره قد بلغ مستوى أعلى من المستوى المتوسط لا يسطع الإشعاع بالضرورة  في جميع مجالات الفكر.
وان المثقف هو الذي يشعر بالارتياح في جميع الموضوعات التي تعترضه، ويتجنب أن يؤخذ على حين غرة إذا كان أحد هذه الموضوعات غريباً عنه بعض الشيء، ومن الطبيعي بلا ريب أن تكون لدى الإنسان المثقف نقاط قوة ونقاط ضعف، كون العلم والمعرفة والتعليم، وبدرجة أدنى التربية والتأهيل، هي شروط ضرورية للثقافة، لكنها شروط غير كافية إطلاقا.
كما يجب عليه أن يحتفظ بهامش من التواضع المناسب، هذا التواضع الذي يقع تحت تجربة قاسية في العالم الحديث المتعطش ” للشهرة ” أو ” نصف الشهرة “.
فالمقولة القديمة تحتفظ مع هذا بقوتها وهي أن الإنسان يجب أن تكون له أفكار واضحة حول كل شيء، أو كما قال ( باسكال ) في كتابه ” الأفكار ” : ” إنه لمن الأجمل والأفضل أن نعرف بعض الشيء عن كل شيء من أن تعرف كل شيء عن شيء واحد”.
فالإنسان وحده يمتلك الصفات الأولى التي تجعل منه كائناً قادراً على أن يتجاوز ذاته، وبالتالي أن يثقف نفسه، وهذه هي مفاتيح الأشكال العليا لتطوره، وعلى هذا، فهو لن يبق سلبياً وإنما فاعلاً إيجابياً ومصمماً على الارتقاء بالثقافة أكثر من ارتقائه من أجلها، فسيستعمل في سبيل ذلك مواهبه الشخصية، مساهماً بهذه الصورة وبشكل حاسم في استخلاص أفضل النتائج مما اكتسبه.
© منبر الحرية،13 شتنبر/سبتمبر 2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

عند قراءة تاريخ الإنسان، قراءة دقيقة وبتمعن، والنظر للإنسان ذو الحوامل المعرفية التي تحمل في طياتها الكثير من الإشكاليات، تظهر قضية الخوف، تلك التي قال عنها ديورانت في كتابه قصة الحضارة: (الحضارة نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي، وتتألف الحضارة من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون، وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما أمِنَ الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها)، فإشكالية الخوف بين الشرق والغرب، حيث يولد التساؤل من رحم الخوف: لماذا الخوف لدى الشرق هو دائماً عامل ودافع للتراجع والتخلف؟، بينما الخوف في الغرب كان  العامل الداعم في عملية التطور والازدهار؟.
من هذا المنطلق نجد بأنه ثمة عوامل لإشكالية للخوف، وثمة علاقة بين الخوفين بشكل يثير السخرية والدهشة، رغم التبيان بين الخوفين في مراحله البدائية، من خلال الماورائيات في تفسير مسيرة الكون، هذه الدهشة التي تمت بين الخوفين والشرخ الواسع بينهما، توصل لعدم قبول الغرب هجرة الشرقيين إليه، ومخاوف الشرق من توافد الغرب إليه، فمشكلة وإشكالية الخوف قائمة بين الشرق والغرب بحد ذاته، فالخوف في الشرق  مخاوف مركبة ( مخاوف ذات موروث ثقافي – مخاوف ذات أبعاد دينية – ومخاوف من الأنظمة الحاكمة في الشرق ذات الطابع الاستبدادي )، رغم ما يملكه الشرق من إرث حضاري والذي ساهم في وقت ما في خدمة البشرية في الفلك والرياضيات والهندسة، إلا أن تلك المخاوف استطاعت أن تجعل الفرد في الشرق أسير تلك المخاوف، فالخوف من الموروث الثقافي مثلا في الشرق جعل الفرد لا يستطيع الغناء خارج ذاك السرب الذي ينتمي له ولا بمقدوره التمرد على ذاك السرب بأن يحلق خارجه، ولأنه على يقين بأنه إذا طار خارج السرب، سوف يرميه العقل خارجاً، وعلى اعتبار أن الإنسان كائن اجتماعي، سيبقى وحيدا يضربه هاجس الجنون وهو في عزلة اجتماعية، ويأتي العامل الديني والذي يحتوي في طياته الموروث الثقافي والاجتماعي المسيطر على العقل الجمعي الشرقي والذي ينظم ويرتب الحياة في الشرق ويتدخل في أبسط تفاصيل الحياة لدى الشرق، حتى يصبح الفرد أسير المعتقد الديني، وبأن هناك حياة غير التي نحياها ستعوضنا عن ملذات الحياة. إنها ( الجنة – حيث الرفاهية التامة وكل ما نشتهي )، وبالتقاء المخاوف ذات الطابع الديني مع مخاوف الموروث الثقافي في الشرق يظهر الخوف الأكبر ألا وهو الخوف من السلطة، ومخاوف الشرق من أنظمتها الحاكمة والتي تستثمر جميع المخاوف لتنفرد بتسلطها على شعوبها، الأنظمة ذات الطابع الاستبدادي والتي تكون البديل المفكر عن شعوبها بل وحتى المسؤولة عن أحلامها.
الخوف من السلطة من المخاوف التي اختزلت جميع المخاوف لتستمر على حساب شعوبها، إنها السلطة التي تعتقد أنها هي الحاكمية على الأرض وشرعيتها مستمدة من الآلهة، فسيطر الخوف على الفرد الشرقي من السلطة، حتى بات لا يستطيع أن يحاور ذاته بصوت خافت، خاصة وأن السلطة تترقب أبسط تفاصيل حياته التي تتعارض مع بقائه.
فمخاوف الشرق التي ذكرت كانت عاملاً هاماً في تخلفه وعدم مواكبته حركة العالم، وبينما الشرق يتنقل بين مخاوفه وبشكل اعتيادي حتى أصبح هناك ألفة بين الذات الإبداعية والخوف، نجد بأن الشق الآخر للشرق، ألا وهو الغرب وعلاقته مع الخوف، فالخوف لدى الغرب كان داعماً دائماً وأبداً للتقدم والتطور والازدهار.
يتجلى الخوف في الغرب بمخاوف (بيئية – الأوبئة – لغوية – انقراض الحيوانات وووووووووإلخ) وهو ما جعل هذا الخوف يساهم في جعل العقل الغربي يتحرر من خوفه الداخلي وربطه بعامل التطور، وإعطاءه الدافع لعملية التحليل والتركيب حتى تتمكن من التفسير، ففي الغرب الخوف من الكوارث البيئة مثلاً تدعمه ليعطي كل ما لديه من معرفة، واضعا بذلك آليات وقرارات مدروسة لتجاوز الكارثة البيئية التي تهدد مستقبلهم للخطر، الغرب يستهلك الملايين من الدورلات ليحمي حيوان من الانقراض، ومستعدين دائما لوضع -في شرائعهم ودساتيرهم- فوانيين تحمي حتى الحيوانات من التعرض للأذى، فكيف يكون الفرد لدى الغرب إذ كان دستورهم يحمي الحيوان؟. ومن مخاوف الغرب أيضاَ الخوف من اندثار لغة من لغات العالم وليس غريباً على الحكومة البريطانية التي تعزز تعدد الثقافات أن تحمي الأثينيات والأقليات العرقية والدينية  كلغة الغال حيث أنفقت الحكومة البريطانية ما يعادل 250 مليون جنيه كي لا تزول لغة كلغة الغال .
فالخوف إذن لدى الغرب من الكوارث الطبيعية والبيئية والإنسانية كان داعما لفهم الحياة وازدهارها، مما جعلت الفرد الغربي يتحرر من مخاوفه ليبني عليها أمل جديد للحياة البشرية والاستمرار الطبيعي ولجميع كائناته، وهذا ما يجعل الخوف للغرب قوة داعمة للتطور، ومن خلال ما سردناه من إشكالية الخوف في الشرق والغرب والفرق الواسع بين الخوفين، ظل الخوف الأول والذي أسر فرده داخل مخاوفه ومخاوف مجتمعه، ذات الجذر والموروث الديني والثقافي وبتاالي كان الخوف في الشرق عاملاً لتخلفه وعدم تفسيره لمخاوفه، بينما كان الثاني محرراً لفرده من مخاوفه والتي كانت كما تطرقنا إليها ذات الحامل (بيئي – طبيعي – وبائي –وووإلخ)، داعماً لتطور الحياة في الغرب ، فشتان ما بين الخوفين.
© منبر الحرية،25 غشت/آب 2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20101

عندما تطرح مسألة الديمقراطية على بساط الجدل في المداولات السياسية بين فرقاء عددين ومن مشارب سياسية مختلفة، لاشك أنك سوف تصطدم بإشكالات عديدة، تتمثل برؤى مختلفة بحيث ترى أن موقف أي فريق يتأسس وفقا لموقعه السياسي أو الأيديولوجي وحتى الاجتماعي والاقتصادي، بالمقابل فقد يتناول بعض رجالات الفكر المسألة – ربما –  بمنطق معرفي وبالتالي بمعالجة موضوعية، ومن غير ريب سوف تختلف النظرة والقراءة للديمقراطية بين مجتمع تقليدي كالمجتمعات العربية، ومجتمع منتج للحداثة، كالمجتمع الغربي، فالديمقراطية هي نتاج وحصيلة المجتمع في درجة من تطوّره، وهي تأخذ شكلا يتناسب مع هذه الدرجة من التطور، وهي ليست كيانا خاصا منفصلا عن جسم الدولة ولا عن كيان المجتمع.
إن الديمقراطية بغض النظر عن أصلها اليوناني، هي اليوم بصيغتها المتبلورة جاءت مع الحداثة، وهي عنت فيما عنته التمثيل السياسي في تسيير شؤون الدولة، ومن الطبيعي أن تقضي الحالة بالتعددية السياسية، وكان الحامل الاجتماعي للديمقراطية، هو الطبقة البرجوازية، فقد كانت غداة الاستقلال لم تزل تتمتع بتأثير واضح في حركة المجتمع، رغم أنها كانت في بداية تحوّلها وتكوّنها، لكن هذه الفاعلية أو التأثير جاء وأده مبكرا من خلال الحركات الراديكالية من قوميين ويساريين الذين قادوا الثورات الوطنية حتى تم التحرير، ومن ثمّ قاموا بانقلابات عسكرية فيما بينهم، وسعوا لإلغاء دور البرجوازية في حلبة الصراع الدائر واتهامها كمطية للمستعمر الأجنبي في سياق نضالهم (الاشتراكي) الموهوم، وأيضا من خلال مناداتهم بشعار الوحدة العربية الشعار الوجداني الأثير الذي استحوذ على أفئدة ملايين العرب من المحيط إلى الخليج، ومازال إلى اليوم من يمشي في مناكب هذا الشعار العاطفي لكن في ظروف جديدة ووعي جديد لحقيقة المناداة والمتاجرة بهكذا شعارات، وفي المحصلة كانت النتيجة أو الغاية هي القضاء على حيوية البرجوازية، وإلغاء دورها، وبالتالي تغييب الديمقراطية، والحيلولة دون قيم الحداثة، وكل هذا بالنتيجة يمهد الطريق أمام القوى الأصولية الإسلامية التي يمهد سبيلها دعم الدولار النفطي، وبالتالي خلق هوّة بين المجتمع والدولة وتحكم الدولة بمصير الشعب، دولة من فريق صغير مستبد طاغ يتفرد بالسلطة، دولة ديكتاتورية بما للكلمة من معنى، وبالمقابل كنت تجد المجتمع المدني في حالة ضعف غير متماسك وفراغ سياسي وفي حال تبعية لرموز السلطة أكثر من تمتعها بالاستقلالية مع هشاشة القوى السياسية داخل المجتمع حيث لا تتمتع بفاعلية تذكر، في حين أن غرامشي كان يعتبر مؤسسات المجتمع المدني بمثابة (الأداة الأساسية لإصلاح فساد المجتمع السياسي وإعادة بنائه على أسس أخلاقية وإنسانية..) لكن كثير من قوى المجتمع المدني غالبا ما تكون مقصية في الدول القمعية عن الحيز العام.
إن الديمقراطية كمفهوم ينبغي أن تتجذر في المجتمع البشري أولا كشكل من العلاقات البينية بين الشرائح الاجتماعية المختلفة، قبل أن تتمثل بالعلاقة بين الدولة والمجتمع، كونها بالأساس نبتة اجتماعية تجود بها عقول الناس في حالة من استعصاء العلاقات بين الكيانات الاجتماعية، من جانب آخر فالديمقراطية (هي الشكل الطبيعي لممارسة الطبقة البرجوازية لهيمنتها الطبقية حسب تعبير مهدي عامل)، أي أن الإدارة السياسية للدولة التي تشغلها البرجوازية تعود لهيمنة البرجوازية في مجال التنمية والإنتاج، والاقتصاد عموما، فبالهيمنة الاقتصادية تأتي الهيمنة الطبقية، ومن هذا الوضع تتولد الديمقراطية كحالة من العلاقات الطبيعية، فإذا ما انتفت هذه الهيمنة، تنتفي الديمقراطية أيضا لأن المجتمع البرجوازي برأي ماركس هو الذي يحافظ على تماسك الدولة، وبالمقابل فإن أحزاب البرجوازية الصغيرة عندما تتمثل بالسلطة تنتهي بالتحنط في أجهزة تابعة للدولة تفقد دورها النضالي الذي عرف به في يوم من الأيام، حينما تخطف البرجوازية الصغيرة دفة السلطة في غفلة من الزمن، كما أن الانقلابات العسكرية التي قام بها بعض الضباط ظهرت لنا فيما بعد أنها كانت تجارب فاشلة، وما رفعت حينها من شعارات فضفاضة كانت للاستهلاك والتعمية، فمضمون تلك الشعارات كانت بحاجة إلى كفاءات فكرية، وللأسف كثير من رواد النهضة راحوا خلف الخطاب القومي والشعارات القومية، وراحوا يكبلون أجهزة الدولة بعقيدة سياسية أو دينية، فقطعوا بالتالي الطريق أمام نهوض البرجوازية الديمقراطية كشكل طبيعي للتقدم الاجتماعي، كونها أيضا الحامل الأكيد للديمقراطية، فالثورة البرجوازية في مرحلة ما ضرورية ومهمة لكي يتسنى لها كنس كل بقايا الماضي المتخلف.
المصيبة تكمن في أن الأنظمة العربية تحول دون ترسيخ الديمقراطية كمبادئ أولية في الواقع السياسي العربي بالاحتكام مثلا لصناديق الاقتراع في حال اختيار الحاكمين. لكن المصيبة الكبرى في هذا السياق أن مجتمعاتنا العربية أيضا لا تتقبل الرأي الحر أو الديمقراطية في تناولنا لتراثنا الديني مثلا بالنقد والتحليل، والدولة ربما لضعفها تبدي شيئا من التراجع الخجول أمام المد الديني الأصولي، فلا تظهر كحاضنة لجميع فئات المجتمع بغض النظر عن الدين الذي يعتقد به هذا الفرد أو ذاك، مثلا لا تجد قبطيا واحدا في البرلمان المصري، والدولة المصرية لم تحل دون محاكمة الدكتور نصر حامد أبو زيد، ولا حتى مواجهة التهديد، فهاجر مضطرا ليموت في بلاد الاغتراب مأسوفا عليه، وكان الأولى بالمختلفين معه فكريا أن يواجهوا الفكر بالفكر، لا الفكر بالمدفع، وكان على الدولة أيضا لا التغاضي، بل كان عليها ردع المعتدي.
لإرساء أسس الديمقراطية في أي نظام، لا بد من تفعيل مؤسسات الدولة، والفصل بين السلطات المختلفة، وترسيخ شأن القوانين واحترامها، من هنا يمكن أن نمضي نحو التحول الديمقراطي  بثقة، مع وجوب إيلاء جانب التنمية البشرية والاقتصادية الأهمية الأولى، فضلا عن ترسيخ مبدأ المساواة واحترام حرية الفرد وحقوقه على أساس المواطنة بصرف النظر عن انتماءاته السياسية أو العرقية أو الدينية أو المذهبية، وأي نظام في أية دولة ينشد الديمقراطية كمبدأ لا بد أن تكون الحكومة فيها حكومة الشعب حسب تعبير الرئيس الأمريكي الأسبق حيث يقول : (إن الحكومة الديمقراطية حكومة الشعب، من الشعب، لمصلحة الشعب).
علينا أيضا التنبه هنا من أن ترسيخ الديمقراطية في الدول والمجتمعات يتطلب بداية درجة من تطور المجتمع، وجود قيادة مخلصة ومؤمنة بالديمقراطية كحالة بديلة لما هو متداخل من الأطروحات الأخرى، ولا بد من توسيع مجال مشاركة سائر التنظيمات السياسية المختلفة، والقبول بحكم الأكثرية، لا بد من انتشار التعليم وإشاعة ثقافة الديمقراطية وبانتشار الثقافة الديمقراطية سوف تنتشر العلمانية على نطاق واسع، لأنها تقوم على المحاكمة العقلية، والثقافة الديمقراطية تبيح لها هذا المحظور، أو هذه اللفظة الرجيمة بلغة الأصوليين الإسلاميين.
وثمة من يقول أن الديمقراطية لاتناسب هذا الواقع أو ذاك، ربما جرّاء زعزعة كراسيهم أو عروشهم، إذا كانوا من المتنفذين وأصحاب امتيازات تدرّ عليهم ما تدرّ. إن أية إشكالية في الديمقراطية يمكن أن تعالج من خلال مزيد من الديمقراطية وليس بنفيها.
إن الديمقراطية هي الإكسير الناجع لكثير من الأدواء في المجتمع والدولة، كما قلت في مقالة سابقة، وإن أية ذريعة أخرى تناقض مبادئ الديمقراطية إنما الغاية منها هي إدامة الاستبداد والتسلط إلى أبد الآبدين.
© منبر الحرية،22 غشت/آب 2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

لنبدأ من عبارة لكم عشيّة أحداث 11 أيلول الإرهابيّة في أمريكا مازلت أتذكّرها، كتبتم حينها في جريدة (الحياة) تقولون بأنّ تبرّؤ الرأي العام العربيّ من الإرهاب موقفٌ طفوليّ… وفي موضع آخر كتبتم: أسامة بن لادن، قبل أن يكون صنيعة المخابرات المركزية الأمريكية، رجلٌ منّا وقد صنعته نظمنا الاجتماعيّة…أين هي مسؤوليّة الشعوب العربيّة والإسلاميّة من المدّ الأصوليّ التكفيريّ و التدميريّ في المنطقة؟
ج1-ينبغي تصحيح العبارة هنا. عندما نقول مسؤوليتنا، فنحن لا نقصد الشعوب بالمطلق لأنّ هذا لا معنىً له، إنّما نقصد مسؤولية المؤسسات التي أقَمنا عليها اجتماعَنا، كما نقصد الاختيارات الكبرى التي اعتمَدتْها النّخب الاجتماعيّة المسيّرة للمجتمع والموجِّهة له على المستويات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة والدينيّة معاً. فهذه المؤسّسات والاختيارات التي تمثّلها والتوجّهات التي تفرض عليها من قبل النّخب هي التي تحدّد إطار عمل الشعوب والأفراد، وغاياتهم وأساليب عملهم واختياراتهم المُحتَملة ووسائل تحقيقهم لغاياتهم. وإذا فسدت المؤسسات أو فسدت الاستراتيجيّات التي تسيّرها، فسد المجتمع نفسه، فسارَ نحو الصراع أو العنف والاستثمار في القيم السلبيّة، أو نحو الفوضى والاقتتال. فالشعوبُ محكومةٌ بمؤسّساتها والمشاريع الجمعيّة التي تندرج فيها والقيم التي تحرّكها، وليس بموروثها البيولوجيّ أو الثقافيّ. ولا ينبغي أن نتردّد في تأكيد فساد مؤسساتنا، وأكاد أقول جميعاً، الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة والدينيّة معاً. وهذا الفساد هو المسئول في الوقت نفسه عن تحويل البلدان إلى مزارع إقطاعيّة يعبث بها أمراءٌ من دون ثقافة ولا ضمير، حسب أمزجتهم الشخصيّة، خارج أيِّ مفهوم للسياسة والقانون والدين والأخلاق والإنسانيّة.  بقدر ما هي مسؤولة، أعني المؤسّسات الفاسدة، عن تفجير ينابيع الحقد والانتقام وإرادة تدمير المجتمع والانقلاب عليه لدى فئات لم تعد تحتمل النظام، ولكنها لا تعرف وسائل ولا طرقاً أخرى لمواجهته غير ما يستخدمه هو ضدّها. حركات التمرّد والانتقام والعصيان وحمل السلاح هي الابن الشرعيّ لنُظُم العسف والفساد و الإهانة والطغيان. ومصيرهما معلّقٌ واحده بالآخر.
2- هناك مفارقة كبيرة تبدو لي عند الحديث عن الديمقراطية في سوريا، فللوهلة الأولى يبدو وكأن هاجس الانتقال/التغيير الديمقراطيّ في سوريا هو”مالئ الدنيا وشاغل الناس” في حين أن أغلبية الشعب السوريّ لا تكترث لهذه القضيّة التي تبدو مركزيّة في خطاب المعارضة السوريّة(الذين ليسوا سوى مجموعات صغيرة  نجت بأعجوبة من مذبحة السياسة حسب تعبيركم في “الاختيار الديمقراطي”)، ناهيك عن تخوّف قطاعات واسعة  في سوريا،  مواطنين عاديين وناشطين في حقل الشأن العام، من أنّ البديل القادم للنظام القائم حالياً سيكون إمّا الفوضى(الحرب؟؟!!!) الأهليّة أو إسلام سياسيّ متشّدد(استبداد دينيّ إسلاميّ مذهبي الطابع)  أو مندوبي حكومات غربيّة(عملاء)….. ما بين اللامبالاة الشعبيّة و”الحياديّة السلبيّة” لآخرين وعداء الكثيرين للديمقراطيّة من جهة وحماس النشطاء السياسّيين والمثقّفين الوطنيّين لشعار الديمقراطيّة من جهة أخرى..، هل هو “الخوف والهروب من الحرية”  بتعبير إريك فروم، السّاكن في البنية الثقافيّة والسيكولوجيّة لإنساننا المُستعبَد هو الذي يقف خلف هكذا مواقف؟! وكيف يمكن تعزيز ثقة الناس بقبول عقدٍ اجتماعيّ سياسيّ جديد يؤسّس لسورية المستقبل بدلاً من نظام الاستبداد والفساد والتفكّك الاجتماعيّ والانهيار الاقتصاديّ؟
ج2- سكوت الناس وشلل إرادتهم لا يرجعان لخوفهم من الحريّة، كما يخاف الأسير الذي اعتاد الأسر من الخروج من قفصه. ربّما كان الأمر أعمق من ذلك. فالشعوب العربيّة والإسلاميّة لم تعرف الحرّيّة، ولا اختبرت ممارستها، بالمعنى السياسيّ والمدنيّ الحديث الذي نستخدمها به اليوم، أي من حيث هي حقوقٌ وممارسات فرديّة ومشاركة في تقرير الشؤون العموميّة. فهذا المعنى هو ثمرة الحداثة السياسيّة التي جعلت الشعب مصدر السلطة وأسّست لشرعيّة شعبيّة للسياسة، أي انتخابيّة ديمقراطيّة، بعد أن كانت شرعيّة ملكيّة تبقيها حكراً على الحاكم الملك أو السلطان. وباستثناء فترات قصيرة ومتقطّعة لم تعرف مجتمعاتنا حياة سياسيّة ديمقراطيّة فعليّة ولا سَنَحَت لها الفرصة لتمثّل قيم الحرّيّة بمعانيها المدنيّة والسياسيّة. بقينا ننظر إلى الحرّيّة من منظار الشريعة والعرف أيْ بوصفها صفة الشخص غير المملوك من غيره، أي عكس العبد والرقيق. ولذلك لا يبعث الحُكم الديكتاتوريّ مهما استمرّ وبالغ في تعسّفه على الشعور بانعدام الحرّيّة، فنحن نبقى من الناحية الشرعيّة أحراراً، ولا يثور الرأي العام ضده إلاّ عندما يرتبط بالظلم، فلهذا الأخير مدلولاً واضحاً وسلبيّاً في الثقافة والوعيّ الإسلاميّين. بل إن الديكتاتوريّة لا ترى كديكتاتوريّة، ولا تعبر هذه اللفظة عن شيء مهم في الوعي السّائد العام. إن المدلول الديكتاتوريّ يجد تجسيده في مصطلحات التعسّف والطغيان والفساد. فإذا لم تترافق السلطة المطلقة بالفساد لا نسميها ديكتاتوريّة، ونتسامح كثيراً مع تغييبها الحرّيّات، بل ربما نظرنا إليها كسلطة ايجابيّة إذا ارتبطت بالتطبيق الدّقيق للشريعة أو القانون واحترمت قاعدة الإنصاف في تعاملها مع الأفراد فلم تميّز بينهم. وهذا هو مضمون النظريّة الشّهيرة للمستبدّ العادل  الذي كان يطالب به المصلحون الكبار في العصور الإسلاميّة، بما في ذلك في عهد الإصلاح الدينيّ الأخير في أواخر القرن التاسع عشر. وأعتقد أن أغلبية النخب العربيّة والإسلاميّة لا تزال تعتقد حتى اليوم، بسبب عدم ثقتها بالشعب وجهلها العميق بمعنى الحرّيّات المدنيّة والسياسيّة هي نفسها، بأن حكم المستبدّ المستنير خيرٌ من حكم الديمقراطية الذي ربّما أتى بحكومات تقليديّة معادية للحداثة والتجديد.
والواقع أننا لم نعرف في مجتمعاتنا معنى السياسة الحديثة من حيث هي مشاركة لجميع أعضاء المجتمع في تقرير الشؤون العموميّة. لقد كُنا معتادين، مثلنا مثل شعوب العالم جميعاً في القرون الوسطى، على تسليم أمرنا لأسيادنا، ملوكاً أو أمراء أو أعيان، في الشؤون العموميّة، شؤون الحرب والسلام والحكم والقضاء، وربّما حتى الآن، بينما نعتمد في تنظيم شؤون حياتنا الخاصّة في كل ما عدا ذلك على تقاليدنا الدينيّة أو العرفيّة أو الاثنين معاً.
من الطبيعي في هذه الحال أنْ لا يحرّك شعارُ الحرّيّاتُ الفرديّة، الذي يعني المشاركة في تقرير الشؤون العموميّة، الأغلبيةَ الشعبيّة التي لم تؤمن يوماً أنّ من حقّها التدخّل في ما هو من اختصاص الأعيان. بل ربما كان مثل هذا الشعار سبباً في تنفيرها من السياسة لأنّه يبدو وكأنه شرك تستخدمه النخب السياسيّة المثقّفة والحديثة لدفعها إلى الوقوف في مواجهة السلطة وتعريضها لانتقام هذه الأخيرة العنيف. وحتّى أولئك الذين استبطنوا معنى الحرّيّة الفرديّة، وهم أقلية، لا يتجرّؤون على المطالبة بها لأنهم يدركون أنه لا أملَ في تحقيقها في النظم السياسيّة العربيّة الرّاهنة، وأنّ المجاهرة بها يمكن أنْ تعرّضهم لانتقام الحكّام تماماً كما كان الأقنان يتعرّضون للموت إذا اعترضوا على سياسات أسيادهم الإقطاعيّين أو ارتفعوا بتفكيرهم إلى مستوى مناقشة أحكامهم السياديّة.
لكنّ القول أنّ قلّة من النخب السياسيّة والثقافيّة الحديثة هي التي تملك الحسّ العميق بمعنى الحرّيّات الفرديّة، بقدر ما تطمح إلى المشاركة السياسيّة، والمعاملة على قاعدة المساواة ورفض العبوديّة، لا يعني أنّ قضية الحريّة لا تعنى إلاّ النخب المثقّفة الاجتماعيّة والسياسيّة، ولا تفيد غيرها. إنّ إقامة نظام مدنيّ قائم على احترام الأفراد ومشاركتهم جميعاً في الحياة السياسيّة، وتطوير وعيهم المدنيّ وتعميق شعورهم بالمسؤوليّة عن مجتمعهم وما يحصل فيه، عن حالته وتقدّمه ومستقبله ومصيره، لا يشكّل اليوم النظام الوحيد القادر على بناء جماعة سياسيّة حيّة وفاعلة ومبدعة فحسب، قادرة على التفاعل والتعاون والتواصل مع المجتمعات المحيطة بها والدفاع عن نفسها ومصالحها. إنّه يشكّل أكثر من ذلك شرط ولادة مفهوم المصلحة العموميّة، أي نشوء رؤية وطنيّة تساعد الفرد على النّظر أبعد من مصالحه الشخصيّة المباشرة ليأخذ بالاعتبار مصالح الآخرين أولاً، وليضع مصلحته الفرديّة ضمن قاعدة القانون الذي يشكّل مصلحة عموميّة، لأنّه لا بقاءَ للمجتمع من دونه، ثانياً. نظام الحرّيّة هو وحده الذي يمنع من استفحال الأنانيّة البغيضة وما يرتبط بها وتحميه من قيم الوصوليّة والانتهازيّة والمحسوبيّة، أي يخلق داخل كل فرد وعياً بأنه جزءٌ من كلٍّ، وأنّ الحفاظ على توازن الكلّ الاجتماعيّ وانسجامه هو شرطٌ لاستمراره في تحقيق مصالحه الخصوصيّة. وليس هناك أكثر دلالة على ذلك مما نشهده من ارتباط واضح داخل النظم الاستبداديّة بين إلغاء الحرّيّة وانعدام المسؤولية وسيطرة المصالح الأنانيّة التي تتسبّب في تدمير المؤسسات وتعميم الفساد والظلم والاقتتال معاً.
أما تأسيس عقد جديد ينقل المجتمع من الديكتاتوريّة والفساد نحو حياة ديمقراطية حقّة فهو مرتبط بمجموع العملية التحويليّة التي نسمّيها معركة الديمقراطيّة. وهي في نظري معركة تاريخيّة تستدعي الاستثمار الفكريّ والسياسيّ والاجتماعيّ والأخلاقيّ والاقتصاديّ الطويل، الذي يتطلّب جهداً متواصلاً وإراديّاً كبيراً من قبل النخب الاجتماعيّة وفي طليعتها المثقّفون، تتناقض كلّياً مع الانقلابات العسكريّة التي عرفناها في السابق، ولا تقتصر على انتظار انهيار النظام الاستبداديّ أو الانقلاب عليه. إنّها ترتبط بإعادة بناء الوعي ومنظومة القيم وترميم قنوات التواصل والتفاعل والتضامن بين أفراد المجتمع، وقبل ذلك، بين أفراد النخبة الاجتماعيّة. ومن دون ذلك لن يجلب الانقلاب على الوضع الاستبداديّ إلاّ وضعاً استبدادياً آخر شبيهاً به أو قريباً في صورته منه. فالديكتاتورية ليست انعكاساً لإرادة شخصيّة من قبل القائمين عليها، حتى لو ظهرت وكأنّها كذلك، ولكنها قائمة على شروطٍ موضوعيّة وذاتيّة ومرتبطة ببيئة فكريّة وثقافيّة وسياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة أيضاً. فشبكات المصالح الأنانيّة وما تتميّز به من بُنيات خاصة، هي التي تخلق المستبدّ الحاكم بأمره، وليس العكس. لذلك إنّ الخروج من الديكتاتورية لا يتحقّق إلاّ بتغيير يشمل جميع الأفراد ومستويات الحياة الاجتماعيّة، فهو مسؤولية الجميع، وفي مقدمتهم النخب الاجتماعيّة. والطريق  إليه هو تربية الناس وكلّ فرد على مبادئ المسؤوليّة، أي إدراك ترابط مصالح الفرد الخاصّة بمصالح الأفراد الآخرين، واستعداده للمشاركة في حمل المسؤوليّة. بل إنّ الديمقراطية ليست شيئاً آخر سوى مشاركة الجميع في تحمّل مسؤولية تقرير مستقبلهم المشترك. إذا وصلنا إلى هذا الموقف ونمّينا هذا الاستعداد عند الأفراد أصبحنا واقعاً، أو من حيث الواقع، مجتمعاتٍ ديمقراطيّة. فقاعدة الاستبداد الكبرى ومورده هو الاستقالة السياسيّة، أي التخلّي عن المسؤوليّة وتحييد الفرد لنفسه عن التفكير والعمل في الشؤون العموميّة.
3- ثمّة التباسات عديدة حول مفهومَيْ الديمقراطيّة والليبراليّة نظريّاً وإجرائيّاً وقد توسّعتم في هذا الموضوع….في حين أن نقاشاً مشابهاً دار حول العلاقة بين الديمقراطيّة والعلمانيّة في سوريا… هل صحيحٌ أنّ العلمانيّة يجب أن ُتطرح الآن بالترافق تماماً مع الديمقراطيّة، أم أنّ العلمانيّة كمطلب سياسيّ واقعيّ عند البعض وشعار برّاق بلا روح ومضمون ثقافيّ ديمقراطيّ عند آخرين، يجب أن يؤجّل لمصلحة أولوية إقامة نظام ديمقراطيّ أولاً…؟
ج3-لا ديمقراطية من دون “علمانية”، أي من دون قبول الأفراد بمبدأ الاحتكام للرأي في تقرير كل ما يتعلق بالشؤون العموميّة، بما في ذلك في القوانين والتّشريعات التي تحكم النّظام الاجتماعيّ. إذا فَرض فريقٌ على المجتمع مبدأ آخر غير الرأي في معالجة الشؤون العموميّة، لم تعد هناك ديمقراطية وإنّما نظامٌ مرهون بالنصوص المقدّسة التي يحتاج تفسيرها إلى تفاهم واتفاق مسبق بين جميع أصحاب العقيدة الدينيّة الواحدة، وهو أمرٌ مستحيل لأنّ الاختلاف في التأويل هو جوهر الحياة الفكريّة، وهو واقع الحال اليوم في كلِّ مجتمعات العالم وجماعاته الدينيّة. ولا أعني هنا بالنصوص المقدّسة الإلهيّة منها ولكن المنزّلة من قبل الحكّام الذين يؤلّهون أنفسهم أيضاً، حتى لو وسموها باسم العلمانيّة، كما حصل مع النظم الشيوعيّة. فقد كانت قوانينها توصف بالعلميّة، أي التي لا تخطئ، والتي لا يمكن أن يكون موقفنا إزاءها وإزاء منتجيها من العباقرة الأفذاذ، إلاّ موقف التسليم والاقتداء. ونستطيع أن نقول الشيء نفسه تجاه بعض الترسيمات القوميّة التي يعتبرها أصحابها ثوابت لا تناقش ولا يمكن للمواطنين، قلّة كانوا أم كثرة، التشكيك في صلاحيتها أو حتى طرحها على النقاش.
لكن تأكيد هذا المبدأ أو التوقف عنده لا يحلّ المشكلة أبداً. ذلك أنّ الاستخدام السياسويّ، والتعبئة التي حصلت في الصراعات الطويلة السابقة بين الأحزاب والفرق السياسيّة المتنازعة، قد غيّرا معنى العلمانية، بالمفهوم الذي ذكرته للتوّ، أي إنزال كل ما يتعلّق بتنظيم المجتمع من قواعد ومؤسسات ومبادئ وقيم، إلى مستوى الرأي والقبول بتعريضه لنار العقل الكاوية. فأصبح البعض ممّن يدافع عنها يطابق بينها وبين نزع الدين السماويّ من المجتمع أو السياسة بمعنى النشاط الاجتماعيّ اليوميّ، وأخذ البعض الآخر ينظر إليها في مواجهة الفريق الأول على أنها مرادفة للكفر والتخلّي عن الدين وأي إيمان واعتقاد، أو على الأقل تحييد الدين من حيث هو التزام عقائديّ وأخلاقيّ، عن الحياة العامة، وبالتالي الانحطاط بالإنسان الآدميّ في نظر هؤلاء إلى مستوى البهيميّة. هكذا صارت العلمانيّة سلاح أولئك الذين يريدون وضع حدٍّ لنفوذ الدين السماويّ وما يرتبط به من تقاليد محافظة في المجتمع، وصار التشهير بها وتشويه معناها وربطها بالدعوة إلى انعدام الدين والأخلاق ومساواة الإنسان والحيوان سلاح أولئك الذين يريدون تطبيق الشريعة الدينيّة وإقامة السلطة العادلة والأخلاقيّة. وشيئاً فشيئاً تحوّلت إلى مصدر إضافي للنزاع والصدام وسوء الفهم والقطيعة داخل قطاعات الرأيّ العام بدل أن تكون إطاراً لتجاوز اختلافاتهم العقائديّة، لا إلغائها، في سبيل توحيد كلمتهم وإرادتهم السياسيّة. وعمل تشويه معنى العلمانيّة وإفساد مضمونها ودلالاتها عبر هذه المعركة السياسيّة والاستخدامات الأداتيّة على إساءة سمعتها، وقاد إلى تحييدها من النقاش السياسيّ، أو استبعادها الإراديّ من قبل قسم كبير من أصحاب الرأي الديمقراطيّ والقوميّ، لتجنّب النزاعات العقائديّة الثانويّة، والاحتفاظ بأمل توسيع قاعدة التفاهم بين الأطراف والتيارات الاجتماعيّة على اختلاف فلسفاتها، خاصة بعد فساد المصطلح واختلاط مدلولاته. وهو ما كانت الحركة الوطنيّة قد فعلته منذ بداية القرن التاسع عشر عندما رفعت شعار “الدين لله والوطن للجميع”، من دون أن تغامر بفتح النقاش النظريّ الضروريّ لتأصيل المصطلح وتأسيسه في الفكر والثقافة العربيّة الحديثين. فبقي لذلك عائماً ومائعاً من دون معنى واضح ولا مدلول دقيق، وبالتالي موضع نزاع مستمرّ.
ليس هناك حلٌّ لهذا الاختلاط الهائل الذي ارتبط بمفهوم العلمانيّة وصبغ طريقة تعامل الأطراف السياسيّة المختلفة معه، وتحميله معاني متباينة ومتناقضة تكاد تقضي عليه، إلاّ بالعودة إلى الموضوع والقبول بفتح النقاش المعلّق أو المؤجّل منذ عقود حول العلمانيّة وإعادة تعريفها وتحديدها، في إطار بناء ثقافتنا السياسيّة الديمقراطيّة الجديدة المنشودة. فإذا حرّرنا معنى العلمانيّة من استهداف الدين السماويّ خصوصاً، كما أوْحَت به أو نشرته بعض العقائديات الماركسيّة واليساريّة والتحديثيّة عموماً، واستبعدنا التأويلات اللاإنسانيّة واللاأخلاقيّة  التي درجت عليها ولا تزال بعض التيارات السلفيّة الإسلاميّة، لن يبق منها سوى ما ذكرناه. أعني لن يكون للعلمانيّة معنىً آخر مختلف عن معنى المدنيّة، بما تعنيه المدنيّة من أسبقيّة الاعتماد على الرأي، أي من إخضاع جميع القرارات والأحكام المتعلّقة بالشؤون العامة للنقاش الحرّ والعقلانيّ بين ممثلي الشعب. والتأكيد على استخدام الرأي وإعمال الفكر في كل ما يتعلق بالشؤون العموميّة، أي السياسيّة، والمجتمع الحديث هو مجتمعٌ سياسيّ أساساً، لا يمكن أن تنفي الدين ولا حقّ المتدينين في استلهام القيم الدينيّة عند صوغهم لآرائهم وأفكارهم السياسيّة. فليس هناك مبدأ سياسيّ أو اجتماعيّ يمكن أن يستبعد الدين أو أن يقرر استبعاده من أن يكون مورداً للأفكار والقيم التي تحرّك المؤمنين وتوجّه تفكيرهم وأعمالهم وسلوكهم. إنّ ما يستبعد هو فرض الرأي، سواء أكان من استلهام الدين أو العقل، على الآخرين، وعدم القبول بقاعدة سيطرة الأغلبيّة على الأقليّة. لكن هذه السيطرة لا تعني سوى حقّاً مؤقّتاً سياسيّاً، لا يصبح شرعيّاً إلاّ بقدر ما تضمن الأغلبيّة احترام رأي الأقليّة،  ولا تقوم بما يحرم هذه الأقليّة نفسها من التحوّل، عن طريق  النقاش والحوار والنشاطات السياسيّة والثقافيّة القانونيّة، إلى أغلبية سياسيّة.  والخلاصة أنّ الديمقراطيّة لا تقوم من دون علمانيّة. لكنّ العلمانيّة لا تعني تبنّي عقيدة لا دينيّة ولا استبعاد الدين من الحياة العامة ولا تقييد الحرّيّات الدينيّة. إنّها تعنى حياد الدولة ومؤسّساتها تجاه الأديان والعقائد وعدم انخراطها فيها أو الاعتماد عليها للتغطية على سياستها غير المقبولة أو لخرق الشرعيّة الديمقراطيّة.
4-هناك حساسية فائقة لدى البعض من أن أي دعوة للديمقراطية في سوريا تعني بالضرورة سيطرة الإسلاميين المتشدّدين على نظام الحكم في البلاد…بالمقابل نجد أن الديمقراطيّة كنظام وثقافة لا تتمتّع بسمعة طيّبة ورصيد كبير في أوساط الإسلام السياسيّ بشكل عام….كيف نفسر هذا الالتباس والتناقض وما المخرج من هذه الإشكاليّة؟
ج4- ليس هناك تناقض بالضرورة. الفرق الإسلاميّة المتشدّدة الحديثة يمكن أن تستخدم أساليب حديثة لتحقيق أهداف قديمة. ويمكن أن تُستخدم الديمقراطيّة لبناء سلطة معادية لها. وهي ليست الفرق السياسيّة الوحيدة التي تفعل ذلك. فالفاشيّة فعلته من قبل. لكنني لا أعتقد أن الانتخابات الديمقراطيّة تعني بالضرورة سيطرة الإسلاميين، وأقل من ذلك الإسلاميين المتشدّدين. ربما كان ذلك مُحتَملاً منذ عقدين. وهو محتملٌ في مجتمعات تعاني من أزمة وطنيّة حادّة ودائمة كما هو الحال في فلسطين أو في العراق. لكن في الظروف الطبيعيّة، وفي بلدان تتمتّع بالحدّ الأدنى من الاستقرار لا يطمح الإسلاميّون بالحصول على أكثر من ثلث المقاعد في أي مجلس نيابيّ مُحتَمل، هذا في أحسن الأحوال. لكن لنْ يحصل المتشدّدون ربّما على خمسة بالمائة كأقصى حد. وأمامنا أمثلة كثيرة في كل الدول العربية التي حصلت فيها انتخابات مثل مصر وبعض دول الخليج والأردن والمغرب الأقصى وحتى الجزائر وتونس. لكنّ الإسلاميّين الذين سيفوزون ليسوا بالضرورة من النوع المنغلق الذي يرفض التفاهم مع قوى أخرى غير إسلاميّة. فهم يعرفون اليوم أنه ليس بإمكانهم حكم البلاد لوحدهم.
لكن ما هو أهمّ من ذلك هو أن أيّ انتخابات تقوم في سياق عملية انتقال مدروسة من حكم الحزب الواحد إلى حكم تعدّديّ لا تقوم ولا ينبغي أن تقوم عبر انقلابٍ عسكريّ وإنّما من خلال عملية سياسيّة يتم فيها التوافق بين القوى السياسية على شروط المرحلة الانتقاليّة، وبالتالي أيضاً على صوغ قانون للانتخابات يراعي مصالح الجميع ويمنع الانفراد أو الإجحاف بحقّ القوى المختلفة. ويشكّل هذا التفاهم ضمانة قويّة ضدّ الانحرافات أو المخاطر المُحتَملة لسيطرة الإسلاميين. بالإضافة إلى أنّ مؤسسات الجيش والأمن في جميع البلاد العربية تشكّل، كما هو الحال في تركيا، معقلاً للتيّارات غير الدينيّة. وليس من المطلوب حلّها للقيام بالانتقال نحو الديمقراطيّة.
بالعكس، إن تأجيل الانتقال هذا، بما يرافقه من تراكم التوتّر والضغط والاحتقان،  هو الذي يضاعف من مخاطر الانفجار والانتقال من دون تفاهم نحو حكم تعدديّ يصبح فيه الأكثر قدرة على تعبئة المشاعر الطائفيّة هو الحكم في اللعبة الانتخابيّة. إنّ ترك الأمور للصدف هو بالضبط الذي يهدّد باستلام الإسلاميين المتطرّفين بالفعل، وليس تنظيم الانتقال من خلال عملية تفاهم وطنيّ وتحوّل تدريجيّ مضبوط ومتّفق عليه. والقصد لو كانت هناك إرادة تحوّل ديمقراطيّ بالفعل، لحصل ذلك من دون أي مخاطرة، و لَكَان من السهل جداً التوافق على مراحل انتقاليّة تمنع أيّ انزلاق أو انحراف.
© منبر الحرية،15 تموز/يوليو  2010
(هذا  النصّ جزء من حوار نشر في مجلة الحوار”ثقافية فصلية حرّة، تصدر في سوريا”)

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

دائما عندما تطرح مشكلة الفساد في العالم العربي، تطرح كقضية جزئية قابلة للحل بفعل إجراءات إدارية بحتة تتمثل بمحاسبة موظفين، ووضع قوانين وتفعيل قضاء و..، أي أن موضوع الفساد  مازال يحارب بطريقة إدارية، بعيدا عن النظر إليه كمسألة سياسية تدخل ضمن إطار ما يمكن تسميته بناء الدولة الوطنية القادرة أو السير باتجاه بنائها على الأقل.
وجهة النظر السائدة عربيا في مقاربة الفساد تقول بأن الفساد مشكلة كغيرها من المشاكل الإدارية التي تهدد كيان الدولة والسلطة التي تسعى بصدق لمحاربته، ولكنها لا تمتلك الآليات اللازمة لذلك، بسبب عدم تبلور مفهوم واضح للدولة وبسبب غياب الوعي، وتصل وجهة النظر هذه إلى نتيجة مفادها أن السلطة خاصة في الأنظمة الشمولية تريد محاربة الفساد، ولكنها لا تستطيع وتقف عاجزة أمام تغوله وتمدده في كل شرايين الدولة التي اختزلت بمجرد سلطة بعض الأجهزة.ولكن النظر إلى وجهة النظر السابقة من زاوية نقدية، ربما توضح لنا  أن وجهة النظر السابقة والإصرار على تعميمها شعبيا لتكون مقبولة ومغطاة معرفيا يجعل من وجهة النظر هذه – في أحد وجوهها –  نوع من أنواع الفساد المعرفي الذي تعممه السلطات وأركانها وأزلامها من أشباه المثقفين لإعطاء شرعية ما لأنظمة مستبدة تجعل من الفساد وتعميمه لعبتها المفضلة، في تدجين وتخريب وتركيع وتقطيع أوصال المجتمع الذي تحكمه ،ليغدو قطيعا بحق، فاقدا لكل مقومات النهوض والمقاومة تجاه من ينتهكوه ويسرقوا قوته هذا من جهة ، ومن جهة أخرى تعمل وجهة النظر السابقة عبر تعميمها وترويجها على أنها المقاربة الصحيحة للفساد على إخفاء وتغطية الفساد الحقيقي  مرتين، مرة عندما تغطيه معرفيا بعدم النظر إليه كما هو، أي تعميم الوعي الكاذب والواهم به على أنه هو الصحيح، ومرة عندما تحجب النظر عن الترابط القائم بين الفساد والأنظمة الشمولية، ترابطا يكاد يكون أبديا وفق عقد مقدس غير معلن، بحيث يمكن القول أن الاستبداد لا يستمر دون وجود أجهزة ترعى الفساد وتعممه، ترعاه وتستخدمه مرتين أيضا، مرة لتحقيق مصالح شخصية للأشخاص الممسكين بزمام الأمور( ثراء غير مشروع وجنس ومناصب) ومرة لتحقيق أمن النظام الشمولي، وهكذا يتداخل الفساد الشخصي مع الفساد العام في جدلية معقدة ومتراكبة على أكثر من مستوى، جدلية لا يمكن فهم آلياتها وتركيبتها بسهولة، جدلية لا تسمح لنظيف يد أن يستمر في سلطة أو منصب، لأنه يغدو معيقا لآلية عمل النظام نفسه.
ونظافة اليد هذه أكثر ما تربك النظام الشمولي وتحيره، فهو من جهة بحاجة إلى أشخاص نظيفي اليد ليكونوا واجهة تغطي استبداده وفساده ،  ومن جهة أخرى وهي الأهم أنه بحاجة لهم لإدارة اقتصاد أنهكه الفساد ووصل مرحلة الترنح، هكذا يجد نفسه مضطرا بحكم الحاجة إلى الاستعانة بهم، ولكن إلى حين فقط، لأن الإجراءات التي سيتخذها الخبراء النظيفي اليد، ستعمل في مرحلة أولى على كشف فساد بعض الرؤوس والإطاحة بها وليس للنظام الشمولي في هذا مشكلة أبدا، لأن مصلحته هي الأهم، ولكن بعدها ستمس هذه الإجراءات البنى والأسس التي يقوم عليها النظام ككل، وخاصة الأجهزة التي ترعى أمن النظام وتحميه(لأنها كما قلنا هي شريك أساسي في الفساد بشكل شخصي وبشكل عام)، وهنا يجد النظام نفسه محاصرا بين من يرعون أمنه و”فساده” ويخربون اقتصاده بذات الوقت، الأمر الذي يدفعه إلى إنهاء المرحلة واختزال محاربة الفساد بإطاحة بعض الرؤوس التي تكون كبش فداء المرحلة.
هكذا إذن يستخدم النظام الشمولي الفساد كأداة لإفساد المجتمع وتفتيته حتى يمكن السيطرة عليه وإخضاعه، والنظام يتمنى لو يستطيع أن يبقي بيدق الفساد بيده وحده، ولكن إحدى صفات الفساد أنه كالزئبق لا يمكن إمساكه، ينتشر في كل أنحاء المجتمع وينشر قيمه الخاصة به، لنجد بعد فترة أن الفئات الأكثر تضررا من الفساد هي من يدافع عنه ويشرعه، ويصبح الفساد قيمة مجتمعية كاملة، ويصبح الناس عبيدا له مرتهنين لقيمه باحثين عن الثراء السريع بأية وسيلة، لتغيب قيم العمل والجد وتحل محلها الوصولية واللصوصية المشروعة، وهذا يؤدي في النهاية إلى تدمير مؤسسات القطاع العام وخسارتها لأنها تصبح محكومة بإدارة فاشلة وناهبة يضاف لها عمال لا يعنيهم ربحت المؤسسة أم خسرت، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى خلق دولة مشوهة ومعطوبة تعاني من أزمات وانسدادات بنيوية عميقة في كل مستوياتها.   ويمكن القول أيضا أن الفساد  كالماء يتسرب بين الشقوق، بما فيها شقوق النظام نفسه، فيملأها وينخرها إلى أن تحين لحظة الهتك الكبرى فيسقط كل شيء، لنجد أن الفساد حربة بيد النظام ولكنها أيضا حربة ضده على المدى الطويل، إذ يعمل خصوم الأنظمة الشمولية على استخدام هذا الفساد لتوجيه حربته نحو نحرها.
ربما يساعدنا ما سبق في فهم بعض أسباب فشل كل حملات الإصلاح التي تعلن بين حين وآخر، وبشكل خاص نفهم سبب فشل وجهة النظر القائلة بإصلاح الأنظمة الشمولية من داخلها، لأن الإصلاح الذي يطرح بشكل إداري بعيدا عن نقد المنظومة السياسية القائمة، وطبيعة الدولة، سيكون فاشلا، لأن الإصلاح لا يمكن أن يكون جزئيا، لا بد له أن يكون كليا، ينطلق من مقاربة أسباب العطب بشكل جوهري وواضح ، أي لابد من المعاينة بشكل كلي لا جزئي لأعطاب الأنظمة وهو غير ممكن في النظام الشمولي.
يمكن الخلوص إلى نتيجة مفادها أن الفساد يعمل في خدمة الاستبداد ويسعى إلى تمكينه من السيطرة على مجتمعه وخنق قواه الحرة عبر تجريدها من كل وسائل مقاومتها المدنية، ليغدو الفساد شرطا واجبا لاستمرار الاستبداد دون أن يكون الاستبداد شرطا واجبا لاستمرار الفساد لأن الفساد مرض ينتشر حتى في الدول التي تملك ديمقراطيات عريقة، ويتمثل الفارق بين الأنظمة الشمولية والديمقراطية في مقاربة الفساد، بأن الأولى لا يمكن مقاربة الفساد فيها إلا من وجهة نظر سياسية وكلية، بينما في الثانية يكتفى بالنظر إليها كمشكلة إدارية وجزئية.
© منبر الحرية،05 تموز/يوليو  2010

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

لا خلاف على أنّ هناك خلل عميق يؤثر على مسيرة التنمية في دولنا العربية عامة والمغرب العربي خاصة، كما أن هناك شبه إجماع بأن الإصلاح المنشود لإزالة هذا الخلل وإذكاء نهضة حقيقيّة، لابد وأن يبدأ بالإصلاح السياسي، إلا أننا غالبا ما نجد أن هذا الإصلاح في عمومه قد يتناول الشكل دون المحتوى فنعود إلى سيرتنا الأولى.
وهذا العجز والإعاقة التي ميزت مسلسل التنمية في دولنا ما هو إلا انعكاس عن سوء استغلال “الثروة البشرية”، وهي حقيقة لا يمكن إنكارها، فالتنمية الشاملة بحاجة لجهود أبناء المجتمع بكامله، فكلما عملت الدولة على تنمية قدراتهم عن طريق التأهيل والتدريب المستمر والإدماج كلما تقدمت اقتصاديا اجتماعيا وثقافيا . .
وفي هذا الصدد يمكننا التساؤل عن أعداد المعاقين في مجتمعاتنا؟؟ كما أذكر أنه كلما كانت أعداد المعاقين كبيرة كلما ضعفت الإمكانات التنموية في المجتمع، لأن الإنسان هو محور التنمية ومبتغاها .
هناك من سيذهب للقول بأن هذه المشكلة مطروحة عالميا، وقد عملت الأمم المتحدة على خلق آليات دولية للدفاع عن حقوق المعاقين وحرياتهم الأساسية، وأبرزها المنظمة العربية الإفريقية الدولية لحقوق المعاقين.
فهل تم فعلا العمل من أجل إدماج هذه الفئة الفاعلة في مجتمعاتنا؟؟
أحيانا يبدو لنا أن أعداد المعاقين في أوطاننا بسيطة بسبب أننا لا نراهم كثيرا من حولنا وحتى عندما نصادفهم فإننا نقصفهم بتلك النظرة التقليدية والصور النمطية.
إنهم بشر مثلنا لم يختاروا إعاقتهم بأنفسهم ولا يمكن تغييبهم عنا بسب إهمال المسؤولين في توفير خدمات ومرافق لتسهيل تنقلهم وممارسة حياتهم بشكل أفضل.
سنتوقف وقفة تأملية في حياة شاب مغربي يدعى “محمد العاطفي” الذي اختار طواعية عرض تجربته الشخصية عبر مرحلتين عاشهما في حياته قبل الإعاقة وبعدها ، يقول :
(أنا لم أختر إعاقتي لكنها كانت قضاءا وقدرا إثر سقوطي من علو 16 متر من موقع عملي كتِقْنِي في شركة للاتصالات بتونس “ويف يو” التي لم تعوضني لأنه لم يكن لي تأمين طيلة ثلاث سنوات التي عملت فيها معهم.
ورغم كل المجهودات والعمليات لتثبيت الفقرات التي كسرت في عمودي الفقري لم تعط أية نتيجة، أنا الآن أعاني من شلل نصفي وبدون عمل كما أني في طور الانفصال عن زوجتي حاليا.
فجأة وجدت نفسي مغيّبا ومهمشا عن الحياة العادية، لا أقوى حتى على قضاء أبسط حاجاتي اليومية، تخيل نفسك أنك كلما أردت الخروج من البيت لا تستطيع إلا بمساعدة أحدهم.
أشتكي من كل ما تشتكون منه أنتم وأكثر، فكيف أتقّبل نظراتكم المليئة بالشفقة ..؟؟ بل هناك من يرى أن ذوي الاحتياجات الخاصة هم مجموعة من المتسولين…!! قد نتفق على أننا كلنا نعاني من غياب الحقوق والحريات، لكن حتما التعامل اللّاإنساني والتمييز لا تبرير له سوى أننا نعيش أزمة قيم ومبادئ.
كما أتوجه إلى هيئة الطرق والمواصلات لتأخذ بعين الحسبان في منظومة النقل كل ما من شأنه أن يوفر الاستخدام السلس من ممرات خاصة وحافلات مزودة بمدخل خاص، ومساحة للمقعدين وعلامات وأزرار خاصة بالمكفوفين، وكل ما من شأنه تخفيف العراقيل والصعوبات عنا، لنتمكن من قضاء حاجاتنا بأنفسنا ونؤدي دورنا بشكل لا تصبح معه الإعاقة هي التغييب أو الانعزال).
إن معظم الدول العربية لها اهتمام محدود بذوي الاحتياجات الخاصة، نظرا لانعدام الحريات وحقوق الإنسان وانتشار الفساد، وأيضا اعتبار الحكومات لمواطنيها بأنهم رعايا لا قيمة إنسانية لهم، وتغاضيها عن تنفيذ برامج تنموية وصحية بحجة ضعف الموارد والإمكانات المالية. ونظرا للتحولات السريعة اليوم في المجالات الطبية والتربوية والاجتماعية لابدّ من دعم الجهود الجادة وتوحيدها من أجل الاتفاق والتنسيق للحد من هذا المشكل، وتوفير مناخ من العدل الاجتماعي والإنساني ليحصل كل فرد على حقوقه المشروعة دون تمييز ونقصان.
© منبر الحرية ، 2تمّوز /يوليوز 2010

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018