peshwazarabic

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

أحد الانتقادات الشديدة المتكررة لإصلاح الهجرة الشامل هو أنه مكلف جداً على دافعي الضريبة، وأن العمّال غير المهرة الذين سيصرّح لهم بالعمل حسب الخطة المرفوعة إلى الكونغرس سوف يدفعون ضرائب أقل من المولودين في الولايات المتحدة ويستهلكون خدمات أكثر. ويقول منتقدو الإصلاح أن إعطاء صفة الشرعية لعدة ملايين من العمّال الذين لا يحملون الوثائق والسماح لمئات الآلاف من العمّال الجدد أن يدخلوا البلاد قانونياً كل سنة يكلّف دافعي الضرائب الأمريكيين بلايين الدولارات.
من المؤكد أن العمّال غير المهرة، بالمعدل، يستهلكون من الخدمات الحكومية أكثر مما يدفعون كرسوم، خاصة على المستوى المحلي ومستوى الولاية. ولكن بعض التقديرات كان فيها مُبالغة. علاوة على ذلك، فان قيمة المهاجر للمجتمع الأمريكي يجب أن لا يُحكم عليها فقط من خلال أثره المالي.
يقع اللوم على الهجرة المتزايدة في مشكلة الطرق، والمدارس الحكومية، والمستشفيات والسجون المزدحمة. وفي هذه الأمثلة الأربعة تم المبالغة في الأثر السلبي للهجرة. فيما يخص الاختناق في الطرق، لعبت الهجرة دوراً ثانوياً في النمو السكاني على مستوى الأمة وعلى المستوى المحلي. على مستوى الأمة، الهجرة الدولية مسؤولة عن 43% من الزيادة السكانية في أمريكا سنوياً. وعلى المستوى المحلي، يبين تحليل لإحصاء أمريكي أن الهجرة الدولية مسؤولة عن 28% من النمو السكاني بين الأعوام 2000-2006. كما إن نسبة المواليد مسؤولة عن 38% من النمو على مستوى المقاطعة، والهجرة من مقاطعات أخرى 34%. ثلث المقاطعات الأمريكية خسرت فعلياً سكاناً بين 2000-2006 لأن نسبة المواليد استمرت في الانخفاض وأن الأمريكيين يهاجرون داخلياً إلى المدن ذات الحركة الاقتصادية العالية النشاط. فإذا بدت الطرق مزدحمة، فهذا ليس سببه الهجرة ولكن النمو الطبيعي والهجرة الداخلية هما المسؤولان عن ذلك.
أما بالنسبة لازدحام المدارس الحكومية المزعوم، فلا يمكن لوم المهاجرين غير المهرة فقط، فالتسجيل في نظام المدارس الحكومية انخفض فعلياً قياساً لحجم السكان في أمريكا. وكما هو الأمر مع الطرقات، فإن الازدحام في بعض المقاطعات المعنية ومدارسها يعود إلى المواليد الجدد والهجرة الداخلية أكثر مما يعود إلى المهاجرين الواصلين حديثاً إلي البلاد.
وفيما يخص الجريمة، فإن الهجرة، مرةً ثانية، ليست هي الدافع لها. لقد كانت نسبة الجريمة في الولايات المتحدة في انخفاض في السنوات القريبة وبينما الهجرة كانت في ازدياد. وبعد ارتفاعها بثبات من الستينيات إلى التسعينيات من القرن العشرين، فإن نسبة الجريمة العنيفة في الولايات المتحدة قد انخفضت من 758 جريمة لكل مئة ألف من السكان في عام 1991 إلى 469 جريمة في عام 2005. فالمهاجرون في السجون اقل عدداً من المواطنين ذوي التعليم والخلفية العرقية المماثلين. وقد بينت الدراسات أن المهاجرين هم الأقل ميلاً إلى الجريمة، ليس بدافع خوفهم من الترحيل من البلاد، ولكن بسبب عوامل اجتماعية معقدة. وكل الأدلة المتوفرة تعارض الخوف بأن السماح للمهاجرين غير المهرة لأن يدخلوا إلى الولايات المتحدة سوف يزيد نوعاً ما من الجريمة وازدحام السجون.
أما بالنسبة للمستشفيات، خاصة غرف الطوارئ، فإن وجود العمال غير المؤمَّنين، قليلي المهارة في مجال معين، لا يفرض تكاليف إضافية على المستشفيات على شكل الرعاية التي لا تعويض مقابلها. على أي حال، لا دليل هناك على أن الهجرة غير الشرعية هي السبب الرئيسي في مثل هذه التكاليف على مستوى الأمّة. وفي الواقع، إن المهاجرين غير المهرة يميلون إلى قلة استخدام الرعاية الصحية لأنهم عادة ما يكونوا شباباً وذوي صحة جيدة نسبياً.
بالرغم من أن معارضي إصلاح سياسة الهجرة قاموا بالمبالغة في النتائج المالية السلبية للمهاجرين غير المهرة، إلا أن الهجرة قد تفرض أعباءً حقيقية على المستوى المحلي. ففي عام 1997، وبالرغم من أن التأثير المالي للمهاجر النموذجي وأبنائه إيجابياً تماماً على المستوى الفيدرالي، يكون سلبياً على المستوى المحلي ومستوى الولاية. لذا يجب مقارنة التكاليف المالية المحلية، وعلى مستوى الولاية، مع الأثر الإيجابي للهجرة على الاقتصاد بشكل عام. فالمهاجرون غير المهرة يساعدون الاقتصاد في أن ينتج عدداً كبيراً من البضائع والخدمات ويخلق فرصاً للاستثمار والعمل.
إن الرد الصحيح لـ”سياسة القلق” بشأن الهجرة لا يكون بقمعها، ولكن بالتحكم في إعادة تحصيص الإنفاق الحكومي. كما إن ردّ فعلٍ آخر مناسب سيكون شكلاً من اقتسام الدخل من الحكومة الفيدرالية إلى الحكومات المحلية وعلى مستوى الولاية. إذ يمكن للحكومة الفيدرالية أن تعوض حكومات الولايات والادارات المحلية التي تتحمل تكاليف الازدياد في الهجرة. والتحويلات يمكن أن تعادل وتعوض عن التكاليف الإضافية في خدمات الرعاية الصحية وغرف الطوارئ، وكذلك التسجيل الإضافي في المدارس الحكومية. ومثل هذا البرنامج لن يخلق أية برامج أخرى جديدة أو إنفاق حكومي إضافي، وببساطة، سوف يقوم بإعادة تحصيص الدخل الحكومي بطريقة تتطابق والإنفاق ذا العلاقة.
الخوف الذي في غير محله عن الأثر المالي السلبي للهجرة لا ينفي الجدل من أجل إصلاح شامل للهجرة، ولا يبرّر الدعوات للمزيد من الإنفاق المالي على الجهود الفاشلة لتعزيز قانون الهجرة الحالي المختل وظيفياً لدينا. إذا كان الهدف الأول هو التحكم بحجم الإنفاق الحكومي، إذن سيكون على الكونغرس والرئيس الأمريكي أن يبنيا جدار عزل أمام دولة الرفاه الاجتماعي، وليس في وجه المهاجرين.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 4 تموز 2007.

peshwazarabic16 نوفمبر، 20101

“جان جاك روسو”  من المفكرين الأحرار الأفذاذ دعاة الحق والعدالة وانتصار الحرية والمساواة والتآخي بين الشعوب.
يتوخى ” روسو” إرساء أسس الحياة السليمة التي تبنى عليها الأوضاع الاجتماعية في أي مجتمع ويستند في ذلك إلى قضية لا تخلو من خطورة وأهمية، فيرى أننا لا نستطيع أن نحدد طبيعة المجتمع إلا إذا تعمقنا في نظمه السياسية، فكأننا نستشف طبيعة الشعب من طبيعة نظام الحكم الذي ارتضاه. ويستبعد ” روسو ” من البداية قيام المجتمعات على أساس القوة والبطش، سواء اتخذ ذلك شكلا مسالما أم انبرى بحد السيف. ولئن قامت حكومات في غضون التاريخ على أساس القوة والعنف والبطش، ولئن كانت هنالك حكومات ما برحت مستندة إلى هذا الأساس، فإن هذا كله لا يبرر القوة ولا يصبغها بصبغة المشروعية. فالقوة لا يمكن أن تكون مصدرا للحق وإذا حدث وانبثق الحق من القوة فهو منعدم في عين اللحظة التي ينبثق فيها.
إننا لو تساءلنا من زاوية النظر الفلسفي البحت: هل يمكن أن تكون القوة دعامة للحق؟ وهل يلزم أن نسلم بذلك  تحت وطأة بعض الملابسات الواقعية، أم أن ننظر للأمن من زاوية الكرامة الإنسانية؟ إننا لو تساءلنا على هذا النحو لأتانا الجواب قاطعا حاسما: إن كرامة الإنسان في حريته، وفي قيام الحق على أساس القوة سلب لحرية الإنسان، وإهدار لكرامته. فثمة تنافر بالطبع بين الحق والقوة رغم قسوة التجارب التاريخية.
والتجربة التاريخية لا تعني “روسو” بقدر ما يعنيه إرساء الأساس الأخلاقي الراسخ للحياة الإنسانية. وهنا يمكننا أن نربط بين موقف “روسو ” من الحق، وبين موقف الفيلسوف الألماني “امانويل كانط ” من الواجب، فالواجب لذاته هو غاية الفعل الأخلاقي في نظر ” كانط “، وهو أمر عام مطلق لا يتعلق بغرض ولا يرتبط بمنفعة ولا يرتهن بملابسات قائمة بالفعل. والإنسان في أدائه للواجب يشرع لنفسه وللإنسانية قاطبة في آن واحد. كذلك ينظر “روسو”  للحق من حيث هو على إطلاقه، وعلى هذا فالمجتمع المدني ينهض على أساس الحق، فهو ثمرة التراضي الحر بين الناس. والناس في الحالة الطبيعية الأولى يستقل كل منهم بذاته ويعول عليها، فيكون هناك ذوات فردية لا تنصهر في ذات عامة، وحينئذ يبذل كل منهم جهودا مضنية لافتقاره للتعاون مع غيره. فهي حالة ميئوس منها والمصير الحتمي فيها للإنسان تبدد طاقاته وهلاكه. فنهضة المجتمع وتطوره مرهون بتضامن الأفراد وتكاملهم، وحينئذ يكفل المجتمع لأعضائه القدرة على مواجهة أعباء الحياة. فالمجتمع المدني شرط لابد منه لتحقيق السعادة والرفاهية.
ولما كان إحساس الفرد بالحرية شرطا أساسيا لسعادته، فكيف يمكن التوفيق بين أفراد تختلف ميولهم ومشاربهم، ورغباتهم، وتعدد آمالهم وتتنوع اهتماماتهم بحيث يجمعهم إطار واحد تتوالى عليهم فيه واجبات والتزامات لم يألفوها من قبل، وحتى تتناغم هذه الواجبات والالتزامات مع الحق الطبيعي لكل فرد في أن يعيش حرا، فالمشكلة الأولى في المجتمع السياسي هي مشكلة المواءمة بين الفرد من جانب والجماعة من جانب آخر .. فهناك – دون ما ريب – ارتباط بين السلطة الحاكمة وبين حرية الفرد. وعلى ضوء هذا الوضع للمشكلة  يتساءل “روسو”: كيف يمكن أن نصل إلى صورة من التوافق الاجتماعي تتكتل في إطارها قوى الجماعة من أجل حماية حقوق الأفراد وحقوق الجماعة معا وفي آن واحد، من حيث أن هذه الأخيرة تعكس الوعي العام المشترك بين أعضائها؟ بعبارة أخرى: كيف يمكن أن تذوب شخصية الفرد كفرد في شخصية الجماعة، بحيث يحس الفرد بأن حقوقه مصانة وحريته مكفولة؟ وإجابة “روسو”  على هذا واضحة: ليس في الوسع أن ينهض مجتمع في هذا الإطار إلا على أساس الرضى والقبول أعني أساس العقد الاجتماعي.
فالعقد الاجتماعي – وإن يكن فرضا نظريا بحتا – له دلالاته العميقة في تفسير الأساس الذي تنهض عليه العلاقات المعقدة بين الناس، فلابد أن يكون هذا الأساس تراضيا وقبولا، لا قسرا وقهرا، حقا لا قوة. فالعقد الاجتماعي هنا أشبه برمز يتوسل به   “روسو ” ليبرز التصور الأساسي الذي تنضج من خلاله طبيعة المجتمع المدني، من حيث كون هذا  المجتمع ثمرة إرادة أصحابه.
فلكي يكون هناك حكم يلزم أن يكون هناك قانون يطاع. ولكي يطاع القانون ينبغي أن يكون محققا لإرادة المجموع، ومعنى هذا أن يكون في طاعة الناس للقانون رضوخ لحكم إرادتهم. فالقانون من ثم يعزز الاختيار والحرية ويستنكر القوة والتعسف. إن القانون على هذا الاعتبار هو صوت الإرادة العامة. وهذه الإرادة العامة هي دعامة السيادة. إن لكل فرد من أفراد المجتمع إرادته وحريته وهم يختلفون ويتباينون ولكنهم يلتقون عند أمر واحد: فهم يودون جميعا أن يحكموا حكما عادلا يحقق لهم الكرامة ويكفل لهم العزة ويؤكد لهم المساواة. ولا يمكن أن يأتي الحكم على هذا الوجه إلا إذا كان وليد إرادة المجموع الحرة.
والسيادة هي ممارسة الإرادة العامة للحكم ورسم خطوطه العامة وتخطيط أهدافه وينجم عن ذلك نتيجتان متلازمتان: أولاهما: أن السيادة للشعب بأسره، فلا يمكن أن تكون لفرد أو جماعة بل تتمثل في الأمة كلها. وثانيهما: أن سلطة السيادة لا تختص برعايتها أشخاصا معينين بل تنصب عنايتها على المصلحة العامة التي تهم المواطنين جميعا.
ومشروعية السلطة السياسية مستمدة من كونها مستندة إلى قاعدة السيادة الشعبية. فمشروعية السلطة تنهض على انبثاقها من الشعب واستهدافها خيره وسعادته. ومن أجل إبراز هذه الفكرة كتب “روسو ” ما كتب فأرسى أساس الديمقراطية الصحيحة.
‎© منبر الحرية،29 أكتوبر/تشرين الأول 2010

peshwazarabic16 نوفمبر، 20102

ليس هناك ثمة شك في أن بغداد قد بنيت لتكون مدينة، بل وعاصمة، بالمعنى الحقيقي للكلمة، كما أرادها الخليفة المنصور العباسي، وتنطبق ذات الحال على القاهرة كما أرادها الخلفاء الفاطميون. بغداد مدينة والقاهرة مدينة، ولكن الكوفة والبصرة (الإبلة في الأصل) لم تكن مدناً بالمعنى الحقيقي للكلمة ذلك أن عدداً كبيراً من المدن العربية العريقة بنيت كمعسكرات. هذه الحال تنطبق على الكوفة والبصرة، بكل تأكيد، وهي تنطبق كذلك على سامراء (سُرّ من رأى)، إذ يتحول المعسكر إلى نواة للمدينة كي تتضخم وتتوسع حتى تدخل إليها الأسواق والحواري والأحياء، ثم ليتبع ذلك موجات الهجرات من الريف إلى المدينة كي تختلط الدماء كما تختلط الثقافات والعادات والتقاليد. من هنا يتوجب علينا أن نناقش موضوعاً مهماً سبق وأن طرح من قبل أذكى العقول العربية المعاصرة، وهو موضوع مفتوح للجميع ممن يودون المساهمة في أنشطة تبادل الرأي حوله، الموضوع، باختصار هو: لماذا لا نملك في العالم العربي مدناً أو حواضراً بالمعنى الدقيق للفظين، أي مدناً مثل لندن أو نيويورك حيث يشعر المرء أنه في ظل حضارة مدنية بالمعنى الصحيح؟ ثمة شعور بالانغمار في أجواء المدينة يعتريك وأنت تتمشى بين أنواع مختلفة من المارة في شوارع مونامارتر أو في سوهو: هل تكتسب المدينة صفتها “المدينية” من سكانها، أم مما يحملوه في دواخلهم من أخلاقيات وقيم إجتماعية؟ وهل هذا قد تحقق في أية مدينة عربية سابقاً كي ندّعي بأن لنا مدناً يمكن أن تقارن بالمدن الأوربية أو الأميركية؟ بلى، حاولت بيروت ما قبل 1973 أن تبلور صورة لمدينة عربية، شرق أوسطية يمكن أن تقارن شوارعها (الحمرا خاصة) بشوارع ومقاهي مدن أوربية جميلة.
هذا سؤال يستدعي الكثير من المناقشات والجدل الذي يمكن أن يقودنا، من منظور أول، إلى نظرية الفيلسوف الاجتماعي العراقي، علي الوردي، الذي لاحظ “ازدواجية الشخصية العراقية”، بمعنى الشرخ المؤلم الذي تعانيه وتئن تحت وطأته بين الانتماء للمدينة من ناحية، وبين الولاء لقيم البداوة من الناحية الثانية. أهمية هذه النظرية الوردية، برأيي، لا تنطلق من رصد الشخصية المدينية العراقية فقط، إذ أن الازدواج لا يتحدد بابن بغداد أو الموصل فقط، لأنه ينطبق كذلك على أبناء دمشق وعمّان والقاهرة وبيروت من بين سواها من المدن العربية التي لم تفلح الحياة في دواخلها من تنقية الإنسان المديني العربي من قيم البداوة المختفية في أعماق أعماقها. إن الأدلة على ما نذهب إليه اليوم من توسيع وتعميم لنظرية الوردي على جميع دول الشرق الأوسط تأخذ مدياتها كاملة في حنو الإنسان المديني في أغلب المدن العربية لأخلاقيات الصحراء، وتسييده لها بدلاً من تسييد قيم الحاضرة والمدينة. هذه القيم الصحراوية الجرداء تتجسد، ليس فقط في الاعتزاز والتباهي الذي يعكسه الإنسان المديني العربي بانتسابه للصحراء، بل كذلك في الاهتمام الذي يخص به سكان المدن العربية الألقاب العشائرية والقبلية، وهي من بقايا سيادة روح القبيلة في البادية وعصبياتها، الأمر الذي يدل، كما أرى، أن البادية هي التي تحكم المدينة في العالم العربي، ولذا كانت قيم الثأر والانتقام وغسل العار والاستخدام القسري المهين للمرأة كـ”ديّة” أو كأداة لتصفية النزاعات القبلية ولتسوية الخلافات العشائرية والعائلية!
لاحظ، في هذا السياق، دموية طرائق تسوية الحسابات في المدن العربية، ولاحظ كذلك رفع الكلفة مع القانون وأدوات تنفيذه كالشرطة والجيش والدرك. الإنسان المديني العربي يفضل تصفية حساباته بنفسه لأنه لم يزل يشعر بحماية الجار وابن العم، وهي الأهم من حماية القانون والجيش والشرطة بالنسبة له، ولا داعي للرجوع إلى عدد كبير من الأحداث الدموية التي عصفت بمدن عربية بسبب تفضيل الإنسان العربي، بغض النظر عن دينه أو ولائه المذهبي، وأدواته الخاصة لتصفية الحسابات. هذه عدالة البادية المستوحاة من خلو البادية من السلطة المركزية.
إذا كانت هذه هي الآفاق الواسعة التي قد يقودنا إليها عقل الوردي الذكي (لاحظ تعدد الدهاليز والمنعطفات الفكرية التي يمكن أن تظهر لنا)، فإن علينا أن نرد معضلة هيمنة القرية أو سيادتها على المدينة العربية إلى أصل آخر، وهو: أن الغالبية العظمى من المدن العربية إنما كانت قرى لم تلبث وأن تضخمت على حساب جوارها الريفي لتضم الريفيين وقيمهم إلى دواخلها، كي تخرج من ناحية ثانية “قرية متوسعة”، قرية  يفضل سكانها تربية الخيول والأبقار والنعاج على التعامل مع السيارة ووسائل النقل العام، من الطائرة إلى القاطرة والترمواي، بينما يستبدلون الديوانيات بالمقاهي وألعابها.
أعتقد أن علينا جميعاً ونحن نقود سياراتنا في شوارع مدن زاهرة كمسقط أو دبي أو الرياض، أقول علينا أن نعيد تقييم الذات، ليس فقط في قوة وسيادة قيم القرية وأنماطها السلوكية (وهي قيم وأنماط طالما تبخترنا بالمحافظة عليها تحت عناوين من نوع “نظرية التراث”!). هي أنماط سلوكية يمكن أن يحسدنا عليها أهل البادية بسبب تفوقها على أنماط السلوك البدوي في القفار حيث الأرض اليباب التي لا تتيح لساكنها شيئاً قط سوى الإستذكارات والتأمل والشعر المتناغم مع ذبذبة حركة الجمل.
هذه أسئلة تقودنا كذلك إلى سؤال أكثر أهمية، وهو: هل المدينة العربية تحكم نفسها بنفسها، أم أن القرية أو البادية هي التي تحكمها؟ هل أن الأنظمة السائدة في هذه المدن يقودها “مدنيون” بالمعنى الصحيح للكلمة، من نواحي القيم المستنيرة في دواخلهم ومن نواحي آفاقهم الفكرية والثقافية؟، أم أن اغلب هؤلاء يحتفظون بقيم لا مدنية؟، بل قروية غير قادرة على تحمل التوسع المدني أو المديني الذي يطرأ على العقليات قبل أن يتجسد في بناء  الجامعات الكبيرة والأبراج العالية، من بين سواها من مشتملات المدن الغربية، كالمراقص والنوادي الليلية وكظواهر الإختلاط في جميع نواحي الحياة. هي أسئلة تستحق التأمل والإرتدادات الفكرية الذكية.
‎© منبر الحرية،11 غشت/آب 2010

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

من الثمار المرّة التي طرحتها وتطرحها شجرة الحياة في بلادنا، ذلك التأصيل العنفي/الإرهابي، والإصرار المميت على رعاية وسقاية التخلف المعرفي الشامل، عبر معاداة سلطة العقل والعقلانية، والعلم والعلمانية، وكأن هذه الأقانيم “عمل من رجس الشيطان”، وبالتالي لا يصح للإنسان مقاربتها أو تأصيلها في حياته. لهذا شكل ويشكل الانتقال من أرض المجتمعات التقليدية، إلى أرض مجتمعات الحداثة ودولها/الأمم، العديد من نقاط السلب والإيجاب الكاشفة راهنا، كما وعبر التاريخ، في استظهار لذاك الاختلاف البيّن والجوهري بين “المسلم العادي” والآخر “المتضلّع فقهيا”، حيث تبدو المسألة مختلفة  في الشكل فقط بين هذا وذاك، وأولئك “الجهاديين” حملة السواطير والسكاكين والأحزمة الناسفة، لكنهم في الجوهر، كلهم في العداء سواء أكان اتجاه الحداثة وكامل منتجاتها، أو اتجاه العلم والعلمانيين، ولو لم يقرّوا علنا باستفادتهم الكبرى من منتجات الحداثة واستخدام بعضها لمصلحة مشاريعهم الآنية والمستقبلية.
وهكذا يجري استغلال وجود الحرية في الغرب من جانب هؤلاء، لصالح أهداف عقائدية تهدف لإعادة انتظام البشر وسلوكياتهم، في أنساق من العبودية والقنانة التي أضحت تنتظم في إطارات حلقيّة أو تجمعات أو تيارات أو أحزاب دينية ذات طابع سياسوي أكثر أدلجة، لا تراعي بل تعادي قيما كونية أساسية عدة، في سياق استمالة أعضائها نحو تلك القيم الإخضاعية التي تُعدّ شرطا لازما من شروط “الإيمان الديني”، كما أمسى يحددها البشر في سياق سلوكهم وممارساتهم الحياتية اليومية، بعيدا عن رعاية ورقابة النصوص المؤسسة التي تباعدت في سلوكها وممارستها العقدية، ولم تعد ملزمة لأحد في “أرض الجور والتخلف”، فما بالنا ونحن نتحدث ونعني أرض الحداثة كمرسى وميناء أخير لمسلكيات تبدو هجينة من ناحية، و”ملتزمة” من ناحية أخرى، حسب الناظر إليها من موقعه الديني العقائدي أو السياسوي المؤدلج، أو اللاديني.
في هذا السياق المحدّد، تبدو الانتهازية واضحة وضوح الشمس، في سلوك أولئك الذين يعتبرون وجودهم في أرض مجتمعات الحداثة ودولها، ضريبة “الجزية الدينية” المفروضة على أهل البلاد، حيث يجري التعاطي معهم كـ “ذميين”. هذه المفارقة التاريخية غير المسبوقة، لا تتم للأسف في سياق إعادة اعتبار للعقل، أو إعمالا لفكر نقدي، لكنها للأسف تُعيد الاعتبار لإعمال بعض من النصوص المؤسسة، وإسقاطها إسقاطا متعسفا على واقع لا ينتمي إليه هؤلاء، قدر ما يريدون استعادة الهيمنة عليه “فقهيا”، بادعاء “أحقيتهم اللاهوتية” لفرض جوهر أيديولوجي مضاد للعقل، ومعاد للفكر، ومغاير للنقد ومسؤولية الفرد عن ذاته، وما يصدر عن هذه الذات من تصرفات وأعمال، هي في المآل الأخير لها وعليها في نفس الوقت.
هذا يضع “الإسلام” في الغرب على تماس مباشر مع الحداثة، تماس تناقضي يُباعد بين الفرد/الإنسان والمجتمع، وبين “المجتمعات الميكروية الصغيرة” المتديّنة.. والحرية، وبين الحرية والاستقلالية الفردية والمجتمعية، كما تمارسها المجتمعات الحداثية، وتلك التي تجور على أفرادها، فتبقيهم أسرى الأنساق السلفية/الماضوية التي يُعاد تكرارها واجترارها، رغم ما أسفرت عنه من براهين ودلالات حملت معاني الإخفاق والفشل، وما أقيم بموجبها من مبان متصدعة ومتداعية، هي إلى الانهيار أقرب، وهي تغرق في جمودها  وتكلسها، ما قاد إلى خلق أبعاد تناقضية جديدة/ أو متجددة، بين القيم الدينية المعزولة أو ذات الطابع الانعزالي، وبين الحواضن المجتمعية الأصولية، كما عاشها “مسلمو الغرب” في بلدانهم الأصلية التي نشأوا وتربوا فيها، وتلك الحواضن الجديدة في بلاد الحداثة، حيث التناقض على أشدّه، في اعتمال لمسلسل من الصراعات العنيفة “المكبوتة” إلى حد ما، وسلسلة الحروب الأهلية، وهي تؤسس لتنافر شديد الوقع، يخفّف منه استيعاب الحداثة لطرائق المتدينين في التعاطي معها كونها دريئة هروب ولجوء، وعزلة وانعزال، مع ما يحمله هؤلاء من مخاطر إنشاء وإفشاء منطق صدامي، كنوع من أنواع الحروب الأهلية التي سبق للحداثة وأن تجاوزتها وطوتها تاريخيا، وأقلمت مجتمعاتها على نسق من التعايش والاندماج في داخلها. وذلك حين جرى ويجري استبعاد كامل عناصر التفجير، عبر التأسيس لحياة ديمقراطية أتاحت وتتيح تداولا سلميا للسلطة، وقد أثبتت أنها الأجدى والأنفع لسلوك دروب السياسة وإحيائها بعد موات، والحفاظ على مفهوم المواطنة في العقد السياسي والاجتماعي الذي ينظم حياة الناس، في بلاد تحترم حريات وإرادات الناس لذاتهم، لا لمصالح فردية منفعية ومصلحية وفئوية زبائنية، كما هو حال بلاد الجور والتخلف، وكما هو حال تفكير الهاربين منها إلى بلاد قدمت الحداثة لهم فرصة الحياة المدنية، لكنهم للأسف استمرأوا ويستمرئون “خياراتهم التكليفية والخلاصية”، كي يستمروا عالة على غيرهم، وعالة على دينهم حتى، وعلى بلادهم كذلك، تحت دعاوى الجزية والحسبة والغزو والفتح والاستعلاء المرضي، وإلى ما هنالك من دعاوى فصامية.
بين انفجار الهويات الدينية والقومية وفق أبرز تجلياتها الأيديولوجية الزائفة، وتصادمها ذاتيا وبينيا، وبين ادعاء الطهارة والقداسة الأيديولوجية للأصوليات الدينية، ومزايداتها كل في مواجهة الأخرى، تكمن مسيرة طويلة من سرديات الادعاء والتعالي والصلف والغرور الممزوجة بقدر عال من الفصام والأيديولوجيا المريضة، فأي ادعاء لـ “المسلمين” في الغرب عن طبيعة مجتمعاتهم ودولهم، البعيدة عن شوائب المجتمعات الغربية، تفضحها تلك الممارسات والسلوكيات التصادمية والانتحارية للفرد وللجماعة الدينية في “الفضاء الإسلامي”، حيث تحولت المجتمعات والدول إلى أشتات متواجهة ومتناحرة، في خلاف يستعيد إرث الماضي كله، بسردياته الخرافية والأسطورية، وتبجيلية ذاك التراث “المنتقى” و”المصفّى” الذي لم يجر الحفاظ إلاّ على سيمائه وسماته التقليدية، كمرتع للخلاف والاختلاف، وعدم الاتفاق إلاّ على أقل القليل من العبادات والتشريعات والطقوس التي تحولت هي الأخرى إلى عناوين رمزية، وكمؤشر لتصادم الذات مع ذاتها، والذوات المتشابهة مع المتشابه والمتنافر من الذوات ذاتها والذوات الأخرى، حتى بلغت الحروب الأهلية أمداء لم يعد معها من مجال لأي إصلاح، لا للنصوص الدينية ولا للبشر، فأي أمل باستعادة ألق الوحدة السياسية أو المجتمعية أو الأهلية في بلاد أسس الدين الواحد بطوائفه ومذاهبه لانقساماتها، وللفتن المتناسلة من فرقها وتياراتها وأحزابها التي لم تنجُ من التمزيق البيني الداخلي، استنادا إلى تأويلات ما أنزل الله بها من سلطان، ومنها من صارت بقوة القائلين بالتأويل الإسنادي /العنعني هي السلطان.
لهذا.. قلنا ونقول أن الإنسان منذور للانتصار لقيم العقل والتنوير والاستنهاض، أي لقيم العقل والعلم التي لا يمكنها الوقوع في حبائل الأصوليات المتناحرة والمتقاتلة في داخلها وفيما بينها، تلك القيم ليست قمينة بسلوك طرق الاستتباع للآخر، أو الخضوع لمنطق رفض العلمانية من قبل أعدائها المتسربلين بالدين وبأقنعة المقاومة، على ما صارت تجارة بعض متدينينا، وهم يلبسون ألبسة غير ألبستهم، فالمقاومة والإرهاب لا يمكن أن يلتقيا أو يتعايشا فوق سطح واحد، كما أن الحداثة بقيمها الكونية لا يمكن إخضاعها لإحالات ومجالات التفكير الخرافي أو الأسطوري، على أن المقاومة إما أن تكون وطنية بالضرورة، أو أن فئويتها والذهاب للأقاصي المذهبية، لن تكرّس سوى الاحتلالات الأجنبية، مضافا إليها تلك الاحتلالات المكشوفة للفضاء العام، واستبعاد السياسة، وإقصاء المختلفين، واستبعاد الحوار، وترذيل قيم التسامح، وجماع هذا كله تلك الوصفة المؤكدة لتخليق واقع تعصّبي تُدميه الحروب الأهلية، وتملأ فضاؤه العام معطيات صراع الهويات القاتلة المتذابحة والمتحاربة، من أجل إحلال الرموز التقليدية، بديلا لقيم الحياة المتجددة الأكثر حداثة، في مواجهة “الموات العظيم”، ذاك الذي أفشته وأشاعته البنى الخرافية وأساطيرها المؤسسة، في بنية مجتمعاتنا وسلطاتنا “الدولتية” الاستبدادية.
© منبر الحرية ، 27 ماي /أيار2010

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

في الساعات الأولى من صباح أول اثنين من شهر مايو غادرنا مبدع فوق العادة، فجر خلال حياته الفكرية الصاخبة جدالات ونقاشات لم يخمد فتيلها بعد، وهوى بمعاول النقد على “العقل العربي المستقيل” دون كلل أو ملل. رحل الابن الشرعي لواحات فكيك في أقاصي المغرب الشقي عن عمر يناهز 75 عاما، بعدما أدمن الكتابة لدرجة الهوس في محاولة جادة لتأسيس عقل عربي جديد من داخل تراثه بأدوات عقلانية مأخوذة من الثقافة الإنسانية.
رحل ابن رشد العصر الحديث بعد صراع مع المرض، الذي لم يوهن من عزيمته وعمله الدءوب إلى آخر لحظة من حياته، تاركا الساحة فارغة لوعاظ السلاطين الذين يحرجهم كلما ردد على مسامعهم شعاره “خبز وزيتون ورحمة من رب العالمين”.
وعاظ ما انفكوا يتبارون في رثائه ويتفجعون على رحيله في مقام العزاء هذا، بعدما اقتعد الرجل كرسي الغياب، وهم من هم، إلا خصوم و رفاق الأمس ممن كانوا يتمنون موته بسبب التزامه بالبحث والتنقيب في غيابات الأسئلة الكبرى قاطعا الطريق أمام الردود السريعة التي تزلف بها هؤلاء وأولئك مقابل التعيش من موائد أصحاب السلطة والمال والنفوذ، مفضلا الوفاء لمشروعه الانكتابي المتعدد الجبهات على الانصياع لإغراءات المناصب والجوائز والهرولة خلفها.
جبهات أربع تلك التي تتقاطب لتشغل مسار حياة ديكارت العرب في سعي متواصل لرؤية ما لا نراه، في الحياة الفكرية والاجتماعية السياسة وحتى في الناس، والتعبير عن كل هذه الأمور بلغة العلم، مستثمرا أحدث المنهجيات التي وصل إليها المجهود الإنساني.
ولعل أولى تلك الجبهات كانت حين كتابته عن التراث وقراءته التي تعد رباعية عن العقل العربي (تكوين العقل العربي/ بنية العقل العربي/ العقل السياسي العربي/ العقل الأخلاقي العربي) الذي يعد قطب الرحى فيها إلى جانب كتاب “نحن والتراث”. أما ثانيها فعن الخطاب العربي الحديث و المعاصر الذي صاغ خطوطه العريضة في مؤلفي “الخطاب العربي المعاصر” و “إشكاليات الفكر العربي المعاصر” اللذين يعدان محورا لجميع أبحاثه في هذا المجال. وفي الجبهة الثالثة عانق الرجل إشكاليات الفكر العالمي المعاصر على الواجهتين العلمية والفلسفية مخلفا عنها منجزا أصيلا بعناوين متباينة من قبيل “التفكير العلمي” و”مدخل إلى فلسفة العلوم”ـ حقول تستدعي الموسوعية قصد تحريك كرة الثلج المعرفية هذه التي تكبر بعد كل منجز جديد للراحل، والتي لم تنهه عن فتح جبهة رابعة وأخيرة حول الشأن المغربي موظفا ثمار الحقول الثلاثة في قراءة وتحليل هذا الواقع. بإخضاع أحداث ساخنة إلى دراسة تاريخية، مع المواظبة علىتتبع مجريات الأحداث مترفعا عن قراءتها قراءة ساخنة، مما خلف ودون شك أثرا في المشهد الثقافي رغم انتمائه لمدرسة سياسية بعينها، خصائص نجدها في العديد من العناوين التي جاءت في سياق هذا الحقل مثل “المغرب المعاصر” و”في نقد الحاجة إلى الإصلاح”.
في سياق انشغاله داخل نسق فكري واضح المعالم والطروحات مع مرور الأعوام، أصبحت سهام النقد والتجريح تتوالى على صاحب مفردة “العقل العربي المستقيل” باحتجاجات أسماء محسوبة على التيار العلماني، وتكفيره من قبل جهات دينية. في حين فضل التنقيب على آليات صناعة الأسئلة اللامتناهية قبل التفكير في إيجاد أجوبة، مقدما بذلك الدليل على مسؤولية “ال نحن” في إنضاج وبلورة المشاريع الفكرية لا وأدها وإقبارها من قبل “الأنا”.
نعم، فعشاق ثقافة التصنيف بدا لبعضهم ماركسيا، في حين يراه آخرون قوميا، وبينهما يبدو إسلاميا في من وجهة نظر ثالثة. بيد أنه لا يلبث أن يجيب كلما سمحت له بالفرصة بذلك على أنه لا شيء من هذا إطلاقا، وفي الآن نفسه كل هذا مادام ينطلق من واقع عربي خصب يضم كل هذه التوجهات، موظفا دوره المزدوج كسياسي ومثقف في إنتاج وتكريس ثقافة الخلاف والاختلاف.
مع توالي السنين تحركت الأقلام النقدية ضد الجابري، مما يؤكد متانة مشروعه وعدم قابليته للمقاربات الجاهزة والسريعة من جهة، ومن أخرى تقديمه الدليل على المساحة و المجال اللذين استولى عليهما في العقول.
كغيره من مدمني الأسئلة الكبرى يؤمن الجابري بأن التأسيس في عالم الفكر يكون جماعيا لا فرديا، ما ساهم في استفزاز العديد من النقاد في دوائر عدة، كانت أولها “البيت التنظيم” للراحل أي قبيلته الحزبية، ثم في دائرة ثانية على صعيد المشهد الثقافي المغربي ( يمينا ويسارا وإسلاميين) وأخيرا على امتداد الدائرة العربية في العالم العربي.
نقد كشف عن تمكن الجابري من زمام مشروعه الانكتابي بأسلوب بسيط بعيد عن التعقيد، بساطة لا تبسيط فهي إبداع وتميز نابع من التمكن من الأفكار وصياغتها بشكل واضح يفضي بالقارئ إلى التفاعل مع النص. كما قدمت هذه الانتقادات التي جاءت بأقلام رواد الفكر بالعالم العربي أمثال “حسن حنفي” و “طه عبد الرحمان” و “كمال عبد اللطيف” و”علي حرب” و “جورج طرابشي” و “إدريس هاني” و “بنسالم حميش”… في عناوين من قبيل “نقد العقل أم عقل التوافق” و “معهم حيث هم” و “نقد نقد العقل العربي” و”نقد ثقافة الحجر وبداوة الفكر” و “محنة التراث الآخر ” … الدليل تلو الآخر على قدرة هذا الهرم الفكري تحريك المياه الفكرية الآسنة على امتداد الدوائر الثلاثة، التي إن لم تدن بشيء له فيكفيه استفزازهم للكتابة والتأليف بغض الطرف عن قيمة من جرهم لذلك.
بعيدا عن الثقافة قريبا من السياسة، التي غادر الجابري معتركها، بعدما أدرك زيف المصالحة وعسر الانتقال والولادة القيصرية التي عرفتها الديمقراطية على يد رفاقه في القبيلة الحزبية. ما دفعه إلى تجميد جميع أنشطته داخلها، رغم أن أدبيات الحزب وهويته لا تخلو من فكره وبصمته.
لقد كان الراحل يعتصر ألم العقل العربي المستقيل في صمت، وفي زمن ازدادت الحاجة فيه لأمثاله، لفك طلاسيم هذا الواقع الملغز الذي صارت فيه القاعدة استثنائيا والاستثناء قاعدة في كل شيء. مقدما البرهان على الالتزام في سبيل قضايا وأفكار زاهدا في كثير مما يتسابق صغار النفوس لبلوغه، مخلفا إرثا مهما كحجة دامغة للجاحدين على أصالة منجزه وإبداعية المائزة. ولعل أفضل تكريم يحضى به الراحل هو استمرار الجهد الفكري المبدع والعمل النقدي البناء والروح الأخلاقية السامية عند طلابه ورفاقه في مدرسة القلق والسؤال…
© منبر الحرية ، 8 ماي /أيار2010

peshwazarabic16 نوفمبر، 20105

هل هنالك فكر عربي معاصر خالص,لا ينتسب إلا لنفسه, لجهة الأسئلة والمشكلات النظرية, وكذلك لجهة المفاهيم والبناء والتنظيم الداخليين؟ وهل هو مستقل عن الخطاب الفلسفي الحديث والمعاصر؟ وهل ثمة أصالة حقيقية في سماته وأطاريحه؟ وفي الأصل يجدر بنا التساؤل هل هنالك فلسفة عربية معاصرة تشكل إطاراً نظرياً شاملاً للفكر العربي, ويعدّ الأخير نسقاً إيديولوجيا من أنساقه؟
يبدي العديد من المفكرين العرب ومؤرخي الفلسفة حماسة للقول بوجود فلسفة عربية معاصرة. ويلجأ هؤلاء إلى نوع من التحقيب التاريخي لها, أو نمط من المركزية والمركزية المضادة. وهذا ما يتعارض تماماً مع الوعي الفلسفي بصفته وعياً تاريخياً كليّاً بالعالم وبمشكلات الوجود, ويتعارض مع غاياته. فالمبدأ الرئيس هو أن الفلسفة واحدة في حقيقتها, وغاياتُها أعمق وأشمل من أن يتمّ حصرها في هوية تاريخية أو أيديولوجية معينة. وهذا يعني أن السؤال الفلسفي لا يكون كذلك ما لم يَتسِم, من حيث النشأة والديمومة, بالشمولية والكونية. وهذا المبدأ ليس تعميماً مجرداً أو شكلياً فحسب, وإنما يغدو واقعاً ملموساً حينما يتم الشروع في البحث التاريخي للفلسفة وفي تخصيصها وتعيينها.
إذاً, كيف نؤرخ للفلسفة؟  وما معنى الحاجة إليها, وكيف تنشأ الأخيرة؟ وهل ثمة تجربة فلسفية أصيلة يمكن تسميتها بالفلسفة العربية المعاصرة؟ بقول آخر, هل أنتج التاريخ الحديث والمعاصر للعرب رجالاً هم حقاً وفعلاً أهل للقب الفلاسفة؟ ثمّ هل أبدع هؤلاء, بدورهم, أنساقاً فكرية ترقى إلى مستوى القول: إنها تشكل خطاباً فلسفياً أصيلاً ومعاصراً؟ أيّ سؤال فلسفي شغل وعي هؤلاء وهيمن على تفكيرهم؟ وما هي المشكلات النظرية التي شغلت فلسفاتهم؟ هل هي أسئلة التاريخ المتخمة بالمطالب الأيديولوجية العملية, أم أنها أسئلة نظرية مجردة ليست نائية عن الفضاء الميتافيزيقي؟ وهل السؤال الفلسفي لديهم أصيل ومبتكر, ومتقدم بالمعنى الكوني؟ ما علاقة هؤلاء مع الفلسفة الإسلامية ومع تاريخهم؟ وما أثر الإسلام والخطاب الإسلامي في تجاربهم النظرية؟ ثم ما طبيعة علاقاتهم مع الفلسفات الحديثة والمعاصرة, بصفتها فلسفات عالمية, وتجارب أصيلة؟
الحق أن بداهة هذه الأسئلة وغيرها تفرض نفسها على وعي كلي منشغل بتاريخ الفلسفة. وتثير معها حزمة مشكلات تتصل بتعريف الفلسفة وطبيعة موضوعاتها ومناهجها وتاريخها.
إن التعارض الرئيس الذي ينبثق عن محاولة التأريخ للفلسفة, هو ذاك الذي يتم بين غاية الفلسفة, ونعني بها معرفة الكلي, الدائم والخالد, وبين رغبة تحقيبها في سياق تاريخي أو ثقافي نسبي ومحدد. فهل الحقيقة الكلية والمطلقة تدخل في دائرة التاريخ النسبي وتتحدد به؟
من غير المنطقي الادعاء أن هنالك جوهراً ثابتاً للفلسفة, أو أن الحقيقية الفلسفية راسخة منذ الأزل, معطاة ومنجزة على نحو تام. فالإرث الفلسفي الذي بات مألوفاً لدينا, وفي متناول يدنا, لم يأت عفوياً, ولم يخرج فقط للتو, وإنما هو نتاج ومحصلة كدح جميع الأجيال السابقة من الجنس البشري. حيث ندين بما نحن عليه, الواقع الراهن للفلسفة, إلى ذلك الإرث التاريخي الذي يتخطى كلّ ما هو عابر ومحدد, أو منجز. وهو لم يكن قط في يوم من الأيام إرثاً ثابتاً, في الكم والنوع. وإنما كان إرثاً يزداد ويكبر كنهر جارف بقدر ابتعاده عن مصدره أو رحمه الأصل. ولم يكن كذلك تمثالاً حجرياً, صلباً وجامداً, كما كان هيغل يقول, ولكنه كان كائناً حياً ينمو ويتشكل ويتضخم.
لهذا يمكن القول إن الحقيقة الفلسفية لها أن تتعين في سياق تاريخي معين, دون أن تفقد طابعها الكلي أو الشمولي, أو أن تحصر مصيرها به أو تنسب إليه فحسب. والتاريخ يعلمنا أن ثقافة ما لأمة بعينها يعتريها الجمود في برهة من تاريخها, فيبارحها الروح الحية اليقظة للتفكير الفلسفي لأمد غير قصير, كما كان حال الأوروبيين في العصور الوسطى قبل أن يصبحوا أوصياء على التفكير الفلسفي الحديث والمعاصر. فهذه الروح لا تمكث على حال في هذا السكون أو الغياب المطلقين. والتاريخ ذاته يظهر لنا أن الفلسفة لا بدّ لها أن تثبت حضورها كونياً في سياق زمكاني آخر. حتى تحقق صيرورتها وتستمر. إذاً ليس ثمة انقطاع على الصعيد العالمي في فعالية الفلسفة, ذلك أن غواية التقدم هي التي تدفعها إلى الالتصاق بالتاريخ والبشر أو الأمم الأكثر تقدماً ويقظة ونشاطاً.
إن ما نفترضه هنا هو أن الفلسفة لا تكترث كثيراً بالتباين في الدور الحضاري لأمة ما, أو بين الأمم في زمن ما, أو بالصدوع والتفاوتات التي تحدث هنا أو هناك, إلا بالقدر الذي تستجيب لنزوعها إلى تجاوز ذاتها, وتوقها إلى تخطي منزلتها القائمة, ويتوافق مع سيرورتها بصفتها وعياً كونياً بالعالم, وتحقق انتظامها الشامل.
الفرض الآخر, الذي نسارع إلى طرحه في هذا السياق, هو إن وجدت فلسفات شتى, تعيّنت على أنحاء متنوعة, فإن الفلسفة تظلّ واحدة في سيرورتها, وهي تشكل فلسفة واحدة في تواصلها. ويمكنها بمعنى ما أن تكون هي الفلسفة الحقيقية في وحدتها بصفتها تعبيراً عن حضور الوعي الإنساني الكلي. وهي وإن أكدت ذاتها وبرهنت على انتماء ما لبرهة تاريخية معينة, وعرّفناها على هذا الأساس, إنما تظلّ فلسفة وتشكل معرفة فلسفية واحدة. ومن المهم أن نعرف ماذا يعني هذا التنوع في المنظومات الفلسفية؟ وما دلالات هذا التحقق في الزمان والمكان المعينين؟  ثم ما هي طبيعة علاقة مضمون فلسفة ما بتعيّنها التاريخي؟
تهتم الفلسفة بالوحدة المطلقة للتنوع القائم في العالم, وهي تبرهن على هذه الحقيقة العامة في كل ما هو خاص ومتعيّن. حينما تتماهى مع واقع متقدّم وتنتسب إلى تاريخه, وتكون الفلسفة أكثر كمالاً في تطورها كلما كانت أشدّ التصاقاً بتاريخها.
فالفلسفة نظام واحد وشامل من حيث نموُّها وسيرورتها الداخلية, لكنها تغدو حقيقة خاصة, ملموسة ومتعينة, لجهة تحققها الخارجي وانتمائها ظاهرياً إلى التاريخ. ونعني من منظور تطورها كظاهرة في الزمن, ويكون لها تاريخها الخاص.
إن هذا الوجود في الزمان المحدد, مستلهماً عبارات هيغل, ليس سوى برهة متناهية من سيرورة دائمة ولامتناهية, ولحظة من لحظات وعيها التاريخي بالتقدم, حيث تتخارج الفلسفة في دوائر الفكر و في ثقافة شعب أو أمة قادرة على أن تحقق في ذاتها شمولية التقدم التاريخي حتى هذا الوقت, وتعبر في ذاتها عن التقدم المتنامي للواقع الإنساني في شموليته. وبمعنى من المعاني تغدو الأمة منتسبة إلى الفلسفة, لا العكس, ومنتمية إليها ومحددة تقدمها بتقدم الفلسفة. لأن الأمة في هذه الحالة لا تستطيع أن تفصح عن شمولية وعيها وتقدمها إلا من خلال هذا الشكل وحده, ونعني الوعي الفلسفي. هكذا استطاع الإغريق أن يثبتوا حضورهم الشامل على صعيد التاريخ العالمي, لا من خلال العمل العسكري وانتصارات المقدوني بقدر ما أنجزوا ذلك من خلال منطق أرسطو وفتوحاته الفلسفية التي كانت أكثر عمقاً ودواماً وشمولية من سواها.
لا مناص إذاً لدى عرض تاريخ الفلسفة في الزمان من كشف صلتها بالظروف التاريخية وعلاقتها الحميمة إذ تتعين في ثقافة شعب ما, وفي فكره وفنونه وأعرافه.  فالشكل المتحقق لفلسفة ما يكون معاصراً لنمط متحقق ومحدد من الشعوب, يعكس روح هذا الشعب, وتنظيم حياته, والجوانب المتنوعة لإبداعاته المادية والنظرية. إن روح شعب ما وعصره يكون قائماً في الفلسفة, بصفتها البؤرة التي تكثف في ذاتها فكره ووعيه بذاته. وهي تعكس تفتح هذا الشعب وتقدمه ودرجة وعيه بذاته ومصيره في التاريخ.
في ضوء ما سبق, يغدو الحديث عن فلسفة عربية معاصرة ادعاءًا لا يخلو من المجازفة المعرفية والمنهجية. مثلما يكون الكلام عن فكر عربي خالص أو محض, نظير الكلام عن الاشتراكية العربية, والإنسان العربي, والرسالة الخالدة للأمة العربية, كلامٌ يدعو للسأم والقنوط الفكريين ولا يستثير تفاؤل العقل.
لقد اشتغل شطر كبير من منظري العروبة ومفكريها بالفلسفة, ومن هذا الموقع استعان هؤلاء بالخطاب الفلسفي لدى التصدي لأسئلة التاريخ والهوية والمصير. وهؤلاء وإن برزت لديهم قراءات فلسفية مائزة وتجارب, إلا أن تلك القراءات لم ترقى إلى مستوى القول الفلسفي المتماسك, ولم تكتمل لديهم إلى مستوى الأنساق الفلسفية أو المذاهب المتكاملة, سواء من جهة المفاهيم أو الرؤى, أو من جهة المناهج. هكذا غدت التيارات الفلسفية ومذاهبها الحديثة والمعاصرة مصادراً رئيسة للوعي الفلسفي العربي المعاصرة, وأخذ المفكر العربي يجتهد في ضوء مفاهيمها و أوالياتها النظرية ومناهجها. فقد استلهمالأرسوزي و ميشيل عفلق الفلسفة الألمانية في نسقها الفيشتي لدى مواجهة مشكلة حرية الأمة والتأسيس لمفهومها. واستعان طه حسين بالشكّ الديكارتي في منهجية بحثه, ومثله أيضاًقسطنطين زريق, وكذلك الأمر مع أهمية الديكارتية لدى عثمان أمين. وكان حضور راسل و رايشنباخو كارناب صارخاً في وضعية زكي نجيب محمود المنطقية. إذ مضى صاحب كتاب( خرافة الميتافيزيقا, أو الموقف من الميتافيزيقا) في مواجهة تخلف الواقع العربي يبشر بالروح العلمية كسبب رئيس لنهضة الأمة. واتكئ فؤاد زكريا في كتابه( اسبينوزا و التفكير العلمي) على عقلانية ديكارت و اسبينوزا ليبشّر بقيم التسامح والعقلانية في مواجهة التعصب الديني. وكان هيديغر و سارتر و يسبرز حاضراً بقوة في وعيعبد الرحمن البدوي الوجودي, وكانت التومائية حاضرة في كتابات يوسف كرم وشروحاته الفلسفية, و تمتعت البرجسونية بذات الأهمية والمكانة في وعيّ بديع الكسم. وأخذ المغربي الحبابي بشخصانيةإيمانويل مونييه. وحضرت فينومينولوجيا هوسرل بقوة في تفلسف حسن حنفي الباكر, ولدى نازليإسماعيل التي ترجمت لـ هوسرل (تأملات ديكارتية). وتجلّت أخيراً تفكيكية جاك دريدا في كتاباتعلي حرب. وطغت بنيوية التوسير الماركسية و بولانتزاس على كتابات مهدي عامل. ولم يكن المفكرون العرب بمنأى عن تأثير الماركسية العميق, التي كان لأعلامها (ماركس, جورج لوكاتش, غرامشي) تأثيراً بالغاً عليهم, أمثال سمير أمين, الياس مرقص, ياسين حافظ, صادق جلال العظم, طيب تيزيني, أحمد برقاوي حسين مروةعبدالله العروي… وغيرهم.
وتبدو مرجعية المنظرين الإسلاميين العرب( سيد قطب, مالك بن نبي, عبدالله عبد الدايم, خالد محمد خالد, محمد عمارة, وسواهم) الذين لم ينزاحوا كثيراً عن النسق الأيديولوجي العروبي, أكثر تعقيداً وتركيباً نظراً لعلاقتهم الملتبسة بالتاريخ والعقيدة من جهة أولى وبالقراءات الأخرى من جهة ثانية.
إن غياب الحدود الفاصلة بين التفلسف والأيديولوجية, بين العلم والسياسة, كان سمة بارزة للأنساق الفكرية العربية. وقد طرح المفكرون العرب أسئلتهم المصيرية انطلاقاً من هذه المصادرة القبْلية, ومن هنا انهمكوا بمشكلات التاريخ والأمة والمصير بصورة عملية.  وعليه فقد طبعت صفة المفكر هؤلاء أكثر من كونهم فلاسفة كما يشير البرقاوي, إذ أمست الفلسفة الغربية في الأنساق الفكرية العربية ميتودولوجيا توجه رؤاهم وتحفّز أسئلتهم, ناهيكم عن كونها مصدراً ثرّياً لأجوبتهم الفكرية عن قضايا التحرر والتقدم والمصير.
© منبر الحرية ، 5 ماي /أيار2010

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

يتسم (إعلان مبادئ التسامح) الذي أعلنته منظمة اليونسكو( موسكو-1995) بأنه يتخطى الدلالة الدينية المألوفة أو الأخلاقية لمفهوم التسامح. إذ لم يعد التسامح مجرد التزام أخلاقي فحسب, وإنما حاجة سياسية وحقوقية تهدف إلى الاعتراف بالحقوق العالمية للإنسان وإلى ضمان الحريات الأساسية للآخر.
لقد غدا الوضع الإنساني المعاصر, عموماً, محكوماً بالتعايش والنزاع في الوقت نفسه, وهو الوضع الذي يقتضي مقداراً كبيراً من التسامح. ففي المجتمعات المتعددة الثقافات, التي تحفل بالاختلاف في أنماط المعيشة والتفكير, وتنطوي على تنوع كبير في الآراء والعقائد, يحتل مفهوم التسامح أهمية مركزية. إذ لامعنى للتسامح في أوضاع المماثلة والنمطية في الأفكار والعقائد. من هنا يؤكد راينر فورست في كتابه( التسامح في النزاع) على الارتباط العضوي بين التسامح  والتنازع, مشيراً إلى أن التسامح ينبثق عن التنازع ويولد من رحم النزاعات البشرية.
لا يمكن عدّ التسامح قيمة أخلاقية مجردة ومطلقة, منفصلة عن التاريخ والتطور. وهو ليس مجرد مبدأ يرنو من خلاله الإنسان إلى التعالي على تناقضات الواقع القائم، وإنما يتوقف معناه على ثقافة العصر السائدة, وعلى علاقاته الفعلية. وإذا ما فصلنا مفهوم التسامح عن سياقه التاريخي وعزونا إليه وجوداً مستقلاً عن التاريخ فإن من شأن ذلك أن يفقده كل قيمة إنسانية وعملية.
لم يرقَ مفهوم التسامح إلى مستوى المفاهيم الفلسفية المتماسكة إلا في إطار الصراع بين فكر الأنوار والكنيسة المسيحية خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر. ولكنه قبل هذا الزمن بكثير كان موضوعاً للتأملات الفلسفية والوصايا الدينية والأخلاقية. إن مقولة سقراط الذائعة (إني أعرف شيئاً واحداً هو أني لا أعرف شيئاً) تكرّس لوعي التسامح عبر إقرار عميق بالتواضع العقلي, الذي يحتمل القبول برأي الآخر والاختلاف معه في آن. وكذلك الأمر مع الإمام الشافعي الذي شاع عنه قوله (رأيي صواب يحتمل الخطأ, ورأيك خطأ يحتمل الصواب) لكن الأكثر جرأة ووضوحاً هو قولٌ ينسب إلى الإمام جعفر الصادق يرفض فيه التعصب بحسم  أخلاقي ومعرفي لامتناه, يقول: (التعصب حتى للحق خطيئة). في الخطاب الفلسفي المعاصر رسخ كارل بوبر مبدأ ( اللاعصمة من الخطأ) الذي أكدّ من خلاله على نسبية الحقيقة من وجهة نظر أبستيمية. ومن منظور أخلاقي أقرّ بضرورة الاختلاف ومشروعيته.
مجّد فولتير الاختلاف والتسامح من خلال جملته المشهورة (قد لا أتفق معك, ولكني سوف أدفع دمي ثمناً لحقك في الكلام) وبخلاف الأخير تحدّث الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط عن الوقع المتعجرف لكلمة( التسامح). وبالمثل كان غوته يعدّ التسامح مهانة. ويرى أن التسامح ينبغي أن يكون مؤقتاً وإلى حين, وأن يؤدي إلى الاعتراف في نهاية المطاف.
كان الألماني الأشد راديكالية فريدريك نيتشه يرى أن غاية الإنسان في الحياة هو السعي إلى امتلاك القدرة والقوة. ومن ثم فإن مطلب التسامح لا يعدو أن يكون سوى عقيدة للعبيد والضعفاء, الذين يفتقرون إلى الإرادة والقدرة على الانتقام. إن التسامح, من وجهة نظره, هو مؤشر على العجز والانحطاط, ومظهر من مظاهر الخنوع والترويض والاستكانة, علاوة على أنه ينطوي على مقدار كبير من المهانة والاحتقار للكرامة الإنسانية. ولم يجد الماركسي الروسي ليون تروتسكي بدّاً من التشكيك في جدوى التسامح قائلاً: لقد مضى ألفا عام تقريباً مذ أن قيل (أحبّ أعداءَك) و( أدر خدك الأيمن…) ومع ذلك حتى الأب الروماني المقدس لم ينجح في تحرير نفسه من كراهية أعدائه. ويبقى لاعتراف المهاتما غاندي, قديس اللاعنف, أهمية استثنائية على هذا الصعيد حين قال ( لا أحب التسامح, ولكني لا أجد أفضل منه) فقد وجد نفسه مرغماً على الاعتراف بأن شيئاً ما مكروهاً هو الأفضل بين الأشياء التي يراها وهو الأنفع.
خلاصة القول, يؤشر التسامح على الموقف من آراء الآخرين وعقائدهم ومصالحهم. كما يعكس مقدرة المرء على التعايش مع عاداتهم وأنماط السلوك لديهم. وتبرز الحاجة إلى التسامح بهدف الوصول إلى التفاهم والاتفاق حول المسائل الخلافية ووجهات النظر المتباينة, وبغرض الخروج على المصالح المتعارضة دون اللجوء إلى القسوة أو العنف أو الإقصاء. لكن السؤال الذي يظل قائماً هو: هل التسامح يعني أن نتسامح مع غير المتسامحين؟؟
*جامعي و كاتب سوري
© منبر الحرية، 26 فبراير/شباط 2010

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

لازال العالم العربي، يحاول جاهدا ان يقول لنفسه و للعالم بأن الاسلام دين حريه واستسلام لله. لكن الكثير من المظاهر التي يمارسها مسلمون عرب تتناقض وهذه الاطروحة الاسلامية: فسلوكيات التدخل بالحريات الشخصية، وبخصوصيات الناس وحرية المعرفة واللباس يتناقض والسماحة والتسامح. ان دعوات القتل والاعدام والتكفير المستمرة في العالم العربي هي الاخرى تتناقض والسماحة. اننا نعيش في حلقة مفرغة تساهم في صراعات جديدة لا حد لها ولا اخر، وتساهم في الشحن الطائفي والفئوي القاتل الذي لم تعرفه الاجيال السابقة.
أن مواجهة التطرف لا يمكن ان تتحقق في اطار الوضع القائم في معظم البلاد العربية. ورغم محاولات عدة للتعامل مع التطرف من خلال الدعوة للوسطية وانطلاقا من ان الاسلام دين وسط وان التطرف غريب عليه الا ان الوسطية لم تنجح. فالاطروحات الوسطية مالت للتطرف حول المرأة والحجاب والشيعة والسنة والغرب والاختلاف. هكذا اصبح تفسير الاقلية السلفية هو التفسير السائد بينما تم ضرب وازاحة التفسير الاسلامي التقليدي الوسطي الازهري.
ان البديل للتطرف في المجتمعات العربية هو في بناء مساحة حرة للجميع بما في ذلك المعارضة السياسية التي تعيش في المنافي بين لندن وعواصم العالم. يتطلب الامر زيادة كبيرة في مساحة الحرية الثقافية والسياسية والانسانية في المجتمع. ان المساحة العامة في البلاد يجب ان تكون لكل انسان ولكل فرد ولكل زائر للبلاد العربية مهما كان لونه ودينه وايمانه في اطار قانون ينظم هذه المساحة. ان المساحة العامة يجب ان تكون مساحة محايدة لقطاعات المجتمع كافة بحيث يجد كل فرد وانسان عندما يخرج من منزله ان حريته تتساوى وحريات الاخرين. ان بناء المساحة العامة المحايدة تمثل وسيلة لمواجهة التطرف وطريقة لبناء مجتمع حضاري.
لكن لتنجح المجتمعات العربية بالتحديد في تحقيق سلام داخلي لا بد من اعادة النظر بدور الدولة تجاه المجتمع. فالدولة هي الجهة الرئيسية التي بإمكانها تشجيع قيم الحرية والدستورية والديمقراطية والمساواة امام القانون وحقوق الانسان وهي التي بأمكانها الانقلاب على الدستور والمساواة والعدالة فتساهم في تعميق التفكك الداخلي والغضب اليومي. الدولة اساسية في مشروع الاتزان والاصلاح في جميع البلاد العربية وهي المسـؤولة عن التفكك الوطني في كل مكان عندما تتخلى عن مشروع الاصلاح. الدولة ان ارادت قامت بمحاربة الثقافة كما تفعل في دول عربية عديدة، وهي التي ان ارادت شجعت ثقافة الحرية. الدولة في معظم الاطر العربية الرسمية تشجع الاصولية على حساب الحريات عبر منع الكتب وممارسة الرقابة وتهميش المجتمع المدني. بأمكان الدولة ان تكون في خدمة التنوير والتقدم، و بأمكانها ان تكون على النقيض. يبقى السؤال: اي دول سنكون في السنوات القليلة القادمة؟ سيقرر هذا الامر طبيعة الازمات التي سيواجهها العالم العربي في المدى المنظور.
المصدر: الاوان ١٥ فبراير.
© منبر الحرية، 16 فبراير/شباط 2010

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

مازلنا غير قادرين على البوح، بصوت عال، بآرائنا ورغباتنا، مازلنا لا نستطيع كشف ذواتنا أمام الآخرين بحرية، فهواجس الخوف والريبة تجاه الآخر تستحوذ على مشاعرنا، فتكتم افواهنا، إلا إلى الذين نعرفهم ونطمئن اليهم، وهم قلة، وليست هذه حرية نتمتع بها، والحرية المضمونة في الدستور لا تهديء من قلقي حين أرغب بالتعبير عن رأيي أمام الآخرين لكنني أخشى أن يكون احدهم مختلفا عني، يختلف معي في الرأي، في العقيدة، في المذهب، بل حتى في المذهب نفسه ثمة مخاوف لانه لم يعد مذهبا موحدا، فللاختلاف في العراق ضريبة قاسية جدا، تسلب حياتك منك لانك مختلف، لأن لك هوية أخرى حتى وإن كنت قد ورثتها عن  آبائك، أو كنت رافضا لها.
لم يعد اختلافنا رحمة، كما كان يتباهى الرسول العربي بأمته التي تختلف، فيكون اختلافها رحمة، لكنه بات علينا نقمة، هنا في العراق، نحن امة تعلمت كيف تختلف لتدمن القتل على مذبح النقاء المزيف والفرقة الناجية ووهم الانتماء والهوية المقدسة، لكنها نست أو تناست بتعمد غريب جدا، إن الدين جاء من أجل الإنسان، من أجل حياته، من أجل كرامته وحريته، وليس من أجل بضعة أوهام، تمسخ العقول وتفسد الأخلاق، فتجعل من القتل طقسا للتقرب منها.
ليس الاختلاف في الدين وحده، يمثل أزمتنا الوحيدة، فثمة الاختلاف في السياسة، فقد تطبعت أحزابنا وميليشياتنا بطابع الصراع الطائفي والفرقي، وانتقلت عدوى الاختلاف إليها، والمشكلة ليست في التعددية ذاتها، لا في تعدد الفرق والطوائف دينيا، ولا في تعدد الأحزاب والميليشيات سياسيا، إنما في تقبلها وتعايشها، أحدها للآخر، وليس في صراعها ورفض بعضها البعض، فيما ندفع نحن ثمن صراعين مريرين هما؛ الصراع الديني من جهة والصراع السياسي من جهة اخرى، وقد خطت دماؤنا التي سفكت باسميهما اللافتات والشعارات التي يكتبونها أو ينادون بها.
نحن بلا حرية، والسقوط الذي مثل عهدا جديدا، ما زال تاريخا للسقوط وليس النهوض، فالحرية لا تعيش مع المخاوف، ونحن مازلنا خائفين، لأننا ما زلنا ندفع ثمن اختلافاتنا، ولم نتعلم كيف نختلف دون ان نشعر برغبة في القتل او الانتقام، أن نتعلم كيف نتعايش مع اختلافاتنا، أن نحتفي بهذه الاختلافات، لأنها ستمنحنا الحرية والنهوض لعهد جديد.
© منبر الحرية، 13 فبراير/شباط 2010

peshwazarabic16 نوفمبر، 20100

إن للثقافة بعدين،أحدهما المجتمع الذي تشكل ثقافته، وماهيته وشخصيته تلك الثقافة. واحترام الثقافة يعني احترام حق المجتمع بثقافته، واحترام ماهية تلك الثقافة وشخصيتها. ولكل من صيغتي الاحترام أسس مختلفة، إذ يتوجب علينا احترام حق المجتمع بثقافته لأن للبشر الحرية في تقرير طريقة حياتهم، ولأن ثقافتهم مرتبطة بتاريخهم وهويتهم، ولأنها تعني الكثير بالنسبة لهم، ولأسباب أخرى عديدة، من هذه الناحية لكل مجتمع حق متساو في تبني ثقافته، وليس ثمة أسس منطقية لعدم التساوي.
إن النظرة الأحادية والموقف المتكبر يرفضان الاعتراف بثقافة الآخر وشخصيته وحضارته…،‏ وأن عدم الاعتراف بالآخر وبثقافته يفضي إلي إقصاءه و تهميشه‏,‏ وهذا شكل من أشكال التمييز التي تؤجج مشاعر الكراهية التي هي فتيل للصراع والصدام‏.‏ فالتعالي والتكبر السياسي والثقافي والحضاري، هو الدافع إلى النزاع والصراع بين الحضارات، والصدام بين الثقافات وزعزعة أمن واستقرار المجتمعات الإنسانية‏، ولذلك كان الاعتراف بثقافة الآخر‏,‏ الخطوة الأولى نحو تعزيز الحوار بين الحضارات والثقافات‏,‏ تمهيدا لإقامة جسور التواصل فيما بينها‏، وهذا هو الهدف النبيل الذي  تسعى لتحقيقه بعض المنظمات والهيئات الإقليمية والدولية ذات الاهتمام بقضايا الحوار بين الحضارات والثقافات‏.
يجادل بعض الكتاب في أن كل البشر متجذرون ثقافياً ولهم حق التمتع بثقافتهم الخاصة، وبالتالي يشكل التنوع الثقافي نتيجة حتمية وشرعية لممارسة ذلك الحق، لذلك لا يكفي منح الأفراد الحق الرسمي بثقافتهم، بل يتوجب على المجتمع خلق الظروف المساعدة على ممارسة ذلك الحق، كتقبل واحترام الاختلافات، وتنمية ثقة الأقليات بنفسها، وتوفير الموارد الإضافية للمحتاجين. ولا يود المجتمع الأعم أن يتكبد أعباء التكاليف التي يقتضيها ذلك، أو تقبل التغييرات الضرورية في مؤسساته عن طيب خاطر، أو كبت نزعته التمثيلية، ما لم يتم إقناعه بأن التنوع الثقافي يصب في مصلحته أو أنه قيمة تستحق التمسك بها ورعايتها.
وإن التنوع الثقافي هو مصدر من مصادر إثراء للثقافات، وتعزيز لقدراتها، وإعطاءها أبعاداً إنسانية، وإطلاق العنان لآفاقها الإبداعية الخلاقة.
إذ ليس للثقافة سلطة عدا تلك المستمدة من ولاء أبنائها ورغبتهم بالانتماء إليها، لذلك يستحيل الحفاظ على أية ثقافة بالقوة أو اللجوء إلى وسائل وأساليب اصطناعية.
أما بالنسبة للثقافة ذاتها فإن احترامنا لها يعتمد على تقييمنا لماهيتها أو نوعية الحياة التي توفرها لأفرادها، ولأن كل ثقافة تعطي استقرارا ومعنى للحياة الإنسانية، وتضم أفرادها معاً في مجتمع متماسك، وتبرز طاقات إنسانية خلاقة، وما إلى ذلك، فإن كلا منها تستحق الاحترام.
وان قبول ثقافة الآخر المختلف لا يعني بالضرورة الاقتناع بها، إنما هو إقرار بوجود الاختلاف معها وبوجود هذه الثقافة وقبولها من قبل الآخر، شرط أن لا تكون تلك الثقافة مبنية على حساب حقوق الأخر أو وجوده، كما ويجب النظر إلى الآخر المختلف من دون تمييز بسبب الجنس أو الدين أو القومية أو الخلفية الاجتماعية أو الاتجاه السياسي أو أي سبب آخر، وطالما أن الاختلاف لا يكون على حساب وجود الآخر أو حياته، فالآخر هو فرد مواطن، له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات، فيجب احترام هذا الاختلاف والعمل على تعزيز قبول ثقافة الآخر المختلف مهما بلغت درجة الاختلاف، وتفعيلها بشكل طبيعي بما تنسجم مع واقعنا ومتطلباته.
إن احترام الآخرين يتضمن حكما احترام استقلاليتهم الذاتية، بما فيها حقهم في إدارة شؤون حياتهم بالطريقة التي يفضلون، مع أن ذلك لا يمنعنا من تقييم وانتقاد خياراتهم وطرق حياتهم. ويبدو جليا أن أحكامنا يجب أن تنبني على تفهم ودي يتعاطف مع عالمهم ويتفهمه من الداخل، وإلا ظلمناهم وأسأنا الحكم على تلك الخيارات.
أما إذا استمعنا إلى دفاعهم عن وجهات نظرهم، ومنحناهم ما يكفي من الاهتمام والدراسة المتأنية، ووجدنا بعد ذلك أن خياراتهم لا تمنح مجالا لحريات الأفراد والضوابط المجتمعية المتفق عليها طوعا، فلا يترتب علينا واجب احترامها بل واجب عدم احترامها.
وبدون أدنى شك فإن الحوار الثقافي بين الدول والشعوب هو بديل عن وسائل العنف والتطرف، فليس هناك من وجه مقارنة بين حوار السلاح وحوار العقول.
© منبر الحرية، 27 يناير/كانون الثاني2010

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018