peshwazarabic

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

يقول ابن خلدون :” التأريخ فن عزيز المذهب جم الفوائد شريف الغاية إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم… وهو محتاج إلى مآخذ متعددة ومعارف متنوعة وحسن نظر وتثبّت يفضيان بصاحبهما إلى الحق وينكّبان به عن المزلات والمغالط لأن الأخبار إذا اعتُمد فيها على مجرد النقل .. فربما لم يُؤمَن فيها من العثور ومزلة القدَم والحَيَد عن جادة الصدق” لقد ظل التاريخ على قِدمه علماً مشكوكاً بعلميته وسرداً مشكوكاً بصحته وأحداثاً مشكوكاً بصحتها، وهو مع كل ذلك يسير ويتطور ولا تستغني عنه الأمم في جميع مراحلها. ومن هنا فإن السؤال الذي يراودنا دائماً: من أين حصل التاريخ على هذا البريق؟ ولماذا يبقى الإنسان ينبش الماضي ويبحث فيه عن ضالته التي لا يجدها؟ .
إن الفلسفة التي تقف خلف بحث الإنسان الدائم عن معرفة الماضي لا يمكن أن تعود فقط إلى حب الاستطلاع والفضول الذي يتميز به الإنسان عن غيره بل لا بد من سبب آخر أكثر عمقاً وأقدر على تفسير الظاهرة، لقد قال المؤرخون ” إن الإنسان واعٍ بالعيش في التاريخ ولا يكتفي بالخضوع للزمن وكأنه قدر محتوم فماهية الإنسان هي وعيه بالتاريخ” فالإنسان ليس ابن اللحظة الراهنة فقط بل هو ابن الزمن الممتد ولا يتحقق وجوده إلا لكونه متصلا مع الماضي وأي انقطاع يسبب له الضعف والتقهقر، ولذا فإن الأمم تسعى دائما إلى كتابة تاريخها والتغني به، وإذا لم يكن لديها تاريخ فإنها تصنعه لإثبات حق أو نفي شبهة أو تعميق وجود.
وإذا كان الإنسان متعطشاً في حاضره لمعرفة ماضيه فإن ذلك يقودنا إلى التساؤل حول صدق التاريخ بوصفه عملية نقل لما حدث، لأن ما حدث لا يمكن معرفته على الوجه الذي كان عليه تماماً، فليس هناك تطابق بين الماضي ومعرفة الإنسان له، فالتطابق مرهون بما يتوفر للمؤرخ من وثائق وشواهد وقدرة على الإلمام بالماضي وسبر أغواره على أن التطابق التام صعب جداً إن لم يكن مستحيلاً. وهو بوصفه عملية تقريب بين ما حدث في الماضي والماضي ذاته فإنه يصبح عملية معقدة غير قابلة للقياس والموضوعية، لأن الحدث التاريخي عندما يتحول إلى عملية تأريخ فإنه يكون للمؤرخ عندئذ دور ذو أهمية بالغة فيه، إذ لم يعد الحدث موجوداً للحكم عليه، بل تصبح رؤية المؤرخ هي القراءة الجديدة المتوفرة، فهل لدى المؤرخ القدرة على الانفكاك من ذاتيته وعواطفه وأحاسيسه ليدرس الماضي دراسة موضوعية؟ وما هي العلمية التي يجب على المؤرخ أن يتقيد بها عند دراسة الماضي؟ هل هو العلم كما يفهمه علماء الطبيعة، وذلك باستنتاج الوقائع والأحداث من علاقات حتمية علمية وقوانين موضوعية؟ فحتى العلوم الطبيعية لا تؤمن بوجود تفسير شامل وكامل ونهائي للظواهر الطبيعية، وكما يقول ( كارل بوبر) : ” إن أي حقيقة علمية ليست حقيقة لأن التجربة أثبتتها بل لأننا لم نتوصل بعد إلى إثبات عكسها”، وإذا كان الأمر كذلك فهل مهمة المؤرخ تنحصر في سرد الأحداث ووصف الوقائع؟ ومن ثم تنتفي عن التاريخ صفة العلمية التي تقتضي التقنين والموضوعية، ويتحول إلى عمل سردي لا يتميز كثيراً عن الأدب. وإذا كانت أحداث التاريخ لا تتكرر بالمعنى العلمي للظواهر الفيزيائية والكيميائية فإن المؤرخ لا يستطيع وضع نظرية يطبقها على كل الأحداث المتشابهة؛ لأن أي حدثين مهما كانت أوجه التشابه بينهما كبيرة سيبقى هناك اختلاف حتى لو كان قليلاً، وحتى لو اتفق المؤرخون على مضامين أحداث معينة ونتائجها فهم ليسوا قادرين على التنبؤ بالحدث المتوقع في المستقبل، كما هو الحال عند علماء الفلك مثلاً حين يتمكنون من تحديد زمن كسوف الشمس قبل حدوثه، لأن قوانينهم منطقية ومبنية على سبب ونتيجة،وهذا غير متوفر لعلماء التاريخ.
ورغم ذلك كله فإن المؤرخ مطالب بأن تكون صناعته علمية ومنهجية، وعليه أن يتجرد من ميوله ونزعاته ورغباته، وقد أثبتت التجارب أن كثيراً من المؤرخين – رغم ادعائهم الالتزام بالموضوعية – عجزوا عن الانسلاخ من بيئاتهم وقاموا دون أن يشعروا بإسقاط أفكار حاضرهم على الماضي، ولو قدر للمؤرخ أن يعكف على دراسة الحاضر فهل بإمكانه بلوغ الحقيقة؟ وله ما له من ذلك الكم الهائل من الوثائق والإحصاءات والمعلومات والصور والتقارير التي بإمكانه الحصول عليها من الفاعلين الذين صنعوا الحدث. فهل سيعطينا الحقيقة بعلمية وموضوعية أم أنه سيتحول إلى صحفي جيد لا غير؟
وإذا كانت علمية التاريخ مستحيلة التحقق فإن ذلك يدعو إلى النظر في الهدف منه، ومدى جدواه وفائدته للحاضر. ومن هنا نرى أنه ليس مطلوباً من المؤرخ أن يكون علمياً وموضوعياً لأن ذلك صعب التحقق ولكن مطلوب منه أن يكون على مستوى الحدث من حيث القدرة على القراءة والنقد والتحليل وإعادة الإنتاج، فالعملية التاريخية كما قال ابن خلدون ليست نقلا محايداً، وكل قراءة في التاريخ هي إعادة إنتاجه ليخدم الحاضر، فالمؤرخ الجيد ليس محايداً بالمعنى العلمي المطبق في العلوم الطبيعية، بل هو مشارك في صناعة الحدث القادم من خلال استنفار القوى المحركة في الحدث الماضي، وإذا كان الإنسان ابن الحلقات المتصلة في الزمن كما قلنا سابقاً فإن ذلك يعني أن على المؤرخ البحث عن حلقة الاتصال التي تربط الحاضر بالماضي ليكون فاعلاً ومؤثراً، وإلا فما الفائدة من نقل الأحداث، كما صنع كثير من المؤرخين العرب كالمسعودي والطبري وابن كثير، فالتاريخ لم تعد أهميته تكمن في معرفة أخبار المدائن والدول والممالك والحروب والغزوات والانتصارات والهزائم، بل هو بحث دائم عن النص الغائب في كل حدث من خلال المقارنات والمقاربات، ثم إعادة إنتاج النص الغائب بما يوقظ الحاضر ويجعله قادراً على التأثير، وليكون محفزاً للواقع فيحرره من وهمه ويدفعه إلى الأمام.
إن مهمة الحدث للمؤرخ ليست في معرفته حقيقته وليست في معرفة صادقه من كاذبه، بل هي في استدعائه للمساعدة في اللحظة المناسبة ليصنع منه نصاً جديداً  قادراً على التفاعل مع الواقع، ومن ثم ليكون الماضي مؤثراً في الحاضر.
© منبر الحرية، 6 مارس 2009

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

إن انتخاب “باراك أوباما” رئيسا رابعا وأربعين للولايات المتحدة الأمريكية كان حدثا تاريخيا بالفعل. فسيصبح هذا الأمريكي الأفريقي الأصل، وابن المهاجر الكيني، في شهر كانون الثاني (يناير) الحالي زعيما لأقوى دولة في العالم. ويعتبر انتخاب “أوباما” دليلا على إن الولايات المتحدة سوف تظل ارض الفرص. وحسبما أشار إليه “أوباما” في خطابه الذي ألقاه في شيكاغو بعد فوزه في الانتخابات، سيتوجب حتى أولئك الذين يكرهون الولايات المتحدة أن يقضموا ألسنتهم وان يعترفوا بهذه الحقيقة.
منذ ميلاد “أوباما” عام 1961، شهدت الولايات المتحدة. الكثير من التغيرات. ولكن، ليس من بين هذه الأشياء التي تغيرت ما هو أكثر عمقا مما حدث عام 1964.
ففي خلال تلك السنة، وقّع الرئيس الأمريكي “ليندون جونسون” على تشريع الحقوق المدنية وجعل منه  قانونا. ويرى الكثيرون أن الحقوق التي منحها هذا التشريع هي التي مهدت الطريق أمام أبناء الأقليات، كـ “أوباما” للاندماج في الحلم الأمريكي وان يتسلقوا سلم السلطة.
وما بين انتخاب الرئيس الأمريكي “جون ف. كيندي”، أول رئيس كاثوليكي للبلاد، عام 1960، وانتخاب الرئيس المنتخب “أوباما”، أول رئيس أمريكي من أصل إفريقي عام 2008، انتخب مواطنو الولايات المتحدة ثمانية رؤساء مختلفين من الناحية الإيديولوجية – يمثلون تطور الأمة ونضجها. هذه هي الديمقراطية الفاعلة.
مع ذلك، كان العالم العربي، خلال نفس الفترة، يبدو متقوقعا ومتشبثا بالماضي. فزعماء العالم العربي لا يشجعون أي تغيير قد يعمل على تهديد سيطرتهم على السلطة.
فمنذ عام 1970، عندما كان “أوباما” في التاسعة من العمر، والعقيد معمر القذافي يحكم ليبيا. وكان لقيادته لتلك الدولة نتائج محزنة. فهذه الأمة الغنية بالنفط لم تستخدم مواردها بشكل يخدم احتياجات ومتطلبات الليبيين، الحالية والمستقبلية.
وبالرغم من أن لدى ليبيا أعلى إجمالي ناتج محلي للفرد الواحد في إفريقيا، فان الغالبية العظمى من الناس لم يستفيدوا من إيرادات النفط الخاصة بهذه الدولة. وتقدر نسبة الليبيين العاطلين عن العمل بحوالي 30 بالمائة.
أما العقيد وأصدقائه المقربين فقد بددوا موارد الدولة الثمينة في الحصول على المعدات العسكرية ونشر الإرهاب في العالم العربي وما هو أبعد من العالم العربي.
وما جريمة القتل الحمقاء التي تم ارتكابها بحق ركّاب رحلة 103 لشركة “بان أميريكان” للطيران فوق لوكيربي باسكتلندا إلا مثالا على ترويج ليبيا للإرهاب. وبإمكان المرء أن يتصور منافع التنمية الطويلة الأمد التي ستعود على الشعب الليبي لو أن موارد البلاد قد استثمرت في مجال التعليم والبنى التحتية بدلا من استخدامها في المعدات العسكرية والإرهاب.
أما سوريا فهي مثال محزن آخر. فهي تخضع  لنفس نضام الحكم منذ عام 1971 عندما كان “أوباما” في العاشرة من عمره. أما هدف القائمين على الحكم فهو منذ ذلك الحين الإبقاء على نظام حكمهم. وقد استخدمت موارد البلد بطريقة غير ناجعة، في الداخل والخارج، في سبيل الإنفاق على جهاز المخابرات المتطور الذي هو مفتاح دعم وإسناد نظام الحكم.
إضافة إلى ذلك، كانت سوريا هي الحلقة الهامة التي تربط إيران بقيادة حزب الله في لبنان. وبالرغم من الموارد الطبيعية والبشرية المتنوعة والكبيرة الموجودة في سوريا فان الاقتصاد السوري كان يعمل بشكل ضعيف، مع وجود نسبة بطالة رسمية تقارب 10 بالمائة. وحسب اعتقاد معظم الأخصائيين الاقتصاديين العالميين فان النسبة الحقيقية للبطالة هي أكبر من ذلك بكثير.
والى جانب الإصلاح السياسي والاقتصادي المطلوب، فان لدى العالم العربي سجلاّ سيئا جدا في مجال حقوق الإنسان. فعلى مدى سنوات، قامت منظمة حقوق الإنسان “هيومان رايتس ووتش” بنشر تقارير أوضحت بالتفصيل الإنتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان.
أما السودان، فقد كانت محط أنظار الصحافة مؤخرا، نتيجة للأعمال الفظيعة التي ارتكبتها الحكومة ضد مواطنيها في إقليم دارفور. وفي اليمن سعت فتاة يمنية تدعى “نجود علي” تبلغ من العمر 10 سنوات نحو الحصول على طلاق علني بعد أن أجبرها والداها على الزواج من رجل يبلغ 30 عاما قام باغتصابها والاعتداء عليها. وما قصة هذه الفتاة إلا واحدة من القصص المروعة التي ينبغي أن تثير غضب العالم بأكمله. كانت “نجود” قد حُرمت من طفولتها وبراءتها. وانه لأمر مشين أن تسمح الحكومة اليمنية بقيام مثل هذه الزيجات. ولا بد أن يتم تشريع وتنفيذ إصلاحات عاجلة تقوم بإنقاذ فتيات مثل نجود في المستقبل.
لا بد من إجراء التغيير.
إن لانتخاب “أوباما” إمكانية لإحداث تغيير، ليس على الصعيد المحلي فحسب، بل على المستوى العالمي أيضا. وينبغي على زعماء العالم العربي إعطاء قدر كبير من الأهمية إلى هذه الحماسة العالمية نحو زعامة “أوباما” والتغيير الذي يمثله. فإذا أراد الزعماء العرب الإبقاء على سيطرتهم على السلطة فسوف لن يكون أمامهم أي خيار سوى أن ينظروا من جديد نحو الإصلاحات المطلوبة في بلدانهم. وإن لم يقوموا بذلك فإنهم يعملون على زيادة المخاطر التي ستحيق بأوكارهم– التي قد تواجه في وقتٍ قريب جدا حركات مرعبة تطالب بالتغيير.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

إن المتتبع لخطاب الفكر العربي المعاصر، سيلحظ ولاشك كثرة تداول مصطلح الديمقراطية إلى درجة الإملال. وكثرة تواترها حاليا يضاهي فترة غيابها السابق عن ساحة الفكر العربي. فالغياب السابق والحضور الحالي الكثيف يعكسان مرضا عربيا في التعامل مع الأفكار وطريقة استخدامها. إن غيابها السابق كان سياسيا أكثر مما هو واقعيا وكذلك تواترها الحالي يخضع للاستخدام الآني من قبل الأنظمة والمعارضات والأحزاب والإعلام أكثر مما هو حقيقة راسخة في فكر هذه الأنظمة ومعتقداتها.
الديمقراطية التي دخلت الفكر العربي من أوسع أبوابه بعد التسعينيات – خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي – لم تدخل نتيجة نمو داخلي أو تمخضات أسفرت عنها البنية الداخلية للمجتمعات العربية أو نتيجة تغيير ما طرأ على بنية الأحزاب العربية السلطوية والمعارضة في آن، بل نتيجة الفراغ الذي خلّفه سقوط الاشتراكية بنسختها السوفياتية الرثة. وحسب نظرية الفراغ : ( لا يوجد فراغ، وإن هذا الفراغ إذا وجد فسوف ينشأ شيء ما ليملأه). ومن يستطيع ملء الفراغ غير الإيديولوجية المنتصرة ؟
هكذا إذن دخلت إيديولوجيا الديمقراطية ( وهنا نفرّق بين الديمقراطية كإيديولوجيا وبين الديمقراطية كفكر وممارسة حياتية ويومية ) أرضا تعاني هزيمة شبه مطلقة، وغيابا كاملا لأي مشروع، فوجدت أرضا خصبة للتبشير والعبادة، حيث تحولت الديمقراطية إلى مشروع خلاص إلهي أكثر مما هي مشروع خلاص يومي وكفاحي ونضالي، يستلزم الغوص في وحل الواقع المر والبحث عن إمكانات الفعل فيه، والعمل على تبئية الديمقراطية – كفكر وممارسة – بالعمل اليومي والتدريب الشاق والتعلّم والخطأ ومحاولات تصحيحه التي لا تنتهي. الأمر الذي يجعلنا نرصد في الواقع العربي تناقضات مرعبة في طريقة التعامل مع الديمقراطية : فالحاكم الذي يحكم شعبه بالنار والحديد، و المثقف الذي يعامل زوجته وفق ثقافة الحريم، والمعارضات العربية التي لا تختلف عن السلطات التي تنتقدها بالكثير، كلهم يطرحون مشاريع عن الديمقراطية !
ولكن نظرة متفحصّة ودقيقة لأنظمة الفكر العاملة في تلك الأحزاب والسلطات ستكشف جانبا مريعا ومخجلا، وتدقيقا أكثر في البنى الفكرية والتعليمية للمجتمعات العربية تعكس واقعا لا يسر، ويؤكد مدى صعوبة العمل على تبئية الديمقراطية.
إن الانتشار الواسع للأمية في العالم العربي مريع، الأمر الذي يطرح تساؤلا مثيرا ومقلقا ومرعبا في آن : كيف يمكن لمواطن لا يقرأ أن يقترع ويختار ناخبيه ؟ هذا إذا أخذنا من الديمقراطية نتيجتها : المتمثلة بصندوق الاقتراع الذي لا يمكن الوصول إليه دون المرور بأبجديات الديمقراطية : انتشار التعليم،، والمواطنة بحقوقها وواجباتها، والمجتمع المدني الذي يحد من تسلط الدولة وعنفها المقدس بقوة القانون، الإصلاح الديني..
هذه الأبجديات التي تمهد الطريق لقبول الديمقراطية الناتجة عن وعي جمعي بضرورتها و أهميتها.
هناك أيضا المعارضات العربية على اختلاف أشكالها التي ترفع الديمقراطية كشعار لإحراج السلطات الحاكمة، أكثر مما ترفعه كممارسة واعتقاد في طريقة إدارة شؤونها الداخلية، حيث الشمولية وغياب المحاسبة وعبادة الفرد والوصول إلى الأمانة العامة للحزب عن طريق التزكية هي العقائد المترسخة التي تحكم تفكير هذه الأحزاب. كما نلاحظ أن أغلب قادة هذه الأحزاب يرأسون أحزابهم منذ ربع قرن على الأقل دون أن يسألهم أحد ماذا تفعلون ؟
الأمر الذي يشير أن رفع شعار الديمقراطية من قبل هذه الأحزاب لم يكن نتيجة مراجعة لأدبياتها وممارساتها وطريقة إدارة شؤونها، بل مجرد شعار لإحراج السلطات الحاكمة. مما يجعلنا نطرح سؤالا حادا : هل يمكن لمن يستهزأ بالديمقراطية ويرفضها في بيته، أن يطالب بها خارج البيت ؟
يقدّم لنا لبنان دائما على أنه البلد العربي الوحيد الذي يتمتع بحيز ديمقراطي معين، ولكن هذا عار عن الصحة فلبنان في حقيقة الأمر قائم على دكتاتورية مجموعة من الشموليات التي تتحكم به، حيث تحتكر النخب / الطوائف الحاكمة الديمقراطية فيما بينها على المستوى السياسي فقط، حيث تتوافق هذه النخب على أسماء مرشحيها عبر لعبة ديمقراطية ضيقة تمسخ الديمقراطية أكثر مما ترسخها. فنرى هذه الأحزاب تحفل بكل الأمراض الشمولية، فالأسماء نفسها والشخصيات نفسها والعائلات نفسها هي من يتحكم بالحياة السياسية اللبنانية منذ ربع قرن !
الأمر الذي يدل على أن الديمقراطية لا يمكن أن تنجح دون تغلغل ثقافة الديمقراطية في المجتمع وفي بنية الأحزاب، حيث أنّ الديمقراطية تبدأ في ” صندوق الرأس قبل أن تبدأ في صندوق الانتخاب”، وفق مقولة المفكر جورج طرابيشي.
هل يعني ما سبق أن الديمقراطية غير ممكنة في عالمنا العربي ؟
أبداً، ليس هذا ما نريد قوله، بل نقول إن الحاجة العربية للديمقراطية كبيرة أكثر من أي وقت مضى، وضرورية لكسر حلقات التخلف والاستبداد والغياب عن العصر، ولكن الطريقة المتبعة عربيا نحوها غير صائبة، طريقة تستبسط الأمور وتتعاطى معها بسهولة فجة ومرضية كما تعاملت سابقا مع الاشتراكية، حيث تغدو مجرد “شعار” لتحقيق مكاسب هنا وهناك، بينما يجب أن تكون ثقافة دائمة ومستمرة، تغرس في عمق المجتمع والمدارس والجامعات والأحزاب، “بذرة برسم الزرع” وليس “ثمرة ناضجة” – وفق تعبير طرابيشي أيضا- نقطفها فقط.
على النخب الفكرية التي تعمل على موضوع الديمقراطية أن لا تكتفي بنقد السلطات فقط واعتبار أن موضوع الديمقراطية منوط برحيلها، بل عليها أن تعمل موضع نقدها في قلب مجتمعاتها وأحزابها وطريقة تفكيرها هي أيضا، أن يكون العمل على داخل البنى المجتمعية وليس خارجها فقط، لهدم أسس الاستبداد الديني والمعرفي والحزبي الذي يحكم وعي المجتمعات المحكومة شموليا.
إذن علينا تحرير الديمقراطية السائدة حاليا من ” ألوهيتها “، والكف عن جعلها ديانة العصر الجديد، عبر تفريغها من حمولاتها الزائدة التي تربطها بالخلاص، عبر جعلها ممارسة تطوّر نفسها، تنجح هنا وتخفق هناك، لتعود وتستثمر في محاولة أخرى للنجاح.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 10 يناير 2009.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

أنه لمن نافلة القول أن أقوى قوتين تؤثران على عالم اليوم هما: الإعلام والإستخبارات. وإذا كان هذان الذراعان متداخلات عبر العديد من الفضاءات والوظائف، فإن المؤكد هو أن واحداً من أهم موضوعاتهما هو الجمهور، أي إستهداف الرأي العام من أجل تشكليه وإدارته بالطرق التي تخدم مصالح القائمين عليهما. وهنا يكون الإنسان، فرداً وجماعات، هو الهدف النهائي. كما أن القوتين تشتركان كذلك في توظيف اللغة وسيلة وأداة لتحقيق أهدافهما. اللغة هي الإناء الذي يملأ بالمراد من الأفكار والحقائق والأكاذيب، من بين سواها من المطلوب بثه وإشاعته أو الترويج له. وإذا كان الجهاز الإستخباري يعمل أحياناً على صناعة وإنتاج وتسويق الإشاعات والإشاعات المضادة، فإن الإعلام يقوم بعمل مشابه عندما يصنع وينتج ومن ثم يسوّق أفراداً أو أفكاراً أو قضايا بحسب أهواء القائمين عليه. وبذلك تكون هذه جميعاً “مخلوقات إعلامية” mediacreatures، بمعنى أنها من إختلاق وتضخيم الإعلام، ليس إلاّ، شخوصاً كانت أم قضايا.
لقد لاحظ المخططون الإعلاميون البارزون منذ أمد طويل أهمية وسائل الإعلام في صناعة المعجزات وخلق الخرافات والأساطير وتمريرها. وقد تناغم هذا مع تطور وسائل البث الأثيري والعام الذي يصل إلى “كل الناس”. لذا تنبه هؤلاء إلى أهمية الإعلام، ليس فقط في إدارة الرأي العام على النحو المطلوب، ولكن كذلك في تصنيع وتسويق الأفكار والأساطير والشواخص، حسب الطلب. وكان الألمان، خاصة خلال الحرب العالمية الثانية، هم رواد هذا الحقل، إذ تفردوا، ربما للمرة الأولى في التاريخ، بخلق الشواخص الأسطورية. وهكذا تمت عملية أسطرة شخصية القائد المنزّه الذي لا يخطأ ولا يسهو، أدولف هتلر، على سبيل تعبئة الجماهير على طريق “عبادة الأبطال” hero-worship، كما إصطلح توماس كارلايل على تعظيم البطولة الفردية قبل ذلك بعقود. ناهيك عن اساطير وخرافات أخرى تم توظيفها في الحرب على سبيل خدمة المعسكر الألماني على حساب معسكر الحلفاء، ومنها “الأسطورة الآرية”، اي أسطورة تفوق الجنس الآري على سواه من الأجناس خاصة الجنس السامي.
مذاك تكررت عمليات صناعة الأبطال وتسويق البطولات على نحو مضطرد، خاصة مع ظهور العديد من الأنظمة الشمولية في الشرق والغرب على حد سواء. بيد أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، إذ تم توظيف الإعلام بطرائق فنية عدة على سبيل إنتاج “مخلوقات إعلامية” لا تمت للواقع بصلة. لقد صنع الإعلام نجوماً كثيرة عبر تاريخه العالمي في العصر الحديث. وهو لم يزل يفعل ذلك مسوقاً إياها على حساب الحقيقة ومن خلال إستغفال الجمهور: فإضافة للقادة التاريخيين المؤلهين، ظهر لدينا المفكرون التاريخيون والفنانون الإستثنائيون ولاعبو كرة القدم المعجزة، من بين شواخص أخرى لم تكن لتعني الكثير لولا ما نفخه الإعلام في صورهم من هواء حتى اضحوا بالونات لا تحتاج لسوى وخزة إبرة لتنفجر كالفقاعة على سطح ماء بارد.
وإذا كان الغربيون، قد حصلوا على القدح المعلى في صناعة وتسويق مخلوقات إعلامية لا قيمة تُذكر لها خارج عالم الإعلام، فإننا في العالم العربي غالباً ما نتتبع خطاهم بدقة متناهية، للأسف. لقد خلقت بعض وسائل الإعلام العربية عبر العقود الأخيرة اساطير وخرافات عدة، كان بعضها شواخصاً فردية، بينما كان بعضها الآخر قضايا ومشاكل مفتعلة. وكانت النتيجة هي صناعة رأي عام يعاني الكثير من الإختلال والتشويه، لاحظ إستحالة بعض الشخصيات المستبدة إلى “قيادات تاريخية” تستحق التقديس!.
واحدة من أهم طرائق صناعة وتسويق النجوم قد تمثلت في “تنجيم” أفراد لا يستحقون ما حصلوا عليه من سمعة وضجة من خلال وسائل الإعلام: فبينما تم تنجيم العديد من الشخصيات البائسة التي لم تقدم شيئاً يستحق الذكر، بقيت شخصيات “ثقيلة” ومهمة أخرى قابعة في الظل، لا يذكرها أحد، وقد لا يعرفها الكثيرون. وهكذا مكثت العقول الذكية والمبدعة أسيرة صوامعها ومعتكفاتها المغلقة البعيدة، بينما صعدت إلى القمة “الإعلامية” شخصيات لا تذكر بالأصالة والإبداع بحساب المعايير التاريخية والثقافية الموضوعية. وللمرء أن يحاول إجراء مسح بسيط لهؤلاء الذين ترفعهم بعض وسائل الإعلام إلى النجومية، ليقارنهم بهؤلاء المنسيين الذين لا تكلف وسائل الإعلام نفسها تقديمهم أو البحث عنهم، وهو سيخرج بنتائج باهرة بالمفاجآت. هذه واحدة من سلبيات ما يسمى اليوم “بالإعلام الموجه” الذي تديره وتوجهه الدكتاتوريات، خاصة في الشرق العربي الإسلامي.
المعضلة تتلخص في أنه “لا ضريبة على الكلام”، كما يقال. فإذا ما أرادت وسيلة إعلامية تحويل شخص عادي إلى نجم يذكر في كل مكان، فإن العملية بسيطة وقد لا تحتاج سوى لتزيين هذا الشخص بالألقاب جزافاً. لنلاحظ على سبيل المثال أن يقدم شخص ما في مقابلة على إحدى الفضائيات مترافقاً إسمه بلقب “المفكر الكبير”؛ أو أن يقدم شخص آخر بعنوان شهادة عليا هو لا يملكها، أو أن يقدم شخص ثالث مع لقب “شيخ”، وهو اللقب الذي راح ينتشر هذه الأيام بسرعة: فهذا شيخ المؤرخين، وذاك شيخ الشيوخ، وذاك شيخ المدينة، زيادة على شيوخ من أنواع أخرى. وعودة إلى المعضلة، فإنها تتلخص في أنه لا توجد هيئة أو منظمة يمكن لها أن تحاسب وسيلة الإعلام إذا ما أطلقت لقباً مفتعلاً أو مزوراً على أحد. كما أنك لا يمكن أن ترفع دعوى ضد وسيلة الإعلام المعينة لأنها أخطأت في منح شهادة جامعية عليا لشخص لا يمتلك سوى شهادة الثانوية العامة ! وهكذا تتلبد سماؤنا بالعناوين غير الصحيحة والألقاب المزيفة لتمطر على رؤوسنا أكاذيباً بهدف إنتاج وتسويق مخلوقات إعلامية، لا أكثر.
من المخلوقات الإعلامية الأخرى يجد المرء عمليات صناعة وتسويق القضايا والمشاكل والمسائل التي قد لا تستحق الكثير من العناء الإعلامي. وهنا يتطابق عمل الإعلام مع عمل الأجهزة الإستخبارية في تشكيل وإنتاج الإشاعات والإشاعات المضادة، بل حتى في صناعة وتسويق “النكات” المضحكة ضد فئة معينة من الجمهور، على سبيل الإقلال من شأنها كما حدث في عدد من البلدان العربية مؤخراً. وهكذا يمكن لوسيلة الإعلام أن تنفخ في مسألة معينة حسب أهواءها، كما أنها يمكن أن تفرغ الهواء عن مسألة أخرى حسب الطلب. هكذا تتم عمليات صناعة الخوف وتسويقه، وهكذا تتم عمليات إنتاج الأعداء وتسويقهم.
إن الإعلام، بالرغم من فوائده ودوره التنويري الكبير، يمكن أن يوظف كعدو للجمهور وكمشكل مُضلل ومزيف للرأي العام، الأمر الذي يحيلنا إلى مناقشة الحرفية أو الحيادية المطلقة في عالم الإعلام: هل هي حقيقة أم خيال؟ لاحظ كيف يتم ليّ الإعلام والتصرف بأدواته وقنواته لخدمة بعض الأنظمة الرجوعية التي لا تريد الإستجابة لمتطلبات العصر الملحة، خاصة الحريات والديمقراطية.
أن الحياد المطلق للإعلام هو مجرد أسطورة، كما يبدو من إستقراء المنتج الإعلامي اليوم. بل أن تتبع “سلوكيات” المؤسسات الإعلامية العربية والعالمية بدقة يشير إلى أن غياب النزاهة الكاملة في نقل الأحداث وفي طرائق تقديمها وأساليب إخراجها (عبر العاملين في الأجهزة الإعلامية وبواسطة المتعاملين والمتعاونين معها) إنما هو ظاهرة  تعبّر عن المصالح والأهواء الكامنة وراء أهواء ومصالح مديري هذه الأجهزة، تعبيراً عما يتمنوه من نتائج للأحداث ولأنفسهم من معطيات نهائية لهذه النتائج.
وليست الأحداث الجارية على الساحة العربية بأول المحكات التي تعكس “المصلحية” الإعلامية؛ فقد بيّنت الأحداث التاريخية خاصة عبر سنوات الحرب العالمية الثانية ( إبان الصراع الإعلامي الرهيب بين الرايخ الثالث ودول الحلفاء) بأن التشبث بحيادية مطلقة للإعلام يندرج في حقل التشبث بالمستحيل أو بالخرافة. ولكن أحداث العالم العربي الملتهبة الجارية اليوم تقدم لنا البينة الواضحة على أنه لا يوجد شيء اسمه إعلام مطلق الحيادية حتى بالنسبة لوسائل الإعلام العائدة إلى القطاع الخاص أو إلى الأفراد الذين لا ينتمون إلى هيئات إدارية حكومية. وبعكسه، لماذا يختار الفرد أو الشركة الاستثمار في وسائل الإعلام، مفضلين هذا الاستثمار على حقول استثمارية أكثر إدراراً مادياً مباشراً. وهذه الظاهرة التي تعني بأن الإعلام يشبه إلى حد كبير عملية كتابة التاريخ أو التورخة. فالإعلام يشترك مع التاريخ في أنه لا يمكن إلاّ وأن ينطوي على شيء من التفضيلات والتمنيات والمخاوف الكامنة لدى مالك الوسيلة الإعلامية ومديرها، زيادة على تأثيرات هؤلاء الذين يحاولون الفوز برضاهما واستحسانهما. وعليه، فإن أي جهاز إعلامي ومهما حاول أن يقدم الأنباء بحيادية لابد أن يقع فريسة لأهواء الممول الذي ” له رأي ” بالأحداث، وهو الرأي الذي يتبلور في طرائق تقديم المادة الإعلامية وحجبها أو حجب أجزاء منها على سبيل تحقيق المرجو من آثار على مستهلكي هذه المادة. وإذا كانت بعض وسائل الإعلام تتباهى بأنها “مفضلة” على غيرها بسبب حياديتها، فأن هذا لا يعني وجود حيادية مطلقة قط، فالموضوع شديد النسبية.
وإذا كانت وسائل الإعلام مرآة لمواقف مديريها ومموليها، فإنها تقدم كذلك صوراً دقيقة للانتهازيين الذين يحاولون ركوب الموجة لتحقيق أهدافهم الأنانية الخاصة. ولدينا في العالم العربي عدداً لا بأس به من هؤلاء المتحذلقين الذين يحاولون استثمار وسائل الإعلام عبر استثمار مصالحها لتمرير أنفسهم كمنقذين أو كوطنيين، أعلى من سواهم وطنية بدرجات. ومن هؤلاء الذين تستحسن بعض الفضائيات إظهارهم وتقديمهم، بسبب التقاء بعض المصالح المشتركة، أشخاص لا همّ لهم سوى الفوز بالشهرة ومن ثم السلطة. وهكذا تبقى مصائرنا في العراق مرتهنة بأمثال هؤلاء المزايدين وبسواهم من الذين يريدون أن يحكموا العراق عبر عمليات قطع الطرق وانتهاز الفرص.
ولا يبالغ المرء إذا ما استمكن شعوراً قوياً بأن هناك وسائل إعلام شائعة في البلدان العربية من تلك التي وجدت في أحداث الشرق الأوسط الساخنة فرصة ذهبية لسكب الزيت على النار وتأجيج الحرائق بلا أدنى شعور بالمسؤولية. بل أن المرء ليشعر بأن هؤلاء ينتظرون الحروب الأهلية وإنتشار الفوضى “بفارغ الصبر” عبر الحديث الملحاح عن التقسيمات الطائفية والعرقية بديلاً عن الدعوة إلى نشر الديمقراطية والفكر الليبرالي الذي يرتهن به التقدم والإنتقال من غياهب التقليدية الظلامية إلى انوار الحرية والتقدم، الأمر الذي يحيل الإعلام إلى “كائن” طفيلي (يعتاش على أحداث ومعاناة الغير) بدلاً عن إحالته إلى مرآة للحقيقة.
إن الأحداث في العالم العربي والشرق الأوسط عامة كثيرة وساخنة ولا يبدو بأنها ستتوقف، ولكنها تقدم لنا البينة على مصلحية وانتهازية العديد من وسائل الإعلام التي تنظر إلى هذه الأحداث كفرص عمل، فتحورها ثم تديرها على هذا الأساس وليس على أساس من الحياد المطلق الذي صار خرافة هي مدعاة للتندر بالنسبة لمن يحيا في أتون الأحداث الحقيقية. ولكن، مع هذا كله، يحاول رجال الإعلام الجادين التشبث بالحيادية أنموذجاً يستحق التمسك به، لذا كان هؤلاء أقرب إلى الجمهور لأنهم أقرب، نسبياً، إلى الحقيقة.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 11 ديسمبر 2008.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

لا تخوض الولايات المتحدة وحلفائها في أفغانستان حرباً واحدة وإنما هي، في حقيقة الأمر، تخوض حربين في آن واحد. فقوى التحالف تقود حربا للقضاء على تمرد طالبان والقاعدة ، وبنفس الوقت تخوض حربا أخرى ضد تجارة المخدرات ولا سيما الأفيون. هذه الجبهة الأخيرة لم تكن إلى وقت قريب تشكل أولوية على أجندة هذه القوات. إذ أن العسكريين لم يكونوا يستجيبوا لضغوط الإدارة السياسية في واشنطن باتجاه التركيز أكثر على مقاومة تجارة المخدرات ، وذلك لعلمهم بان هذه الحرب غير مجدية ولن تؤدي إلا لتشتيت جهود المهمة الأساسية في القضاء على حركة طالبان وتنظيم القاعدة.
لا بد لنا وعند الحديث عن عملية مكافحة تجارة الأفيون في أفغانستان، أن ندرك أبعاد هذه العملية. فبالنسبة للذين يكافحون ضد تجارة المخدرات، تشكل أفغانستان، دون أدنى شك، الجبهة الأولى في هذه المعركة. فأفغانستان تساهم بحوالي 90 % من عرض الهيروين والخشخاش في العالم. وعليه فتجارة المخدرات تشكل أهمية إستراتيجية لأفغانستان إذ تمثل على الأقل ثلث الناتج الإجمالي للبلاد.
أخر تقديرات الأمم المتحدة تقدر عدد العائلات الأفغانية العاملة في زراعة الخشخاش والأعمال الأخرى المتعلقة بتجارة المخدرات بـ 509000 عائلة. فإذا حصرنا مفهومنا للعائلة على المعنى الضيق، فان هذه العائلات تمثل ما يعادل 14 % من السكان. أما إذا آخذنا بعين الاعتبار طبيعة العائلة الأفغانية حيث تتعدى مفهوم الأسرة الضيق إلى مفهوم العائلة الكبيرة يمكننا التقدير بان ما يعادل 35% من الشعب الأفغاني يعمل بشكل مباشر أو غير مباشر بتجارة المخدرات.
في ضوء هذه الحقيقة، يصبح الطلب من حكومة كارازي خوض حرب ضد المخدرات والقضاء على تجارة الأفيون، أشبه إلى حد ما بالطلب من اليابان القضاء على صناعة السيارات والالكترونيات اليابانية. لا بد أن احتمال الاستجابة لهذا الطلب سواء من قبل الحكام السياسيين أو من قبل الشعب يبدو ضئيلا جدا.
يُحاججُ المدافعون عن موقف متشدد من تجارة المخدرات بالقول بان جزء من أموال هذه التجارة ينتهي به المطاف في جيوب طالبان والقاعدة. صحة هذا القول لا تلغي حقيقة أن الجزء الأعظم من هذه الأموال يذهب إلى جيوب أمراء الحرب المواليين لكرازاي و إلى المتنفذين في الأرياف الذين يعيشون على هذه التجارة، ولا يبدو أنهم ينظرون بعين الرضا إلى أي جهد يمكن أن يمس بمستوى حياتهم. كنتيجة منطقية لهذا الوضع، فان أي سياسة تسعى إلى مقاومة زراعة المخدرات أو الاتجار بها لن تخلو من المخاطر. في هذا السياق فان ضغوط واشنطن باتجاه القضاء على زراعة الخشخاش تظهر على أنها هجوم مباشر على العديد من العائلات الريفية الأفغانية.
إنها إستراتيجية محفوفة بالمخاطر، ويمكن رؤية نتائجها السيئة مسبقا. على ما يبدو فالسكان، على وجه الخصوص في أقاليم جنوب هلمند وقندهار، عادوا لدعم طالبان بسبب السياسات المناهضة للمخدرات. مع العلم بأن العديد من زعماء المناطق كانوا، حتى الغزو الأمريكي لأفغانستان خريف العام 2001، يدعمون حركة طالبان. وقتها وبعد دخول قوات التحالف أفغانستان بدل هؤلاء من ولاءاتهم متخليين عن دعم حركة طالبان، الأمر الذي أثار، على الدوام، الشكوك حول استقامتهم والتزامهم. ومعلوماتنا اليوم تفيد أن بعض هؤلاء الزعماء نقضوا تعهداتهم من جديد.
الحقيقة الصعبة تتمثل بأن التحالف الذي قادته الولايات المتحدة بحاجة إلى دعم أمراء الحرب من جهة والى تعاون الشعب الأفغاني للحصول على المعلومات من جهة أخرى. فأمراء الحرب يشكلون بحد ذاتهم تحالفا عسكريا ضد طالبان والقاعدة. في هذا المناخ، تبدو الحرب على المخدرات غير مجدية. فعلى قوات التحالف أن تحافظ على أولويتها بالقضاء على طالبان والقاعدة إذ انه لن يكون بإمكانها النجاح في منع عودة نظام قمعي كنظام طالبان، إذا أصرت على خوض حرب أخرى ضد المخدرات في نفس الوقت.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 5 ديسمبر 2008.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

كثيراً ما يقال لنا إن الحملات الانتخابية الأمريكية يجب أن يكون محورها حول “القضايا”. بيد أن المقترعين لن يُشرّعوا القوانين في شهر تشرين الثاني (نوفمبر)! إنهم سوف ينتخبون رئيساً من المحتمل جداً أن يواجه مخاطر غير متوقعة أو فرصاً على مدى السنوات الأربع القادمة. ويحتاج المقترعون لمعرفة كيف يمكن للمرشحين أن يستجيبوا لكلا التحديين. يجب أن يعرفوا ما هي شخصية المرشح وبالتالي التنبؤ بكيفية قيام الرئيس المنتخب بواجباته.

كيف يمكن أن نحكم على شخصية المرشح الرئاسية؟ الأمانة والأخلاق الحميدة هما بداية جيدة بالتوافق مع توفر الإرادة لعمل ما هو صحيح بدلاً من عمل ما هو مقبول جماهيرياً. يضاف إلى ذلك بأن على المرشح أن لا يخلط بين المظاهر والحقيقة بالنسبة لشخصيته. يجب على المرشّح أن يكون بالفعل حائزاً على المزايا التي تحتاج إليها الرئاسة.

ربما يبدو أن ماكين يملك ميزة بالنسبة لموضوع الشخصية. إن تجربته في فيتنام لم ينتقص منها ما أورده ناقدوه ذوو المصداقية. لقد كان بالفعل بطل حرب، وإن شيئاً كثيراً من ذلك الماضي يشير إلى كيفية نظر معظم الناخبين إليه.

في الأسابيع الأخيرة، يبدو أن ماكين أظهر شجاعة في معركته الانتخابية. فقد أعلن “إنه ليس من واجب الحكومة أن تنقذ وأن تكافئ أولئك الذين يتصرفون بطريقة غير مسؤولة، سواءً كانوا بنوكاً كبيرة أو مقترضين صغار.”

لقد زار ماكين الفقراء ولم يعد بأن رئاسته سوف تجعلهم بقدرة قادر أغنياء. لقد واظب على تأييد حرب العراق، كما وعد بتخفيض الإنفاق. في عام 2008، فإن الموقفين كليهما يتعارضان مع رغبات غالبية الأمريكيين.

بيد أن ماكين أظهر أخيراً قصوراً بالنسبة لمسألة الشخصية. إنه الآن يقترح إنقاذ المستدينين ويدعو إلى توقيف جني ضريبة البنزين في الصيف.  ما هو الاحتقار الذي لا بد أن يشعر به رجل تحمّل كل لك التعذيب للمقترعين الذين لا يستطيعون أن يتحملوا قليلاً من الألم على مضخة البنزين. ومع ذلك، فإنه يشعر بألمهم خشية من الإخفاق في شهر تشرين الثاني (نوفمبر).

باراك أوباما هو قضية أكثر تعقيداً، جزئياً، بسبب أنه غير معروف. إنه لم يُمتحن في شؤون مهمة. صحيح أن أوباما يبدو على استعداد للاستماع إلى الناس الذين يخالفونه في الرأي. وقد رفض شيطنة منافسيه وبالتالي وضع جانباً مزيةً كان يمكن أن تساهم في حملته. أوباما أيضاً يبدو رجلاً صادقاً وأميناً؛ رجلٌ يمكنك احترامه حتى وإن لم تكن متفقاً مع كل شيء يقوله أو يفعله.

ورغم كل ذلك، فإن قدرات أوباما البلاغية العظيمة كانت دائماً تلقي بظلال على شخصيته. هل هو بالفعل ما يبدو أنه هو، أو ما يود كل إنسان أن يكون عليه؟ ربما أنه كان مجرد شخص أفضل في انتحال الإخلاص.

كيف يمكننا الحكم على شخصية مرشح رئاسي؟

إن المصاعب التي واجهها أوباما في الانتخابات التمهيدية لم ترفع من شأن شخصيته. فقد حاول إرضاء المقترعين في ولايات تعاني الركود، وليس أقل من ذلك في موقفه تجاه الحمائية. والذي يبدو أن مستشاره الاقتصادي قد أبلغ المسؤولين الكنديين بإهمال أقوال أوباما في ما يتعلق بمنطقة التجارة الحرة لشمال أمريكا.

رجل الدين رايت هو الأهم بالنسبة لمسألة الشخصية، وليس فقط على حساب أوباما. وعندما نعود إلى خطاب فيلادلفيا، فإن عدم رغبة أوباما في الافتراق عن قسيسه يمكن أن يلقي نوراً على شخصيته. فمن الأمور البديهية أن أسهل شيء بالنسبة لأوباما كان ببساطة شجب رايت وآرائه.

لقد حاول أوباما أن يشجب الأقوال بينما رفض التخلي عن قسيسه. ربما كان أوباما يرفض التضحية بصديق في لحظة هو في أشد الحاجة إليها، حتى وإن لم يكن ذلك الصديق ممن يمكن الدفاع عنه وكان كل شيء يتوقف على تلك اللحظة. يستطيع المرء أن يحترم هذا الموقف والآن لا يبدو رايت بالشخص الذي يمكن لأي صديق أن يدافع عنه.

وقد أثار رايت أيضاً مسألة مقلقة حول شخصية أوباما. لماذا بقي السيناتور أوباما وعائلته مع كنيسة رايت وأيّدوها لتلك المدة الطويلة؟ ولأنه بقي كذلك، كان من الصعب الاعتقاد بأن أوباما كان غير مؤيد لراديكالية رايت. ولكن من كان يعتقد بأن أوباما الذي أصبحنا نعرف لن يبدي عدم الرضى عن رايت؟

إن قسيسه قد خلق مشكلة تتعلق بشخصية أوباما بطرق لم يُجب عليها السيناتور. ويشعر المرء الآن بأن السؤال لا يمكن الإجابة عليه بشكل قاطع يتجاوز الشك.

الشخصية قد لا تكون القضية الوحيدة في شهر تشرين الثاني (نوفمبر). وقد يمكن إنقاذ أوباما إذا ما وقعت أزمة اقتصادية، أو إذا ما تم كشف النقاب عن معلومات تُسيء إلى سلوك ماكين بشكل موثوق. وربما يجد أوباما وسيلة يخرج منها من أزمة رايت، بحيث تعيد سمعته الجيدة مع المقترعين. ولكن في المرحلة الحالية تم توجيه سؤال يتعلق بالشخصية بعد وقت طويل مما كان يمكن الإجابة عليها سابقاً.

أكثر من عدد قليل من المقترعين—وليس جميعهم من الليبراليين—يودون الإيمان بشخصية أوباما إن لم يكن ببرنامجه. لقد أصاب أوباما أولئك الناس بخيبة الأمل. إن خيبة أملهم قد تؤدي إلى خيبة أمل الديمقراطيين عندما يجيء شهر تشرين الثاني (نوفمبر).

© معهد كيتو، منبر الحرية، 29 أيار 2008.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

من السهل أن ينغمس المرء في تعقيدات تكنولوجية فيما يتعلق ببرنامج الرئيس الأمريكي الخاص لمراقبة الإرهاب. في جوهره، فإن البرنامج يُدخل إشرافاً إلكترونياً لا مبرر له على المكالمات الهاتفية الدولية ورسائل البريد الإلكتروني—حتى تلك التي تبدأ في الولايات المتحدة وتنتهي في داخلها. لقد تم تطبيق ذلك البرنامج بشكل سري في عام 2001، بيد أن جريدة النيويورك تايمز كشفت النقاب عنه بعد أربع سنوات من تطبيقه، وقد تم توسيع ذلك البرنامج من قبل الكونغرس في آب من العام 2007 في “قانون حماية أمريكا”.

يجري التفاوض بين الكونغرس والبيت الأبيض بعد التمعن في هذه القضية الدستورية المهمة: من هو الذي يقرر ما إذا كان البرنامج يرسم توازناً صحيحاً بين الحقوق المدنية والسلامة الوطنية—أي هل يتعارض القانون مع التعديل الرابع الذي يمنع التفتيش “غير المعقول”؟

لقد كان موقف إدارة بوش ثابتاً ومتصلباً. وقد أعرب عن ذلك الموقف ألبرتو غونزاليس النائب العام السابق على الوجه التالي: المادة 2 من الدستور تقول “إن السلطة التنفيذية هي موكولة إلى الرئيس” وهو “القائد العام للقوات المسلحة”. تلك السلطة، وفق ما ذكر غونزاليس، تتغلب على أي عمل يقوم به الكونغرس في زمن الحرب.

المفترض أنه إذا دعت مصلحة الأمن في زمن الحرب اتخاذ إجراءٍ ما، فإن الرئيس يستطيع من جانب واحد أن يضع الأمريكيين تحت المراقبة في أي مكان، وتوقيف المواطنين الأمريكيين إلى أجل غير مسمى، وتفتيش سجلات المكتبات، ومخاطبات الأمن القومي، وسجون وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وتصريحات “المحاربين الأعداء”، والمحاكم العسكرية وتقنيات التحقيق التي قد تكون مخالفة لالتزاماتنا بموجب المعاهدات.

يقول القاضي روبرت جاكسون بأن الأمر ليس كذلك، مؤيداً بذلك ما جاء في قرار محكمة الاستئناف الأمريكية عام 1952 في قضية (يانغستون آند تيوب) والذي حجب عن الرئيس هاري ترومان سلطة وضع اليد على معامل الفولاذ. وكتب جاكسون يقول: عندما يتخذ الرئيس إجراءً بموجب تفويض من الكونغرس “تكون سلطته في حدها الأعلى”. ثانياً، في حالة أن الكونغرس لم يعط السلطة كما لم يحجبها، “تنشأ حالة من الغموض تكون فيه سلطة (الرئيس) والكونغرس متوازية، أو يكون فيه توزيع السلطة غير مؤكد”. ثالثاً، ولكن، عندما يتخذ الرئيس إجراءات تكون غير مطابقة لإرادة الكونغرس، سواء صراحة أو ضمناً، “فإن سلطته تكون في حدها الأدنى”.

البرنامج السري لمراقبة الإرهاب، يقع في الفئة الثالثة: فقد اتخذ الرئيس إجراءاته في وجه منع قانوني محدد ضمن قانون مراقبة المخابرات الخارجية. معظم الرؤساء، عندما يظنون بأن قانوناً ما أصبح قديماً أو عديم الجدوى، أو غير حكيم، فإنهم يطلبون من الكونغرس تعديل أو إلغاء القانون. الرئيس بوش اتخذ الطريق الأقصر: فقد حاول على مدى سنوات إلغاء قانون مراقبة الاستخبارات الخارجية بنفسه عن طريق تجاهل بنوده.

إن ادعاءات الرئيس الزائفة بسلطاتٍ تنفيذية غير محدودة هي الآن تدور في مكانها. فمؤخراً في جملة من القرارات—قضية حمدي ضد رامسفيلد (2004)، قضية رسول ضد بوش (2004)، وقضية حمدان ضد رامسفيلد (2006)—رفضت محكمة الاستئناف مرة أخرى فكرة أن السلطة التنفيذية تستطيع أن تفعل ما تشاء في زمن الحرب، بغض النظر عن استشارة الكونغرس. ونتيجة لذلك، فقد جُرت إدارة بوش مذعنة مستغيثة بتفويض الكونغرس، لقانون معاملة الموقوفين (2005)، وقانون اللجان العسكرية (2006)، وكانون حماية أمريكا (2007)، والآن مشروعي قانونين لإعادة تفويض برنامج مراقبة الإرهاب.

ربما أن الكونغرس سوف يتخذ الخيارات السياسية الخاطئة عندما يُعيد النظر في البرنامج. إذا كان الأمر كذلك، فإن من المحتمل جداً أن يُقدّم تحدٍّ دستوري من قبل إحدى مجموعات الحقوق المدنية أو أكثر من مجموعة. بيد أن صدور أحكام خاطئة من قبل الكونغرس، سوف يكون من الصعب تحديها على أسس دستورية تحت قاعدة ما نص عليها قرار المحكمة في قضية (يانغستون). ذلك، أن سلطة الرئيس تكون “في أوجها” عندما يتصرف بتفويض صريح من الكونغرس.

إن ما يعنيه ذلك، بطبيعة الحال، هو أن الالتزام بالدستور لا يحمينا دائماً من القوانين الرديئة. ومع ذلك، وحتى إذا كان الدستور غير كافٍ كمرشد، فإنه بكل تأكيد مُرشد ضروري.

لسنوات عديدة، كنا نغامر بفقدان حقوق مدنية مهمة من خلال عدم التصدي للتجاوزات التي ترتكبها السلطة التنفيذية. ربما أننا ما زلنا نواجه ذلك الخطر. ولكن وبفضل وسائل الإعلام، والمحاكم، و—مؤخراً—معارضة أصبحت أكثر نشاطاً في الكونغرس، فقد استسلمت الإدارة أخيراً إلى القبول بطيف من الرقابة من قبل الكونغرس، حتى وإن كان التدقيق القضائي ما زال غير كافٍ.

إن ادعاءات الرئيس الزائفة فيما يتعلق بسلطات غير محدودة، هي الآن، موقوفة. إن ذلك يشكل السابقة الدستورية الصحيحة، حتى إذا ما نتج عنها في نهاية الأمر نتائج سياسية خاطئة. وعلى المدى الطويل، فإن السابقة هي أكثر أهمية من أحكام السياسة المؤقتة. وقد أعربت القاضية ساندرا أوكونر عن قرارها في قضية حمدي، واضعة يدها على المبدأ الأساسي الذي تنطوي عليه: “مهما كانت السلطة التي يتصورها الدستور الأمريكي بالنسبة للسلطة التنفيذية… في زمن الحرب، فإنها بكل تأكيد تطرح تساؤلات حول أدوار فروع الحكومة الثلاثة؛ عندما تكون في الميزان قضايا الحريات المدنية للأفراد”.

© معهد كيتو، منبر الحرية، 21 أيار 2008.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

نظام تمويل حملات الانتخابات الرئاسية، وهو النظام العاجز والمكروه، قد احتل فجأة مركز الصدارة في انتخابات هذا العام—حيث يجد كل من السيناتور جون ماكين والسيناتور باراك أوباما نفسيهما بين المبادئ التي دعوا إليها منذ زمن بعيد ومصلحتهما الذاتية.

لقد كان ماكين وأوباما يفاخران منذ أمد طويل بتأييدهما لوضع رقابة قوية على استخدام المال في السياسة. ولكن الآن فإن كلاً منهما يود لو يستطيع أن يتحاشى أخذ أموال عامة. وهنا نجد السخرية فيما يتعلق بإجراء “إصلاح” على تمويل الحملات الانتخابية.

يعود نظام تمويل الحملات الانتخابية للرئاسة إلى عام 1974، بعد استقالة الرئيس ريتشارد نيكسون. في ذلك الحين كان الديمقراطيون يملكون أغلبية كبيرة في الكونغرس، بيد أن مرشحيهم للرئاسة كانوا يواجهون صعوبات خطيرة في تمويل حملاتهم.

ورغم جميع ما يقال عن “الإصلاح” والفساد، والأنظمة التي تقيّد تمويل الحملات الانتخابية، فإن جميع هذه الأقوال هي في الواقع تتصل بتسخير الانتخابات لدعم المصالح الذاتية.

منذ العام 1960، كان المرشحون الجمهوريون للرئاسة يحوزون على تقدم كبير في جمع الأموال للحملات الانتخابية على منافسيهم الديمقراطيين. ولو كُتب لذلك النمط أن يستمر لكان المرشحون الجمهوريون للرئاسة يجمعون مراتٍ عدة ضعف المبالغ التي يجمعها الديمقراطيون في عام 1976 وما بعدها. بيد أن التمويل العام وضع حداً لذلك التهديد.

القانون يقدم مبالغ متساوية لمرشحي الحزبين الكبيرين كليهما لحملة الخريف الرئاسية—ما دام أنهم لا يجمعون أموالاً من المساهمين الأفراد. وقد فرض هذا مساواةً في جمع الأموال وأوقف التفوق الذي كان يتمتع به الحزب الجمهوري في هذا الميدان.

وبعبارة أخرى، فإن جميع ما يقال حول “الإصلاح” والفساد والأنظمة التي تحكم تمويل الحملات هي في حقيقة الأمر مُسخّرة لتسيير الانتخابات وتوجيهها بحيث تدعم المصالح الخاصة. (في انتخابات العام 1974، كان الديمقراطيون هم المستفيدون في حلبة الانتخابات الرئاسية. قوانين “إصلاحية” أخرى أفادت إلى حد كبير المسؤولين من المرشحين على حساب المرشحين الجدد الذين يتحدونهم. وقوانين أخرى مثل، قوانين مدينة نيويورك، التي تدعم القوة السياسية لنقابات العمال على حساب رجال الأعمال).

عودة إلى الحملة الانتخابية الحالية 2008، فقد بدأ السيناتور ماكين حملته للبيت الأبيض بتمويل خاص، ولكنه صرف كل ما لديه من مال في شهر حزيران الماضي. وحتى يتمكن من الاستمرار فقد سعى إلى أن يصبح مؤهلاً لتلقي تمويل رسمي للمرحلة التمهيدية من الحملة—واستخدم إمكانية حصوله على ذلك التمويل كسند للحصول على قرض.

تلك الحركة مكّنته من الاستمرار. لقد أصبح ماكين الآن المرشح الوحيد للبيت الأبيض بالنيابة عن الحزب الجمهوري. بيد أن ذلك يضعه في موقف صعب عندما يتطلع إلى الانتخابات العامة. فإذا وجد نفسه مقيّداً بنظام التمويل العام، فإنه لا يستطيع أن ينفق سوى أربعة ملايين دولار ما بين الآن وانعقاد مؤتمر الحزب الجمهوري. هذا مبلغ قليل جداً لمواصلة عرض رسالته على الجمهور. وهذا يشكل كارثة بالنسبة له. ذلك أن باراك أوباما وهيلاري كلينتون قد أثبتا قدرات فائقة على جمع الأموال—وقد ابتعدا جانباً عن التمويل العام للمرحلة التمهيدية من الحملة. فإذا تمكن أي منهما من نيل الترشيح في وقت مبكر، فإنه—هو أو هي—يستطيع مواصلة جمع الأموال وإنفاق الأموال الخاصة على امتداد الربيع والصيف الطويلين.

في غضون ذلك، فإن أوباما يود الهرب من التمويل العام للحملة الانتخابية العامة، وهي المرحلة التي تبدأ بعد مؤتمرات الحزبين. وقد وعد في العام الماضي بقبول التمويل العام إذا فعل مرشح الحزب الجمهوري ذلك—ولكنه تعلّم الآن بأنه يستطيع أن يجمع مالاً يفوق إلى حد كبير ما يستطيع ماكين جمعه من القطاع الخاص.

إن الرأي العام الأمريكي، يشارك بشكل واضح في هذه النظرة المتهكمة لنظام التمويل العام الذي يسمى تمويلا “نظيفاً”. ففي السنوات الأخيرة، فإن 6% فقط من دافعي الضريبة الفيدرالية لم يمانعوا تخصيص 3 دولارات من استحقاقاتهم لتمويل صندوق الحملة الرئاسية. هذا يمثل 94 بالمائة من المصوتين الذين أعربوا عن عدم ثقتهم بنظام التمويل العام مقابل 6 بالمائة فقط.

إن نظام التمويل العام—وفرض قيود مشددة على التمويل الخاص—للمرشحين السياسيين له من يدافعون عنه دفاعاً صادقاً، أناس يعتقدون بأن الديمقراطية تتطلبه، بيد أن الحقائق تتحدث عن نفسها. لقد تم تشريع ذلك النظام من أجل الكسب الحزبي، ولم يكن لأهداف عامة سامية. والآن يحاول اثنان من أقوى مؤيديها التلاعب على النظام—أي التهرّب من التمويل العام والاعتماد على التمويل الخاص—لأن ذلك يصب بوضوح في مصلحتهما الذاتية.

لقد حان الوقت لوضع حد لذلك الادعاء الكاذب بأن نظام التمويل العام يخدم الديمقراطية.

© معهد كيتو، منبر الحرية، 11 آذار 2008.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

في أعقاب الحرب العالمية الأولى، شرع الرئيس الأمريكي “وودرو ويلسون” في العمل لكي يجعل العالم ديمقراطيا. ومنذ ذلك الوقت، دأب الرؤساء الأمريكيون بالسير على قرع طبول تلك المثالية “الويلسونية”. وبالفعل، يتم تنفيذ معظم السياسة الخارجية الأمريكية تحت ذريعة نشر الديمقراطية إلى بقية دول العالم، وقد تكون مثل هذه الذريعة في بعض الحالات اعتقادا حقيقيا. وبناء عليه، فان استخدام الرئيس الأمريكي (الحالي) “جورج دبليو. بوش” لتلك الحجة بخصوص ارتباطات أمريكا الخارجية لا يعتبر استخداما جديدا أو غير عادي. وقد يكون منطقيا أن تكون رسالة وكالات المخابرات الأمريكية بما في ذلك وكالة الاستخبارات المركزية الـ(سي. آي. إيه.) والتي تم ذكرها مؤخرا هي أن يتم “دعم الديمقراطية وأن يتم الحفاظ على وإدامة الدول الديمقراطية المسالمة”.
إن معظم الشعوب، بما في ذلك الشعب الأمريكي، سوف تصيبهم الدهشة إذا علموا بان كلمة الـ“ديمقراطية” لا وجود لها في وثيقة “إعلان الاستقلال” الأمريكية (1776) أو في “دستور الولايات المتحدة الأمريكية” (1789) أو في تعديلاته العشرة الأولى التي تعرف باسم “لائحة الحقوق” (1791). كما انه ستصيبهم الصدمة إذا عرفوا سبب عدم وجود كلمة الـ”ديمقراطية” في الوثائق التأسيسية للولايات المتحدة الأمريكية. وعلى النقيض لما تقوم الدعاية السياسية الأمريكية بتوجيه جمهور الناس كي يتم تصديقها، فقد أبدت الشخصيات التي أسست أمريكا—أي الآباء المؤسسون—شكوكهم وقلقهم تجاه الديمقراطية. فقد كانوا على وعي وإلمام بالشرور التي تصاحب الطغيان والذي هو في هذه الحالة طغيان الأغلبية. وقد ذهب أولئك الذين قاموا بصياغة الدستور الأمريكي إلى مسافات أبعد من ذلك كي يضمنوا بان لا تكون الحكومة الفيدرالية الأمريكية معتمدة على إرادة الأغلبية، وبالتالي أن لا تكون ديمقراطية.
وقد عمل الدستور الأمريكي الأصلي على توطيد حكم القانون وعلى تثبيت الحدود التي تقيّد الحكومة. كما عمل ما يقارب نسبته 20 في المائة من هذا الدستور على وضع بنود لأشياء لا يجوز للحكومة الفيدرالية ولحكومات الولايات أن تقوم بعملها. وهناك نسبة أخرى تبلغ 10 في المائة من هذا الدستور لها علاقة بالمنح التي يتم التصرف بها للسلطات. وكذلك تتناول معظم مواد الدستور، والتي تقارب نسبة 70 في المائة منه، مفهوم أولئك الأشخاص الذين صاغوا الدستور والذي يتعلق بالواجب الرئيسي الموكول له وهو: أن يتم إخضاع الولايات المتحدة وحكومتها لحكم القانون.
والدستور الأمريكي هو، بشكل أساسي، عبارة عن وثيقة بنائية وإجرائية تضع بنودا خاصة بأولئك الأشخاص الذين يجب عليهم أن يمارسوا السلطة وكيف يتوجب عليهم أن يمارسوها. وقام الدستور بتقسيم الحكومة الفيدرالية إلى فرع تشريعي وفرع تنفيذي وفرع قضائي وتم تصميم كل فرع بهدف ضبط وتدقيق بقية السلطات نظرا لان المؤسسين لا يريدون أن يعتمدوا على أصحاب الأصوات الانتخابية فقط كي يتم ضبط وتدقيق سلطة الحكومة.
ونتيجة لذلك، فقد تم منح المواطنين القليل من السلطة من ناحية اختيار المسؤولين الفيدراليين. فالرئيس وأعضاء الهيئة القضائية ومجلس الشيوخ لم يجرِ انتخابهم بالتصويت المباشر من قبل الشعب، بل يتم فقط انتخاب أعضاء مجلس النواب عن طريق التصويت المباشر من الشعب. ولا يعتبر الدستور الأمريكي بمثابة تركيبة أو صيغة ديكارتية (نسبة إلى الفيلسوف الفرنسي ديكارت) تهدف إلى هندسة اجتماعية بل هو عبارة عن شيء يهدف إلى حماية المواطنين الأفراد من الحكومة. وباختصار، فقد تم تصميم الدستور لكي يحكم الحكومة وليس ليحكم الشعب.
كما قامت لائحة الحقوق أيضا بتثبيت حقوق الشعب ضد أية انتهاكات تقوم بها الدولة. والمطالبة الوحيدة لدى المواطنين على الدولة، بموجب لائحة الحقوق، هي بخصوص إجراء المحاكمات من قبل هيئة محلفين. أما بقية حقوق المواطنين فهي عبارة عن وقايات من الدولة.
وإذا كان أولئك الذين صاغوا الدستور لم يقوموا بتبني الديمقراطية، فما الشيء الذي قاموا هم بالتمسك به؟ من ناحية المواطن العادي، اتفقوا على أن الغاية من أية حكومة هو أن يتم تأمين ثلاثية “جون لوك” الخاصة بالحقوق للمواطنين وهي حق الحياة وحق الحرية وحق الملكية. وقد كتبوا عن الحرية كتابات مكثفة وبليغة. كما كتب، على سبيل المثال، جون آدمز عن ذلك أيضا قائلا بأنه “في اللحظة التي يتم بها إدخال الفكرة التالية إلى المجتمع وهي أن حق الملكية ليس مقدسا كقدسية القوانين الإلهية وانه لا توجد هناك قوة قانون ولا عدالة عامة تقوم بحمايتها، عندئذ سوف تبدأ الفوضى والطغيان”.
وفي غالب الأحيان تتحدث أفعال المؤسسين بصوت أعلى من أقوالهم. فقد تولى المحامي المتميز أليكسندر هاملتون كثيرا من القضايا الشهيرة بدافع من المبدأ الذي يحمله. فعلى سبيل المثال، وبعد الحرب الثورية التي قامت ضد القوة الاستعمارية وهي بريطانيا العظمى، قامت ولاية نيويورك بسن إجراءات صارمة ضد “الموالين” (لبريطانيا) وضد الرعايا البريطانيين. وقد اشتملت تلك الإجراءات على “قانون المصادرة” (1779) و”قانون الاستدعاء” (1782) و”قانون التعدي على الغير” (1783). وقامت جميع هذه القوانين بإدخال الاستيلاء على الملكية فيها.
وبحسب وجهة نظر هاملتون، فان هذه القوانين أوضحت الفارق المتأصل بين الديمقراطية والقانون. وحتى وإن كانت تلك القوانين تلقى شعبية على نطاق واسع، فأنها قامت بالاستهزاء من المبادئ الأساسية لقانون الملكية. وقام هاملتون بتحويل آرائه إلى أفعال من خلال التطبيق التام لقوة القانون. كما أنه قام، لكي يواجه أعمالا عدائية عامة هائلة، بالدفاع وبشكل ناجح عن أولئك الذين تم الاستيلاء على ممتلكاتهم في ولاية نيويورك بموجب التشريعات الثلاثة.
لقد تم تصميم الدستور الأمريكي بغرض تأييد وتعزيز قضية الحرية وليس قضية الديمقراطية. ولكي يتم تطبيق ذلك، قام الدستور بحماية حقوق المواطنين الأفراد من الحكومة ومن زملائهم المواطنين. وللوصول إلى هذه الغاية، وضع الدستور قواعد واضحة لا لبس فيها وقابلة للتطبيق بهدف حماية حقوق الأفراد. وبالنتيجة، فان نطاق وقياس سلطة الحكومة قد تم تحديدهما بشكل صارم.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 27 آذار 2007.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

يدعي عالم نوبل للاقتصاد، دوغلاس سي. نورث، وزميلاه (جون واليس وباري وينجاست)، بأن هناك ثلاثة أنواع من المجتمعات. الأنظمة البدائية، وهي عصابات صغيرة من الصيادين، وهي غير ذي أهمية هنا. الأنظمة المقيدة (المحدودة)، وهي مجتمعات تقدم حقوقا سياسية واقتصادية ذات معنى لنخبة ضيقة فقط. الأنظمة المفتوحة، وهي ديمقراطيات رأسمالية تعطي الحقوق السياسية والاقتصادية لمعظم المواطنين. ويحاول نورث أن يبرهن أن الأنظمة المقيدة هي “الحالة الطبيعية”: فهي مستقرة، تقاوم التقدم الاقتصادي، ونادرا ما تنتقل وتتحول إلى الأنظمة المفتوحة.
بالنسبة إلى نورث، فإن هذه الأنواع الثلاثة من الأنظمة تشبه الحالات الكيميائية الثلاث، الصلبة والسائلة والغازية. أي أنها تتميز وتختلف بوضوح عن بعضها الآخر، والانتقال أو التحول بين أشكال النظام المختلفة يحدث تحت ظروف خاصة فقط.
يحقق النظام المحدود الاستقرار من خلال تزويد كل مجموعة عنيفة محتملة بحق امتياز قيّم. فعلى سبيل المثال، ومن أجل إحباط المحاولات الانقلابية، يقوم اللواء الحاكم في المجلس العسكري بإعطاء العقداء القادرين فرصا عديدة للانتفاع شخصيا من الفساد. ويجب أن يتم سجن أو نفي أو قتل الشخصيات القوية التي لا يمكن شراؤها.
وبالرغم من إمكانية حدوث انقلابات عسكرية بشكل منتظم، إلا أن النظام المحدود لا يزال ترتيبا مستمرا نسبيا. عندما يحدث انقلاب ما، لا تتم عملية إعادة توزيع السلطة على نطاق واسع وإنما يحدث تعديل وخلط في القمة فقط. (ولقد تم الإشارة إلى هذا النوع من الاستمرارية لأول مرة منذ أربعين عاما في ورقة العالم السياسي من جامعة واشنطن ميرل كلينج التي تحمل عنوان “العنف والسياسة في أمريكا اللاتينية،” والتي نشرت في عام 1967 في دراسة لمجلة سوسيولوجيكال ريفيو، العدد 11).
إن أحد المفاهيم الرئيسية لنورث تنص على أنه يتوجب على حكام النظام المقيد أن يعملوا على الحد من حقوق الجماهير. فإذا نال الجميع حقوقهم الاقتصادية والسياسية، فلن يكون لدى الحكام أي عرض خاص يقدمونه لتهدئة المغتصبين المحتملين. فمن غير الممكن شراء المنافسين السياسيين المحتملين واستمالتهم إلا في حالة حصولهم على حقوق استثنائية حصرية. ولكن إعطاء حقوق حصرية لمجموعة واحدة يستلزم بالضرورة تقييد حقوق المجموعات الأخرى. أن نقول لحكام النظام المحدود “إننا نصرّ على التخلص من الفساد” هو بمثابة أن نطلب منهم ارتكاب الانتحار السياسي.
التحول النادر
يقوم النظام المحدود بتوزيع السلطة بطريقة تحافظ على رضى المجموعات المنظمة التي من المحتمل أن تكون عنيفة. ولن يكون لأولئك خارج الائتلاف الحاكم أي سبيل للوصول إلى السلطة السياسية أو الفرص الاقتصادية، ومن مصلحة النخبة إبقاؤه على هذا النحو.
وكما وضعه نورث بقوله:
“إن النظام المحدود لهو توازن اجتماعي. وتتقاسم التوازنات خصائص مشتركة: (1) السيطرة على العنف من خلال امتيازات النخبة؛ (2) تقييد حق الدخول في التجارة؛ (3) وجود حماية قوية نسبيا لحقوق الملكية للنخبة، وضعيفة نسبيا لغير النخبة (إن سيادة القانون التي قد تتميز بها الدولة الطبيعية هي من أجل النخبة)؛ (4) القيود المفروضة على الدخول والخروج من المؤسسات الاقتصادية والسياسية والدينية والتعليمية والعسكرية.”
وعليه، فإن الانتقال من النظام المحدود إلى المفتوح في غاية الصعوبة والإشكالية. ويجادل نورث على أن هذه التحولات نادرة. فمنذ الحرب العالمية الثانية لم تتمكن إلا ثماني دول من إجراء هذا التحول. ومما يثير الاهتمام أن هذه التحولات غالبا ما تتطلب فترة قصيرة نسبيا من الزمن التاريخي—خمسين سنة أو أقل. وتشمل الأمثلة الحديثة على تايوان وكوريا الجنوبية وإيرلندا وإسبانيا.
كتب نورث:
“إن السمة الأساسية للانتقال هي نشوء تبادل غير شخصي بين النخبة. وينطوي التبادل الشخصي على علاقة شخصية مستمرة بين أطراف التبادل بحيث تكون المعاملات المتكررة جانبا أساسيا من تعزيز التبادل. إذا خدع أحد الأطراف الطرف الآخر، فإن ذلك يهدد بخطر فقدان العلاقة بينهما والمزايا التي تنطوي عليها. وتقيّد ضرورة التفاعل المتكرر من نطاق تبادلات أي فرد من الأفراد. وفي المقابل، يتضمن التبادل المجرد، غير الشخصي، أطرافا لها القدرة على إجراء تبادل مستقل بدون علاقات شخصية طويلة الأجل. ويتطلب التبادل غير الشخصي أن يكون طرفا التبادل على درجة كافية من الثقة بأن حقوقهم وواجباتهم ستكون آمنة ومضمونة بالرغم من عدم تكرار التعاملات. وبذلك، يتطلب التبادل غير الشخصي شكلا من أشكال تعزيز الطرف الثالث.”
يقول نورث إن هناك ثلاثة شروط ضرورية قبل التمكن من تصور الانتقال من نظام محدود إلى نظام مفتوح. شروط “العتبة” الثلاثة هي:
1. سيادة القانون للنخبة.
2. استمرارية حياة المؤسسات.
3. السيطرة السياسية على القوات المسلحة.
لا يتم الوفاء بأول شرط في الدول التي يعتمد حتى النخبة فيها على العلاقات الشخصية من أجل الأمن والضمان الشخصي والاقتصادي. وبالنظر إلى روسيا اليوم، من الممكن تجريد حتى أعضاء حكومة القلة الثرية من حقوقهم بسرعة من قبل رئيس الدولة. ومن ناحية أخرى، توقعت النخبة في بريطانيا العظمى فى فترة ما قبل الحلول الكامل للديمقراطية أنه سيتم تطبيق الإجراءات القانونية عليهم.
إن استمرار حياة المؤسسات يعني وجود شركات أو مؤسسات أخرى يمكنها أن تعمر بعد زوال أعضائها الرئيسيين. وإذا لم يكن هناك مثل هذه المؤسسات، فهذا يعني أن كل مؤسسة تقوم على الولاء الشخصي. حين يرى الناس منظمة ما تعيش وتستمر إلى ما بعد الزعماء الحاليين، سيبدأون بدعم العلاقات التعاقدية مع تلك المؤسسة. وعندما تبدأ الحكومة بتوفير إطار قانوني لحماية العلاقات التعاقدية، سيكون عنصر أساسي من عناصر النظام المفتوح قد أصبح جاهزا. ويقول نورث بأنه من أجل أن يكون لأي مؤسسة ضمن دولة ما دوام الحياة والاستمرارية فلا بد من أن يكون للدولة نفسها حياة دائمة. فإذا كانت جميع قرارات الحاكم القانونية قابلة للإبطال عند موت الحاكم، عندئذ، لن يتم استيفاء هذا الشرط.
تتطلب السيطرة السياسية للقوات العسكرية أن لا يكون هناك أي مؤسسات مستقلة ذات قدرة على إثارة أعمال عنف واسعة النطاق. وبشكل واضح، لا يتمتع لبنان، حيث يعتبر حزب الله قوة عسكرية مستقلة، بالسيطرة السياسية للجيش. ومن ناحية أخرى، إذا سيطر فصيل واحد على الجيش، فهذا لا يتماشى مع تعريف نورث للسيطرة السياسية للجيش. بدلا من ذلك، فإن هذا النظام هو ديكتاتورية عسكرية.
وهكذا، فإن معيار نورث للسيطرة السياسية للجيش صعب المنال. فهو يتطلب قوة عسكرية موحدة ومنفصلة عن كل فصيل، مع نزع سلاح كل الفصائل. لتحقيق هذه النتيجة، يجب أن يتفق تحالف متوازن من النخبة ذات النفوذ على مجموعة من القواعد والإجراءات التي تحكم استخدام القوات العسكرية، كما يجب أن يكون لهذا التحالف آليات لضمان اتباع هذه القواعد والإجراءات.
المعاني الضمنية لحالة العراق

كان العراق في ظل نظام صدام حسين نظاما محدودا، أو “الدولة الطبيعية”. ويؤكد نورث أن هذه الدول تقاوم التغير إلى الأنظمة المفتوحة ومحاولات تحفيز التنمية الاقتصادية لأن التنمية الاقتصادية الحقيقية تتطلب التنافس العادل مما يهدد المزايا التي تعتبر عنصر استقرار في الأنظمة المحدودة. وبالرغم من أن نورث لم يناقش “بناء الأمة”، إلا أنه يبدو من المعقول الاستنتاج أنه سيكون له نظرة متشائمة أيضا لهذه الفكرة.
لم يكن العراق أبدا على “عتبة” أن يصبح نظاما مفتوحا. فالفصائل الرئيسية ليست على استعداد للتخلي عن أسلحتها والتنازل عن السلطة العسكرية لتحالف مركزي. لا توجد مؤسسات دائمة الحياة يمكنها أن تقدم التزامات تعاقدية. بل، ليست هناك رغبة بين الفصائل لمنح بعضها الآخر حقوق في ظل سيادة القانون.
وعليه، أستطيع القول أنه ليس واردا أن تنجح الولايات المتحدة في تحقيق هدفها المتمثل في إقامة نظام مفتوح في العراق. وأفضل ما يمكن عمله هو إعادة العراق إلى حالته الطبيعية، أي إلى نظام محدود حيث تكون الحقوق والسلطة مقصورتين على بعض النخبة، الذين لا يخضعون للمنافسة الاقتصادية أو السياسية كما نعرفها.
يجب أن يكون لقادة كل الفصائل الرئيسية في العراق مصلحة من السلام من أجل نشوء وظهور نظام محدود. وبالنسبة لكل قائد، يعني هذا الحصول على حقوق اقتصادية وسياسية استثنائية لكي يشعر أن مخاسره تتعدى مكاسبه في حالة اللجوء إلى العنف.
وإذا كنا نريد إقامة نظام محدود علينا أن نحدد الفصائل (الأحزاب) التي نريد لتكون في الائتلاف الحاكم، ويجب أن نعطي لكل منها شيء ذا قيمة مقابل الحفاظ على السلام. وبعبارة أخرى “فجة” (إذا جاز التعبير)، يمكن تصور إعطاء كل حزب من الأحزاب الرئيسية في حكومة الائتلاف السيطرة على مجموعة معينة من آبار النفط. أما بالنسبة للأحزاب غير المرغوب فيها في الائتلاف (مثل تنظيم القاعدة في العراق)، فيجب مطاردتهم وقتلهم. وإذا استمرت الأحزاب التي تتلقى مخصصات من آبار النفط في ممارسة العنف، عندها يتم تصنيفهم خارجين عن القانون وحرمانهم من الأمن الشخصي، مع مصادرة مواردهم النفطية وتوزيعها على الأحزاب الأخرى. وبالرغم من صعوبة ذلك، إلا أن التحدي يزداد ربما باعتقاد إيران أنه من مصلحتها زعزعة الاستقرار في العراق. يجب إقناع كل الفصائل والأحزاب بأن حجم الاستفادة التي سيحصلون عليها من المشاركة فى التحالف أكبر من قيمة الدعم الذي قد تتلقاه من إيران.
بعض الأسئلة
لقد استنبط نورث مفاهيمه بدقة، ومع ذلك، لدي بعض الأسئلة حول الفروقات بين الأنظمة المحدودة والمفتوحة.
إستنادا إلى نورث، تعمل الأنظمة المحدودة بطريقة مختلفة جدا عن الأنظمة المفتوحة. ويترتب على ذلك أنه ينبغي أن يكون من السهل تصنيف البلدان في معظم الفترات الزمنية على أنها إما ذات أنظمة محدودة أو مفتوحة.
من حيث المبدأ، ينبغي أن يكون ممكنا إنشاء مؤشر المنافسة السياسية داخل البلدان إضافة إلى مؤشر المنافسة الاقتصادية. علاوة على ذلك، ينبغي أن يتم ملاحظة الأنماط التالية في تلك المؤشرات:
1. يجب أن يكون من النادر ملاحظة قيم مرتفعة للمنافسة السياسية المتزامنة مع قيم منخفضة للمنافسة الاقتصادية، والعكس صحيح. هل سيكون مؤشر المنافسة الاقتصادية للصين مرتفعا رغم أن مؤشر المنافسة السياسية يجب أن يكون منخفضا؟ هل يوجد هناك دول يمكننا أن نلاحظ عكس ذلك لديها—ربما المكسيك؟
2. هناك دول كثيرة لديها قيم منخفضة لكل من المؤشرين، وكذلك عدد لا بأس به لديه قيم مرتفعة للمؤشرين. يجب أن تقع دول قليلة نسبيا في الوسط لكل من المؤشرين. هل تعتبر الهند دولة “وسطية”؟ تشيلي؟ هل تعتبر جميع الدول “الوسطية” من المرشحين للانتقال من أنظمة مقيدة إلى مفتوحة، والعكس صحيح؟
السؤال الآخر الذي يخطر لي هو كيف يمكن تصنيف الولايات المتحدة عام 1800. لم تكن الحقوق السياسية في ذلك الحين تشمل النساء والعبيد أو الناس الذين لا يملكون شيئا. لقد تركز قدر كبير من النفوذ الاقتصادي والسياسي في عدد قليل من الارستقراطيين من فرجينيا والتجار من نيو إنجلاند. ومع ذلك، كان هناك أحزاب سياسية متنافسة ونظام اقتصادي حر، إلى حد بعيد، من الاحتكارات والامتيازات الممنوحة من الدولة.
إذا كان من غير الممكن الإجابة على هذه الأسئلة بطريقة مرضية، فقد يتوجب في النهاية نبذ مفاهيم الأنظمة المحدودة والمفتوحة، وإن كانت جذابة. ومع ذلك، أعتقد أنها ستثبت انها مفيدة ومهمة للعلوم الاقتصادية والسياسية.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 6 آذار 2007.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018