peshwazarabic

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

واجهت القيادة البريطانية في الشهر الماضي تساؤلات جدية حول دورها في تقدُّم التنمية الدولية. كان قرارٌ واحدٌ كافياً لنقض كل شيء إيجابي تقريباً قامت به بريطانيا حتى الآن. ما هو معرّض للخطر الآن هو قدرة القيادة البريطانية على إقناع الآخرين بإلغاء ديون “العالم الثالث” البغيضة، وقدرتها على العمل على زيادة مساعدات التنمية الخارجية من أغنى شعوب العالم، وفي حملتها لإيجاد المساءلة والحكم الرشيد في مجالات العمل وحقوق الإنسان الأوسع والأمن البيئي.
هذا العمل المفرد كان، بالطبع، هو قرار المدعي العام البريطاني بوقف التحقيق الذي يقوم به مكتب مكافحة الاحتيال حول الفساد المزعوم في مفاوضات وتنفيذ عقود بين شركة بي. إيه. إي. وحكومة المملكة العربية السعودية. أريد أن أكون واضحاً فالذنب هو اختصاص أساسي لمكتب مكافحة الاحتيال. إلا أن التدخل الحكومي في عمل هذا المكتب يلقي بظلال من الشك على مدى استقلاليته ومدى التزام الحكومة بالشفافية والمساءلة.
الحقائق معروفة جيداً، لذا فإنني سوف لن أكررها بأي قدر من العمق هنا. من جهة كان هناك عقد تجاري ضخم لتوريد معدات عسكرية كانت له، حتى الوقت الذي تدخل فيه مكتب مكافحة الاحتيال، كل الاحتمالات بأنه سيحقق فائدة اقتصادية لبريطانيا، وفائدة تجارية لـ بي. إيه. إي. وفائدة أمنية للمملكة العربية السعودية ومواطنين آخرين في المنطقة. وقد قيل لنا أن خسارة العقد قد جعلت 100.000 مواطن بريطاني يفقدون وظائفهم، وهذا فشل ينبغي ألا يستهان به في ضوء الاضطراب الاجتماعي والتعاسة الشخصية والعائلية التي قد تنجم عن وضع كهذا. إضافة لذلك فإن إلغاء العقد كان من شأنه إلحاق أضرار خطيرة بالمصالح التجارية لـ بي. إيه. إي. وعدد من الشركات المرتبطة بها. وقد بدا ذلك واضحاً من حقيقة أن مؤشر الفايننشال تايمز للأسهم في البورصة البريطانية قد تفاعل إيجابياً مع قرار المدعي العام بإلغاء التحقيق حيث حقق المؤشر أرقاماً عالية جديدة.
تتضح المعاني الأعمق لقرار الحكومة البريطانية إذا نظرنا إليه من وجهة نظر أولئك الذين ضحوا بحياتهم في بلدان أخرى في سبيل مكافحة الفساد. إن سقوطي شخصياً من منصب نائب رئيس الوزراء في الحكومة الماليزية إلى حالة من الحبس الانفرادي بسبب قراري تحدي الفساد المنتشر في حكومة الدكتور مهاتير التي كانت في الحكم آنذاك، كان يعني أنني اخترت الانضمام إلى صفوف الآخرين الذين اتخذوا موقفاً بتكلفة شخصية باهظة، لأنهم كانوا يعرفون أن الفساد لن يسيء فقط إلى سمعة الحكومة بل وسيتسرب أخيراً إلى النسيج الأخلاقي للمجتمع الماليزي ويقوض قدرته على الأداء كمجتمع متحضر.
لقد قررت الحكومة البريطانية إلغاء تحقيق جنائي بسبب “مصالح وطنية” يمكن—كما قيل لنا—التذرع بها دستورياً لتجاوز سيادة القانون. سواء كان قد تم التوصل إلى هذا القرار من باب التشكيك الساخر أو بسبب إحساس معنوي وواجب وطني فإنه قد ألحق ضرراً كبيراً بعمل كثير من الناس في جميع أنحاء العالم ممن يلتزمون بمكافحة الفساد وتشجيع الحكومات والمؤسسات التي تخضع للمساءلة. أيّ مرجع ومثال أفضل بالنسبة للسياسيين ورجال الأعمال الفاسدين في سائر أنحاء العالم، حيث يصبح بوسعهم الاستشهاد بـ”المصالح الوطنية البريطانية” في تبرير المحاباة والمحسوبية أو الرشوة الفاجرة المباشرة!
يتخذ هذا القرار الخاطئ مكانه إلى جانب الأخطاء البارزة الأخرى في الذاكرة القريبة والتي تقوض مصداقية الغرب كعامل للإصلاح في العالم النامي: مشروعكم في إفريقيا غدا ميتاً كأنه لم يولد أبداً؛ والجهود لإقناع الشركات والحكومات للمصادقة على مبتكراتِ مساءلةٍ هامة مثل مبادرات الشفافية في الصناعات الاستخراجية (وربما كيوتو أيضاً؟) قد أصبحت أكثر صعوبة بكثير إن لم تكن مستحيلة؛ وصوتكم الأخلاقي الدولي، سواءً كان يتعلق بروسيا أو الصين أو معاملة الولايات المتحدة للإرهابيين المشتبه بهم، فَقَدَ صداه.
وليس هذا كل شيء، فبريطانيا جزء من نادي النخبة في “المجتمع الدولي” الذي يؤثر على الأجندات المحلية والإقليمية ونتائجها. هذا المجتمع الدولي، رغم كل عيوبه، كان عنصراً هاماً للغاية في كل حملة مساءلة كبرى تم شنها في بلدان العالم. لقد تضرر هذا المجتمع أصلاً بشدة بسبب غزو العراق وبسبب رمز التعددية الذي جرى إضعافه، وهو الأمم المتحدة. لقد ألحق سلوك بريطانيا ضرراً عميقاً بالمجتمع الدولي بكامله وأضعف قدرته على التحدث بمصداقية وقدرة الآخرين على الإصغاء على حد سواء.
تخيل سيناريو آخر يفيق فيه العالم على أنباء مفادها أن الحكومة البريطانية قد اختارت الاستمرارية في التحقيق، وأنها تقدم أسفها لـ بي. إيه. إي. وعملائها في الشرق الأوسط، ولكنها تعيد، نيابة عن الشعب البريطاني، تأكيد رغبتها في إدامة القيام بدور قيادي عالمي في الوقوف ضد الفساد وكل ما يتفرع عنه سواءً في الداخل أو في الخارج. لو حصل ذلك فسينهض دون شك العديد من القادة في قطاعات السياسة والأعمال والمجتمع المدني للتصفيق لهذا القرار ولتأكيد أنهم لم يعودوا يتحملون مقولة “الأعمال تجري كالمعتاد”.
وماذا عن شركة بي. إيه. إي. والسعوديين؟ نحن لا نعرف بالطبع ما إذا كان سيكون هناك أساس للادعاءات أو ما إذا كان السعوديون سينسحبون من الموضوع برمته. بيد أنه ليس هناك مصالح سياسية أو تجارية تستحق التكاليف الأوسع لهذا القرار. الواقع أن الموافقة المدوية التي كانت ستأتي من أطراف عديدة أخرى قد تفتح صفحة جديدة في الدور الدولي لبريطانيا في العالم وربما في الوقت المناسب. إني أشارك الآخرين قلقهم حول مصير الأشخاص الذين قد يفقدون وظائفهم، إذا دخل الفرنسيون، كما يشاع، على الخط لاقتناص الفرصة. ليس ثمة اعتذار هنا يساوي قيمة الورق الذي تمت كتابته عليه، وأود فقط أن أحث الحكومة البريطانية على استخدام الموارد المتاحة لإحدى أغنى البلدان في العالم لتعويض ومساعدة العائلات والمجتمعات المتضررة.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 30 كانون الثاني 2007.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

لا يتضمن أي دستور سياسي قائم أو مقترح قيوداً أو حدوداً كافية تتعلق بسلطة الوكالات الحكومية على أنشطة الأفراد والجماعات، وأبرزها، على تلك الاقتصادية. كما لا يوجد دستور ليبرالي قائم أو من المحتمل أن يتوفر في المنظور القريب. وبهذا المعنى، فإن كافة الدساتير القائمة هي فاشلة، وعلى الأغلب أن كافة المقترحات الجدية للإصلاح لا تعطي أية وعود بالنجاح التام. لقد قدّمتُ هذه الانتقادات الشاملة للأنظمة الدستورية القائمة والمقترحة دون إطلاع على تفاصيل معينة، ولكن بإدراك واعٍ وتام بالحقيقة التاريخية أنه، ولأكثر من قرن من الزمن، كانت كافة الحوارات السياسية قد تشكلت بواسطة “الغرور القاتل” (هايك 1989)، بأن بمقدور التوجيه السياسي تسهيل، وليس إعاقة، التقدم الاقتصادي، وبناء عليه تأثرت النتائج المؤسسية.
إن كافة الدساتير التي وضعت منذ القرن الثامن عشر، وجميع ما تم “إصلاحه” إما بشكل صريح أو بواسطة الاستعمال والتفسير منذ ذلك الوقت، يجب أن تعكس جميعها إلى حد ما الصورة الرومانسية للدولة الخيرة المعطاءة، سواء كان ذلك واقعياً أم محتملاً، فهذه هي الصورة التي قدمها المثاليون السياسيون من جهة، والاشتراكيون الحالمون من الجهة الأخرى.
إن الدستور الذي يتضمن “السياسة الخالية من الرومانسية” (بيوكانن 1979) غير موجود في وقتنا هذا، ولا تدخل أية مقترحات للإصلاح تعكس مثل هذا النموذج الواقعي للسياسات بشكل مباشر في أي حوار جارٍ. ومن الممكن إيجاد بقايا مثل تلك الرؤية في بعض عناصر الماديسونية فقط، حيث استمرت في وثائق وسجلات الولايات المتحدة الأمريكية، وفي مجادلات العدد الصغير نسبياً من الليبراليين الكلاسيكيين الموجود حالياً. ورغم هذا التقييم السلبي، والذي يمكن أن يبدو شاملاً إلى حد ما في اندفاعه للمصلحة العامة، إلا أنه قد توجد أسس لبعض التفاؤل السائد في الوقت الذي نتطلع فيه إلى المضي قدماً على نحو كافٍ إلى عصر ما بعد الثورة، وعلى الأخص إلى القرن المقبل.
مما لا شك فيه أن للأفكار عواقب، ولقد عشنا مع عواقب أفكار زائفة لقرابة قرنين من الزمن، وهي فترة طويلة جداً، لدرجة لا يمكننا أن نتوقع معها أن تحدث أية تغييرات بحلول أوائل التسعينيات. بيد أن العواقب، أو الأحداث نوعاً ما، تتغذى بشكل راجع على الأفكار، وبعد الثورات غير المتوقعة لأعوام 1989-1991، فلا بد وأنها برهنت أنه من الصعب المحافظة بشكل متزايد على الصورة الرومانسية لدولة معطاءة وقادرة. إن نظريات الفشل السياسي، التي قدمها بشكل هزيل الليبراليون الكلاسيكيون خلال فترة السيطرة الاشتراكية، والتي قوبلت بالازدراء والسخرية فقط، أثبت التاريخ بشأنها، فيما اعتبر على الأرجح أنها أعظم التجارب في العلوم الاجتماعية. وما لم يتملكنا اليأس تماماً من قدرة بني البشر على القيام بفعل عقلاني، علينا أن نتوقع أنه في فترة ما من قرن ما بعد الاشتراكية، سيبدي الرجال والنساء قدرات دستورية بناءة من الصعب تخيلها في الوقت الحاضر.
وبهذا المعنى، يُعتبر فرانسيس فوكوياما (1992) على حق بالتأكيد. أطلِق عليها ما يمكن أن يسميها المرء سمة تاريخية إلى حد ما، انتهت بشكل فاعل مع ثورات الأعوام 1989-1991. كما أصاب فوكوياما الحقيقة في إشارته إلى أن علم الاقتصاد الذي يوضح كيف يعمل اقتصاد السوق بشكل مستقل عن التوجيه والسيطرة المصبوغين بصبغة سياسية لينتج أكبر حزمة من السلع والخدمات المتوفرة ضمن قيود الموارد المتاحة تمت تبرئته أخيراً. ولكن، هل كان فوكوياما على حق أيضاً عندما تنبأ أن هذه النتيجة العلمية سيتم دمجها في الإصلاح المؤسسي-الدستوري؟ ولكي نتفق معه هنا، ربما علينا أن نفكر إلى ما هو أبعد من أفق عدد قليل من العقود المقبلة.
وكبداية، ربما من المفيد أن نوسع إدراكنا المتأخر ليشمل عهد ما قبل الرومانسية وما قبل الاشتراكية، إلى القرن الثامن عشر، ونحاول أن نلتقط من جديد الفهم الدستوري الذي أثار إلى حد كبير الفلاسفة، فضلاً عن السياسيين. وإلى أن، وما لم، يتم تحقيق مثل هذا التغيير في الذهنية المعاصرة بطريقة ما، فإن جميع جهود الحوار الدستوري الرامية إلى الإصلاح الأساسي ستضيع هباءً بلا شك. فالحكومات، بغض النظر عن درجة تنظيمها، ستبقى طليقة أساسياً، وسيستمر السياسيون البيروقراطيون في تسهيل الاستغلال المتبادل لكل منهم من قبل الجميع، في “حالة من الاضطراب والهيجان” الخاصة بأنثوني دي جاساي (1985). فالاقتصادات سوف تتعثر، ومن المحتمل بشكل متزايد أن تختفي المنتجات التي تحمل قيمة إلى “ثقب أسود” لما كان يمكن أن تكون عليه الحال (مكجي، بروك، ويانغ 1989).
النظام الدستوري لليبرالية الكلاسيكية

كان الليبراليون الكلاسيكيون في القرن الثامن عشر، سواء ممثلين بأعضاء التنوير الاسكتلندي، أو بالآباء المؤسسين الأمريكيين، شديدي التشكك في قدرة ورغبة السياسة والسياسيين في تعزيز مصالح المواطن العادي. وكانت الحكومات تعتبر شراً ضرورياً، ومؤسسات ينبغي الحماية منها، لكنها جعلت ضرورية نتيجة الحقيقة المبدئية بأن ليس كل الأشخاص ملائكة (ماديسون 1966 [1787]: 160). ولم يكن يتوجب الثقة بالحكومات، وبالأشخاص المكلفين كوكلاء لسلطتها، وكانت الدساتير ضرورية، وبشكل أساسي كوسيلة لتقييد السلطة الجماعية بجميع امتداداتها المحتملة. وكانت سلطة الدولة شيئاً يخشى منه الليبراليون الكلاسيكيون، وكان يُعتقَد أن مشكلة التصميم الدستوري تكمن في أن مثل هذه السلطة يمكن أن تكون محدودة جداً.
إن الوسائل لإنجاز هذا الهدف وسائل مألوفة. فالسيادة تم توزيعها بين عدة مستويات من السلطة الجماعية، وكانت الفيدرالية ترمي إلى السماح بعدم تركيز أو عدم مركزية سلطة الدولة القاهرة. وعلى كل صعيد للسلطة، تم وضع فروع وظيفية منفصلة للحكومة، وبشكل مدروس، في تواتر مستمر، الواحد مع الآخر. وفي بعض الكيانات، تم تقييد الفرع التشريعي المهيمن بواسطة المؤسسة الدستورية المكونة من كيانين، كل منهما منظَّم كمبدأ مستقل للتمثيل.
من المهم أن ندرك أن هذه العناصر البنيوية-الإجرائية الأساسية للدساتير السياسية قد تم تصميمها ومناقشتها، ووضعها موضع التنفيذ، من قبل ليبراليين كلاسيكيين في سياق هدف أو غرض مشترك، وهو ضبط أو تقييد السلطة القاهرة للدولة إزاء الأفراد. ولم تكن القوة المحركة لجعل الحكومة تعمل بشكل أفضل في تحقيق “السلع العامة” المختارة اعتباطاً، ولا في ضمان أن تحظى كل المصالح “بتمثيل أكثر اكتمالاً”.
وكانت العناصر البنيوية-الإجرائية للدستور الليبرالي الكلاسيكي، وتلك المذكورة أعلاه وغيرها، تعتبر أقل أهمية من تلك النصوص التي وضعت مدى ونطاق النشاطات التي تقوم بها السلطة الجماعية على نحو مناسب. ويعني هذا القول أن التعليمات الدستورية بالنسبة لما قد تقوم به الحكومات، أو لا تقوم به، كانت دائماً تعتبر أهم بكثير من كيفية قيام الحكومة بأي عمل، مثلما تفعل في الواقع. وقد غاب هذا الفارق المهم الذي كان مركزياً للمفهوم الليبرالي الكلاسيكي للنظام الاجتماعي عن الوعي العام خلال صعود الديمقراطية الانتخابية، خصوصاً في القرنين التاسع عشر والعشرين. وكان هنالك قبول عام للمغالطة التي كانت مكافئة لظهور الديمقراطية الانتخابية مع حاجة متضائلة لقيود دستورية جلية على مدى ونطاق النشاط الحكومي.
وفي النظام الدستوري الليبرالي الكلاسيكي، فإن أنشطة الحكومة، بغض النظر عن كيفية اختيار اللاعبين، تقتصر وظيفياً على مدارات التفاعل الاجتماعي، فقد كانت الحكومات، مثالياً، ستُمنع دستورياً من القيام بعمل مباشر يرمي إلى “تنفيذ” أية وظيفة من الوظائف الاقتصادية الأساسية العديدة: (1) وضع نطاق القيمة؛ (2) تنظيم الإنتاج؛ (3) توزيع المنتجات. وكان يتوجب القيام بهذه الوظائف خارج الهدف الواعي لأي شخص أو وكالة، وكانت تتم من خلال إدارة الأعمال اللامركزية لكثير من المشاركين في السلطة الاقتصادية المترابطة، كما تنسقها الأسواق، ومن خلال إطار “القوانين والمؤسسات” التي تم الإبقاء عليها وتطبيقها بشكل مناسب من قبل الحكومة.
ودور المحافظة على الإطار هذا، المعيَّن على نحو ملائم للحكومة في النظام الليبرالي الكلاسيكي، اشتمل على حماية الملكية، وتطبيق العقود الطوعية، والضمانة الفاعلة للدخول إلى والخروج من الصناعات، والتجارة، والمهن، والانفتاح المؤكد للأسواق الداخلية والخارجية، ومنع الاحتيال في المقابل. وكان يؤخذ بعين الاعتبار أن دور الإطار هذا للحكومة يشمل تأسيس معيار نقدي، وبطريقة تضمن قابلية توقُّع قيمة الوحدة النقدية المعينة (وعند تولي هذه المسؤولية النقدية بالتحديد، فشلت جميع الدساتير تقريباً، حتى تلك التي زُعم أن المبادئ الليبرالية الكلاسيكية حفزتها في الأصل، إذ تحركت الحكومات عبر التاريخ دائما على الأغلب إلى أبعد من حدود سلطتها النقدية المسموحة دستورياً).
وهناك مبدأ رئيسي متأصل في الدستور الليبرالي الكلاسيكي يملي بأنه، بغض النظر عما تفعله الحكومة، وسواء كانت الأنشطة الجماعية محتواة ضمن الحدود المشار إليها أم لا، يجب معاملة جميع الأشخاص والمجموعات بالتساوي. وكان يجب تمديد عمومية المبدأ المطبق على القانون، ليشمل السياسة أيضاً. ولم يكن هنالك دور للفعل الحكومي الذي يفرق بصراحة بين كافة الفرقاء المنفصلين، أو فئات الأشخاص. وفي المفهوم الليبرالي الكلاسيكي، لا تستطيع تحالفات الأغلبية الناجحة أن تفرض ضرائب مميزة على أفراد الأقلية السياسية، حتى لو كان ذلك لأهداف “المصلحة العامة” (بيوكانن 1992).
النظام الدستوري للاشتراكية
لم تحصل الرؤية الليبرالية الكلاسيكية للنظام الدستوري على انتشار جماهيري وقبول فلسفي واسع، لأكثر من عدة عقود من الزمن امتدت في الفترة بين القرنين الثامن والتاسع عشر. وإلى حد ما، كان سبب رد الفعل ضد هذه الرؤية هو تعصب أولئك المؤيدين الذين وسعوا مبدأ “دعه يعمل” الرئيسي بحماس مفرط، حتى في رفضهم لدور جماعي-حكومي في وضع معايير للتفاعل الاقتصادي. ولكن، من ناحية مبدئية، نبع رد الفعل ضد الليبرالية الكلاسيكية من عدم الرغبة العامة للمشاركين في الجسم السياسي بقبول النتائج التلقائية المخصصة والموزعة التي نشأت في خضم عملية اقتصاد السوق. لم يتم النظر إلى هذه النتائج على أنها “طبيعية”، ولم يتم فهمها على أنها كانت من صنع كافة الخيارات المنفصلة المعقدة التي اتخذها أشخاص لديهم قدرات عديدة. وتم النظر إلى نتائج عملية السوق على أنها “اصطناعية”—أي تم إنتاجها بدلاً من أن تبرز آلياً، وهي بناء على ذلك عرضة للتلاعب المباشر، والتغيير، وإعادة التوجيه من قبل عمل جماعي تم إضفاء الصفة السياسية عليه.
لقد تم تحفيز وإذكاء رد الفعل المضاد لليبرالية الكلاسيكية من قبل عاملين منفصلين تحديداً. أولاً، تكمن عبقرية كارل ماركس في قدرته على عزل، وتحديد، وإعلان تلك العناصر في رأسمالية عملية السوق التي بدت عرضة على الأغلب للانتقاد، على الأخص في السياق الفكري للنظرية الاقتصادية الكلاسيكية غير المكتملة، إلى جانب الفوضى المنتشرة فيما يتعلق بالتمييز بين العمليات الدستورية ودستورية الحكومات. وركز ماركس على هشاشة الرأسمالية أمام الأزمات المالية، وعلى ميلها للتمركزية (الاحتكار) في الصناعة، وعلى الاستغلال المدمر المزعوم للبروليتاريا (طبقة العمال). ثانياً، لقد استخدم المثاليون السياسيون ولقرون عدة ضمنياً نماذج من الدولة تنطوي على النزعة الافتراضية إلى الخير، وبإدراك تام. ويمكن تصويب أية إخفاقات للأسواق بموجب هذا الافتراض للمجموعة المثالية بالكامل عن طريق عمل سياسي موجه. لقد عمل النقد الماركسي المعمم إلى جانب افتراض الإدارة السياسية المثالية على تدمير الأساس الفكري العلمي الذي تم بناؤه لتبرير النظام الدستوري الليبرالي الكلاسيكي.
ومنذ منتصف القرن التاسع عشر، برزت رؤية من نوع ما لنظام اشتراكي ولفتت، بدرجات متفاوتة من الحماس، أذهان الأشخاص في جميع المجتمعات المتقدمة، وحتى في تلك المجتمعات التي كانت فيها الماركسية قادرة على الحصول على دعم مباشر بسيط نسبياً. وفي جوهرها، رفضت الرؤية الاشتراكية بشكل مطلق المفهوم الليبرالي الكلاسيكي للاقتصاد الذاتي التنظيم الذي يعمل ضمن مجموعة من الحدود الدستورية التي تنفذها الحكومة والتي بدورها مقيدة بنفسها إلى حد كبير، إن لم يكن بشكل كامل، بالدور التطبيقي والتنفيذي. وإذا تم رفض الاقتصاد ذاتي التنظيم، أو الذي لا يحمل صبغة سياسية، بصفته المبدأ النظامي الأساسي، فإن الاقتصاد المضبوط أو المنظَّم يصبح عنصراً أساسياً من أي نموذج بديل للمنظومة الاجتماعية. وهذا التحول من نموذج الاقتصاد ذاتي التنظيم إلى اقتصاد مضبوط أو منظَّم يمكن أن يكون، ولكن ليس ضرورياً، متصلاً بشكل مباشر بقضايا تتعلق بالتغييرات البنيوية-الإجرائية التي تنطوي على طرق ووسائل تم بواسطتها اختيار وكلاء ووكالات الإدارة، إلى جانب الأوامر الدستورية المتعلقة بكيفية أداء وظائف السيطرة والتنظيم.
والنظام الدستوري الاشتراكي، سواء يتم تحديده لدى تطبيقه على حزب واحد، أو نظام استبدادي معين ذاتياً، أو أغلبية برلمانية ديمقراطية اشتراكية، يوسع بالضرورة مدى ونطاق الصبغة السياسية إلى أبعد من الحدود التي تم تحديدها على نطاق ضيق للسلطة الجماعية في ظل النظام الليبرالي الكلاسيكي. فإذا كان الاقتصاد برمته مفتوحاً للسيطرة والتنظيم “في سبيل المصلحة العامة”، فيمكن أن يكون هناك، في ظل هذا التحديد، قيداً دستورياً بسيطاً، أو غير سابق، على تحديد ما هي تلك المصلحة من جانب أولئك الوكلاء والوكالات المكلفون بمسؤولية تخصيص وتوزيع النتائج. في حين أن الحكومات في النظام الدستوري الليبرالي الكلاسيكي لديها مسؤولية محدودة إزاء النتائج التي تبرز من التفاعل بين الأشخاص ذوي القدرات العديدة، فإن الحكومات في النظام الدستوري الاشتراكي تتولى المسؤولية الكاملة أو الإجمالية إزاء جميع النتائج، بما فيها حجم، ومكونات، وتوزيع “حزمة القيم” التي تولدت من النظام برمته. وهذه المسؤولية المطلقة تبقى مناطة بالحكومة حتى لو أتيح للسوق، كوسيلة للتنظيم، بالعمل دون توجيه دقيق إزاء مجالات واسعة من التفاعل. وفي النظام الاشتراكي للحكومات، فلا يوجد، ولا يمكن أن يوجد، ضمانات دستورية مقدمة إلى الممثلين الاقتصاديين، سواء كانوا أشخاصاً أو شركات، مقابل التدخلات المتولدة سياسياً في حرية التجارة، سواء كان ذلك هامشياً أو إجمالياً. وفي المعنى الأصلي، وبعد الرجوع إلى هيكل الاقتصاد، فإن التعبير بحد ذاته “الدستور الاشتراكي” متناقض. وفي أفضل الأحوال، يتضمن النظام الدستوري للاشتراكية قيوداً حول الإجراءات السياسية وسلوك الوكلاء السياسيين في تنفيذ هذه الإجراءات، ولا يمكنها أن تمتد لتشمل القيود على الصبغة السياسية للاقتصاد بالمثل.
وكما نعلم الآن، وكما علمنا من الثورات العظيمة في وسط وشرق أوروبا خلال الأعوام 1989-1991، بالإضافة إلى التجربة الجماعية التاريخية من مناطق أخرى من العالم، وكما أضافت إلى ذلك النقاشات التحليلية، فإن المبدأ الرئيسي للنظام الاشتراكي تشوبه العيوب بشكل مهلك وقد كان كذلك منذ بداية انتشاره. والافتراض أن التنظيم-السيطرة بالصبغة السياسية لعلاقات الاقتصاد بإمكانها—بل وسوف تولد حزمة كبيرة مرضية من السلع والخدمات بتقييم من المشاركين أنفسهم—ثبت أنه متجذر بالمغالطات. وفي المجمل، لم تنجح التجارب الاشتراكية العظيمة لهذا القرن، كما أن الأشكال المحسنة لهذه التجارب لن تنجح أيضاً بالنظر إلى القيود الدافعية، والمعرفية، والتصورية لبني البشر. ويسود الآن قبول عام للاقتراح بأن منظومة اقتصاد السوق فقط، والتي تستغل القدرات البشرية، يمكنها أن تنتج تراكماً ملائماً مقبولاً للقيمة الاقتصادية.
التناقض الدستوري لفترة ما بعد الاشتراكية

إن مجموعة المواقف العامة، والمهنية، والسياسية، والفلسفية التي تبدو أكثر وصفاً للسنوات التي تلت مباشرة فترة ما بعد الاشتراكية خلال أعوام التسعينيات متناقضة داخلياً. فالرؤية الاشتراكية للسيطرة-التنظيم بصبغة سياسية للتفاعل الاقتصادي لم تغادر بأي حال من الأحوال الذهنية الحديثة، رغم الدليل الذي أبرزه المنطق أو التاريخ. فالاعتقاد أن الأشخاص، عندما يعملون معاً من خلال عضويتهم في الجماعة، باستطاعتهم بكفاءة “تحسين” نتائج عمليات السوق المتولدة تلقائياً، بقيت مخزنة في النفسية الحديثة. ورغم القوة الساحقة للدليل، ورغم الحجة الداعمة، لا يستطيع الأفراد الإذعان فوراً للحالة التي أشار إليها واقع ما بعد الاشتراكية. إذ أن رومانسية الاشتراكية، والتي تعتمد على كلٍ من السياسة المثالية، ومجموعة من الافتراضات الضمنية السلوكية المستحيلة، لم تختفِ بعد. ولن نستطيع أن نجزم بعيداً عن التوقعات المستقبلية ما إذا كانت الرومانسية ستتلاشى في الواقع، في الوقت الذي نتخطى فيه اضطرابات ما بعد ثورة أعوام التسعينيات ونمضي إلى القرن المقبل. وهناك عدة أسئلة يمكن طرحها: هل ستنتصر الحقيقة في النهاية على الرومانسية؟ وهل سيعود النظام الدستوري لليبرالية الكلاسيكية بشكل ما، ويلقى قبولاً على أنه النظام الوحيد الذي يجمع بين الحرية الشخصية والازدهار الاقتصادي؟ وهل أن اهتمام العامة في النمو الاقتصادي المتراكم، وفي التقدم الاقتصادي بحد ذاته، سيحقق المطلوب ويتم عكسه في إصلاحات دستورية أصلية؟ أم هل نتوقع بروز إيديولوجية جديدة من نوع ما ستقدم العون المتجدد للصورة الرومانسية للمثالية الجماعية؟ وبدون بروز مثل تلك الإيديولوجية، هل بإمكاننا أن نتوقع الإذعان العام للسيطرة الاستبدادية على السلطة؟ وبدون وجود مكافئ للصراع الطبقي الماركسي، بصفته دعامة أيديولوجية ترفع الشعارات، هل يستطيع السياسيون تفادي النقد المتشكك من جانب العامة، حتى لو كان هنالك فهم بسيط لوظائف السوق؟ وهل من المحتمل أن تظهر معرفة ضمنية من نوع ما للدستورية بصفتها مناهج القرن الحادي والعشرين؟
إن سياسة بلدي، الولايات المتحدة الأمريكية، في عام 1993 لا توفر أساساً كبيراً للتفاؤل قصير الأجل المتمثل في إجابة ضمنية على هذه الأسئلة. والخطاب البلاغي حول صراع الطبقات يستخدم الآن لتوليد الدعم من أجل توسيع القطاع الحكومي من الاقتصاد المنتفخ فعلياً، والشكوك المؤقتة حول أعوام الثمانينيات حول فعالية الجهود التنظيمية تبدو وكأنها استبدلت بالرجوع إلى علاجات مضى عليها نصف قرن من الزمن. إن “الاشتراكية على النطاق الصغير” على طريق الهيمنة، كما لو أن زوال “الاشتراكية على النطاق الكبير” ليس له علاقة. ويُزعَم أن السياسة التي رمت إلى “إجراء تحسينات” على نتائج عمليات السوق قادرة على النجاح، رغم أعمال نفس تناقضات الحوافز، ومحدودية المعرفة، وإغفال روح المغامرة التي أنتجت خلفية الثورات الكبرى لأعوام 1989-1991.
وكما أشرنا سابقاً، إذا أردنا أن نجد أسساً للأمل الدستوري، فربما من الضروري أن نمد أبصارنا، من حيث الوقت والمكان. ويجب أن نتذكر إصرار كينز على التأثير بعيد المدى للأفكار. ربما أن فترة ما بعد الاشتراكية قصيرة جداً بالنسبة لنا ببساطة، لكي نتوقع التغيرات في المواقف العامة والسياسية، وعلى وجه الخصوص في تلك المجتمعات التي لم تختبر بذاتها الجَيَشان الثوري. وربما أن أي إحياء لليبرالية الكلاسيكية من جديد يجب توقع حدوثه في تلك المجتمعات التي لم تعاني بالفعل من الثورات، وربما في تلك المجتمعات فقط كان هناك فقدان كافٍ للثقة في السياسة والسياسيين، ليسمح بإعادة بناء، من نوع ما، لأفكار القرن الثامن عشر للنظام الدستوري. ويبدو أن توقعاً واحداً فقط آمن هنا، وهو أن المشهد الدستوري للقرن المقبل سيكون مفاجئاً.
خــاتمــة

لقد ناقشتُ باختصار فقط المجموعة الكاملة للقضايا الدستورية التي تتعلق بالبدائل البنيوية والإجرائية للإدارة الرشيدة. ولم أناقش قضايا مثل الجمهورية مقابل الشكل البرلماني للحكومة؛ والتمثيل النسبي مقابل النظام الذي يضم حزبين؛ والفيدرالية الفعالة مقابل المركزية السياسية. بيد أن إهمالي لهذه القضايا كان متعمداً تماماً. إذ أن جميع هذه المسائل التنظيمية-الإجرائية تصبح غير ذات أهمية بالمقارنة مع التحدي الدستوري لوضع القيود على سلطة الحكومة إزاء العملية الاقتصادية. وإلى أن، وما لم، يتم تقييد الحكومة بشدة فيما يتعلق بتجاوزاتها الاقتصادية عن طريق المبادئ الليبرالية الكلاسيكية—نوعاً ما—بما فيها مبدأ العمومية، فعاجلاً أم آجلاً ستصبح الاختيارات المحددة التي اتخذت بين البدائل البنيوية والإجرائية غير مهمة نسبياً.
وبإمكان الأغلبية البرلمانية المنتخبة ديمقراطياً، والمغروسة بأفكار ورؤى اشتراكية، أن تدمر القيمة المحتملة التي يمكن أن تتأتى من اقتصاد سوقٍ حر، بقدر ما يمكن أن تفعل ذلك، أو أكثر، أنشطة النظام الاستبدادي. وبحسب النطاق الذي تستطيع من خلاله القيود الدستورية أن تقيّد الحكومات بفاعلية بسلطاتها التنظيمية، والمالية، والضريبية، عندها يحتل الشكل الدستوري للإدارة الرشيدة بذاته المرتبة الثانية. وبحسب النطاق الذي تستطيع من خلاله أن تبقى سلطات الحكومة دون حدود وغير مقيدة، يبدو عندها أن لأشكال الحكومة أهمية. ولكن ضمن معنى نهائي من نوع ما، فإن السياسة الممتدة إلى حد مفرط ستفشل بالتأكيد، بغض النظر عن الخصائص الهيكلية.
وفي جميع البلدان تقريباً، فإن الحوار والنقاش المستمر يتركز على تأسيس، وصيانة، والمحافظة على “الديمقراطية الدستورية”. ويمكن تلخيص حجتي الرئيسية في أن العبارة “الدستورية” هي العبارة المهمة جداً بين العبارتين السابقتين. فالازدهار أو التقدم الاقتصادي، محسوباً في القيمة المنتجة والمستهلكة، يمكن أن يحدث فقط في أوضاع تكون فيها أنشطة الحكومة مقيَّدة دستورياً، وبشكل مستقل عن كيفية اختيار وكلاء الحكومة.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 28 كانون الأول 2006.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

تعتبر المساواة فكرة مثالية تعتنقها العديد من الأيديولوجيات، لكنها نادرا ما يتم ربطها هذه الأيام مع الليبرتارية أو الليبرالية الكلاسيكية. وفي الحقيقة فإن كلا من الليبرتاريين ونقادهم يعتقدون نمطيا بأن المساواة كفكرة مثالية هي في حالة “تنافر” مع فكرة الحرية كما يفهمها الليبرتاريون.
لكن ما الذي تعنيه “المساواة”؟
يرسم بعض المفكرين فرقا بين المساواة التقليدية والمساواة الحقيقية، حيث تعني المساواة التقليدية شيئاً كالمساواة المجردة أمام القانون—أي بانطباق القوانين بشكل متساو على الجميع—بينما تتطلب المساواة الحقيقية إزالة، أو على الأقل التقليل لدرجة كبيرة، من الفروق في الثراء، والفرص، والنفوذ.
ومن الواضح أن هذا النوع الأخير من المساواة—والتي يمكن أن نطلق عليها المساواة الاجتماعية الاقتصادية—تعتبر غير متوافقة مع مفهوم الليبرتارية، وبالأخص إذا تم السعي لتحقيق تلك المساواة عن طريق بعض التشريعات القسرية.[1] وتعتبر التشريعات التي تهدف إلى تحقيق المساواة الاقتصادية الاجتماعية مرفوضة من قبل الليبرتاريين باعتبارها غير مقبولة وتشكل تدخلا اشتراكيا في حقوق الملكية للأفراد.
وبالمقارنة، يقبل الليبرتاريون المساواة أمام القانون بشكل عام. لكن لا يوجد شيء محدد بشأنها يمكن اعتباره ليبرتاريا. وقد أشار اناتولي فرانس مرة بدهاء أن القانون بجلالة قدره في المساواة يحرم على الفقير والغني على حد سواء النوم تحت الجسور، وهذه العبارة يستشهد بها دعاة المساواة الاجتماعية الاقتصادية المتهكمون على المساواة التقليدية المجردة. لكن يوجد لليبرتاريين أسباب مساوية للدعوة إلى أن هذا النوع من المساواة يعتبر غير مناسب. وكما أشار يوما الاقتصادي موري روثبارد: “إن عدالة المساواة في العلاج تعتمد أولا على عدالة العلاج نفسه.” لنفرض مثلا بأن [جونز] وحاشيته اقترحوا استعباد مجموعة من البشر. هل يمكننا القول بأن “العدالة” تقتضي استعباد كل واحد منهم بشكل مساو للآخر؟ ولنفرض بأن احدهم قد ساعده حظه الجيد على الفرار. هل يحق لنا إدانته بسبب محاولته تجنب المساواة بالعدالة المفروضة على رفقائه؟
وبما أن كلا من المساواة الحقيقية الاجتماعية الاقتصادية والمساواة التقليدية أمام القانون لم تنجحا في تحقيق ما يعتبره الليبرتاريون مهما في السياسة، فمن المغري الاستنتاج بأن المساواة لا تعتبر قيمة ليبرتارية مركزية البتة.
ومع ذلك فقد وضع مفكرو الليبرتارية أهمية أكبر على موضوع المساواة. فقد كتب ثوماس جيفرسون في إعلان الاستقلال المشهور: “كل البشر خلقوا متساويين.” وفي النسخة الأصلية استرسل قائلا: “ومن خَلْقهم متساويين استمدوا حقوقهم الموروثة التي لا يمكن سلبها منهم.” وبالتالي فقد قام بجعل المساواة أساسا وقاعدة لحقوقنا. ما نوع هذه المساواة التي يتكلم عنها جيفرسون؟
من المعروف عامة بأن كتاب جون لوك، الرسالة الثانية للحُكم، يعتبر من الكتب المشهورة الأولى “التي تعتبر كتبا أساسية في الحقوق العامة،” والتي اعتمد عليها جيفرسون في صياغة إعلان الاستقلال، ويعتبر مفهوم جيفرسون في المساواة مستمدا بشكل مباشر من لوك. ويعرِّف لوك “حالة… المساواة” كحالة “تُعتبَر فيها كل القوى والسلطات تبادلية؛ لا يملك أحد فيها أكثر من الآخر، ولا يوجد ما هو أكثر وضوحا من ذلك بين المخلوقات من نفس الجنس والرتبة، ويعتبر حقا مولودا للجميع، وللجميع نفس ميزات الطبيعة، وباستخدامهم لنفس القدرات، ويجب بالتالي أن يكونوا متساوين أيضا بين بعضهم البعض، بدون تمييز أو اخضاع…”
وباختصار، لا يقصد جيفرسون ولوك بالمساواة تلك المساواة بالأفضليات المادية بل إن جميع الرجال (وتعمم اليوم على الجميع بدون اعتبار للجنس) متساوون في السلطة. ويُعتبَر إخضاع شخص لشخص آخر وبالتالي معاملته كمرؤوس عملا غير شرعي، إذا كنّا نُعتبَر متساويين طبيعيا. وبالتالي يعتبر أي تدخل في حريات شخص آخر خرقا لمفهوم لوك للمساواة: “وكوننا جميعا متساوين ومستقلين، لا يحق لأي شخص إيذاء آخر سواء في حياته، أو صحته، أو حريته، أو ملكيته… وبما أننا جميعا مجهزون بنفس القدرات، ونتشارك جميعا في مجتمع ذي طبيعة واحدة، فلا يمكن اعتبار أي أمور تخولنا تدمير بعضنا البعض، وكوننا سُخِّرنا لاستخدام بعضنا البعض، كما سُخِّرت الأنواع الأدنى من المخلوقات لخدمتنا.”
فلا عجب أن يجد جيفرسون الأمر طبيعيا التمسك برأي، وبعد مرور قرن من الزمان، بأن المساواة الإنسانية هي أساس للحقوق بيننا.
أما لوك فقد قام بدوره وببساطة بتطوير الأفكار الأولى لمجموعة من الراديكاليين الإنجليز، وتحت الاسم “الليفيلرز” (ويعني دعاة المساواة). قام هؤلاء القادة ومن ضمنهم جون ليلبورن، وويليام ولوين، وريتشارد أوفرتون، والذين برزوا في أثناء الحرب الأهلية الانجليزية عام 1640 كأول حركة جماهيرية ليبرتارية. ولم يكن هذا الاسم “الليفيلرز” الاسم المفضل لديهم حيث قاموا بكتابة مقالات سياسية ذات عناوين مثل بيان الفرق بين دعاة المساواة العموميين (المطلق عليهم ذلك بدون وجه حق) ودعاة المساواة الحقيقيين (المزعومين). وينبع عدم ارتياحهم للمسمى الأول من خشيتهم من أن يتم فهمهم بأنهم يطالبون بالإنهاء الجبري لجميع أشكال اللامساواة في الثروة وهو هدف طالما أنكروه صراحة: “نعترف بأنه لم يخطر في بالنا أبدا مساواة البشر في ممتلكاتهم، ولم يكن من جملة أهدافنا تقليص الثراء العام لدرجة تؤثر على شعور الشخص بالأمن على قدرته على التصرف والتمتع بممتلكاته.”
ومع ذلك فقد كان اسم “الليفيلرز” يناسبهم تماما، ولفترة من الزمن، حيث لم يسعوا لتحقيق المساواة الاجتماعية الاقتصادية، فقد كانوا مشغوفين ومكرسين لتحقيق المساواة في السلطة. كان أوفرتون، على سبيل المثال، ينادي: “بأن جميع الرجال ولدوا متساويين ولديهم حب التملك، والاستقلالية، والحرية.” وبالتالي فإن “نافخي الكير، وعاملي النظافة، وعمال المناجم، ومنظفي المداخن” جميعهم “ولدوا أحرارا متساويين” مع “أعظم قرنائهم في البلاد.”
ولهذا فقد أشار أوفرتون إلى أنه “لا سلطة لأحد على الحقوق والحريات، ولا سلطة لي على أي رجل آخر.” وبأن كل رجل “هو ملك، وقسيس، ونبي في كينونته وبدائرته الطبيعية الخاصة وينبثق عنه بأنه لا يحق لأحد مشاطرته في ذلك إلا عن طريق التخويل أو التكليف وبموافقته الحرة التي هي حريته وحقه الطبيعي.”[2]
ويمتد هذا الشكل من المساواة إلى ابعد من كونه فقط مساواة مجردة أمام القانون. وإذا قام حكام بلد ما بفرض عبادة شيفا على الجميع ومن منطلق معاملتهم لجميع المواطنين بمساواة (وبافتراض أن الحكام أنفسهم يعبدون شيفا أيضا) فإنهم بالرغم من ذلك لا يحترمون مبدأ المساواة في السلطة، ذلك لأنهم يحللون لأنفسهم ويحرمون على الآخرين الحق في تحديد ما إذا كان شيفا يستحق العبادة أم لا. وبدلا من مجرد الطلب بالمساواة في تطبيق القوانين، فإن المساواة في المفهوم الليبرتاري تضع تحديدات على محتوى تلك القوانين أيضا، وتستبعد بالتالي أي إخضاع جبري من أي نوع كان. وتعتبر وجهة النظر هذه متوافقة بالكلية مع استخدام القوة للدفاع الشرعي عن النفس مع ما يتضمنه ذلك من معاملة الآخرين كما لو أنهم “مسخرون لبعضهم البعض” والذي يعتبر بالتالي محرما، كونه مخالفا للمساواة الإنسانية. ويُعتبَر أولئك الذين يرون في المساواة أنها على شكلين فقط—ألا وهي المساواة الحقيقية الاجتماعية الاقتصادية والمساواة التقليدية أمام القانون—أنهم قد أهملوا إمكانية المساواة الليبرتارية والتي تعتبر حقيقية لكنها غير اجتماعية أو اقتصادية.
المساواة الليبرتارية
ما هي المضامين السياسية لهذا النوع الثالث من المساواة؟ إن الجوهر الذي تستند إليه المساواة الليبرتارية هو المساواة في السلطة ويعني ذلك انه لا يمكن للحكومة أن تحوز على أية حقوق لا يملكها رعايا تلك الحكومة—إلا إذا قام أولئك الرعايا بالتنازل طوعا عن تلك الحقوق عن طريق “التخويل أو التفويض وبملء حريتهم.” وبما إنني لا امتلك أية حقوق على أي شخص آخر أو ملكيته فلا يمكنني تفويض الحكومة حقا على أي شخص آخر أو على ملكيته. وكما قال الاقتصادي الفرنسي فريدريك باستيا ببلاغة في القرن التاسع عشر:
“إذا كان لكل شخص الحق—ولو باستخدام القوة—في الدفاع عن نفسه، وحريته، وأملاكه، فإن ما يتبع ذلك هو انه يحق لمجموعة من الرجال تنظيم ودعم قوة عامة بهدف حماية تلك الحقوق. بالإضافة إلى ذلك فان مبدأ الحق الجماعي—والذي له حق شرعي في الوجود—مبني على الحقوق الفردية وبالتالي فإنه لا يحق للقوة العامة التي تقوم بحماية هذا الحق الجماعي أن يكون لها هدف أو غاية أخرى غير المهمة التي تستند في وجودها إليه، وبالتالي فكما انه لا يحق لأي شخص شرعيا استخدام القوة ضد الشخص وحريته وممتلكاته، فإن هذه القوة العامة—ولنفس الأسباب المذكورة—لا يمكن استخدامها شرعيا من اجل تدمير أي شخصيات، أو حريات، أو ممتلكات للأفراد أو الجماعات.”
وبينما يختلف الليبرتاريون فيما بينهم في القدر الملائم أو المناسب الذي يحتاج إليه الشخص التنازل عن حريته للحكومة، إلا أنهم جميعا يتفقون على السعي لتقليص عدم المساواة في السلطة بين الأفراد العاديين من جهة، وأولئك المميزين والعاملين في الدولة من جهة أخرى.
لا تستطيع المساواة الاجتماعية الاقتصادية ولا المساواة أمام القانون أن تصلا إلى مستوى المساواة الليبرتارية وذلك لأنهما لا يقدرا على مساءلة البنية القائمة للسلطة. ويطلب كلا النمطين من الحكام التأكد من أن المساواة (ذات الشكل المفضل) سائدة بين الحاكم والمحكوم (وحقيقة أن المحكومين مؤهلين لمنصب انتخابي لا يلغي هذه اللامساواة كون أولئك الذين يصلون إلى صفوف السلطة يشكلون أقلية صغيرة من بين الجماهير). وكما كتب الفيلسوف انتوني فلو، في ظل تنظيم حكومي: “إن ما تقرره الفئات النخبوية الحاكمة مناسباً… قد يتكشف عنه تحقيق المساواة أو عدمها بين أولئك المستقلين للغاية، لكن بالطبع لا توجد مساواة البتة بين أولئك الذين يصدرون الأوامر وأولئك الذين يتلقونها.”
وفي المقابل تتضمن المساواة الليبرتارية المساواة ليس فقط أمام أولئك الذين يديرون السلطة بل المساواة معهم.
يجب تكبيل الحكومة بروابط أخلاقية يمكن تطبيقها على المواطنين الخاصين. إذا كنت لا أستطيع نزع أملاكك منك بدون موافقتك، فان الحكومة لا تستطيع ذلك أيضا.
لهذا السبب تعتبر الليبرتارية—لا الاشتراكية الدولانية—ما يستحق لقب المساواة الراديكالية. الحرية هي الشكل الأكثر صدقا للمساواة.
ملاحظات:

[1] من المهم التذكر أن السعي للحصول على المساواة الاجتماعية الاقتصادية بالوسائل السلمية والطوعية هو أمر متوافق تماما مع الليبرتارية.
[2] هذه الفقرة هي من ما يُعتقَد انه امتع ما كتب من الرسائل السياسية: ريتشارد اوفرتون، سهم ضد جميع الطغاة والظلم، رصاصة من سجن نيوجيت الى امعاء المميزين في مجلس اللوردات الاستبدادي، وجميع المغتصبين الآخرين والظلمة مهما كانوا، في اي مكان، الاصليون، النهوض، المدى، ونهاية قوى الجلالة، الحقوق الطبيعية والوطنية، الحريات وممتلكات الانسانية المكتشفة وغير المنكرة، القمع الاخير وتعديات اللوردات على العامة (بالقانون الاساسي وقوانين هذه المملكة، وكذلك بواسطة السجلات التي لا تنسى لبرج لندن)، مدانة، آخر احكام المشيخة (المخترعة والمحاكة من قبل الالوهيين، وبتحركات السيد بيكون والسيد تيت ريد في مجلس العموم)، تفحصت، ودحضت، وفضحت، كجميع الطغاة، البربريين واللاانسانيين بواسطة ريتشارد اوفرتون، رامي الاسهم المميز على مجلس اللوردات المستبد، سجينهم في نيوجيت، لاسباب عادلة وقانونية، حقوق وحريات العموم في انجلترا (1646).
بالتنسيق مع مجلة فريمان (تشرين الأول، 2005).
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 26 كانون الأول 2006.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

رواية أوغستو بينوشيه الطويلة، ربما تكون بعيدة عن نهايتها—فسياسات أمريكا اللاتينية هي غرفة كبيرة مليئة بالأشباح من الماضي—بيد أن وفاة دكتاتور تشيلي تعطينا على الأقل فرصة لاستعادة أحد أهم الدروس المستقاة من تاريخ بلاده الحديث.
الدرس الأول، هو أن المثاليات الاجتماعية تنتهي دائماً بالدموع. لقد كان لدى تشيلي تراثاً ديمقراطياً عندما جاء الماركسيون اليساريون إلى الحكم في عام 1970 بيد أن هذا التراث لم يكن قوياً بدرجة كافية تمكنه من الوقوف أمام الطريق الثورية التي اختار الرئيس سلفادور أليندي أن ينتهجها. لقد سخر اليسار بالمؤسسات التي أتاحت له الوصول إلى السلطة ودفع بالنظام الجديد إلى ما بعد حدوده وبالتالي تسبب في رد فعل عسكري شديد القساوة. واليوم، فقد تعلم الاشتراكيون في تشيلي الدرس من تلك التجربة.
الدرس الثاني، هو أنه لا يوجد شيء اسمه “الدكتاتورية الطارئة”. إن أولئك الذين دعوا إلى تدخل عسكري، وكان من بينهم الديمقراطيون المسيحيون من يمين الوسط، كانوا قد ارتكبوا خطأً فادحاً في ظنهم بأن القوات المسلحة سوف تعود أدراجها إلى ثكناتهم بمجرد أن تنتهي “حالة الطوارئ”. وما أن وُضع حكم القانون جانباً وتم التخلي عنه، حتى لم يبق من شيء يقف أمام بينوشيه وتعزيز قبضته على السلطة—وبالأخص، وكما هو الحال في كثير من الحالات، في قارة تعشق القادة والحكام الأقوياء، وبالتالي استندت السلطة على تأييد شعبي كبير.
وقد دفع كثير من الديمقراطيين المسيحيين ثمناً باهظاً بتأييدهم لبينوشيه، وقد سعوا فيما بعد لتصحيح سوء التخطيط ذاك بتحالفهم مع الاشتراكيين منذ عودة الديمقراطية إلى البلاد في عام 1990.
الدرس الثالث، هو أن الأسواق الحرة والحكومات الدكتاتورية هما في نهاية المطاف لا يلتقيان، ذلك لأن نظاماً اقتصادياً حراً يتطلب توزيع السلطة، وهذا من شأنه في النهاية أن يحد من قدرة أولئك الذين يتولون زمام الحكم من مواصلة حكمهم. نعم، لقد كانت الإصلاحات الاقتصادية في عهد بينوشيه ناجحة جداً. بيد أنها خلقت جيلاً من الطبقة الوسطى كرهت أن يحكمها العساكر. ومن السخرية أن الذين خلفوا بينوشيه قد أثبتوا أنهم ضامنون أفضل للاقتصاد الحر من الجنرال بينوشيه نفسه. فمنذ عام 1973 كان معدل النمو الاقتصادي السنوي أربعة أضعاف، في المعدل، مما كان عليه بين 1810 وتاريخ وقوع الانقلاب العسكري. وفي الوقت ذاته فقد تراجع التأييد لبينوشيه بشكل منتظم على امتداد العقدين الماضيين. فقد نال 43 بالمئة من الأصوات في الاستفتاء الذي خسره في عام 1988، وكان مرفوضاً على نطاق واسع عند وفاته.
أما الدرس الرابع، فهو أن حقوق الإنسان ليست اختراعاً حققته جماعات حقوق الإنسان، مهما كان الكثير من تلك الجماعات منحازين (إنهم لم يوقعوا نصف الضغط على دكتاتورية فيديل كاسترو الذي وضعوه على بينوشيه). لا شيء يمكن أن يبرر قتل 3197 إنساناً، وتعذيب أكثر من 29000 وإرسال الآلاف إلى المنافي، كما جاء في تقرير اللجنة الوطنية للحقيقة والتصالح في عام 1991. ذلك السجل الوحشي لم يكن الثمن الذي دفع من أجل الاستقرار—والذي جاء بالفعل مع نهاية النظام العسكري—بل كان نتيجة حتمية لحكم رجال يرتدون الزي العسكري. لقد فشلت إدارة نيكسون في أن ترى هذه الحقيقة، وكان من شأن ذلك تأجيج المشاعر المعادية لأمريكا في الهمسفير الغربي. لقد تم تطوير حكم القانون لأن أي إنسان يملك قوة كبيرة قادر على ارتكاب أعمال مشينة.
إن جيشاً يتحكم في أمة تحكماً غير مقيد، سواء كان يقوده بينوشيه أو كاسترو، سوف يرتكب على الدوام القتل والخطف وتعذيب المواطنين الذين يراه مهددين لنظامه. إن نتائج السماح لذلك سوف يستمر في إلقاء ظلاله الداكنة على شعب بعد زمن طويل من نهاية حكم ذلك النظام. فالجروح المفتوحة ما زالت تُرى في المجتمع التشيلي وهي تشهد بهذه الحقيقة.
الدرس الخامس، أنه لا يوجد هنالك شيءٌ يمكن تسميته بالدكتاتورية الخالية من الفساد. فعلى امتداد سنوات كان ينظر إلى بينوشيه على أنه جندي “أخلاقي”. وكان مؤيدوه يزعمون بأنه خلافاً للكثيرين غيره من الحكام العسكريين، فإنه لم يسرق أي مالٍ أبداً. ولكن في عام 2004 كشفت لجنة تحقيق أمريكية منبثقة عن مجلس الشيوخ الأمريكي النقاب عن أن بينوشيه قد أودع عدة ملايين من الدولارات في بنك ريغز في واشنطن وفي غيره من المؤسسات، مستخدماً هويات مزورة. وتبع ذلك اكتشافات أخرى.
وآخر درس هو أن الانتقال إلى حكم القانون يجب أن يهدف إلى تحقيق عدالة جزئية على الأقل إذا لم يكن بالإمكان تحقيق العدالة الكاملة وانسجامها مع الحفاظ على الفترة الانتقالية. لقد تحركت محاكم تشيلي متأخرة كثيراً ضد بينوشيه بسبب خشيتها من إثارة المؤسسة العسكرية، ولم يكن إلا بعد أن سمحت السلطات البريطانية له بالعودة إلى سانتياغو بعد 503 أيام من التوقيف في لندن أن تحرك النظام القضائي في تشيلي. نعم، لقد تم رفع الحصانة عن بينوشيه ما مجموعه 14 مرة، وكان عليه أن يقضي معظم سنوات حياته الباقية مناوراً لتفادي السجن، ولكن لم يحكم عليه أبداً وكانت فترة الانتقال التشيلية في اتجاه حكم القانون مليئة بشعور بالذنب الأمر الذي سيجعل من الصعب مكافحة شبح بينوشيه في المستقبل المنظور.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 23 كانون الأول 2006.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

توفي عن عمر يناهز الـ94 عاماً، ميلتون فريدمان، الذي يعتبر ربما أعظم علماء الاقتصاد في القرن العشرين. وعلى امتداد عمره الطويل كان له حظ رؤية العالم متجهاً نحو أفكاره.
وُلد فريدمان في نيويورك عام 1912، في نهاية فترة طويلة من السلام والرخاء. فقد شهد النصف الأول من حياته سلسلة من التراجعات الكارثية بالنسبة لتلك الأفكار: الحرب العالمية الأولى، الانقلاب البلشفي في روسيا، قيام الفاشية والاشتراكية الوطنية، اندلاع الحرب العالمية الثانية، والسيطرة الشيوعية على نصف العالم. ولكن لحسن الحظ كان والدا فريدمان قد هاجرا من أوروبا الشرقية، وبالتالي تجنبا الأحوال الكارثية التي حلت هناك.
بيد أن فريدمان ظل يواجه التحدي في وطنه الجديد أيضاً. فقد بدأ تطبيق ضريبة الدخل الفيدرالية في عام 1913. وقد أدخلت الحرب العالمية الأولى التخطيط الحكومي على نطاق لم يسبق له مثيل. ثم جاء منع المشروبات الروحية، و”الصفقة الجديدة”، واقتصاديات العالِم كينز، والاعتقاد الذي أصبح سائداً بأن الحكومة الفيدرالية تستطيع حل أية مشكلة.
وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، ومع عقلية الحكومة الكبيرة سائدة بلا تحدٍ أو منازع في الولايات المتحدة، بدأ ميلتون فريدمان كتاباته. كتب أولاً حول القضايا الاقتصادية من النواحي التقنية، بحيث وضع الأسس لتحول لاحق في سياسة الولايات المتحدة النقدية. ومن ثم في عام 1962، وفي خضم الحماس لطرح جون إف. كينيدي حول “الحدود الجديدة”، نشر كتابه بعنوان الرأسمالية والحرية، والذي اقترح بموجبها إعطاء قسائم مدرسية من أجل جلب منافع المنافسة إلى التعليم، وفرض ضريبة محددة بحيث تصبح ضريبة الدخل أقل عبئاً، ثم تعويم نسب تبادل العملات من أجل تحسين الأوضاع المالية الدولية.
وعلى امتداد الـ40 سنة اللاحقة، بقي فريدمان أحد أهم دعاة الحرية الشخصية في أمريكا. كان يكتب عموداً في مجلة النيوزويك، كما كان يلقي محاضرات في مختلف أنحاء العالم وكان يظهر على التلفاز، وبشكل دائم يدعو إلى مزايا السوق الحرة والمجتمعات الحرة. وقد تم ضمه كمستشار للرؤساء والمرشحين من الحزب الجمهوري، بيد أنه كان يرفض تلقيبه بـ”المحافظ” مصراً على أنه ليبرالي مثل ليبرالية ثوماس جيفرسون وجون ستيوارت ميل، أو ليبرتاري في التعبير المعاصر.
وقد كانت آراء ونصائح فريدمان تُطلب من مختلف أرجاء العالم. وأكثر تلك النصائح كان في عقد 1970 من القرن الماضي، عندما قدم نصيحته إلى حكومة تشيلي العسكرية (والتي لقي بالمقابل لها سنوات من الإدانة) وحكومة الصين الشيوعية (ولا يبدو أن أحداً قد اعترض على ذلك). ولحسن الحظ فإن الحكومتين أخذتا بنصائحه، وكلتاهما حققتا ما سمي بـ”المعجزة الاقتصادية”. تشيلي الآن تتمتع بأنجح اقتصاد في أمريكا اللاتينية، كما أن مسيرة الصين على الطريق الرأسمالية قد جعلها أكثر رخاءً مما كان يتخيله أي إنسان في عام 1976، وهي السنة التي توفي فيها ماوتسي دونغ، والسنة التي نال فيها فريدمان جائزة نوبل.
وفي عام 1980 وسّع فريدمان من جمهور مستمعيه بنشره لكتاب بعنوان أنت حر الاختيار، كما صاحب ذلك سلسلة من الحلقات التلفزيونية أُلقيت من تلفزيون الـ بي. بي. إس. ملايين الناس شاهدوا ذلك البرنامج وأصبحوا يتفهمون كيف يعمل نظام السوق. وقد قال أحد مشاهدي البرنامج وكان ممثلاً صغير السن أصبح فيما بعد حاكماً لولاية كاليفورنيا اسمه آرنولد شوارزنغر في عام 1994: “في النمسا لاحظت بأن الناس يقلقون هناك حول متى سوف يحصلون على تقاعدهم. في أمريكا فإن الناس يقلقون إذا كانوا سوف يحققون قدراتهم. أما كتب فريدمان فقد أوضحت لي كيف أن نظاماً رأسمالياً ديناميكياً يتيح للناس تحقيق أحلامهم”.
ظهر ذلك البرنامج بعد أن أصبحت مارغريت ثاتشر رئيسة وزراء بريطانيا، وقُبيل انتخاب رونالد ريغان رئيساً للولايات المتحدة. ثاتشر وريغان مثّلا ثورة كان ميلتون فريدمان قد ساعد في خلقها: وقد تجسدت في الابتعاد عن التخطيط المركزي ودولة الرفاه باتجاه تقدير متجدد للمبادرة والأسواق الحرة والحكومة المحدودة.
ليس فقط في إنجلترا والولايات المتحدة، فقد أثر نجاح السوق الحر في تشيلي على بلدان أمريكا اللاتينية الأخرى وحفزها على الابتعاد عن تقاليدها القديمة في التدخل في الشؤون الاقتصادية. وبعد عقد من انتخاب ريغان انهارت الإمبراطورية السوفييتية، وتبين أن العديد من قادة شرق وأواسط أوروبا الجدد كانوا من قرّاء ميلتون فريدمان!
لقد أصبحت إستونيا بسرعة قصة نجاح في عهد ما بعد الاتحاد السوفييتي. وعندما زار رئيس وزرائها الشاب مارت لار واشنطن، سُئل من أين جاءت له فكرة الإصلاحات المبنية على نظام السوق، فكان جوابه “لقد قرأنا ميلتون فريدمان وإف. إيه. هايك”. وقد وصف مُصلِح اقتصادي ناجح آخر هو فاسلاف كلاوس، رئيس وزراء التشيك، بأنه “فريدماني مع مستشارين من أتباع هايك”.
لقد كافح فريدمان ضد الإكراه في جميع أشكاله. وقد كان الأب الفكري لإنشاء جيش جميعه من المتطوعين، حين أقنع عضو كونغرس صغير السن آنذاك، دونالد رامسفيلد، بأن يصبح قائداً في الجهود الرامية إلى إنهاء التجنيد الإجباري. وقد كان خصماً عنيداً وصريحاً في الحرب ضد المخدرات والتي قال إنها اعتداء على حقوق الفرد كما أنها تساعد على ارتكاب الجرائم والفساد.
وقد أعلن فريدمان في إحدى المناسبات قائلاً “إن العنصر الجوهري في دعوتي العامة كانت تنمية الحرية الإنسانية”.
اليوم لن نعود نستمع إلى صوته. ولكن في خضم برامج الخيارات المدرسية المتنامية في أوهايو وأريزونا وما بعدهما، وانتشار الليبرالية الاقتصادية على امتداد العالم، فإن من الصعب أن لا تُرى أعماله.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 4 كانون الأول 2006.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

عندما فاز الجمهوريون بالسيطرة على الكونغرس والبيت الأبيض في عام 2000، اعتقد كثير من المحافظين أن حكومةً أصغر كانت قاب قوسين أو أدنى، وهو وعدٌ جمهوري منذ وصول رونالد ريغان إلى المكتب البيضاوي. وبدلا من ذلك، قام الرئيس وقيادة الحزب الجمهوري في الكونغرس بتوسيع الحكومة بدرجة أسرع من أي وقت مضى منذ الستينات.
لم يعد ينظر الكثير من المحافظين إلى الديمقراطيين في الكونغرس على أنهم أكبر عائق أمام معالجة الحكومة الكبيرة، بل يرون قادة الحزب الجمهوري في واشنطن على أنهم المشكلة. وقد يترتب على هذا معانٍ ضمنية وخيمة للحزب الجمهوري في انتخابات عام 2006.
إن الأضرار المالية لسنوات حكم جورج دبليو بوش هي ميراث بغيض للجمهوريين للوقوف جانبا بينما هم متجهون إلى مجموعة حاسمة من انتخابات منتصف الفترة التشريعية والانتخابات الرئاسية الأولية. فبعد تعديل إجمالي النمو في الموازنة الاتحادية من خلال طول فترة الرئاسة والتضخم، فإن جورج دبليو بوش هو أكثر رئيس مسرف حكم مدة كاملة منذ ليندون جونسون. إن الإنفاق لا يقتصر على الحرب على الإرهاب أو العمليات في العراق. فلقد خُصص 15% فقط من الموازنة الإجمالية للبنتاغون خلال الأعوام الخمسة الماضية لتمويل هذه العمليات. وعندما سيطر الجمهوريون على الكونغرس في عام 1994، انفقت الحكومة ما نسبته 20.7% من الناتج المحلي الإجمالي. وعندما غادر كلينتون الرئاسة، لم يتجاوز الإنفاق الاتحادي 18.5% من الناتج المحلي الإجمالي. ولقد انعكس هذا الاتجاه فور انتهاء حفل تقليد جورج دبليو بوش السلطة. ولقد تمكن بوش مع الكونغرس الجمهوري من زيادة الإنفاق الحكومي ليصل إلى 20% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2006. ويحتار الآن الناخبون بين اختيار الحكومة الكبيرة (الجمهوريون) أو الحكومة الأكبر (الديمقراطيون). مع هذه الخيارات، قد لا يكون المحافظون حريصين على إنجاح المرشحين الجمهوريين في عام 2006.
لقد أضر غياب الحماس لمرشحي الحزب الجمهوري كبيري الإنفاق الحزب من قبل، وتحديدا في فترة الانتخابات البرلمانية النصفية لعام 1998. في ذلك الوقت، فرض قادة الحزب الجمهوري على دافعي الضرائب موازنتين تنازلوا فيهما عن وعد الثورة الجمهورية بحكومة أصغر وأكملوا تلك الإهانة بمشروع قانون الطريق السريع الذي صرفت الحكومة عليه مبالغ هائلة للحصول على الأصوات (هل يبدو هذا مألوفا؟)، وبدلا من الحصول على مقاعد، فقد الجمهوريون ثلاثة مقاعد في مجلس النواب، خافضين بذلك أغلبيتهم إلى النصف تقريبا.
لماذا؟ لقد أظهرت استفتاءات الناخبين عند الخروج من أماكن الاقتراع أن حصيلة المحافظين انخفضت بنسبة 6% من عام 1994 لغاية عام 1998. في انتخابات منتصف فترة الرئاسة لهذه الانتخابات المتقاربة، حيث حصل مرشحو مجلس النواب المحافظون على عدد من الأصوات يزيد عن ما حصل عليه مرشحو الحزب الديمقراطي بنسبة 2% فقط، احتاج الجمهوريون إلى المساعدة من الناخبين المحافظين في توجههم الآيديولوجي المالي. لكنه من الواضح أن هؤلاء الناخبين كانوا منزعجين من أن الجمهوريين قد فقدوا عزيمتهم وقرروا البقاء في منازلهم يوم الانتخابات.
وإذا كرر التاريخ نفسه هذا الشهر من تشرين الثاني 2006، سيستحق الأمر التأمل فيما إذا كانت خسارة الحزب الجمهوري للكونغرس سيئة لمؤيدي الحكومة المحدودة. وعلى أية حال، تنمو الحكومة بشكل أبطأ عندما يكون أحد مجالس الكونغرس على الأقل تحت سيطرة حزب سياسي مختلف عن حزب الرئيس، وهي حالة معروفة لدى علماء السياسة “بالحكومة المنقسمة” وتعرف شعبيا بـ”الازدحام السياسي”.
منذ عام 1965، كان نمو حجم الحكومة في فترات الحكومة المنقسمة أبطأ من نموها في فترات الحكومة الموحدة. تقود الحكومة الموحدة إلى زيادة سنوية في الإنفاق الاتحادي تعادل 3.4%، في المتوسط، من حيث نصيب الفرد من معدلات النمو الحقيقي—أي ما يعادل نحو ضعف نمو حجم الحكومة تحت الحكومات المنقسمة (1.5%).
وعندما يُنظر إلى البيانات من حيث سرعة نمو حجم الحكومة بالنسبة إلى الاقتصاد، تكون النتيجة لصالح الحكومة المنقسمة. إذ يكون متوسط الزيادة السنوية في حجم الحكومة نسبةً إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي أسرع بحوالي 25 مرة عندما يكون أحد الأحزاب محتكرا لكل من السلطتين التشريعية والتنفيذية.
إن الشيء الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه في واشنطن هو الحزبية: عندما يكون الجمهوريون أقلية محاصرة، أو أغلبية برلمانية تواجه بيتا أبيضا كبير الإنفاق (أي رئيسا ديمقراطيا)، فهم جزء ضئيل. والحكومة الكبيرة هي العدو الواضح. لكن عندما يجدون أنفسهم في موضع السلطة والسيطرة على كل شيء، لا يقومون بكبح بعضهم الآخر. بل وبدلا من ذلك، يشجعون بعضهم.
ويمكننا أن ندرك ذلك بمقارنة كيف تعامل كونغرس الحزب الجمهوري مع الموازنات غير الدفاعية المقترحة لكل من بيل كلينتون وجورج دبليو بوش. خلال سنوات الحكومة المنقسمة تحت إدارة كلينتون، نشأ نتيجة لذلك نوع من الجمود (الازدحام السياسي)، إذ تدبّر الكونغرس الجمهوري ذلك من خلال خفض طلبات الإنفاق المحلي لإدارة كلينتون بمعدل 9 مليارات دولار كل سنة مالية بين أعوام 1996 و2001.
قارن ذلك مع مخرجات الموازنة في عهد الرئيس بوش—وخاصة السنوات التي استولى خلالها الجمهوريون على الكونغرس: بين السنتين الماليتين 2003 و2006، أقر الكونغرس موازنات غير دفاعية بلغت في المتوسط 16 مليار دولار زيادة على ما يقترحه الرئيس كل عام، ورفض بوش حق النقض.
تعني قواعد النظام الحزبي أنه من الأرجح قبول كونغرس جمهوري لمُخطّط الحكومة الكبيرة إذا اقتُرِح من قبل رئيس جمهوري وليس من قبل رئيس ديمقراطي. وهذا ما حدث بالضبط في حالة إقرار قانون الرعاية الصحية، والتي لم تكن لتقر لو تم اقتراحها فرضا من قبل الرئيس آل غور أو الرئيس هيلاري كلينتون!
الحكومة المنقسمة هي القاعدة وليس الاستثناء في السياسة الأمريكية الحديثة. فعلى سبيل المثال، وعلى مدى الإثنين وأربعين سنة الماضية، كان هناك ثلاث عشرة حكومة موحدة فقط تسيطر على السلطة التنفيذية والتشريعية على المستوى الاتحادي. وتشكل رئاسة كل من كارتر وجونسون تسعاً منها. وتُغطي السنوات الأربع الماضية لرئاسة جورج دبليو بوش ما تبقى.
إن ما شاهدناه في السنوات القليلة الماضية من أغلبية جمهورية موحدة قد يكون أمرا شاذا. ولكن بناء على التاريخ، فإن السؤال الموجه للمحافظين في سنة الانتخابات هذه هو ما إذا كان من الأفضل لقضيتهم قيام الجمهوريين في الكونغرس بقضاء بعض الوقت أخيراً خارج الحياة السياسية!
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 2 تشرين الثاني 2006.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

لأولئك أصحاب النزعة الحزبية، لديّ بعض الأخبار السيئة: تستطيع الحكومة الفيدرالية للولايات المتحدة الأمريكية أن تعمل بشكل أفضل (أو بالأحرى بدرجة أقل سوءاً) عندما يسيطر الحزب المعارض على أحد مجلسي الكونغرس على الأقل. فالحكومة المنقسمة تكون، وهو أمر مُستغرب، أقل تسببا في الخلاف. كما أنها أيضا أكثر اقتصادا. والسبب الرئيس لذلك بسيط وهو أنه عندما يقترح أحد الأحزاب تدابير جذرية أو حمقاء، فباستطاعة الحزب الآخر أن يعترض سبيله. تزدهر الولايات المتحدة بشكل أكثر عندما تُكبح التجاوزات؛ وإذا كانت الأرقام المأخوذة من الخمسين سنة الماضية تُعطي أية مؤشرات، فإن الحكومة المنقسمة هي التي تحدها.
لنطلع على بعض الإحصاءات. منذ فجر الحرب الباردة وحتى يومنا هذا، كان هناك فترتان فقط من ما يمكن تسميته قيوداً مالية: السنوات الست الأخيرة من إدارة آيزنهاور، والسنوات الست الأخيرة من إدارة كلينتون، والتي سيطرت خلالهما المعارضة على الكونغرس. فبلغ متوسط الزيادة السنوية في الإنفاق حوالي 1% تحت إدارة كلينتون، بينما كان متوسط الزيادة سالبا تحت إدارة آيزنهاور. وبالمقارنة، فُتنت الحكومات الموحدة بالإلتواءات المالية. فقام هاري ترومان، وبمساعدة الكونغرس الديمقراطي، بالإسراف في إنفاق المال، بزيادة في الإنفاق بلغت 10% بالسنة. وكان ليندون جونسون مسرفا مثله. واليوم، ولسوء الحظ، فإن جورج دبليو بوش وريثٌ لهما، في ظل الأغلبية للحزب الجمهوري. ولتوضيح هذا بالأرقام، فلقد ازداد الإنفاق الحكومي بمعدل 1.73% سنويا فقط خلال فترات الحكومة المنقسمة. ويزداد هذا الرقم لأكثر من ثلاثة أضعاف ليصل إلى 5.26% خلال فترات الحكومة الموحدة. وهذا ثمن ضخم مقابل قليلاً من الوحدة.
الأمر اللافت للنظر هو أن هذه الزيادة في الإنفاق قد وجدت عموما نفس المستفيد: البنتاغون. وهذا لا يعني أن الحكومات الموحدة تعشق شراء قاذفات القنابل، بل بالأحرى تميل إلى جرِّنا إلى الحروب. قد يبدو هذا أمرا غير محتمل للوهلة الأولى، ولكن، لنأخذ بعين الاعتبار الآتي: خلال 200 عام من تاريخ الولايات المتحدة، بدأت جميع النزاعات التي اشتملت على معارك ومواجهات أرضية تتجاوز مدتها الأسبوع من قبل حكومة موحدة. فلقد بدأت كل من المعارك الأربع الكبرى خلال القرن العشرين، مثل الحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية، والحرب الكورية، وحرب فيتنام بواسطة رئيس ديمقراطي بدعم من كونغرس ديمقراطي. إن الحرب الحالية في العراق، والتي بدأت بمبادرة من رئيس جمهوري ودعم من الكونغرس الجمهوري متفقة مع هذا النمط. كما أنها تُمثل الاستخدام الوحيد للقوة العسكرية في معارك أرضية لمدة تتجاوز الأسبوع والتي بدأ بها رئيس جمهوري في مدة تزيد عن قرن. يبدو أن الحكومة المنقسمة لها دور هام في كبح مشاركة الأمريكيين في الحرب. وغني عن القول، فإن هذا يقلل النفقات في كل من الدماء والأموال.
هناك ميّزة أخرى للتوتر والشدّ بين أفرع الحكومة: فمن الأرجح أن يدوم الإصلاح الرئيسي. وحيث أن إقرار أي إجراء في الحكومة المنقسمة يتطلب دعم الحزبين، فمن غير المحتمل أن يؤدي التحول في أحزاب الأغلبية إلى حدوث تغييرات جذرية أو غش. على سبيل المثال، تم إقرار قانوني الضرائب لعامي 1981 و1986 في عهد رئاسة ريغان من قبل مجلس النواب الذي كان يُسيطر عليه الديمقراطيون، ولقد بقي هذان القانونان حيّين على نطاق واسع. ولقد تم إقرار إصلاح الرعاية الاجتماعية لعام 1996 من قبل كلينتون والكونغرس الجمهوري، ولقد ثبت هذا أيضا. بالمقابل، فلقد تعثرت كافة الجهود خلال السنوات القليلة الماضية لإصلاح قوانين الضرائب الاتحادية والرعاية الطبية والضمان الاجتماعي، كما أنه من المؤكد أن يتم التخلص من أي تغيير كان قد تم إقراره من قبل الحزب الجمهوري فور عودة الديموقراطيين إلى السلطة. ستعتمد الإصلاحات ذات القيمة الحقيقية بالتأكيد على منع التطرف الأيديولوجي وضمان دعم الحزبين، ولا يبدو من المرجح وجود قليل من هذا في ظل حكومة يحكمها الحزب الجمهوري فقط.
يبدو أن الناخبين في أمريكا، وبالرغم من حكمتهم الجماعية غير الواضحة، يدركون منافع الحكومة المنقسمة، وكذلك كان تصويتهم على مدى أكثر من خمسين عاما. من المؤكد أن الحكومة المنقسمة ليست من الأمور التي تُصنع منها الأساطير السياسية، وفي الواقع، يرغب معظمنا في اتخاذ التشريعات الجيدة بدلا من الأساطير الجيدة. وبصفتي جمهوري على مدى العمر، وأحيانا موظف فيدرالي، فيجب أن أعترف بالحقيقة الصعبة التالية: لا يهمني كثيرا كيفية تحقيق الحكومة المنقسمة المقبلة. ولكن في عام 2006، هناك طريق واحد لحدوث هذا.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 1 تشرين الثاني 2006.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

ليس كل شيء على ما يرام في سياساتنا. فلم يحدث في التاريخ، ربما باستثناء اليونان القديمة، أن سُيِّست الحياة المدنية الى الحد الذي وصلت اليه اليوم. قد يبدو أن المجتمع يجب أن يكون في حال أفضل اليوم، وأن تخدمه الحكومات بشكل أفضل من أي وقت مضى. لكن ربما أن قلة من الناس هم من يعتقدون ذلك ويبدو أن الناتج الرئيسي للتدخل الاوسع، والرعاية الأكبر، والسياسات الأكثر شمولية هو مزيد من الكراهية لحكومة مصابة بخلل وظيفي. في المجالات التي تعمقت فيها هذه العملية، في “ظل اشتراكية حقيقية قائمة” وصل الفشل الى مدى مذهل. لكن سواء كانت الحكومات تدعي العيش وفق المبادئ الديمقراطية أو الاشتراكية، أو وفق نظام مهجن صعب التحقيق مكون من تلك المبادئ مجتمعة، فإن علاقاتها مع المحكومين سيئة للغاية.
أسباب هذه الحالة صارت مفهومة على نطاق واسع. حيث أنها أصبحت الحكمة السائدة في العلوم السياسية والاقتصاد السياسي. إن دراسة نظرية الخيار العام تفسر وبشكل مقنع السبب في انحراف القرارات السياسية نحو مفاقمة الأمور، وإعطاء تأثيرات معاكسة مثالية جزئيا، ونتائج ذات “حصيلة سلبية”، كما تفسر لماذا نواصل نحن، كلاعبين عقلانيين في “اللعبة” السياسية طلب المزيد من الشيء ذاته. ونظرا لقواعد اللعبة، فإن من المستبعد الحصول على نتائج أخرى طالما أن هناك عدد كاف من الناس يتصرفون بتعقل، ويعملون على تحقيق اقصى ما يمكن من مجموعة من الأهداف المادية. بالطبع، يمكن للناخبين غير الانانيين أو السياسيين الانتحاريين، تقديم حلول أقل مدعاة للكآبة، لكن هؤلاء يبدون فصيلة نادرة جدا. وبسبب عدم امكانية اجراء تغيير كلي للمشاعر، فإن الحل الوحيد المحتمل يطرح نفسه، وهو: تغيير القواعد. من هنا كان ازدياد الاهتمام بالدساتير، سواء بشكلها الحالي أو كيف يجب أن تكون.
وقد وصف جيمس بيوكانن (1993: 1)، الذي بدا قريبا من حالة اليأس بسبب منطق الخيار العام الذي شارك هو في تكوينه ولم يفهمه أحد أفضل منه، الأمر ببلاغة بقوله:
“كيف يمكن إصلاح إطار العمل الدستوري بحيث يمكن مكافأة اللاعبين الذين يعملون للمصلحة العامة فعلا بدل معاقبتهم؟… الجواب واضح. يجب إزالة العناصر التوزيعية من اللعبة السياسية.”
من سيقبض ماذا، ومن سيدفع ماذا؟
الحقيقة أن أي دستور يزيل العنصر التوزيعي، سيلغي السياسة ذاتها. والسبب في التأكيد على أن السياسة توزيعية في جوهرها بسيط للغاية. فحين تأتي جميع المنافع وجميع التكاليف المرتبطة بها على شكل قطع قابلة للتوزيع، بدل أن تأتي على شكل كتلة لا تقبل التوزيع، فكل منفعة يحصل عليها الشخص يمكن جعلها مشروطة بدفع ثمن يغطي بالكامل تكلفة الانتاج، بما في ذلك تكلفة استبعاد من لم يدفعوا. عندها سينتج الافراد، في التعاملات التعاقدية أو شبه التعاقدية، منافع مربحة متبادلة لبعضهم، بحيث يدفع كل واحد مقابل ما يتلقاه، دون الحاجة الى أي قرار جماعي. اذا، واذا فقط، وجدت بعض الاشياء المهمة غير القابلة للقسمة، أو كان هناك احساس بضرورة وجودها (مثلا، على اساس أن انتاج السلم، أو العدالة، أو الامن من مخاطر الحياة ممكن، ويجب انتاجه للجميع) فإن بعض السياسة يصبح أمرا لا مفر منه. ورغم أن المسافة بين “بعض السياسة” واقامة دولة كاملة مجرد خطوة واحدة، فإن حاجتنا الاساسية للسلع العامة غير القابلة للتقسيم (والتي يشكل الأمن العام إحدى الحالات الخاصة لها) هو ما يجعل المفكرين السياسيين يعتقدون بالحاجة الى وجود سلطة عليا قسرية. السلع المجانية الوافرة لا تحتاج الى قرارات، ففي وسع الشخص أن يغرف منها بقدر ما يريد، والحال كذلك بالنسبة للشخص الذي سيأتي بعده. إلا أن السلع العامة التي لها تكلفة انتاج تتطلب توزيع التكلفة السياسية والمشاركة في المنافع السياسية. وبغض النظر عن مدى حدة “الحاجة” لمثل هذه السلع التي نتبناها، حتى لو كانت مجرد خدمة حارس ليلي يؤمن الأمن العام، فلا بد أن تشتمل على قرار جماعي حول من سيتحمل هذا الجزء أو ذاك من التكلفة. ووضع معيار عالمي لتوفير منفعة عامة، هو حتما، مسألة سياسية لها عواقب توزيعية. واذا نظرنا الى الأمر على نطاق أوسع، فإن تلك القرارات لا تؤثر على الحاضر وحسب، بل تحكم مسبقا على المستقبل ايضا، عن طريق منح حقوق دون مقابل (تخويل) وتعيين الالتزامات المترتبة على الملزمين غير المتطوعين. ومن هذا المنظور السياسي، فإن الجدل بأن الخيارات السياسية يجب الا تتعلق بالتوزيع يعني ببساطة التوقف عن القيام بخيارات سياسية.
لكن نظرة عن كثب تبين لنا أن ما يفترضه بيوكانن ليس ازالة قضايا التوزيع من السياسة (والذي من الناحية المنطقية البحتة قد يشكل تضاربا حقيقيا)، بل ضرورة حلها بما يتناسب مع مبدأ “المساواة في المعاملة”، او التعميم، الذي يمكن تطبيقه في مجال السياسة بالقدر نفسه كما في القانون. ويشير بيوكانن (1994: 2) الى أن دساتير القرن الثامن عشر قد فعّلت هذا المطلب. على اية حال، اعتقد ان وجهة النظر هذه تعطي تلك الدساتير ثقة أكثر مما تستحق، على الأقل بالحكم من وجهة نظر التجربة الامريكية. فمع مرور الوقت، اثبت الدستور الامريكي انه ميال للغاية نحو التكيف مع سياسات الجماعة التوزيعية، ومع الليبرالية الامريكية الحديثة المتسمة بالنفاق، والمبالغة بالنصوص القانونية، والتدخل فيما لا يعنيها، مبتعدا عن حماية الملكية حسب مذهب لوك الذي استلهم نصوصه منه.
سأعود الى محتوى مبدأ المساواة في المعاملة فيما بعد. أما الآن فتكفي الاشارة الى انه اذا كان المبدأ صادقا في الوعد الذي يحمله اسمه، فهو لن يلغي السياسة، بل من المؤكد أن يلغي بعضا من جاذبيتها. لانه اذا كانت المساواة في المعاملة تعني ما يبدو انها تعنيه لأول وهلة، فإن تبنيها قد يغير العالم. فلن يعود في وسع السياسة تمكين البعض من الكسب على حساب الآخرين، ولن يعود في وسع الاغلبيات سلب الاقليات، ولن يعود في وسع الجماعات المنظَّمة استغلال بعضها البعض، محاولة أن تأخذ بالسياسة ما انكرته عليها اقتصاديات الملكية والعقود.
إن دستورا ينجح في إقامة خيار جماعي مم دون الحصول على إجماع مطلق لما يزعم أنه نهج ضيق ومباشر لمبدأ المساواة في المعاملة الذي يدعيه بيوكانن، سيخفض، حسب المنطق نفسه، وبقدر كبير من مخاطر اللعبة السياسية. وسوف يفقدها معظم ما فيها من متعة، ومعظم مقاصدها، وستصبح بالكاد جديرة بأن تُلعب. فمبدأ الرفاهية الاجتماعية لا يستطيع محاباة جماعات معينة. ومبدأ التدخل لن يكون قادرا على إرضاء جمهوره الطبيعي، أي مصالح الشركات الكبرى.[1] والقواعد الدستورية التي تضمن بشكل فاعل المساواة في المعاملة قد تغير بالكامل بنية الحوافز في الحياة العامة. وستكون خلاصة تأثير ذلك عكس توجهات القرن الأخير أو أكثر، وستبدأ المواقع الخاصة بالدولة والمجتمع المدني بالتحرك والعودة الى المثل الليبرالية الكلاسيكية. فهل في وسع أي دستور تحقيق هذا القدر من الاشياء؟ وهل يمكنه في هذا المجال، تحقيق أي شيء مهم؟
عقد أم عهد؟
ثمة طريقتان للوصول إلى قرار جماعي يكون ملزماً للجميع دون الحصول على الإجماع. إحداها أن تسيطر القوة الأكبر على القوة الأصغر، وأن تخضعها لإرادتها. ولا يحتاج الأمر دائماً إلى ليّ ذراع الطرف الأضعف، وإهانته بحمله على الاستسلام علناً. فيكفي غالباً أن يدرك كل طرف قوته النسبية لتوليد ما يشبه الإجماع. وثمة افتراض مسبق يعمل لصالح تجنب القيام باختبار فعلي للقوة، لأن استخدام القوة لسحق أحد الأطراف وحمله على الرضوخ مكلف للطرفين. كما أن مخاطر البلطجة وليّ الذراع وخروجها عن السيطرة وتصعيد الأمر لقتال مؤذ للجانبين، رادع ضد القيام بالعديد من “الخيارات الاجتماعية” المختلف عليها، ومضاعفتها بشكل غير معتدل وحتى عبثي، ببساطة لأن لدى كل طرف فكرة جيدة عمن هو الطرف الأقوى في هذه الساعة.[2]
وفي الوقت نفسه، فإن الحزب الأقوى في عملية ليّ الذراع الخفية، أو القتال الحقيقي، ليس لديه فرصة قوية في أن يبقى العصبة الأقوى لفترة طويلة. فالتاريخ يخبرنا أن تغيير التحالفات يحافظ عادة، أو يستعيد، التوازن الصعب بين التحالفات المتعارضة. ولا يمكن لأي جماعة أن تحافظ على تفوق شبه دائم، لا لسبب سوى أن عدم التوازن يخلق حوافز لكسر التحالفات، التي يُدفع أعضاؤها لتغيير انتماءاتهم لحين قيام شبه توازن في القوة.
دعونا نطلق على هذا الأمر منهج غير رسمي للوصول إلى قرارات في وجه تضارب مصالح أو خيارات “حكم القوى”. وما زالت هذه القاعدة، حتى يومنا هذا، هي التي تحكم “طريقة العيش” في العلاقات الدولية. إلا أنه في أوروبا القرون الوسطى، كما في العصر الحديث وحتى ظهور الاحتكار الفعال لاستخدام القوة في الدول الوطنية المركزية، ساد، بشكل أساسي، حكم توازن القوة مجالات اتخاذ القرار. وكانت تلك المجالات تهتم، من حيث المبدأ، بأدوار الامير وامتيازاته و”القوى الحية” للمجتمع المدني، مثل الاقطاعيين الرئيسيين، والاقطاعيات، وروابط المدن، والتي يتحالف بعضها مع الامير، في حين تعارضه أخرى عند ظهور قضية مشاكسة. ولم يكن “الدستور” أكثر من تعبير مختصر عن توازن تلك القوى الاجتماعية.
البديل عن “حكم القوى” هو “قوة القوانين”. بموجب الأول، تطيع القرارات الجماعية، بشكل عام، رغبة ذلك التحالف داخل المجتمع القادر على إجبار، أو ينظر إليه على انه قادر على إجبار، الباقين على الخضوع باستخدام القوة المسلحة، أو قوة الاقتصاد، أو السطوة المعنوية.[3] أما “قوة القوانين” فتعتمد، خلافا لذلك على التزام سابق من قبل جميع الأطراف المعنية بالإذعان لقرارات ممجوجة شريطة أن تأتي بطريقة نظمت وتم الاتفاق عليها مسبقا.[4] “حكم القوى” يسود في عالم هوبز المكون من فاعلين، الحكومة والمجتمع، في علاقة خالية من الود، تعاونية جزئيا، ومعادية جزئيا، ولديها السمات الأساسية لعقد ضمني.
في هذه الحالة، تكون نصوص الدستور موضوعية، لأن الغرض منها، وإن يكن بكلمات قليلة، تحديد ما يتعين على الحكومة فعله أو تجنبه لتفوز بالطاعة وتجنب الثورة. وتناسب “قوة القوانين” العالم الخيالي الذي تسوده “الإرادة العامة” وتوابعها، التي تحدث عنها روسو، أي دالّة الرفاه الاجتماعي التي يجب زيادتها إلى أقصى حدّ في نظرية الخيار الاجتماعي المعاصرة. الحكومة هنا ليست فاعلاً رئيسياً وليست طرفاً في عقد ضمني مع مجتمع محكوم بقوى موجودة لدى الجانبين، هناك فاعل واحد فقط، المجتمع. والحكومة هي الوكيل الخاضع له. هنا نجد مشكلة “الفاعل الرئيسي-الوكيل” بينهما، لكن ليس لها أهمية من الدرجة الأولى. ولا يعود هدف الدستور تشذيب الحواف الخشنة لعلاقة متنافرة، بل إظهار “الإرادة العامة” بتحديد إجراءات التعرف عليها. وكما نفضل أن نقول الآن، فهي لتوفير طريقة متفق عليها من “كشف الخيارات الاجتماعية وتجميعها”. وبالتالي فإن القواعد الدستورية تستثمر مع قوة معنوية مفترضة، حيث أنها الأداة التي بواسطتها تعبّر الخيارات الاجتماعية عن نفسها.
كنتيجة منطقية ملازمة لهذا التمييز، يتبع ذلك عاقبتان. تتعلق الأولى بالوظائف الخاصة بنوعي الدستور، ذاك الذي يقوم على القوى، والآخر الذي يقوم على القوانين. القوى تخضع لبعضها البعض في المسائل الموضوعية، عندما يتعين عليها ذلك، لكنها لا تحتاج لأن تقلق بالنسبة للإجراءات. فالإجراءات غير مهمة ما لم يكن لقرار إجرائي تأثير متوقع على نتيجة موضوعية. في هذه الحالة، تكون المسألة التي تبدو إجرائية مسألة موضوعية في الواقع، حتى عند إزالتها. وبعكس ذلك، فإن القواعد التي توضع لتقرير أي البدائل يجب قبوله من قبل الجميع بوصفه الخيار “المفضل اجتماعياً” هو بطبيعة الحال إجرائي.[5] وهي تقول، أو أنها وضعت لتقول، أنه إذا اختير أحد البدائل بموجب قواعد معينة متفق عليها حول الطريقة التي يجب إجراء الاختيار بموجبها، فإن ذلك البديل يجب أن يأخذه الجميع على أنه الأفضل للجميع “بالإجمال” وأكثر من أي بديل آخر كان من الممكن اختياره، لكن لم يتم اختياره.
إن القواعد الإجرائية تتماشى مع المعايير الديمقراطية؛ أما القواعد الموضوعية فتسير ضدها. للوهلة الأولى، ثمة شيء متناقض حول فكرة أن على المجتمع تبني دستور يستبعد بعض البدائل—مثال ذلك، التدخل في حرية التعاقد—نظراً لأن القيام بذلك يجعل المجتمع يلزم نفسه باختيار بديل قد لا يفضله مستقبلاً. ورغم أن في الإمكان الحصول على حس جيد من هذا الحل، فإنه يتطلب جهداً عقلياً ومعنوياً قد لا يتوفر دائماً. والقواعد الموضوعية من هذا النوع التي تشوش آلية الخيار الاجتماعي التي تتناقض مع بعضها، لا تجلس مرتاحة مع الديمقراطية. ولا أجد طريقة تثبت أن بيوكانن (1994: 2-4) مصيب، لكنني أتبعه دون تردد حيث يؤكد أن القواعد الموضوعية، وليس الإجرائية، هي التي تصنع دستوراً ليبرالياً. ومع ذلك، كنت أتمنى لو أنه دفع بحكمه هذا بقوة اكبر في وطنه بشكل أكثر دوغماتية مما يريد، لأنه يلامس مشكلة خطرة حول التناغم المنهجي ما بين الديمقراطية والليبرالية. سنتحدث أكثر عن هذا الموضوع مستقبلاً.
العاقبة الثانية هي أن دستورا لا يعبر عن نوع من توازن القوى بين اطراف رئيسية تترصد بعضها البعض حول مسائل محددة، بل هو عملية ميكانيكية لاتخاذ قرارات جماعية في جميع المسائل، له البنية المحفزة للتعهد (عهد يقطعه المرء مع نفسه) أكثر مما هو عقد بالمعنى المفهوم. قد لا يتم الالتزام بجميع العقود، لكنها بالاجمال يمكن فرضها، ويعتمد ذلك على القوى التي لها مصلحة مباشرة أو غير مباشرة فى الوفاء بها. (جميع الذين اعتمدوا على العقود في بعض المناسبات لديهم مصلحة مباشرة في الوفاء بجميع العقود.) العهود قد يتم الالتزام بها، إلا أنه لا يمكن فرض الالتزام بها. “المجتمع” قد يحترم “تعهدا” دستوريا يوقفه، في بعض المناسبات، عن أختيار بديل مغرٍ. لكنه اذا رغب في الرضوخ للإغراء، فإن كل ما عليه فعله هو تعليق ذلك التعهد، أو اعادة تفسيره، أو تعديله. فليس هناك قوة أكبر تحمي سلامة التعهد أكثر من قوة شخصية الفرد ( أو “المجتمع” كما في حالتنا) الذي قطع العهد على نفسه. إفرض أنه تم الوصول الى قرار اجرائي، بأغلبية الاصوات، مثلا، والذي قد يكون مضمونه الموضوعي غير دستوري، فيه نقض للعهد. فإن القوة الوحيدة التي يمكن تكريسها لفرض الالتزام “بالعهد”، يوجهها، حسب القواعد المتبعة، “الخيار الاجتماعي” الاجرائي ذاته الذي يقترح نقض ذلك العهد. وليس ثمة حاجة لنشوء مثل هذا الوضع، لأن هناك عادة طرقا للتلاعب بالعهود السياسية بحيث لا يكون هناك حاجة لنقضها. لكن اذا طرأت حالة مماثلة، فمن الصعب رؤية ما يمكن فعله بشأنها، باستثناء الاعتراض بضعف أو تجاهل الأمر كله.
إن دستوراً يقوم على “قوة القوانين” بدلا من “حكم القوى” القديم، فيه شيء من صفات خدعة الثقة الحميدة التي يحترمها معظم الناس، أو أن معظم الناس يؤمنون بأن معظم الناس يحترمونها، حسب قول ديفيد هيوم. لكن حسب حكم الأغلبية، فإن الخدعة يجب أن تتكيف مع وجهة نظر الأغلبية، وذوق الأغلبية، ومصلحة الأغلبية، وهذا هو السبب في أن القوانين الدستورية تتطور في ظل نظام المراجعة القضائية. فإن لم تتمكن من ذلك، فمن الصعب أن تبقى. وثمة أمثلة ذات مغزى في تغير حظوظ شرط “المقبوضات” وشرط التجارة في التاريخ الامريكي. العدد القليل من القواعد الدستورية التي قد يكون لها “خيارا اجتماعيا” غير ملائم، أعيد تفسيرها على مر الايام بحيث لم يعد التعرف عليها ممكنا. وكمثال على ذلك، ليس على المرء إلا أن ينظر الى حقيقة أن ايطاليا تتبع ميزانية متوازنة دستوريا.[6]
معاملة مساواتية أم معاملة تفضيلية
خذ مثلا قاعدة موضوعية تبدو قوية، ولم تجرب (حسبما أعلم) في التطبيق، وتعد بتغيير البنية المحفزة السائدة للسياسة للأفضل، ويصغر مجال صلاحياتها بدل أن يزيد كما في زمننا الحاضر: مثل قاعدة المساواة في المعاملة التي اقترحها بيوكانن (1994). وقد كان بيوكانن مدركا الى أن وضع هذا المبدأ موضع التنفيذ قد يثير مشاكل عدة في التفاصيل. إلا أنه، بشكل عام، كان يؤمن بوضوح أن في الامكان ترجمته الى خطوط ارشادية مفهومة، بحيث تجد الحكومات صعوبة في تخطيه بشكل مفضوح.
فقد تجبر الحكومة، مثلا، على فرض ضرائب بنسب موحدة، وتستبعد النسب التفضيلية بين الاشخاص، والمنظمات، والاماكن، والصناعات، والمنتجات، أو أي تصنيفات أخرى من الجهات الخاضعة للضريبة (بيوكانن 1993: 5). رسميا على الأقل، هناك أربعة أنواع من فرض الضرائب، لكل واحد منها معدل موحد خاص به، يتفق مع هذا الخط الارشادي. في وسعنا فرض ضريبة اجمالية على الاشخاص الطبيعيين والاعتباريين على حد سواء، أو ضريبة رأس على جميع الاشخاص الطبيعيين، الاغنياء والفقراء، أو ضريبة اجمالية على جميع الهيئات الاعتبارية الصغيرة والكبيرة، أو ضريبة متساوية على جميع الدخول، العالية والمنخفضة، أو ضريبة بنسبة موحدة على جميع القادرين على الدفع (وقد تكون هذه ضريبة دخل تصاعدية تحت اسم مختلف). إلا أنه، ورغم أن جميع الأنظمة قد تبدو موحدة، إلا أن في الامكان القول أنها تفضيلية: فجميعها تعامل بعض الاعضاء الخاضعين للضريبة من طبقة معينة بشكل أسوأ من الآخرين.
خط ارشادي آخر ممكن، ذكره بيوكانن، يمنح دعما موحدا لكل صناعة. مثل دعم موحد حسب عدد العاملين في المؤسسة، يوزع مساعدات الدولة بين الصناعات بطريقة، ودعما لرأس المال المستخدم بطريقة أخرى، وواحد حسب الناتج المادي أو المبيعات كطريقة ثالثة. وهناك حجج متشابهة تبين أن الهدف من الخطوط الارشادية هو تقوية الرابطة بين المنافع المأخوذة من السلع العامة وتكلفتها (مثال ذلك، “المنطقة التي ستستفيد من الطريق الرئيسة الجديدة عليها أن تدفع مقابل ذلك”) يمكن، بالنظر للارادة السياسية، محاصرتها دوما بادعاءات لا يمكن دحضها بأن لها منافع خارجية عديدة وكبيرة. تمويل المزيد من المرافق التعليمية من ايرادات مركزية بدل الايرادات المحلية، لنفع أسر محلية واطفالها، قد يكون نتيجة محتملة للالتفات لمثل هذه الادعاءات—وهي النتيجة ذاتها التي نميل الى الحصول عليها على أي حال، من دون خطوط ارشادية عن المساواة في المعاملة.
من دون الخوض في التفاصيل فإن كل “مساواة” في المعاملة فيها مساواة بالنسبة لفئة مختارة أو طبقة من الحالات، وعدم مساواة بالنسبة لآخرين. اعطاء الراتب نفسه لجميع الطلاب القادرين والمستحقين يعامل جميع الطلاب القادرين والمستحقين على قدم المساواة، لكنه يعامل جميع الطلاب—الذين بعضهم غير قادرين وغير مستحقين—بعدم مساواة. والمساواة في معاملة جميع المسنين الفقراء فيه عدم مساواة في معاملة جميع المسنين (الفقراء والاغنياء) وعدم مساواة في معاملة جميع الفقراء (الشباب والمسنين). عدم المساواة المتولدة نتيجة تحقيق المساواة لفئة من الحالات او المواضيع، لا تعد ولا تحصى. ويعتمد عددها على ثراء قاموس مفرداتنا في صياغة فئات أكثر وأدق، تمنح المعاملة نفسها للجميع ضمن كل فئة منها.
نحن نعرف بالطبع، ومنذ ايام أرسطو أن ما ندعوه مساواة هو في الواقع “مساواة في التناسب”، نسبة ثابتة بين كل فرد من طبقة من الكيانات وكل عضو من طبقة أخرى. حصة موحدة لكل عضو من طبقة “الاسر” وكل عضو من طبقة “دولارات الدخل” تعطي “دخولا متساوية للأسر” لكنها لا تعطي “دخولا متساوية للفرد”، “للفرد الموظف المنتج”، أو “للطفل العالة”. وهذه حالة حميدة نسبيا عن وضع النتائج التوزيعية المختلفة التي يمكن الحصول عليها عند الالتزام بحزم “بالمساواة في المعاملة”، لكنها تغير الطبقة المرجعية. يمكن للمرء أن يثق في صدق مشاعر محاميي وسياسيي الكواليس القلقين من نتائج الانتخابات المقبلة عند التفكير في الآخرين الذين لهم عضة توزيعية أمضى وأعمق، بينما هم ما زالوا يعملون وفق بعض البنى المقبولة من المساواة في المعاملة والعموميات.
إختيار الاجراء، إختيار الموضوع

هناك بعضا مما يتعين قوله حول الاجراء، والموضوع، والاحتمالات بالنسبة لدستور ليبرالي. إن القواعد الدستورية ليست شريعة موسوية. فهي ليست منزلة من السماء، وحتى لو انزلت، فإن الناس على الارض سيعيدوا صياغتها. انه افتراض غريب القول بأن السياسة تسير ضمن قيود دستورية، لكن القيود ذاتها هي الى حد ما فوق السياسة، تقررها بدل أن تتقرر بها مثلها مثل أي منتج آخر من منتجات صناعة القرارات الجماعية. وهذا هو السبب في أن أي دستور ليس دستورا “ثابتا” للأسف. ومع تغير القيم، وتغير وجهات النظر حول الطريقة التي يعمل بها العالم—والقوى الاجتماعية المرتبطة بوجهات النظر تلك—فان الدساتير تتغير ايضا. سواء بتعديل نصوصها أو اعادة تفسير روحها (مقاصدها). ليس ثمة صعوبة تقنية تعترض تطويرها. الحفاظ على أي عقبة امام التغيير—مثلا، قانونا يحمي الملكيات الخاصة من المصادرة—يبقى لانه من مصلحة الاقليات المعرقلة الحفاظ على هذا القانون. وازالته تسمح بإعادة توزيع المكاسب التي توازي قيمتها، في عالم ليس فيه احتكاكات أو “دلاء تسيل”، قيمة الفائدة. المستفيدون المحتملون يمكنهم قبول جزء من المصلحة المضادة، (ويزيحون بذلك الاقلية المعرقلة) مع الابقاء على شيء ما. إراحة القانون الذي يحمي الملكية يحرر الموارد التي يمكن لتوزيعها الجديد أن يسيطر، ويهزم القديم سياسيا، بالطريقة ذاتها التي يمكن أن يهزم بها أي توزيع قائم بصفقة اعادة توزيع جديدة، مطيعا خيارات فئات المجتمع المتبدلة.
كل مجموعة من القواعد الدستورية تسمح بأن يحصل تحالف فائز على حد أقصى من مكاسب اعادة التوزيع. وفي ظل دستور ليبرالي، فإن اكبر مكسب ممكن قد يكون صغيرا نسبيا. والقول ان القواعد الدستورية تقلل من مدى سياسات اعادة التوزيع هو، في الواقع، جيد بقدر جودة التعريف العملياتي للدستور الليبرالي الذي يمكنني التفكير فيه (رغم أن القراء قد يشجبوا ذلك بوصفه استجداء للأسئلة، لانه يفترض أن التحديد الدستوري لمدى اعادة التوزيع هو نتيجة عملية). فاذا اختيرت تلك القواعد حسب الحوافز المنوه عنها في العلوم السياسية الحديثة، فإن التحالف الفائز سيسعى للحصول على مجموعة القوانين المتبناة التي ستزيد مكاسبه التوزيعية المحتملة الى أقصى حد. وما هو متاح لإحدى الفئات يجب أن يكون متاحا للفئات الاخرى. واختيار القواعد التي تزيد مكاسب الفائزين الى اقصى حد من السياسة يماثل تماما زيادة المكاسب الى اقصى حد عند إعطاء تلك القواعد. فاذا كانت الأخيرة فرضية عقلانية، فإن الأولى كذلك، ويتعين علينا بالتالي أن نقول وداعاً لفكرة دولة حماية أدنى.
يمكن “اختيار” الموضوع—مثل حالة مثقلة باعادة التوزيع حيث كل واحد يدعم كل شخص آخر، مع سياسات تدخل قوية—عن طريق اختيار الاجراء. كلما كان التحالف الفائز، الذي يستطيع اتخاذ قرار معين لصالحه، أصغر، كان بقايا التحالف الخاسر أكبر، وتبعا لذلك، كانت الغنائم التي يمكن للفائزين انتزاعها من الخاسرين أكبر. وبموجب المساواة الديمقراطية، حيث يزن كل شخص وصوته القدر نفسه، فإن أصغر تحالف فائز ممكن يساوي نصف عدد الناخبين مع جولة ترجيح لتقرير الفائز، الناخب المتوسط. لذلك فان القاعدة الاجرائية التي ستعطي أفضل نتيجة مطلوبة هي التي تصنع أغلبية حاسمة بسيطة لكل قضية. فكذلك تبين تحليلات الدساتير المبادئ الليبرالية والديمقراطية: متباعدتين بشدة، مثل قطار صاعد وقطار نازل، يسيران في اتجاهين متعارضين على سكتين متوازيتين.
ملاحظات:

[1] ستترك السياسة مع قاعدة انتخابية لا يمكن خفضها، المثقفون المتطرفون الذين لا يسعهم إلا الاعتقاد بأن على المرء أن “يعيد اختراع الحكومة” لأن هندسة المجتمع قوة للخير لا يجوز التخلي عنها بإرادته.
[2] وبعكس ذلك، فإن اتخاذ القرار الجماعي بحسب القاعدة المتبعة، حين يكون من واجب الجميع أن يقبلوا بسلام النتيجة الصادرة على ماكينة عدّ الأصوات، ليس رادعاً بل مؤشراً إيجابياً على صنع الخيارات الاجتماعية: تزال فيه مخاطر النزاع والثورة، ولا تبقى سوى جائزة الفائز.
[3] لكن نظرا للمقدرة المنظورة لفعل ذلك، فإن الحاجة لاستخدام هذه القوة نادرا ما تحصل.
[4] بالطبع، ينبغي على الجميع أن يحترم هذه الاتفاقية بعد وقوع الحدث.
[5] أشار نورمان باري (1989: 279) أن ليبرالية اليوم تفسر غالباً على أنها “تشتمل على اتفاق على الإجراءات بغض النظر عن النتائج التي قد تتمخض عنها”. وهو الموقف الذي يعزوه باري (1989: 277) إلى هايك في أنه “ليس هناك أي حدود موضوعية لما يمكن للمشرِّع أن يفعله، هناك فقط قيود إجرائية حازمة”. في اقتراحات هايك الدستورية، تسعى القواعد الموضوعية إلى إصدار حكم مسبق على “الحالات النهائية”، والتي ينظر إليها الآن، وعلى نطاق واسع بأنها طموح غير ليبرالي. الإجراءات فقط، “العدالة الإجرائية”، و”العملية” (كما في “العملية السلمية” لتمييزها عن السلام) هي أهداف صحيحة سياسياً. وهذا مثال آخر على الرطانة الموجهة التي تحجب الفكر. ويبدو تشخيص باري دقيقاً للأسف.
[6] أدين لهذا البند المذهل من المعلومات إلى انتونيو مارتينو. الموازنة الإيطالية، بالطبع، تتوازن مثل أي موازنة أخرى بالأموال التي تنشط الخزينة لاقتراضها. وكل من يصوت على هذا الوضع يحاول أن يضمن بأن يقوم أطفاله، عندما يكبرون، بالعمل على نقل عبء الدين إلى أطفال أناس آخرين.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 1 تشرين الثاني 2006.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

يركز هذا المقال على المعايير التي تساهم في رسم النطاق الأمثل للحكومة، وعلى المسائل المتعلقة بالعلاقة بين الفرد والدولة. سأبدأ ببعض التوضيحات ذات الصلة بمفهوم الدولة، حيث أن العديد من الأنظمة التي ينظر إليها تقليدياً على أنها “دول”، تنقصها حتى المتطلبات الأساسية التي يأتي ذكرها في المناقشات المعيارية حول ما يجب أن تقوم به “الدولة”. واختتم المقال بالمجادلة بالقول أن الرؤية الكلاسيكية للدولة المحدودة تعتبر أفضل في المعنى الذي توفر فيه الدفاع الأفضل عن الحريات الاقتصادية والشخصية.
النظام المؤسساتي والدولة

يظهر التاريخ أنه كان لكل مجموعة إقليمية كبيرة ودائمة من الأشخاص، مجموعة من القوانين الشخصية المتبادلة، وفي المجتمعات الأكثر حداثة، نظام مؤسسات يحكم التعاون، وحل الصراعات، والدفاع فيما بينها. وأطلق على عدد من هذه الأنظمة المؤسساتية اسم “دول”. ومن الواضح أن تحديد أي من هذه المجموعات لديها دولة، وأي منها لديها نظام مؤسسي بدون دولة، هو أمر يعتمد على تعريف معنى الدولة. وأكثر تلك التعريفات استخداماً على نطاق واسع هو تعريف ماكس ويبر. فالدولة تكون قائمة عندما يكون هناك جهاز متخصص يحتكر عملية استخدام القوة في منطقة ما (ويبر 1922: 29-30). ولا يُعترف بالأنظمة التي لا تستوفي هذا الشرط على أنها دول. على سبيل المثال، لا تعتبر الجمعية الخيرية دولة، في حين أن “دولة الرفاه الاجتماعي” تعتبر كذلك. وبحسب تعريف ويبر فإن الأنظمة التي ترتكب فيها المجموعة الحاكمة الجرائم ضد الأعضاء الآخرين الذين يعيشون على نفس الأرض، سيطلق عليها مع ذلك تعريف دولة، رغم أنها دولة مهلكة (على سبيل المثال جمهورية زائير سابقاً في ظل حكم موبوتو سيكو-سيكو).
وكنقطة بداية في النقاش حول النطاق الأمثل لنشاط الدولة، بإمكان المرء اللجوء إلى مفهوم روبرت نوزيك المتمثل في دولة الحد الأدنى—إي تلك التي تقتصر وظيفتها على “مهام حماية جميع مواطنيها من العنف، والسرقة، والاحتيال، وعلى تنفيذ العقود.” (نوزيك 1974: 26).
هل الدول الأمثل مختلفة بسبب المجتمعات المختلفة؟
هل تعتمد رؤية الدولة الأمثل على خصائص الدول القائمة، أم على الملامح التي تنطوي عليها مجتمعاتها؟ فعلى سبيل المثال، هل يجب على الدولة أن تقوم بما هو أكثر (أو أقل) في البلدان الأكثر فقراً بالمقارنة مع ما تقوم به الدولة في البلدان الأكثر غنىً؟ أم هل أن النطاق الأمثل لنشاط الدولة يعتمد على التركيبة العرقية للسكان، ومدى التوتر المجتمعي الناتج عن ذلك؟
وتتمثل القضية الأخرى فيما إذا كان النطاق الأمثل للحكومة يبرز من العملية الديمقراطية. فإذا كان الأمر كذلك، فبإمكان المرء أن يجادل بالقول أن النطاق الأمثل للدولة في بعض المجتمعات يشتمل على المزيد من إعادة التوزيع على حساب النمو الاقتصادي، بينما تفضل مجتمعات أخرى إعادة توزيع أقل ونمواً أكثر. على أية حال، فإنّ أخْذنا قانون الأغلبية كمعيار للحكم على أفعال الدولة هو أمر محفوف بالمخاطر، لأنه يتضمن ضرورة قبول أي قرار من قرارات الأغلبية، بما فيها تلك القرارات التي تضطهد الأقليات، وتصادر الملكية، وتفرض ضريبة الحرمان. وبناء عليه، يجب تقييد قانون الأغلبية، مما يسلط الضوء على الحاجة لمعايير أخرى لرسم نطاق الدولة.
أما الإجابة على التساؤل حول ما إذا كانت الدولة الأمثل مختلفة بسبب المجتمعات المختلفة، فتعتمد إلى حد كبير على ما إذا كان الأفراد في المجتمعات المختلفة مختلفين جوهرياً. وأنا أعتقد شخصياً أن هناك متغيرات دافعية وإدراكية قوية على نحو كافٍ تشكل الطبيعة البشرية، بحيث أن النطاق الأمثل للدولة يتشابه على نطاق عريض عبر المجتمعات. فالسياسات التي اعتمدت على وجهة النظر المعارضة—على سبيل المثال، الاقتراح بأن المجتمعات الأكثر فقراً تحتاج إلى دولة أكثر تدخلاً لأن المزارعين الفقراء لا يتجاوبون جيداً مع الحوافز الاقتصادية المعيارية—كان سبباً رئيسياً في استدامة الفقر في العالم الثالث (باوير 1976، شولتز 1980). والخطأ الأكثر فداحة بكثير ذلك الذي ارتكبته الماركسية، والتي افترضت أن القضاء على الملكية الخاصة سينتج فرداً جديداً وأفضل.
وتشير الرواية الأحدث من مغالطة المنادين بالدولانية إلى وجود نقص في معلومات السوق (أي الأفراد) في المجتمعات الأكثر فقراً بصفتها الأساس العقلاني لدولة أكثر تنظيماً. إن هذه التوصية محيرة، حيث أن نطاق التنظيمات الفعلية في العالم النامي تتجاوز على نطاق واسع ما يمكن تبريره من جانب أية اعتبارات فعّالة (دجانكوف وآخرون 2002). وعلى المرء أن يأخذ في الاعتبار أيضاً احتمال أن يتم نقل بعض المهام التي تخص المجموعة الأمثل من أنشطة الدولة إلى هيئات خارجية، مثل المنظمات الدولية. ولكننا سنواجه عندئذ مسألة التوزيع الأمثل لهذه المجموعة من أنشطة الدولة، والقضايا ذات الصلة للدور المتغير للدولة الوطنية. وتكمن مثل تلك القضية في قلب الجدل الدستوري في الاتحاد الأوروبي (كريفيلد 1999: 402-21؛ ماثيوز 1997: 50-65).
معايير رسم الدولة الأمثل
يعتبر المنهج الاقتصادي المعياري لرسم المجموعة الأمثل من مهام الدولة غير مرضٍ.[1] وبالتحديد عندما يشير الاقتصاديون مثل جوزيف ستيجليتز (1988: 24) إلى أن “الدور الرئيسي للحكومة” هو توفير الإطار القانوني “الذي تحدث ضمنه جميع العمليات الاقتصادية”، دون ذكر الكثير حول المحتوى المرغوب للقوانين، وكيف يمكن أن يؤثر على رغبة أو كفاءة تطبيقها. إضافة إلى ذلك، لا يوجد بالعادة ذكر لآليات التطبيق غير المتعلقة بالدولة وعلاقتها بآليات الدولة. وتم خلق الانطباع بأن جميع قرارات الصراع في الحياة الاقتصادية هي في المجال المحتوم للدولة. ويناقض هذا التعبير الدليل التجريبي (أنظر مثلاً، غريف 1997، غو وسوينين 2001، وولدمير 2001).
ويرتبط هذا التشويش بالعادة الناتجة عن المفهوم بأن السلع العامة غير تنافسية من ناحية استهلاكية، وغير حصرية (سامويلسون 1954: 387-89). فإذا توجب توفير هذه السلع من الأساس، فإن الضرائب والأساليب القسرية ذات الصلة بالدولة تعتبر ضرورية. على أية حال، أي من السلع تعتبر عامة بصدق؟ فهل أن نظام العدالة هو ملك الدولة لأن الخدمات ذات الصلة تعتبر سلعاً عامة؟ من الواضح أنه لا يمكننا أن نقول ذلك عن جميع مثل تلك الخدمات. عندئذ، أي من “خدمات العدالة” تشكل سلعة عامة؟ هل أن المنارة، المثال النصي المفضل حول السلعة العامة، هو سلعة عامة فعلاً؟ لقد أثبت رونالد كوز (1974) أن المنارات في بريطانيا القرن التاسع عشر كانت تدار وتمول من جانب القطاع الخاص. بيد أن هذا الاكتشاف على أية حال لم يمنع استمرار استخدام المنارة على أنها المثل الرئيسي حول السلعة العامة في العديد من النصوص (مثلاً ستيجليتز 1988: 75).
وعلى الأرجح أن هناك عدد أقل من السلع العامة في واقع الحياة مما يفترض عادة. ونتيجة لذلك، فإن النطاق الضروري (أو المرغوب) لنشاط الدولة يمكن أن يكون أضيق نطاقاً أيضاً. إن بعض السلع التي تم الإعلان عنها أنها “عامة” قد تكون في الحقيقة سلعاً خاصة تم دفعها إلى ملك الدولة عن طريق التدخل العام الذي ألغى أو خفّض احتمالية التمويل الخاص التطوعي لهذه السلع. وبعبارة أخرى، فإن بعض استخدامات المفهوم النظري للسلع العامة يمكن أن تشكل على نحو غير مقصود تبريرات سابقة متأخرة لنتائج التوسع السابق لنشاط الدولة.
إن مفهوم “التأثيرات الخارجية” يعاني من نقاط ضعف مماثلة. فمن السهل جداً الإشارة إلى أن المنافع الاجتماعية تكون أكبر من المنافع الخاصة (تأثيرات خارجية إيجابية)، أو أن التكاليف الاجتماعية تتجاوز التكاليف الخاصة (تأثيرات خارجية سلبية)، والمطالبة بالتدخل العام. لقد تم الإثبات أن هناك بعض التأثيرات الخارجية التي يمكن على الأقل أن تنتج من النواقص المؤسساتية، وهي حقوق الملكية المعينة بشكل غير مناسب (ميزس 1949: 654-63). وفي مثل تلك الحالة، لن يكون الحل بتدخل إضافي للدولة، إنما بإلغاء الحواجز التي تعيق تطور حقوق الملكية الخاصة. وعلى الأرجح أن يقتضي ذلك إلغاء بعض التدخلات السابقة للدولة. وتشير نظرية كوز (1960: 45-56) إلى الاحتمال بأنه يمكن معالجة بعض التأثيرات الخارجية بالمفاوضات المباشرة بين الأطراف المعنية.
فليس من المدهش إذا أن تشارلز وولف جونيور، وهو اقتصادي في مؤسسة راند، ينهي تحليله الشامل حول معالجة إخفاقات الأسواق في كتاب اقتصادي قائلاً “لا توجد معادلة لتأسيس الحد الأدنى الأساسي لبداية أنشطة ونتائج الحكومة” (وولف 1988: 153). وهذا الاستنتاج الجدلي بمثابة تلخيص عادل لموقف ما كُتب حول النطاق الأمثل لنشاط الدولة.
العودة إلى الأساسيات

يحدد أمارتيا سين (1999: 27) السبب الرئيسي الذي كان الاقتصاد لأجله غامضاً جداً من ناحية النطاق المرغوب للدولة: “لقد كان علم الاقتصاد يميل إلى التحرك بعيداً عن التركيز على قيمة الحريات إلى التركيز على قيمة المنافع، والدخول، والثروة. ويؤدي هذا التركيز الضيق الأفق إلى التقليل من شأن الدور الكامل لآلية السوق”.[2] ويعتقد سين كما يعتقد إف. إي. هايك (1960)، أن الاقتصاد تحرك كثيراً جداً في اتجاه الحكم على أفعال الدولة، في ضوء نتائجها المتوقعة، على حساب إضعاف الحالة الفكرية للحريات الأساسية للفرد كمعيار لرسم النطاق المقبول والمرغوب لنشاط الدولة. ويتم تعريف الحرية الاقتصادية على أنها “غياب الإكراه أو القيد الحكومي على إنتاج أو توزيع أو استهلاك السلع والخدمات أكثر من الحد اللازم للمواطنين من أجل حماية وصيانة الحرية ذاتها.” (بيتش وأودريسكول 2003). إن العناصر الرئيسية للحرية الاقتصادية هي حقوق آمنة للحقوق المملوكة بشكل قانوني، وحرية المشاركة في العمليات التطوعية داخل وخارج حدود الدولة، والتحرر من السيطرة الحكومية على الشروط التي يتعامل على أساسها الفرد، والتحرر من المصادرة الحكومية لحقوق الملكية (رابوشكا 1991، هانكي وولترز 1997). وهناك نوعان أساسيان للقيود على الحرية الاقتصادية: التنظيمات المقيدة والضرائب التي تتعدى المستوى الضروري لتمويل نطاق عملية الدولة المطلوبة لحماية الحريات الكلاسيكية للاقتصاد (والحريات الأخرى).[3]
لقد أضعفت التطورات التي حدثت خلال القرن العشرين بشكل خطير المركز الفكري والدستوري لحرية الاقتصاد في الغرب. أركز هنا على مثالين يشيران لنزعة أوسع نطاقاً. أولاً، في كتابه الذي يستشهد به على نطاق عريض، والمثير للإعجاب، يجادل جون راولز (1971) بعنف بشأن “مبدأ الحرية” على أنه المعيار الأكثر أهمية لتشكيل الحياة الاجتماعية ودور الدولة. وعلى أية حال، فإنه يستثني بعض العناصر الأساسية من حرية الاقتصاد (مثلاً حرية الدخول في مشاريع استثمارية) من قائمة الحريات التي يجب أن يكون لها الأولوية. وليس من المدهش أن يستخلص راولز أن اشتراكية السوق يمكن أن تكون النظام المؤسساتي المثالي. غير أن اشتراكية السوق يمكن صيانتها فقط إذا تم حرمان الأشخاص من حقوق ملكيتهم الخاصة، وبناء عليه، الحرية لخلق شركات خاصة. في حين لا تقتضي الرأسمالية المنع القانوني للمشاريع غير الخاصة (مثلاً المنظمات غير الربحية والتعاونيات). وبدلاً من ذلك، عندما يملك الأشخاص الخيار بين استثمار أموالهم ووقتهم وطاقتهم في شركة خاصة أو في تعاونية، فإنهم يختارون بشكل ساحق الأولى. لذا، فإن جوهر الرأسمالية هي حرية الاختيار، بينما تقتضي اشتراكية السوق منع المشاريع الخاصة (بالسيروفيتش 1995ب: 104-110). فكيف إذاً يمكننا اعتبار هذين النظامين منسجمين بشكل متكافئ مع “أولوية الحرية”؟
والمثال الآخر حول المركز المتراجع لحرية الاقتصاد في الغرب يتعلق بالتطورات الدستورية في الولايات المتحدة، البلد الذي يملك أقوى التقاليد الخاصة بالحكومة المحدودة. فمنذ أعوام الثلاثينيات، أخضعت المحكمة العليا الحريات الاقتصادية لحريات أخرى، على النقيض من التفسير الأصلي للدستور الأمريكي (دورن 1988: 77-83). وبإضعاف إجراءات الوقاية الدستورية التي تحمي الحرية الاقتصادية، فإنها مهدت الطريق أمام التنظيم المتزايد. وبعد سنوات، تم تحليل عواقب هذا التنظيم بشكل دقيق في كتب الاقتصاد، غير أن قلة من العلماء ربطت التنظيم المتزايد مع الإضعاف السابق للدفاع الدستوري للحرية الاقتصادية.[4]وحتى جورج ستيجلر (1971) في مقاله الذي شكل بذرة تطور مستقبلية حول الاقتصاد التنظيمي، لم يذكر مثل تلك الرابطة. وكما تشير هذه الأمثلة، فإن المفهوم الفلسفي لعبارة “الأولوية للحرية” دفاع فكري ضعيف جداً ضد دولة توسعية، إذا تم إقصاء الحرية الاقتصادية من قائمة الحريات، أو تنزيل درجة الحرية الاقتصادية إلى المرتبة الثانية. ستكون عندئذ الطريق للمضي قدما باتجاه تنظيم متزايد للاقتصاد مفتوحة تماماً. وسيكون هناك المزيد من الضرر إذا تم إعادة تشكيل مفهوم الحقوق الفردية بشكل جذري ليشمل الحقوق “الاجتماعية”، أو حقوق “الرفاه”. أما المفهوم الكلاسيكي للحرية بصفتها منطقة محمية من تدخلات أفعال الآخرين، فسيتم دمجها عندئذ مع مفهوم الأحقية بأموال الآخرين وتطبقه الدولة من خلال الضرائب المتزايدة.[5] وتكون النتيجة صراع بين هذين النوعين المختلفين جداً من الحقوق، وخطر حدوث مزيد من الإضعاف للحرية الاقتصادية بسبب الضرائب المتنامية الناتجة عن توسيع التحويلات الاجتماعية. وأفضل وسيلة لاحتواء الدولة عندما يتم إرساء الحريات الأساسية هي ضمن دستور فعال.[6] وهذه هي الحجة الرئيسية للاقتصاد المؤسساتي (بيوكانن 1988). بيد أنه سينظر إلى التخلي عن، أو إضعاف هذا الإطار، بشكل سلبي من جانب جميع أولئك الذين يعتقدون أن الحرية، بما فيها الحرية الاقتصادية، تملك قيمة جوهرية. ولهذا السبب يجب وضع حدود على نطاق نشاط الدولة، بغض النظر عن العواقب. على أية حال، قد يبدو لبعض الأشخاص وكأن العواقب هي التي تستخدم كمعيار رئيسي أو نهائي للحكم على النظام الؤسساتي الجديد، بما في ذلك أنظمة الدولة البديلة.[7] وهناك بعض الأشخاص أيضاً ممن لا يكونون حساسين سواء إزاء القيمة الجوهرية أو الحاسمة لحرية المرء الاقتصادية. ويأخذون في الاعتبار سلطة الدولة (الأمة) للقيمة الجوهرية (أو القيمة السلبية للسوق الحرة)، بغض النظر عن العواقب.[8]
الدول المحدودة والممتدة وعواقبهما

هل هناك فترات تناوب بين الحرية الاقتصادية ومتغيرات أخرى مثل النمو الاقتصادي، العامل ذو الصلة باجتثاث الفقر، ونطاق بعض الظواهر مثل نسبة الأعمال التي تم إعلانها بأنها تعتبر جريمة أو فساداً؟ هل نحن بحاجة إلى قيود تفرضها الدولة على الحرية الاقتصادية من أجل الحصول على أكبر قدر من الأشياء الجيدة، وأقل ما يمكن من تلك السيئة؟
دعوني أضع كإشارة مرجعية دولة محدودة تركز على حماية الحريات الأساسية، بما فيها تلك الاقتصادية. فإذا كانت هذه الدولة ديمقراطية، عندها تكون عملية سيادة الأغلبية محددة بتلك الحريات، التي تفترض مسبقاً أنها—أي الحريات—مشمولة في دستور فعال. إن المتطلب المحدد الذي ركزت عليه الدولة المتمثل في حماية الحريات الأساسية يتضمن أنها لا تستطيع التوسع في الأشكال والتوجيهات التي تحد من هذه الحريات، لذا يجب أن تكون تلك الأشكال والتوجيهات محددة.[9] على أية حال، فإن الدولة المحدودة فاعلة في مهامها الدستورية المتمثلة في حماية الحريات الأساسية للأفراد ضد تدخلات الغير.
ويوجد العديد من الدول التي يمكن أن تمثل على نحو أكثر أو أقل الابتعاد الجذري عن هذا الأنموذج. وأركز هنا على ثلاث فئات عريضة: (1) الدولة الممتدة شبه الليبرالية، (2) الدولة الممتدة غير الليبرالية؛ (3) الدولة الممتدة المناهضة لليبرالية (الشيوعية).
ففي الحالة الأولى، تشتمل التوسعات على مجموعات مختلفة من التنظيم وإعادة التوزيع، والتي تنطوي على فقدان جزء من الحرية الاقتصادية دون التقليل من شأنها، على أية حال. لهذا السبب أطلق على هذا الأنموذج عبارة شبه الليبرالي. إن الحرية الاقتصادية المقيدة محمية بشكل جيد منطقياً بواسطة النظام القضائي.
وفي نظام الدولة الممتدة غير الليبرالية، تكون الحرية الاقتصادية مقيدة بواسطة تنظيمات أكثر من الحالة السابقة، غير أن الاستثمار الخاص غير محظور. ولكن التحويلات الاجتماعية في المقابل أقل. ومستوى حماية الدولة للحرية الاقتصادية المتبقية أدنى بكثير من تلك التي تمنحها الدول شبه الليبرالية.
وأخيراً، تكون المشاريع الاستثمارية الخاصة في الدولة الشيوعية محظورة، ويكون هذا الحظر فاعلاً بدرجة كبيرة بسبب صرامة تطبيقات الدولة. إن الحظر الفاعل لمشاريع الأعمال الخاصة يخلق فراغاً يجب تعبئته بواسطة الاقتصاد الذي تتولاه الدولة. ويجب على الدولة الشيوعية المناهضة لليبرالية بناء على ذلك أن تمتد بشكل هائل. وهذه حاجة وظيفية (بالسيروفيتش، 1995ب: 51-54). وفي المقابل، لا تحتاج إلى تضمين نظام خاص من التحويلات الاجتماعية الكبيرة، وبالفعل كانت في النموذج الماوي محدودة جداً.
لنستخدم الآن هذا الأنموذج لإبداء بعض الملاحظات حول تأثير القيود المختلفة للحرية الاقتصادية على النمو الاقتصادي طويل الأجل، وعملية اجتثاث الفقر ذات الصلة. توجد في أوقاتنا المعاصرة أمثلة قليلة حول الدولة المحدودة (كانت هونغ كونغ التقريب التجريبي الأقرب). وتشير الدلائل التاريخية بقوة إلى أن أنظمة السوق الليبرالية، والتي كانت فيها الدولة محدودة بواسطة القانون، أظهرت نمواً قياسياً جيداً جداً (رابوشكا 1985).
تقع جميع الاقتصادات المتقدمة في هذا التصنيف المتمثل في الدول الممتدة شبه الليبرالية، ولكنها تمثل مجموعات مختلفة من التنظيمات وإعادة التوزيع. كما تختلف أيضاً في كثافة الظواهر السلبية المختلفة. لنأخذ على سبيل المثال، البطالة طويلة الأجل، وعليك بطرح السؤال الأساسي: هل يمكن ربط مثل تلك البطالة بعملية السوق؟ أو بالأحرى، هل هما مرتبطان بالتدخلات العامة النموذجية بالدول الممتدة شبه الليبرالية؟ تحاول وجهة نظر إخفاق السوق أن توضح البطالة بالميل المزعوم من جانب أصحاب العمل لتحديد الأجور بمستوى أعلى من أجور السوق، مسببين بذلك البطالة (إيكرلوف 1982). على أية حال، لا تستطيع هذه النظرية توضيح سبب اختلاف مستويات البطالة طويلة الأجل عبر بلدان منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي. أما وجهة النظر الثانية، والتي تنتج فيها البطالة عن تدخلات الدولة (إي من إخفاق الحكومة)، فهي أكثر إقناعاً بكثير. وبالفعل، هناك كتب تجريبية واسعة النطاق تربط البطالة طويلة الأجل (ومستويات العمالة أيضاً) مع تلك الملامح البارزة للدولة الممتدة في الوقت الذي تعمل فيه كل من التأمينات ضد البطالة، والضرائب العالية (الناتجة عن التحويلات الاجتماعية الكبيرة)، وصرامة الأجور التي أنتجتها أنظمة المساومة الجماعية التي تم خلقها ببعض الدعم من جانب الدولة، والقيود القانونية، جميعها على إعاقة دخول الشركات وعمليات أسواق العمل، والإسكان، والمنتجات.
ينتمي الأشخاص العاطلون عن العمل لفترة طويلة إلى فئة الأشخاص المحرومين الذين يجب أن تكون لمصالحهم الأولوية وفقاً لراولز (1971). ومع ذلك، فإن ما يدعو إلى المفارقة هو أن التدخلات النموذجية لدولة الرفاه الممتدة شبه الليبرالية توسع حجم البطالة أيضاً. وأنا شخصياً لا أقول هنا أن أي عامل متغير للدولة ينتج بالضرورة بطالة طويلة الأجل. ولا يجب أن يكون ذلك صحيحاً بلا شك، كما أثبت ذلك الأداء الأخير لكل من بريطانيا العظمى، والولايات المتحدة، والدنمارك، وإيرلندا. وما يمكن أن يقال بهذا الصدد هو أن تخطّي حدود الدولة المحدودة (مثلاً إضعاف أو إلغاء الآليات التي تقيد توسع الدولة) يخلق مخاطر التدخلات إلى جانب تأثيرات مختلفة غير مرغوب فيها،[10] ودون تحقيق الأهداف المعلنة في الوقت ذاته.[11]
يوجد في معظم البلدان النامية نظام غير ليبرالي أو شبه ليبرالي، وتختلف على نطاق واسع في مدى الحرية الاقتصادية، وفي مستوى حماية الدولة لتلك الحرية. ولم ينته بعد الجدل حول أسباب الاختلافات في أداء النمو، بيد أنني اعتقد أنه لا يوجد شك بأن النطاق الأوسع للحرية الاقتصادية المحمية جيداً أمر جيد للنمو، في حين أن القيود التي تفرضها الدولة على تلك الحرية تنتج عواقب كارثية (أنظر سكولي 1992، هانكي وولترز 1997، كيفير وناك 1997، دولار وكراي 2000). وفي العالم النامي لا يوجد تعاقب بين الحرية الاقتصادية والازدهار—إن التضحية بالحرية يعني التضحية بالازدهار. ونفس النتيجة يمكن سحبها من خبرة الاقتصادات الانتقالية (بالسيروفيتش 2002).
وقد حققت مجموعة من الاقتصادات النامية في شرق آسيا نمواً اقتصادياً سريعاً استثنائياً، وتوفر تلك أرضية اختبار إزاء الفرضيات المتنوعة حول الدور ذي العلاقة بالدولة والسوق. فهل يمكن توضيح هذه الاقتصادات المعجزة بوجود تدخلات خاصة نوعاً ما من جانب الدولة غير الليبرالية (مثلاً الائتمان الموجه، والتحول الصناعي الذي تقوده الدولة)؟ إن وجهة النظر هذه يمكن دحضها بسهولة. حيث اختلفت الأنظمة “المعجزة” من حيث نطاق تلك التدخلات. ولكنها تملك أمراً واحداً مشتركاً—تراكم استثنائي للأساسيات الاقتصادية المتمثلة بالدولة المحدودة: اقتصاد مفتوح نسبياً، مستوى ضرائب متدنٍ، ومشاريع ريادية خاصة (بالسيروفيتش 1995أ: 26-27؛ للحصول على النتائج التجريبية أنظر كويبريا 2002).
أما وجهة النظر الماركسية بأن الملكية الخاصة والأسواق الحرة هي بمثابة عوائق أمام التطور الاقتصادي، فقد عملت الخبرة على دحضها بقساوة. فلا توجد حالة واحدة تمثل اقتصاداً بعيداً عن السوق تهيمن عليه الدولة تبين أنه قد حقق نجاحاً. فالتضحية الأكبر بالحرية أدت إلى تضحية كبيرة بالازدهار. وبإمكان المرء أن يتساءل كيف يستطيع هذا العدد الكبير من الاقتصاديين دعم مزاعم قابلية الاقتصاد على النمو، أو حتى تفوُّق الاشتراكية، وبغض النظر عن التحذيرات الآتية من جانب ميزس وهايك.[12]
وقمت بالتركيز على الروابط بين القيود على الحرية الاقتصادية وبعض نواحي الأداء الاقتصادي. وعلى أية حال، هناك بعض المتغيرات الأخرى المهمة، مثل حجم الجريمة والفساد والتهرب الضريبي، فضلاً عن حجم اقتصاد الظل. فكيف تتعلق هذه المتغيرات بنوع الدولة؟
دعونا نلتفت إلى فكرة الجرائم الأساسية، بصفتها تصنيف للأفعال المعلن أنها جرائم في كل مجتمع حديث (القتل، والاعتداء، والسرقة، والاغتصاب). إن توسيع الدولة يميل إلى خلق قائمة من الجرائم الثانوية (فريدمان [ميلتون] وفريدمان [روز] 1984: 136). إن القيود التي تحظر توريد سلعة معينة عليها طلب كبير لا تعمل على إحداث جرائم ثانوية فحسب، إنما يعمل بعضها أيضاً على تحفيز جرائم أساسية (مثلاً أفراد العصابات الذين يقتلون بعضهم البعض وأفراد الشرطة). وتُعتبر قوانين المنع في الولايات المتحدة خلال أعوام العشرينيات حالة مذهلة بهذا الصدد. إذ عملت التحويلات الاجتماعية المتزايدة، والتي كانت السبب الرئيسي لانفجار الإنفاق العام في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، على زيادة الضرائب، وزادت من نطاق الجرائم المرتبطة بالضرائب، وخلقت اقتصاد الظل.
ومثلت الشيوعية حالة متطرفة من تجريم النشاط الإنساني: إذ أُعلن أن أي نشاط تجاري خاص يعتبر جريمة كبرى، وتم تجريم النشاط السياسي المستقل أيضاً.[13]
تبين الحالة الشيوعية بطريقة جذرية أن تطبيق القانون ليس قيمة بحد ذاته. إن السؤال المطروح هنا—هل هو تطبيق (حماية) الحريات الأساسية أم تطبيق القيود على تلك الحريات؟ وإضافة إلى السؤال الأخلاقي حول محتوى القانون وقيمة تطبيقه، هناك مشكلة تتمثل في أن النظام القضائي المثقل، وتطبيق قيود لا حصر لها على الحرية الاقتصادية لن يكون كلاهما قادراً على منع زيادة تدهور الحريات الاقتصادية.
فالدولة المحدودة لا تعطي الأفراد النطاق الأوسع المحتمل للحرية الاقتصادية فحسب، إنما أيضاً تكون قادرة على حماية تلك الحرية بشكل أفضل من دولة عالية التنظيم.
لنتجه الآن للحديث عن الفساد. لقد ربطت الأبحاث التجريبية الشاملة نطاق الفساد لمجموعة متنوعة من العوامل تميز على الأقل بعض أنواع الدول الممتدة: التنظيمات المقيدة وسلطة السياسيين والبيروقراطيين العامين الاستنسابية ذات الصلة، والعبء الكبير للضرائب الاسمية، والنطاق الكبير للمشتريات العامة (أنظر روز-إيكرمان 1999، تانزي 1998، ودجانكوف وآخرون 2002). والعامل الوحيد الأكثر أهمية هو على الأرجح نطاق التنظيمات المقيدة والقرارات الإدارية، والتي يمكن أن تكون نتاج السياسيين الشعبيين (أو الفاسدين)، ومرتبطة بالاستنسابية العالية التي تتمتع بها الإدارة العامة. إن ما يحد الحرية الاقتصادية بشكل خاص وبالتالي يضر بالنمو هو ما يعتبر في الوقت ذاته مفضياً إلى الفساد.[14]
إن العلاقة بين الضرائب والفساد أكثر تعقيداً. إذ أن أعباء الضريبة الاسمية والفعالة يمكن أن تتعايش مع مستوى متدنٍ نسبياً من الفساد إذا كان العبء التنظيمي خفيفاً والاستنسابية البيروقراطية محدودة. وتوضح البلدان الاسكندنافية على نحو أفضل هذه العلاقة. وعلى أية حال، فإن رفع الضرائب من المستويات العالية فعلياً يمكن أن يخلق على المدى الطويل خطر التآمر المفسد بين بعض مسؤولي الضرائب، وعدد من دافعي تلك الضرائب. إضافة إلى ذلك، تميل الضرائب الاسمية العالية إلى إحداث تهرب ضريبي معتبر، وينبع ذلك جزئياً من النشاط غير المسجل المنتمي إلى اقتصاد الظل (شنايدر وإينستي 2000: 77-114). وأخيراً، فإن التحويلات الاجتماعية الشاملة الكامنة خلف العبء الضريبي الكبير، تميل إلى إحداث، إما منفردة، أو بشكل مشترك مع هذا العبء، تطورات متنوعة غير مفضلة مثل كمية العمل المنخفضة، وادخارات خاصة أدنى، وسوء استعمال الأموال العامة من قبل المستفيدين، وثقافة الاعتماد (نيسكانين 1996، هانسن 1997، أرسيا 2000).
وفي حين أن الضرائب الاسمية العالية والفعالة يمكن أن تكون مرتبطة مع المستوى المتدني نسبياً للفساد، فإن العبء الضريبي الفعال الذي يكون أدنى من ذلك الاسمي يرتبط بشدة بالفساد الشامل. وسبب ذلك الأمر بسيطاً جداً: إن الضرائب الفعالة أدنى لأن دفعات الرشوة إلى مسؤولي الضرائب (وربما لمن يناصرونهم) تحل جزئياً محل دفعات الضرائب. إضافة إلى ذلك، فإن المسؤولين المكلفين بالتنظيمات يطالبون بمزيد من الرشاوى. وبناء عليه، فإن الدولة التنظيمية والاستنسابية بدرجة عالية تميل إلى إنتاج عبء ضريبي متدني الفعالية، ودفعات رشاوى كبيرة.[15] ومن أجل ذلك السبب لا ينبغي أن تكون الضرائب الفعالة المتدنية مرتبطة بقوة بالنمو الاقتصادي السريع. إن ما يهم بالنسبة للنمو، ليس العبء الضريبي الفعال فقط، إنما أيضاً مبلغ الضرائب والرشاوى المدفوعة على نحو فاعل. إن تركيبة هذا المبلغ تختلف بحدة عبر أنظمة الدول المختلفة، ويمكن أن تخدم كمؤشر لطبيعتها. دعوني ألخص هذا القسم بالنقاط التالية:
 من الصعب تبرير القيود على الحرية الاقتصادية الفردية بواسطة الأداء الاقتصادي المحسن. ويبدو أن العكس هو الصحيح: كلما كان التوسع جذرياً أكثر، كان الضرر الاقتصادي الذي ينتجه أكبر. والتضحيات الكبيرة بالحرية الاقتصادية تجلب خسائر كبيرة في الازدهار. وهذا الأمر صحيحاً بدرجة تتعدى حدود الشك في الدول الشيوعية وأيضاً في الأنظمة غير الليبرالية للعديد من البلدان النامية. إن واحداً من الملامح الرئيسية لهذه الأنظمة هو الإفراط بالتنظيم بطبيعة سلبية (دجانكوف وآخرون 2002). إن السؤال المناسب الذي يجب طرحه هو كيفية إعادة هيكلة هذه الدول بحيث تتوقف عن توليد الفقر، وعدم المساواة، والفساد. وحتى في حالة الأنظمة شبه الليبرالية النموذجية بالغرب، فإن البطالة طويلة الأجل، وهي مرض اجتماعي خطير، ترتبط بتدخلات الدولة المتنوعة.
 يمكن أيضاً ربط الأشكال المتنوعة لتوسع الدولة بنسبة الأفعال التي يمارسها الفرد والتي أُعلن أنها أفعال إجرامية، وبالفساد، وبالتهرب الضريبي، وباقتصاد الظل.
 يمكن أن تسبب التنظيمات المقيدة ضرراً أكبر من إعادة التوزيع. إذ أن التنظيمات الشاملة تنتج بالضرورة شللاً اقتصادياً وفساداً واسع الانتشار. كما يمكنها أيضاً أن تضعف إجراءات حماية الدولة لتلك الحريات الاقتصادية التي ما تزال باقية. وبعيداً عن المسائل الأخلاقية، بإمكان المرء أن يقول أن الحد العقلاني لإعادة التوزيع تحدده صحة المتطلبات المالية، وبالمعرفة أن دفعات التحويل الحكومية يمكن أن تقلل كمية العمالة. وتشير الأخيرة إلى أنه، على سبيل المثال، من الأفضل إنفاق مبلغ معين على التعليم الأساسي، بدلاً من التأمين ضد البطالة.
 إن الانحرافات العديدة عن الدولة المحدودة تعمل على زيادة عدد الأشخاص المحرومين لأن الحكومة المفرطة تنتج الفقر، والبطالة طويلة الأمد. إن المؤمنين بمبدأ راولز، والذي يفيد بأن مصالح مثل أولئك الأشخاص يجب أن تكون لها الأولوية، يجب أن يكونوا مرهقين من الدول الممتدة.
هل يملأ توسع الدولة الفجوة أم يعمل على حشد الأنشطة غير المتعلقة بالدولة؟
يمكن مقابلة هذه النقاط المهمة المتعلقة بتوسع أنشطة الدولة باعتراضين مرتبطين:
1- كان التوسع لتلبية حاجة؛ لذا فهو مبرر إلى حد ما. فعلى سبيل المثال، يدعي ريتشارد ماسغريف (2000: 231) أن “تراجع الروابط العائلية، وتقلب دورة الأعمال، والسوق المتغيرة” خلقت “حاجة متنامية لمؤسسات جديدة تقدم الدعم”، وبناء عليه كانت “نهضة القطاع العام استجابة لهذه العوامل وليس بسبب عامل المبادرة”.
2- بدون تدخل الدولة، كان سيوجد فراغ؛ ولن تتم تلبية حاجات معينة، وسيكون الناس أسوأ حالاً.
تتعلق النقطة الأولى بأسباب توسع الدولة، والثانية بتأثيرات هذا التوسع. وتتمثل المشكلة في النقطة الأولى في أنه حتى بوجود مثل هذا المفهوم المرن وهو “الحاجة”، إلا أنه سيكون منافياً للعقل تفسير أشكال أكثر جذرية من الدولة المتوسعة، مثل الشيوعية، أو دكتاتورية موبوتو. وعلى أية حال، فإن نظرية الحاجة لتوسع الدولة هي أيضاً مسببة للمشاكل فيما يتعلق بالانتقال من الأنظمة المحدودة إلى شبه الليبرالية. حاجات مَن هي التي مِن المفروض القوة الدافعة، وكيف يمكننا قياسها؟ وكيف يستطيع المرء أن يربط النمو غير المتساوي للأنظمة والتحويلات بالحاجات؟ من المذهل أن التحويلات الاجتماعية في البلدان المتقدمة لم تنمُ تدريجياً إنما انفجرت خلال فترات قصيرة معينة (تانزي وسكوكنيكت 1997). كما تتميز أنواع معينة من التنظيمات بصدمات ديناميكية مماثلة، على الأخص تلك التنظيمات المتعلقة بالنظام المالي (ألن وغيل 2000). وما يثير الشك هو أن أي مفهوم منطقي للحاجات يمكنه أن يفسر ذلك النمط من نمو التحويلات والأنظمة. إن نظرية الحاجة لتوسع الدولة هو محاولة غير مقنعة لتفسير هذه الحقيقة بالعودة إلى المفاهيم النفسية الزائفة أو الأسواق الزائفة. وفي أسوأ الأحوال، فهي لا تتعدى حدود الاعتذار لوجود دولة ممتدة.
والنقطة الثانية بأنه بدون تدخل الدولة ستكون هناك “فجوة” تجعل الناس أسوأ حالاً، تمثل اتجاهاً سائداً لمنهج اقتصاديات الرفاه نحو مسألة النطاق الأمثل لنشاط الدولة. لقد ناقشت سابقاً مشاكل التطبيقات العملية للمفاهيم النظرية للسلع العامة والتأثيرات الخارجية. وأضيف نقطتين هنا. الأولى هي أن النشاط غير المتعلق بالدولة لا يمكن تخفيضه إلى عمليات السوق الموجهة للربح. كما أنه يشتمل على تدابير مساعدة ذاتية أو متبادلة. وكل من عمليات السوق الموجهة للربح وتدابير المساعدة المتبادلة تنطوي على تعاون اختياري. وبناء عليه، حتى لو استطاع المرء أن يثبت أن السوق لا يستطيع أداء وظيفة مفيدة معينة، فلا يعني ذلك بالضرورة أنه ينبغي على الدولة أن تؤدي هذه الوظيفة.
ثانياً، يقيد توسع الدولة نطاق التجربة المؤسسية (هايك 1960). ويتفق علماء الاقتصاد على أن توسع الدولة ينتج تأثيرات حدية محتشدة في الحالات الأقل تطرفاً، ناهيك عن الذكر الأنظمة المناهضة لليبرالية أو غير الليبرالية. لنأخذ ضوابط الأسعار على سبيل المثال، والتي تؤدي إلى نقص وترشيد في السلع. إن هذا يمثل تدخلاً عاماً أولياً. فإذا كان معدل العائد الناتج أقل من الحد الذي يتوقعه المستثمرون من القطاع الخاص، فإن الاستثمارات العامة ستملأ الفجوة. ويمثل هذا تدخلاً ثانياً. لا يسبق وجود الفجوة تدخل القطاع العام، إنه يخلقها. والمثال النموذجي بهذا الصدد هو الإسكان، حيث تولِّد الضوابط على الإيجار الإسكان “الاجتماعي”.
وبشكل عام، بإمكان المرء تخطيط نموذج بسيط من نشاط الدولة الممتد ذاتياً والذي يبدأ بتدخل أولي ناتج عن التفاعلات المختلفة للضغوطات السياسية المتعلقة بأيديولوجيات المنادين بالدولة ومجموعات المصالح. وحالما يتم إدخاله، فغالباً ما يؤدي هذا التدخل إلى تدخلات أخرى ثانوية بسبب الحاجات الوظيفية—أي الضغوطات العاملة بغض النظر عن النوايا المسبقة لصناع القرار. على سبيل المثال، إذا ألغى التدخل الأولي ربحية استثمارات القطاع الخاص في الإسكان، ولكن ما زالت هناك حاجة للمساكن، فإن الاستثمار العام في الإسكان سيكون ضرورياً.
وهذا المخطَّط البسيط يمكن أن يساعد في توضيح احتشاد نشاط القطاع الخاص في هذه المجالات التي تأخذ فيها الاقتصاديات التقليدية عادة مسألة حضور الدولة أمراً مسلماً به بسبب “عيوب السوق”. لنأخذ التعليم على سبيل المثال. قبل إدخال التعليم “المجاني” والإلزامي في المدارس العامة، كان لكل من انجلترا، وويلز، والولايات المتحدة شبكة كثيفة من المدارس الابتدائية التي تعتمد على دفع الرسوم، بتمويل من أولياء الأمور العاملين والكنيسة. وكانت نسبة صافي الدخل القومي الذي ينفق على يوم مدرسي للأطفال من كافة الأعمار في إنجلترا في عام 1833 قرابة واحد في المائة. بحلول عام 1920، عندما أصبح التعليم “مجانياً” وإلزامياً، انخفضت النسبة إلى 0.7 في المائة (ويست 1991). فالمدارس العامة “المجانية” (بتمويل من الضريبة)، التقطت الحاجة إلى التعليم، ونتيجة لذلك، انهارت إمدادات الخدمات التعليمية المدفوعة الرسوم غير المتعلقة بالدولة. وهذا الالتقاط للطلب حجب أيضاً التطورات التعليمية المبتكرة غير المتعلقة بالدولة.
ويؤكد إدوين ويست (1991) أنه “باستثناء ماركس وإنجلز، كان الاقتصاديون السياسيون حتى منتصف القرن التاسع عشر يفضلون توفير التعليم في سوق حرة خاصة،” لأنهم نظروا إلى دفع الرسوم على أنه “الأداة الوحيدة التي بواسطتها يستطيع أولياء الأمور المحافظة على المنافسة المرغوبة بين المعلمين والمدارس النشطة”. وأوصى جون ستيوارت ميل بإجراء الامتحانات الإلزامية ولكن ليس التعليم الإلزامي.
أو لنأخذ في الاعتبار المخاطر الفردية مثل البطالة. إن مثل تلك الأحداث غالباً ما يتم تقديمها على أنها السبب المنطقي للتأمين “الاجتماعي” الممول من الدولة. وعادة ما يعزز هذا الإدعاء الإشارة إلى العيوب التي تشوب أسواق رأس المال. وعلى أية حال، فإن الخطوة الأولية هي تقليل جميع تلك المخاطر المختلفة الشاملة التي لا تنتجها الطبيعة. إن المخاطر المختلفة الشاملة تولدها سياسات الدولة الممتدة التي تجلب الأزمات المالية، والتضخم عالي المستوى، ونسبة البطالة العالية. إن منع مثل تلك السياسات، بوساطة الانتقال من الدولة الممتدة إلى الدولة المحدودة، يمثل التأمين الاجتماعي الأمثل والذي لا غنى عنه.[16]
علاوة على ذلك، فإن مثل ذلك الإصلاح سيعمل على تسريع نمو الدخول الفردية والادخارات، ويعزز بناء عليه قدرة الأشخاص على التأقلم مع المخاطر المتنوعة. إضافة إلى ذلك، تظهر الدراسات التجريبية وجود مجموعة “استراتيجيات تأقلم” غير رسمية في البلدان الفقيرة (مثلاً التبادل العكسي للهدايا والقروض والحوالات من أفراد الأسرة المهاجرين)، واحتمال كبير على نحو مدهش لمزيد من التدابير المعاصرة غير المتعلقة بالدولة التي تشجع الادخار وتقدم الضمان والقروض الصغيرة (موردوخ 1999). وكانت هيئات التأمين الطوعية تنتشر في البلدان الغربية إلى حين إدخال التأمين الاجتماعي الإلزامي. على سبيل المثال، كانت العضوية المسجلة للجمعيات الودية 2.8 مليون في عام 1877، و4.8 مليون في عام 1897، و6.6 مليون في عام 1910 (غريف 1985). وقد تم التأكيد أن “البرامج التي تديرها الحكومة مباشرة تميل إلى أن تنطوي على صعوبات ملازمة في توليد الامتثال من جانب المشاركين”، وأن “هذا برهن أنه كارثياً على الاستدامة طويلة الأجل لبرامج الائتمان العامة” (موردوخ 1999: 210).
إن توسيع التأمين الاجتماعي الممول من الدولة يمكن أن يحشد تدابير تقليدية، ويمنع تطور اتفاقات أكثر حداثة. وتم الإقرار بصراحة بهذا الخطر في تقرير حديث للبنك الدولي (2002: 24): “إن المنافسة من جانب الحكومة في توفير التحويلات الاجتماعية يمكن أن تدفع بالاتفاقات المؤسسية للقطاع الخاص بعيداً… والتي يمكن توجيهها على نحو أكثر فاعلية نحو الفقراء بدلاً من المساعدة الاجتماعية سهلة المنال (العامة)” وهذا ما حدث فعلياً في الغرب بسبب نهضة دولة الرفاه.
إن التحويلات الاجتماعية المفروضة من الدولة يمكن أن يلتقطها جزئياً أولئك الأفضل حالاً، ويمكن أن تحشد التدابير الطوعية التي تفيد الفقراء. ونتيجة لذلك، فمن الممكن تخيل أن برامج التحويلات التي تديرها الدولة في البلدان الفقيرة يمكن أن تجعل مشكلة الفقراء أسوأ. وفي مثل تلك الحالة، فإن دولة الرفاه تدفع مجتمع الرفاه بعيداً. وينبغي أن يتذكر المرء أن الإنفاق الاجتماعي المتزايد الممول من الضرائب قد يعيق النمو الاقتصادي وخلق الوظائف ذات العلاقة.[17]
وفي النهاية، فإن نمو التنظيمات المالية تفسر بوضوح كيف تؤدي التدخلات الأولية إلى تدخلات ثانية، وتخلق بذلك جرعة كبيرة من تنظيمات الدولة، والتي أفضليتها مفتوحة للنقاش. إن دور التدخلات الأولية يمكن أن ينسب إلى تأمين الإيداع الوفير الذي ألغى إلى حد كبير نظام السوق (أي حافز المودعين لمراقبة البنوك فيما يتعلق بمستوى رأس مالهم، وطلب الإفصاح الكامل). إن الفجوة التي تم خلقها ولدّت موجة من التنظيمات الثانوية، مثل نسب ملائمة رأس المال الحساسة للمخاطر، وتقييد المحفظة المالية للبنوك واستخدام الديون الثانوية كأداة مراقبة (باتاشاريا وآخرون 1998، دود 1996، بينستون وكوفمان 1996). وهذه الأنظمة الحذرة هي من حيث المبدأ رد فعل عقلاني لحالة خلقها التدخل الأولي العام.
خـــــاتمة
لا يعطي الاقتصاد إجابة واضحة على السؤال ما الذي يجب على الدولة أن تفعل. والسبب التقريبي هو الصعوبة في تطبيق المفاهيم النظرية الأساسية، كتلك المتعلقة بالسلع العامة والتأثيرات الخارجية على العالم الحقيقي. والسبب الأعمق هو إغفال الحريات الاقتصادية الأساسية، بصفتها الإطار لتحديد حدود نشاط الدولة. وحتى في البلدان الغربية، فإن الموقع الفكري والمؤسساتي للحرية الاقتصادية تمت إزالته بشكل خطير خلال القرن العشرين، مما مهد الطريق أمام الدولة الممتدة.
إن توسع نشاط الدولة—أي نمو القيود المفروضة من الدولة على الحرية الاقتصادية—من الصعب تبريره من قبل الأداء الاقتصادي المحسن. ويبدو أن العكس هو الصحيح: كلما كان التوسع أكثر جذرية، كان الضرر الاقتصادي أكبر. ويمكن ربط الأشكال المتنوعة لتوسع الدولة بالفساد، والتهرب الضريبي، واقتصاد الظل، وضعف حماية الدولة للحرية الاقتصادية المتبقية. وتميل الانحرافات العديدة عن الدولة الممتدة إلى زيادة حصة الأشخاص الأكثر حرماناً، مثل البطالة طويلة الأجل.
ويجب أن لا يؤخذ كأمر مسلم به بأنه إذا بقيت الدولة محدودة (أي تركز على حماية الحريات الأساسية) فإنه لن يتم توفير خدمات معينة، وسيكون الناس أسوأ حالاً. إن احتمال التعاون الاختياري، والذي يتضمن كل من عمليات السوق الموجهة إلى الربح وتدابير المساعدة المتبادلة، يجب أن لا يتم التقليل من شأنه. كما توجد استراتيجيات تأقلم فردية متنوعة. وفي الواقع، فإن توسع الدولة يمكن أن يدفع الأنشطة غير المتعلقة بالدولة بعيداً، ويمنع تطور تدابير جديدة، وربما مفيدة للقطاع الخاص. ويوجد بناء على ذلك، دافع قوي للاعتراف بأن الدولة المحدودة هي الدولة الأمثل.
لقد شهدت العشرون عاماً الماضية ميلاً للتحرك بعيداً عن الدول الممتدة باتجاه دول أكثر تحديداً. ويبين ذلك أن مهمة تحديد نطاق نشاط الدولة، وبالتالي تحرير التعاون الاختياري المحتمل والمبادرات الفردية ليس مستحيلاً، رغم أن الانتقال ما زال بعيداً عن الاكتمال ومحفوفاً بالصعوبات. وسيكون هناك دوماً بعض الأشخاص ممن يرون منافع (تتعلق بالنفوذ والريع الاقتصادي) في تحديد حرية الأشخاص الآخرين. وسيكون هناك بعض الأيديولوجيين ممن يربطون القيمة العاطفية مع سلطة الدولة، أو عدم الثقة بالتعاون الاختياري.
ويجب على المرء أن يستغل كل لحظة ممكنة لتثبيت وجود رؤية لدولة مقيدة بواسطة إطار الحريات المختلفة الأساسية ضمن دستور فعال. وهناك محددات أخرى على استنسابية الدولة تعمل على تفويض الدفاع عن الحرية الفردية. ويمكن أن تساعد القيود المالية المؤسسية في الحد من النمو في الإنفاق العام، وبناء عليه من الضرائب. وتمنع استقلالية البنك المركزي العودة إلى التمويل التضخمي لعجز الميزانية، وتحمي بذلك الأفراد من فرض ضرائب التضخم. وتحد العضوية في منظمة التجارة العالمية استغلال البلدان للإجراءات الحمائية، وتساعد على حماية المستهلكين ودافعي الضرائب المحليين. يجب إدخال، أو تعزيز هذه الدفاعات، وكذلك دفاعات الخط الثاني.
ملاحظات:
[1] أنا شخصياً أركز على كتاب ستيجليتز (1988) حيث أنه يمثل النوعية الأفضل ضمن هذا المنهج. أما الكتابات الأخرى فسوف تثير معارضة أكثر.
[2] يستخدم سين مصطلح “الحرية” في معناها الكلاسيكي، أي الحريات الأساسية. وفي أقسام أخرى من كتابه، يعيد سين تشكيل معنى هذا المصطلح بطريقة تشمل السلع الأخرى. وهذا الاستخدام الموسع يحجب معنى الحرية.
[3] تعتبر هذه تعريفات للقيود على الحرية الاقتصادية، وليس البيانات الأساسية حول أي القيود (إذا وجدت) تعتبر مبررة. للحصول على المزيد حول ما يشكل القيود أو التدخلات.
[4] غليسر وشلايفر (2003) يجادلان بالقول أن التنظيم المتزايد لقطاع الأعمال في الولايات المتحدة في بداية القرن العشرين ربما كانت “رداً فاعلاً” على تدمير العدالة في المحاكم بواسطة الشركات الكبيرة التي برزت حديثاً. إن مسألة ما إذا كانت المحاكم أكثر سهولة في التدمير من المُشرِّعين والمُنظِّمين هي مسألة تجريبية مخادعة. وحتى لو بدا انه خلال فترة ما كانت المحاكم “مأسورة” من قبل الشركات الكبيرة، فليس من المؤكد أن الاستراتيجية الأفضل هي سن تشريع تنظيمي معين، وخلق هيئات تنظيمية خاصة بدلاً من تعزيز المحاكم التي تعمل ضمن إطار تشريعي أكثر عمومية. وأنا شخصياً افترض أنه في ضوء التوسع التنظيمي، وحل التنظيم اللاحق، فعلى الأرجح أن يوافق حتى المؤيدين للرد التنظيمي على أن وجود إجراءات وقاية دستورية أقوى تحمي الحرية الاقتصادية سيكون مناسباً. وفي ملاحظة اكثر عمومية، أرغب في أن اؤكد على أن مسألة المحاكم مقابل المنظمين هي مسألة ثانوية في الإجابة على التساؤل حول ما يجب أن تكون عليه الحدود على الحرية الاقتصادية، أو ما هي العوامل التي يجب أن تتجاوز حقوق الملكية.
[5] يشير هولمز وسنستين (1999) إلى أن كلا النوعين من الحقوق ينطويان على تكلفة مالية، وبناء عليه، فإن التمييز بين حقوق الحرية وحقوق الرفاه الاجتماعي ليس أساسياً. على أية حال، لا أحد ينكر أن حماية الحريات الفردية تقتضي بعض الإنفاق على الشرطة والمحاكم، لذا فإنه بالكاد يعتبر اكتشافاً. والفرق الأساسي بين حقوق الحرية وحقوق الرفاه الاجتماعي يكمن في مكان آخر. ففي الحالة الأولى تستعمل

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

اعترف الجنرال جون أبي زيد، قائد القيادة المركزية أمام الكونغرس بأن “العراق يمكن أن يتوجه نحو حرب أهلية”. وأضاف أن تأمين بغداد هو الأولوية الرئيسية للولايات المتحدة، وأن العنف فيها هو من السوء أكثر من أي وقت مضى. وقد صرح السناتور كريستوفر دود وتشال هيجل، الأول ديمقراطي عن كنيتيكت، والثاني جمهوري عن نبراسكا، بأنهما يعتقدان بأن الحرب الأهلية قد بدأت بالفعل. وفي غمرة الإصابات المدنية المتصاعدة، قال قادة أمريكيون آخرون بأنه يتوجب بقاء القوات الأمريكية في العراق حتى عام 2016 على أقل تقدير. لماذا يريد أي أحدٍ أن يبقي القوات الأمريكية في مثل هذه الأجواء لعقد إضافي آخر، ليكون حَكَماً على ثأر دموي متصاعد بين السنة والشيعة؟
لنكن واضحين حول ماذا يعني البقاء في العراق حتى عام 2016. لقد توفي أكثر من 2550 جندياً أمريكياً في صراع العراق [حتى بداية آب المنصرم]—وهو معدل يزيد قليلاً عن 800 قتيل في السنة. فإذا لم يخفّ هذا المعدل—وليس هنالك أي دليل على أنه سوف ينقص—فسوف تكون النتيجة موت 8000 أمريكي آخر بحلول عام 2016. في تلك الآونة، تكون الوفيات الأمريكية في العراق قد فاقت عدد موتى الاتحاد السوفييتي في مغامرته الفاشلة في احتلال أفغانستان في عقد 1980.
الكلفة المالية سوف تكون صاعقة كذلك. فوفق دائرة خدمة الأبحاث التابعة للكونغرس، بلغت كلفة حملة العراق حتى منتصف حزيران المنصرم أكثر من 319 بليون دولار، والعدّاد الآن يجري بوتيرة 80 بليون دولار سنوياً. عقد آخر في العراق يعني 800 بليون إضافي من أموال دافعي الضرائب تذهب هدراً، وبالتالي ترفع مجموع كلفة واشنطن لتدخلها الخليجي إلى أكثر من تريليون.
حتى أولئك الذين يحاججون بأن تضحية هائلة يجب تحملها، لجعل العراق أمثولة للديمقراطية، وتحويل الشرق الأوسط إلى منطقة سلام واستقرار، عليهم أن يعيدوا النظر في آرائهم، في ضوء الحقائق البازغة. تقرير صدر مؤخراً عن الأمم المتحدة، يعطي الأنباء الكئيبة، بأن أكثر من 14000 ألف مدني عراقي قد ماتوا نتيجة العنف، في الأشهر الستة الأولى لعام 2006، معظمهم نتيجة هجمات التمرد أو الاقتتال الطائفي. والتوجه البادي هو أكثر مدعاة للقلق. كان عدد القتلى في كانون الثاني 1778؛ وفي حزيران 3149. وبعبارة أخرى، فإن المذابح تجري الآن بمعدل 100 ضحية كل يوم.
يجب أن نتذكر، بأن هذا يحدث في بلد عدد سكانه لا يتجاوز 27 مليون نسمة. معدل مواز بالنسبة للولايات المتحدة هو رقم مفزع يبلغ 1200 قتيل يومياً (438000 سنوياً). لو كان العنف السياسي يحصد ذلك العدد الكبير من الأرواح الأمريكية، فلن يكون هنالك أدنى نقاش حول ما إذا كانت الولايات المتحدة تعاني من حرب أهلية.
لقد حان الوقت—بل فات الوقت كثيرا—لوضع استراتيجية خروج لجميع القوات الأمريكية من العراق. لا يوجد شخص عاقل يفكر بالاحتفاظ بوجود عسكري في العراق لعقد آخر.
إن معارضي الانسحاب يقولون بأن الانسحاب سوف يترك العراق في الفوضى. قد يحدث ذلك، بيد أن دعاة البقاء لا يفسرون لنا كيف يمكن للولايات المتحدة أن تمنع الأطراف المتصارعة في العراق من خوض حرب أهلية قد بدأوها على ما يبدو. وعلى الأقل، لم يشرح أحد، كيف يمكن للولايات المتحدة المحافظة على السلام هناك بكلفة معقولة نسبياً بالدم والمال. ففي الأيام الأولى للحرب، كان دعاتها يفترضون بأن الولايات المتحدة لن تخسر أكثر من بضع مئات القتلى، كما أكّد بول وولفويتز نائب وزير الدفاع أمام الكونغرس، بأن عائدات البترول العراقي سوف تتحمل معظم نفقات الحملة.
ومع ذلك، فإن دعاة البقاء والصمود يقولون بأنه مهما كانت العقبات العملية، فإننا نتحمل مسؤولية أدبية أمام الشعب العراقي بعدم الانسحاب، إلى أن يتم بناء ديمقراطية مستقرة في العراق. وإذا طرحنا جانباً الاحتمال الحقيقي جداً بأن الديمقراطية لن تتحقق أبداً، فإن ذلك القول يثير نقطة جوهرية هي: وماذا عن الالتزام الأدنى للحكومة الأمريكية تجاه جنودها أنفسهم، وتجاه الشعب الأمريكي؟ هنالك التزام واضح بعدم إضاعة المزيد من حياة الأمريكيين، أو ضرائبهم. إننا نفعل الإثنين معاً في العراق اليوم. البقاء على الخطة الحالية ليس استراتيجية أخلاقية؛ إنها تجسيد لاستراتيجية لا أخلاقية.
إبقاء جنودنا في مهاوي الخطر لعقد آخر، بينما ينزلق العراق أكثر فأكثر في حرب أهلية طائفية، هو سياسة لا يمكن أن تكون ذات جاذبية سوى للماسوشيين. نحن في حاجة إلى استراتيجية خروج تحسب بالأشهر لا بالسنوات.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 7 تشرين الأول 2006.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018