peshwazarabic

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

لم يكن العراق الحديث في أيّ وقت مضى أقرب إلى حرب أهلية مما هو عليه الآن. إن غياب دكتاتور عديم الرحمة قد جعل من الصعب حكم ثلاثة قطاعات متميّزة من السكان. لقد بدأ التوتّر في التكوّن، وإن وجود سبب مثير للنزاع فقط قد يكون نقطة التحوّل إلى صراع عنيف مع احتمال تخطيّه الحدود العراقية. إن إيران تشهد حالياً تفكّك عدوّ تاريخي قديم وتتحرك ببطء للاستفادة منه. ورغم ذلك، يبدو أن القوّة السياسية الإقليمية المتزايدة باستمرار لإيران قد أفلتت دون أن يتم اكتشافها.
عندما أطاح آية الله روح الله الخميني بشاه إيران في عام 1979 للانطلاق بجمهورية إيران الإسلامية، كان حلمه يتمثّل في توحيد العالم الإسلامي. ورغم ذلك، لم تكتسب هذه الفكرة زخماً لدى المسلمين في الاتجاه العام، وقد تلاشت في نهاية الأمر. وفي هذه الأيام، يجري إحياء هذا المفهوم، وقد تحسّنت فرص نجاحه.
لقد عمل تغيير النظام في العراق على إضعاف هوية القوميّين في الشرق الأوسط وعمل في الوقت ذاته على تعزيز الرابطة الدينية. لقد أصبح الآن لدى التحالفات الدينية القوة لاختراق الحدود السياسية. ومع غياب عراق قويّ، تحاول إيران أن تلعب الورقة الإسلامية على المستوى الإقليمي.
لقد قدّمت الانتخابات الأخيرة في كلّ من فلسطين ومصر والعراق بمجملها مظاهر مثيرة عن الحركات الإسلامية السياسيّة، وتقوم إيران حالياً بالاستفادة من ذلك لممارسة سلطة سياسية على العديد من الشعوب في الشرق الأوسط، وعلى الخصوص في الأماكن التي يكون فيها حجم السكان الشيعة كبيراً. ويبدو في الوقت الحاضر أن الأغلبية الشيعية في العراق هي على انسجام تام مع المسلمين في طهران. إنهم يقومون بسرعة بملء فراغ السلطة الذي تركه إقصاء صدام حسين وأتباعه السنّة. ويخشى البعض أن هيمنة الشيعة على السياسة العراقية في حقبة ما بعد الحرب يمكن أن تحوّل العراق الجديد إلى حكومة دينية إسلامية يتم تشكيلها وفقاً للنموذج الإيراني.
وبالنسبة للعرب، فقد كان يُنظر باستمرار إلى إيران بأنها بلاد فارس وأنها عدوّ تاريخي. لقد قاتل الجنود العراقيون، بمن فيهم الشيعة، بضراوة ضد إيران في الحرب الدامية التي استمرت من عام 1980 إلى عام 1988، حيث سقط عدد كبير من الضحايا على الجانبين. وقد تم اعتبارها كحرب قومية—العراق ضد إيران أو العرب ضد الفرس. وفي الوقت الحاضر، فقد تفتّتت الهوية القومية في العراق. إن معظم المواطنين العراقيين يربطون أنفسهم بإحدى المجموعات الرئيسية الثلاثة، وهي: السنّة، الأكراد، والشيعة. ومع وجود الشيعة حالياً في السلطة، تمارس إيران نفوذاً سياسياً جوهرياً في العراق.
وتقوم إيران أيضاً بتوسيع نفوذها ليمتد إلى ما وراء العراق نحو دول أخرى في الشرق الأوسط، فحزب الله، وهو المليشيا المسلّحة القويّة، والذي يوجد له تمثيل قويّ في البرلمان اللبناني، يتلقّى التوجيه السياسي من طهران. وفي الانتخابات اللبنانية التي جرت في شهر نيسان، أبعد حزب الله نفسه عن الاتجاه السياسي الذي كان يدعو القوات السورية إلى مغادرة لبنان، وقام بدلاً من ذلك بشنّ حملة دعائية لصالح الوجود السوري. إضافة إلى ذلك، فإن الروابط بين إيران وسوريا لم تكن في أيّ وقت مضى أفضل مما هي عليه حالياً. وقد كانت أوّل زيارة يقوم بها الرئيس أحمدي نجاد إلى الخارج كرئيس دولة إلى سوريا.
وبالنسبة لفلسطين، تلمّح إيران حالياً بأنها ستقوم بتعويض جزء كبير من الدعم المالي الذي قامت كل من الولايات المتحدة وأوروبا بإيقافه نتيجة للانتخابات الأخيرة التي جلبت حماس إلى السلطة. ولو حدث ذلك، فستكون هذه أوّل مرّة تتعاون فيها إيران الشيعية مع حماس السنيّة على مستوى رسمي—وبالتالي تتجاوز قاعدتها الشيعيّة الدينيّة التقليدية.
وفي منطقة الخليج العربي، حيث كان يتم معاملة الأقلية الشيعيّة تاريخياً كمواطنين من الدرجة الثانية، فإن صورة إيران تحقق غزواً واسعاً. ويتم حالياً إظهار الأعلام الإيرانية بشكل علني، كما أن العديد من البيوت تبرز صور الملاّت (الفقهاء). ويقوم بعض المواطنين بصفة متزايدة بالتعبير عن انتمائهم الشيعي، وأقل من ذلك عن هويتهم الوطنية.
وفي الوقت الحاضر، فإن العلاقة الأمريكية-الإيرانية تبلغ مستوى منخفضاً أكثر من أيّ وقت مضى. وبالتأكيد، فإن أحمدي نجاد هو أحد العوامل المساهمة في ذلك. وينشأ تفاؤل ضئيل من حقيقة أن فصيله الراديكالي مقيّد بالعناصر البراغماتية إلى حدّ ما الموجودة في النظام والتي تهيمن على البرلمان. ويشمل ذلك “المرشد الأعلى” آية الله خامينئي الذي يحتفظ بقوّة الفيتو (النقض) النهائي في الدولة.
ربما تكون الولايات المتحدة قد أضاعت فرصة ذهبيّة للوصول إلى إيران في وقت مبكّر في عهد إدارة بوش (الثالثة والأربعين)، عندما كان محمد خاتمي المعتدل يتولّى الرئاسة. إن غياب التعامل الديبلوماسي مقترناً بوضع إيران على قائمة محور الشرّ قد عزل إيران بشكل أكبر وسمح لسياساتها بالاستمرار دون ضبط.
يجب على الولايات المتحدة أن تعيد تقييم سياستها الخارجية. فهنالك حاجة إلى سياسات فاعلة لحماية المنطقة المتقلّبة. فإنه يجب أن يكون احتواء الرئيس الإيراني المتعصّب وجعل إيران خارج العراق ولبنان والخليج العربي والسلطة الفلسطينية هما السياسة الدافعة إلى الأمام. وكحدّ أدنى، يجب على الولايات المتحدة أن لا تسمح لإيران بأن تقوم بتصدير تفسيرها الثيوقراطي للحكومة الدينيّة خارج حدودها.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 6 نيسان 2006.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

عندما وصلْت إلى إسبانيا عام 1958، كان من الطبيعي هناك سماع الناس يقولون “إن الإسبانيين غير جاهزين للديمقراطية، وفي حال اختفى فرانكو ستحل الفوضى أو ربما ستندلع حرب أهلية.” وبالطبع فإن هذا لم يحدث، وسقطت الدكتاتورية ونجحت عملية الانتقال إلى الديموقراطية بطريقة تثير الإعجاب وتكاد تكون مثالية، ومنذ ذلك الحين والديمقراطية في إسبانيا ناجحة. لقد كان هناك إجماع بين القوى السياسية أدى إلى منح البلد استقراراً حيوياً مكّن الديموقراطية الإسبانية من مقاومة محاولات العصيان المسلح والانقلابات. ولا يستطيع أحد أن ينكر أن إسبانيا هي إحدى القصص السعيدة في العصور الحديثة حيث أن الغالبية الساحقة من الإسبان، ذات الإيمان السياسي الراسخ، كانت قادرة على التصرف بكياسة في وضع الأسس العامة لتمكين المؤسسات من أداء دورها ومنح الأمة القدرة على النمو.
لماذا لم يتوفر مثل هذا المناخ في أمريكا اللاتينية؟ ولماذا تكرر فشل محاولاتنا في التطوير والتحديث؟
أعتقد أن التنمية والتقدم الحضاري يجب أن تكونا متلازمتين ومترافقتين مع التطور في المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية وكذلك في المجالات الأخلاقية والسلوكية. إن الغالبية العظمى من الشعب في أمريكا اللاتينية تعاني من إنعدام الثقة الكاملة في المؤسسات، وهذا أحد أسباب فشل هذه المؤسسات. حيث لا يمكن للمؤسسات أن تزدهر في بلد لا يثق فيه الناس بها ولا يرون فيها أي ضمانة للأمن أو العدالة، بل العكس من ذلك.
دعوني أبوح لكم بحكاية شخصية: فبعد أن عشت مدة في بريطانيا، أدركت أن تحولاً عميقاً قد حصل لي. لم أشعر بالعصبية عندما قابلت رجل شرطة، في حين كنت أشعر بذلك دائماً وأنا في البيرو، حيث كان رجل الشرطة يمثل خطراً كامناً لي بطريقة أو بأخرى. إن الشرطة في بريطانيا لم تُولّد في نفسي ذلك الشعور بعدم الثقة أو بعدم الارتياح الخفي، وربما يعود ذلك إلى كونهم غير مسلحين، أو ببساطة لأنه يبدو وأنهم يقدّمون خدمة عامة. ولا يبدو عليهم بأنهم يستغلون السلطة التي لديهم وهم في زيّهم الرسمي ولدى حملهم للهراوة أو السلاح. في البيرو وفي غالبية دول أمريكا اللاتينية فإن لدى المواطنين الأسباب الكافية للانزعاج وعدم الارتياح عند مواجهتهم لأصحاب الزي الرسمي، حيث تكون الفرصة مواتية ليصبح هذا الزي وسيلة لابتزازهم بدلاً من الدفاع عنهم. وما يقال عن رجال الشرطة يصلح لأن يقال عن كافة منتسبي المؤسسات الأخرى. وفي النهاية، فإن هذا يخلق حالة من القلق لا تستطيع المؤسسات معها من أداء دورها، حيث ليس هناك مؤازرة أو دعم للحقيقة الجوهرية في أي مجتمع ديمقراطي والتي تتمثل في ثقة المواطنين في هذه المؤسسات وإيمانهم بأنها ضمانة للمجتمع والعدالة والحضارة. وهذا أحد الأسباب للفشل المتكرر للاصلاح في أمريكا اللاتينية. يقول البرازيلي باولو رابيللو أن أغلبية الملايين من الشعب التي صوتت لصالح لولا لم تعطِ صوتها لصالح الاشتراكية، بل أنهم قد صوتوا لأمر مخالف لما كان لديهم وأن هذا “الأمر المخالف” عبر عن نفسه من خلال الشخصيات السحرية الجاذبة والدهمائية للقادة.
وهو نفس الشيء الذي حدث في فنزويلا، على سبيل المثال، تلك البلد ذات القدرة لتوفير الغنى الاستثنائي، حيث يجب أن يكون المستوى المعيشي فيها في مصاف المستويات العليا في العالم، وبدلاً من ذلك، هناك الصراعات والأزمات البشعة، ويتربع على قمة السلطة دهماوي وغوغائي كبير استطاع أن يدمر البلاد. وبالطبع إن القائد شافيز لم يأتِ إلى الحكم عن طريق الصدفة، لقد وصل إلى الحكم من خلال التصويت الواسع لأبناء فنزويلا الذين كانوا غير راضين ومستائين من الديموقراطية التي كانت لديهم، ديمقراطية بالإسم فقط في فترة انحطاط ساد فيها الفساد والسلوك المشين حيث تم القضاء فيها على إمكانية تحقيق أحلام غالبية الفنزويليين وتمكين الأقلية الضئيلة القابضة على الحكم من الاستئثار بكافة المقدرات. في هذه البيئة كيف يمكن للإصلاحات الليبرالية التي ندافع عنها ونشجعها كوسيلة لتطوير بلد نامٍ، أن تكون فعالة، وكيف لها أن تعمل؟
الإصلاح الناقص في البيرو
غالباً ما يكون الإصلاح الذي يتم تنفيذه بطريقة سيئة أكثر سوءاً من عدمه، والبيرو خير مثال على ذلك. في فترة الحكم الديكتاتوري لفيوجيموري ومونتيسينوس (1990-2000) كان لدينا ما بدا وكأنه إصلاحات ليبرالية جذرية. لقد تم خصخصة الشركات الحكومية أكثر من أي بلد آخر في أمريكا اللاتينية. فكيف تمت هذه الخصخصة؟ لقد تم تحويل الاحتكارات الحكومية إلى احتكارات خاصة. لماذا تمت الخصخصة؟ ليس لأسباب تستدعي ذلك. نحن الليبراليون ندعم الخصخصة لأنها تشجع التنافس وقوة التنافس بدورها تؤدي إلى تحسين نوعية الإنتاج والخدمات وإلى خفض الأسعار، وإلى نشر الملكية الخاصة وتعميمها وصولاً إلى أولئك الذين لا يملكونها كما حصل في الديمقراطيات الغربية المتطورة. وهذا ما رأيناه في عملية الخصخصة التي تمت في بريطانيا والتي أدت إلى التوسع العارم وانتشار الملكية الخاصة بين المساهمين والموظفين العاملين في الشركات التي تم خصخصتها. في البيرو لقد تم ذلك لصالح فئة معينة ومحددة مسبقاً، ذات مصالح محدّدة من الصناعيين والشركات أو القائمين على الحكم بأنفسهم.
كيف يمكن لأهل البيرو أن يصدقوننا عندما نقول لهم أن الخصخصة شرط أساسي لا مفر منه في سبيل تنمية الأمة، إن كان ذلك يعني لأهل البيرو زيادة استثنائية في ثراء وزراء الرئيس فيوجيموري، وأن الشركات المملوكة لهم ولشركائهم كانت الوحيدة التي تحصل على هذه الفوائد الاستثنائية خلال سنين ذلك الحكم الديكتاتوري؟ ولهذا السبب فعندما يقول الدهماويون الغوغائيون “إن كارثة البيرو وكارثة أمريكا اللاتنية تتمثل في الليبراليين الجدد” فإن الشعب المخدوع والمستغل يصغي لهم. ولإنهم يحتاجون إلى كبش فداء، فإن طرفاً ما يجب أن يتحمل المسؤولية عن الأعمال الرديئة التي تجري، فهم يكرهوننا نحن “الليبراليين الجدد.”
في مدينة أريكويبا، حيث مسقط رأسي، حاولت حكومة أليخاندرو توليدو خصخصة العديد من الشركات، وخرجت المدينة عن بكرة أبيها، خلعت الحجارة المرصوفة وأقامت المتاريس في كل الشوارع وأوقفت عملية الخصخصة، ولو نظر المرء إلى الصحف لفقد عقله لشدة غبائها. لم تكن عملية خصخصة الشركات المعنية في خدمة أي هدف، ولم يكن في ذلك تحقيقاً لأي من الأدوار التي أوكلت إليها، وكانت بمثابة طفيليات في البلد والدولة—أي لحد القول على فقراء البيرو—حيث أن الشركات التي ربحت المناقصات، بعضها شركات بلجيكية، ستقوم بضخ رأسمال جديد في المدينة وتقيم فيها، بالإضافة إلى ذلك عرضوا سلسلة من الاستثمارات الإضافية وأن المدينة ستستفيد لدرجة كبيرة، لكن لم يصدق أحد من المواطنين ذلك، هؤلاء المواطنون الذين خُدعوا في السنوات العشر أثناء الليبرالية الجذرية المزعومة تحت حكم فيوجيموري.
وهذا ما حدث في غالبية بلدان أمريكا اللاتينية، لم تكن الإصلاحات التي تمت ليبرالية في جوهرها، بل كانت صورة ممسوخة لذلك، ونحن على دراية بهذا ولكن الجمهورالمُضلَّل لم يكن يعرف ذلك، هذا الكم الضخم من أولئك الذين فُرضت عليهم معركة ضارية من أجل البقاء، حيث أن أمريكا اللاتينية، ومن المؤسف قول ذلك، ازدادت فقراً في العقود الأخيرة وأصبحت أكثر بؤساً وإلى درجة مخيفة في بعض هذه البلدان.
وفي نهاية عام 2001 وبينما كنت عابراً للمنطقة التي يطلق عليها “المعين الهندي” وهي جزء من أياتشوخو في البيرو، المنطقة التي تُعرف بشدة فقرها، وعانت الكثير إبان فترة الإرهاب، وكنت قد مررت عدة مرات في الفترة بين 1987-1990 في هذه المنطقة حيث كان الفقر فيها مرعباً، إلا أن ما شاهدته أخيراً كان أكثر سوءاً، حيث أصبحت هذه المنطقة أكثر المناطق فقراً في البيرو، بينما ازدادت عصابات المجرمين وقطّاع الطرق المتسترة خلف الحكم ثراءً. وهكذا عند حديثنا عن التنمية، فإننا لا نستطيع التركيز على فكرة التنمية كسلسلة من الإصلاحات الاقتصادية من شأنها دفع عجلة الإنتاج في البلد وزيادة الصادرات مما سيؤدي إلى الدخول في عملية التحديث، لا، بل إن ما نحتاجه هي التنمية التي ترافقها زيادة في الإنتاج والنمو الذي يبعث الحياة في المؤسسات المتوقفة حالياً لجعلها تحوز على المصداقية والثقة والتضامن، هذه العوامل التي تجعل المؤسسات فاعلة في المجتمع الديمقراطي، وهذا ما لا يتوفر في أمريكا اللاتينية وهو أحد الأسباب في فشل الإصلاحات الاقتصادية مهما كانت البراعة في صياغتها.
الحاجة إلى تنظيف السياسة
إن في بعض ما قاله كارلوس ألبرتو مونتانير يبدو لي دقيقاً، يجب تنظيف السياسة بعض الشيء، إنه من غير الممكن للبلاد أن تتطور وتنمو إذا كان حكامها والمسؤولون السياسيون فيها مثل أليمان (نيكاراجوا)، شافير (فنزويلا)، فيوجيموري (البيرو)، حيث أنهم رجال عصابات حقيقيون يتعاملون في السلطة كاللصوص، يسرقون وينهبون وصولاً للثروة بأي وسيلة ممكنة. كيف يمكن للسياسة أن تصبح مهنة جذّابة للناس المثاليين؟ إن الشباب ينظرون إلى السياسيين كلصوص، والطريق الوحيد للخلاص وتنظيف السياسة يكمن في إشراك الناس الشرفاء في السياسة، الناس الذين لا يسرقون، الذين يفعلون ما يقولون والذين لا يكذبون إلا بقدر ما تفرضه الظروف.
ولقد سُئِلت كثيراً “من هو موضع إعجابك في أمريكا اللاتينية؟” وأردّ دائماً بنفس الجواب، إنه نفس ذلك الشخص، الذي أخشى أنكم لم تسمعوا به من قبل أو قد تكونوا نسيتموه، إنه الرئيس السلفادوري الفريدو كريستياني (1989-1994)، هذا الرئيس الذي أكنّ له القدر الكبير من الإعجاب. لم يكن كريستياني سياسياً، بل كان رجل أعمال قرر الدخول إلى معترك السياسة في فترة عصيبة عندما كان الجيش ورجال العصابات يقتلون بعضهم بعضاً في سان سلفادور، وكان عدد القتلى والذين اختفت آثارهم وتعرضوا للتعذيب لا يعد ولا يحصى، في هذه الظروف قرر كريستياني، هذا الرجل المحترم، الذي لا يتصف بالقوة المعهودة في أمريكا اللاتينية، البعيد عن الشخصية القيادية الجذابة والذي لا يجيد الخطابة، الدخول إلى المضمار السياسي وفاز بالانتخابات وأشرف على الحكومة وأدارها بحصافة وحنكة بعيداً عن الشخصية الجذابة وعندما غادر سدّة الحكم كان حال البلد أفضل مما كان عليه عند استلامه الحكم. وقد لا يبدو ذلك بالشيء الكثير، إلا أنه إنجازاً عملياً فريداً. عندما أتى كريستياني إلى الحكم كان الشعب يقتل بعضه بعضاً في شوارع سان سلفادور حيث العديد من الجثث ملقاة في الشوارع، وعندما ترك الحكم كان الجيش ورجال العصابات قد وقّعوا اتفاق سلام بينهم وتقدم رجال العصابات بترشيح أنفسهم واحتكموا إلى صوت الشعب في الانتخابات ودخلوا إلى البرلمان وساد السلام منذ ذلك الوقت في السلفادور. إنها الآن ذلك البلد—كما قال مونتانير—الذي يخطو خطىً بطيئة نحو التطور، ولكنه تطور حقيقي يسير في جميع الاتجاهات في نفس الوقت. نعم، هذا ما نحتاجه في أمريكا اللاتينية، نحتاج إلى أشخاص محترمين مثل كريستياني، رجال أعمال، محترفين، يقررون الدخول إلى العمل السياسي لتنظيف وتطهير الأنشطة التي باتت ملوثة وفاسدة ولا أخلاقية والتي سُوِّقت لنا بكل أسف كعمل سياسي.
الثقافة والليبرالية
المنظور الأساسي الآخر للتنمية هو التنمية الثقافية، إنه ومن المؤسف أن تكون الثقافة في أمريكا اللاتينية إمتيازاً للأقليات، مع بعض الاستثناءات، وفي بعض المواقع لأقليات ضئيلة. تمتلك أمريكا اللاتينية قوة خلاّقة كبيرة: أخرجت الموسيقيين، والفنانين، والشعراء، والكتّاب، والمفكرين، ولكن الحقيقة المؤسفة أن الثقافة في أغلب بلادنا أحتكرت على فئة قليلة وبعيدة عن متناول الأغلبية على أرض الواقع، وعلى مثل هذا الأساس فإنه لا يمكن أن يبنى صرح الديموقراطية بمؤسساتها الفاعلة، كما لا يتسنى طرح إصلاحات ليبرالية تؤدي إلى نتائج خلاّقة منتجة كما ينبغي. من المؤسف أن يكون هذا غير مُدرك في أمريكا اللاتينية. وما زالت الثقافة في نظر المعنيين بها، تعتبر عالماً خاصاً للتسلية وربما تمثل نوعاً راقياً لملء الفراغ، وليست كأداة أساسية لتمكين الرجال والنساء من اتخاذ القرارات الصائبة في حياتهم الخاصة وفي شؤونهم العائلية وعلى المستوى المهني، وفوق كل هذا في المجال السياسي عندما يحين الوقت لاتخاذ قرارات مصيرية.
إن الثقافة هي سلاح في وجه الدهمائية وفي مواجهة الأخطاء الناجمة عن الخيار الانتخابي، وفي هذا المجال فإنه من المؤسف أن لا يكون قد تم فعل شيء. ربما وبروح المزيد من النقد الذاتي، يتوجب علي القول أننا لم نعمل شيئاً تقريباً، وأعني بذلك إيانا نحن الليبراليون. إن الثقافة تحتل بالنسبة لمعاهدنا الليبرالية المثالية المفيدة أدنى الأولويات وهذا خطأ فادح. إن الثقافة أمر أساسي لأنها تساهم في خلق تلك الصيغة من الوفاق التي تجعل المثال الإسباني والتشيلي أمراً قابلاً للتحقيق.
التقدم والحضارة
أود التطرق قليلاً إلى تشيلي، بسبب ما قاله صديقي هرنان بوتشي المعروف بذكائه والذي قام بإصلاحات فعالة ومثيرة للإعجاب في تشيلي عندما كان وزيراً. تشكل تشيلي حالة فريدة في تاريخ أمريكا اللاتينية، ويعود هذا إلى الديكتاتورية العسكرية كما كان يمثلها نظام بينوشيه والذي حقق بعض النجاحات الاقتصادية. لقد سمح بينوشيه للاقتصاديين الليبراليين بتنفيذ إصلاحات عملية تم إعدادها بطريقة جيدة، وشعرت بالسرور لتشيلي، ذلك البلد الذي أذكره دائماً، ولكنه مثال نحتاج عند الاستشهاد به إلى التأكيد على التنصل من الأمور الأساسية المتعلقة به، حيث أننا كليبراليين لا يمكننا بأي حال من الأحوال تبرير الديكتاتورية، وهذا أمر هام يجب قوله وتكراره. فقد وقع حادث في تشيلي اعتُبر إستفادة لها، لكن الكثيرين في أمريكا اللاتينية يرغبون في جعل هذا الحادث نموذجاً لهم، وما زالوا يكررون تلك الفكرة بأن ما نحتاجه لتحقيق التنمية هو بينوشيه آخر. وإلى حد كبير فإن الشعبية التي حظي بها فيوجيموري كان أساسها أن الكثير من البيروفيين كانوا يرون في فيوجيموري بينوشيه البيرو. وهذا أمر مُضَلِّل: حيث أن هناك أحداثاً تاريخية كثيرة، ولكن الثابت في تاريخ أمريكا اللاتينية أن الديكتاتوريات لم تكن في يوم من الأيام حلاً لمشاكل أمريكا اللاتينية، وجميعها، عدا الاستثناء الوحيد في تشيلي، قد ساهمت في تفاقم المشاكل التي زعمت أنها جاءت لحلها وهي الفساد والركود والضعف أو انهيار المؤسسات. ولقد ساهمت في أكثر من أي طرف آخر في نشوء السخرية السياسية التي تعتبر من أهم المعالم العامة في أمريكا اللاتينية. السياسة في نظر الغالبية من شعوب أمريكا اللاتينية هي المهارة في الوصول إلى الثروة الشخصية، وهي الفن في السرقة، لقد أصبحت هذه المفاهيم سائدة لأن هذا يمثل الواقع في جزء كبير من تاريخنا، وهذه هي أخطاء الديكتاتوريات. لقد جعلوا الفساد صيغة طبيعية للحكم مما أدى إلى سيادة الشعور بالتهكم في جميع بلدان أمريكا اللاتينية.
أعتقد أنه من المهم لنا نحن الليبراليون، وأفترض أننا جميعاً كذلك، أن ننسق أعمالنا ونتبادل المعلومات فيما بيننا في هذه الفترة من التاريخ حيث أنه وللغرابة أصبحت الليبرالية الضحية لدى الكثير من الناس من خلال سوء الفهم وأضحت تمثل لهم عدواً للتقدم والعدالة. لقد أصبحت مرادفاً للاستغلال والجشع واللامبالاة في مشهد البؤس والتمييز. إننا ندرك معنى أن لا تكون مخطئاً فحسب، بل تصبح هذه عقيدة ظالمة طاغية، تلك هي الفلسفة التي تقف خلف كل تقدم سياسي واقتصادي وثقافي تعرضت له البشرية. إن الليبرالية هي تقليد يجب الدفاع عنه، ليس فقط لكونه متوافقاً مع الحقيقة، ولكن لأننا نعيش في زمن صعب في التاريخ، حيث التطور والحضارة تتعرضان للتهديد والخطر.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 2 كانون الثاني 2006.

peshwazarabic12 نوفمبر، 20100

موجز تنفيذي
الرخاء وحقوق الملكية أمران مترابطان لا تنفصم عراهما. إن أهمية وجود تحديد واضح لحقوق الملكية وحمايتها حماية قوية أصبحا الآن موضع اعتراف واسع لدى علماء الاقتصاد وواضعي السياسة. نظام الملكية الفردية يعطي الأفراد حصراً الحق في استخدام مواردهم وفق ما يرونه مناسباً. حق التصرف هذا بما يملكون يقود منتفعي الملكية بأن يأخذوا بعين الاعتبار التام جميع الفوائد والأثمان التي تتأتى عن استغلالهم لتلك الموارد بطريقتهم الخاصة بهم. إن عملية تقييم المنافع مقابل الأثمان التي ينطوي عليها ذلك الاستغلال ينتج ما يصطلح عليه علماء الاقتصاد بالنتائج الأكفأ. وهذا يترجم على أرض الواقع بتحقيق مستويات معيشة أعلى.
ومع ذلك، فإن القبول بأهمية حقوق الملكية من قبل علماء الاقتصاد لم يتم إلا في العقود الأخيرة. وعلى امتداد كثير من فترات تاريخ الاقتصاد الحديث، لم يحظ هذا الموضوع إلا بأقل الاهتمام. حتى أشد دعاة اقتصاديات السوق كانوا يتغاضون عن بحث هذا الموضوع. ليس من دواعي الدهشة إذن أن تكون قد نتجت عن ذلك الإهمال سياسات تنمية رديئة وحتى لو أصبح واضعو السياسة في الدول المتقدمة وفي المؤسسات الدولية يعترفون اليوم بالدور الحيوي الذي يمكن أن يؤديه نظام يعترف بالملكية الفردية في الدول النامية بالنسبة للتنمية الاقتصادية، فإن قدراتهم محدودة فيما يتعلق بما يمكن عمله لمساعدة الدول النامية على تطوير مثل هذا النظام. بيد أن بمقدور واضعي السياسة الابتعاد عن التوصية بسياسات من شأنها النيل من نظام الملكية الفردية.
لماذا حقوق الملكية؟
إن المعاذير التي تقدم لتفسير فشل التنمية متعددة ومشهورة: شح الموارد الطبيعية؛ عدم كفاية التمويل في مجال التعليم؛ الثقافة، الدين والتاريخ؛ ومؤخراً عنصر الموقع الجغرافي. وكما علَّمنا فريدرك هايك، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، في سياق آخر، فإننا لا نستطيع أن نفسر النجاح عن طريق تمحيص الفشل: “قبل أن نستطيع تفسير لماذا يرتكب الناس الأخطاء، علينا أن نفسر أولاً، لماذا يتوجب أن يكونوا أصلاً على صواب.”
السؤال الذي يتوجب أن نسأله هو: لماذا يتوجب على الأمم أن تتمتع بالازدهار؟ وجهة نظرنا هي أن الفرق بين الرخاء والفقر يكمن في الملكية الفردية. الأمم تزدهر عندما تكون حقوق الملكية الفردية محددة بوضوح ومصانة.
ثروة الأمم
الباحثان ريتشارد رول وجون تالبوت في جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس، وضعا عنواناً مثيراً على البحث بعنوان “لماذا كثير من الدول النامية هي ليست كذلك؟” التنمية الاقتصادية كانت الاستثناء وليس القاعدة. وكما أوضح عالم الاقتصاد من البيرو هيرناندو دي سوتو، فإن الرأسمالية حققت النجاح بدرجة رئيسية في الغرب. والنتيجة هي الفروقات التي لا تصدق في مستويات المعيشة حول العالم.
ووفقاً للقياس الذي يتبع، فإن الدخل الحقيقي يتفاوت على امتداد بلدان العالم بأكثر من 155 ضعف. في عام 2000، كان الإنتاج المحلي العام في لوكسمبرغ (50.061) دولاراً، وفي سيراليون (490) دولاراً. هذه الأرقام محسوبة على أساس مقارنة متوازية للقوة الشرائية. وإذا استخدمت قيمة الدولار لعام 1995، فإن الفوارق بين البلدان تبدو حتى أكثر بعداً. الفوارق بين بلدان متجاورة، يمكن أن تكون هائلة. ووفقاً للمقياس الذي يعتمد فإن دخل الفرد في الولايات المتحدة من مجموع الإنتاج القومي العام هو أربعة إلى ثمانية أضعاف مثيله في المكسيك. النتائج الاقتصادية-الاجتماعية لتلك الفوارق كبيرة ومعروفة. وبقياس متحفظ، فإن دخل كوريا الجنوبية هو 17 ضعف دخل الكوريين الشماليين. وبالتأكيد فإن ذلك الفرق له علاقة بالتوتر الحالي القائم على ساحة الجزيرة الكورية.
في الثلاثينات من القرن الماضي كان الفنلنديون والإستونيون يتمتعون بمستوى معيشة متطابق. البلدان كلاهما جاران. لغتهما تنتمي لأصول لغوية مشتركة، وثقافتهما متشابهة وكلاهما يشتركان بقيم كثيرة. (على الرغم من كونها إحدى دول البلطيق جغرافياً، فإن الإستونيين يعتبرون أنفسهم من الجنس الاسكندنافي). ووفقاً للمقياس المطبق، فإن أهل فنلندا في عام 2000، كانوا يجنون ما بين اثنين ونصف إلى أكثر من سبعة أضعاف ما يجنيه في المتوسط المواطن الإستوني. خمسون عاماً من الحكم الشيوعي كان له، بكل تأكيد، علاقة بالفجوة القائمة بين دخول سكان البلدين.
في الماضي، كانت توجد فجوة شاسعة في مستوى المعيشة بين شرق وغرب ألمانيا—بلدان يملكان بشكل أساسي نفس الموارد والتعليم والثقافة واللغة والدين والتاريخ والجغرافيا.[1] لماذا إذن ذلك الفرق الشاسع؟
هونغ كونغ وسنغافورة هما دولتا مدينة، ويكادان أن يكونا محرومين كلياً من أية ثروات طبيعية. إن حدودهما مجاورتان لبلدان أكبر وأفقر منهما كثيراً. هونغ كونغ، بصورة خاصة، تحملت فترات طويلة من الهجرات إليها من جارتها الأفقر—الصين الشعبية. ومع ذلك فكلاهما حققا نمواً متواصلاً في دخل الفرد بنسبة 5% وعلى امتداد فترة طويلة. دخل الفرد الفعلي في سنغافورة تضاعف ما بين 1962 و1971. دخل الفرد الفعلي من الإنتاج الوطني العام في هونغ كونغ، وهي مستعمرة بريطانية سابقة، يتجاوز الآن دخل البلد الأم (25.153) دولار مقابل (23.509) دولار في عام 2000، من حيث القوة الشرائية المتوازية. والتناقضات وفيرة. فعلى الرغم من المعجزة الاقتصادية التي حققتها الصين مؤخراً، فإن دخل الفرد الفعلي فيها من مجموع الإنتاج الوطني العام، ما زال تحت 4000 دولار. ودخل تايوان هو 17.000 دولار أي أكثر من أربعة أضعاف دخل الصينيين. (كلاهما محسوب بالقوة الشرائية الحقيقية المقارنة).
وقد علق البروفيسور ألن ميلتزر مؤخراً على هذه التجارب شبه المختبرية في حقل التنمية بما يلي:
“في كل حالة من حالات المقارنة، نجد أن الثقافة واللغة والتقاليد واحدة. النتائج مع ذلك نراها مختلفة بشكل حاد. البلدان التي تتبع نظام السوق ولديها مؤسسات الرأسمالية تنمو أكثر ثراءً؛ الأخرى، إما ترنّحت أو رجعت إلى الوراء. الكوري الجنوبي الآن يعيش على دخل متوسطه يساوي متوسط الدخل في الولايات المتحدة عام 1945. ابن عمه في كوريا الشمالية، هذا إذا استطاع البقاء، يعيش على أكل الحشائش والاعشاب. زميلي نيك أبرستاد يوضح مدى تأثير الغذاء ومستوى العيش: الأولاد الكوريون الجنوبيون في سن سبع سنوات 9 بوصات أطول من الأولاد في سنهم في كوريا الشمالية.”
التنمية الاقتصادية التاريخية الحقيقية لا يمكن تفسيرها بوجود أو غياب الثروات الطبيعية. الموارد الطبيعية ليست ضرورية أو كافية للتنمية. لقد أنجزت التنمية في ظروف عسيرة، وغابت التنمية في بلدان غنية بالموارد الطبيعية. “لعنة” البترول معروفة.[2] ودخل الفرد الحقيقي في المملكة العربية السعودية هو جزء بسيط مما كان عليه في يوم مضى. نيجيريا، وهو بلد منتج للبترول يصنف على أنه بلد فقير غارق في الديون. والأرجنتين، الغنية بالموارد الطبيعية بما فيها البترول، عانت في الآونة الأخيرة من أزمة اقتصادية طال أمدها بسبب سياسات سيئة ومؤسسات منقوصة.[3]
في دراساتهم التجريبية، يربط علماء الاقتصاد ما بين الإنتاج ورأس المال المستثمر، ورأس المال البشري والإنتاجية. وبغض النظر عن ارتباطها المشار إليها، فإن هنالك خطأ فكري فادح في ذلك التحليل. إن طرفي المعادلة يحسبان الشيء ذاته:
الجانب الأيسر يقيس تدفقاً من المال، بينما المعطيات الفيزيقية وعناصر رأس المال البشري المختلفة، على الجانب الأيمن، تقيس مجمل الثراء. واضح أنه إذا أجرى أحد إنحداراً للثراء على الثراء، بالإضافة إلى بعض مقررات الثراء، فإن الأخير لن تكون له فرصة بأن يبدو مهماً.
ليس غريباً إذن أن المعطيات المأسسية للنمو قد تعرضت للإهمال. حتى عندما تُشمل في الدراسات التجريبية، فإنها تتنافس مع الثراء في إيضاح النمو الاقتصادي. إن النمطية في عملية النمو قد أدت إلى تغييبها.
ليس القصد من هذه الدراسة مراجعة أدبيات التنمية بالوسائل التجريبية. لقد فعل ذلك جيداً رول وتالبوت. إن تركيزنا هو على ما هو مهم فعلاً للنمو: الملكية الفردية. ومع ذلك، فنحن نأخذ في الحسبان نتائج الدراسات التجريبية التي جاءت في دراستهما.
فقد وجد رول وتالبوت بأن تسعة عناصر مؤسسية تُفسر أكثر من 80% من التباينات الدولية في حسابات مجموع دخل الفرد ضمن حسابات الدخل القومي حيث تتواجد حقوق الملكية الفردية (+) ونشاطات السوق السوداء (-)، والتي يكون لها أكبر الأثر. العوامل الأخرى هي قيود التنظيم (-)، التضخم (-)، الحريات المدنية (+)، الحقوق السياسية (+)، حرية الصحافة (+)، النفقات الحكومية (+)، والحواجز التي تعيق التجارة (-). إننا ننسب هذه الدراسة للقارئ الذي يرغب في الحصول على مزيد من التفعيلات حول نتائج الدراسة التجريبية.
وقبل أن نتحول إلى النظرية الفكرية التي تبين بأن حقوق الملكية الفردية هي العنصر الرئيسي في النمو الاقتصادي والتنمية، فإننا نتساءل عن الأسباب التي أدت إلى إهمال حقوق الملكية الفردية في البحوث الاقتصادية. لا نستطيع الاكفتاء بمجرد إلقاء اللوم على الأنماط الاقتصادية التي تستخدم في الدراسات بل يتوجب الرجوع إلى النظريات الفكرية التي تقف وراء ذلك الإهمال.
تجاهل علماء الاقتصاد
في كتابه حول تاريخ حقوق الملكية الفردية، يحلل توم بيثل موضوع إهمال حقوق الملكية الفردية في الأدبيات الاقتصادية. وينهي الكاتب دراسته بالقول بأن الملكية الفردية كانت حقيقة قائمة لا جدال فيها في كتابات علماء الاقتصاد الكلاسيكيين. غيابها كان أمراً خارجاً حيّز التفكير، لذا فإن أهمية الدفاع عنها لم يكن وارداً. وكما أوضح المؤلف: “في بريطانيا في زمن آدم سميث، لم يكن انتقاد حقوق الملكية ليجد طريقه أبداً إلى النشر”. ويوافق ريتشارد بايبس على ذلك بقوله: “إذا كان تجميد الملكية الفردية قد وصل القمة في إنجلترا، حيث كانت تتمتع بتأييد الأعداد الكبيرة من أصحاب الملكية الفردية، فقد تعرّضت للنقد، أول ما تعرضت في فرنسا إبان النظام الفرنسي القديم البائد.”
آدم سميث لم يهمل حقوق الملكية في أعماله القانونية. فقد جاء في أول محاضرة ألقاها ضمن السلسلة الأولى من محاضراته حول فقه القانون ما يلي:
“إن الواجب الأول والأساسي لأي نظام حكومي هو الحفاظ على العدالة: منع أعضاء المجتمع من أن يعتدي أي منهم على ممتلكات شخص آخر، أو الاستيلاء على ما هو ليس لهم. النظام إذن هو إعطاء كل واحد التملك الآمن والسلمي لممتلكاته.”
إن خطاب سميث هذا حول الهدف من الحكومة يعود في صياغته إلى لغة القرن الثامن عشر. إنها وصفية بقدر ما هي حقيقة وضعية. حماية الملكية الفردية هي بكل تأكيد الواجب الأول والأهم. وكما يوضح بيثل، فإن علماء الاقتصاد “افترضوا وجود إطار سياسي وقانوني شبيه بما كان قائماً في بريطانيا القرن الثامن عشر، ولكنهم لم يؤكدوا على هذا المفهوم، كما أنهم لم يشرحوا مفاهيمه بالتفصيل.” في فرنسا، أفرد جان-بابتيست سيه فصلاً في كتابه بعنوان دراسة حول الاقتصاد السياسي حول الملكية. وعلى ما يبدو، فإن تجربة الثورة الفرنسية قد دفعت بسميث إلى التركيز على أهمية حقوق الملكية. كما أن تلك التجربة قد أثرت تأثيراً عميقاً على مفكرين إنجليز من أمثال إدمون بيرك. إن الإهمال الذي اتسم به كتّّاب الاقتصاد السياسي البريطانيين، والذي تطرق إليه بيثل، لأمر ما زال يدعو إلى العجب. ووفق ما يقول بيثل، “فإن تعبير الملكية الخاصة بالكاد أن يكون دخل لغة التعبير قبل القرن التاسع عشر.” آدم فيرجون، الفيلسوف الاسكتلندي تحدث في القرن الثامن عشر عن الملكية ولكن دون إعطاء أية نعوت. وقد عدّد بيثل نوعين من استخدامات تعبير “الملكية الفردية” في كتاب ثروة الأمم، وواحدة في الطبعة الأولى من كتاب مالثوس مبادئ الاقتصاد السياسي. “وبشكل عام يبدو أنه لم يكن ضرورياً أن تحدد بشكل أكثر دقة، مؤسسة، لم يكن يعتقد بأن لها أي بديل عملي.”
بطبيعة الحال، كان كبار المفكرين من رجال القانون مهتمين بالملكية ووجوب حمايتها. وقد وصف بلاكستون الملكية بأنها “الهيمنة المستبدة التي يدعيها ويمارسها أي رجل ما، على أشياء الدنيا الخارجية، وبمعزل تام عن حق أي فرد آخر في العالم.” ولكنه لم يستطع أن يفكر بأي شيء “يعادل تعلق البشرية به مثل حق التملك.” أما جيريمي بينثام، الذي اختلف مع بلاكستون في كل شيء تقريباً، فقد كان متوافقاً مع هذا القانوني حول الملكية قائلاً إن القانون الذي يحمي الملكية هو “أنبل انتصار حققته البشرية على نفسها.”
ولكن ما أن جاء منتصف القرن التاسع عشر حتى أصبحت الملكية الفردية موضع الهجوم. وقد جاء الهجوم من جهات عدة. وقد حدد بيثل حلفاً ثلاثياً غير مقدس بين علماء الاقتصاد: ميل، ماركس، ومارشال.
لقد كان التمييز الشهير الذي وضعه جون ستيوارت ميل، بين قوانين الإنتاج وقوانين التوزيع وراء كثير من المفاهيم الخبيثة التي جاءت في زمن لاحق. قوانين الإنتاج كانت قوانين مبنية على قواعد علمية ثابتة لا تتغير، بينما جاءت قوانين التوزيع بفعل الإنسان وقابلة للتغيير عن طريق التشريع وقد بحث ميل موضوع الملكية تحت بند التوزيع. وقال إن العلم وليس التملك هو الذي يصنع الإنتاج.
ولكن، وفي نظام السوق، ليس هنالك من وجود للتوزيع منفصل عن الإنتاج وتبادل المنافع. إن النزعة لإعادة التوزيع هي التي تنال من نظام التملك الفردي، الذي يشكل عماد الإنتاج وتبادل المنفعة. إن عملية الإنتاج التي يقال إنها تعمل وفق قوانين مطلقة لا تتغير، يصيبها الضعف عندما تصبح الملكية الفردية غير مؤمنة. ليست هنالك من آلية تعمل بمعزل عن نظام المكافأة والعقاب، والتي تلحق بمن يملكون عناصر الإنتاج (الأرض، العمال، ورأس المال) في السوق.
إن وصف ميل البريء للإنتاج يتعارض تعارضاً حاداً مع الوصف الذي قدمه فون ميزس بعد مائة عام، حيث يقول:
“ملكية أدوات الإنتاج ليست امتيازاً، بل عبئاً اجتماعياً. أصحاب رؤوس الأموال وملاّك الأراضي مرغمون على استغلال ما يملكون من أجل تحقيق أعظم نفع ممكن للمستهلك فإذا كانوا بطيئين في تحقيق واجباتهم، فإنهم يعاقبون لإلحاق الخسارة بهم. فإذا لم يتعلموا الدرس ويستخلصوا العبر في إصلاح إدارتهم لأعمالهم، فإنهم يخسرون ثرواتهم. لا يوجد استثمار يدوم مدى الدهر.”
وفق نظرية ميزس، فإن الإنتاج هو مغامرة فعالة تنطوي على الأخطار. الإنتاج هو عملية متغيرة، والقانون الدائم الوحيد للإنتاج هو التغيير. وإن استنتاج ميزس والقائل إنه: “لا يوجد استثمار آمن إلى الأبد،” يضحض النظرية الاقتصادية الكلاسيكية حول الاستئجار الاقتصادي: لا توجد هنالك قنوات دخل دائمة.
كان جون ستيوارت ميل من أوائل حشد من المفكرين الذين اعتقدوا بأنهم يشاهدون تحولاً في الطبيعة البشرية. مثل هذا التحول، من شأنه أن يمكن ملكية شيوعية لتحل محل الملكية الفردية، فعندما تتحول الطبيعة البشرية تلقائياً، فإن كل فرد يتعلم “أن يشعر بأن المصلحة العامة هي مصلحته.” لقد كان ميل، بكل تأكيد، عالم اقتصاد كفء ومدرك للتهاون الذي سوف يحل إذا ما أصبحت الملكية مشاعاً. ففي مزرعة أو مصنع تكون فيه الملكية مشتركة، فإن الناس يعملون “تحت أعين لا رئيس واحد، بل تحت إشراف المجموعة كلها.”
نحن نعرف كيف تكون نهاية مثل هذا النظام: الكولاج (المعسكرات الجماعية). ولكن في منتصف القرن التاسع عشر، كانت تعتبر مثل هذه الآراء تقدمية. وقد كان المفكر ميل “الأصغر” يتمتع بنفوذ هائل كمفكر، لا في القرن الذي عاش فيه فحسب، بل في القرن الذي تلاه. فقد كان “واضع أنجح وأكثر الدراسات تأثيراً في عصره،” ويقول بايبس بأن ميل “حرك الفكر الليبرالي وجهة تقربه من الاشتراكية.”
كتاب ألفرد مارشال بعنوان مبادئ الاقتصاد ترك أثراً قوياً على المفكرين الاقتصاديين الناطقين بالإنجليزية، وقد كان مارشال يؤمن أيضاً بنظرية التقدم. وبينما كان ميل يتطلع إلى إمكانية حدوث تقدم في الطبيعة البشرية، كان مارشال يؤمن بأن تغييرات سريعة قد حصلت بالفعل على الطبيعة البشرية خلال الخمسين عاماً الماضية. وبشكل مقلق، فقد أعرب عن الرأي بأن الحاجة إلى الملكية الفردية، لا تصل، بدون شك، إلى ما هو ابعد من مقومات الطبيعة البشرية.
وقد كان مارشال من مؤيدي نظرية التقدم الاجتماعي المضطرد قائلاً: “إن غرائز الإنسان الجماعية، وشعوره بالواجب والتعلق بالمصلحة العامة، سوف تتطور إلى الأحسن،” ومن شأن التشريع أن يحصن هذا التوجه، وعندما يحقق الإنسان الكمال، فإن الملكية الفردية تصبح فاقدة للأهمية.[4]
أما كارل ماركس، الذي كان جسراً ما بين ميل ومارشال على المدى القصير، فقد هاجم الملكية الفردية، ودعا إلى إلغائها. إن الذي توافق عليه ثلاثتهم هو الحاجة إلى تغيير الطبيعة البشرية، إذا كان للملكية الفردية أن تُلغى. “كان ماركس يعتقد بأنها بالفعل آخذة بالتغير، وهكذا أيضاً كان يعتقد مارشال. لذا فإن نظرتهما للملكية كانت على الأقل منسجمة مع نفسها. أما اليوم، فقليل من الناس من يؤمن بأن الطبيعية البشرية آخذه بالتغير. ونستطيع أن نرى بأن أقوالاً مثل التي أعرب عنها مارشال، والتي ادعى فيها أن الطبيعة البشرية قد تغيرت، كانت مظلمة.”[5]
إن ممارسات الشيوعية في القرن العشرين حاولت إحداث تغيير في الطبيعة البشرية. وقد أوضح المؤرخ الروسي مايكل هيلر ذلك بقوله: “كل ما فعله الحزب الشيوعي منذ الثورة، وبغض النظر عن التغييرات والانحرافات الظاهرة عن المبادئ الأصلية وكذلك تغيير القادة، كانت جميعها موجهة نحو تطوير الطبيعة البشرية،” ونحن نعرف نتائج تلك الجهود.
وما أن حل القرن العشرون حتى رأينا التناقض الناجم عن أن المدافعين عن اقتصاد السوق لم يقولوا إلا القليل نسبياً حول الملكية، وعندما تحدث علماء الاقتصاد عن الملكية الفردية، فقد كانت أحاديثهم في كثير من الأحيان، ناقدة لها. وقد تحدث شومبيتر عن هزيمة الليبرالية الكلاسيكية، وأعرب عن رأيه بأن “أساتذة الاقتصاد بوجه عام وفي جميع البلدان، كانوا سياسياً مؤيدين للتيارات المناهضة لليبرالية، بدلاً من تأييد الليبرالية التي كانت وما زالت سائدة. وضمن هذا المفهوم يمكننا القول بأن التحالف بين الاقتصاد والليبرالية، ومع استثناءات قليلة، قد انفصمت عراه.”[6]
لم يركز أحد على الملكية الفردية بقدر ما ركز كارل ماركس ولكن في إطار شجبها. وقد انتصرت وجهات نظر ماركس حول الملكية في الكثير من بلدان العالم في النصف الثاني من القرن الماضي. أين كان علماء الاقتصاد في المساجلات حولها في القرن العشرين؟
إهمال الملكية في القرن العشرين
اليوم، أصبح من المتعارف عليه القول بأن علماء الاقتصاد الكلاسيكيين الجدد قد أهملوا الملكية الفردية. ولكن الذي يثير الدهشة هو شح ما كتب أولئك العلماء حول حقوق الملكية الفردية، وهم علماء الاقتصاد المعترف بهم كمدافعين عن اقتصاديات السوق. في عام 1935 أشرف هايك على تحرير مجموعة من الأبحاث تتعلق بالمناقشات حول حسابات الاشتراكية. وفيما يلي ما كتبه حول حقوق الملكية في فصل مطوّل كتبه كتقدمة لبحث القضية:
“إن القول بأن التخطيط الجزئي من النمط الذي تسير إليه، هو غير منطقي، ليس معناه مع ذلك بأن النمط الوحيد للرأسمالية، والذي يمكن الدعوة له بعقلانية، هو التجارة الحرة بالكامل، بمفهومها القديم. ليس هنالك أي سبب للافتراض بأن المؤسسات القانونية المتوارثة تاريخياً هي بالضرورة أكثرها طبيعية، بأي شكل من الأشكال بأن تحديد الأطر القانونية القائمة حالياً بالنسبة لهذا الحق، هي الأكثر ملائمة. إن مسألة ما هي أنسب الأطر الدائمة، والتي من شأنها ضمان أكثر الوسائل كفاءة ويسراً لتحقيق المنافسة، هي على قدر كبير من الأهمية، وهي مسألة يجب الاعتراف بأنها قد أهملت إهمالاً محزناً من قبل علماء الاقتصاد.”
لقد أصاب هايك كبد الحقيقة في قوله بأن علماء الاقتصاد قد أهملوا إهمالاً محزناً مسألة ما هي أنسب الأطر الثابتة لتحقيق اقتصاد يتسم بالتنافسية. إن هذا الفصل مع ذلك يمثل مثل ذلك الإهمال، فالفقرة التي أشرنا إليها هي خالية كلياً من أي مضمون، ولكن يتوجب الاعتراف بأن هايك في أواخر حياته عاد للاعتراف بأهمية حقوق الملكية في التحليلات الاقتصادية.
ففي كتابه بعنوان الطريق إلى الرق، وهو بحث سياسي، دافع هايك عن الملكية الفردية، فكتب يقول:
“إن نظام الملكية الفردية هو الضمان الأكبر للحرية، ليس فقط لأولئك الذين يملكون، ولكن وبدرجة لا تقل إلا قليلاً لأولئك الذين لا يملكون. وحقيقة أن السيطرة على وسائل الإنتاج موزعة على عدد كبير من الناس يعملون باستقلالية عن بعضهم البعض هي ما منع وقوعنا تحت السيطرة الكاملة لأي إنسان، وأننا كأفراد، نستطيع أن نقرر ما نعمل بالنسبة لأنفسنا، فإذا كانت جميع وسائل الإنتاج تحت سيطرة يد واحدة، سواء كانت إسمياً بالمجتمع ككل، أو بيد دكتاتور، فإن من يملك مثل هذه السيطرة لقادر على السيطرة الكاملة علينا.”[7]
إن أهم حماية يقدمها القانون للفرد هي حماية ملكيته. مثل هذه الملكية توفر للفرد حيزاً أمام الدولة. وبالنسبة لبايبس “فإن الملكية هي المفتاح لبروز المؤسسات السياسية والقانونية التي تضمن الحرية،” وعلى النقيض من ذلك، فإن النظم الشمولية تعود في جذورها إلى النظم الأبوية التي ترتبط فيها السيادة مع الملكية فليس من قبيل الصدفة بأن النظام الشمولي قد بلغ أوْجَه في الاتحاد السوفييتي، ذلك أنه وعلى امتداد التاريخ الروسي لم يكن هنالك في كثير من الحالات أي تمييز بين السيادة والملكية.
الأغنياء والأقوياء يعملون على المحافظة على ممتلكاتهم، حتى عندما يفشل قانون ضعيف في حماية الملكية الفردية للسكان بعامة. إن معظم أمريكا اللاتينية—وتشيلي هي الاستثناء الواضح—تجسد لتلك الحالة. فعلى سبيل المثال، فإن المواطنين الفنزويليين العاديين لا يستطيعون الحصول على التملك، ولذا فإنهم يبنون مساكن هشة على التلال المحيطة بكراكاس. وفي غضون ذلك، فإن النُّخب في المجتمع تعيش في فلل محصنة. وإن غياب الحماية القانونية للملكية الفردية هي التي وقفت حائلاً دون دمقرطة الملكية والرأسمالية في ذلك الإقليم.
في عام 1763، أفادت مجموعة من المستوطنين الألمان في ماريلاند بأن “قانون البلاد قد تم وضعه بشكل يضمن لكل إنسان التمتع بملكيته الشخصية،” وأن أضعف إنسان هو بمنأى عن اضطهاد أكثر الناس نفوذاً، وأنه لا يمكن أخذ أي شيء منه دون أن تسوى معه الأمور بما يرضيه. إن المهاجرين الألمان إلى المستعمرات الأمريكية تمتعوا بحقوق تضمن ملكيتهم الخاصة في القرن الثامن عشر أكثر ضماناً مما يتوفر لمواطن فنزويلي في القرن الحادي والعشرين، فهل من عجيب أن نرى الولايات المتحدة تتمتع بالرفاه بينما تعاني فنزويلا من الركود؟ الرئيس الفنزويلي هوغو شافيز، خطر وهدام على ما يقال عنه، ولكن لا يمكن أن يلام بسبب ما تعانيه فنزويلا. إنها مسألة فشل مؤسسي وليست مسألة عيوب في شخصية فرد.[8]
إن الحقوق التي منحت للمواطنين الأمريكيين الأوائل ضد افتئات الدولة والأقوياء، كما ذكر المستوطنون الألمان في القرن الثامن عشر والذي نشرنا أعلاه، هي التي وفرت لهم الحماية لأشخاصهم وأملاكهم. تلك الحماية بدورها تمكنهم من الاستثمار وتقبل المخاطر. وبشكل عام، كلما كانت حقوق الملكية أقوى، كانت الحوافر أقوى للعمل والتوفير والاستثمار. وبالتالي الإدارة الفعالة لعجلة الاقتصاد. وكلما كانت تلك العجلة الاقتصادية أكثر فاعلية، كلما ازداد النمو في أي قطاع من قطاعات الثروة.
إن الدعم النظري لأهمية حقوق الملكية مقنع إلى أبعد الحدود، فلماذا يقبل الفرد على الاستثمار ما لم يكن يستهدف تحقيق شيئاً من الكسب لنفسه ولعائلته؟ وكيف يمكن أن يضمن بأن المكاسب التي تتأتى عن جهوده سوف تكون مؤمنة ومملوكة له إلا من خلال نظام يرسم بوضوح حقوق الملكية؟ إن افتراضاً غير ذلك يعني افتراض أن الطبيعة البشرية سوف تتغير. هذه الطريقة قد تصل إلى نهاية مسدودة.
ومع ذلك، ما زالت نظريات النمو الاقتصادي تتحدث عن قوانين الإنتاج والعلاقات بين الأشياء، بدلاً من التفاعل بين الناس الذين تحكمهم المؤسسات. علماء الاقتصاد مازالوا يتناقشون حول ما إذا كانت مستخلصات الحجم في ازدياد أو نقصان أو ثبات، ولكن تلك المجالات تتصل بقوانين الإنتاج الفعلية، وليست بأنظمة الحوافز والمكافآت التي تقود عملية النمو الاقتصادي.
ففي إطار نمط اقتصادي معين، قد تكون هنالك مردودات متناقصة، ومع ذلك فإن العالم الحقيقي يبدو في إطار من المردود المتزايد. كان آدم سميث يعتقد بأن المردود يتناقص على المدى القصير، بينما تتناقص التكاليف على المدى الطويل. المدى القصير جسّد عالم المردود المتناقص المرتبط اسمه بديفيد ريكاردو، وغيره من الاقتصاديين الكلاسيكيين. فعلى المدى الطويل، رجال الأعمال ابتكروا، وأصحاب رؤوس الأموال استثمروا، والتكاليف تناقصت سميث نفسه كان يعتقد بأن مصنع الأزرار يعطي التفسير لهذا النمط، بينما كان علماء الملكية الفردية ينظرون إلى نواحي أخرى.[9]
في القرن العشرين، وقف رجل اقتصاد واحد ضد التيار حول حقوق الملكية: إنه لودفيغ فون ميزس. آراؤه بشأن حقوق الملكية استبقت كثير من آراء رجالات الاقتصاد الذين تبنوها بعد سنوات طويلة لاحقة. “إذا ما حللنا بشكل متناسق، فإن حقوق الملكية تضفي على صاحبها جميع المزايا التي تتأتى عن حسن استغلالها من ناحية، مثلما أنها تكميلية بجميع العواقب التي تنتج عن سوء استغلالها من ناحية أخرى.” المزايا والتكاليف ليست ناتجة عن عوامل داخلية إذا كانت القوانين قاصرة أو إذا كانت هنالك ثغرات تؤثر على حماية الالتزامات، وفي مثل هذه الحالة، فإن مسألة التكاليف الخارجية تطفو على السطح.
يحلل ميزس العملية التي يتم بموجبها للأشخاص إقامة حقوق الملكية على الثروات الطبيعية. إنه يفحص التكاليف والفوائد التي تنتج عن الملكية الفردية. عندما تكون الأرض شاسعة وتقوم حدود لها، كما كان الحال في أمريكا القرن التاسع عشر، فربما لم يكن مغرياً إقامة حدود للملكية الفردية في مثل تلك البيئة، فإن المستوطنين يقتلعون الأشجار دون اعتبار لإعادة زراعتها. كذلك، فإنهم يصيدون الأنعام والأسماك إلى أن تنفذ كمياتها، ثم ينتقلون إلى مناطق بِكر أخرى لم تُستوطن. “فقط عندما كان بلد ما مكتظاً بالسكان ولم تعد توجد أراض من الدرجة الأولى صالحة للاستغلال كان نظر الناس إلى ذلك الاستغلال بأنه هدر واعتداء على الموارد، وفي تلك الحالة، فإنهم عززوا نظام الملكية الفردية في الأرض.”
وعلى النقيض من ذلك، وفي أواسط وغرب أوروبا، لم تلاحظ مثل هذه العملية في الزمن الحديث. لم يلاحظ انحسار التربة أو تعرية الأحراش من أشجارها، لماذا؟ “لأن نظام الملكية الفردية كان قد استقر بشكل ثابت على مدى قرون عديدة. الأحراش كانت ملكية فردية، وكان الدافع للمحافظة عليها مصلحة المالكين الأنانية. وفي أكثر المناطق ازدحاماً واحتواء للصناعة حتى سنوات أخيرة، كان ما بين خُمس إلى ثُلث الأراضي مغطاة بأحراش من الطراز الأول، وتدار وفق أفضل الطرق العلمية بصيانة الأحراش.
حقوق الملكية الفردية تصان فقط عندما تتغلب فوائدها على تكاليفها. هذا التوجه معروف في يومنا هذا. وتحليل ميزس، مع ذلك، يستبق دراسة ديمسيتز المعروفة.[10] إن أدبيات حقوق الملكية الحديثة قد صرفت النظر عن تحليلات ميزس. وكان ممكناً الاستفادة منها، ذلك أن ميزس كان على إدراك أوسع وأعم للدور المفصلي الذي تؤديه حقوق الملكية الفردية من معظم معاصريه في القرن العشرين.
موجز القول هو أنه، وباستثناء ملكية بارزة، فإن تاريخ العلم الاقتصادي اتسم بإهمال شديد لحقوق الملكية بسبب اهتمامهم الأساسي بالعوامل المادية المؤدية إلى النمو الاقتصادي مثل التكون الرأسمالي والاختراعات التكنولوجية، كما أن بزوغ نظرية اقتصادية أكثر تنافساً بالنسبة لحقوق الملكية تعود إلى فترة قريبة نسبياً.
الاقتصاد، حقوق الملكية، والتنمية
آرمن ألكيان، رونالد كوز، وهارولد ديمسيتز، هم مؤسسو المدرسة الاقتصادية الحديثة فيما يتعلق بحقوق الملكية. لقد عملوا، ليس فقط على تحديد أهمية نظام الملكية الفردية بالنسبة لإدارة الاقتصاد بكفاءة، ولكن في تحديد الظروف التي تؤدي إلى تحويل وتكوين حقوق الملكية الفردية. وقد كتب ألكيان:
“وفق نظام حقوق الملكية، فإنني أعني طريقة أن تحول إلى الإفراد سلطة اختيار بضائع محددة واستخداماتها، ما بين مجموعة من الاستخدامات المسموح بها. وكما هو مبين في الملاحظات الآنفة، فإن نظرية “السلطة” ونظرية “غير الممنوعات”، تعتمدان على شكل من أشكال التنفيذ أو الحث على احترام التحويل أو التفويض ومدى الاختيار غير المسموح به. حق التملك بالنسبة لي يعني بعض الحماية من خيارات آخرين ضد إرادتي في استخدام موارد تعتبر مملوكة لي.”
ويوضح كوز بأن الطريقة التي تحول بها الحقوق بداية، أو تقسم، لا تؤثر على الطريقة التي تستغل بموجبها الموارد، عندما لا يكون هنالك ثمن مرادف لتبادل الممتلكات الطوعي، ولا توجد التزامات بوليسية. وما دام أن هنالك التزامات بوليسية وأثمان معاملات تتصل بتحديد وحماية حقوق الملكية، فإن مثل هذه الحقوق سوف تُحدد وتُحمى فقط عندما تتجاوز المنافع في إجراء ذلك الثمن الذي يدفع.
إن من الخطأ الافتراض بأن مهمة إعطاء وتحديد وحماية حقوق الملكية هي حصراً من مهام الدولة وحدها. الملكية الفردية تطورت من ثنايا العادات والتقاليد وقبل أزمان بعيدة من نشوء الأمم. وفي كتابه بعنوان الملكية والحرية يقدم بايبس عرضاً لتطور مؤسسات الملكية من الأزمنة البدائية وحتى قيام مؤسسة الدولة. ولاحظ المؤلف بأنه وفي معظم البلدان، فإن حقوق الملكية اتخذت شكل الاستحواذ والإدعاء بها كان يستند ليس على وثائق حقوقية ولكن على استخدامات طويلة الأمد، والتي تثبت التقاليد بأنها برهان على الملكية. في مرحلة لاحقة فقط أصبحت الملكية منظمة ومعتبرة بقيام الدولة.[11]
وفي يومنا هذا يتم الاتفاق أولاً بين الأفراد أو الشركات على حقوق الملكية، ومن ثم يعترف بها قانونياً. ومع ذلك، فإن الحكومات وعلى جميع المستويات تواصل إضعاف أو النيل من حقوق الملكية، يوماً بعد يوم، بإطلاقها سلسلة من الأنظمة التي تؤثر على استخدامات الملكية الخاصة.
العنصران الرئيسيان في حقوق الملكية هما: (1) حقوق الأفراد حصراً بالاستفادة من مواردهم بالطريقة التي يرونها مناسبة، ما دام أنهم لا يعتدون على حقوق أناس آخرين؛ (2) قدرة الأفراد على نقل أو تبادل تلك الحقوق على أسس طوعية. وإلى المدى الذي تكون فيه هذه العناصر محترمة ومطبقة، تكون مدى فعالية عنصر الأسعار في تخصيص البضائع والخدمات في الاقتصاد بكفاءة. التجربة والنظرية كلاهما يدلان على أن النظم الاقتصادية التي يعمل فيها عنصر الأسعار بكفاءة هي النظم الأفضل في تكوين الثروة. وباختصار، كلما كانت حقوق الملكية الفردية أقوى، كلما كان النظام الاقتصادي أكفأ في توزيع الموارد وتعظيم فرص تكوين الثروات.
الأفراد في جميع المجتمعات لهم مصالح متضاربة إحدى وسائل حل تلك التضاربات هي عن طريق المنافسة. نظام الملكية الفردية في المجتمع يحدد الأشكال المسموح بها في التنافس ويعطي الحق المطلق والحصري للأفراد لاستغلال مواردهم بالطريقة التي يرونها مناسبة، وكذلك الحق في تحويلها. مثل هذا النظام يمنع استخدام القوة ويشجع التعاون. والحقيقة هي أن المنافسة الاقتصادية هي نظام للتعاون الاجتماعي. وبقدر ما تكون حقوق الملكية الفردية مصانة وقوية، بقدر ما يكون نظام الأسعار ناجحاً في تخصيص الموارد وتعظيم الثروات.
إن العلاقة بين حماية الملكية—والتي تعرف من حيث الشفافية والاستقلالية والكفاءة التي يتسم بها الجهاز القضائي—وبين الثروة، مقاسة بدخل الفرد من مجموع الإنتاج الوطني الكلي في 150 بلد حول العالم، تؤكد هذا القول. بالمتوسط، فإن دخل الفرد من مجموع الإنتاج الوطني العام، مقاساً بمعدل القوة الشرائية المقارنة، هو ضِعف الدخل في الدول الأكثر حماية للملكية الفردية (23.769 دولار)، منها في البلدان الأقل حماية لها (13.027 دولار)، وبمجرد أن تشير الدلائل إلى تراجع في حماية حقوق الملكية (أي حماية متوسطة)، وحتى بدون أن يكون النظام القضائي فاسداً كلياً، فإن دخل الفرد من الإنتاج الوطني العام يهبط إلى خمس مثيله في البلدان الأكثر حماية (4.963 دولار). إن البلدان التي تكون نظمها القضائية فاسدة جداً تكون كذلك فقيرة جداً بالمعدل الوسط (2.651 دولار).
بعض علماء الاقتصاد يثيرون مسألة التكاليف الخارجية في اعتراضهم على وجود نظام قوي لحماية الملكية. إن وجود تكاليف خارجية تستخدم لتبرير التدخل الحكومي في إضعاف الملكية الفردية. ومع أن وجود عنصر خارجي أو فشل في السوق هو شرط ضروري لإحداث تدخل حكومي، فإنه ليس شرطاً كافياً. الإجراءات الحكومية لها تكاليفها الناتجة عنها، وهذه يجب أن توضع في الميزان عند حساب الفوائد المحتملة من مثل تلك الإجراءات.[12] ومع ذلك، فإن بلدان كثيرة تلجأ إلى فرض قيود من شأنها إضعاف حقوق الملكية الفردية بمجرد هبّة خفيفة من التكلفة الخارجية. الأنظمة والتعليمات تؤثر على النشاط الاقتصادي لأنها تشكل تدخلاً في حقوق الملكية الفردية. إنها تفعل ذلك عن طريق محاولة تعديل أو الإحلال أو استبدال نتائج من صنع السوق بنتائج من صنع الحكومة. إزالة القيود إذن تتجاوب مع الإدراك بأن تقوية حقوق الملكية من شأنه ضمان أفضل الاستخدامات للموارد.
ومع أن المحافظة على حقوق الملكية يزيد بشكل واضح نمو البلدان وتنميتها، فإن تحويل وتنفيذ حقوق الملكية في بعض المناطق يمكن أن يشكل تحدياً، وهذا صحيح بصورة خاصة بالنسبة للبضائع المستندة إلى المعرفة والاستخدامات الاقتصادية لبعض الموارد الطبيعية. وفي الحالتين كلتيهما، فإن من الصعب جداً تحقيق توافق بين الأمم، سواء حول كيفية تعريف حقوق الملكية أو حول كيفية إقامة آلية دولية لتنفيذها. وبهذا المعنى، ستظل البيئة والبضائع القائمة على المعرفة تشكلان قلب أكثر مصادر النزاع حول حقوق الملكية. ومع ذلك تظل الحقيقة قائمة بأن الحماية الفعالة للملكية هي الوسيلة الفعالة الوحيدة أمام المجتمعات لأفضل استخدام لما يملكون من أجل تحقيق التنمية الاقتصادية والثروة.
إن بناء نظام قوي لحماية الملكية الفردية في البلدان الفقيرة ليست بالأمر السهل. كما إن إقامة نظام حكم ديمقراطي ليس ضماناً لنظام يصون الملكية الفردية بقوة. فهنالك بلدان كثيرة تعاني من الفقر ونظمها الديمقراطية مضادة لليبرالية، تقوم بإضعاف وانتهاك حقوق الملكية الفردية على هواها ودون اكتراث، والأرجنتين هي آخر الأمثلة على ذلك وأكثرها فداحة. كما أنه ليس واضحاً بأن الديمقراطية هي شرط ضروري لحماية الملكية الفردية، ذلك أن مثل تلك الحقوق قد نالت الحماية القوية في ظل الدكتاتورية (تشيلي)، وعلى يد سلطات أجنبية حاكمة (هونج كونج). ومع ذلك، إن أقوى الأنظمة على ما يبدو موجودة في البلدان الغنية ذات النظم الديمقراطية المستقلة. إن مصدر نجاحها ينبثق—ليس من كونها حكومات قوية—ولكن من حكومات تركز على حماية الملكية واستخدام تلك الملكية في النشاط التجاري. وكما كتب هايك:
“لم تكن تحت أكثر الحكومات قوة، ولكن في المدن التي شهدت النهضة الإيطالية، وفي جنوب ألمانيا وفي البلدان المنخفضة، وأخيراً، في إنجلترا حيث كانت حكوماتها قليلة التدخل؛ أي أن نشأة الثورة الصناعية الحديثة كانت تحت حكم البرجوازية وليس تحت حكم المحاربين. إن حماية الملكية المتعددة، وليس انقياد استخداماتها من قبل الحكومة، هي التي وضعت الأسس لنمو تلك الشبكة الكثيفة من تبادل المنافع والخدمات، وبالتالي أوجدت النظام العريض.”
إن أكثر ما ينفع البلدان الأقل نمواً هو التركيز على إقامة وحماية الملكية الفردية. ومع ذلك، فإن معظم ما تقدمه الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي موجه نحو أهداف أخرى، وفي كثير من الأحيان يضعف حقوق الملكية. إن حماية الملكية، وتمكين الأشخاص من متابعة ما يصعب في مصلحتهم الذاتية، وفتح سبل التجارة، هي أكثر العناصر ضماناً للنمو الاقتصادي.
الفساد
يركز مسؤولو التنمية المؤيدون للنمو الاقتصادي بشكل متزايد على الفساد بصفة كونه يعيق التنمية. تقليدياً، كان لعلماء الاقتصاد رأيين منفصلين حول الفساد فقد أعرب روبرت بارو عن الرأي بأنه وفي ظروف معينة يمكن أن تتأتى عن الفساد بعض الفوائد:
“في بعض الحالات، فإن الفساد أفضل من التطبيق الأمين لأنظمة سيئة. على سبيل المثال، سوف تكون النتائج أسوأ، إذا كانت هنالك أنظمة تمنع النشاطات الاقتصادية النافعة، وطبقت بحذافيرها، بدلاً من التحايل عليها نتيجة الرشوة. ومع ذلك، فإن مما يعيق الاقتصاد أن تكون النشاطات الاقتصادية التي تتم دون رشوات قليلة. لذا، فإن النتائج الكلية للفساد الرسمي تنطوي على الغموض.”
كثير من علماء الاقتصاد يوافقون على حساب “الثمن مقابل المنفعة” في معالجتهم للفساد، وإن لم يكن الغموض الأخلاقي الذي يكتنف موضوع الفساد. في ظل هذا التوجه، هنالك حد أقصى من التعامل الخاضع للقانون. وعلماء الاقتصاد ميالون إلى تأييد أقوى لموقف بارو عند الحديث عن السوق السوداء، والتي يعتبرها نتيجة وتكيفاً مع تعريف ضعيف لحقوق الملكية، مثل الضرائب الباهظة والقيود الإدارية الظالمة. لذا، وبالتعامل مع القطاع غير العلني، فإن باستطاعة الأفراد أن يمارسوا نشاطات اقتصادية، ربما تُفقد بسبب مؤسسات خفيفة وسياسات خاطئة. ومع ذلك، فإن هنالك ثمناً يتمثل في نقصان الكفاءة، وفقدان القدرة على تطبيق العقود، وكذلك نقصان في الدخل الضرائبي.
وقد رسم هرناندو دي سوتو بشكل واضح المعالم التكاليف التي تترتب على نشاطات رجال الأعمال العاملين في السوق السوداء على الوجه التالي:
“خلافاً للحكمة السائدة، فإن العمل في الاقتصاد غير الرسمي ليس بلا كلفة. فالنشاطات الخارجة عن القانون تدفع ضريبة عدم وجود قانون يحمي الملكية، كما أن عليها أن تتستر على نشاطاتها باستمرار هرباً من السلطات وبما أنهم ليسوا منتظمين في شراكات قانونية، فإن رجال الأعمال الخارجين عن القانون لا يستطيعون اجتذاب المستثمرين عن طريق بيع الأسهم، كما أنهم لا يستطيعون الاقتراض بفوائد رسمية متدنية لأنهم لا يملكون حتى عناوين قانونية. كذلك، فإنهم لا يستطيعون تقليل مخاطرهم عن طريق محدودية الضمان أو الحصول على تأمينات لاستثماراتهم؛ التأمين الوحيد المتاح أمامهم هو ذاك الذي يقدمه جيرانهم، والحماية التي يقدمها “الزعران” أو المافيا لهم مقابل الثمن. يضاف إلى ذلك، وحيث أن رجال الأعمال الخارجين عن القانون يعيشون حالة من الخوف الدائم من اكتشاف الحكومة لهم أو ابتزاز الموظفين الفاسدين لهم، فإنهم يجدون أنفسهم مضطرين إلى تقسيم مرافق إنتاجهم بين مواقف عديدة، وبالتالي فإنهم يحققون الوفر الناتج عن اقتصاديات الحجم. في البيرو، 15% من مجموع الدخل المتأتي عن الإنتاج في المصانع غير القانونية يدفع في شكل رشاوى، تتراوح ما بين نماذج مجانية إلى هدايا خاصة من البضائع وحتى دفعات نقدية. ولما كانت عيونهم تراقب البوليس، فإن النشاطات الخارجة عن القانون لا تستطيع أن تعلن عن منتوجاتها بشكل علني حتى تكسب مزيد من الزبائن، أو أن تعقد صفقات كبيرة بتكلفة أقل لزبائنها.”
وقد قاد دي سوتو البحث إلى نتيجة مفادها أنه إذا كان ممكناً لرجال الأعمال الحصول على اعتراف قانوني بملكيتهم، وأن يعملوا ضمن القانون، فقد يكون مجزياً لهم أن يدفعوا الضرائب لتفادي التكاليف التي تتأتى عن العمل تحت الأرض. الفقراء لا يختارون العمل بشكل غير قانوني لأنهم ميالون إلى السلوك غير القانوني. وفي سياق حديثه عن عملية الهجرة إلى المدن في الدول النامية، فقد وجد دي سوتو أنه “في كل بلد قام بدراسته، وجد أن صعوبة البقاء في ظل القانون لا تقل صعوبة عن أن يصبح المرء قانونياً. وبشكل متعذر اجتنابه، نرى أن المهاجرين إلى المدن لا يكسرون القانون بقدر ما يكسرهم القانون، وبالتالي لا يجدون مفراً من الخروج عن النظام.”
عدد متزايد من المراقبين للدول النامية يلقون باللائمة على تفشي الرشاوى. أليخاندرو شافوين ويوجينيو غوزمان كتبا يقولان:
“ورغم ذلك، فإن السلوك الفاسد نفسه الذي قد يعطي لشخص ما القدرة على تجنب قانون ظالم قد يسمح لشخص آخر بتفادي الالتزام بقانون عادل. إن الموظف البيروقراطي الذي يقبل الرشوة لمساعدة إنسان ما في الحصول على عقد قد يقبل رشوة أيضاً لترك إنسان آخر يخرج من العمل. الموظفون الذين يقبلون الرشاوى لتسريع معاملة قانونية ما قد يقبلون أيضاً برشوة لترك إنسان أعزل غير قادر على حماية نفسه من الابتزاز. والمدراء التنفيذيون لشركات مقيمة في الولايات المتحدة كثيراً ما يجدون أنفسهم ضحايا لمثل هذا السلوك البيروقراطي.”
هنالك دلائل وفيرة على أن شافوين وغوزمان كانا على صواب، فدراسة حديثة لرول وتالبوت تبين بأن الفساد له تأثير سلبي كبير على دخل الفرد ضمن مجموع الإنتاج الوطني العام. إن هذا العنصر هو الثاني فقط من حيث التأثير، بعد حقوق الملكية، على مستوى المعيشة في أي بلد من البلدان، وعندما يتجذر الفساد، يصبح من الصعب اقتلاعه. فالدفاعات غير الشرعية التي يتلقاها الموظفون الحكوميون تصبح جزءً من مكافآتهم المتوقعة، ووكالات الجمارك قد تصبح ليس أكثر من هيئات لجني الرشاوى.
إحدى الطرق للتخلص من هذه المعضلة هي أن تعين الحكومات شركات خاصة مثل الشركة السويسرية (سوسيتيه جينيرال دو سيرفيلانس) لتنفيذ القانون أو حتى لجباية الجمارك. في البيرو، عينت حكومة فوجيموري عدة شركات تفتيش مرخصة لإجراء تدقيق مسبق قبل الشحن على المستوردات من البضائع، والتي تصلح كمرجع لتقرير أحجام المكوس والجمارك والتخليص. هذا المشروع التنافسي الخاص رفع من دخل الجمارك وخفض من التأمينات التي كانت تحصل في عمليات التخليص. الحكومة تقرر لوحات التعرفة والقواعد، ولكن الشركة الساعية للربح تنفذها. وحيث أن سمعتها تكون على المحك، فإن الشركة سوف توظف مواردها لمكافحة الفساد. وكبديل لذلك، يمكن لبلد تخفيض الحوافز الدافعة لأخذ الرشاوى عن طريق تغيير السياسات. إن لوائح التعريفات المعقدة، والتي تضم عدداً كبيراً من الرسوم المختلفة، تخلق الحوافز للمستوردين للسعي لدى مسؤولي الجمارك في الحصول على معاملة تفضيلية بالنسبة للخانة التي تقع فيها بضائعهم. وقد فرضت تشليي تعرفة واحدة متساوية لمعظم البضائع والتي كان من شأنها التقليل من طلب المعاملة التفضيلية إلى حد كبير ولكن ذلك ترك تعرفة عالية مقدارها 10%، وفي عام 1991، أعلنت الحكومة أنها ستخفض التعرفة الجمركية بمقدار 1% كل عام، حتى تهبط التعرفة الموحدة إلى 6% في عام 2003.
ومع أن ذلك ليس مستحيلاً، فإن اقتلاع الفساد بعد تجذره يشكل تحدياً للنظام السياسي. هذا الاعتبار هو الذي حدا بتوماس جفرسون إلى القول بأن الوقاية هي خير علاج:
“الطبيعة البشرية هي نفسها على طريقي الأطلسي وهي سوف تخضع لنسف المؤثرات والأسباب. الوقت الذي يجب أن نحترس فيه من خطر الفساد والطغيان هو قبل أن يمسكا بتلابيبنا. من الأفضل إبقاء الذئب في خارج الحلبة بدلاً من الوثوق بخلع أنيابه بعد أن يكون قد دخل.”
البلدان التي أبقت الذئب خارجاً هي التي تمتعت بالرخاء. الدول الإسكندنافية مشهورة بقلة وجود فساد سياسي. وعلى الرغم من وجود ضرائب باهظة، فإن مواطني تلك البلدان يتمتعون بمستوى عالٍ نسبياً من الدخل الحقيقي. فنلندا والدنمارك تُذكران كثيراً كمناطق جاذبة للاستثمار والتعامل التجاري،

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

بادئ ذي بدء لا بد من التوقف عند علاقة الإسلام والمسيحية بالعروبة من خلال الأزمات التي يعانيها الفكر العربي. فالعروبة التي تعيش مرحلة البحث عن اليقظة، ووعي الذات، بعد قرون من الكبت والاغتراب، وتقف في وجه قرون من السيطرة، قاست خلالها الأمرين من الاستعمار العثماني، ثم الأوروبي والآن الاستعمار الاقتصادي والتكنولوجي، بالإضافة إلى واقع سياسي لا يخفي المصالح الإستراتيجية السياسية والحضارية التاريخية التي تحيط بنا من قبل كل من إيران وتركيا، بالإضافة إلى الخطر الإسرائيلي الوجودي، دون الحديث عن واقع دولي غني عن التعريف.
فالعروبة تواجه عصراً، سقطت فيه الحواجز، واتصلت الشعوب بعضها ببعض، اتصالاً لا انفصال فيه، تتداخل فيه وسائل الإعلام البصرية والسمعية، المقروءة والمكتوبة حيث الثقافات ممزوجة ومتداخلة ومتواصلة. عصر يشهد ولادة ثقافة بشرية، مشتركة، لا هي مسيحية فحسب، ولا هي إسلامية فحسب، لا هي ماركسية فحسب، ولا هي ليبرالية فحسب، لا هي روحانية فحسب، ولا هي مادية فحسب، ولا هي تجريدية فحسب، ولا هي تكنولوجية فحسب.
إنها ثقافة الإنسان وكل إنسان، ثقافة الإنسانية وكل الإنسانية، وكل محاولة للانفصال عن هذا التيار العالمي الجارف محاولة يائسة أو مضيعة للوقت وهدر للجهود.
ومن هذا المنطلق فالعرب لا يمكن أن يكونوا مسلمين فقط، ولا المسيحيون العرب يمكن أن يكونوا مسيحيين فقط. حيث إن الاستقلالات الوطنية ستصبح تقسيماً جغرافياً فحسب، وليس تقسيماً حضارياً بفوارق أساسية على الصعيد العربي.
ومن خلال مراقبة المشهد السياسي اللبناني، نجد أن العروبة هي من المصطلحات الأكثر رواجاً من قبل الكثير من السياسيين تارة للتبرير وتارة أخرى للتخوين، وأصبحت الحرب اللبنانية النموذج بالنسبة لهؤلاء السياسيين للاستشهاد بها عند الضرورة.
وإذا كانت هناك حسنات تذكر للحرب اللبنانية والأزمة اللبنانية الأخيرة، فهي أنها عرت الوضع اللبناني ودفعت باللبنانيين نحو مواجهة مباشرة ومكشوفة مع الحقائق التاريخية والتي يحاول البعض والبعض الآخر أحيانا طمسها والتستر عليها وإخفائها تحت ألف ستار ودافع، وتارة أخرى تجد من يحاول الاستشهاد بها تحقيقاً لألف غرض ومصلحة وغاية. وجوهر هذا الواقع يمكن التعبير عنه بالسؤال الآتي:
أين هي العروبة من انتماء لبنان الحضاري؟
لقد نتج عن هذه التفاعلات المتداخلة واقع مسيحي وإسلامي في لبنان ما زال حاضراً حتى يومنا هذا، أدى إلى فقدان الجاذبية القومية الشديدة والشبه مفقودة كي تربط المسيحي بباقي أبناء وطنه ومجتمعه. وما وقع فيه المسيحي اللبناني وقع فيه المسلم اللبناني أيضاً، وهكذا ضعفت الرابطة الوطنية لصالح الرابطة الدينية، وغلب الولاء الديني على الولاء الوطني بل وحل محله. وهذا الواقع ليس له مثيل في دنيا المسيحيين الأوروبيين، فالمسيحي الأوروبي مثلا لا يغلب ولاءه الديني على ولائه الوطني، ولقد رأينا كيف قامت كثير من الحروب بين شعوب تنتمي للمسيحية، وهذا الواقع ليس له مثيل أيضاً في دنيا المسلمين، بمن فيهم مسلمي العرب، فالخلافات بين الدول الإسلامية، أكثر من أن تحصى، بل هناك دول إسلامية تتحالف مع دول غير إسلامية، ضد دول إسلامية وبالتالي فإن الرابطة الدينية خارج لبنان قد تأتي بعد الرابطة القومية.
طرح القضايا الفكرية والحضارية وعلى مستوى إنساني أو سياسي وبأسلوب راق هو تنوع وغنى. ونحن العرب بأمس الحاجة إليه، ولكن هذا الطرح من أجل أن يكون سليماً وصحيحاً ويخدم المجتمعات المتنوعة والمفتوحة سواء على صعيد لبنان أو على صعيد الوطن العربي، لا بد أولاً أن يتم على صعيد لبنان من خلال  أمرين:
أ – التخلي عن الحكم على العروبة بمقاييس هذه الدولة العربية أو تلك، والرجوع إلى جوهر العروبة الحضاري الذي لم يتجسد بصورة كاملة في أي دولة.
ب – رفض تقسيم الشعب اللبناني داخل لبنان إلى قسمين (مع أو ضد العروبة). ومن خلال هذه الملاحظة يبدو بأن لبنان أقل ابتعاداً عن العروبة من عدد كبير من الأقطار العربية.
ويمكن القول أن أكثر ما يفقد العروبة بعدها الحضاري هي تلك المواقف الانتهازية والاتهامات المسلطة في وجه اللبنانيين على أنهم عملاء للخارج ومعادون للعروبة.
أما على صعيد الوطن العربي فكرة العروبة يمكن فهمها من خلال :
أ –  أن الأمة المتمثلة بالعروبة لا يمكن أن تكون ثمرة إبداع فكري مجرد حيث تنزل من العقل البشري المبدع فتلتحق بالمجتمع، بل تظهر من واقع المجتمع وتظهر لعقل المراقب الواعي. فالعروبة ليست إذن عملية ذهنية بل واقعية وتوضيحاً نقول : هل إن أحداً من رجال الدولة أو الفكر تمكن عبر الزمن من تركيب صورة عن أمة في ذهنه ومن ثم تطبيقها فيما بعد في المجتمع ؟ ومن يحاول فعل ذلك يكون واهماً يصدمه الواقع ويفسد إبداعه فكيف بحال الانتهازيين؟ كما أن القضايا الحضارية لا تعالج بمرسوم ولا تلغى أو توضع موضع التنفيذ بانقلاب عسكري ولا حتى بثورة، فالقضايا الحضارية موضوع شائك ومعقد لما هي عليه من اتساع في المدى وتنوع المعطيات.
ب – العروبة هي جماعة لها وجود واقعي وتاريخي، وشخصية مجسدة، وبالتالي ليست مجرد فكرة مجردة جوهرية ماهوية، بل فكرة واقعية محددة ومجسدة بواقع الفكرة، وبالمظاهر الفعلية، لها شخصية قانونية، لغة مشتركة، أرض مشتركة، سلوك نفسي جمعي. والعروبة هي التعبير الفكري الذهني عن الواقع العيني للجماعة السياسية والأمة، فإذا كانت الأمة فكرة قومية لها مسوغاتها، فلأنها قبل أي اعتبار تعبر عن واقع وجودي، عن كينونة الأمة في زمانية وواقعية الوجود التاريخي الاجتماعي. والجدل حول مفهوم العروبة، وحتى فكرة العروبة هي جزء لا يتجزأ من وجود العروبة.
الأمة وجود وكيان وشخصية عيانية، والجدل حول مفهوم الأمة، لا يغير، ولا يبدل من حقيقة وجود الأمة المادي والروحي.
ج – يجب علينا مجابهة الفكر، الماهوي الجوهري، الصوري والذي لا يميز بين الأمة الوجودية وهي الوطن العربي الطبيعي بقومه وأرضه، وبين التعبيرات الفكرية الأيديولوجية الكلية عن وجود العروبة. وبالتالي يجب تحرير الفكر العربي من أسطورة الحتمية الوحدوية وأشكالها المختلفة، ومن المفهوم الوجودي القومي الواحد، الذي يفرز بوجوده الحتمية وأشكالها المختلفة، وتلك هي الخطوة الأولى على طريق محاربة عملية الانزلاق في الإقليمية والمحلية، كما يحدث الآن في كثير من البلاد العربية. كما أنه لا يمكن أن يقوم أي شكل من أشكال الوحدة العربية على أساس عاطفي، أو ديني أو عرقي، وهذا يعني خلق الإنسان العربي متحرراً من كل الرواسب والسلفيات، والعصبيات وحتى الخرافات والأساطير.
العروبة ببعدها الحضاري والإنساني لا يمكن أن تتحقق سوى بشرط أساسي وهو المواطنة والعلمنة وهذه عبرة من العبر التي يعلمنا إياها التاريخ أو الواقع الحاضر، ولا تترك أمامنا سوى سبيل واحد ألا وهو النظام العلماني أو المدني، نظام الحرية الدينية والكرامة الإنسانية، القائم على حياد السلطة وإعطاء الحرية الدينية للفرد، وإعطاء أصحاب الأديان حرية التملك اللازمة لممارسة أنشطتهم وحاجاتهم، وبالتالي فصل الدين عن الدولة، ففصل الدين عن السياسة ضرورة تعلمنا إياها التجارب، وهو حال التاريخ العربي.
ولكن هل سنتعلم من الأيام أم نتركها تعلمنا وتتعلم بنا ؟؟
وهل سنعتبر من التاريخ ؟ أم نكون دائماً عبرة لمن يعتبر؟
© منبر الحرية، أب  2010

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

في سياق الانشغال العربي على كل المستويات السياسية والنخبوية، فضلا عن المؤسسات البحثية ووسائل الإعلام بالصعود التركي وتداعياته الإقليمية والدولية، يثار التساؤل التالي: ما هي ملامح خطاب المثقفين العرب تجاه هذا الصعود التركي واتجاه التغير الذي لحق السياسة الخارجية التركية؟

بعد رصد ومتابعة لما كتب حول هذا الانشغال العربي في خطاب المثقفين، نستعرض في هذا المقال، ملامح هذا الخطاب وقسماته، وبعد ذلك نقدم رؤية نقدية لهذا الخطاب، بغرض الكشف عن البنية الفكرية للمثقفين العرب.  وجدير بالذكر أن هذا المقال يتناول بعض القراءات للمثقفين وليس كلها، فهناك قراءات معمقة وتستحق التقدير ولكنها قليلة ونادرة. وعليه فنحن هنا نقدم قراءة للصفة الغالبة لخطاب المثقفين تجاه الصعود التركي، فهذا ما يستحق الدراسة والبحث.

وفي هذا السياق، نجد من بين المثقفين من وصف تأثير الصعود التركي بأنه “خطف الأبصار وأسر القلوب”. وآخر يقول: “إن الشرق الأوسط دخل العصر التركي”. وثالث يناشد وزير خارجة تركيا بإنقاذ بلاده قائلا: ” لا تتركنا يا داود أوغلو”، لأنك “تحمل في حقيبتك أفكاراً وتمنيات وحلولاً وضمادات وعقاقير”. ورابع يرى بأن ثمة “تحولات إستراتيجية مهمة في المنطقة أسهم فيها الموقف التركي”. هذه التحولات جعلت “إسرائيل خالية من أي تحالفات إقليمية للمرة الأولى منذ تأسيسها”. وخامس يقول: “أصبحت إسرائيل تسعى إلى استمالة تركيا عن طريق وساطة واشنطن” بعد أن كان العكس هو الذي يجري. وسادس: “فتركيا الخلافة ستعود بإذن الله قريبا”؛ لأن الجسد العربي صار بعد زوالها “هزيل ومهتري”، وبعودة تركيا “الخلافة” يعود “العز والمجد”. وسابع يرد التغير في الموقف التركي من الحليف الاستراتيجي “إسرائيل” إلى “صحوة ضمير المسئولين الأتراك”، هذا الموقف الأخير في غاية الغرابة، كونه يرد هذا التحول في المسائل السياسية والإستراتيجية إلى الضمير، وبالتالي يسقط من اعتباره العوامل الموضوعية سواء أكانت داخل تركيا أو في محيطها الإقليمي والدولي، ويعزل المجتمع التركي بكامله عن هذا “التحول الكبير” ويحصره فقط في ضمير المسؤولين الأتراك. أي دكتاتورية ورومانسية وليس أكثر من ذلك !.

والأغرب وتحت تأثير “السحر التركي” يصف بعضهم الشعب التركي بأنه “شعبٌ من أفضل شعوب المسلمين”؛ لأنه ” شعب يتميز بحميَّة إسلامية عالية، وبرُوح إيمانية رائعة”. بأي مقياس  قاس ذلك ؟ لا نعلم. والأنكى أن هذا الموقف العنصري يأتي على لسان “رجل دين” يدعي بأنه مفكر إسلامي، ويحمل مشروعا فكريا لاستنهاض أمة الإسلام، هذا المفكر  يرد عودة تركيا  إلى حضنها الإسلامي بغية “الدفاع عن أهل السنة ضد الأحلام الصفوية الشيعية”؛ لأنه ليس للعرب، في ظل ضعفهم، غير ” الاعتماد  على تركيا السنية(…) لذلك يُعَلِّق عليهم أبناء العالم الإسلامي آمالَ الوقوف أمام التغلغل الشيعي المؤَيَّد بالأنظمة الغربية”. والأكثر غرابة عندما تساءل أحد المثقفين العرب: “هل توحد تركيا المشرق العربي ؟”. وفي لغة مفعمة بالتمني والرغبات صور أحدهم تركيا بالقوة الرئيسية في المنطقة، وأنها ستلعب أدوارا ” حيوية في كل الملفات المطروحة، رغم انف إسرائيل ولوبياتها” .

هذا على المستوى الفردي.   أما على المستوى المؤسساتي، فهذه مؤسسة تمنح أردوغان جائزة العام 2010 ” تقديرا للمنجزات الاستثنائية”. وتلك تمنحه جائزة لـ”خدمة الإسلام “باعتباره أنموذجا” ولـ”قيامه بجهود عظيمة وبناءة”. وأخرى تشيد بموقف أردوغان في مؤتمر دافوس، وتعتبر موقفه دليلا  على ” زوال عصر قوة السلاح “.

وفي ضوء هذه الرؤى، يتبن أن بعض العرب الذين بدؤوا بملاحظة التحول في السياسة الخارجية التركية، تعاملوا تعاملا ساذجا ومبالغا فيما يخص هذا التحول، والدور الموعود لتركيا، ليس الإقليمي فحسب بل والعالمي أيضا كما يجري تصويره. ورغم أن  ملامح السياسة  التركية  ما زالت قيد التشكل، وأن قسمات المشروع التركي لم تتبلور بعد، إلا أن البعض أصدر أحكامه قطعية ويقينية.

والملفت للنظر أن هناك هالة كبيرة أحاطت هذا التغير التركي، ورسم دور يفوق طاقة تركيا وقدراتها وكأنها تعمل في فراغ دون أخذ قدراتها الفعلية وارتباطاتها الجيو-ستراتيجية، فضلا عن إضفاء نوع من الرومانسية والبطولة والشجاعة والمرونة الفائقة عليها. وبالتالي إحلال رغباتهم الذاتيّة محلّ الواقع، وكأننا لا نحلل هذا التحول المرتبط بدولة تتحرك في سياق إقليمي ودولي يضع عليها قيودا بقدر ما يفتح أمامها فرصا للتحرك، بل يتجاوز هذا “التحليل” وكأنك تقرأ لعاشقة تكتب عن عشيقها، أو عاجزا ينتظر المخلص. مع العلم أن تركيا لا تملك إلا القليل من الوسائل الخاصة اللازمة لتحقيق مصالحها التي  لا تتناسب مع ارتباطاتها الإستراتيجية وتطلعاتها الإقليمية.

هذا التبسيط هو هروب من الواقع وانحياز وتشويه لحقيقة هذا التغير في السياسة التركية، واستغراقا في الرومانسية والخيال، بعيدا عن ارتباطات الواقع وحدود الحركة. وهذا يؤكد أن الفكر العلمي والموضوعي لم يكن جزءا من خطاب هؤلاء، بل سيطر الفكر الرغبي، والرومانسية الفاقعة على العقلانية، والتمني على الواقع، والحلم على الحقيقة، وهو تعويض سيكولوجي عن نقص حاد يعتري هؤلاء،  وتعبير عن ضيقٍ من الأوضاع القائمة المزرية، وفي نفس الوقت يعكس حالة الفراغ الذي يعاني منه النظام  الإقليمي العربي. وبالتالي ثمة أزمة منهجيّة في تفكيرهم. وباعتبار أن ثمة علاقة بين المعرفة والأطر الاجتماعية، فموقف هؤلاء الفكري مرتبط بضعف وترهل وهشاشة البنى السياسية والاجتماعية والثقافية في البلاد العربية. ويؤكد موقفهم “الفكري” هذا بأن الميثولوجيا( الأساطير والزيف والأوهام) تبرز في الفكر السياسي الوضعي كما في الخرافة الشعبية، مكتسيا، في كل حالة، شكلا خاصا من “العقلانية” أو المعقولية، كما يقول فالح عبد الجبار في كتابة “معالم العقلانية والخرافة في الفكر السياسي العربي، (ص54). وعليه فهذه الميثولوجيا عميقة الجذور  في زوايا التفكير والوعي الاجتماعي. إذ تؤكد هذه القراءات أن هؤلاء المثقفين لم يتحرروا من إسار الايديولوجيا وأنها لا تزال فاعلة في وعيهم وتكوينهم الفكري، وبالتالي كل الحديث الذي قيل حول نهاية الايديولوجيا هو حديث ليس له أي سند واقعي. أضف إلى ذلك أن ولائهم السياسي لأنظمتهم كان طاغيا وعلى حساب التحليل الموضوعي المرتبط بالمصلحة القومية للعرب، وهذا يعني ضعف الفكر القومي لديهم. فمثلا نجد معظم المثقفين السوريين مرحبين بالصعود التركي، وفي المقابل نجد أن المصريين متوجسون وتنتابهم  نزاعات شكك عميقة من الدور التركي. وهذا يعني أن مواقف هؤلاء غير مستقل عن مواقف أنظمتهم السياسية، كون أن النظام السوري رحب بهذا الدور، أما نظيره المصري عبر عن مخاوفه العميقة من هذا الصعود. وهذا ينبئ بأن الدور التركي الصاعد قد يحدث المزيد من الانقسامات العربية- العربية.

ولكن  التساؤل هنا: هل توافق تركيا على هذه القراءات الساذجة ؟ بعبارة أخرى: كيف ترى تركيا نفسها ؟

إذا كانت تركيا بهذه القوة، كما يصورها هؤلاء، لماذا لم توفق حتى الآن في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي؟!، ولو كانت تركيا بهذا “السحر” لكان الأولى أن  يستجدي الاتحاد الأوربي لكي تمن عليه وتقبل تركيا الدخول في الاتحاد بدلا من العكس!.  ولو كانت تركيا كذلك لما شعرت بأنها مهملة، ولا تم تجاوزها في عملية تشكيل الصرح الأمني للقارة الأوروبية، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، رغم أنها تعتبر نفسها داخله بعمق وفي نسيج الصرح الأمني الأوروبي، ولما انحاز الاتحاد الأوروبي إلى اليونان، خصم تركيا اللدود، ولما فضلها على تركيا في مجالات الأمن والدفاع وغيرها من المجالات الأخرى. ولو كانت بهذه القوة لحسبت واشنطن لتركيا ألف حساب قبل أن  تستخدم “قضية الأرمن” ضدّ تركيا، عندما قررت لجنة الشؤون الخارجية بالكونغرس الأمريكي بوصف المجازر التي وقعت عام 1915، وراح ضحيتها آلاف من الأرمن، بـ”الإبادة الجماعية”، ولما صوت البرلمان السويدي أيضا على قرار يعتبر ما جرى مع الأرمن هو إبادة، بل ذهب البرلمان السويدي أبعد من ذلك حيث نص القرار أن “السويد تعترف بإبادة عام 1915 ضد الأرمن، والآشوريين، والسريان، والكلدانيين، واليونانيين، الذين كانوا مقيمين” في أراضي السلطنة العثمانية، وبالتالي كل الأقليات المسيحية التي كانت مقيمة هناك. وذلك  دون أن تعير العلاقات التركية-السويدية أي اهتمام. والغريب أن من الكتاب من اعتبر أن هذين القرارين  يعدان في الحقيقة “انتصارا لتركيا”، رغم أن تركيا سارعت إلى التنديد بهذا التصويت، وعبرت عن استيائها وامتعاضها. وقام الرئيس التركي، عبدالله غل، بالاتصال بالرئيس الأمريكي، باراك اوباما، وطلب منه التدخل  للحيلولة دون مصادقة الكونجرس على توصية اللجنة. كما وطالبت السويد أن “تتخذ خطوات للتعويض” عن قرارها الذي “لن يفيد العلاقات الثنائية وقد يلحق بها الضرر”. بأي عقل قرأ كاتبنا هذا “الانتصار” ؟ بالطبع لا ندري، رغم أن تركيا لا تعتبره كذلك. وهكذا يتبن أن تركيا لا تشكل قيمة كبرى للاتحاد الأوروبي وبخاصة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، الذي قلل من قيمة تركيا الإستراتيجية، ما أثار نقاشات داخلية حامية حول دور تركيا الإقليمي، لإعادة تقويم أهميتها الإستراتيجية، وإعادة تحديد مكانتها في المنظومة السياسية الجديدة على الصعيد الدولي. ولكن هذا لا يعني أنها فقدت قيمتها. نحن لا نقلل من قيمة تركيا، فلها مكانتها واحترامها، ولكن نقلل من قيمة المبالغة في الدور التركي، الذي يحاول أن يصوره البعض كـ”قبضاي إقليمي”، وكـ”عودة صلاح الدين”. فأي مبتدئ في علم السياسة يدرك أن أية دولة تتبع سياسة ترمي إلى تحقيق مصالحها أينما وجدت. وعليه، فتركيا تعي جيدا دورها ولن تستطيع الذهاب بعيدا عن الخط المرسوم، ولن تتجاوز الخطوط الحمر؛ لأنها تدرك أن السياسة هي انعكاس لموازين القوى. وهذا ما نلمسه في تفكير أحمد داود  أوغلو القائم على الموازنة بين “قوة الأمر الواقع”، و”قوة الحق الأصيل” في ضوء موازين القوى. هذا المبدأ يؤكد أن تركيا بلد يتبع مبادئ النظرية الواقعية في العلاقات الدولية، بلد يؤمن بتوازن القوة وبضرورة السعي إلى تحقيق المصالح القومية حتى لو  اقتضت الضرورة تحقيق هذه المصالح على حساب دول أخرى. وفي ظل موازين القوى السائدة، ستتأثر سياسة تركيا تجاه المنطقة العربية بروابطها المصلحية والاقتصادية مع الولايات المتحدة الأمريكية، مما يجعلها لا تجرؤ على التعامل مع المنطقة بعيدا عن المشروع الأمريكي وسياسته في المنطقة.

وهنا نستطيع أن نقدم فرضية أولية وهي: أن أولوية المشروع التركي في المنطقة ستكون اقتصادية، وسيبتعد قدر الإمكان عن الأبعاد السياسية والإستراتيجية التي تثير حساسية المشاريع الأخرى في المنطقة، وحتى لا يصطدم معها. فقد تبين أن تفاعلات تركيا حتى الآن محصورة فقط بإيران، العراق، سورية، لبنان، والأردن، بهدف تحرير التجارة بين تركيا ودول المشرق العربي خصوصا، بغية تدشين سوق مشتركة. وقد عبر أحمد داود أوغلو عن تطلعات تركيا  في تكثيف التفاعلات التجارية والاقتصادية والمالية بينها ودول المشرق العربي في العديد من محادثاته مع الجانب العربي. وعليه، فتركيا لن تضيف لنا نحن العرب إضافة إستراتيجية، ولن تقوم بأي دور بدلا عنا نحن معشر العرب.

تأسيسا على ما تقدم فإن الزعم، الذي يكثر ترديده، حول الدور الإقليمي والعالمي لتركيا، زعما يقوم على قدر هائل من المبالغة، فإن المرء لا يستطيع أن ينفي حقيقة أن تركيا لها مكانتها الخاصة في السياق الإقليمي والدولي، ولكن ما نقره نحن أن تركيا تواجه مخاطر أمنية لن تستطيع مواجهتها وتعزيز استقرارها الأمني لوحدها ودون مساعدة واشنطن والغرب وحتى إسرائيل.كما أن تحقيق تطلعاتها الاقتصادية بحاجة إلى إسناد أمريكي وغربي.  لذا فإن سياستها سوف تأخذ بعين الاعتبار مصالح هؤلاء أكثر من غيرهم، حتى لو تطلب الأمر ضرب مصالح العرب بعرض الحائط، طالما بقي العرب غير مؤثرين في لعبة التوازنات السياسية، وبقاءهم أحد مكونات اللعبة السياسية، ولكنهم ليسوا المؤثرين الوحيدين أو اللاعبين الرئيسين، فقط هم قطعة شطرنج تمارس الضغوط عليهم من اللاعبين الرئيسيين.

وما يكشف عن  القدرة المحدودة لتركيا هي المبادئ التي تقوم عليها سياستها الخارجية، أي  “الموازنة” و”المسالك المتعددة”. هذان المبدءان صكا بفعل الموقع الجغرافي الحساس لتركيا، وسوف نتحدث عن ذلك في مقال آخر، ولكن المهم في هذا السياق، أن هذين المبدأين يكشفان عن ضعف بنيوي في تركيب السياسة التركية. إن  التركيز على مبدأ “المسالك المتعددة” وعدم القدرة على انتهاج سياسة ذات حد واحد، وإضفاء صفة التعددية على سياستها الخارجية، هذا يشي بأن تركيا عاجزة عن العمل بمفردها، وبذا لا تستطيع أن تفرض نفوذها، ونجاح سياستها مرهون بقبول الآخرين بها، وأن لا تكون على حساب مصالحهم، واجتراح سياسات تحظى بموافقة الجميع. ولا أعرف دولة استطاعت أن تبني علاقات متوازنة ومتكافئة مع الجميع، إلا الدول الضعيفة التي ليس لديها مشروع أو فلسفة سياسية خاصة، أو رؤية واضحة تسعى إلى تطبيقها، فالدول التي تسعى إلى التورط الإقليمي والدولي يجب أن تأخذ مواقف محددة وواضحة. كل ذلك يظهر مدى التحديات والمأزق التي تواجهه تركيا، ومدى التحديات التي تظهر مدى صعوبة تحقيق هذه المبادئ؛ لأن تركيا سوف تضطر في النهاية لأن تُقدِم على خيارات واضحة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لن تقبل الدول المنخرطة معها في تفاعلات ومصالح متبادلة بأن تستمر بسياسة الموازنة هذه، وتدهور علاقاتها مع إسرائيل دليل على ذلك.  ورغم ما فعلته إسرائيل بتركيا، عن سابق دراية وتخطيط، بإهانة سفيرها، إلا أن الأزمة تم تجاوزها “فكان الاستقبال [التركي] الحافل لايهود باراك وتجديد الالتزامات الإستراتيجية تجاه إسرائيل” على حد قول أحد الكتاب النابهين. هذه هي لعبة التوازنات التي لا يدركها الكثيرون من المثقفين هؤلاء.

© منبر الحرية ،يونيو / حزيران 2010

peshwazarabic11 نوفمبر، 20102

قد تكون أزمة اليونان المالية الحالية، التي بدأ يمتدّ هشيمها إلى دول أوروبية أخرى، استرعت انتباه المشرفين على تنفيذ مشروع الوحدة النقدية الخليجية، واحتكرت مجهرهم  خاصة وأنهم مكلّفين بإنجاح مشروع مماثل للوحدة النقدية الأوروبية في منطقة الخليج.
وبدون أدنى شك فإن هؤلاء يحرصون بالتأكيد  على تجنّب الوقوع في هكذا مأزق مستقبلا  الذي قد يجرّ المنطقة  إلى عواقب وخيمة مثل الأزمة التي تتخبط في براثنها حاليا دول الاتحاد الأوربي، بعد أن أشعل فتيلها ارتفاع عجز ميزانية اليونان ليمثّل أكثر من 13 % من قيمة اقتصاده مقابل نسبة قصوى لا تتجاوز 3 % من الناتج المحلي الإجمالي لكل دولة  أوروبية، اشترطها الرّاسمون للسياسة النقدية الأوروبية للانخراط في منظومة الوحدة النقدية الأوروبية.
وكما هو معلوم، يتهيأ التكتّل الخليجي المعروف بـ”مجلس التعاون لدول الخليج العربية”  إلى إطلاق عملته الخليجية الموحّدة، التي لم يتم إلى حد الآن تسميتها رغم بلوغ المشروع، وحسب وثيقة اتفاقية الاتحاد النقدي لمجلس التعاون لدول الخليج العربية التي دخلت حيز التنفيذ منذ 27 فبراير المنقضي،  بلوغه المرحلة ما قبل الأخيرة لطرح هذه العملة إثر انعقاد الاجتماع الأول لمجلس النقد الخليجي  في شهر مارس من العام الحالي.
وينضوي تحت لواء التكتل الخليجي العربي الذي يعود تأسيسه إلى  بداية ثمانينات القرن الماضي في إطار الاتفاقية الاقتصادية الموحّدة، ست دول خليجية تتمثّل في السعودية، الإمارات  العربية المتحدة، الكويت، قطر، سلطنة عمان والبحرين، إلا أنّ عضوين من هذه المجموعة الخليجية، وهما الإمارات وسلطنة عُمان،  آثرا عدم الانخراط مبدئيا في منظومة الوحدة النقدية الخليجية مع مواصلة الانضمام إلى باقي المشاريع الاقتصادية الموحدة والالتزام بها وهي أساسا السوق الخليجية المشتركة والاتحاد الجمركي.
وحسب وثيقة اتفاقية الاتحاد النقدي الخليجي التي تم الإعلان عنها نهاية عام 2008، فإن مهمة مجلس النقد الخليجي تكمن في الإعداد  لتأسيس بنك مركزي خليجي  يهدف إلى رسم وتنفيذ السياسة النقدية الخليجية وتحديد سعر الصرف للعملة الخليجية الموحّدة.
وانطلاقا من تجربة العُملة الموحّدة الأوروبية  التي أثمرت الـ”يورو”، وهي تجربة لا يقدر التّكتل الخليجي على تجاهلها، فإنّ التّداول الفعلي  للعملة الخليجية، وعلى بلوغ المشروع المرحلة ما قبل الأخيرة، لن يكون بين عشيّة وضحاها.
فبالرّجوع إلى مشوار الوحدة النقدية الأوروبية، فإن التنفيذ الفعلي لمشروع اليورو، وبدون اعتبار المراحل السابقة للوحدة الأوروبية التي بدأت تتلمس طريقها نحو التبلور منذ بداية خمسينات القرن الماضي،  بدأ منذ 1990 بإقرار التحرير الكامل لرؤوس الأموال وتطوير التعاون بين البنوك المركزية الأوربية، إضافة إلى حرية الاستعمال الافتراضي فيما بين البنوك الأوروبية لعملة الـ”إيكيو” التي تم تطويرها بعد 10 سنوات تقريبا إلى عملة  الـ”يورو”.
هذه المرحلة التمهيدية تطوّرت إلى مرحلة إطلاق مؤسسة النقد الأوربي، التي تعادل خليجيا مؤسسة مجلس النقد الخليجي. وتم ذلك عام 1994 بالتوازي مع إعلان إنهاء دور البنوك المركزية الأوروبية في تمويل القطاع العام ومواصلة دعم التنسيق بين السياسات النقدية بين الدول الأوروبية المعنية وتقوية التقارب الاقتصادي فيما بينها والاتجاه نحو استقلالية البنوك المركزية المحلية، لتندثر هذه المؤسسة في مرحلة لاحقة  بعد تسليمها المشعل إلى البنك المركزي الأوروبي الذي تم تأسيسه عام 1998.
وقد تركّز دور “المركزي” الأوروبي على وضع الآليات الممهّدة لمرحلة إطلاق عملة “اليوور”، والتي انقسمت بدورها إلى مرحلتين بدأت  الأولى منها عام  1999 من خلال تحديد سعر العملة الموحدة وآلية الصرف الأوروبي. كما تجسدت هذه المرحلة عمليّا من خلال القيام بالعمليات النقدية الافتراضية ما بين البنوك الأوروبية  وإصدار سندات الدين  باليوور قبل طرحه فعليا، وفي مرحلة ثانية،  بين المستهلكين العموم منذ عام 2002.
انطلاقا من هذا التذكير المختزل لمراحل إطلاق اليورو، يتبيّن أن هذا المشروع تطلّب 12 سنة تقريبا من الاستعدادات الفعليّة قبل أن يلمس المستهلك داخل أوروبا وخارجها ورقة اليوور بين يديه.
وبسبب اختلاف المعايير الهيكلية والظرفية بين أوروبا وبين دول الخليج في  نواحي عديدة وعلى رأسها السياسيّة منها والاقتصادية، فإنه لا يمكن التكهّن بأن يتولّى التكتل الخليجي نسخ  ما قام به الاتحاد الأوروبي ومحاكاة تجربته في إطلاق عملته الموحّدة وتطبيقها بكل حذافيرها وفي أدقّ تفاصيلها.
في المقابل يمكن الاستنتاج  بالقول إن دول الخليج ستنتهج المعايير ذاتها والشروط  الاقتصادية نفسها التي اتّبعها الاتحاد الأوروبي، لمنطقية هذه العوامل ومشروطيّتها لإنجاح مشروع عُملة موحّدة. وتتعلق هذه المعايير أساسا بالتضخم،  معدل الفائدة، سعر الصرف، نسبة عجز الميزانية من الناتج المحلي الإجمالي ومعدل الدين العام من القيمة الإجمالية لاقتصاد كل دولة معنية بالاتّحاد النقدي.
أيضا، وفي السّياق ذاته، فإنه لا يمكن  التّخمين بأن يكون إطلاق العملة الخليجية الموحّدة بعد  8 سنوات منذ بداية أعمال مجلس الاتحاد النقدي، انطلاقا من التدّرج ذاته الذي انتهجه الأوروبيون منذ إنشاء مؤسسة النقد الأوروبي عام 1994 وصولا إلى طرح عملة اليوور بين العموم سنة 2002.
أوجه الاختلاف
بالرجوع إلى الواقع الخليجي، ومقارنته بالتجربة الأوروبية، فإن أوجه الاختلاف تكمن  أساسا في عدم الإعلان، وإلى حد الآن، عن اسم العملة الموحدة للتكتّل الخليجي مستقبلا،  وبالتالي فإن عملية ترويج المنتوج الجديد، ونقصد به العملة الموحدة، داخل رقعة الخليج وخارجها، غير ممكنة في الوقت الحاضر، في حين أن الأوروبيين قد أعلنوا عن اسم عملتهم المستقبلية وبدأو التّسويق لها قبل سبع سنوات من طرحها بالسوق.
أيضا، لم تتوضح، وإلى حد الساعة، معالم الأجندة الخليجية  لإطلاق العملة الموحدة، خاصة بعد تراجع الخليجيين عن طرحها في موعدها المحدد سابقا والذي كان من المفروض بدءا من 2010 مثلما تم التّخطيط إليه من خلال إعلان قمة مسقط عام 2001  حول الجدول الزمني لإطلاق العملة الخليجية الموحدة والذي سبقه بعام واحد  قرار قمة البحرين بتثبيت سعر عملات دول الخليج الست وربطها بالدولار. وحول نقطة الاختلاف ذاتها، فإنه تجدر المقارنة هنا  أن الأوروبيين ضبطوا منذ البداية رزنامة زمنية دقيقة وتفصيلية حول آجال تنفيذ مشروع عملتهم الموحدة.
على مستوى آخر، يلاحظ أن دول مجلس التعاون الخليجي لا تزال بعدُ في مرحلة المشاورات والاستعدادات لتطبيق منهج ضريبي متقارب. كما اقتصرت التّسريبات الرسمية في هذا الصدد على إمكانية تطبيق دول الخليج بداية من 2012  نظام الضريبة على القيمة المضافة.  وهي خطّة مالية  ترمي إلى سد ثغرة  تراجع المداخيل الجمركية  نتيجة دخول دول الخليج في علاقات واتفاقات التجارة الحرّة، وكذلك تفاديا لتداعيات تذبب أسعار النفط بالأسواق العالمية وما يعنيه ذلك من عدم استقرار المداخيل لدول الخليج  التي لا تزال تعتمد بصفة أساسية  على عائدات الذهب الأسود.
في المقابل، تُصنّف الضرائب ضمن المصادر الأساسية لميزانيات دول الاتحاد الأوروبي، كما أن تقريب عملية تقديرها واحتسابها سهّل للأوروبيين إلى حد كبير عملية ضبط المعايير المتعلقة  باحتساب هوامش عجز الميزانية والتضخم وإرساء تقارب هيكيلي أكبر على مستوى مناخ الأعمال والاستثمار في المنطقة الأوروبية.
أيضا يكمن الاختلاف بين المقاربتين الأوروبية والخليجية في تقارب أسعار أغلب العملات الخليجية لارتباطها بالدولار باستثناء الكويت التي ارتأت اعتماد سلة عملات لتقليص مخاطر تراجع سعر الدولار في السنوات الماضية.  في المقابل فإن أسعار العملات الأوروبية كانت شديدة التفاوت والاختلاف قبل توحيدها إلى اليورو، وهو ما كان يسبّب تكلفة ومخاطر إضافية على مستوى التجارة البينيّة الأوروبية وتنقل رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية.
الاختلاف الأخير، وربما الأساسي بين المنظومتين الأوروبية والخليجية،  يتمثل في مدى اعتماد دول الخليج على الثروة النفطية الناضبة والمهددة بالزوال، وبنسبة تفوق 50 % من ناتجها المحلي الإجمالي مقارنة بالدول الأوروبية التي تعتمد بالأساس على ثروة ذات قيمة مضافة  طويلة المدى مستمدة من الصناعات التحويلية والخدمات بفضل تمكنها من المعرفة وامتلاكها التكنولوجيا بجميع مناحيها.
وانطلاقا من نقاط الاختلاف بين الشقّين الخليجي والأوروبي في الظروف والعوامل المؤطرة لاستعدادات التحوّل إلى عملة نقديّة موحّدة، فإن التكتل الخليجي قد يعتمد تجربة تتلاءم وظروفه وخصائصه الاقتصادية منها والسياسية،  حتى وإن اضطرّ الرجوع إلى المعايير الاقتصادية  ذاتها التي ضبطها نظيره الاتحاد الأوروبي في تنفيذه وحدته النقدية.
لكن في الوقت ذاته، وبالرجوع إلى أزمة منطقة “اليورو” الحالية، التي استهللنا بها مقالنا، فإن التكتل الخليجي قد يستقي الدرس الأوروبي بحذافيره  ويتهيأ لدى استعداداته الحالية لإطلاق عملته الموحدة، إلى مثل هذه الأزمات من خلال وضع خطة طوارئ استباقية وإنشاء صندوق أزمات يمَوَلَ من طرف الدول الست المنخرطة فيه. وهي خطة قد تساعده على الوقوف في وجه أي طارئ “ثقيل الظلّ” مستقبلا قد يسبّب في اهتزاز  كيان وحدته النقدية،  كما قد تجنّبه  فشل مشروع  وحدته الاقتصادية خاصة في ظل اعتماد اقتصاده حاليا على ثروة نفطية ناضبة.
© منبر الحرية ،يونيو / حزيران 2010

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

إذا كان الشيخ محمد عبده قد غرس بذور التوفيق بين الإسلام ومبادئ الحضارة الحديثة وفي قلبها الحرية،فانه لم يكن يرى أن هناك تعارضا خطيرا بينهما، وعلى فرض وجود تعارض فالواجب إتباع مبادئ الإسلام،ولكن بفتحه باب الاجتهاد أوجد جيلا من أتباعه ومريديه بالغوا في فهم هذا المبدأ وفي إتباع الحضارة الحديثة. وتلاميذ الشيخ محمد عبده اتجهوا اتجاهين : اتجاه يرمي إلى زيادة التقيد بالحضارة الحديثة، ويتمثل في قاسم أمين ولطفي السيد وأمثالهما، واتجاه ثان يهدف إلى الإصلاح داخل إطار المبادئ الإسلامية، ويتمثل هذا الاتجاه في أمثال الشيخ رشيد رضا والشيخ علي عبد الرازق. وكان أصحاب هذا الاتجاه يرون أن الخلافة خير ضمان لجميع أنواع الإصلاح في دائرة قواعد الشريعة الإسلامية بشرط أن يكون الاجتهاد هو المؤهل للخلافة ، وأما الاتجاه الأول فيعتبر الأساس الذي بنيت عليه فكرة القومية المصرية،فالمثال الليبرالي الأوربي هو الذي ألهم في  هذه الفترة نفسها طلائع الفكر الاجتماعي الحر المتمثل في أعمال قاسم أمين وكتابه الفذ ” تحرير المرأة “، وهذا المثال هو الذي ولد النزعة الليبرالية التي عبر عنها في الفترة التالية لانسحاب الدولة العثمانية المفكر المصري الرائد أحمد لطفي السيد، وهو إمام الليبراليين نظرا لما امتاز به من وضع دقيق لمسألة الحرية والحريات في إطار منظومة شاملة للمجتمع والدولة والاقتصاد، وهو القائل “خلقت نفوسنا حرة، طبعها الله على الحرية ، فحريتنا هي نحن، هي ذاتنا ومقوم ذاتنا، هي معنى أن الإنسان إنسان، وما حريتنا إلا وجودنا، وما وجودنا إلا الحرية”. وإيمان أحمد لطفي السيد بحق الخلاف والاختلاف، فقد كان شعار جريدته ” الجريدة ” كلمة للفيلسوف الأندلسي” ابن حزم ” وهو من قرائه في مسائل الأخلاق والعقائد واختلاف الطوائف والعبادات . وكان” ابن حزم”  يقول : ” من حقق النظر وراضى نفسه على السكون إلى الحقائق إن ألمتها أول صدمة، كان اغتباطه بذم الناس إياه أشد وأكبرهم من مدحهم إياه”. وهكذا مثلت الحرية في الثقافة العربية رغبة عارمة وحاجة حيوية ومطلبا رئيسيا وشعارا قويا يرفعه على وجه الخصوص تيار “لفكر الحر” وتيار “الاستقلال الوطني” على حد سواء ولدت قوة الدعوة إليها –أفرادا وجماعات وأحزابا- ” قطيعة ” مع أحوال الماضي و”غاية ” منشودة للحياة والمستقبل. ومع أن تلاميذ الشيخ محمد عبده تياران، فإن هذين التيارين لم يسيروا في اتجاهين متعاكسين تماما، فان مصطفي  كامل مثلا مع انه كان يعتقد أن سر قوة الأمم هو الوطنية إلا انه كان يدعو في الوقت نفسه إلى خلافة إسلامية صالحة، فهو بذلك يتجه الاتجاهين المتقدمين في آن واحد.
ومما يلاحظ أن الحركة في عهد مصطفى كامل وأتباعه الأولين كانت مقصورة على نخبة من المثقفين، أما حينما انتقلت القيادة إلى سعد زغلول وأنصاره أصبحت الحركة شعبية عامة وسياسية الغرض منها التحرر والاستقلال لمصر، من غير تفكير في النظريات العامة. لذلك كانت وحدة التفكير عند سعد هي مصر واستقلالها غير أن سعدا في بادئ حياته السياسية كان متأثرا بآراء الشيخ محمد عبده، إذ كان يرى أن الاستقلال لا يتأتى إلا بإصلاح النظم القانونية والتربوية.
أما رشيد رضا فقد كان يرى أن القضية العامة لرفع مستوى المسلمين هي الوحدة، فالأتراك في نظره كانوا يمثلون القوة السياسية، كما كان العرب يتمسكون بالروح الحقيقية للإسلام. ومراده بالوحدة وحدة القلوب والعقيدة، ولو اختلف الجنس، والمسلمون كافة لا يمكن أن يجتمعوا على ضلال .
كما دعا إلى الوحدة بين الشيعة وأهل السنة، ورأى أن حصر الخلافة في سلطان تركيا أمر دعت إليه الضرورة بصفة مؤقته أي إلى أن يحين الوقت الذي تجتمع فيه كلمة المسلمين على اختيار من هو أصلح بدرجة اجتهاده للخلافة. وحبذا لو كان قرشيا فيعيد مجد العرب من جديد. ولكن القومية لم تكن تطورا مباشرا لهذه الفكرة، بل إن الضرورات والظروف وانحلال الدولة العثمانية والثورة ضد الاستعمار الأوروبى والصهيونية كل هذه دعت إلى إقامة وحدة قومية أعم من الوحدة الدينية . إن القومية العربية مدينة بأصولها إلى عبد الرحمن الكواكبي أكثر من أية شخصية أخرى، ففي كتابه “أم القرى “شرح نظرية تدهور المجتمع الإسلامي لأسباب تشبه تلك التي أدلى بها جمال الدين ومحمد عبده، غير أنه أتى فيها بشيء جديد هو أن الدولة العادلة المنشودة هي تلك التي يشعر فيها الفرد بأنه حر في خدمته للجماعة، وبأن الحكومة مسئولة عن حماية هذه الحرية أمام الشعب، وهذه هي المبادئ الصحيحة للمجتمع الإسلامي، لا تلك المبادئ التي كانت تسوده في عهد الدولة العثمانية من الاستبداد وكبت الحريات.
والعرب وحدهم –في نظر الكواكبي –هم الذين يستطيعون إعادة مجد الإسلام لأنهم في منطقة وسطى بالنسبة للعالم الإسلامي ولأن إسلام العرب خلا من البدع التي شابته في عهد الدولة العثمانية، ولأن المجتمعات البدوية خالية من التدهور الخلقي والسلبية أمام الاستبداد، ولأن اللغة العربية هي الوعاء الذي صبت فيه المبادئ الإسلامية، فهذه خطوة نحو القومية العربية من جهة، ومن جهة أخرى فإن الطوائف المسيحية الشرقية في الهلال الخصيب بدأت تصبغ كنائسها بالصبغة العربية مقاومة بذلك مطارنتها الأروام .
وهناك سبب أخر لوجود فكرة القومية العربية هو أنها ظهرت كرد فعل لمغالاة الشبيبة العثمانية في عثمنة النظم في مراكز القوة والحكم، ولظهور القوميات الأخرى في هذه الدولة المتداعية مثل القومية الأرمينية والكردية. وقد نمت فكرة القومية العربية أثناء الحرب العالمية الأولى وبعدها، ولابد من  ذكر   ثلاثة  من المفكرين هم : عبد الرحمن البزاز الذي يرى أن الإسلام الحقيقي يتصل بالصبغة العربية لا العكس، وبالتالي فالإسلام هو القومية العربية ، وقسطنطين زريق الذي يعتقد انه يجب فهم الإسلام بوصفه روحا دينية لا عصبية طائفية، واعتباره حضارة يتساوى فيها المسيحي والمسلم، وساطع الحصري الذي هو أكثر من توسع في تحديد معنى الأمة العربية، والعرب في رأيه هم من يتكلمون العربية ويشتركون في ماض واحد.
© منبر الحرية ، 25 ماي /أيار2010

peshwazarabic11 نوفمبر، 20101

يفرض الانقسام الفلسطيني- الفلسطيني الحاصل منذ حزيران (يونيو) 2007، حين سيطرت حماس على قطاع غزة بالقوة، كثيرا من التساؤلات حول حقيقة هذا الانقسام، وخصوصا أنه ما يزال يتعامل معه على أنه انقسام سياسي، أي انقسام في النظام السياسي  وعليه.
منذ حزيران 2007 إلى الآن تجلت كثيرٌ من الوقائع  والأحداث الاجتماعية التي كان محركها الانقسام الفلسطيني، فالانقسام الذي بدأ سياسيا قد مست مفاعيله البنية الاجتماعية للفلسطينيين.
وفي استطلاع للرأي نفذه مركز معلومات وإعلام المرأة الفلسطينية في غزة، حول مدى تأثر العائلة الفلسطينية بحال الانقسام الداخلي، أفاد أن النسبة الأكبر من الأسر الفلسطينية في قطاع غزة تأثرت بشكل واضح بحالة الانقسام التي نتجت عن الصراع بين حركتي فتح وحماس، وأفاد84.6  %من أفراد العينة أن عائلاتهـم قد تأثرت بهذا الصراع والانقسام.  في حين أفاد62   % بأن حال الانقسام والصراع الداخلي الفلسطيني تسببت في حدوث مشاكل عائلية داخل أسرهم، وأفاد  19.9% بأنها وصلت إلى حد استخدام العنف أو التهديد به.  وفي كثير من الأحيان أدت هذه الانقسامات إلى  قطع الصـلات العائلية. وردا على سـؤال حول مدى التشـاؤم أو التفاؤل بالمسـتقبل؟  أفاد حوالي 50  % من أفراد العينة أنهم متشائمون حيال المسـتقبل، بينما أفاد 41  % منهم أنهم متفائلـون. ولمعرفة تأثير الانقسام الداخلي على الحياة الاجتماعـية الفلسطينية ومدى تأثر العلاقات الأسـرية من ناحية اختيار الزوجات والزواج بهذه المسألة أجاب 71.1% من أفراد العينة أنه أصبح للانتماء السـياسـي لفتح أو حماس تأثير كبير في اختيار الزوجات والأزواج بينما أجاب 25 % من أفراد العينة بأن الانقسام الداخلي لم يؤثر عليـهم من هذه الناحيـة، وأفاد 3.9% بأن لا رأي لهم . وردا على سؤال فيما إذا كانت علاقات أطفالكم مع أصدقائهم أو زملائهم في المدارس قد تغيرت جراء حالة الانقسام أجاب 68.1 % من أفراد العينة، إن علاقات أطفالهم مع زملائهم في المدارس وأصدقائهم قد تضررت جراء الانقسـام الداخلي. والإجابة الأخطر الذي عكسها هذا الاسـتطلاع كانت حول الموقف من مسـألة الهجرة للخارج. فقد أفادت أغلبية كبيرة وبنسـبة 47.8 % بأنهم يفضلون الهجرة للخارج إذا سنحت لهـم الفرصة بينما فضل 45%من أفراد العينة البقـاء في الوطن حتى لو سـنحت لهم فرصـة الهجرة. بينما أفاد 7.2% بأنه لا رأي لهم
.
وتفيد تقارير صادرة عن المحاكم الشرعية الفلسطينية، عن ارتفاع نسبة الطلاق في العامين الأخيرين، خصوصاً في قطاع غزة، وبأن من بين أسباب ارتفاع هذه النسبة الخلافات الحزبية بين الزوجين، أو بين أحد الزوجين وأسرة الآخر(الحياة، 21 فبراير 2010).
التساؤلات التي تدور في خلد من يراقب هذه الصورة المأساوية التي تعكسها هذه البيانات: هل جذر الانقسام الفلسطيني سياسي أم اجتماعي؟ وهل الفلسطينيون منقسمون اجتماعيا قبل انقسامهم سياسيا ؟ أم أن الانقسام السياسي أدى إلى الانقسام الاجتماعي؟ وإذا كان الأمر كذلك ألهذا الحد بلغت البنية الاجتماعية الفلسطينية  من الترهل والسوء مبلغا  لا يمكن تخيله أو تحمله؟ ألهذا الحد كان العامل السياسي طاغيا في تشكيل الاجتماعي؟ أم أن أسباب هذا الانقسام هو ترهل واهتراء البنيتين الاجتماعية والسياسية معا؟  وأين المجتمع المدني الفلسطيني الذي تشكل إبان تأسيس السلطة الوطنية وشهدنا فيها بزوغا لهذه المؤسسات المدنية وأخذت على عاتقها نشر القيم الديمقراطية وقيادة التحول الديمقراطي ومراقبة أداء النظام السياسي، فما فائدتها إذا كانت المحصلة صفر؟
من الصعوبة بمكان دراسة العمل السياسي بدون الأخذ بعين الاعتبار العوامل الاجتماعية. لذا فإن هذه التساؤلات تقع ضمن اختصاص علم الاجتماع السياسي. ومن هنا فإن اكتشاف الضعف والترهل في الواقع الحالي يتطلب قراءة هذا الواقع من منظور علم الاجتماع السياسي الذي يربط بين  الوقائع السياسية بعضها بالبعض الآخر، ويربط بين هذه الأخيرة والوقائع غير السياسية، سواء أكانت هذه الوقائع اجتماعية أو اقتصادية أو دينية أو أخلاقية أو ثقافية.  فالتأثير بين المجتمع والنظام السياسي، بين البنى الاجتماعية والمؤسسات السياسية هو تأثير حتمي لا فكاك منه، لأن الواقعة السياسية هي واقعة اجتماعية، وأن المجتمع “كل” يتكون من مجموعة من العناصر التي يعتمد بعضها على البعض الآخر، فهذه العناصر لا تكون لوحدها عوالم منغلقة ومنعزلة بعضها بالنسبة إلى البعض الأخر.
وفي ضوء هذه الرؤية المنهجية التي يتعين قراءة هذه البيانات من خلالها. يمكن القول إن هذا الانقسام طال أهم بنيتين اجتماعيتين وهما: الأسرة والمدرسة.
فقد لعبت الأسرة الفلسطينية دورا بارزا في التنشئة السياسية، فتفجير الانتفاضة الأولي عام 1987 من شباب وأطفال الحجارة ليس إلا تعبيرا عن الأسرة الفلسطينية وبدورها في التنشئة السياسية التي حافظت على الهوية القومية للطفل الفلسطيني بعد أن زيفت سلطات الاحتلال الإسرائيلي كل المقررات الدراسية، ونزعت منها أي بعد قومي، وبعد أن ركنت سلطات الاحتلال إلى أن الجيل الجديد نشأ وتربى في ظروف ستجعله أقل مقاومة ورفضا للاحتلال، إذا بها تفاجأ الأسرة الفلسطينية وقد أخرجت لهم جيلا أقوى وأصلب وأقدر على المقاومة، ولم يكن ذلك إلا برهانا قويا على أن دور الأسرة في التنشئة السياسية  يمكن أن يكون هو خط الدفاع الوحيد أمام الشعوب والأمم في مراحل معينة من حياتها السياسية. وهنا تبرز التساؤلات في ضوء البيانات السابقة التي تبين ضعف الأسرة الفلسطينية وتراجع دورها: لماذا تأثرت الأسرة بهذه السرعة بالانقسام السياسي؟ ولماذا أصابها الانقسام والفرقة والتناحر؟ ألهذا الحد بلغت الأسرة  مبلغا من الضعف والترهل ؟! ألهذا الحد كانت غير محصنة ومخترقة سياسيا؟! لماذا فقدت دورها في أن تكون حاضنة ومصدر أمنٍٍ وأمان لأبنائها في الوقت الذي يفتقدون فيه للأمن النفسي والاجتماعي في ظل الاحتلال الصهيوني الإحلالي؟ ولماذا فقدت الأسرة هذا الدور التي لطالما كانت سداً منيعاً في السابق وحصنا دافئا لأبنائها؟
تشير البيانات أيضا أن الانقسام طال طلبة المدارس والجامعات. ومن المعروف أن المدرسة هي البيئة الثانية التي يواجه فيها الفرد نموه وإعداده للحياة المستقبلية، ويأتي دورها بعد دور الأسرة حيث إن دورها لا يكتمل إلا بما تضفيه المدرسة من مبادئ تسهم في تشكيل شخصية الفرد، وذلك بما تحتوي عليه من المناهج وما يدرسون من المواد، وعن طريقها يستكمل المواطن ما بدأته الأسرة من تربية وتعليم. وهكذا تلعب المدرسة في الأعداد السياسي للنشء دورا مكملا للأسرة. ولكن واقع الحال وتأثر المدرسة والجامعة بالانقسام الفلسطيني يؤكد أن هذه المؤسسات لم تكن محصنة كما يجب، بل كانت سهلة الاختراق وسهل التأثير فيها وإقحامها في غياهب الصراعات الداخلية: فأين المؤسسة التعليمة ؟ أين النظام التعليمي الفلسطيني؟ أين المناهج الفلسطينية الحديثة التي شرعتها السلطة الفلسطينية واحتوت قيماً سياسية من قبيل العدل والتسامح والمساواة وحقوق الإنسان والحرية والديمقراطية؟ أين المؤسسات الفلسطينية المستقلة؟ ولماذا عجز الفلسطينيون عن تشكيل بنى مستقلة تتوسط بين النظام السياسي والعائلة وتكون حصنا منيعا وإطارا حاميا من توغل الاستبداد السياسي  وعند انهيار النظام السياسي ؟
والأنكى أن غالبية من شارك في الاقتتال الفلسطيني الداخلي هم من جيل المراهقين والشباب التي تتراوح أعمارهم ما بين 15- 25 سنة، هذا الجيل تربى في ظل وجود سلطة وطنية فلسطينية، فأين هذه المناهج الحديثة التي تواكب التطور والحداثة ونشأ عليها هذا الجيل إذا كانت المحصلة صفر؟ ألهذا الحد كانت المؤسسة التعليمة مهترئة ومتآكلة؟ أم أنها كانت مخترقة سياسيا تقوم بدور سياسي تحريضي تعبوي أكثر منه تعليمي وتثقيفي ؟ ولماذا عجزت المؤسسات التعليمية في المساهمة في تحقيق التكامل السياسي من خلال ما تبثه من ثقافة سياسية قومية؟  ألهذا الحد افتقد هذا الجيل إلى القدوة الحسنة والنموذج الذي يحتذي به؟ أين القيم التي تحث على التواصل والتآزر والتماسك؟ هل تحول المواطن إلى كائن استهلاكي أناني فردي؟
مما لا شك فيه أن الشعب الفلسطيني صمد صمودا بطوليا في وجه أعتى قوة في العالم، وقدم تضحيات وبطولات من أجل الوطن وفي سبيل الله. ولا يخامرنا أدنى شك في نبل وتضحيات وبطولات الشعب الفلسطيني في مواجهة التحدي الصهيوني. ولكن ما يثير الاستغراب هو ضعفه في مواجهة  الأخطار الداخلية ومواجهة الذات والعمل على نقدها وكشف عيوبها ومثالبها. فهذا التحدي الخارجي لم يقابله بنى  داخلية قوية رصينة توازيه في المقدار، بل ضعفا داخليا مشينا وعجزا فاضحا على مجابهة الأخطار الداخلية. إن المجتمع الفلسطيني في أمس الحاجة إلى امتلاك ثقافة النقد الذاتي وإلى الحرية الفكرية والجرأة الكبيرة. إذ تعاني المؤسسات الفلسطينية أشد المعاناة من ضآلة وضعف الإسهامات الفكرية في مجال النقد الذاتي. إن إخمادنا للنقد الذاتي وحرية الفكر يعني قتلا للعقل وتعطيل ثقافة النقد الذاتي وهي بداية الطريق إلى الانحدار والهزائم والتخلف السياسي والاجتماعي، فصعود المجتمعات وتقدمها  مرتبط بامتلاكها حرية التفكير والعقل والنقد الذاتي الذي يعتبر جزءًا أساسيا من عملية التطوير والتقويم المستمر وترشيد السلوك، وطالما كان الأمر كذلك، فما أحوج هذه المؤسسات إلى ثقافة النقد الذاتي، من أجل ترشيدها، وتخليصها من أمراضها.
والخلاصة التي تؤكدها هذه البيانات أن البنية التحتية للمجتمع الفلسطيني هي بُنية عصبوية لم تتطور اجتماعيا وسياسيا وثقافيا بما يؤهلها لتكون ضاغطة على النخب السياسية، وناظمة للتفاعلات السياسية، وضمانة لنفاذ القواعد الدستورية، وبالتالي حاضنة للتحول الديمقراطي الذي يشهد تقهقرا في الأراضي الفلسطينية . وعليه فإن المجتمع الفلسطيني لم ينجح حتى الآن في إحداث تحولات بنائية شاملة والخروج من إطار العصبوية الاجتماعية والسياسية وتشكيل بنى سياسية واجتماعية حديثة ومتطورة.
إن الواقع الفلسطيني اليوم ملئ بالمشكلات التي تراكمت تاريخيا وأحدثت تفكك وترهل  في المجتمع والنظام السياسي معا معطوفا على انهيار أخلاقي وقيمي، فعندما يجرؤ فلسطيني على قتل أخيه الفلسطيني فنحن أمام انهيار أخلاقي وقيمي وليس انهيارا سياسيا فحسب. إن اهتزاز الثوابت الأخلاقية التي تمثل المرجعية العليا وضمير الجماعة ومعايير السلوك التي تحدد ما يجب أن يكون عليه هذا الأخير، فهذا مؤشر على عقم واهتراء كل المؤسسات الفلسطينية ابتداء من الأسرة مرور بالمدرسة والجامعة وانتهاء بالحزب السياسي، وتصبح هذه التشكيلات غير قادرة على التعامل مع الواقع وضبطه وتقنينه. فلا غرو والحالة هذه أن تكون النتيجة هي أن يمر المجتمع السياسي بحالة من الفوضى، مما يمهد الطريق إلى  البحث عن مطلقات وثوابت أخرى  تكون قادرة على أن تضبط واقع الاجتماع السياسي، فما يجري اليوم هو تيه وجهل سياسيين، نتيجة أن الأنساق الفكرية والفلسفية والبنى الاجتماعية والسياسية تعرضت للاهتزاز .  ويتحمل مسؤولية الوصول إلى هذا الوضع  كل من ساهم في تلك الحالة أو وافق عليها أو لم يعترض عليها  أو تواطأ معها، وهي مسؤولية تاريخية مستمرة مهما مضى من الزمان. والكل يتحمل المسؤولية بمقدار وظيفته ودوره في البناء الاجتماعي والوطني.
فبعد أن أثبت التاريخ أن لاوحشية الاحتلال الصهيوني وجبروته استطاع أن يلغي الشعب الفلسطيني أو يضعف انتمائه لوطنه، ولكن وصول الوضع الفلسطيني إلى حد التفكك سوف ينعكس على حالة الانتماء هذه،  وبخاصة أن البيانات المذكورة أعلاه تؤكد أن نسبة الهجرة هي نسبة عالية وسوف تزداد إذا بقي الوضع على حاله، واستمر انشطار العقل السياسي والبناء الاجتماعي، وسيُهزم وطن أمام سياسات فاشلة وعصبوية اجتماعية قاتلة. فضلا عن الانقسام السياسي بين قطبي النظام: فتح وحماس. كل ذلك يأتي في ظل انحسار اليسار الفلسطيني، وضعف التشكيلات السياسية الأخرى، وأخيرا الدور الضعيف وغير المؤثر للمنظمات الأهلية وباقي تشكيلات “المجتمع المدني الفلسطيني”. وعليه لا مراء والحالة هذه أن البنيتين الاجتماعية والسياسية تعيش حالة اهتراء وخواء، وأن كلا البنيتين في حالة تفكك مستمر فضلا عن تآكلهما
لا نورد هذا التحليل ليكون مبعثا على التشاؤم، بل لأن بداية المعالجة هو التشخيص السليم. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لنبين تأثير الانقسام على البنى الاجتماعية التي  لم تنل الاهتمام الكافي، لطغيان التحليل السياسي، والاهتمام بالقضايا الكبرى، وتقديم الموضوع السياسي الوطني على الهم الاجتماعي والديمقراطية، دون أن نعير الاهتمام بالقضايا الصغرى أي اهتمام. ومن ناحية ثالثة لنوضح خطورة ما وصل إليه الوضع الفلسطيني  من خطورة مما يتطلب إعمال العقل والنقد الذاتي والمراجعة الشاملة وبخاصة للعقدين الأخيرين من حياة الفلسطينيين، وضرورة إنجاز عقد اجتماعي وطني جديد. وأخيرا لتبيان أن ثمة أزمة بنيوية  ووظيفية شاملة تطال البنى الاجتماعية والسياسية والعلاقات والمفاهيم وأشكال العمل السائدة في السياسة الفلسطينية.
© منبر الحرية ، 18 ماي /أيار2010

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

سيطر تعبير الديمقراطية على الخطاب العربي في السنوات القليلة الماضية. ولو عدنا قليلا إلى السبعينات والثمانينات من القرن العشرين لوجدنا أن التعبير لم يكن مستخدما، بل سيطر التشاؤم على آفاق قيام ديمقراطية في بلاد العرب. اليوم يعود التعبير إلينا بقوة  في ظل تطورات إقليمية وعربية كبيرة.  ففي العراق تجربة جديرة بالمتابعة لقيمتها السياسية والإنسانية، وفي الكويت تجربة جديرة بالتقدير وبنكهة عائلية قبلية دينية، وفي لبنان ديمقراطية بنكهة طائفية لكنها جديرة بالتقدير أيضا. وفي مصر إرهاصات كبرى مع عودة البرادعي الذي بدأ تحركات شعبية قد تفرض نفسها على جميع المعادلات، وفي المغرب تحولات، وفي الأردن تساؤلات كما في سوريا ربيع هادئ وآخر يميل للسخونة، وفي السعودية ملك مصلح، ولكن الأهم: المجتمع السعودي يخوض تجربة تساؤل ربما تكون الأجرأ في تاريخه والأجرأ في العالم العربي في هذه المرحلة. إننا في الطريق لشيء جديد سيأخذ وقتا لينمو ويزدهر ويكشف عن وجهه.
العالم العربي من أكثر الأماكن التي تعاني من العبث السياسي.  السياسة لدى العرب لم تكن في الماضي وحتى اليوم إلا سياسة قادة سيطروا على الاقتصاد وعلى مقادير المجتمع بعيدا عن المنافسة الصادقة. لقد سيطر في البلاد العربية حكم الاستخبارات قبل حكم المعلومات والعلم، وحكم القوة قبل حكم الحكمة، وحكم العائلات وفروعها والقبائل قبل حكم المؤسسة والدولة بصفتها مساحة الجميع. في النهاية دخل النظام العربي برمته من خلال فؤيته بعرض الحائط وهو لازال يقف عند الحائط غير قادر على التحرك خطوة واحدة للأمام.
عصر الإصلاح سوف يبرز من هذه الظروف الصعبة. لكن مراحل التحول الإصلاحي والديمقراطي لن تكون ممكنة بلا مجتمع يحمل رؤى متنوعة. الأساس الذي نحتاجه في هذه المرحلة هو فتح المساحة للجميع:  للإسلاميين ولغير الإسلاميين للمتدينين ولغير المتدينين، وفتح المجال للكلمة المضادة ولآراء المعارضة، وفتح الباب لعودة المعارضين من الخارج بعد أن أغلقت الأبواب عليهم في الداخل. يجب التخلص من عقد الخوف من الكلمة الحرة والرأي الصريح والنقد. فمنذ متى يساعد هذا الخوف الأمم على التطور. بل تؤكد التجربة الإنسانية برمتها أن التطور ارتبط بحرية الكلمة أولا.
وقد يسيء البعض الحرية واستخداماتها، وهذه حجة تستخدمها السلطات لمصادرة الحرية.  لكن توفر الحرية يطور المجتمع برمته، فكيف نمنع الهواء وهو أساسي لحياتنا. إن منع شيء لأنه يستخدم بصورة سلبية من قبل أقلية صغيرة يساوي منع السيارات لان البعض يستخدمها بصورة سيئة ويسبب الحوادث لألوف الناس.
إن الإصلاح القادم يجب أن يأتي بصورة مبادرات من قادة الدول العربية. فهذا أفضل أنواع الإصلاح لأنه يأتي من القمة ويساهم في تغير هادئ وسلمي.  وقد حصل هذا النوع من الإصلاح في كل من اسبانيا والبرازيل في السابق. لكن في ظل غياب هذا النوع من الإصلاح سوف يكون هناك مرحلة من التذمر والعنف في الشارع قد تؤدي للبدء في الإصلاح في ظل تحديات تأتي من الشارع كما حصل في كوريا الجنوبية وبولندا، وان لم يقع هذا سيكون هناك عنف وربما ثورات في بعض الدول العربية كما حصل في تشيكوسلوفاكيا والبرتغال.  ولو لم يقع أي من هذا ستنهار الدول وتنفرط كما ينفرط عقد موديا بحقوق الناس ومصالحها واستقرارها، وقد رأينا هذا في يوغوسلافيا وفي الصومال حيث سيطرت الحرب الأهلية لسنوات.
يجب أن نحاول تفادي العنف والثورات في المرحلة القادمة لأنها مؤلمة ونتائجها سلبية على المجتمع كما حصل في جميع الثورات التي عرفها التاريخ. لكن بنفس الوقت يجب علينا تفادي الجمود لأنه يوصلنا إلى الدول الساقطة والفوضى.
إن الإصلاح الذي تبادر به  قيادات في الأنظمة أو تبادر به قيادات معارضة من خلال احتجاج سلمي يتم بناؤه خطوة خطوة قد يمثل الخيار الأفضل في ظل الواقع العربي الراهن.  فهناك جيل عربي جديد يتشكل في ظل التكنولوجيا الجديدة وفي ظل الانترنيت واليوتيوب والفيس بوك، وهو نفس الجيل الذي يكتشف أن وطنه قد صودر منه لصالح فئات صغيرة تحتكره، بل يكتشف الجيل الجديد انه يفتقد للمكان ويفتقد للمستقبل والعمل بسبب هذا الاحتكار.   انه جيل متفاعل لا يمكن صعقه بأنظمة مركزية وطرق قيادة تقليدية وأساليب عمل تحتكر السياسة والسلطة في كل قرار. هذا الجيل هو جيل التغير ووسيلته الإصلاح. وهو ذات الجيل الذي بإمكانه أن يتحول نحو التطرف عندما يحبط ويجد أن الإصلاح ابتعد بينما الاحتكار السياسي ارتفع.
حتى اللحظة العالم العربي يعيش مأزق السياسة وسلبياتها والسلطة واحتكارها ورفض تداولها، والأحزاب ومنعها والرأي والحد منه والمساواة والتميز ضدها. العالم العربي يمعن في الطائفية والقبلية والعائلية والطبقية والحد من مستقبل أجياله الصاعدة للحد الذي يخرجه من العصر والزمن. صراع العصر صراع التجديد سوف يتعمق بين من يسعون لبناء دولة القانون والمسائلة والتداول للجميع من جهة وبين من يتمسكون حتى الآن بدولة الاحتكار وانتهاك القانون ورفض التساؤل من جهة أخرى.
المصدر: الاوان
© منبر الحرية، 05 أبريل /نيسان 2010

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

في وصمة عار على جبين سلطتنا المصرية بعد رضوخها لمطالب سلطة الاحتلال الإسرائيلية من جهة، و الأصوات التي تشجع النزعة الفردية في حل أزمات الترسيم الحدودي المستعصية ، وفي إذعان  لتحقيق الظلال التي يرمي إليها  النصف الأول  لأحد الأمثال الشعبية المصرية ”  أنا و أخوي على ابن عمي و أنا و ابن عمي على الغريب ” و لأن هذا الغريب حتى الآن مازال في استطاعته تقليم أظافر الحكومة المصرية لتمثيل دور الساكت عن الحق ما دام لم يمسه أذى مباشر ملموس على اعتبار أن أهلنا في  غزة أولاد عم و ليسوا أخوات أشقاء لنا .
أما أهلنا في سيناء فتعتبرهم الحكومة المصرية فيما يبدو أبناء سفاح لا تعترف بأدنى حقوقهم .
نزعت مصر  لبناء الجدار  الفولاذي ليكون بمثابة كماشة لأهل غزة بالداخل، فهو من جهة و قمع إسرائيل من جهة و لا مفر العدو أمامكم و البحر وراءكم وفي نفس الوقت كان دافعاً قوياً لاستثارة مشاعر غضب أهلنا في سيناء اللذين يعانون الأمرين من إهمال الحكومة لهم و كأنهم يعيشون في دولة خارج الدولة فلسان حالهم يقول ” “الصهاينة أيام احتلالهم سيناء كانوا أحن علينا من حكومة مصر ”
ليس هذا زعم أو افتراض متخيل بل و بكل أسف واقع تقره الحقائق و الشواهد تعالوا نستعرض معاً الآثار السلبية للجدار العازل على أهل سيناء .
كثير من التقارير الإخبارية قد أفادت بأن مصر ستضخ كميات كبيرة من المياه المالحة في المنطقة الحدودية أسفل الجدار الفولاذي لإحداث تصدعات في الأنفاق، خاصة أن المياه المالحة تتسبب في صدأ أي معادن مستخدمة في الأنفاق، وتؤثر على تماسك التربة، وتجعل من شق أنفاق جديدة أمرا شديد الصعوبة على الغزاويين المحاصرين منذ أن سيطرت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على غزة في يونيو 2007.
كما هو معرف أن مناطق الشريط الحدودي على الجانب المصري من أجود مناطق الزراعة التي استصلحت خلال السنوات العشر الأخيرة، وتعتمد بشكل رئيسي في ريها على المياه الجوفية المستخرجة من الآبار؛ حيث يتميز الخزان الجوفي في تلك المنطقة بعذوبته؛ لذلك يعتمد عليه أيضا بقية أهالي قرى سيناء في نقل المياه منه إلى قراهم للشرب بواسطة الشاحنات .
فيما تسود حالة من الترقب والحذر أوساط المزارعين في مناطق الحدود المصرية مع قطاع غزة خوفا من تبعات اعتزام مصر ضخ مياه البحر المالحة في باطن الأرض بالمنطقة الحدودية، ضمن الإنشاءات التي تقوم بها لبناء “الجدار الفولاذي” تحت الأرض على طول الحدود مع القطاع المُحاصر. مما سيؤدي بدوره  إلى شلل تام في حركة العمران الزراعي واستصلاح الأراضي، أما عن آثار المياه المالحة التي سيتم ضخها من أنابيب في باطن الجدار إلى الجانب الفلسطيني من الجدار الفولاذي لتنهار الأنفاق، والتي ستمتد آثارها إلى رفح والشيخ زويد والعريش، وهي مناطق زراعية خصبة، وكذلك إلى غزة، وسنصبح فيما بعد مطالبين بالبحث عن حل لهذه الكارثة البيئية إذا ما حلت بالمنطقة وإسرائيل هي المستفيد الوحيد من إحلال الخراب بتلك المناطق وتبويرها”.
في نفس الوقت كشف خبراء زراعيون في سيناء، أن تشبع الخزان الجوفي في تلك المناطق بالمياه المالحة سيؤدي إلى بوار الأرض الزراعية، وعودة مشهد التصحر، وهو ما يعني خسارة لا تقدر بثمن بعد كل هذه المراحل المتقدمة من استصلاح الأراضي الرملية، واستقرار الآلاف من العاملين فيها.
بالإضافة إلى تأكيد الخبراء الزراعيون على أن ملوحة طبيعية أصلا بدأت تواجه الخزان الجوفي في تلك المناطق منذ نحو عامين، وهو أمر متزايد بسبب النشع المتواصل للمياه كلما كثر حفر الآبار، وامتدت الرقعة الزراعية، ما يعني سرعة زيادة نسبة الملوحة إذا ما طغت مياه البحر بصورة كاملة على مياه باطن الأرض.
و كما هو معروف للجميع  أن استثمارات ضخمة في مجال الزراعة تم ضخها في تلك المناطق خلال السنوات الأخيرة لجودة تربتها وعذوبة مياهها الجوفية، واستطاع المستثمرون استصلاح مئات الأفدنة في المنطقة الحدودية وامتدادها وزراعتها بأجود أنواع الموالح والخضار، ويصدر المنتج من هذه المحاصيل إلى الخارج لجودته”فترى ماذا سيكون عليه الحال بعد خلط ما تبقى من المياه الجوفية بماء البحر.
أما عن تمييز السلطات المصرية ضد أهل سيناء فيبدو هذا جلياً في تعاملها مع أحداث السيول الأخيرة فيما كان يموت أهلنا هناك لم ترسل إليهم طائرة واحدة لانتشالهم من الغرق أو حتى إلقاء الطعام إليهم بعد أن أصبحوا في جزر منعزلة، في حين أن طائراتنا الحربية خرجت لتأمين دخول مشجعي المنتخب المصري في السودان، فيما يعتبر هذا السيل بمثابة ضوء خافت يشير إلى حقيقة ربما أغفلها الكثيرون، و هي أنه لا فرق بين الموت هنا أو في غزة .هذا السيل لم يعترف بالحدود المصطنعة بيننا وبين فلسطين بأرضي 48, حيث المنطقة موحدة جغرافيا, فتأتي مياه السيول عبر الوادي المشترك مدمرة سدود العدو الإسرائيلي، وكأنها غاضبه, لتلتقي مع وديان سيناء لتصب بوادي العريش . لقد وزع هذا السيل شهادات وفاة مجانية على الجميع و جعل للموت بينهم طعم آخر ، طعم لا يعرفه إلا من تذوق رهبته. موت بمرارة مفاجأة جبروت الطبيعة، و إهمال السلطات المعنية بتطبيق سياسة إدارة الأزمات حيال هذه المشكلة التي كشفت عن عدم وجود مثل هذه السياسة ضمن أطر حكومتنا المصرية .
و بالرغم من كل هذه الانتقادات الموجهة لإقامة هذا الجدار تواصل مصر الأعمال الإنشائية لبناء “الجدار الفولاذي” تحت الأرض على طول حدودها مع غزة لسد الأنفاق التي حفرها الغزاويون الذين يعتبرون هذه الأنفاق متنفسهم الوحيد في ظل الحصار الإسرائيلي المتواصل منذ ثلاث سنوات ؛ ما أثار غضب سكان القطاع (نحو 1.5 مليون فلسطيني) و غضب الآلاف من أهلنا في سيناء و العريش .
بناء مثل هذا الجدار الذي ألحق الضرر بأبنائنا و أولاد عمنا قد ربط مصائرهم بصورة تلقائية ليصبح هذا الجدار تطبيقاً مغلوطاُ  لتقليد نابع من موروثنا الشعبي فيما يتنافى مع الأعراف الإنسانية .
* كاتبة صحافية مصرية
© منبر الحرية، 14 مارس/آذار 2010

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018