peshwazarabic

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

دخلت زيمبابوي جحيم التضخّم المفرط. إذ ارتفع التضخم في آذار الماضي أكثر من 50 في المئة من الحد الشهري الذي يُوصَف بأنه تضخّم مفرط. والإعلان رسمياً عن محنة وعذاب زيمبابوي، يتضمن الإشارة إلى التضخم المفرط الذي حدث في ألمانيا في عامي 1922 و1923، حين بلغت نسبة التضخّم الشهري 32400 في المئة. واختيار الإشارة إلى تجربة ألمانيا “أمر غريب نوعاً ما”. ومع ذلك، سُجّل أكبر تضخم مفرط شهري عالمياً في هنغاريا في تموز عام 1946، وكان أعلى باثنتي عشرة مرة من الذروة الشهرية في التضخّم المفرط لألمانيا. لكن كما هي الحال في الإحصاءات والمعلومات المالية والاقتصادية، أسقطه السجلّ الهنغاري في ما سماه المؤلف جورج أورويل “ثغرة في الذاكرة”. وهذا الأمر يوصلنا إلى تضخم مفرط آخر، كان أكثر قسوة من الذي حصل مع ألمانيا، حدث في يوغوسلافيا خلال التسعينات من القرن العشرين ولم يتم تسجيله في الوعي العام، إلاّ من قبلي، بصفتي مستشار نائب رئيس يوغوسلافيا بين عامي 1990 و1991، إذ حذّرت في حينه من عاصفة مقبلة.
والقصّة أن بين الأعوام 1971 و1991، كانت نسبة التضخم المسجلة سنوياً في يوغوسلافيا هي 76 في المئة، وتجاوزت هذه النسبة فقط زائير والبرازيل.
لكن الأمور أصبحت أكثر سوءاً بعد ان اكتشفت حكومة رئيس الوزراء أنتي ماركوفيتش الفيدرالية في 7 كانون الثاني 1991 أنه تحت سيطرة سلوبودان ميلوسوفيتش، أمر البرلمان الصربي “البنك المركزي الصربي” (البنك المركزي الإقليمي) سراً أن يُصدر 1.4 بليون دولار على شكل ائتمان مالي إلى أصدقاء ميلوسوفيتش.
وتلك السرقة غير القانونية كانت تساوي أكثر من نصف الأموال الجديدة التي كان يخطط البنك المركزي اليوغوسلافي لإصدارها في عام 1991، ما نَسف خطط حكومة ماركوفيتش المتأرجحة لتطبيق إصلاح اقتصادي، وعزز تصميم قادة كرواتيا وسلوفينيا على الانفصال عن جمهورية يوغوسلافيا الفيدرالية الاشتراكية.
وبلغ التضخم المالي ذروته في كانون الثاني عام 1994، عندما بلغت النسبة الرسمية الشهرية للتضخم 313 مليون في المئة، أي أعلى بأربع درجات من التضخم المفرط المسجل في ألمانيا في العشرينات من القرن الماضي، لكنه أقل من السجل الهنغاري. واستمر التضخم المفرط في يوغوسلافيا لمدة 24 شهراً، أي أقل بشهرين من التضخم المفرط الذي حدث في الاتحاد السوفييتي في مطلع العشرينات من القرن العشرين. وكانت النتائج مُدمِّرة على الاقتصاد المحلي. وقبل أن يقوم الـ”ناتو” بضرب يوغوسلافيا في عام 1999، كان جنون ميلوسوفيتش النقدي دمّر الاقتصاد تماماً، ثم أشعل الحرب، مطبقاً “سياسة قديمة للاحتفاظ بالسلطة”.
وخلال فترة الـ24 شهراً من التضخم المفرط، انخفض دخل الفرد الواحد بما يفوق الـ50 في المئة. وأُجبر الناس العاديون على استنزاف مدّخراتهم من العملة الصعبة. ولم يستطع الناس شراء الطعام من السوق الحرة، وتجنّبوا المجاعة “إما بالوقوف في الصفوف الطويلة أمام مخازن الحكومة من أجل التموين غير المنتظم بسلع متدنية النوعية، أو من خلال الاعتماد على الأقارب الذين كانوا يعيشون في الريف”. ولمدة طويلة أُغلقت محطات البنزين كلها في بلغراد، عاصمة يوغوسلافيا، باستثناء واحدة كانت تقدّم البترول للأجانب وأفراد السفارات. وأمضى الناس وقتاً كبيراً في أسواق الصرافة السوداء، حيث كانوا يتاجرون بأكوام هائلة من العملة المحلية، التي لا قيمة لها تقريباً، مقابل الحصول على مارك ألماني واحد أو دولار واحد.
وادعى ميلوسوفيتش أن “اليوغوسلاف كانوا ضحايا التأثيرات الخارجية”. وكان يكرر قصّته التي تقول أن التضخم المفرط والصعوبات الناتجة عنه كان سببها الحظر الذي فرضته الأمم المتحدة على البلاد بين أيار عام 1992 ونيسان 1993.
وفي الواقع، إن آلية ميلوسوفيتش النقدية استخدمت بإفراط لتمويل حروبه. إذ استخدم أكثر من 80 في المئة من موازنة يوغوسلافيا لصالح القوات العسكرية وقوات الشرطة. وبحلول كانون الأول عام 1993، كان ما نسبته 95 في المئة من الإنفاق الحكومي العام تُموّلها العملة التي تم طباعتها حديثاً.
ولا شيء يخبر هذه القصة الرهيبة أفضل من تخفيض قيمة الدينار اليوغوسلافي، مرات عدّة. إذ بين عام 1991 ونيسان عام 1998، خفضت قيمة الدينار 18 مرة (ثلاث منها تجاوزت 99 في المئة)، وأزيل 22 صفراً من تلك الوحدة الحسابية. وحوّل التضخم المفرط الورقة المالية من فئة 500 بليون دينار إلى “عملة صغيرة لا قيمة نقدية لها، قبل أن يجف حبرها”. وبهدف معرفة النتيجة على السكان المحليين، تخيّل عزيزي القارئ قيمة حساباتك المصرفية بالدولار، ثم حاول تحريك الفاصلة العشرية 22 منزلة إلى اليسار، وحاول أن تشتري شيئاً ما!
يذكر ان الأذى المالي الذي سببّه ميلوسوفيتش لم يكن شيئاً جديداً. فالملوك الصرب القدامى كانوا مشهورين بأنهم “لصوص مال”. ففي القرن الرابع عشر، زوّر الملك مليوتين عملة فضية فينيسية في مدن نوفوبوردو وبرزرن، الموجودتين الآن في كوسوفو. وكانت العملة المزوّرة تحتوي على سبع أثمان الفضة الموجودة في العملة الأصلية، لاحقاً منعت فينيسيا تداول هذه العملة المزورة.
وفي كتابه “الكوميديا الإلهية” شجب دانتي، الكاتب الإيطالي الشهير، ملك راسكيا ووصفه بـ”المزوّر”.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 26 حزيران 2007.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

مقارنة مع المخاطر والتهديدات القاتلة في القرن العشرين، فإن التهديد الاستراتيجي الذي يشكله الإرهابيون ضئيل وثانوي. ففي الحادي عشر من أيلول عام 2001، قتل الإرهابيون حوالي 3000 شخص، كما قُتل مئات آخرون في الهجمات اللاحقة في كل من بالي ومدريد واسطــنبول ولندن ومومباي. وعلى رغم هذه الوفيات المفجعة، إلا أنها تصبح باهتة وضعيفة بالمقارنة مع وفاة ما يقرب من 100 مليون شخص في الحربين العالميتين. وكما هو صحيح من لقبهم، فإن الإرهابيين يثيرون الرعب ويمكنهم إلحاق أضرار خطيرة جداً أحياناً، ولكن، كان الإرهاب دائماً استراتيجية تتبعها الأطراف الضعيفة، وليس القوية.
ولا يمكن اعتبار الحربين العالميتين ولا الحرب الباردة أقرب الأحداث التاريخية تشابهاً مع تهديد الإرهابيين، فإن أقرب تشابه تاريخي هو أعمال العنف التي ارتكبتها قوات الثوار في الغرب خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر. لقد ارتكب الثوار العديد من الاغتيالات البارزة، بما فيها قيصر روسيا، وعضو في العائلة الحاكمة للإمبراطورية النمسوية-الهنغارية، والرئيس وليام ماكينلي. كما أثاروا المؤامرات والاضطرابات العديدة وزرعوا القنابل، وقاموا بأعمال شغب هيماركيت المشهورة في الولايات المتحدة. وغالى أمثال نيوت غينغريتش في ذلك العصر في رد الفعل على الأحداث وحذروا من خطر رهيب يهدد الحضارة الغربية. ولكن، لم يكن الثوار قادرين إلا على التسبب بمضايقات طفيفة على أرض الواقع، واستمرت الحياة.
قوة الإرهابيين وفعاليتهم أكثر قليلاً من قوة الثوار، وتقدر الاستخبارات الأمريكية أنه لا يوجد أكثر من بضعة آلاف من عناصر “القاعدة”، وكثير منهم في براري أفغانستان وباكستان، ويجب أن نُبقي تهديدهم ضمن المنظور مهما كانوا مخيفين.
وحتى في أسوأ السيناريوات البعيدة الاحتمال، والتي يتوقع فيها حصول “القاعدة” على سلاح نووي وتمكنها من كيفية تفجيره (وهي مهمة صعبة)، فإن حجم الدمار المتوقع، وإن كان رهيباً، لن يضاهي أبداً أهوال القرن الماضي الدامية، ولا يمكن أن ينافس أبداً ما كان قد يحدث لو تحولت الحرب الباردة إلى حرب ساخنة. ولا يوجد أي احتمال واقعي لحصول “القاعدة” على آلاف الأسلحة النووية. وبالنظر إلى التهديد الذي شكلته ألمانيا النازية وحلفاؤها في الحرب العالمية الثانية، فقد كانت ألمانيا القوة الاقتصادية الثانية في العالم وتمتعت بقوة وقدرة عسكرية استثنائية، ربما كانت من الأفضل في العالم. وفي ذروة نجاحها، تمكنت قوات الفيهرماخت المسلحة من قهر معظم دول أوروبا، كما اجتاحت حليفتها القوات اليابانية معظم شرق آسيا. لقد تطلب الأمر تضافر الجهود العسكرية لعديد من الدول الكبرى لدحر محاولة الفاشيين للهيمنة على العالم. وبانتهاء المعارك، كان أكثر من 50 مليون شخص قد لقوا حتفهم.
كان الاتحاد السوفييتي القوة العسكرية الثانية في العالم خلال الحرب الباردة. وهيمنت موسكو على دول شرق أوروبا ووسطها، كما كان في استطاعة قواتها التقليدية اجتياح بقية القارة والحكم على ملايين أخرى من الشعوب بـ”عبودية” الشيوعية. وكانت قادرة بترسانتها المكونة من آلاف الأسلحة النووية على تدمير أو طمس معظم المدن الأمريكية وإنهاء الحضارة الحديثة في الولايات المتحدة. كان الاتحاد السوفييتي، ومن قبله ألمانيا النازية، يمثلان تهديداً استراتيجياً من الدرجة الأولى.
وأصبحت التصريحات السخيفة، المتعلقة بتحول نزاع أمريكا مع “القاعدة” وحلفائها الإسلاميين الراديكاليين إلى حرب عالمية مقبلة، صناعة تصعيد. إن نيوت غينغريتش هو آخر من قرع ناقوس الخطر، ولكن، قام كل من نورمان بودهوريتز، ناشر مجلة “كومينتاري”، وشون هانيتي، معلق “فوكس نيوز”، وغيرهما الكثير من السياسيين والخبراء بالإدلاء بالادعاءات نفسها. وفي الواقع، إن الأمر الوحيد الذي يختلف عليه هؤلاء “المنقذون الوطنيون” هو ما إذا كان الصراع الحالي حرباً عالمية رابعة أو خامسة. بدلاً من الحرب العالمية الثالثة.
مع ذلك، فإن معظم الإجراءات المضادة التي نفذتها الولايات المتحدة ودول أخرى كانت في مجال وسائل وتكتيكات إنفاذ القوانين بدلاً من الحرب الشاملة. لقد تم إحباط محاولة تفجير طائرة في بريطانيا السنة الماضية بهذه الطريقة، وكذلك تفكيك خلايا “القاعدة” في هامبورغ ومدريد. وهذه هي طبيعة الحرب ضد الإرهاب، باستثناء غزو الولايات المتحدة أفغانستان. وفي حين عمدنا فيما مضى إلى قصف خصومنا بالقنابل بشكل مكثف، نلجأ الآن إلى اتباع الأساليب غير العسكرية.
يجب أن ندرك أن الإرهاب يشكل تهديداً مخيفاً ومفجعاً للولايات المتحدة؛ مع ذلك، فهو تهديد يمكن ضبطه والتحكم فيه. إن أشخاصا من أمثال غينغريتش وبودهوريتز وغيرهما من الذين يشيعون أجواء الرعب، يسيؤون إلينا عبر تضخيم خطر الإرهاب. والطريقة الوحيدة التي يمكن أن يتحول فيها الصراع الحالي إلى حرب عالمية هي اتباع قادة أمريكا نصائح هؤلاء وتصاعد ردنا باتجاه حرب بين الغرب والإسلام.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 25 أيار 2007.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

يوجد لدى كل شخص قائمة من القضايا والمشاكل والتحديات التي يعتبرها ملحة، وموضوعية، ومقلقة وذات صلة، بناءا على خبراته وتحيزاته وحساسياته وأفضلياته وأولوياته.
أعتبر أنه من الأهم والأجدر التحدث عن تحديات الأمم الداخلية، والتي يعتبر ثلاثة منها من التحديات الرئيسية في هذا العصر.
يرتبط الموضوع الأول بـ”السيطرة الدولانية الجديدة”. اضطرت الجمهورية التشيكية، وعلى غرار سائر الدول الشيوعية السابقة، إلى أن تخضع إلى عملية انتقال صعبة. ولقد أدركنا في مرحلة مبكرة جدا أن هذا الانتقال يجب أن يصنع محليا حيث يستحيل استيراد نظام مصنوع في الخارج. وأدركنا أيضا أن هذا التغيير الجوهري لم يكن مجرد تمرين في الاقتصاد التطبيقي، بل هو عملية تطورية من صنع الإنسان، وأن علينا أن نجد طريقنا، “طريق التشيك”، نحو مجتمع واقتصاد فاعلين.
لقد نجحنا في التخلص من الشيوعية، ولكننا افترضنا بشكل خاطىء، مثلما فعل آخرون، أن محاولات قمع الحرية، وتنظيم وضبط والسيطرة على المجتمع والاقتصاد بشكل مركزي هي أمور من الماضي وبقايا كاد أن يطويها النسيان. وللأسف، لا تزال الدوافع التي تحث على المركزية موجودة فيما بيننا. وأرى أمثلة على وجود هذه الدوافع في أوروبا وفي معظم المنظمات الدولية بدرجة أكثر من الولايات المتحدة، وإن كانت موجودة في أمريكا أيضا.
إن سبب قلقي هو ظهور أفكار ونظريات جديدة وشائعة ورائجة جدا، تقدم، مرة أخرى، مختلف القضايا والرؤى والخطط والمشاريع على الحريات وحقوق الأفراد. فهناك الديمقراطية الاجتماعية، التي لا تعدو أن تكون نسخة أخف وأكثر اعتدالا من الشيوعية، وهناك الـ”حقوق الإنسانية”، المبنية على فكرة الحقوق الإيجابية المطبقة في جميع أنحاء العالم. وهناك أيضا الأممية وتعددية الثقافات والـ”حركة النسائية” والنظرية البيئية، وأيديولوجيات أخرى مماثلة.
انتهت الشيوعية، ولكن محاولات الحكم من أعلى ما زلت هنا، أو ربما أنها قد عادت.
التحدي الرئيسي الثاني أجده مرتبطا مع تجربتنا مع الاتحاد الأوروبي، بل ويمتد إلى أبعد من الاتحاد الأوروبي، لأنه يشكل جزءا من اتجاه أوسع نحو إزالة الدول القومية ونحو فوق-قومية وحوكمة شاملة عالمية الانتشار.
تجعلني الحساسية الخاصة التي أملكها والكثير من أبناء وطني، تجعلني أنظر إلى العديد من الاتجاهات الحالية في أوروبا نظرة ناقدة. ويبدو أن المعارضين لي لا يستمعون إلى حججي. فهم يرفضون الآراء التي لا يريدونها. يتطلب فهم انتقادي معرفة التطورات التي حدثت في الاتحاد الأوروبي وتحوله التدريجي من مجتمع مكون من أمم متعاونة إلى اتحاد أمم غير سيادي، وكذلك معرفة الاتجاهات فوق القومية السائدة.
لقد كنت دائما من مؤيدي التعاون والمشاركة الودودة والمسالمة والتي تؤدي إلى إثراء متبادل بين الدول الأوروبية. ومع ذلك، أوضحت عدة مرات أن التحرك نحو أوروبا أقرب وأكثر ارتباطا من أي وقت مضى، وهو ما يسمى بـ”تعميق الاتحاد الأوروبي”، فضلا عن السرعة في تحقيق التكامل السياسي وميول أوروبا فوق القومية التي لا تدعمها هوية أوروبية أصيلة أو مثل أوروبية، تضر بالديمقراطية والحرية.
لا يمكن تأمين الحرية والديمقراطية، هذه القيم النفيسة والعزيزة، بدون ديمقراطية برلمانية داخل حدود وأراضي دولة واضحة المعالم. إلا أن هذا هو بالضبط ما تحاول النخبة السياسية الأوروبية الحالية ورفاقهم التخلص منه.
أرى تهديدا رئيسيا ثالثا لحرية الفرد في النظرية البيئية. أفهم تحديدا القلق إزاء التدهور البيئي النهائي، ولكنني أيضا أرى مشكلة في النظرية البيئية، كفكر وأيديولوجيا.
تتظاهر النظرية البيئية بأنها تتعامل مع حماية البيئة. ولكن، وراء المصطلحات الرفيقة بالإنسان والصديقة بالطبيعة، يقوم أنصارها بمحاولات طموحة من أجل إعادة تنظيم وتغيير العالم والمجتمع البشري وسلوكياتنا وقيمنا بصورة جذرية.
مما لا شك فيه أن من واجبنا حماية الطبيعة بشكل رشيد من أجل الأجيال القادمة. ولكن، يستمر أتباع الأيديولوجية البيئية بعرض سيناريوهات كارثية مختلفة بقصد إقناعنا على تنفيذ أفكارهم. وهذا أمر غير عادل، بل أيضا في غاية الخطورة. والأمر الأخطر في رأيي هو المظهر شبه العلمي الذي تتخذه توقعاتهم التي كثيرا ما يتم دحضها.
ولو تمعنا في المعتقدات والفرضيات التي تشكل أساس أيديولوجية حماية البيئة، لوجدنا أنها تتمركز حول المظاهر التالية: عدم الإيمان بقوة اليد الخفية للسوق الحرة والإيمان بالسيطرة الكلية للدولة على الاقتصاد والأمور الاجتماعية؛ تجاهل الدور الهام والفعال للآليات والمؤسسات الاقتصادية، وخاصة تلك المتعلقة بحقوق الملكية والأسعار؛ سوء الفهم لمعنى الموارد والفرق بين الموارد الطبيعية المحتملة والحقيقية التي يمكن استغلالها اقتصاديا (التشاؤم المالثوزي فوق التقدم التقني)؛ الإيمان بهيمنة الآثار الجانبية على الأنشطة البشرية؛ تشجيع ما يسمى بمبدأ الوقاية الذي يعظم تجنب الخطر دون الالتفات إلى التكاليف؛ الاستخفاف بأهمية تحسين نمو الدخل ورفاه الإنسان طويل الأجل، مما يؤدي إلى تحول أساسي في الطلب تجاه حماية البيئة، والذي يستدل عليه من خلال ما يسمى بـ”منحنى كوزنتس البيئي”؛ وأخيرا، الإهمال الخاطئ للمستقبل، والذي ظهر بوضوح من خلال “تقرير ستيرن” الذي نال تغطية إعلامية كبيرة قبل بضعة أشهر.
إن جميع هذه المعتقدات والفرضيات مرتبطة بالعلوم الاجتماعية وليس العلوم الطبيعية. وهذا هو السبب الذي يجعل حماية البيئة، خلافا للإيكولوجية العلمية، لا تنتمي إلى العلوم الطبيعية ويمكن تصنيفها كأيديولوجية. تلك حقيقة لا يمكن أن يفهمها الشخص العادي والعديد من السياسيين.
ليس في نيتي هنا أن أعرض الحجج لدحض تلك الفرضية. الأمر الذي أعتقد أنه جدير بالاهتمام هو الاحتجاج ضد جهود ومحاولات أنصار البيئة التلاعب بالناس والتأثير عليهم. ستعيدنا توصياتهم إلى عصر سيطرة الدولة وتقييد الحرية. ولذلك، يتحتم علينا أن نضع خطا واضحا ونفرق بين الأيديولوجية البيئية والإيكولوجية العلمية.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 9 أيار 2007.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

ما هو الخط الفاصل بين دولة متحضرة ودولة غير متحضرة؟ من خبرتي في تركيا منذ 19 تشرين الثاني 2006، الفرق هو حرية التعبير. لقد تم اتهامي بالخيانة في وسائل الإعلام وتعليق عملي في الجامعة لدفاعي عن القيم المشتركة للحضارة وإعادة تقييم التاريخ التركي.
أنا أكاديمي، أستاذ في الجامعة، وأدرس السياسة والفلسفة السياسية والاقتصاد السياسي، وفي يوم 18 تشرين الثاني تحدثت في حلقة نقاشية نظمها الفرع المحلي لحزب العدالة والتنمية الحاكم في المدينة الساحلية الغربية إزمير.
شرحت تعريفاً لما أُطلق عليه “معيار الحضارة المشترك”: فهو يتطلب الملكية الخاصة، والتبادل التجاري الحر، وحكومة محدودة ومسؤولة تخضع للمحاسبة، وحرية التعبير، والحرية الدينية بما في ذلك الأقليات والملحدين، وغياب الجرائم السياسية في القانون، والمعارضة السياسية، وسيادة القانون وحرية تكوين الأحزاب والجمعيات، مما يؤدي إلى قيادة أفقية بدلاً من قيادة وتعاون عموديين.
وقد قلتُ بأنه عند تطبيق هذا المعيار على تركيا، فإنه، وبغض النظر عن الدعاية الرسمية الواسعة النطاق، فإن عهد الحزب الواحد بين عامي 1925-1945 التي كانت بصورة رئيسية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك لم يكن تقدمياً حسب المزاعم بهذا الخصوص، بل كان رجعياً من بعض الجوانب.
كان هناك 37 مشاركاً فقط في الحلقة بمن فيهم صحافية محلية سألتني فيما إذا كانت قد سمعت عن طريق الخطأ عبارتي بأن الكمالية كانت رجعيةً على نحوٍ ما، فأجبتها بأنها لم تخطئ الفهم، وقلت بأننا بحاجة لبحث هذه القضايا بهدوء ودون غضب.
وأضَفتُ بأن طلب تركيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي يدفع بالضرورة هذه القضايا إلى الواجهة، فالأوروبيون الذين يرون الحضور المهيمن لأتاتورك في هذه القاعة سيتساءلون: “لماذا تتواجد صور وتماثيل نفس الرجل في كل مكان؟”.
وقلت أخيراً بأنني أريد نقاشاً معقولاً مع الكماليين حول آرائي ولكنني خشيت أن ذلك ليس وارداً. وقد تبين لي صحة ذلك في اليوم التالي.
توقعتُ عنواناً سيئاً في خبر تلك الصحافيّة في جريدتها، “العصر الجديد”، ولكنها تجاوزت كل توقعاتي، فقد تم إشهاري كخائن “شتم وأهان أتاتورك.” كان ذلك بداية حملة صحفية وتلفزيونية بنفس المضمون.
جامعة جازي، وبدلاً من أن تدافع عن الحرية الأكاديمية، علّقتْ عملي فيها بسبب آرائي ولأنني غادرت حدود المدينة التي تقع فيها الجامعة دون إذن رسمي. ولا بد أن تحقيقاً سيَكشِفُ دليلاً على قصوري “في تعليم الطلاب الأتراك طبقاً لمبادئ وثورة أتاتورك” وهو الأساس القانوني للتعليم هنا.
وقد دعا الأمين العام لرابطة الشباب الأتراك عثمان يلماظ مجلس التعليم العالي لمنعي من تولي وظائف رسمية ومن ممارسة التعليم الجامعي قائلاً بأني قد “تبنيّتُ حملة الأكاذيب والتشويه التي تطلقها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ضد أتاتورك وجمهورية تركيا.”
وأضاف يلماظ “لا أحد يستطيع الاختباء وراء حرية التعبير لترويج العداء ضد أتاتورك.”
بعد حالة الخوف والرعب التي مررت بها في الأيام القليلة الأولى، أعتقد أنني أخذت أدرك الآن سبب حدوث ذلك.
أنا أُعرف جيداً بليبراليتي الكلاسيكية، وأدافع علناً عن حقوق الإنسان لأي إنسان، وهذا يشمل بالطبع حقوق الأكراد والإسلاميين المحافظين.
الكماليون يكرهون مواقفي ولكنهم غير قادرين على مقارعتي الحجة بالحجة ودحض أفكاري، وقد جاءت فرصتهم في هذه المناسبة، وحولوا نقدي للكمالية إلى إهانة ضد أتاتورك.
بيد أن الصحفيين الأتراك ورسامي الكاريكاتير والكتّاب والأكاديميين يواجهون ما هو أكثر بكثير من مجرد أيديولوجية الدولة والمحاكمة الإعلامية. فالقانون 5816 يمنع “إهانة ذكرى أتاتورك” علناً، والمادة 301 من القانون الجنائي تنص على الحكم بالسجن على من “يشوه علناً التركية أو الجمهورية أو الجمعية الوطنية العليا التركية” أو “حكومة جمهورية تركيا أو المؤسسات القضائية في الدولة أو الهياكل العسكرية أو الأمنية”.
أنا لستُ سياسياً أخاطب الجماهير التي تعد بالآلاف. إنني أتكلم عادة ضمن دوائر أكاديمية. وفي الحلقة النقاشية أجريتُ تحليلاً كان فعلاً ينتقد الكمالية.
ولكنني أكاديمي؛ الشك والنقد والتقييم أمورٌ من صميم عملي. لا يحق لأحد أن يقوم بدور إله أو يمتلك الحقيقة السرمدية بين يديه. ما تحتاجه البشرية بشكل عام، وتركيا بشكل خاص، هو المنافسة الحرة في الأفكار والمعايير.
حرية التعبير مهمة لكل إنسان، ولكنها بالنسبة للأكاديميين، هي كل حياتنا. وما لم يتم دحض آرائي بصورة معقولة، فسأتمسك بها لأنني أحب تركيا وأحب أن تكون بلداً متحضراً.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 27 كانون الأول 2006.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

حيث أن الانتخابات الرئاسية تقترب شيئاً فشيئاً، فإن على شعب فنزويللا وجيرانهم أن يجروا مقارنة بين سجل هوغو شافيز وبلاغته الخطابية. ففي عام 1998 استغل شافيز الاستياء الشعبي العام ورشح نفسه للرئاسة على أساس برنامج قوي لمكافحة الفساد وتمكن بذلك من هزيمة إنريكيه سالاس رومر، حاكم ولاية كارابوبو السابق، الذي كان مديراً في منتهى المقدرة والكفاءة ولكن كان يُنظر إليه بأنه ينتمي إلى الطبقة المتميزة. وبعد مرور ثماني سنوات تظل وعود شافيز غير متحققة وقد تداعت الديمقراطية مفسحة المجال أمام نظام استبدادي جُعل فيه النظام الانتخابي تحت سيطرته التامة.
يسيطر على آلات التصويت شركة اسمها سمارتماتيك، ولها تاريخ ضبابي. ويتألف المجلس الانتخابي من مجلس إدارة يتألف أعضاؤه من مناصري شافيز. سجل الناخبين لا يمكن الاعتماد عليه: 39000 ناخباً أعمارهم تزيد على المئة سنة—ويبدو أن سيدة على قائمة المنتخبين يبلغ عمرها 175—وهنالك 62 شخصاً يتشاركون بنفس الاسم ونفس تاريخ الولادة.
ونتيجة لتجمع مداخيل بترولية غير مسبوقة وأدنى درجة من الشفافية الحكومية، فقد وصل الفساد في فنزويللا إلى ارتفاع قياسي لم يسبق له مثيل. وبتكبد دين داخلي جديد حصل شافيز على ما يقارب 25 بليون دولاراً في أموال إضافية تم صرفها على ما يناسب أهواءه. تلك الأموال بالإضافة إلى مبيعات البترول قد وضعت أكثر من 200 بليون دولاراً في خزائن الحكومة، ولكن هنالك أقل القليل من الدلائل على حسن استخدام أي منها في مشاريع أشغال عامة أو برامج اجتماعية فعالة.
الغالبية العظمى من ذلك المال لا يعرف مصيره، وقد بُدد القسم الأعظم منه أو استولى عليه البيروقراطيون وعصابات التجار القراصنة. شافيز يبدد المال في الخارج لامتلاك الأسلحة ولتصدير ثورته التي يدفعها العسكريون ضد أمريكا، وفي فنزويللا نفسها ينفقها على الدعايات السياسية وعلى ترويج البرامج الاجتماعية الشعبية القائمة على عطايا مباشرة إلى الفقراء.
منذ عام 2003 فإن الإنفاق والالتزامات المالية الخارجية قد التهمت ما يقارب 30 بليون دولاراً. فقد اشترت فنزويللا أسلحة من روسيا وإسبانيا وغيرهما من البلدان بقيمة 5 بليون دولاراً؛ وأكثر من 3 بليون في سندات من الأرجنتين، كما أنفقت فنزويللا حوالي عشرين بليون دولاراً في دعم للمحروقات ومِنح ووعود ببرامج لبلدان أخرى في المنطقة وبالأخص إلى كوبا وبوليفيا.
إن جهود شافيز غير الموفقة للوقوف في وجه نفوذ الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية لم يكن له من أثر سوى تبديد المال الفنزويللي. فمنذ عام 2000 أخذت فنزويللا بتقديم البترول إلى حكومة كوبا بدعم تبلغ تكاليفه 2.2 بليون دولاراً سنوياً. كذلك فإن حملة شافيز غير الناجحة للحصول على مقعد في مجلس الأمن الدولي قد كلف فنزويللا أكثر من بليون دولاراً في التزامات مالية قطعها إلى الحكومات التي طلب مساعدتها للحصول على المقعد. وقد ركز شافيز إنفاقه الداخلي على تعزيز سلطاته السياسية. وقد أعطت الحكومة مبالغ طائلة من خلال برامج اجتماعية، اسمها مسيونيس، تعطي الفنزويلليين الشعور الواهم بالرخاء على حساب البرامج الهيكلية المستدامة على المدى الطويل في حقول التعليم والصحة. وقد أساء شافيز استعمال أموال البنك المركزي الفنزويللي، كما قَبِل تمويلاً خارجياً لحملته الانتخابية الرئاسية ومنح عطاءات حكومية غير تنافسية، وترك شركة البترول التي تملكها الحكومة في حالة تراجع.
الفساد يشمل وزراء حكوميين، وقضاة في المحاكم العليا، ومدراء في المجالس الانتخابية، وحُكّام الولايات، ومحاميين حكوميين، وضباط عسكريين، وأصحاب البنوك، وصناعيين مؤيدين للحكومة. وهنالك اليوم ما لا يقل عن ثلاث موازنات حكومية متوازية تقوم جنباً إلى جنب، وواحدة منها فقط تعتبر رسمية وتخضع لـ”التدقيق” من قبل المجلس الوطني، والذي هو بدوره يتألف كلياً من أتباع شافيز. أما الموازنتان الأخريان فهما تحت الإشراف المباشر لشافيز نفسه. إن فقدان الشفافية والمحاسبة وغياب الرقابة المؤسسية وضعف من يتولون البيروقراطية في المراكز العليا قد أدى ذلك كله إلى درجات عالية من تفشي الفساد.
نتائج هذا الوضع المأساوي واضحة: فعلى الرغم من مداخيل البترول الطائلة تقف فنزويللا اليوم في أسفل سُلم الدول في أمريكا اللاتينية. إن التصنيفات التي وضعتها منظمات دولية مثل مؤشر الفساد الخاص بمنظمة الشفافية العالمية، وتقرير الحرية الاقتصادية في العالم لمعهد فريزر، ومؤشر التنمية الإنسانية للأمم المتحدة، ومنظمة الأغذية والزراعة الدولية، جميعها تُظهر فنزويللا في وضعٍ متردٍّ.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 2 كانون الأول 2006.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

تواجه اليونان معضلة خطيرة في السياسة الخارجية. فمن ناحية تؤيد أثينا مطلب تركيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ومن الناحية الأخرى فإنها تؤيد أيضاً، رسمياً على الأقل، سياسات القيادة القبرصية اليونانية. لذا فإن اليونان قد ينتهي بها الأمر بدون تعمد منها بالمساهمة في إفشال انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.
في الوقت الحالي، يبدو أن بروكسل وأنقرة تسيران في اتجاه الاصطدام. كان من المقرر أن يجتمع وزراء خارجية تركيا واليونان والجزأين المقسمين من جزيرة قبرص ورئيسة الاتحاد الأوروبي الحالية الفنلندية في نهاية الأسبوع الفائت لبحث نزاع حول النقل بين قبرص وتركيا بيد أن الاجتماع لم يتم عقده.
الاتحاد الأوروبي يريد من تركيا فتح موانئها ومطاراتها إلى السفن والطائرات من قبرص العضو في الاتحاد الأوروبي في هذه السنة بموجب بروتوكول اتحاد جمركي تم توقيعه في عام 2005. وجهة نظر تركيا، التي ترفض ذلك، هي أن بروكسل قد فشلت في الالتزام بتعهد برفع الحصار الاقتصادي والسياسي عن الجزء التركي من جزيرة قبرص مقابل تأييد تركيا لمخطط إعادة توحيد الجزيرة الذي وضعته الأمم المتحدة. وتصر بروكسل على أن هذين الموضوعين ليسا مرتبطين من الناحية الرسمية ويعترف الدبلوماسيون الأوروبيون في مجالسهم الخاصة بأن مثل هذا الارتباط هو واقع حقيقي من الناحية الأخلاقية.
وكانت الرئاسة الفنلندية للمجموعة الأوروبية تأمل في تجاوز هذه الحلقة المفرغة خلال المحادثات التي كانت مقررة في هلسنكي. كان اقتراح التسوية سيطلب التزاماً تركياً بتوسيع الاتفاقية الجمركية “في مرحلة من المراحل” بحيث تشمل جمهورية قبرص. وفي المقابل كان المقترح فتح ميناء فارماجوستا في شمال قبرص أمام سكان قبرص الأتراك بحيث يستطيعون التجارة تحت إشراف الأمم المتحدة. إن إلغاء الاجتماع الذي كان مقرراً في آخر لحظة قد زاد من سوء الموقف بالنسبة لإمكانيات انضمام أنقرة إلى الاتحاد الأوروبي. وتدل الأنباء الصحفية التي تم تسريبها مؤخراً على أن التقرير الأخير الذي وضعته المفوضية الأوروبية حول تركيا والذي من المقرر نشره هذا الأسبوع، سوف يكون شديد النقد لتركيا. فبجانب النزاع حول قبرص يُتوقع أن تنحى بروكسل باللائمة على تركيا بسبب ما تعتبره عدم التقدم في ميدان حقوق الإنسان والحقوق المدنية.
كيف سوف تؤثر الأزمة بين تركيا والاتحاد الأوروبي على العلاقات اليونانية التركية، وبالتالي على استقرار المنطقة؟ عندما أجريت حديثا صحفياً مؤخراً مع وزيرة خارجية اليونان دورا باكويانس، أصرت على أن هذا الموضوع هو مسألة تخص تقيد تركيا بمطالب الاتحاد الأوروبي، ولما كان الأمر كذلك فإنه لا يجب أن تؤثر على العلاقات بين البلدين. وأضافت “وبجانب ذلك، فإن قبرص هي واحدة فقط من كثير من القضايا التي تؤثر سلباً على احتمالات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي”.
بعض المحللين يخالفون ذلك. ويقول البروفيسور أليكسس إراكليدس من جامعة بنتيون في أثينا “إذا ما فشلت المفاوضات مع تركيا بسبب موضوع قبرص، فإن تركيا سوف تعتبر اليونان مسؤولة مباشرة عن ذلك بسبب عدم رغبتها في مجابهة السياسات المتشددة للقيادات القبرصية اليونانية”.
مثل هذا التطور سوف يكون صعباً بشكل خاص على السيدة باكويانس. فمنذ تسلمها وزارة الخارجية في الربيع الماضي جعلت انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي قطب الرحى في سياستها الخارجية. وفي الوقت ذاته فإنها لم تتقدم بأية تغييرات على سياسة بلدها الخارجية في هذا الشأن. ويمكن تلخيص هذه السياسة بالقول “قبرص تقرر واليونان تتبع”.
وعلى النقيض من أنقرة المنهمكة بشكل فعال في رسم سياسة القبارصة الأتراك فإن أثينا تبدو بشكل متزايد قانعة بقبول ما يرتئيه رئيس قبرص اليونانية تاسوس بابادوبولوس. في شهر نيسان 2004، لعب رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان دوراً إيجابياً جداً في إقناع القبارصة الأتراك بتأييد مخطط الأمم المتحدة لإعادة توحيد الجزيرة أما كوستاس كارامانلس، رئيس وزراء اليونان، فقد ترك الأمور تجري في أعنتها، دون تدخل. وفي النهاية، صوّت القبارصة الأتراك بأغلبية ساحقة مؤيدين لمخطط الأمم المتحدة لتوحيد الجزيرة. أما القبارصة اليونان فقد اتبعوا مناشدة رئيسهم ورفضوا المشروع.
الفرق المهم الوحيد بين أثينا ونيقوسيا، وفق ما تقوله المصادر الدبلوماسية، يتعلق بموقفهما إزاء جهود الولايات المتحدة للوساطة. فاليونان ترحب بمثل تلك الجهود، بينما القبارصة اليونان يعتقدون بأن مثل هذه المحاولة هي مجرد حيلة لدعم المصالح التركية على حسابهم.
حتى يومنا هذا، قيادة قبرص اليونانية ترفض رفع القيود الاقتصادية والسياسية عن جيرانهم الأتراك، ووجهة نظرهم في ذلك بأن ذلك سوف يكون الخطوة الأولى للاعتراف الدولي بدولة قبرصية تركية ذات سيادة. ونتيجة لذلك فإن القبارصة الأتراك لا يستطيعون الدخول في تجارة مباشرة مع المجموعة الدولية، وليس لهم أي صوت في مؤسسات الاتحاد الأوروبي.
معظم الدبلوماسيين يشعرون بالتشاؤم حول إمكانية التوصل إلى صفقة على الإطلاق. ولكن هناك استثناءات. فقد قال لي مساعد وزير الخارجية الأمريكي ماثيو بريزا الشهر الماضي: “إذا أرغمتني على التكهن، فإنني أرى أسباباً كثيرة للأمل. لا أحد يرغب في تدمير هذا القطار. لا الحكومة اليونانية ولا جمهورية قبرص ترغب في إفشال انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. إنهم جميعهم متفقون بأنه في نهاية المطاف فإن شرقي البحر الأبيض المتوسط سوف يكون منطقة أكثر استقراراً وأكثر رخاءً ما دامت تركيا تخوض معركة الإصلاح والتحديث وتلتزم بشروط العضوية في الاتحاد الأوروبي”.
قد يكون الأمر كذلك. ولكن في قضايا ما يسمى بـ”الأهمية الوطنية”، فإن السياسيين اليونانيين هم تماماً مثل أقرانهم السياسيين الأمريكيين أو الأتراك. ولسوء الحظ فإنهم يميلون إلى اتباع ما تفرضه استفتاءات الرأي العام بدلاً من انتهاج العقل.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 14 تشرين الثاني 2006.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

عندما تحب أحداً، فإنك دائماً تتمنى له الخير كله. لقد أحببت إفريقيا منذ اللحظة الأولى التي وطأت فيها قدماي قبل ثماني سنوات مضت، وقد أمضيت معظم السنوات الست الماضية وأنا أحاول معرفة السبب الذي جعلها في مثل هذه الحالة من الفوضى. بالنسبة لي، هذا هو أهم سؤال يواجهني.
إفريقيا ليست فقط أفقر قارة في العالم. إنها القارة الوحيدة التي ازدادت فقراً خلال ربع القرن الماضي—وهذا يمثل فشلاً ذريعاً. إن المعرفة تراكمية؛ لا يترتب عليك إعادة اختراع محرك الاحتراق أو شركة مساهمة عامة من جديد. يجب أن تسير الأمور إلى الأمام. كما أن هنالك أكوام هائلة من رؤوس الأموال منشورة على امتداد العالم، تتطلع إلى أفكار جيدة لتمويلها، من أجل تحقيق الربح. ولكن رأس المال ذلك لم يذهب إلى إفريقيا. لذا، نسأل، ما الذي حدث؟
نوعية الحاكمية
هنالك الكثير من الحديث، وبالأخص في إفريقيا وفي الجامعات الأمريكية حول تركة ومخلفات الاستعمار. ذلك التراث كان سيئاً بالتأكيد، ولكنني كنت دائماً أرى بأن إلقاء اللوم لجميع مشاكل إفريقيا على كاهل الاستعمار أمراً غير مقنع. ولنذكر أن تجربة كوريا الجنوبية في الاستعمار كانت أكثر قبحاً ومعاناة من زيمبابوي، على سبيل المثال. ومع ذلك، فإن كوريا الجنوبية اليوم هي أغنى 30 ضعفاً من زيمبابوي.
كثير من المعلقين الغربيين¬—في كتبهم الموسعة والمكتوبة كتابة جيدة حول حقبة الاستعمار—يؤكدون على أن تركة الاستعمار هي السبب الرئيسي وراء مشاكل أفريقيا. يبدو الأمر وكأن الكتّاب لا يريدون، حقيقة، أن يعرفوا ماذا يجري في إفريقيا اليوم. وبدلاً من ذلك، فإنهم يريدون الكتابة عن أنفسهم وتاريخهم أنفسهم، وبالتالي اكتساب شعور جميل بالتفوق الأخلاقي عن طريق جلد أمتهم.
أعتقد أن أهم عامل يبقي إفريقيا متأخرة هو الصفة المخزية للحاكمية هناك. ماذا أعني بذلك؟ على الحكومة الجيدة أن تسعى لدعم رخاء مواطنيها عن طريق إنشاء إطار يستطيع الناس العاديون من خلاله السعي لتحقيق رخائهم وسعادتهم، بالطريقة التي تحلو لهم. الوضع في أفريقيا، في كثير من الحالات، لا يأخذ هذا المنحى. فكثيراً ما تجد الحكومات معتدية ومفتقرة إلى الكفاءة.
دعوني أعطي مثلاً واحداً. في إحدى المرات ركبت في سيارة نقل كانت محملة بالبيرة في الكاميرون، للتحقيق في كيفية تسليم البيرة إلى الناس في أحراش الكاميرون الحارة والتي تغمرها مياه الأمطار. لم تكن الرحلة طويلة جداً. كانت مساوية للمسافة ما بين نيويورك وبيتسبيرغ. ووفق الجدول الزمني المتفائل الذي وضعناه لرحلتنا، كان من المفروض أن تستغرق الرحلة ثلاثة أرباع يوم. لكن الذي حصل هو أن الرحلة استغرقت أربعة أيام. بعض السبب يعود إلى أن الطريق كانت في حالة يرثى لها. واضح أن أحداً ما قد غزا الميزانية المخصصة للصيانة، وكانت تلك الطرق غير مُعبدةٍ على الإطلاق. لم يكن ذلك ليشكل مشكلة في غياب الأمطار، ولكننا كنا متواجدين في حرش مطري، وبالتالي كان المطر ينزل مدراراً، وفي فترات عديدة. كان هنالك أيضاً جسر تداعى بسبب سوء الصيانة. كان ذلك يعني أن علينا أن نلجأ إلى تحويلة عن تلك الطريق. ولكن المشكلة الأكبر هي أننا أوقفنا 47 مرة على مراكز التفتيش البوليسية.
مراكز التفتيش في غربي أفريقيا تتألف عادة من كوم من براميل الزيت توضع في وسط الطريق، وربما قطعة من الخشب مع مسامير بارزة إلى أعلى، والذي يستطيع إزاحتها عن الطريق صبي في السنة العاشرة من عمره، بعد السماح للمسافرين بالمرور. وهنالك أيضاً، بشكل معتاد، جمع من رجال الشرطة يخلدون إلى الراحة تحت ظل شجرة من الأشجار. رجال البوليس ينهضون بتمهل لتفحص قاعدة السيارة والأضواء الخلفية. كما أنهم يدققون في أوراق السائق للعثور على اقل مشكلة. ومن ثم يبدؤون عملية مفاوضات حساسة حول ماذا تنوي عمله لتقنعهم بأنك لم تخالف القانون. لقد تم تأخيرنا ما بين خمس دقائق إلى أربع ساعات في كل واحدة من نقاط التفتيش الـ(47).
وأثناء رحلتنا على الطريق، كنت أحاول أن أفهم ما الذي يجري. البوليس القائم في نقطة التفتيش الـ(31) قد أعطاني ما اعتقدت أنه أكثر التفسيرات صفاقة. إنه لم يجد أي شيء مخالف للقانون، ولذا فقد ابتدع قانوناً من عنده حول نقل الركاب في حافلات نقل صناديق البيرة والذي أصر على مخالفتنا له. قلت له: “انظر، هذا القانون الذي ذكرته لا وجود له، أليس كذلك؟” وقد وضع يده على غطاء مسدسه وقال: “هل معك مسدس؟” أجبت بأنني لا أحمل سلاحاً. عندها أجاب: “إنني أحمل سلاحاً وبالتالي، فإنني أعرف القانون”. فكرت بنفسي وقلت إن هذا مثل جيد يكشف النقاب عن عمل الحكومات الـ”مصاصة للدماء”، كما وصفها أستاذ في جامعة أمريكية هو جورج امييتي. الرجال الذين يحملون السلاح هم الرجال الذين يملكون السلطة التي تضع القوانين، وهم يستخدمون تلك القوة لانتزاع العوائد من أولئك الذين لا يملكون القوة. هذه هي المشكلة في إفريقيا.
قصة بلدين
وكمثل على مدى أهمية الحاكمية، لنأخذ قضيتي بوتسواتا وزيمبابوي. هذان البلدان لم يبدءا بتركة استعمارية متشابهة. بوتسوانا لم تكن تملك أي شيء على الإطلاق عندما نالت استقلالها، بينما كانت زيمبابوي تملك ثاني اكثر اقتصاد متقدم ومتنوع في جنوب صحراء إفريقيا. منذ عهد الاستقلال، وبتسوانا تحكم حكماً عاقلاً وحريصاً وإلى حد ما نزيهاً. الحكومة لم تنفق نقوداً لم تكن تملكها. وقد تلقت الحكومة ربحاً كبيراً من الألماس المدفون تحت الصحراء، وسياسيو البلد لم يبددوا تلك النقود. لقد أنفقوها بحرص على التعليم، والعناية الصحية، وبناء الطرق. وفي الحقيقة، فإن بوتسوانا حققت أحد أسرع نسب نمو دخل للفرد مقارنة مع بلدان العالم الأخرى. وهكذا، فإن نجاح بوتسوانا المذهل خلال الـ35 سنة الماضية مرده وجود رئيس ذكي ونزيه، يولي بنفسه شراء حاجياته من أسواق السوبر ماركت، ويحمل أكياس البلاستيك بنفسه.
وعلى النقيض من ذلك، زيمبابوي، حيث يوجد رئيس ينظر إلى أكثر القطاعات إنتاجية في بلاده—الزراعة التصديرية—ويحطمها لأن المزارعين البيض الذين يسيطرون عليها أيدوا حزب المعارضة في الانتخابات البلدية التي جرت عام 2000. روبرت موغابي وبعض المدافعين عنه يقولون بأنه إنما يُصحح تركة الاستعمار—وهي التي، بالمناسبة، غض النظر عنها خلال أول 20 سنة من حكمه. موغابي يقول إنه فقط يعيد توزيع الأراضي من البيض الأغنياء إلى السود الفقراء. ولكن في آخر زيارة لي قمت بها إلى زيمبابوي، زرت مزرعة كان قد استولى عليها ضابط جيش برتبة زعيم. القائد العسكري هذا، لم يبدو لي فقيرا، وكان، في الحقيقة، أحد أصدقاء زوجة موغابي المقربين. لم يهتم هذا الضابط بزراعة أي شيء لأنه لم يكن يعرف شيئاً عن الزراعة، ولكنه جاء بفكرة مبتكرة لجمع المال من ملكيته الجديدة. لقد دار حول جميع الأكواخ حيث يعيش عدد كبير من المزارعين الذين كانوا يعملون لدى المالك القديم. لقد اقتحم أبواب تلك الأكواخ، وسرق تعويضات إنهاء الخدمة التي توجب على المزارع الأبيض دفعها إلى جميع المزارعين الذين كانوا يعملون لديه عندما طرد من الأرض.
جوهر النتيجة هو أنه منذ الاستقلال، أصبحت بوتسوانا غنية بمقدار تسعة أضعاف عما كانت عليه، بينما أصبحت زيمبابوي ثلاثة أضعاف فقرها القديم. فرق الـ(27) ضعفاً يبين الفرق بين الحاكمية الجيدة والحاكمية السيئة. هل يمكن للوضع في زيمبابوي أن يسوء أكثر؟ الجواب هو نعم، يمكن أن يسوء. أحد أسوأ الأشياء التي نراها في بلدان إفريقية كثيرة هي أنه نتيجة للحاكمية السيئة، تبدأ الدولة بالركود الاقتصادي، ويشعر الناس بأنه لا سبب يدعوهم إلى الولاء لها. في مثل هذه الظروف، يمكن لأي بلد أن ينزلق بسرعة نحو الاقتتال. هذا هو ما نشاهده الآن في ساحل العاج. إنني عادة لا أؤمن بنظرية الحلقة المفرغة، بيد أن الفقر، والركود الاقتصادي، والحاكمية السيئة، مع غزارة في الموارد الطبيعية المتوافرة في بلد ما، يمكن أن تزيد من احتمالات دخول ذلك البلد في الحرب، والذي بدوره يزيد من حدة الفقر.
الفقر، الركود، الحرب، والإرهاب
خذ شرق الكونغو، على سبيل المثال. آخر زيارة لي إلى ذلك البلد أتاحت لي رؤية نتائج الحرب على حياة الأفراد الذين يعملون على كسب عيشهم. قرويون في إحدى القرى التي زرتها كانوا يخشون البقاء في أكواخهم خلال الليل لأن الرجال المسلحين يأتون إليهم ليلاً. لذا، فإنهم يمشون ساعة ونصف الساعة إلى اقرب حامية عسكرية للحصول على أمان نسبي كل ليلة، ويعودون إلى حقولهم في الصباح. بطبيعة الحال، فإن أولئك الذين ليس لديهم ما يأكلونه في المقام الأول، ثم يمشون ثلاث ساعات عبر الجبال، تضاف إلى ساعات عملهم، لا يمكن أن ينتجوا أكلاً كافياً لهم. ولكن الذين يبقون في أكواخهم مصيرهم مزيداً أكبر من المعاناة.
تحدثت إلي سيدة أخبرتني بأنها لا تستطيع مواجهة المشي. بقيت في كوخها، وعندما جاء المسلحون ليلاً واقتحموا كوخها، أرغموها على حمل كل شيء—الأواني والطناجر والحرامات والفرش إلى معسكرهم. ثم بعد ذلك، وعند وصولهم إلى المعسكر، اغتصبوها جماعة وكسروا طرفين من أطرافها. وبطريقة ما، تمكنت من العودة إلى كوخها، ولكن بعد شهرين، جاء مسلحون آخرون واغتصبوها جماعة.
أود أن أتحدث الآن عن الإرهاب. هنالك نظرية متداولة مفادها أن إفريقيا لا بد وأن تكون منبتاً لتفريخ الإرهاب بسبب الأعداد الكبيرة من المسلمين الذين يعيشون فيها. إذا كنا نعني بالإرهاب، ذلك الإرهاب الذي يؤثر على الغرب، فإنني لا أعتقد بأن هذه الفرضية صحيحة. ليست هنالك، بكل بساطة، حركة إرهابية دولية ذات أهمية في إفريقيا السوداء. لدى الناس شكاوى عديدة ولكن توجهها هو نحو القضايا الداخلية. إذا سألت الناس بالفعل عن رأيهم في الرئيس جورج بوش، وغزو العراق، فإن الإفريقي العادي سوف يجيب بأنه كان عملاً فظيعاً، وأنهم يكرهون بوش كرهاً شديداً. بيد أن سياسة بوش الخارجية تأتي في مرتبة متدنية جداً في قائمة شكاويهم. إن شكواهم الرئيسية هي رجل البوليس الذي يقف على قارعة الطريق ويسلبهم كلما حملوا غلتهم الزراعية إلى الأسواق.
هنالك قصة جانبية مثيرة هنا—العدد القليل من الإفريقيين الذين يعيشون في ولايات حيث يجري قتال بين المسلمين والمسيحيين. أولئك الذين يشعرون بأنهم مضطهدون من قبل المسلمين يتجهون إلى محبة جورج بوش كثيراً، بسبب ما يعتقدون أنه هجوم بوش ضد المسلمين. أحد المراسلين أجرى حديثاً مع رجل قبيلة في جنوب السودان. عندما سئل عن رأيه في جورج بوش—وواضعاً في ذهنه التاريخ الطويل لشمال السودان وهو يلقي ببراميل قنابله على قريته—رفع بيده لعبة خمرية اللون للدمية باربي قائلاً: “هذه زوجة جديدة للرئيس بوش. أدعو الله أن يمنحه العديد من النساء الخصيبات، اللواتي يملكن أجساماً قوية، وأن يمنحه انتصاراً في الانتخابات، ودون مشاكل في فلوريدا”.
أسباب للأمل
هنالك عدة أسباب للأمل في إفريقيا. أحدها أنه توجد حروب أقل الآن مما كان سابقاً. لقد رأينا السلام وقد تحقق تقريباً في سيراليون، وليبيريا، وأنغولا، وفي الحرب الحدودية بين إثيوبيا وإريتريا. حتى الكونغو، تبدو أفضل قليلاً مما كانت عليه قبل أقل من عام. من الناحية الأخرى، فإننا لم نر تقدماً كثيراً في السودان. إن الذي يقع في ساحل العاج مرعب كلياً، ويهدد بالانتشار إلى سائر أرجاء منطقة غرب أفريقيا، إذا أخذنا في الاعتبار انفتاح الحدود، وكم هم الشباب اليافعون هناك الذين يرون في حيازة بندقية وفرصة لنهب القرى خياراً مسلكياً مغرياً.
سبب آخر لكوني متفائلاً قليلاً حول أفريقيا هو أنها أصبحت أكثر ديمقراطية منذ نهاية الحرب الباردة. منذ أن توقفت الدول العظمى عن دعم حكام مستبدين، الذين كانوا إما مع أو ضد السوفييت، وداعمين مالياً جيوشاً متمردة لنفس الدوافع، وقد رأينا بزوغ ثمار انتخابات. بطبيعة الحال، لم تكن تلك الانتخابات جميعها عظيمة. إنك ترى كثيراً منها وقد زُوّرت بشكل مفضوح. ولكن إذا أردت عمل قياس بسيط للديمقراطية—القدرة على إخراج المفسدين خارج الحكم—فإنك تلاحظ بأن الحالة قد تحسنت كثيراً.
ففي عقدي 1960 و1970 في إفريقيا، كان مجموع عدد الذين طردوا من الحكم سلمياً بواسطة الاقتراع صفراً. في عقد الثمانينات ارتفع الرقم إلى واحد إذا اعتبرت موريشيوس جزء من افريقيا. ولكن في عقد 1990، ارتفع العدد إلى نصف دزينة. هذا تغيّر مذهل. بطبيعة الحال، إنك لا تحصل على حكومة أفضل في جميع الحالات، ولكن عندما تستطيع بالتصويت طرد الحكام خارج الحكم، فإنك، على الأقل، تحصل على المساءلة التي تأتي من أولئك الحكام لمعرفتهم بأن شعوبهم قادرة على الخلاص منهم.
الديمقراطية ليست الحل. حتى عندما يكون لديك حكومة تريد أن تحسن الأوضاع، فإنك مع ذلك تظل تواجه مصاعب في تحقيق ذلك. نيجيريا، على سبيل المثال، لها فريق جديد للإصلاح الاقتصادي. هؤلاء النخبة الذكية جداً والتي تترك انطباعاً قوياً في نفسك، وتجهد في العمل، تعمل تحت إشراف نجوزي أوكونجو-إويلا، وزيرة المالية. إنها امرأة رائعة. إنها تعمل حتى الساعة الثالثة صباحاً. إنها تنتظر في الصف دورها لتصعد إلى الطائرة، وهو أمر غير مسبوق ولم يسمع به قبلاً من قبل الوزراء. إنها تواصل العمل الشاق لجعل الحسابات العامة أكثر شفافية، وأكثر عقلانية، من أجل التخلص من ثقافة الفساد التي طال أمدها، والتي وقفت حائلاً دون تقدم نيجيريا. ولكن، وبالنظر إلى الشكوك الواسعة الانتشار بين ناخبي نيجيريا، فإن قليلين جداً يعتقدون بأن بالإمكان إصلاح النظام. إنهم لا يعتقدون بأن في الإمكان الحصول على حكومة نظيفة، وبسبب أنهم لا يؤمنون بإمكانية ذلك، فإنهم يعتقدون بأن العمل المنطقي هو محاولة وضع جماعاتهم في تلك المناصب—أناس ينتمون إلى نفس جماعتهم الإثنية، أو حتى من نفس عائلتهم—ومن ثم حثهم على سرقة أكبر كمية ممكنة من المال وتوزيعها بين أقاربهم.
كنت أتحدث مع واحد من أكثر الحكام الإقليميين نزاهة وبراغماتية في نيجيريا، وسألته كم هو حجم الضغط الذي يتعرض له لسرقة المال العام. وقد أخرج هاتفه النقال وأراني رسالة من واحدة من عماته تقول فيها: “عزيزي دونالد، متى يمكنك أن تراني لنبحث موضوع المنزل؟” وقد أوضح أن عمته تريد منه أن يشتري لها داراً. سألته كم عدد الرسائل المماثلة التي يتلقاها، فأجاب بأنه يتلقى مثلها كل دقيقة، كل يوم. هذا هو نوع الضغط الذي يعمل في ظله. وقد كنت أتحدث إلى حاكم إقليمي آخر، وسألته كم هي نسبة النخبة من الحكام التي تؤيد حملة الإصلاح، والتي ترغب في اجتثاث الفساد، فأجاب: “ربما خمسة بالمائة”. هذا هو نطاق المهمة أمام أولئك الذين يريدون جعل نيجيريا أكثر رخاءً، والمهمة بالنسبة لسائر أفريقيا مماثلة، وإن كانت على نطاق أقل. إنني أعتقد بأن الإفريقيين سوف يحققون الرخاء في النهاية، ولكنهم لن ينجحوا إذا ظنوا بأنهم يستطيعون حل مشاكلهم عن طريق آخرين، أو أن المساعدات هي الحل، أو أن أحداً غير الإفريقيين يستطيع أن يجعل إفريقيا ثرية.
نشرة كيتو للتنمية الاقتصادية، العدد 1، 30 حزيران 2005، مركز الحرية والازدهار العالمي، معهد كيتو.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 25 تشرين الأول 2006.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

قبل عام من الآن فجعت هذه الأمة بالإعصار المدمر كاترينا، ولا زالت إدارة بوش تتعرض لنقد شديد لإدارتها جهود إعادة الإعمار، فقد استغرق الأمر شهوراً عدة حتى أمكن في النهاية تنظيم وتنفيذ خطة إعادة البناء وتعويض السكان المتأثرين في ولايات الخليج، وبعد قول كل شيء وعمل كل شيء فقد تصل التكلفة النهائية إلى عدة مئات من بلايين الدولارات.
سيُنظر دائماً إلى إعصار كاترينا كفشل للسياسة العامة لإدارة بوش، فقد كانت معالجة هذه الكارثة فشلاً ذريعاً مدوياً سيذكره المؤرخون ضمن النقاط المتدنية في كفاءة إدارة بوش. هل تعلّم حسن نصر الله، زعيم حزب الله، أي شيء من أخطاء كاترينا؟ نعم تعلم.
في اليوم الذي تم التوصل فيه إلى وقف إطلاق النار، أعلن حسن نصر الله بأن حزب الله (وليس الحكومة اللبنانية) سيبدأ فوراً بإعادة إعمار حوالي 15,000 بيتاً تقريباً تعرضت للدمار في الحرب. وقال نصر الله بأن حزب الله سيدفع قيمة الإيجار لعام كامل لأولئك الذين فقدوا بيوتهم بما في ذلك تكاليف الأثاث. إن نصر الله بتقديمه لهذه الخدمات، وهو مسؤول غير حكومي، إنما يقوم بدور مسؤول حكومي، وستعزز هذه الخدمات، على الأرجح، مكانته السياسية وتضعف، في الوقت نفسه، الحكومة المركزية التي تسعى جاهدة للمحافظة على زمام الأمور في بيروت. ينبغي ألا يحدث ذلك ويتعين على الولايات المتحدة وفرنسا والعالم العربي أن تضع حداً لذلك فوراً.
يجب على الحكومة اللبنانية، مستعينة بالمجتمع الدولي، أن تحرم حسن نصر الله من كسب مزيد من السمعة الحسنة باعتباره المخلِّص والحامي للشيعة الفقراء في جنوب لبنان. يجب على الغرب مساعدة الحكومة اللبنانية، التي لم تعر تاريخياً أي اهتمام للشيعة، على تولي الدور الرئيسي في إعادة إعمار البلاد. يجب أن يحدث هذا بصورة عاجلة لأن المواطنين اللبنانيين المهجرين يعيشون في ظروف بالغة الصعوبة وعلى الولايات المتحدة أن تأخذ زمام المبادرة في تأمين الدعم المالي للحكومة اللبنانية لإعادة إعمار البلاد بما في ذلك المنطقة الشيعية في الجنوب التي تعرضت لدمار شديد.
تبلغ التقديرات الأولية لإعادة الإعمار في لبنان وفقاً للحكومة اللبنانية حوالي 3.5 بليون دولار. سيكلف إصلاح البنية التحتية المدمرة 1.5 بليون دولار ويبقى 2 بليون دولار لإنشاء مبان جديدة تعويضاً عن المدمرة. ورغم أن الدمار قد طال سائر أنحاء لبنان فإن الجزء الأكبر من الدمار حصل في جنوب لبنان—وهي معقل قوي للشيعة والموطن الأساسي لحزب الله.
لن يؤدي منع حسن نصر الله من اتخاذ موقع قيادي في إعادة إعمار لبنان فقط من تعزيز موقف رئيس الوزراء فؤاد السنيورة وتأكيد سلطة حكومته على أجزاء من لبنان كانت تخضع عادة لسيطرة حزب الله، بل إن ذلك سيؤدي أيضاً إلى تحجيم الرسوخ السياسي الإيراني في لبنان. من المفهوم أن الدعم الذي ينوي حزب الله تقديمه لإعادة الإعمار يأتي من إيران، ومع أسعار البترول التي تحوم فوق 70 دولاراً للبرميل فإن التكاليف تعتبر استثماراً غير مكلف ستكون له عوائد كبيرة. فمقابل بضعة مئات من ملايين الدولارات ستستعيد إيران سلطة سياسية جوهرية من خلال حزب الله، وكيلها المعتمد في لبنان. وسرعان ما سيكتشف الناس مصدر أمنهم المالي وسيشكلون حليفاً أقوى لإيران. إن تقوية إيران ليس في مصلحة لبنان أو مصلحة إسرائيل.
يجب إعادة بناء لبنان، بما في ذلك منطقة جنوب لبنان. تم حتى الآن التعهد بحوالي 2 بليون دولار من قبل بلدان عربية مثل السعودية والكويت، وهذا لا يكفي لإعادة لبنان للوقوف على قدميه. وتعهدت الولايات المتحدة بما مجموعه 280 مليون دولار وهو رقم متدن جداً يخصص لبلد في موقع استراتيجي مثل لبنان. يجب أن يكون نجاح الحكومة اللبنانية الاعتبار الأهم للسياسة الخارجية في الشرق الأوسط، وهذا يتطلب دعماً مالياً وعسكرياً جوهرياً من قبل واشنطن توخياً لضمان الإنصاف في إعادة الإعمار والشفافية في إدارته لصالح جميع الفئات اللبنانية المتضررة—بما في ذلك الشيعة.
نصر الله، منذ الآن يزعم بأنه حقق نصراً لمقاومته قصفاً إسرائيلياً دام شهراً على قواته في لبنان، والمفهوم العام في الشارع العربي (ومفهوم الشارع العربي أهم من الواقع) أنه قد كسب الحرب. ينبغي ألا نسمح لنصر الله وشركائه بالخروج من هذه الأحداث مثل روبن هود مؤكداً إدارته لدولة ضمن الدولة، وقد آن للمجتمع الدولي أن يتولى القيادة. يجب على واشنطن أن تتصرف وأن تتذكر الدروس المستفادة من كاترينا.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 27 آب 2006.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

لم يكن اختيار حزب المعارضة الياباني الرئيسي لــ’إيكيرو أوزاوا‘ كقائد جديد له الشهر الماضي قراراً مفاجئاً بحد ذاته. فالسيد أوزاوا، ذلك المشرّع المحنك ذو النزعة الإصلاحية، هو ما يحتاجه الحزب الديمقراطي الياباني تماماً، بعد بعض النكسات المحرجة. من الجدير بالملاحظة، على كل حال، أن السيد أوزاوا، العضو السابق في الحزب الديمقراطي الليبرالي الحاكم، يشاطر كبار المرشحين الآخرين لخلافة رئيس الوزراء جونيتشيرو كويزومي اعتقاداً بأن اليابان لا بد أن تلعب دوراً أكبر في آسيا.
وفي هذا الخصوص، فإن صعود السيد أوزاوا إلى قيادة الحزب الديمقراطي الياباني ينم عن اتجاه في السياسة اليابانية ذي مضامين هامة، أكثر من الاختلافات الأسلوبية بين القياديين السياسيين الأربعة في الحزب الديمقراطي الليبرالي—شينزو آبي، وياسو فوكودا، وتارو آسو، وساداكازو تانيغاكي. في السنوات القليلة الماضية، كان صانعو السياسة في طوكيو قد أصبحوا أكثر ثقة وحزماً، فأعادوا تعريف استخدامات القوة العسكرية التي اعتُبِرَتْ شرعية في ظل الدستور الياباني المسالم رسمياً.
لم يكن هذا التوجه مرحبّاً به في شرق آسيا، حيث الناس يتخوفون من أن أي تنقيح، سواء للدستور الياباني أو للتحالف الأمريكي-الياباني، سيدل على التخلي عن السياسة الخارجية السلمية المنصوص عليها في الفقرة التاسعة من الدستور.
ولكن ظهور اليابان كقوة إقليمية يلقى ترحيباً في واشنطن. إن القوة العسكرية الأمريكية، رغم أنها لم تُوازى لحد الآن، لا تستطيع أن تحافظ على وضعها المهيمن في جميع أرجاء العالم. كان الجيش الأمريكي يرزح تحت أعباء الالتزامات العالمية التي تجاوزت قابلياته حتى قبل الهجمات الإرهابية في 11 أيلول 2001. وجاءت الحروب في العراق وأفغانستان لتفاقم تلك الضغوط. وبناءاً عليه، كان صانعو السياسة الأمريكية يسعون لطرق لنقل المهام الأمنية وبهدوء إلى حلفاء ديمقراطيين أغنياء. اليابان بداية جيدة، وعملية النقل الآن في طور الحدوث. ففي الشهر الماضي توصل دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الأمريكي، ونظيره الياباني العميد فوكوشيرو نوكاغا، إلى اتفاقية لتسهيل نقل جنود البحرية الأمريكية من جزيرة أوكيناوا في جنوب اليابان إلى غوام، الإقليم الأمريكي.
إن العلاقة الأمريكية-اليابانية الأكثر شبهاً بالتحالف بالمعنى التقليدي للمصطلح، على نقيض علاقة الراعي بالزبون، يمكن أن تستمر لأنها تنسجم والرأي العام على جانبي المحيط الهادئ. فاليابانيون حريصون على أن يتصرف بلدهم كـ”بلد طبيعي” وأن يُعامل على هذا الأساس، بلد مسؤول عن حماية مصالحه وليس معتمداً على الولايات المتحدة. كما يبدو الأمريكيون متعبين من ميزانية الدفاع المرهقة، منفتحين للتغييرات التي ستسمح للجيش الأمريكي بالتراجع عن دوره كشرطي العالم. في غضون ذلك، فإن قوة الدفاع الذاتي اليابانية قد أصبحت قوة عسكرية هائلة يبلغ عدد منتسبيها في الخدمة الفعلية في مكونات المشاة، والبحرية والقوة الجوية 240 ألف منتسباً. أما من حيث الإنفاق، فان اليابان تنفق أكثر من فرنسا، وروسيا، وألمانيا، وثلاثة أضعاف إنفاق الهند تقريباً.
إن جيشاً يابانياً، يعمل بشكل مستقل عن الولايات المتحدة، ولكنه ملتزم رغم ذلك بالدوافع الاحترازية (وحتى المسالمة) للعامة، يمكن أن يكون عاملاً هاماً في الاستقرار الإقليمي. فيستطيع، مثلاً، أن يوفر رادعاً معقولاً للأعمال الهجومية الكورية الشمالية ضد اليابان، وقد يمنع بيونغ يانغ من التصرف بعدائية ضد البلدان الأخرى. عموماً، لا بد لبلدان شرق آسيا من الترحيب بظهور اليابان كقوة إقليمية قادرة على توفير ثقلاً موازياً للصين الناهضة.
اليابان هي القوة الإقليمية الأكثر ملائمة للعب هذا الدور. حتى وإن نقّح اليابانيون دستورهم، فإنهم سيحتفظون بمخاوفهم من استخدام القوة العسكرية وبتصميم قوي على الحفاظ على سيطرة مدنية قوية على الجيش. إن الجدل الأخير حول زيارات السيد كويزومي إلى ضريح ياسوكوني لقتلى الحرب اليابانية، والجدل الصاخب المنفصل، ولكنه ذي صلة، حول بعض الكتب الدراسية التي تقلل من أهمية الانتهاكات اليابانية في زمن الحرب لا يجب أن يُنظر إليها على أنها يقظة قومية يابانية. بالرغم من أنه قد يكون هناك هامش قومي داخل اليابان يتوق إلى العودة إلى مجدها العسكري، إلا أن مثل هؤلاء الأفراد يبقون على هامش المجتمع الياباني.
يتوقع أن يخرج السيد كويزومي من رئاسة الوزراء في شهر أيلول، ولكن خلَفَه سيشاطره الرغبة في إيضاح وضع الجيش في ظل الدستور الياباني وفي تأسيس شراكة استراتيجية أكثر مساواة مع أمريكا. إن العلاقات الأمريكية-اليابانية التي تشكلت من خلال صداقة السيد كويزومي القوية مع الرئيس بوش ستبقى إلى وقت طويل بعد أن يذهب هذان الرجلان عن المشهد السياسي.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 23 حزيران 2006.

peshwazarabic15 نوفمبر، 20100

ينظر العالم إلى مصر؛ فهي تحمل مفتاح تطور العرب، ولأن المحتجين المصريين يزحفون لأجلِ واحدٍ من أثمن عناصر الحكومة الجيدة، والديمقراطية، والحرية، والازدهار، ألا وهو: القضاء المستقل.
يفهم المحتجون، وبمنتهى الوضوح، أن القضاء المستقل ضروري للانتخابات الحرة، وكذلك لضمان احترام القانون واتّباعه، لكن الأمر ينطوي على أكثر من ذلك؛ فالقضاء المستقل هو عجلة المجتمع الحر والاقتصاد المزدهر.
ولا بد من أن يكون القانون متوقَّعاً، لأن من شأن ذلك أن يوفر النظام الاجتماعي. كما يجب أن يراه الناس عادلاً، ليحثهم ويشجعهم على التعاون. ومن البديهي أيضاً أنه لا ينبغي للشخص أن يكون قاضياً في قضيته، مهما كان جيداً أو نزيهاً؛ كما إن من بالغ الأهمية أن لا يكون الذين يسنّون القوانين هم أنفسهم من يحكمون بشأن كيفية تطبيقها على بعض القضايا المحددة، ولا سيما عندما تتداخل فيها مصالحهم الخاصة.
إن القضاة المحايدين والمستقلين ضروريون لكل من الديمقراطية والأسواق الحرة على حد سواء. وقد عرّف عالم الاقتصاد الشهير مانكور أولسون، الذي كرّس حياته لفهم أسباب وكيفية ازدهار بعض المجتمعات وإخفاق مجتمعاتٍ أخرى، عرّف استقلال نظام المحاكم على أنه المفتاح، لأن “نظام المحاكم هذا، والقضاء المستقل، واحترام القانون والحقوق الفردية، الضرورية للديمقراطية الدائمة، ضرورية أيضاً لحماية الملكية وحقوق العقد”.
ليست الديمقراطية مجرد تحقيق “لإرادة الأغلبية” الغامضة، بل هي نظام يستوجب فرض حدود على السلوك؛ كاحترام نتائج الانتخابات، واحترام حقوق الجميع في حرية التعبير عن آرائهم، واحترام حقوق المواطنين العاديين. وتحتاج كل هذه الأمور إلى كيان قانوني مستقل يستطيع أن يقيّد السلطتين التشريعية والتنفيذية، ولا سيما في حالات كحالة مصر، التي تمسك سلطتها التنفيذية بجميع زمام السلطة (الأخرى) بيديها.
ولا يمكن الوثوق بالحكام المطلقين أو الاستبداديين في أن ينفذوا القانون بعدالة، أو في أن يطبقوها على أنفسهم، إذ ليست هناك سلطة مستقلة تجبرهم على الامتثال. وبسبب هذا كله، لا يمكنهم إبرام التزامات صادقة. وكما أشار أولسون في كتابه الأخير القوة والرخاء، فإن الحاكم الاستبدادي ليس لديه دافع لاحترام وعوده: “وعود الحاكم المطلق لا يمكن تنفيذها بواسطة قضاء مستقل، ولا بأي مصدر سلطة مستقل آخر—فالمستبدون، كما تدل تسميتهم، يستطيعون التسلط على مصادر السلطة الأخرى كافة. ونتيجة لهذا الموقف، وللإمكانية الواضحة بأن يُقدِم الديكتاتور على اتخاذ وجهة نظر قصيرة الأمد، فإن وعوده لا يمكن أن تُصدّق بشكل تام”.
ويقودنا هذا إلى المشكلة التي أطلق عليها عالم الاقتصاد إدوارد بريسكوت، الحائز على جائزة نوبل، اسم “عدم الاتساق الزمني”، الذي يتخذ فيه الحاكم التزاماً في الوقت (س)، كعدم مصادرته لأملاك الذين يستثمرون في مشاريع التنمية الطويلة الأمد (المصانع مثلاً)، لكنه يجد في الوقت (ص) أنه ليس لديه باعث على احترام وعده السابق بعد أن تم الاستثمار. وطالما أنه في الوقت (ص) كان الاستثمار قد تحقق، فقد أصبح باعث المستبد هو نحو مصادرة ذلك الاستثمار. ونتيجة لعدم الاتساق الزمني هذا، لا يستطيع أحد الوثوق بالمستبد، ولا يستطيع أحد أن يستثمر. وبالتالي سيعاني الجميع.
لذا، فإنه من دون القضاء المستقل، لا تكون وعود الحكومة معقولة، ولا يستطيع أحد الوثوق بأن الحكومة لن تتراجع عن وعودها باحترام الحقوق. وعندما يهيمن السياسيون من أصحاب المصالح الذاتية على القضاء، فإن وعود المواطنين عندما يتعاقدون فيما بينهم ستصبح أقل صدقاً أيضاً، لأن أطراف العقد لن يكونوا واثقين من أنهم سيحصلون على استماع عادل في المحكمة خلال النزاع.
ويُعدّ الحكم القضائي العادل في المنازعات أمراً بالغ الأهمية لنجاح الاقتصاد. وعُرفَ منذ زمن بعيد أن الأنظمة الاقتصادية الأكثر نجاحاً هي تلك التي تنتج البضائع والخدمات التي تتطلب تخطيطاً طويل الأمد، والذي يتطلب بدوره مقداراً كبيراً من الثقة والتوقعات الواقعية بأن تُحترم الصفقات الطويلة الأمد.
لم تكن مصر دائماً خاضعة لحكم فردي استبدادي؛ فللبلد تقاليد فخورة، وتاريخ نبيل من الديمقراطية والحكومة البرلمانية والقضاء المحترف والمتمرّس. وكان ذلك القضاء يتعرض للهجمات منذ سنوات عدة، ولطالما ناضل في دفاعه من أجل مصلحة الأمة المصرية. ففي العام 1968، طالب القضاة بضمانات أكبر لاستقلالهم، فطُردَ أكثر من مائة قاضٍ. والآن، هناك جيل جديد من القضاة الذين يحتجون على إسكات بعض من زملائهم لفضحهم الفساد والتزوير الانتخابي.
إن القضاء المستقل أساسي لعملية الإصلاح في أي بلد كان، وفي أي جزء من أجزاء العالم؛ إذ لا ديمقراطية بلا قضاء مستقل. ليس هذا فحسب، بل لا عدالة نزيهة بلا قضاء مستقل، وبغياب العدالة النزيهة، لن يكون هناك استثمار طويل الأمد ولا تنمية اقتصادية.
لقد أصبح مستقبل مصر، والعالم العربي برمته، وبطرق عديدة، على المحك في الصراع من أجل استقلال القضاء.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 28 أيار 2006.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018