peshwazarabic

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

لا أظن أن أحداً من عظماء الإسلام قد تخيل أن يأتي حينٌ من الزمان ندافع فيه عن بديهية من بديهيات الحياة السوية، وهي أن الطفولة يجب أن تُصان ولا تصادَر أو يساء إليها. وكما هو معروف فإن هذه المرحلة من حياة الإنسان هي الوحيدة التي يعيشها بلا هموم ولا منغصات حقيقية، بل في ملاعب اللهو وصفاء البال وخلو الحياة من المشاكل والمسؤوليات. وبالنسبة للمرأة تحديداً فهي المرحلة التي كثيراً ما تسبق دخولها في حروب لا تنتهي مع نفسها والأهل والمجتمع، لتبدأ من مرحلة البلوغ عذابات الطبيعة وآلامها من متاعب الحيض ثم الحمل والولادة فالإرضاع.. ولا تنتهي عند سن اليأس حيث أعراض الاكتئاب والضيق وترقّق العظام، ناهيك عن حربها مع المجتمع الذكوري الذي لا يريدها في الأغلب الأعم إلا راضخةً مستكنةً في أغلال عبوديةٍ وراضية بواقع ثانوي، مهما نوضل للارتقاء به فهو يبقى دون واقع الرجل الذي لو كانت يده مطلقة في الأمر لتمنى أن يحبسها داخل بيت مغلق وطبقات من أشكال الملابس الداكنة. واليكم ما نقرأه على موقع شبكة الفتاوى الشرعية(1) مثلاً عن مواصفات ملابس المرأة، عندما يُسأل فضيلة الشيخ الدكتور أحمد الحجي الكردي عن  جواز الألوان في شروط الحجاب الشرعي، إذ يجيب:
“فالأفضل للمرأة أن تحافظ خارج بيتها، بالنسبة للباس الخارجي، على اللباس الأسود اللون، أو الكامد مطلقاً الذي لا يُلفت الأنظار إليها، بعيداً عن الألوان الفاقعة التي تلفت الأنظار إليها، لأن الحجاب وُضع للمساعدة على غض البصر عنها، لا للفت النظر إليها، وليس هناك لون معين محبذ، ولا لون معين محرّم، سوى ما تقدم، وأما سائر الألوان غير ذلك، فلها لبسها تحت العباءة، ولها اختيار اللون الذي تحبه عند ذلك. والله تعالى أعلم”.
وعندما تسأله إحدى سائلات عن كعب القدم، يقول الدكتور مستشار الموقع:
“قدم المرأة ما دون الكعبين اختلف الفقهاء فيها، فذهب البعض إلى أنها عورة، والبعض إلى أنها ليست بعورة، والبعض قال ظَهْر القدم عورة دون الأسفل منها. والأفضل لبس الجوارب مع اللباس الطويل خروجاً من خلاف الفقهاء. أما ما فوق الكعبين فعورة، يجب سترهما عند جمهور الفقهاء”.
إذن للخروج من خلاف الفقهاء، من الأفضل اللجوء إلى الحل الأكثر ظلاماً وتشدداً ، وليس الأكثر انفتاحاً وتسهيلاً. كما من الأفضل للمرأة أن تحافظ، خارج بيتها، على اللباس الخارجي الأسود اللون، أو الكامد مطلقاً بحجة أنه لا يلفت الأنظار إليها، بعيداً عن الألوان (الفاقعة) التي تلفت الأنظار إليها!!! وتخيلوا مع مضي التاريخ وتواتر الحقب كم من الحلول التي أفتى بها (الرجال) قد تراكم على مر العصور، وتحول من مظلم فاتح اللون إلى مظلم غامق (وهو مما يسميه محمد أركون بالجهل المؤسَّس)(2)، وما يعبّر عنه قاسم أمين(3)، في كتابه “تحرير المرأة” حين يقول : (تجده دائما يختار من فكرين أقلهما صوابا، ومن طريقين أصعبهما، ومن عملين أضرهما)، حتى انتهينا إلى اللون الأسود المظلم وإلى هذه الأشكال العجيبة من العمائم وطبقات اللفائف فوق الرؤوس، وأنواع الحجاب المحنك والمنقب والملثم التي يجافي بعضها المنطق ونعمة العقل السليم الذي يفترض بنا القول أن الوضع الاقتصادي في صدر الإسلام لم يكن يسمح للمرأة سوى باقتناء ثوب أو ثوبين، كما لم تكن هناك بدع مانراه الآن من كثرة الأغطية. فمن أين جاء بها وتبناها بعض المتشددين في قراءة الدين الاسلامي ليفرضوها على المرأة المسلمة؟. وليت تلك الأثواب حافظت على أشكالها العربية التقليدية الجميلة، ولكنها أصبحت هجيناً من السواتر والحُجُب، وانتهت إلى رؤوس البنات الصغيرات ممن لا وعي لديهن ولا حيلة، واللائي يُربَّيْن منذ الصغر على كبح تلقائية الذات وإخفاء الضحكة والابتسامة والقوة والرأي الجريء، بحجة أن هذه كلها فضائح يجب التستر عليها ووأدها منذ نعومة الأظافر.
ظاهرة حجاب الصغيرات في الوطن العربي تتخلق من جديد اليوم كشكل جديد ومعاصر من أشكال قمع الطفولة والإساءة اليها باسم الدين الإسلامي الذي كان من أوائل ما حققه للمرأة والطفولة أنه نهى عن وأد البنات حين حرم دفن الصغيرات وهن أحياء. واليوم يأتي من يدفن طفولتهن بالحجاب باسم الدين، والدين من ذلك براء. فإن ثمة آراء كثيرة تقول،  إن الحجاب لم يُفرض إلا على المرأة الراشدة عند بلوغها سن المحيض. وقد جاء في الحديث النبوي‏:‏ ‏”‏يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يُرى منها إلا هذا، وأشار إلى وجهه وكفيه”. وهذا الحديث تقوّيه بعض المواقع الإسلامية وتستأنس به مواقع أخرى أو تعتبره ضعيفاً أو تطعن به على إنه مرسل، ونحن نعرف أنّ كل موقع منها يأخذ ما يريد ويترك ما يريد من التأويلات وحسب درجة التشدد أو الإنفتاح.
إن انتقاد هذه المظاهر لا يأتي من اعتدال الدين الإسلامي وسماحته وعنايته بالعدالة ورفع الظلم عن المظلومين فحسب، وإنما من إعمال العقل والحس السليم الذي يقول كيفما تنظر إلى الشيء يكون هذا الشيء، فإذا نظرت إليه ببراءة يكون بريئاً وإذا نظرت إليه بنجاسة يكون نجساً، وإن هذا الهوس العربي المَرَضي بموضوع الجنس هو الذي يريد أن يتعامل أيضا مع الطفولة من وجهة نظر جنسية فتُكبح براءتها تحت العباءة بجريرة رجل غير بريء لا يستطيع السيطرة على شهواته. فبدلاً من نشر الوعي بالقوانين الرادعة ضد التحرش والاعتداء ومعاقبة الرجل المعتدي على توحش أهوائه وغرائزه تتم معاقبة النساء بتفعيل ثقافة العيب التي تُكمِّم أفواه الفتيات والنساء حتى وإن تعرضن إلى أبشع اعتداءات التحرش الجنسي. ليس هذا فحسب، بل يبدو أن رجل المخدع، الذي يمارس لحظاته الحميمية كيفما يشاء وبحرية  تامة، هو نفسُه، في نظر بعض رجال الدين، رجل الشارع الذي يمشي وحشاً كاسراً بين الناس، وليس شخصاً ثانياً يمارس حياته العادية في العمل والكدح وتوفير لقمة العيش، وكأنهم يريدون تعميم صورة رجل المخدع على كل الرجال وفي كل مكان، فيفترضون أنه لا زال مهووساً بالتحديق والملامسة. وبدلاً من تنويره أو تحجيب عينيه وتشجيعه على غض البصر، يلجؤون إلى تحجيب الفتيات الصغيرات حتى وإن كن لا زلن في سن اللهو والطفولة.
الفتنـة:
عن هذا الرجل، الضعيف في حضرة الأنوثة، يقول الباحث إبراهيم أزروال(4):
“فالإنسان المسلم المتشرّب للقيم والأخلاق الإيمانية، والمتفاني في أداء طقوسه والمتأهب للموت في سبيل رفعة عقيدته، غير قادر على الاستجابة الإسلامية المتعالية، لتحدّي الأنوثة، أي لاستقبال الجسد الأنثوي استقبالاً متعالياً. إن المسلم قادر على المجاهدة الفكرية في أرقى مراقيها وأحوالها، إلا إنه عاجز عن تجاوز احتواء بريق الجسد الأنثوي ونداءاته الشبقية المتأججة. فالمسلم يمكن، مبدئيا، أن يرتقي إلى مراتب العرفان والتقوى والإحسان، إلا إنه يبقى بعيداً عن تفعيل مبادئ التقوى في مواجهة الجسد الأنثوي. إن بين الأنوثة والقداسة، في المنظور الإسلامي، هوّة أنطولوجية لا تملؤها حتى التشريعات العازلة والحدود القاسية، مثل الرجم. إن الإيمان يجُبّ ما قبله إلا الشهوة، فهي باقية عالقة بالنفس إلى الموت! فالمؤمن قادر على استئصال الأوثان من مخيلته، إلا أنه غير قادر على عصمة نفسه من لهيب الجسد ومن نيران التوله والوجد. فالإيمان فعلٌ جذريّ، إلا إنه محصور الفاعلية في مضمار الرغبة والغواية. الغواية قابعة في قعر النفس، لا تجدي الحياة الطقوسية في محوها، مهما كان المتعبد منصرفاً عن الدنيا وعن متعها”.
وهذا هو إلى حد بعيد ما أكده الإمام محمد عبده (1849-1905)  قبل عشرات السنين، عندما تساءل:
“عجباً! لم يؤمر الرجال بالتبرقع وستر وجوههم عن النساء إذا خافوا الفتنة عليهن. هل اعتبرت عزيمة الرجل أضعف من عزيمة المرأة، واعتبر الرجل أعجز من المرأة عن ضبط نفسه والحكم على هواه.. واعتبرت المرأة أقوى منه في ذلك حتى أبيح للرجال أن يكشفوا وجوههم لأعين النساء مهما كان لهم من الحسن والجمال؟.(5)”
كما قال:
“لكننا لا نجد في الشريعة نصاً يوجِب الحجاب على هذه الطريقة المعهودة، وإنما هي عادة عرضت عليهم من مخالطة بعض الأمم فاستحسنوها وأخذوا بها وبالغوا فيها وألبسوها لباس الدين كسائر العادات الضارة التي تمكنت في الناس باسم الدين، والدين منها براء.”
ليس هذا فحسب، ولكننا ندفن رؤوسنا بالرمال عند القول بتكفين المرأة بالسواد ومنعها من الزينة والتزين ونحن نعلم أن هذا يتعارض مع طبيعتها العاشقة للجمال والتجمل، فهي التي اكتشفت الكحل والحنة وأحمر الشفاه، وهي التي تُضفي الجمال على أي مكان تتواجد فيه. فإنك إذا دخلتَ غرفة ليس فيها سوى رجال ستجدها مظلمةً حتى لو كان الوقت نهاراً. فمع احترامي للرجال، إن هذه هي طبيعة الأمور.. ولنتأمل ما تقوله مصممة الأزياء العراقية هناء صادق، المختصة تحديداً بجماليات الزي العربي(6) :
“المرأة مثل الطبيعة، تتغير مع الفصول، ودورة الشمس، وانقلاب الليل والنهار. فهي كالأزهار تغير اللون، وتحاول أن لا تركن إلى الثابت، وهذا سمة الإبداع الذي اتصفت به المرأة منذ بزوغ التاريخ، وكانت تسعى إلى أن تكون خلاّقة في القصة والموديل والتزويق والزركشة بالإفادة من الطبيعة ذاتها.. ومن هنا بدأ الفن الذي يبعث الحركة والحياة. ولأن المرأة تمتلك إحساساً مرهفاً فهي، فضلاً عن استعارتها لمؤثثات الثوب من الطبيعة ، فإنها تحاول مواءمة الزي مع الفراغ المحيط والكتلة والمناسبة والطقوس والمواسم التي تبعث الفرح في النفس الإنسانية، وهي توظف الزي شارةً لقول ما يختلج في وجدانها من فرح أو حزن، أو حب”.
ملك الغابة:
أما ابن رشد، فيعلن عن أن النساء والرجال نوع واحد وأنّ لا فرقَ بين الرجل والمرأة في الغاية الإنسانية. والفرق الوحيد الذي يراه هو في احتمال الكد الجسدي الذي يَقدر الرجل عليه أكثر من المرأة، فيما أن النساء أكثر حذقاً في أعمال أخرى، كفن الموسيقى. وبما أنه لا فرق بين المرأة والرجل في الطبع الإنساني، وجب على النساء أن ينلن التربية نفسها التي يحظى بها الرجال وأن يشاركنهم سائر الأعمال، حتى الحرب والرئاسة. ويقول:
(( تختلف النساء عن الرجال في الدرجة لا في الطبع. وهن أهل لفعل جميع ما يفعل الرجال من حرب وفلسفة ونحوهما، ولكن على درجة دون درجتهم، ويفقنهم في بعض الأحيان كما في الموسيقى، وذلك مع أن كمال هذه الصناعة هو التلحين من رجل والغناء من امرأة. ويدل مثال بعض الدول في إفريقيا على استعدادهن الشديد للحرب. وليس من الممتنع وصولهن إلى الحكم في الجمهورية[ الإشارة إلى جمهورية أفلاطون] أوَلا يرى أن إناث الكلاب تحرس القطيع كما تحرسه الذكور؟))(7).
ولو كان ابن رشد حياً يومنا هذا وشهد ما استجد من الاكتشافات في سلوك الحيوان التي رصدها العلم بدقة، لاكتشف أن مجتمع الحيوان برمته حريمي. فأنثى الفيل هي أحكم ما في القبيلة وهي التي تقودها إلى منابع الكلأ والماء، ومستعمرات النمل والنحل تقودها الإناث من الملكات ولن يبلغها الذكر إلا بقطع الانفاس فيموت، وإن اللبوة هي التي تصيد وتقنص بينما الأسد(ملك الغابة) مستلقٍ لا يُسمع منه سوى الزئير.
نعم، لقد ربط ابن رشد بين رقي المجتمعات وتحسين الوضع الاجتماعي للمرأة فيها، وقبله أقرّ الفارابي المساواة بين المرأة والرجل في امتلاك العقل والحس والخيال، وهو قد حصر الاختلاف بينهما في الأعضاء الجنسية المتصلة بالذكورة والأنوثة، مخالفاً بذلك آراءً معروفة لأرسطو، تنتقص من قيمة المرأة باعتبارها لا تصلح للسياسة والرئاسة، ويرى أن العقل لديها عديم الفاعلية معرفياً، كما أنها أخلاقياً أقلّ شأناً من حيث العفة والشجاعة. أما ابن عربي، في كتابه “فصوص الحكم”،(8) فيستفيض في شرح الحديث النبوي الشريف “حُبّبت إليَّ من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وجُعلت قرّة عيني الصلاة”،  مبيّنا أنّ حنين نبيّ الإسلام إلى النساء هو حنين إلى نفسه، وحبّه لهنّ حبّ لذاته. وكانت المرأة أيامَه، صلى الله عليه وسلم، تأتي إليه وهو جالس مع أصحابه، فتقول له زوّجني، أو تشكو له زوجها، أو تستشيره في أدق تفاصيل الحياة.
ومقابل هذا كله ثمة مواقف أخرى متشنجة بحق المرأة نجدها غريبة على الإسلام، هذا الدين الثائر الذي جاء ليمنح المرأة حقوقاً ما كانت لتخطر على بال الرجال، وليقول إن النساء شقائق الرجال، كونهما خُلقا من نفس واحدة، وإن للمرأة الأهلية للإرث والتملك والتصرف بأملاكها والتعليم واتخاذ القرار في شؤون حياتها من زواج وطلاق، بل إن الإسلام جعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة. وكانت نساء النبي من أمهات المؤمنين يشاركن في جميع مجالات الحياة ويتحدثن في أدقّ خصوصيات الحياة ويشرحن تفاصيلها. لكن من الرجال من ظلوا ولا يزالون يقاومون هذا الوضع الجديد ويمارسون قمعهم لهذا الكائن الرقيق ويغالون باعتباره  فضيحة وعورة يجب التستر عليها وإخفاؤها عن الناس بأغرب الوسائل وأكثرها قسوة، كالبرقع أو النقاب الذي وصل إلى وجوه النساء حتى من الحجيج، في التفاف واضح على الدين والسُّنة النبوية الشريفة وعلى الملابس المخصصة للإحرام أثناء أداء مراسم الحج. ومعروف أن ضمن ما يُقصد من الحج أنْ يقف المسلم عارياً بين يدي ربه كما لو كان يوم القيامة، وما أجمله من معنى روحي لهذا الطقس الذي لا وجود له في كل الديانات الأخرى.
إن كل طقوس الإسلام مهيبة وباهرة وتثير الإعجاب، ولو تُرك الدين الإسلامي بلا شوائب لانتشر انتشار النار في الهشيم في الغرب المادي الذي يعاني من أزمة روحية طاحنة. ولكن هذه المظاهر المسيئة للإسلام، كحجاب الصغيرات والبرقع أو النقاب، تشوه هذا الدين وتُنزله، في أعين الآخرين، من مكانه الرفيع إلى مستوى هذه التفاصيل الغريبة. وهنا أيضاً تتكرر الملاحظة حول بعض رجال الفتاوى، من الذين تطفو رجولتهم على السطح فيفتون بأنه لا ضير من حجاب الصغيرات أو ارتداء البرقع ويشجعون النساء على ارتدائه، حتى أصبح هذا التشدد بمرور الأيام ديناً، وليس فولكلوراً، في تبريرات لا تقنع ولا تنتهي، ولا يهمهم لو كان فيها تطاول على صورة الإسلام والمسلمين التي يجب أن ينقّيها المُفتون من الشوائب لا أن يسمحوا لتعصبهم الشخصي بتشويهها تحت شعار الدين والتقوى ودرء الفتنة التي نعرف أنها لا يمكن أن تكون لها حدود.
عقدة الرجل المقتضب :
وحسب حصيلة دراسية ضخمة قام بها معهد جالوب بين عامي 2001 و2007 وتضمنت عشرات الالاف من المقابلات في اكثر من 35 دولة أغلبها من المسلمين ونشرت في كتاب صدر حديثا بعنوان (كيف يفكر حقا مليار مسلم)(9)نقرأ “وإذا كان الغربيون ما زالو يعتبرون النقاب رمزاً لحالة النساء الدنيا في العالم الإسلامي، فإن المسلمين يرون أن تخلي النساء الغربيات عن الحشمة يشير إلى انحطاط مكانتهن الثقافية في الغرب.. الافتراض في كلتا الحالتين أن النساء يغطين أو يكشفن عن أنفسهن لإرضاء الرجال وإطاعتهم. وتدل استفتاءات أخرى في الشرق الأوسط وآسيا على أن أغلبية المسلمين في مصر والأردن وباكستان لا يعتقدون أن النساء في المجتمعات الغربية محترمات”.
ولعل هذا هو خير ما يمكن الخلوص إليه من هذا الموضوع.. (الافتراض في كلتا الحالتين أن النساء يغطين أو يكشفن عن أنفسهم لإرضاء الرجال وإطاعتهم). فالمبالغة في كشف الجسد والمبالغة في تحجيبه هما وجهان لعقدة واحدة أسميها (عقدة الرجل المقتضب). وفي الحالين، فإن الرجل المحّدق والمرأة موضوع التحديق طرفان في هذه المشكلة، وإحكام المنطق السليم يقول إن حجاب العقل هو الذي يحول الرجال من وحوش كاسرة، إن كانوا كذلك، إلى بشر، وإن ثقافة المرأة هي التي تحولها من حرمة إلى إنسانة محترمة في المجتمع.
لقد تصادفت كتابتي لهذا الموضوع مع تصريحات شيخ الأزهر الاخيرة بحظر دخول المنقبات إلى المعاهد الأزهرية. فهو كان قد انتقد إحدى الطالبات التي كانت ترتديه، ثم قرر منع النقاب في صفوف المعاهد الأزهرية. ولكن قراره ذلك أثار ضجة كبيرة في الشارع المصري وبين صفوف الإخوان المسلمين، الأمر الذي جعل المجلس الأعلى للأزهر يثنيه عن قراره، واقتصر القرار على منع الطالبات والمدرّسات من ارتداء النقاب داخل الفصول الدراسية الخاصة بالفتيات والتي تقوم بالتدريس فيها المدرسات من النساء فقط، سواء أكان ذلك في المراحل الابتدائية أو الإعدادية أو الثانوية. وهنا أود التوقف عند ما أكده المجلس الأعلى للأزهر من أنه ليس ضد استعمال المرأة للنقاب في حياتها الشخصية التي تتعلق بسلوكها في الشارع وفي عملها وفي بيعها وشرائها.  ولكنه “ضد استعمال هذا الحق في غير موضعه، لما يترتب عليه من غرس ذلك في عقول الصغار من الفتيات واتّباع رأي الأقلية المخالف لرأي جمهور الفقهاء الذي يقول إن وجه المرأة ليس بعورة”.
ساتوقف عند عبارة (عقول الصغار) في  بيان المجلس الأعلى للأزهر، والذي تلاه الدكتور الطنطاوي شيخ الأزهر في مؤتمره الصحفي. (عقول الصغار) هي بيت القصيد من هذه المقالة، وهي هدفها الأول والأخير، فأين هم من (عقول الصغار) من طالبات المدارس الصغيرات اللواتي يحجبن بإسم الدين والدين من ذلك براء ؟؟؟ وكيف ننجو بهذه العقول من التعقد والتشاؤم والغلو إذا كنا نضعها في هذا القيد وهي مازالت في سن اللعب والمرح والانطلاق ؟؟؟
ولا نحب هنا استعمال كلمة (منع) لوقف هذه الظاهرة، ولكننا نسأل وزارات التربية في الوطن العربي أجمعه: هل أجريتم البحوث والدراسات لتلمُّس أثر ما يمكن أن تؤدي إليه ظاهرة حجاب الصغيرات من عقد تربوية وأمراض نفسية قد تحول بينهن وبين الحياة السوية في المجتمع؟، وكيف يستقيم الأمر أن تكون تلك الوزارات ضالعة في تشويه وعي طفلة لم تبلغ سن الرشد بعد، فتربّيها على أن تكون عنصراً ثانوياً خانعاً شائها خائفاً ملغيَّ العقل، وهي تعلم أنه سيبقى خائفاً ملغيَّ العقل طوال حياته ما دام يُدرَّب ويُلقَّن على إلغائه منذ الصغر.
الهوامش:
(1)    شبكة ترعاها قناة إقرأ الفضائية ويفتي فيها فضيلة الشيخ أ.د أحمد الحجي الكردي عضو هيئة الإفتاء في الكويت.
(2)    قناة العربية، برنامج روافد مع احمد علي الزين يتاريخ 4-9-2006
(3)    قاسم أمين، تحرير المرأة منشورات وزارة الثقافة الأردنية، 2008
(4)    إبراهيم أزروال،  على موقعي الأوان والبديل الديموقراطي الالكترونيين.
(5)    محمد عبدة، الأعمال الكاملة- مصر
(6)    في لقاء أجرته معها جريدة الرأي الأردنية بتاريخ 21-8-2009
(7)    فريد العليبي، موقع البديل الديمقراطي الالكتروني.
(8)     ابن عربي، فصوص الحكم، دار الكتاب العربي: بيروت، 1980.
(9)    جون اسبوزيتو وداليا مجاهد،  من يتحدث باسم الاسلام : كيف يفكر حقا مليار مسلم؟ ترجمة عزت شعلان. عمّان: دار الشروق، 2009.
© منبر الحرية،  13مارس/آذار 2010

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

من النادر أن يمر شهر، من دون أن يأتينا خبر من هذه الدولة الأوربية أو تلك، ينمّ فحواه عن عداء مبطن(أو سافر) للمسلمين ودينهم. وبعض تلك الأخبار تترجم بمظاهر يرقى بعضها إلى مصاف العنصرية الفاضحة، مثال ذلك مقتل السيدة المصرية مروى الشربيني العام الماضي في ألمانيا على يد متطرف ألماني، وقبلها بسنوات أزمة الرسوم المسيئة للرسول العربي، ولا نعتقد أن آخرها سيكون في منع بناء المآذن في سويسرا نزولاً عند الاستفتاء السويسري الشهير أواخر العام المنصرم. نسوق هذا مع قناعتنا إن قضية الرسوم  تدخل في إطار الحرية الفكريّة، في ما تدخل مسألة منع بناء المآذن في مجال ممارسة الحق الديمقراطي الواجب احترامه، بمعزل عن النوايا السيئة التي كانت وراءها.
قبالة تلك المظاهر  الغربية التي أدانها بعض الأوربيين ورجال الدين المسيحي على حد سواء، يمكننا أن نحصي مثيلها أو ما يفوقها من مظاهر تحدث في الديار العربية الإسلامية، والإسلامية غير العربية. وهي مظاهر من شأنها أن تكرّس نظرة متطرفي الغرب عن الإسلام والمسلمين، ناهيك عن دورها في الإساءة إلى الإسلام ومعتنقيه! فمثلاً، ماذا يمكن أن نفسّر ما يتعرض له أقباط مصر، بين حين وآخر من اضطهاد على يد بعض المسلمين؟ إذ من النادر أن يمرّ عام من دون وقوع ضحايا في صفوف أقباط مصر جرّاء تطرف بعض المسلمين وتقصير الدولة في حمايتهم. ولا نعتقد أن المجزرة التي حدثت يوم عيد الميلاد 6/1/2010 ستكون الأخيرة، وإن كنا نأمل ذلك. في السياق ذاته يمكننا الإشارة إلى ما يتعرض له مسيحيو العراق من تهجير يكاد يكون منظّماً ومتعمداً هو الآخر!.
لا بل إن الاضطهاد الإسلامي في بعض الدول ذات الغالبية الإسلامية وصل حد عدم السماح لمسيحيي ماليزيا استخدام كلمة الجلالة “الله” في أدعيتهم وخطاباتهم! فمن المعروف أن محكمة ماليزية منعت على المسيحيين ذلك منذ قرابة عام ونصف، لكنها ألغت الحكم السابق منذ فترة قصيرة، آذنة لمسيحيي ماليزيا استخدام كلمة الله!(كأن استخدام لفظ الجلالة الله خاص بأبناء خير أمة!)، بيد أن بعض المتطرفين المسلمين في ماليزيا لم يرضوا بذلك، فقاموا بحرق عدة كنائس، وصل عددها إلى أربعة حتى تاريخ كتابة هذه الأسطر.
التطرف واحد، سواء أكان مصدره غربياً أم شرقياً، مسيحياً أم إسلامياً، ونتائجه واحدة في كارثيتها ولا إنسانيتها الرافضة للآخر المختلف، والمفترض أن يكون اختلافه عني (وعنا وعنكم) مصدر غنى، لا مصدر خلاف وتنابذ مستمرين. لكن إذا ما دققنا في جانبي التطرف الغربي(المسيحي) والشرقي(الإسلامي)، وبقليل من الحياد، سنلحظ أن التطرف لدى بعض مسيحيي الغرب لا يجد حاضنة شرعية/سياسية له في الكنيسة، إذ لم يسبق أن سمعنا برجل كهنوت مسيحي بارك أعمال المتطرفين الغربيين وممارساتهم العنصرية ضد المسلمين في الغرب(نستثني من ذلك محاضرة البابا بندكتوس السادس عشر في أيلول 2006، علما أن حديثه عن الإسلام فيها كان عبارة عن وجهة نظر قابلة للنقاش، وليس دعوة علنية لنبذ المسلمين أو التحريض ضدهم بأي شكل من الأشكال). والمتأمل في بعض ما يجري في أوربا اليوم سيلحظ  أن من يقوم بحملات التحريض شبه المستمرة ضد المسلمين هو الأحزاب اليمينية وليس الكنائس، مثال ما جرى في سويسرا إبان استفتاء منع المآذن الذي لقي استنكاراً من قبل رأس الكنيسة الكاثوليكية وسواها من رموز دينية مسيحية غربية بالدرجة الأولى، وتحديداً سويسرية.
إذاً، لم تجد الممارسات العنصرية الغربية ضد المسلمين حاضنة من قبل رجال اللاهوت المسيحي الغربي قدر ما لقيت نبذاً واستنكاراً، على نقيض معظم المتطرفين المسلمين الذين يجدون في خطب ومواقف وأراء بعض قادة العالم الإسلامي على المستوى اللاهوتي ما يحضهم بشكل أو بآخر على مثل ذلك التطرف. وكي لا يبدو قولنا هذا ضبابياً، لا بأس من التوضيح قليلاً لنوجز مرادنا بالقول: عندما لا يدين شيخ إسلامي من وزن يوسف القرضاوي أو محمد سعيد رمضان البوطي  أو سيد طنطاوي علناً وبوضوح الجرائم التي يرتكبها أمثال أسامة بن لادن ونضال مالك حسن وأمثالهما، واصفين أفعالهم بالجرائم والقائمين بها بالإرهابيين إذ يقتلون النفس التي حرّم الله، والاكتفاء بالالتفاف حول الموضوع من خلال تقديم أجوبة ضبابية عامة لا تغني ولا تسمن، فهذا يعني هم ضمنياً يشجعون هذا النوع من الإرهاب الذي ليس من الصعب عليهم تبريره شرعاً إذا ما دعت الحاجة، هذا من جهة.  ومن جهة أخرى، لنا أن نتصور كيف سيكون واقع الحال إذا ما كان رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين(الشيخ القرضاوي) هو ذاته(وأمثاله كثر) من يحذر المسلمين بعدم جواز تهنئة النصارى بأعيادهم!(دعونا نضع جانباً تبريراته اللاحقة لتحذيراته تلك). ومن المؤكد بأني لست وحدي من سمع أو قرأ ما سبق أن خطب به الشيخ محمد العريفي من السعودية مستهجناً في خطبة جمعة وجود الكنائس والصلبان في البلاد التي فيها مسلمون! قائلاً في معرض هجومه على البلاد الإسلامية كيف “تضم الكنائس ويعلّق أبناء الديانة المسيحية الصليب دون أن تتدخل الحكومات أو الهيئات الشرعية فيها لهدمها” (أكا نيوز، 16/1/2010). والشيخ العريفي في خطبته تلك نال من شيخ شيعي، يعتبر مرجعية لدى قومه هو السيد علي السيستاني، واصفاً إياه بالزنديق والفاجر! متغافلاً مقولة الإسلام الشهيرة “أدب الدين قبل الدين” وأين ألفاظه هذه من الآداب العامة ناهيك عن آداب الدين! المفارقة أن السلطات السياسية الرسمية في بغداد بشخص رئيس وزرائها نوري المالكي أدانت بذاءات الشيخ العريفي بحق السيد السيستاني، لكن المالكي لم يعنه ماذكره العريفي عن مسيحيي العراق من إهانات ومذلات، وكأن مسيحيي العراق لم يحظوا بشرف الانتماء إلى بلاد الرافدين بعدُ وهم بمنأى عن حق المواطنة!.
الحديث عن مظاهر التطرف والتطرف المضاد يطول، وليس الغرض من هذه العجالة إجراء إحصائية في هذا الصدد، أو إدانة جهة بغية تبرئة أخرى، إذ التطرف وما ينجم عنه من سلبيات مرفوض أياً كان مصدره. لكن ما يزيد مخاوفنا هو حالة الاستفحال في رفض قبول الأخر المختلف عنا جنساً وعرقاً وديناً، ولهذه الحالة أسبابها التاريخية والموضوعية والذاتية، ولنا معها وقفة خاصة. غير أن من المؤكد أن الفوبيا لم تعد “ميزة” إسلاميّة.
© منبر الحرية، 06 فبراير/شباط 2010

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

يشكل قيام الدولة واحداً من المكونات الأساسية للحداثة، في وصفها تجاوزًا للعصبيات المتعددة، وعنصر الاندماج الاجتماعي، وسيادة القانون العام على حساب القوانين الفئوية لهذه العصبيات. كان مشروع بناء الدولة في العالم العربي بعد التحرر من الاستعمار أحد أعمدة مشروع التحديث الذي انطلق في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. أصيب هذا المشروع بانتكاسة ونكوص بعد هزيمة الخامس من حزيران (يونيو) 1967، مما وضع مشروع بناء الدولة العربية في مهب الصراعات الفئوية التي عادت تندلع في أكثر من قطر عربي وتهدد وحدته وتعود به إلى سيطرة مكونات ما قبل الدولة. تقدم النماذج اللبنانية والعراقية واليمنية خير دليل على هذا الإرتداد عن مشروع الدولة نحو هيمنة العصبيات، وهي أمثلة ليست فريدة في بابها، لأن الأقطار العربية جميعها مؤهلة لأن تسير في هذا الطريق بما يفجر بناها ويقلص مقومات وجودها.
يعيش لبنان حاليًا أزمة تشكيل حكومة، بعد انتخابات نيابية أفرزت توازناً نظرياً في القوى على الصعيد السياسي الفوقي، لكن هذه الإنتخابات لم تتسبب في إعادة تشكيل الحكم، بحيث يصعب قراءة الوضع اللبناني استناداً إلى مقولات دستورية متعارف عليها. فالأزمة اللبنانية تتجاوز الصراع على المناصب الوزارية وتعديل الحصص، مما تعرفه الأنظمة الديمقراطية في كل مكان في العالم، لأن الأزمة تعبير عما أصاب الكيان اللبناني ومعه النظام السياسي من تحولات في أعقاب عقود من الحرب الأهلية الساخنة سابقا والباردة راهناً. منذ الاستقلال اللبناني في العام 1943، تكوّن النظام السياسي اللبناني على قاعدة محاصصة طائفية تملك وزنا في تعيين طبيعة المواقع، لكن إلى جانب هذه المؤسسات الطائفية، كانت الدولة بما هي تمثيل للمشترك العام، تمثل الموقع الأقوى بين العصبيات الطائفية التي يتكون منها المجتمع اللبناني. تسببت الحروب الأهلية المتواصلة في تقلص موقع الدولة اللبنانية لحساب الطوائف التي باتت تملك جيوشا نافست الجيش الرسمي وتسببت في انقسامات داخله. خلال العقود الماضية سعت البنى الطائفية، حرباً وسلماً، إلى خوض صراع للاستيلاء على مؤسسات الدولة وبناها، بحيث كانت كل طائفة تنظر إلى الوطن بمقدار ما يحقق لها مطالبها ويؤمن لها مصالحها، بما يمكن القول اليوم أنّ المشترك العام الذي تمثله الدولة، رئاسة وحكومة ومؤسسات سياسية وأمنية، باتت الأضعف في مقابل مؤسسات الطوائف. لقد اكتسح الخاص الطائفي العام الدولتي، وهو اكتساح يضع البنى الطائفية في مواجهة بعضها البعض، ويتسبب بمزيد من الانقسامات الفئوية، الطائفية والمذهبية، ويضع البلد بشكل دائم على شفير حرب أهلية. من دون إدراك هذه التحولات في النظام اللبناني، سيضيع الناظر والمحلل لأزمة تشكيل الحكومة في متاهة تصريحات من هنا وتأويلات من هناك. إنّ الصراع على الدولة ومؤسساتها وسعي كل طائفة لتعديل ميزان القوى لصالحها وإلحاق الدولة بموقع هذه الطائفة هو الذي يجعل من أزمة تشكيل حكومة أزمة ذات طابع بنيوي تهدد الكيان اللبناني ومعه مجمل النظام السياسي.
لا يقل المشهد العراقي في طبيعته المأساوية عن اللبناني، بل أنّ شلال الدم المتدفق يومياً يعطي صورة عن عراق جرى تدمير مقوماته الدولتية، التي سمحت باندلاع العصبيات وخروجها كمارد جرى الحجر عليه لعقود من الزمن. لا يمكن إعفاء ديكتاتورية النظام الذي كان قائماً عن الاحتقان المتراكم بين مكونات المجتمع العراقي، ومسؤولية هذا النظام في التمييز بين هذه المكونات وممارسة القهر ضدها، مما جعل هذه المكنونات تنفجر عنفاً لدى سقوط النظام، على يد الاحتلال الأميركي. صحيح إن هذا الاحتلال لعب دورًا أساسياً في تفجير النزاعات والأحقاد الأهلية المتراكمة، لكن القراءة العلمية يجب أن تركز على دور البنى المحلية ومسؤوليتها في وصول الإنفجار إلى حروب أهلية لم تنقطع مسيرتها الدموية منذ ست سنوات. يتشابه الوضعان اللبناني والعراقي في انبعاث عصبيات ما قبل الدولة، من طائفية وعشائرية وإثنية، وسعيها إلى الاستيلاء على الدولة بالعنف المسلح، أو تقسيم البلاد بما يعطي للفئويات دويلاتها. مما يعني أنّ الفعلي هو إلغاء الدولة والغائب هو التفكير في إعادة التوحيد. لا يبدو العراق في المدى المنظور مقبلاً على استعادة وحدته ودولته، لسبب بسيط أنّ القوى المهيمنة لا ترغب في هذه الاستعادة.
يغرق اليمن منذ سنوات في خضم حرب أهلية مندلعة ضد الدولة، من عودة نزعة انفصال الجنوب عن الشمال، حيث تحمل قوى هذا الجنوب حنيناً إلى دور لعبته في عقود سابقة وبدا لها خلاله أنها تقيم مجتمعاً اشتراكياً في بلد القبائل، وفي ظل هيمنة للتخلف بجميع أشكاله، بحيث تشكل هذه “الجمهورية الاشتراكية” الاستثناء التاريخي في العالم العربي، وهي تجربة سقطت في غياهب الصراعات القبلية وأودت بغالبية القيادات الحزبية والسياسية في آن. مقابل ذلك، تخوض الدولة اليمنية صراعاً مع قبائل وعشائر الحوثيين تحت عنوان منع الانفصال والتقسيم والحفاظ على وحدة الدولة، وهي حرب لا يبدو أنّ مآل نهايتها قريب. مما يضع اليمن إلى جانب لبنان والعراق تحت مظلة السعي للاستيلاء على الدولة من قبل العصبيات القائمة.
لا ينفصل هذا الإرتداد عن الدولة نحو العصبيات عن الطريقة التي تكونت بها دول المنطقة العربية، حيث تركبت الكيانات وفق منطق استعماري كان يضع لكل كيان وظيفة في إطار مشروع هيمنته على المنطقة العربية. فهناك كيانات ذات وظيفة اقتصادية، وأخرى إستراتيجية، وغيرها سياسية. لكن التركيب الاستعماري لهذه الكيانات لم يكن يخترع شيئا منافيا لوقائع الأمور، فقد بنى على المكونات الاجتماعية والسياسية القائمة من قبلية وطائفية وإثنية، وركّب أنظمة على قاعدة الانقسام الموروث للمنطقة العربية، وهو أمر يحسم في أنّ التجزئة العربية كانت عربية بالأصل، فبنى عليها الاستعمار وخلق كيانات تتوافق مع طبيعة هذه التجزئة. إضافة إلى ذلك، قام الاندماج الاجتماعي في معظم الأقطار العربية على قاعدة القسر بدلاً من الاحتكام إلى الديمقراطية والاعتراف بالمجموعات القائمة وحقها في المشاركة السياسية. هكذا مارست الأكثريات التسلط والإقصاء ضد الأقليات حيث حكمت، كما مارست الأقليات السياسة الممارسة نفسها ضد الاكثريات حيث أمكن لهذه الأقليات أن تحكم، مما يسمح بالقول أنّ غياب الديمقراطية في تشكيل البنى الاجتماعية مسؤول إلى حد كبير عن انفجار الكيانات العربية وعودتها إلى بناها التقليدية.
لا يؤشر حال العالم العربي إلى انحسار مسار الانقسام والحروب الأهلية، بل يبدو صعود هذه الحروب شبه حتمي كلما ازداد تراجع موقع الدولة لصالح العصبيات. سيزداد الوضع صعوبة مع الموجة الصاعدة للحركات الأصولية التي هي في جوهرها حركات ما فوق قومية، ويقوم مشروعها في الأصل على إنهاء الدولة بمعناها الحديث. يزيد الأمر صعوبة غياب قوى التغيير والتقدم بعد أن جرت إبادتها في ظل الديكتاتوريات وانهيار مشروع التحديث والتي كانت من رواده.
© منبر الحرية، 07 يناير/كانون الثاني2010

peshwazarabic11 نوفمبر، 20101

فيما كنت وحماري نجلس تحت شجرة بلوط, نتقي بظلها شرّ الحرّ, طاب لي أن أتجاذب وإياه أطراف الحديث. وكان لي ما أردت؛ والشهادة لله كان حماري(كالعادة) عند حسن ظني, إذ وجدته(حفظه الله) حماراً نبيهاً رزيناً حكيماً في آن, كما سيتبين مما هو آت. وفي الوقت نفسه كان كريماً في حديثه والوقت الذي منحني إياه. وقد كان صدره رحباً إبان أجوبته على أسئلتي, على نقيض الكثير من الحمير التي تعج بها طرقات بلادنا, وبعض دوائرها من شغلة بعض كراسيها ومناصبها!.
من جملة ما سألته مايلي:
*هل ترون أنتم معشر الحمير أنكم أفضل حالاً منا نحن البشر؟.
**بداية لايحق لي الإجابة بالنيابة عن أبناء جنسي, ومن خلال حديثنا ستستشف لماذا أحرم نفسي ذلك الحق. حسب رأيي المتواضع أرى إننا نحن معشر الحمير أحسن حالاً وأنقى ضميراً وسريرة منكم أنتم مالكو العقول ومحتكروها.
*كيف ذلك يا رعاك الله؟!.
**على الأقل نحن لانتصارع في ما بيننا من أجل لقمة العيش أو المناصب وما تبقى من سبل النعيم الزائل, ومقتنعون أشد الاقتناع بما وهبنا الله إياه من خير وافر في هذي البراري الشاسعة. ولكنّا أحسن حالاً ومآلاً وترحالاً, لولا استعباد بعضكم أنتم البشر لبعضنا نحن الحمير, وما ينجم عن مثل ذلك الاستعباد من ظلم يقع علينا. ناهيك عن تلويث بعضكم للطبيعة التي أنعم الله علينا بها, وما ينجم عن ذلك من أضرار فادحة تضرّ بغذائنا الذي نقتاته منها من دون منّة أحد.
*أشهد انك حقاً قلت, فبأم عيني رأيت أبناء جنسك الكريم يعامل معاملة سيئة من قبل بعض أبناء جنسي الذين جلّهم يفضل القطط والكلاب عليكم. كما بأم عيني أرى كيف نساهمُ نحن البشر في إفساد الطبيعة والبيئة.
الحمار, بكبرياء وأنفة:
**ومع ذلك نحن قوم لانشكو همنا لأحد, فالشكوى لغير الله مذلة!.
*صدقت والله. ومن جهتي لايسعني سوى أن أشكر الله وأحمده كوني صادقت حماراً مثلك, واسمح لي أن أبدي اعتزازي بك وبنباهتك. لكن أخبرني ماهي الفوارق التي تراها بيننا وبينكم, عدا العقل الذي هو حكر لنا نحن البشر والذيل الطويل الذي هو من خاصتكم أنتم معشر الحمير؟.
**الفوارق كثيرة, مثلاً انتم عندكم التنظيمات والأحزاب والنقابات التي تدّعي أنها تدافع عن حقوق أعضائها متابعة شؤونهم, ومع ذلك القاصي والداني يعرف مآل تلك النقابات ولمصلحة من تعمل.. حتى حمير جبال تورا بورا باتوا يسخرون من نقاباتكم!. ولديكم موالاة ومعارضة, ويمين ويسار, ورجعية وتقدمية, إلى آخر ما هنالك من مصطلحات هي خاصتكم دوننا.
أشعر بالحرج, وأتابع:
*أنتم أليس لديكم شبيهها؟.
**شخصياً لا أحتاج إلى نقابة تقودني إلى المرعى, ولا إلى حزب يدلني على المعلف الذي هو هدفي وغايتي في هذه الحياة, إذ أعرف طريقي إليه جيداً. من ثمّ إن الله أغناني عن ملأ من قومي يدّعون التحدث بالنيابة عني وعن بني جنسي كما هي الحال عندكم معشر البشر. فضلاً عن أننا قوم نشتهر بعدم التحزّب أو التعصب سوى لأبناء جنسنا ولصديقنا الإنسان.
*تفعلون خيراً.
**الآن هل تسمح لي بسؤالك هذا السؤال البريء؟.
*بكل سرور!.
**هل أنتم معشر البشر مصابون بالضمور العقلي وبسلب الإرادة إلى درجة تحتاجون معها إلى كل هذه الأحزاب والتجمعات والجمعيات والمنظمات الخ… التي تتباهون فيها, والتي تدّعي جميعها أنها تتحدث باسم الشعب وتأكل باسم الشعب وتكتب باسم الشعب وتتظاهر باسم الشعب وتعارض باسم الشعب وتقوم بانقلابات باسم الشعب الخ.. ألا تعتقد معي انه أمر يدعو للغرابة فعلاً؟!.
*كيف؟!! وأين الخطأ في ذلك؟!.
**الخطأ هو أني لم أكن أدري أن بين البشر من هم حمير أكثر منّا حتى يحتاجون إلى كل تلك الأحزاب والتنظيمات والجمعيات الخ.. فقط لمجرد الادعاء أنها تمثلكم أو تتحدث باسمكم!, تصور يارعاك الله, عندما أريد أنا, وغيري من الحمير, أن أنهق لا أحتاج إلى أذن من أحد بمن في ذلك سيدي!.
بحرقة, وأنا أحسده على النعيم الفطري والغريزي الذي يعيش في ظله:
*ما رأيك أن نتبادل الأدوار؟
**كيف؟
*أن أعمل على تنسيبك إلى إحدى تلك الجمعيات أو المنظمات والأحزاب, وأن أصبح حماراً مكانك؟
**لست حماراً إلى درجة أقبل معها مثل هذا العرض!.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

هل أصبح العرب كعرائس الماريونيت دمية بلهاء رادخة في يد كل من يوجهها ؟
ماذ فعلت الكرة الطائشة في الملعب العربي ؟
هل الهرم المقلوب في ترتيب الأولويات العربية هو الذي سدد هذا الهدف في مرمى العرب المتصدع فأدى لشرخه ؟
لماذا تنفخ دولتان عربيتان في هذا الوقت جذوة النار المشتعلة لتزيدها اشتعالاً ؟
هل تندرج لعبة كرة القدم وغيرها ضمن الأنماط السلوكية السائدة في المجتمعات العربية ؟
هل القومية العربية خياراً مطروحاً لحل أزمة الهوية الثقافية ؟
في زمن الهرم المقلوب والمفاهيم المغلوطة تلوح حرب أهلية جديدة تدشنها وسائل الإعلام العربية التي برعت في القيام بهذا الدور منذ حرب أمريكا على العراق أو بمعنى أكثر دقة الغزو الأمريكي للعراق لأننا في هذا المقال تحديداً سنعول على دقة التعريفات وما سببه اللغط والتشويش المقصود وغير المقصود من انحراف على الصعيد السلوكي وتردي على الصعيد الفكري في بلادنا العربية، هنا سؤال يطرح نفسه بقوة هل الخلاف المثار حوله الجدل بين الدولتين يستند لصراع حقيقي جيوسياسي على الأرض أو فكري عقائدي أو حتى عرقي كسائر الحروب الأهلية الدائرة منذ أمد بعيد ؟! أم إنه صراع خالي من الهدف كقرع الطبول على الخواء ؟ هذا الطرح سأترك إجابته لقدح زناد عقولكم.
عندما نقزم الوطنية والهوية الثقافية لدولة ما ونجسدها في كرة طائشة تسير بها حيث شاءت ونجعلها الممثل الأمثل لشعوبها فماذا ننتظر ؟
إن كل مواطن عربي ممثل لبلده وفي مقدمتهم يأتي العلماء وأصحاب الفكر ورجال الدين والفنانون الحقيقيون، هؤلاء هم أصحاب الرتبة الأولى من السفراء فماذا إذا تجاهلنهم جميعاً وعتمنا على دورهم واتجهنا بكل ثقلنا التاريخي والسياسي لندعم أبطال جدد صنعناهم بجهل متعمد.
التصفيق.. حرب إعلامية متجددة
شعوبنا العربية قادرة بشكل غير مسبق على التحرك كعرائس الماريونيت أينما وجهت و لديها أيضاً قدرة فائقة على التصفيق والتهليل الذي يصنع في عصرنا المعجزات.
التصفيق له حكاية تاريخية قديمة، كان أداة من أدوات النصب السياسي والفكري، يستخدم لشحذ مشاعر الشعوب لتأييد زعيم ما ثم انتقل من المعارك السياسية دون أن يترك مقعده شاغراً بالطبع ليصيب بعدوته الأعمال الفنية والثقافية والرياضية  لرفع شأن عمل لا يستحق في مقابل أعمال أخرى، وكان محصوراً بالمسارح ودور عرض الفنون وملاعب الرياضة،  أما الآن فأصبح الباب مفتوحاً على مصراعيه والقنوات الشرعية للتصفيق كثيرة إضافة لما ذكرناه سابقاً تأتي الجرائد القنوات الإعلامية ومنتديات الإنترنت وهي وسائل تكتسب أهميتها كونها أكثر جذباً وأوسع انتشاراً، فنرى كيف أدارت أمريكا حملتها الدعائية لأوباما بذكاء ومهارة شديدة كان اللاعب الأكبر فيها الإنترنت.
إدراكنا لهذه الحقائق كفيل وحده لتفهم المشكلة بعودتنا لإرهاصاتها الأولية لندرك كنه المشكلة الحقيقي، اللعب على معاني القومية العربية وإحلاله بمفهوم الهوية الثقافية المتفردة لكل دولة وتقزيم هذه الهوية في لعبة تعبر عن نفسها ولا يمكن بحال من الأحوال أن تجسد معنى نفتقده جميعاً واستغل هذا الفقد بشكل بارع معنى الوطن.
الانتماء
نحن جيل لا نعرف معنى الانتماء، جاءت لعبة كرة القدم وبعض الفنانين لنجعلهم وطن ننتمي له ندشن له أغانينا الوطنية التي تحتل مكاناً كبيراً في القلب “خلي السلاح صاحي” ” ياويل عدو الدار.. حي على الكفاح ”  الأولى مصرية و الثانية جزائرية  رددناهما في معاركنا الكبرى التي تستحق والآن ندشنها لمواقع لا ترقى لهذا الشرف العظيم.
هنا سؤال يطرح نفسه بقوة لماذا لم ندشن أوبريت الوطن العربي إن كان هذا الشحن العاطفي غير مقصود ؟
هذا ليس اعترافاً ضمنياً بالاتفاق مع هذا السلوك الشاذ الذي أصبح سائداً وإنما دعوة للتأمل الذي هو البوابة الأولى للتغيير؟
تطالعنا صحف عربية كل يوم أن هذه الأزمة آتت أكلها بأن وحدت شعبا الدولتين للالتفاف حول زعمائهما متناسيين كل مشاكلهم الكبرى الداخلية والخارجية وأن هذا انتصاراً عظيماً حققته هذه اللعبة وقدمته هدية لشعوبها جزاءاً بما قدموه لها من قرابين وهدايا.
سنغض الطرف عن هذه النتيجة المقصودة بالطبع، ونناقش قضية سلوك سائد قديم يتجدد على مر العصور ” الغاية تبرر الوسيلة ” إن كان فرضاً هذه الغاية محمودة فهل الوسيلة مشروعة ؟
بنظرة على واقعنا العربي نجد أن هذه الوسيلة تكتسب شرعيتها من نمط سلوكي عربي سائد لم نفكر يوماً في محاولة تغييره و لم نقترب حتى من محاولة فهم أسبابه، كجمع التبرعات لهدف نبيل بطريقة غير شرعية، السرقة التي وجدنا لها المبررات مادامت الضرورة تدعو لذلك، وحتى على مستوى المواطن العربي البسيط نسمع جملة أصبحت مألوفة نصف بها أفعال لا تستحق كأن نقول: جيد أنه فعل كذا غيره لا يعمل، كأن من لا يعمل أصبح هو النموذج والخارج عنه بطل يستحق تصفيق عرائس الماريونيت.
الماريونيت.. عرائس فقدت بوصلتها
بالمناسبة كلمة قرابين في المحور السابق لم تكتب بشكل عشوائي هي معني مقصود فالأساطير العربية مازالت حية في وجدان الشعوب العربية ومن يترصد لململة هذه الشظايا الأسطورية سيجد ما نفعله الآن امتداد طبيعي لارتباط الوجدان العربي بمحاولة تجسيد المعاني الكبرى في حياتهم في أشياء مادية، كأن يجسدوا الإله في صورة الحاكم أو الانتماء الوطني المفقود في كرة قدم.
على أي حال اتفقنا أو اختلفنا على ما سبق فلن نختلف على أننا الآن أمام قوة لا يستهان بها درست الشخصية العربية بشكل عميق لتعي جيداً أن هذه الشعوب يحركها وجدانها بشكل استباقي لعقلها.
توجهنا هذه المرة بقوة اندفاع مشاعرنا الغاضبة لاتجاهات لا نراها ولم نقف مع أنفسنا وقت كاف لنرى أسباب هذا التوجيه وهل هو خارجي مدعوم بمساندة من الداخل ؟ أم هو عربي.. عربي ؟!
هل يمكن انحراف هذا الغضب ليتحول لسلوك فاعل في قضية كبرى، بطرح آخر هل الجيشان المصري والجزائري على استعداد لتحرير مقدساتنا المسلوبة ؟
وإن كان هذا الطرح فيه خلط لأوراق كثيرة لكن غايته نبيلة ووسيلته شريفة أيضاً.
هل العرب في طريقهم الآن لمسرح العرائس على استعداد لاستعادة خيوط اللعبة لإعادة توجيهها ؟ أم أنهم سيستمرون في لعب دور الماريونيت الذي لا يتناسب لشعوب لها تاريخها وعراقتها وانصهارات مشتركة  فكرية علمية فنية سابقة ؟
© منبر الحرية، 24 نوفمبر/تشرين الثاني2009

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

إن طبيعة الانتخابات البرلمانية في لبنان- للأسف – يكرّس واقع الانقسام بين مكونات الشعب اللبناني، ويؤسس للإقطاعيات السياسية، ويغذي الأنانية الطائفية، وبالتالي يشرعن للكانتونات، كما يساهم في إضعاف اللحمة الوطنية، ويبعده في آخر المطاف عن فكرة المساواة، وفكرة الوطن، وطن الجميع، ولا تمهد البتة لبناء مستقبل واعد يتفيأ في ظله الجميع بعيش مشترك وبأمن وسلام واستقرار، بل نلمس – بالعكس من ذلك – حالة من التنافر والتنابذ والتوجس بين مختلف المكونات الهندسية الاصطناعية الهشة المشكلة جراء هذا النموذج من الانتخابات كأحد الأسباب، فسرعان ما تعصف بتلك المكونات، رياح المنافسة والتكتلات، فتتغير دائرة الأقطاب، ففرقاء اليوم قد يصبحون خصوما لدودين في الغد، فهمّ كل فريق، أو أي قطب، هو الحصول على مزيد من المقاعد البرلمانية، وعلى هذا الأساس تبنى التحالفات، دون أن يكون هناك تمثيل حقيقي أو تكتل يطرح القضايا الاجتماعية، إلا من باب الدعاية الانتخابية، أو النيل بالتالي من الفريق الخصم الآخر المنافس (المتقاعس) برأيه في إدارة شؤون الدولة، ومصالح الناس، فهمّ كل فريق كما قلنا حصد أكبر عدد ممكن من المقاعد النيابية، ومن ثمّ التطلع إلى الحقائب الوزارية عند تشكيل الحكومة العتيدة بتعبير اللبنانيين، وحتى إلى التوظيفات في مختلف المجالات، وسائر المؤسسات آخذين بالاعتبار نظام الحصص لكل فريق..
إن الانتخابات في مجال المؤسسات الأخرى كنقابات العمال والمحامين والمعلمين والأطباء وسواها، أكثر نظافة وقبولا من الانتخابات البرلمانية، رغم ما يشوبها من شائبات الواقع اللبناني، لأن هؤلاء يدسون أنوفهم في كل شيء، ولا يدعون مؤسسة بحالها، وبأن تعيش حالة من المنافسة الشريفة…
الدعوة للنسبية في الانتخابات البرلمانية..
ثمة طرح ضعيف وخجول لا يؤبه له، حتى لا ينظر إليه ولا يناقش فيه – بالرغم من أهميته برأينا – يظهر بين فينة وأخرى من قبل بعض المحللين السياسيين في لبنان. يدعو هذا الطرح إلى أن تجري الانتخابات على قاعدة النسبية من حيث النتيجة.. ولتوضيح الفكرة نسوق المثال التالي: لو أن قائمتين لطائفة واحدة ما (سنة شيعة مسيحية دروز… إلخ) خاضتا الانتخابات في التنافس على عشرة مقاعد في محلة ما، ولنفترض جدلا أن إحدى القائمتين حصلت على  60 بالمئة من الأصوات، والثانية حصلت على 40 بالمئة من أصوات المقترعين، فحسب القانون المعمول به في لبنان، فإن الذي حصل على نسبة 60 بالمئة يفوز بالمقاعد العشرة جميعها، في حين إن الذي حصل على 40 بالمئة يخرج من المنافسة خالي الوفاض خاسرا دون أن يحصل ولو على مقعد واحد يتيم، وهذا برأيي إجحاف وغبن بحق الطرف الخاسر.
أما لو طبق قانون النسبية، لحاز فريق الأكثرية على ستة مقاعد والأقلية على أربعة مقاعد، وهنا تخف وطأة الفارق، وحالة الاستئثار بالسلطة من قبل الأقطاب المتصارعة، وتضعف سطوة الأباطرة، لأن الفريق الذي كان يهمّش على الدوام أصبحت له كلمته والتي لا بد أن تسمع وتؤخذ بالحسبان. وهذا الفريق سيتكون من كافة الأطياف والشرائح وكل ما يتميز به لبنان من مسميات وتلوينات، كفسيفساء جميل، وهو بالتالي سوف يتصدى للقضايا الاجتماعية، لأنه لا يأتي لا من خلفية تكتليه أو طائفية، فما رصيده سوى هذا الدعم الجماهيري والصوت الذي اختاره ممثلا عنه، وأولاه الثقة، ولكي لا يخذله في المرة القادمة، وهنا أيضا يبرز دور المستفتين كقوة في خلخلة بنيان الأباطرة، وإضعاف دورهم، ليختفوا بالتالي في غضون عقود قليلة…
البرلمان اللبناني متكون كما هو معلوم ومتفق عليه، من 128 مئة وثمانية وعشرين نائبا، يتقاسمهم بالمناصفة المسلمون والمسيحيون، لكل طرف 64 أربعة وستون نائبا.. فعندما تعتمد النسبية في الانتخابات، لا بد أن يظهر فريق جديد قوي، بل ربما من أقوى الفرق منفردة، ولسوف يبرز دورهم في رص اللحمة الوطنية، وفي إضعاف الروح الطائفية والمناطقية، بل أكثر من ذلك فهم لسوف يتصدون للضغوطات الخارجية وتدخلاتها، لأنهم مدينون للداخل بالولاء، الداخل الذي اختارهم، وليس الولاء للخارج وفق صفقات ومصالح متبادلة.. ورؤي سياسية ربما تتوافق وتنسجم في ظرف، وتتعارض في ظروف أخرى..
إن من يريد من اللبنانيين إنقاذ لبنان، من هذه الحالة، من هذا المأزق، عليه أولا أن يتنازل عن أنانيته فيما إذا كان رئيس كتلة برلمانية، أو زعيم كتلة من طائفة ما، لكن التخلي عن الأنانية بهذا الطرح، هو ضرب من العروض المثالية لا أعتقد بها.. لأن لا أحد يتنازل عن (حقوقه) التي شرّعها للأسف قانون البلاد..لكن علينا أيضا أن ننوه من أن قانون النسبية لن تمد لبنان بصيغ سحرية لتجاوز الحالة الراهنة، لكن يمكن اعتباره مدخلا صحيحا وسليما كإحدى الوصفات في المعالجة..
في لبنان لا دور للأحزاب السياسية، والتي ربما تناضل بنهج سلمي دعائي، لأن الاستقطاب الطائفي يحول دون ذلك، فالواقع السياسي يكرس الإقطاعيات السياسية، والزعامات، يقودها أباطرة القرن الواحد والعشرين، ويضعف هذا الواقع السياسي بالتالي الأحزاب والقوى الأخرى، وهنا تتم التحالفات على أساس مصالح كل كتلة أو زعيم، بغض النظر عن مقتضيات المصلحة العامة للبلاد والمواطنين على العموم، ومن هنا علينا أن لا نستهين عندما يطرح بعض القلة قانون النسبية كشكل بديل بما هو سار في قانون الانتخابات البرلمانية في لبنان، ويعود سبب ضعف الدعوة لقانون النسبية إلى سيطرة الزعامات الطائفية، التي تتغذى  وتستفيد وتغتني وتعقد الصفقات مع الداخل والخارج لإدامة هذا الواقع، وبالتالي ديمومة سيطرتها وزعامتها، لأنه يدرك جيدا بتغيير هذا الواقع تكون نهاية كل هؤلاء، أو إضعافهم على أقل تقدير، ومن هنا تأتي أهمية الانتخابات على قاعدة النسبية، وبرأيي سوف يكون له تأثيره الأكيد، وربما أتت أكله في غضون العقود القليلة المقبلة في حال السير به وتطبيقه…
رغم تناولنا للنموذج اللبناني في الانتخابات النيابية، والحالة السياسية هناك، لكن يبقى النظام الديمقراطي في لبنان  وصور انتخاباته يتقدم على حالة النظم العربية القائمة قاطبة بكثير…
© منبر الحرية، 17 نوفمبر/تشرين الثاني2009

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

تتكدس في أروقة التاريخ العراقي أفظع صور الاحتراب الداخلي والانقسام الناشئ عن غياب الوعي والرغبة بالانتماء المشترك لدى جميع الأطراف. ولا ريب في أن فرضية التاريخ المشترك والمصير الواحد، تمثّل أكبر إسهام أيديولوجي لتزييف هذا الواقع، وأسوأ استخدام لمطلب التعايش النبيل لأغراض سياسية مُريبة تضاد مستقبل الحياة المشتركة ذاتها، ويُراد به عادة المصادرة على الخيارات الأخرى لتقرير المصير. علاوة على ذلك، فإن هذه الرؤية المسبقة تكرّس أسوأ الأسس لفهم واقع العراقيين ومستقبلهم، وتطيح بكل الطرق المحتملة الأخرى لإدراك الموقف.
بوجه عام، فإن إقحام المجموعات القومية والعرقية، وحتى المذهبية، في هذا الكيان السياسي القائم، أو المجال الجيوسياسي، لم يكن قط خياراً عراقياً في يوم من الأيام، وذلك لسببٍ بديهي جداً، هو غياب الإرادة العراقية المشتركة قبل التأسيس للكيان العراقي، فلا يعقل للإرادة أو الوعي بالاختيار أن يكون سابقاً على الوجود. وهذا يعني، استطراداً، إن إرادة التأسيس كانت إرادة تاريخية متغطرسة واعتباطية إلى حدّ كبير، خارجية ومفارقة للعناصر الجزئية التي ستشكل الواقع العراقي لاحقاً. من هنا فالحديث عن الصراع الأيديولوجي والسياسي بين المكونات المختلفة بوصفه صراعاً عارضاً أو طارئاً على التاريخ المشترك يعدّ فرضاً متخماً بالتفاؤل المضلل، ويتجاهل كلياً الجذور التاريخية والواقعية للانقسام القائم.
لا يتأسس الوعي بالهوية المشتركة على الادعاء الأيديولوجي الكاذب بوحدة التاريخ والمصير، وإنما يلزم عن اختيار حرّ وعن منفعة مشتركة. وليس ثمة حاجة واقعية للاتكاء على وهم الانسجام والتماثل بين المختلفين في المصالح والرؤى للحدّ  من الانقسام وحالة التصدع المجتمعي في السطح والعمق. و لربما تكون النتائج أقلّ سوءاً في الحالة المعاكسة، حالة الاعتراف بالتناقضات القائمة في المصالح والانتماءات.
فشلت النظم السياسية، التي توالت على حكم العراق، في خلق وعيّ عمومي مشترك بالهوية الوطنية وتنميته، لأنها في أغلب الأحيان أصبحت طرفاً رئيساً في إثارة الشقاق والانقسام. وقد تغافلت عن واقع تعدد الانتماءات( قبل الوطنية) لدى المجموعات، لا من خلال حيادية موقفها السياسي بصفتها سلطة حاكمة ممثلة لمصالح العموم، وإنما عبر القمع والقهر السياسيين، ومحاولة فرض نموذج سياسي وأيديولوجي معين ، دون غيره، على الجميع، وعدّها هذا النموذج مصيراً حتمياً للكل، زاعمة أنها النموذج الفريد الأمثل للهوية. وبهذه الطريقة تلاشت إمكانية التفاعل الحرّ والاندماج بين تلك المكونات المتنوعة.
بإزاء ذلك نجح النظام السياسي، الذي اتخذ من أسوأ أشكال الأيديولوجيات العرقية عتبة لصعوده، في ترسيخ ثقافة الكراهية والارتياب بين الجميع، وعمّق لديهم الشعور بالانعزال والحقد المتبادل. وبهذا الحسبان يعدّ نظام الاستبداد الأبّ الشرعي الذي دشّن الأسس للمواجهات الطائفية والعرقية التي ظهرت لاحقاًً وانتشرت بشكل وحشي ومروّع.
وما يبدو جلياً لنا اليوم، إن تصنيف الأفراد في المجتمع على أساس هوياتهم الدينية والمذهبية مازال راسخاً، وبغياب ثقافة المواطنة والمساواة يشكل ذلك قاعدة للصراع المتبادل والاحتراب. وتغدو العلاقة بين المكونات الرئيسة في المجتمع أكثر قسوة وعنفاً.
إن النتائج المروعة لهذا التصنيف، الذي كان حصاده آلاف الجماجم والأشلاء المتفحمة، تشير بوضوح إلى وهن الاعتقاد بالانتماء المشترك والوعي بالمصير لدى جميع الأطراف. وقد كرّست لديهم، أكثر فأكثر، الشعور بالاختلاف والتمايز، وعززت لديهم، بصورة أقوى من ذي قبل، التمركز حول الذات، والانتماء لهويات انعزالية وعدوانية. وقد صاحب ذلك استحضار كل القوى الرمزية والأساطير والميراث الطائفي والعرقي، التي شكلت مصدراً ثرّاً للعنف والترويع، من جوف التاريخ لتبرير المواجهات وشرْعنة هذا النزاع.
لم يكن ممكناً تكريس هذا التصنيف إلا بوجود سلطة الاستبداد العنصري، التي اتخذت من نمط أيديولوجي معين، عرقي وديني، واجهة لممارساته السياسية. وبموازاة ذلك لجأت إلى القهر والاستبعاد والإقصاء بحق الانتماءات الأخرى، التي عمدت بالمقابل إلى التخندق والانغلاق حول ذاتها لمقاومة هذا العدوان الأيديولوجي، وأصبح  الإصرار على هويتها نوعاً من ميكانيزمات الدفاع الذاتي وأسلوباً لإثبات الوجود.
لا تزال هذه الممارسات الأيديولوجية تطبع  الدولة العراقية بطابعها، إلى حدّ كبير، وتكتنف نظامها الدستوري حتى بعد سقوط نظام الاستبداد. وذلك بقبولها غير المشروط بهويّة دينية ومذهبية وامتياز مكانتها الفريدة، دون غيرها، التي قد تستخدم لتوجيه سلوك الدولة سياسياً نحو الصدام والمواجهة مجدداً مع الانتماءات الأخرى. ولعل محاولة استخدام مصطلحات ومفاهيم سياسية- دينية وعرقية لتعريف هوية الدولة دستوريّاً، ولتحديد مكانة دين أو مذهب أو عرق على حساب الهويات الأخرى تشكل أكبر مأزق سياسي وأيديولوجي أمام تحديث الدولة ودمقرطتها.
عندما يكون هناك فشل عام في القبول بهوية شاملة للدولة، إنما يعكس ذلك درجة التنازع والاختلاف في الوعي بالانتماء لدى جميع الأطراف. وفي هذه الحالة يبدو من غير الحكمة اللجوء إلى الدين أو المذهب أو العرق لتحديد هويّة الدولة. إن ما يجب أن تكون عليه هويّة الدولة حالئذ، هي أن تكون دولة المواطنة فحسب. مواطنة مجردة تماماً من أبعادها العرقية، ومن دلالاتها الدينية أو المذهبية، وتكون المساواة قاعدة للعلاقة الناظمة بين الذوات، بدلاً من التصنيف المذهبي أو الديني أو العرقي. وهذه الأولوية هي التي تضمن وعياً متعادلاً لدى الجميع بالانتماء المشترك والمصير. ويعني ذلك أن الجميع متماثلون من حيث الأهمية والمكانة والمسؤولية إزاء الدولة  برغم تعددية هوياتهم، وانتماءاتهم الجزئية.
لايعني هذا الإقرار تجاهل واقع التعدديات القائمة أو إقصاءها. بل يقود إلى تحييد المجتمع السياسي والدولة نحوها، والاعتراف بها في حدود المجتمع المدني. والأمل الرئيس في عالم متنوع كهذا هو أن تؤول التعددية والاختلاف إلى الإثراء والتفاعل الحرّ والتعايش الخصب، بدلاً من أن تكون مصدراً للكراهية، والشقاق والتناحر.
© منبر الحرية، 25 أكتوبر/تشرين الأول2009

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

مقتلُنا يكمن في لساننا         فكم دفعنا غالياً ضريبةَ الكلامْ.            “نزار قباني…”
إذا خسرنا الحربَ – لا غرابةْ         لأننا ندخلها بكلِ ما يملكه الشرقيٌ من مواهب الخطابةْ.
إبالعنتريات التي ما قتلت ذبابةْ          لأننا ندخلها بمنطق الطبلةِ والربابةْ            “نزار قباني…”
في الستينيات كنا نتحدث عن قوتنا واصفين إياها بأكبر قوة في الشرق الأوسط… ثم جـاء صبـاح الخامـس من يونيه 1967 ليفتـح عيوننا على حقيقة أن ذلك لم يكن إلا مجرد “كلام كبير”. وخلال نفـس السنوات كنـا نتكلـم عـن عـدونا التاريخي بصفـتـه “عصـابات يهـودية”… ثـم جـاءت الأحـداث لتـثـبـت أن هــذا العـدو كان شيئـاً أخطــر بكثيـر مـن “مجـرد عصـابات” … كان كلامُنـا مـرة أخـرى مجرد “كلام كبير”. وعندما وصفنـا رئيـس وزراء بريطانيـا بأنه (خـرع) وهو لفـظ عامـي مصـري يعنـي أنه ليس رجلاً بالمعنى الكامل… وعندما اقترحنـا على الولايات المتحدة الأمريكية أن تشرب من البحرين (الأحمـر والأبيـض)… وعندما تحدثنا عن الصاروخ القاهـر وشقيقـه الظافـر… لم يكن ذلك فـي الحقيقـة إلا مجرد “كـلام كبيـر”. وعندما نستمـع الآن للأغانـي الوطنيـة التي أُنتجت في الستينيـات (ورغم إعترافنـا بجودة العمـل الفني وروعـة الحلـم الوطنـي والقـومي) فإننا نجـد عشـرات الأمثلة على كلام لم يكن إلا مجرد “كـلام كبيـر”. وعندما نترك الستينات ونمر على السبعينيـات والثمانينيـات والتسعينيــات نجد أن “داء الكلام الكبير” ظل ملازماً لنا بشكل لا يخفى على أحد؛ بل أنه وصل الآن إلى معظم مناطق حياتنا العامة، وأصبح الذين يتكلمون بلغةٍ غير لغته “ثلة من أشباه الغرباء” الذين يعزفون لحناً غريباً يصدمُ الآذان.
فنحن عندما نتحدث عن تاريخـنا، لا نستعمل لغة العلم والموضوعيـة وإنمـا نغـرق فـي زخم من الكلام الكبير. وعندما نتحدث عن واقعنا المعاصر، نحشر مرة أخرى “قوافل الكلام الكبير”. وحتى عندما نفوز في مباراة لكرة القدم، ينهمر “الكلام الكبير”؛ فرغم معرفتنا بأن مستوانا في هذه اللعبة الرياضية يقع ما بين “المتوسط” و”المتواضع” (على المستوى العالمي) فإننا لا نتردد ولا نتأخر عن استعمال أوصاف مثل (الفراعنة يهزمون….).. ونكون هنا متسقين مع “تبار الكلام الكبير” الذي عم واستفحل في تفكيرنا خلال نصف القرن الأخير.
وإذا تأملنا الصفحات الأولى بصحفنا ومجلاتنا وجدنا “جيوشاً عارمة من الكلام الكبير”… فكل لقاء هو “لقاء قمة”… وكل قرار هو “قرار تاريخي”..
ومن الواجب أن نقول إننا لا نفتعل ذلك افتعالاً، لأنه أصبح جزءاً من نسيج تفكيرنا، بمعنى أننا نكتب ونتكلم بهذه الكيفية (كيفيـة الكـلام الكبيـر) لا مـن (باب التملق) وليس من باب (النفـاق) ولا من باب (الكـذب المقصـود) وإنمـا نكتب ونتـكلم هكـذا من باب الاتســاق مـع “عيـب كبـيــر” استـقــر في ثقافتنا وعقولنا وأصبح من الطبيعي والمنطقي أن يجد طريقه لخارج رؤوسنا عن طريق أَلسنتنا.
ورغم أن البعض (وربما القلة) يلاحظون هذا العيب الخطير من عيوب التفكير، إلا أن معظمهم عندما يتصدرون للحديث يقعون في المحظور وينساقون مع تيار “الكلام الكبر”، وهو ما يثبت أن هذه السمة قد أضحت متفشية إلى أبعد الحدود وأن “الهواء الثقافي” لنا أصبح متشبعاً بهذه الخصلة إلى أبعد حدود التشبع.
ولعل ضرب الأمثلة يكون أيضاً مفيداً هنا: بعد حادثة الأقصر المفجعة في خريف عام (1997) أَذاع التلفزيون المصري تغطية لماراثون الجري (العدو) حول أهرام الجيزة، وقامت الكاميرا بمقابلة نحو عشر أشخاص مختلفين.. كرروا نفس الكلام وبنفس الصيغ وقال كل منهم (وكأنه يكرر حديثاً محفوظاً): “أن مصر هي بلد الأمن والأمان.. وأن العالم كله يعرف ذلك… وأن الإرهاب لا يقع على أرض مصر فقط وإنما في كل مكان بالعالم… وأن الدنيا كلها تتطلع لزيارة آثارنا التي لا مثيل لها في العالم”.
وكان مصدر دهشتي تصوري أن تطابق الكلام بهذه الكيفية يكاد يكون مستحيلاً بين عشرة أشخاص مختلفين… ولكنها سطوة “الجو الثقافي العام” المشبع إلى أقصى حد بخصلة “الكلام الكبير”.
وقد كانت السنوات العشرين التي قضيتها فى واحدة من أكبر المؤسسات الصناعية العالمية فرصة هائلة لكي أكتشف أننا في هذا المضمار أصبحنا (وأكرر: أصبحنا) مختلفين عن معظم شعوب العالم بشرقه وغربه.
فأبناء الحضارة الغربية (بما في ذلك أمريكا الشمالية) تواصل نموهم الثقافي في اتجاه مختلف يقوم على اعتبار “الكلام الكبير” انعكساً مؤكداً لعدم المعرفة. فالمعرفة الإنسانية معقدة ومركبة ولا تسمح بالغرق في “الكلام الكبير”، بل تأخذنا إلى لغة متوسطة تحاول -قدر الطاقة- أن تعكس حقائق العلم والثقافة.
أما أبناء الحضارة أو الحضارات الأسيوية (مثل اليابان وغيرها) فإن التحفظ كان ولا يزال من سمات هذه الحضارة بشكل واضح، وهو ما يمنع أيضاً استفحال ظاهرة الكلام الكبير.
أما شعوب العالم العربي، فإنها تشترك معنا -بدرجة أو بأخرى- لكون الثقافة العربية قد اتسمت في مراحل عديدة بسمة “الكلام الكبير”. فالشعر العربي عامر بقصائد المدح والهجاء التي تطفح بالكلام الكبير الذي لا يعكس بالضرورة حقائق الواقع والأشياء. بل أن ثقافتنا اعترفت بأن معظم هذا “الكلام الكبير” مجرد “كلام” ولا أساس له من الواقع، عندما نحتنا المقولة المشهورة (أعذب الشعر: أكذبه).
وكان النص القرآني (كالعادة) رائعاً في وصفه الشعراء (في هذه البيئة) عندما وصفهم بأنهم في كل واد يهيمون (وأنهم يقولون ما لا يفعلون).
وكاتب هذه السطور يرى أن من أوجب واجبات من يهمه تصويب مسار العقـل المصـري أن يقـوم بإيقاظ هذا العقل وينهره بشدة أمام ظاهرة اتسامه بعلة الكلام الكبير وحقيقة أنها ظاهرة منبتة الصلة بالواقع وحقائق الأشياء. وأن يُظهر الآثار الهدّامة لهذه الظاهرة التي جعلت البعض يصنفنا (بخبث وأغراض) بأننا حضارة كلامية أو حضارة حنجرية أو (مع التطور العلمي) حضارة ميكروفونية…
ومن المهم للغاية أن نفتح عيون أبناء وبنات هذا الوطن (من خلال برامج التعليم) على حقيقة هذا العيب وما يجره علينا من عواقب وخيمة؛ إذ يجعلنا من جهة مثار تعجب العالم… ويجعلنا من جهة أخرى “سجناء عالم خرافي من صنعنا ولا أساس له في الواقع”.. كما أنه يجعلنا “سجناء الماضي” حيث نصف ماضينا بزخم من الكلام الكبير ثم نهاجر إليه. ولا شك أن “علة الكلام الكبير” تتصل بعلل فكرية أخرى مثل: عدم الموضوعية.. والهجرة للماضي… والمغالاة في مدح الذات… وضيق الصدر بالنقد. بل أنني لا أبالغ إذ أقول أن “علة الكلام الكبير” تقيم جسوراً للتواصل بين هذه العلل الأخرى.
كذلك، فإنه من الضروري أن نناقش الصلة بين هذه العلة الفكرية (علة الكلام الكبير) وضيق الهامش الديموقراطي. ففي ظل مناخ ثقافي عام يتسم بداء الكلام الكبير يكون من الصعب تطوير الهامش الديموقراطي كما يكون من السهل نجاح فرق سياسية تملك من “الخطاب الغوغائي” (الديماجوجي) أضعاف ما تملك من “الخطاب الموضوعي”. فالذي يقول لنا أن مشروعه الفكري هو “الحل” إنما يقدم لنا وجبة أخرى ساخنة من وجبات “الكلام الكبير”، فمعضلات الواقع الاقتصادية والاجتماعية أكثر تعقيداً من أن يكون علاجها بشعار عام يستمد جذوره من تربة الكلام الكبير كهذا الشعار.
وما أكثر ما رددت لنفسي وأنا أسمع جولات الحوار العام تتلاطم أمواجها بفعل “الكلام الكبير” ما أكثر ما رددت لنفسي أبياتاً من شعر نزار قباني يقول فيها (بعبقرية):
لقد لبسنا قشرة الحضارة        والروح جاهليةْ.
© منبر الحرية، 15 سبتمبر/أيلول 2009

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

لو كانت الإدارة الأميركية تدرك، على نحو الدقة، حقيقة النظام الشمولي القائم في الجمهورية اليمنية، لكانت فضلت الإمساك بهذا النظام بوصفه المسؤول الأول عن التفجير الإرهابي الذي حدث للسفارة الأميركية بصنعاء يوم الأربعاء 17 سبتمبر 2008، كما هي عليه الحال للتفجير التخريبي الذي لحق بالمدمرة كول قبل عدة أعوام، خاصة وأن الإدارة الأميركية تتعامى عن طبيعة النظام الشمولي المنافق القائم في صنعاء عبر عقود طوال فاقت عقود حكم حزب البعث في العراق “الجمهوري”، وهو النظام العشائري الذي امتد ليتجاوز الأنظمة الأبوية الشمولية، الملكية والجمهورية، التي تواصلت على سدة الحكم لعقود ثقيلة أشبه بتلك العقود التي هيمن خلالها الدكتاتور الكوبي كاسترو على السلطة في هافانا.
ان من يحاول رصد ودراسة هذا النظام الذي سيطر على السلطة بحركة عسكرية، فإنه لابد وأن يلاحظ حالة التكلس السياسي أو التحجر fossilization الإجتماعي التي غلفت الأوضاع داخل الشمال اليمني، ثم إمتدت لتشمل الجنوب وحضرموت حتى بحر العرب عبر هذه المرحلة الرجوعية. لذا فإن المتابع للشأن اليمني سيجد التالي من الحقائق المهمة:
(1)    إن النظام القائم قد هيمن على السلطة في صنعاء بانقلاب عسكري بقيادة “الأخ” العقيد علي عبد الله صالح قبل عقود.
(2)    أن الأخ العقيد بقي رئيساً للجمهورية طوال هذه الحقبة المستطيلة دون أن يسمح لمن ينافسه بضايقته على كرسي الرئاسة وعلى طرائق تشكيل النظام الذي سيبقى يسمح له بالرئاسة أو بالترئيس، لما لا نهاية من السنوات.
(3)    أن الأخ العقيد، وعلى سبيل الإبقاء على سيل المساعدات المالية المتدفقة على حكومته من المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى (والعراق قبلذاك) إعتمد سياسة منافقة hypocrite ومتقلبة، متأسسة على عدد من المباديء، وأهما: 1.مغازلة وتشجيع الحركات الإسلامية الأصولية من نوع الحركة “الوهابية” التي تعتمدها أغلب الأنظمة الشمولية في المنطقة، ؛ 2.محاربة ولجم أو بتر القطاعات الإجتماعية التي تمثل الغالبية الطائفية الدينية في اليمن (الشيعية الزيدية)، وهو جزء من تبرعمات النفاق الذي يعتمده النظام اليمني، خاصة وأن الرئيس اليمني نفسه، زيادة على رئيس البرلمان والشخصيات المهمة الأخرى هم من أتباع هذه الطائفة الزيدية برغم تحفظهم وإنكارهم المنافق لهذه الحقيقة (لاحظ تمرد الحوثيين).
إن من يحظى بزيارة إلى اليمن، فإنه سيلاحظ بلا أدنى مجال للشك كيف تنشط المنظمات الإرهابية الأصولية هناك بكل حرية، دون رادع أو خوف أو ضوابط على نحو الإطلاق، بالرغم من أن اليمن الجنوبي الذي غالبيته من أتباع وأدعياء الحركة الإشتراكية والشيوعية، بإعتبار النظام الذي كان سائداً في عدن قبل الوحدة.
لقد بقي الحكم اليساري، نصف الشيوعي، سائداً في اليمن الجنوبي لعقود، إلاّ أنه لم يتمكن من أن يغير طبيعة العقلية أو الذهنية القبلية اليمنية التي فضلت البقاء متكلسة على ما هي عليه لقرون، الأمر الذي يفسر “الردة” أو الإرتجاع retreat الإجتماعي السريع الذي حدث مباشرة بعد قيام نظام صالح الشمولي بضم ودمج جمهورية اليمن الجنوبية إلى الجمهورية اليمنية الموحدة، بداية تسعينيات القرن الماضي.
ويبدو أن ما يشيع بين أبناء اليمن الجنوبي، الممتعضين من النظام القائم، بأن علي عبد الله صالح إنما هو، في حقيقته، “تلميذ” صدام حسين إنما هو حقيقة لا شك فيها: حيث يذكر العديد من اساتذة الجامعة العراقيين العاملين هناك أنه من بين كل ثلاثة طلبة في الجامعة، هناك طالب واحد يعمل لصالح أجهزة الأمن والإستخبارات اليمنية لينقل كل صغيرة وكبيرة للجهات المختصة. وهذا يعني أن الرئيس صالح إنما كان تلميذاً نجيباً لصدام حسين، حيث اتبع وبدقة متناهية طرائقه في الحكم وفرض الأمن من خلال الإرتكان إلى جهاز بوليسي دقيق العمل يبتلع نصف ميزانية الدولة، مرتبات ومكافآت ورشاوي! لقد برهن الرئيس صالح على حقيقة أنه تلميذ صدام من خلال الطريقة التي تعامل بها مع حلفائه ومنافسيه السابقين في قيادة حكومة اليمن الجنوبي، إذ تم القضاء عليهم وإقصائهم بأبشع الطرق، دون إستذكار لرفقة أو لمواطنة مشتركة! لم تفعل الحكومة اليمنية القائمة، برغم أنها حكومة “مزمنة”، شيئاً لتغيير أو لتحسين البنية القبلية للمجتمع اليمني، وهي بنية يمكن أن نتابعها إلى القرون المبكرة من العصر الوسيط: فبقيت البنية القبلية الأوية هي المهيمنة على العمارة الإجتماعية، بينما بقي “القات” Cat هو “المنظم” غير المرئي لمجتمع سكوني راكد stagnant غير قابل للتغيير أو غير مرحب بالتحوير. هذا النوع من المجتمعات المترهلة يمثل أفضل بيئة لنشاط ولتنشيط الحركات الأصولية الرجوعية المتبرقعة بغطاء الدين، حيث يرى ذلك بوضوح في الجمهورية اليمنية دون حاجة للكثير من التمحيص أو التقشير. بل أن سطوة هذه الحركات الإرهابية تتجلى على نحو أوضح فيما تعاني منه المرأة اليمنية من نظرة دونية مشحونة بالإحتقار، خاصة وأنها حيث أنها توضع في الدرجة العاشرة أو أدنى في سلم البناء الإجتماعي: فالمرأة في اليمن هي مخلوق لا مرئي ولا مسموع، اشبه بفئة المنبوذين untouchables في الهند القديمة، حيث أنها تعمل وتكافح في البيت والحقل بينما يقعد الرجال متكئين على أرائكهم وهم يمضون الوقت في قضم وتخزين القات منذ الساعة الثانية عشر ظهراً حتى مابعد منتصف الليل، إذ يعودون إلى زوجاتهم ليروهن وقد إستسلمن للنوم دون توقع شيئاً من الإحترام ورفقة الحياة العائلية.
هذا الوضع الإجتماعي، وهذا التكريس لتخلفه من قبل حكومة غير قادرة على إحداث أو حث التغيير هو السر الذي يجعل اليمن واحدة من أفضل الآنية الإجتماعية لنشاط ولتناسل الحركات والتنظيمات الأصولية التي حطمت آفاق التقدم وأحالت اليمن إلى مفقس للإرهاب والإرهابيين حيث تصدرهم اليمن إلى مختلف دول الجوار، زيادة على دور النظام اليمني الخطير اليوم في إحتضان بقايا قيادات حزب البعث العراقي المنحل داخل اليمن، حيث وجدت هذه القيادات الترحيب والتوظيف والتشجيع من قبل السلطات اليمنية بطريقة تفوق ما قامت به أنظمة عربية أخرى سبق وأن اتُهمت بإيواء وتشجيع الحركات المضادة للديمقراطية ولتحرر العراق ولإنتقاله من فصيلة الأنظمة الشمولية الدكتاتورية إلى فصيلة الأنظمة الديمقراطية الليبرالية.
إن بقاء اليمن على هذه الحال ينذر بالكثير من الخطر خاصة وأن النظام القائم هناك غير قادر على تغيير منطلقاته النظرية وعاجز عن القضاء على مسببات التحجر والتخلف التي تمثل أفضل حاضنات الحركات الرجوعية regressive والإرهابية، حيث تبدو هذه الحركات وكأنها تباشر عملية “تصدير” الإرهاب إلى دول الجوار.
© منبر الحرية، 08 سبتمبر/أيلول 2009

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

خلال السنوات العشرين الأخيرة ، أتيح لي أن التقي بعشرات من رؤوساء الدول والحكومات. وكان ذلك بالنسبة لي بمثابة عرض شيق لأساليب مختلفة بشكلٍ مذهل. فبينما كان رئيس جمهورية “بقلاوة-ستان” يدعونا إلى عاصمة دولته ثم يبقينا أربع أو خمس أيام في إنتظار موعد اللقاء (رغم أننا كنا نمثل مؤسسة تستثمر مليارات الدولارات الهامة للغاية لإقتصاد “بقلاوة-ستان”) فإن إسلوب رئيس “مهازلستان” كان مختلفاً للغاية. كان موعد اللقاء يتحدد بمجرد وصولنا لتراب مهازلستان. ولكن الطريقة التي كان يُعامل بها رئيس مهازلستان من مساعديه (وإن علت مكاناتهم) كانت تجعل زملائي الأوروبيين يبذلون أقصى جهد لعدم الضحك. فقد كانت اللغة الجسدية ( Body Language ) لمساعدي الرئيس المهازلستاني تشبه حركات ممثلين عرب كبار مثل نجيب الريحاني وفؤاد المهندس وعادل إمام وهو يمثلون دور “المنبهر” و”الخائف” والمبجل”!! وكان منظر وزراء مهازلستان وهم يجلسون أمام رئيسهم وقد وضعوا أقل بكثير من نصف مقعدهم (العجز أو الأرداف في اللغة العربية) على المقعد وتركوا الجزء الأكبر معلقاً في الهواء .. فكانت تثير شهية زملائي (وبالذات “الألمان” الذين يبحثون عن منطقية كل شئ) لمعرفة “لماذا يفعل أحد مثل هذا؟!” ولماذا يرضى هذا أحد؟.
أَما في “يعقوبستان” وهي دولة يحيط بها أعداء من كل جانب يمطرونها بالكلام الكبير وتمطرهم (هي) كل عشر سنوات بضربة تكسّر العظام. في “يعقوبستان” فإن اللقاءات مع رئيس الدولة ورئيس الوزراء والوزراء كانت مثل اللقاءات مع الأصدقاء في نادي رياضي: بدون تلك الأجواء البقلاوستانية أو المهازلستانية.
أَما في “مجازر-ستان” فقد كان الضحك (أو بالأحرى “الرغبة في الضحك”) تختلط بالخوف (من عاقبة أي تصرف غير مقبول). ففي “مجازرستان” تُقطع آذان البشر .. وتُقطع ألسنتهم إذا مست “الكبير وآله” بكلمة سوء ولو واحدة! في “مجازرستان” كان يُقال لنا: صافحوا إن صافح! .. وإجلسوا إن جلس!. وبعد سنوات عدنا فرأينا عاقبة إلغاء أفضل ما في البشر: “عقول حرة”.
وفي مملكة “تراب-ستان” كان مستوى إدراك أحد المسئولين يحرك في داخلي شيطان الشعر .. وذات مرة تحركت شفتاي فظن الكبير الذي كنا في ديوانه أنني أكلمه ، بينما كنت أنا أحاول البحث عن بحر مناسب لكلمات كان شيطان الشعر يرددها في أذني ، وقد كتبتها بعد اللقاء في قصيدة غير منشورة بعنوان “شماغ .. شماغ .. شماغ .. لكن بدون دماغ!”.
وكانت لقاءات رؤوساء الدول في أوروبا وآسيا (للأسف) لا تتضمن أموراً هزلية تروح على النفس كالتي كنا نجربها في الشرق الأوسط وفي أفريقيا حيث تركنا السيد/ عمر أفندي (اسم رمزي) ذات يوم لأكثر من ساعتين في إنتظاره في الطابق السفلي من مقر إقامته .. ثم (أخيراً) نزل لنا وهو يرتدي “البيجاما” ومعه سيدة فرنسية .. في رسالة واضحة فحواها إذا كانت فرنسا قد احتلتنا عقوداً من الزمن ، فهاأنذا قد صفيت الحساب ورددت الصاع صاعين!.
حاولت بعد الإجتماع أن أشرح لزملائي الأوربيين (وكان بينهم فرنسي) “مغزى اللقطة” التي شاهدوها .. ففشلت. فمن الصعب على عقل فرنسي أن يفهم أن وجود إمرأة فرنسية في غرفة نوم الرئيس عمر أفندي هي إهانة لفرنسا وإنتقام من احتلالها لبلد أفريقي؟! .. ما العلاقة؟ .. أين السببية؟ .. لا يهم. منذ متى كنا نعوّل على السببية؟
وكانت قمة دهشتنا في بلدين عربيين كانا يفاجئانني (ومن معي) بدرجة من الإحترام والإلتزام والبساطة كانت ولا تزال غير متوفرة إلاِّ في هاتين البقعتين: “مطر-ستان” و”شرق-ستان”. في هاتين الدولتين الملكيتين كان كل شئ يسير كما لو كنا في 10 داوننج ستريت أو القصر الملكي الياباني او البيت الأبيض في واشنطن: المواعيد محددة سلفاً .. الكبار لا يتأخرون .. الكبار بسطاء وهاشون ومرحبون ومتواضعون إلى درجة لا يمكن تصوّرها في “الشرخ الأوسط الكبير”.
في “مطرستان”: الحاكم (الذي هو في أمان داخلي مع نفسه) وزوجته (التي هي تجسيد لقامة كبرت دون أن تدير رأسها خمر علو المقام) .. في “مطرستان” يستمع الحاكم لكل ذي خبرة وعقل .. ويتعامل مع زائريه بمودة وتواضع مذهلين .. وفي “شرقستان” يقول الملك لزائره العربي (من مهازلستان مثلاً): “أوافقك تماماً في وجهة نظرك يا سيدي” .. فيكاد يغشى على الزائر المهازلستاني لأن رئيس دولته سوف يعتبر أن الجلوس على كل المقعد في حضرته من علامات الجنون!.
في “شرقستان” استقبلتني شقيقة الملك ، وكنت لم أرى أية صورة لها. قابلتني عند باب المصعد وسارت معي لغرفة الضيوف – سألتها: “هل الأميرة شمعة مشغولة؟” .. فقالت لي: “أنا شمعة”!!
أما في “مطرستان” فقد كنت على مائدة الملك وأصرت قرينته على إعداد طبقين من الحلوى لضيفين من ضيفها! قلت في داخلي: آه لو رآك مهازلستاني”!.
هل هذا الحديث الطويل “عبث ليس إلاِّ؟” قطعاً “لا”. فإن رسالتي التي بين السطور (العاتبة) أكثر جدية من معلقات “لبيد” .. و”الأعشى”!.
© منبر الحرية، 14 أغسطس/آب 2009

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018