peshwazarabic

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

بعد تداعي الهرم العثماني الذي ناء بكلكله على الجسم العربي المنهك مدة أربعة قرون، وانكفائه أمام الحضارة الغربية الواعدة، وتخلفه في مختلف الأصعدة، دون أن ننسى  تطلعات الغرب في تركة (الرجل المريض).. من هنا شاع تذمر واستياء لدى الشعوب التركية المغلوبة على أمرها، واستجدت على الساحة العربية حركات سياسية حديثة خلافا للدعوات السلفية التي تجذرت بعمق في الواقع العربي، وكان الجانب القومي هو نبراس لكل حركة جديدة كسبيل للخلاص والتحرر، فالحداثة السياسية العربية، نظرت في مرآة الغرب، بعد أن فرغت من بناء دولها القومية، فرأت فيها صورتها المستقبلية، فكانت محاكاة الغرب احد الخيوط الأساسية في سياسة تلك الحركات المقاومة للسيطرة العثمانية.. لكن بعض المتنورين رأى هذا الاندهاش بسياسة الغرب، والاندفاع باتجاهها سوف يسبب في تصدع الواقع العربي وانشطاره، عبر صراع بين القديم والحديث، أو فلنقل بين التراث والمعاصرة، دون التغافل عن الخطر الغربي، فكان لا بد من وصل الوشائج للحيلولة دون هذا الانقسام في الكيان العربي المترهل أساسا بسبب الجهل والتخلف..
في هذا الواقع خرج بعض المتنورين من عباءة الدين الإسلامي، وبرزوا كدعاة للإصلاح الديني، ولكي يجاروا لغة الواقع, ولا ينقطعوا عن أسباب الحضارة، حاولوا التوفيق بين الإسلام كدين، والحضارة المادية كدنيا.. من هنا جاءت ظاهرة التوفيقية، وقد قيض لهذه الظاهرة نخبة من المتنورين من أمثل جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي، وعلي عبد الرازق.. وكان هؤلاء على معرفة بمآل الحركات السلفية السابقة لها، كالوهابية في السعودية، والمهدية في السودان، والسنوسية في ليبيا، كانت هذه الحركات جميعا فضلا عن جانبها الإصلاحي والجهادي، كانت متحمسة للأصول، لكنها كانت بعيدة عن عناصر التحديث واستلهام دروس العصر، أو استيعاب أسباب الحضارة لدى الغرب، وقد منيت جميعها بالإخفاق..
إن الحركة الإصلاحية الجديدة التي ظهرت بهذا اللبوس التوفيقي تعد خطوة جيدة إلى أمام، وهي سبيل للتجديد، لأن الطرح من واقع المجتمع العربي الديني، وفي تلك الظروف، حيث الموروث السلفي متحكم في عقول وأفئدة الملايين، لا يمكن له أن يتخطى سوى هذا الشكل من الطرح، فأولئك ركزوا على كثير من القيم الإسلامية بغية النفاذ من خلالها إلى عقلنة الواقع العربي، فكانت قراءة وتفسير النصوص، ومن ثم تأويلها بمنطق عصري، ولا يمكن لنا أن نتوقع الجرأة أكثر من ذلك عند أخذ تلك الظروف بالحسبان.. ويبدو أن هذا النهج أو الإرث التوفيقي من سمات الثقافة الإسلامية فيما مضى وهو الجمع بين المتعارضات؛ فصرنا اليوم نقرأ أو نسمع من يساوي بين الشورى في الدولة الإسلامية والديمقراطية كأسلوب في الحكم، ورغم قدم مفهوم الديمقراطية فقد أخذ اليوم الطابع الحداثي، وهناك من يقارب بين الزكاة وبين الضرائب..
والكواكبي لدى مناهضته للاستبداد، كان يطرح فكرة الاشتراكية، ويسعى لربطها بالدين الإسلامي، وأثر عن جمال الدين الأفغاني – نقلا عن أحد خواصه – قوله: (الكهنوتية بين العبد وربه)، وهذا يهدف بمقتضاه الفصل بين الدين والدولة، والحرية الدينية في خيارات الفرد، ولاحقا كان الشيخ علي عبد الرازق نتيجة إطلاعه على واقع العلمنة التركية، راح يجتهد ويبرر للتشريع للعلمانية ضمن الإطار الديني، ومضى يقتبس آيات من القرآن والسنة دعما لوجهة نظره، في الوقت الذي درج الناس على اعتبار العلمانية مفهوم غربي استعماري، مثلما شاعت الماركسية كمفهوم إلحادي، وكان السائد في الواقع العربي هو رفض المفهومين معا – العلمانية والماركسية – على السواء..
إن الظروف الجديدة حتمت على الإسلام أن ينهل من الحضارة الغربية، وهذا ما ساعد في خلق تيار علماني دون تفريط في الهوية الدينية، لكن أيضا كان من الصعب على الإصلاحية أن تذهب أكثر مما ذهبت إليه، في حين دأب بعض المستشرقين أن حملوا على الدين الإسلامي، فعابوا على العرب استبقاءهم للرقّ، والحطّ من شأن المرأة، كما عابوا على صرامة العقيدة الإسلامية، كما جاءت حملة شعواء من قبل السلفيين  ضد طه حسين من جانب الأزهر لأخذه بمبدأ الشك الديكارتي، درءا من محاولة سحب مثل هذا المبدأ، مبدأ الشك، على النصوص الدينية..
من رحم الحركة الإصلاحية هذه، خرجت حركة علمانية بمنزعها الليبرالي عقب الحرب العالمية الأولى. وهنا لا بدّ من الإشادة بأحد المتنورين العلمانيين بمنزع ليبرالي، رافضا لظاهرة التوفيقية، هو لطفي السيد الذي رأى أن تقدم مصر متوقف على اتباعها سياسة براغماتية، أي الأخذ بمصلحة مصر دون الركون إلى الأوهام الدينية أو القومية..
إن التوفيقية لم تتوقف عند هؤلاء ذوي الخلفية الدينية، بل انسحبت على سائر الحركات الأخرى (القومية، الماركسية، الليبرالية) فأثناء المد الديني صارت تتدثر بمفاهيم إسلامية تنشد كثيرا من القيم كالعدل والحرية والديمقراطية، وتجيز للتعددية، مقتبسة معانيها من القرآن والسنة أي تقوم بتوظيفها لنصرة العلمانية.. فبعض الماركسيين وجدناهم يترنمون بالآية الكريمة (وليس للإنسان إلا ما سعى) وحاولوا المقاربة من حيث المعنى  بينها وبين ما أثر عن سان سيمون بداية وعن ماركس لاحقا قولهما: (من كل حسب قدرته، ولكل حسب عمله)، كذلك فالقوميون كثيرا ما توسلوا الدين الإسلامي لنشر الفكر القومي، واكتساب عطف وتأييد الجماهير المؤمنة، واعتبروا الإسلام مادة القومية أو بالعكس، حتى الليبراليون العرب راحوا يبحثون عن معاني الحرية الفردية، والتعددية الروحية، وحرية الاعتقاد والاختيار، في النصوص الإسلامية (فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر) أو حرية التملك والتصرف، كما جاء في الحديث الشريف (من أحيا أرضا ميتة فهي له)..
أخيرا نقول إذا ما اعتبرنا التوفيقية عند دعاة الإصلاح الديني (الأفغاني، عبده، الكواكبي.) في الأمس خطوة إلى الأمام، فهي اليوم برأيي عند دعاة العلمانية، انكفاء وتقهقر وخطوات إلى وراء، بل تعد إفلاسا وكارثة سياسية، فلا يمكن أن نعتبر التوفيقية، اليوم، حيلة ذهنية سياسية، من لدن هؤلاء، فالخشية كل الخشية أن تتأصل التوفيقية كنهج يؤطر الفكر العربي، وهذا ما ينبئ به الواقع السياسي  حاليا، لأن التكيف مع الواقع السلبي يساهم في مزيد من إنتاج حالات سلبية مماثلة..
© منبر الحرية، 25 أبريل 2009

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

من يراقب تصريحات القادة والزعماء السياسيين على مستوى العالم كله منذ أحداث 11 سبتمبر، سيلحظ شيوع مفردات معينة في بنية الخطابات السياسية على مستوى العالم كله. بدأت هذه المفردات تدخل لتختفي مفردات أخرى كانت هي المسيطرة والمحركة لعقود خلت. حيث بدأت مفردات مثل” محور الشر” و”الدول المارقة” ” ودعم الإرهاب” ” الإسلام المنغلق”  تشكل جوهر الخطاب السياسي الغربي تجاه خصومه أو أعدائه أو معرقلي مصالحه في العالم، وكان هؤلاء الخصوم بدورهم يردون بالطريقة ذاتها : ” الشيطان الأكبر” و ” الغرب المتكبر المتغطرس” و ” إبليس الأكبر” ” إمبراطورية الشر”..
يعكس  الظاهر من الخطاب السياسي هذا، مدى الشرخ الذي أصبح قائما بين الشرق والغرب، ومدى الابتعاد عن الحوار والسياسة سبيلا لحل الخلافات العالمية، حيث تمهّد تلك الشيطنة والأدلجة التي يتم ترويجهما عبر الإعلام والفكر الأرضية اللازمة لشن الحروب وتبرير السياسات العنيفة بعد أن يكون قد تم غسل الوعي وإغراقه في حمى التجاذبات الضرورية لتمريق سياسات الحروب والجنون هذه.
يبدو الأمر كأنه إعادة تديين للصراع، أو استخدام المفاهيم الدينية لترويج صراع سياسي. إن مفاهيم الخير والشر والأبلسة هي مفاهيم دينية مطلقة لا تحتمل الجدل، لذا يبدو الأمر وكأنه ردة باتجاه استخدام مفاهيم دينية لتبرير صراعات سياسية مقيتة بعد أن تم تجاوز هذا الأمر منذ عقود.
وللوصول إلى الأهداف تلك، لابد من المرور بمرحلتين، تتمثل أولهما في عملية أدلجة الذات ووضعها في مرتبة الخير المطلق وإسباغ العصمة المعرفية التي تبرر لها أن تقوم بكل شيء، و تتجلى الثانية في عملية شيطنة الآخر أو العدو تمهيدا لضربه أو شن الحرب عليه.
حيث تقدّم  عملية الأدلجة المبرر والحافز لجمهور لا يمكن إرضاؤه في الحالات الطبيعية بهكذا حروب، فيتم الضخ الإعلامي والتجييش السياسي والتخويف المبالغ به من عدو يتم اختراعه، حتى يصبح الجمهور أو القسم الأكبر منه متقبّلا لم لا يمكن تقبّله في ظروف أخرى. وبعد أن يتم حشد الجمهور وتعبئته يتم الانتقال إلى إسباغ الشر على الخصم، تمهيدا لقبول الجمهور لأي عدوان أو اعتداء يتم تنفيذه لاحقا تحت اسم “محاربة الإرهاب” كما تفعل أمريكا أو تحت شعار ” محاربة الشيطان ” كما تفعل إيران، أو تحت اسم “محاربة الكفار ” كما تفعل القاعدة.
إذا كانت الايدولوجيا تعني  مجموعة الآراء والمعارف والأفكار التي تمثل مصلحة حزب ما أو جماعة ما أو فئة ما، شرط أن يتم بعيدا عن تشويه الخصم وشيطنته، و أن يترافق ذلك مع السماح بوجود إيديولوجيات أخرى تتنافس فيما بينها ديمقراطيا وسياسيا بعيدا عن مناخات الفرض والاستبداد. فتتعايش بذلك إيديولوجيات أو مفاهيم أو أفكار الاشتراكية والليبرالية والقومية جنبا إلى جنب وتتصارع وتتنافس دون أن يلغي بعضها البعض، بل يبدو ذلك الصراع ضروريا لكل منها للاستمرار والتطور وإعادة البناء.  فإن الأدلجة تأتي هنا لتلغي مفهوم الايدولوجيا (وهو مفهوم صائب معرفيا) بأن تستغله وتفرغه من محتواه بعد أن يتم حصر الإيديولوجيات المتعددة (أو دمجها وإغفال التمايزات فيما بينها قسرا)  بإيديولوجيا واحدة تتسيّد المشهد وتخفي التناقضات القائمة وتعمل على حشد الدعم والتأييد بكل السبل دفاعا عن برامجها وخياراتها، بعد أن تدّعي تمثيلها للخير المطلق والعميم في وجه الشر المستطير. وغالبا ما تتم عملية الأدلجة هذه في المنعطفات الحادة أو الأحداث الكبيرة  التي يتعرض لها مجتمع ما أو أمة ما، فيتم استغلال الحدث في عملية أدلجة شاملة سعيا لتحقيق مكاسب لا يمكن تحقيقها في الأوقات العادية.
مثلا إن شعار “مكافحة الإرهاب” كان في بداية طرحه إيديولوجيا تمثل مصالح مجموعة من الدول التي تعرضت لخطر الإرهاب، ولكن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر تعرض هذا المفهوم للأدلجة، واتخذ منه مطية لشن حروب وتحقيق مطامع سياسية واستعمارية، حيث عملت الدول المعنية على تجييش شعوبها وشعوب العالم وتخويفها من الإرهاب في عملية غسل وعي كامل لتبرير سياسات تقوم على الحروب والاستعمار، بعد أن عمدت إلى شيطنة خصومها وأبلستهم.
وكذلك تفعل منظمات القاعدة والإسلام التكفيري الجهادي عندما تستخدم  الحرب القائمة عليها  لأدلجة صراعها مع الغرب، حيث تحشد  فتاويها و قواها الإعلامية، مسخّرة الدين (الرأسمال الرمزي للشعوب) لتجييش جمهورها وحشده في معركتها مع الغرب “الكافر والملحد”.
الجدير ذكره أيضا أن عملية الأبلسة لا تشمل العدو فقط، بل إيديولوجيته أيضا، حيث يعمل كل خصم على أبلسة وشيطنة إيديولوجيا الآخر، وهذا ما نراه في الكتابات الكثيرة التي تساوي بين الإسلام والإرهاب، ويقابلها من الجانب الأخر المساواة بين الديمقراطية والكفر أو العلمانية والشر.
ونذكر سابقا عندما كان الاتحاد السوفيتي قائما، أن الاشتراكية والرأسمالية كمفهومين أو إيديولوجيتين قد تعرضا بدورهما لعملية أدلجة وأبلسة غير منقطعة النظير.
ولنا أن نسجل هنا أيضا أن هذا الأمر يتم مع الأسف في الكثير من الأحيان بأقلام مثقفين ينجرون إلى ذلك الصراع لتحقيق مكاسب آنية ضيقة، الأمر الذي يطرح مسألة أدلجة الثقافة وانخراطها كتابع لنظام أو جهة ما، بدل أن تكون ذات استقلالية تامة تكشف الزيف والخداع الذي يتم باسمها.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة : لماذا تم ذلك بسرعة مذهلة ؟
لم تم التخلي بين ليلة وضحاها عن كل مكتسبات الحداثة والعودة إلى تاريخ الصدام والحروب والاستعمار ؟
إن الإجابة عن السؤال السابق  معقدة وصعبة جدا، حيث يتطلب الأمر إعادة قراءة لتاريخ الصراعات العالمية، ولتاريخ العلاقة الإشكالية بين الشرق والغرب في العمق، لأن ما يطفو على السطح ما هو إلا نتاج ذلك الكائن  في الأعماق الذي لم يفكّر به بعد.
© منبر الحرية، 22 أبريل 2009

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

لا يخفى على مُتابعي وضع المنطقة العربية وحال نظامها الإقليمي أن سياسة المحاور التي تُلقي اليوم بظلالها الثقيلة على المشهد السياسي العربي، لا تخرج عن ما هو مألوف ومعتاد في سيرورة هذا النظام، الذي اقترن ظهوره تاريخياً مع ظهور الجامعة العربية، وزوال الاستعمار وتحرر الدول العربية تباعاً من قبضته العسكرية العاتية، وتوجهها إلى بناء ذاتها كدول حديثة ومقتدرة على مواجهة التحديات على اختلافها، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً..الخ.
وقد عرف النظام الإقليمي منذ لحظة نشؤه هذا النوع من الانقسام والتكتل في محاور عبّرت عن نفسها من خلال انقسام العرب، خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، بين قوى “تقدمية” وأخرى “محافِظة”. وكانت السمة الأبرز لهذا الاستقطاب – كما هو الحال اليوم – تكمن في دخول هذه الدول أو تلك ضمن دائرة الاستقطاب الأيديولوجي الذي ميّز النظام الدولي بين أميركا والغرب والاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية الدائرة في فلكه، وهو استقطابٌ أفرز حرباً عالمية باردةً طويلة استمرت نحو نصف قرن من الزمان.
إن سياسة المحاور اليوم لا تختلف كثيراً عن سابقاتها بل هي امتداد طبيعي لها، وهي تجلٍّ جوهري ومتواصل للصراع العربي – العربي حول أجندة تبدو في الظاهر عربية خالصة، لكنها في واقع الأمر لم (ولن) تخدم سوى إستراتيجيات القوى الإقليمية والدولية وتوجهاتها بشكل أساسي. والمدهش في الأمر أن توصيف الانقسام العربي الراهن كما هو الحال مع الانقسامات السابقة، وفرز العرب بين قوى “اعتدال” في مقابل قوى “ممانعة” أو “متطرفة”، قد أتى من خارج المنطقة باعتباره فرزاً بين أصدقاء أميركا – القوة الأولى في العالم – وبقية دول الغرب وبين خصومها، وكما في الماضي فقد ساهمت إسرائيل في بلورة هذا التوصيف و/أو التصنيف، والنفخ فيه وترويجه بقوة على الصعيد العالمي. وبالفعل فقد تمكّن الأميركيون والإسرائيليون من تشييد سياسة محاور وتحالفات إقليمية ترتبط بأجندتهم الجيوستراتيجية أولاً وأخيراً.
ولعل حرب غزة الأخيرة قد عكست ذلك النجاح بوضوح. فعلى سبيل المثال، أشارت وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني، في تصريح لها إبّّان الحرب، إلى أن الصراع الدائر في منطقة الشرق الأوسط “ليس صراعاً بين العرب وإسرائيل، بل هو صراع بين قوى الاعتدال وقوى التطرف” فيها. وبالطبع، فإن إسرائيل تقف إلى جانب قوى “الاعتدال” العربية، كما أن أميركا ودول الغرب تشدّ على أيدي هذه الدول كذلك.
والحال أن هذه المحاجّة الإسرائيلية، المدعومة أميركياً وأوروبياً، قد لقيت أصداءً واسعة النطاق، ضمنية حيناً وسافرة في أحيان أخرى، تؤيد مضمونها وتؤكد عليه. وهكذا أصبح الفرز حاصلاً، وأضحت سياسة المحاور الطابع الغالب على سياسات المنطقة. ففي معسكر “الممانعة”، وبتأييد مطلق من إيران الإسلامية، تقف كلٌّ من سورية وزوائد الدول الشاهرة للسلاح (حزب الله والحركات الفلسطينية المقاتلة). ولهذه القوى جميعاً مواقف واضحة من السياسة الأميركية في المنطقة، وهي ترفض عملية السلام في شكلها الحالي بين إسرائيل والفلسطينيين، وتؤيد إستراتيجية المقاومة المسلحة لـ “تحرير الأرض من الاحتلال”. أما معسكر “الاعتدال” العربي فيقف على قمة هرمه دول كمصر والسعودية والأردن وتونس، وتنطوي سياساتها على “تفهّمٍ” للتوجهات الأميركية في المنطقة وإن كانت لا تتفق معها تماماً.
وما بين كلا المعسكرين تتذبذب سياسات ومواقف لدول أخرى كقطر والإمارات والسودان والمغرب والجزائر واليمن وغيرها، وهي مواقف ليست وليدة قناعة سياسية محددة تؤيد رؤية هذا المحور أو ذاك، بل هي انعكاس مباشر لحاجاتٍ ذاتية وبرجماتية تفرضها أجندة السياسة المحلية وهاجس الشرعية المُستدام، وتعزيز المكانة في ظل التنافس الإقليمي، ومتطلبات الدبلوماسية العامة.
وفي ظل هذا التنافر يبدو النظام الإقليمي العربي في حالة فوضى شاملة، ربما أكثر من أي وقت مضى، لاسيما وأن العرب قد انقسموا في نظرتهم لما اعتبروه زمناً طويلاً “قضيتهم المركزية” أي قضية فلسطين، والموقف من إسرائيل التي ما تزال تحتل أراضٍ عربية وتهدد الكيانية العربية في الصميم بامتلاكها ترسانة عسكرية هائلة تتضمن المئات من القنابل النووية.
والثابت أن هذا التنافر، وتلك الفوضى، قد تعززا خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، وانعكسا سياسياً على الوضع العربي برمته وعلى نحو سلبي تماماً تمظهر في شكل حلولٍ توفيقية قابلة للنكوص تارةً، وتارةً في صورة تسوياتٍ غير سويّة وغير مُرضية، كما تبدت تارة أخرى في صورة نكسات اقتصادية ونزاعات سياسية ما انفكت تتفاقم، واهتراء فكرة التضامن لصالح فكرة الصراع على الاستفراد بمقود القاطرة العربية. والأخطر من ذلك كله، تبلور توجّه يقضي بـ “رفع اليدين” عن التدخل بشكل إيجابي وبنّاء في قضايا عربية عدة مُلِحّة وجوهرية، وترك الساحة للاعبين آخرين من ذوي التطلعات والطموحات الغابرة، العابرة للحدود، للعب دور جيوبوليتيكي محوري في المنطقة، ويفعلوا فيها ما يشاءون.
وبالتأكيد، فإن هذا لن يكون إلا على حساب الدول العربية ذاتها، مهما حاولت المقاومة أو حتى إبداء عدم اهتمامها بما يحدث. كما أن هذا التشظِّي القائم على مستوى سياسات الدول انعكس – بصورة أو بأخرى- على مواقف شعوب المنطقة والنخب المثقفة، والعلاقات الطائفية السائدة، وتعمّقت على إثره المشاعر القومية الشوفينية الضيقة، التي لم تكن موجودة في الماضي بهذه الحِدّة، في صفوف قطاعات غير قليلة من الجماهير العربية.
لكن كيف سيخرج العرب من هذا النفق؟ يظل هذا هو سؤال الساعة، والإجابة عليه ليست جاهزة للأسف، وتشوب المحاولات الكثيرة التي تحاول صوغها تضاربات وتناقضات صارخة في التحليل وتشوش كبير في الرؤية، لكن الخطوة الأولى والأكثر أهمية حالياً – كما تبدو لي- تكمن في لمّ شعث التنافر الحالي بشأن قضية العرب المركزية وتجاوز النظرة الخلافية حولها، ولعل التوافق على صوغ مقاربة عربية موحدة ومنسجمة إزاء القضية الفلسطينية العتيدة قد يُسهم بقوة في التخفيف من حالة الاحتقان الراهن، لاسيما وأن هناك إقرار عربي، رسمي وشعبي على حدٍّ سواء، بأهمية وضرورة إعادة الأمور إلى نصابها في هذا الموضوع تحديداً.
صحيح أن هذا الحل يبدو جزئياً وربما مُبسّطاً، لكنه يُمهِّد بالفعل للخروج من عنق زجاجة سياسة المحاور التي تأخذ وهجها من دبلوماسية “الكيد والكيد الآخر”، والارتماء في حضن القوى الإقليمية والدولية المتوثبة والتي لا همّ لها – وهذا ليس إثماً أو عيباً – سوى الحفاظ على مصالحها الوطنية وتلبية طموحاتها القومية، بغض النظر عن موقف العرب، اتفقوا أم اختلفوا.
وفي المرحلة التالية، سيكون من المهم – بالنسبة لصُنّاع القرار العرب – أن يعملوا على مراجعة وتقويم سياساتهم الراهنة، وعلى رأسها سياسة المحاور الإقليمية، والنظر – من ثمّ – إلى قيمٍ كالتشدد والاعتدال ليس بوصفها قيماً سياسية جديرة بالاحتفاء والتبنّي، بل باعتبارها قيماً وأحكاماً أخلاقية حديّة وتكاد تكون أيديولوجية، وعندها ستتضح لهم مثالبها الجمّة، وأنها لا تقدم حلولاً بل تقولب الحالة العربية أكثر وتزيدها تأزماً واستعصاءً. ناهيك عن أنها تكشف الدول العربية جميعها، سواء أكانت “معتدلة” أو”ممانعة”، أمام مخاطر وتحديات متعاظمة لا قِبَل لها بمواجهتها أو التكيّف معها دون دفع أثمان باهظة لا تُطاق!
© منبر الحرية، 18 أبريل 2009

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

حتى بالنسبة للذين يرفضون بعض جوانب ظاهرة العولمة فإن واقعَ الحياةِ في عالمنا المعاصر يؤكد ان العلم بكل معانيه ليست له حدود. فإنفتاح القنوات بين كل الجهات المتصلة بالعلم والبحث العلمي أصبح حقيقةً لا يمكن أن تنكر وإذا كنا نتكلم عن العلم بمعنى العلوم التطبيقية فلا يكاد يوجد معارضٌ واحدٌ للقول بعالمية المعرفة إزاء البحث العلمي في كل دوائر العلوم التطبيقية وفي مجالاتِ تطبيقاتها (التكنولوجيا). وكان العاملُ الأكثر حسماً في الوصول بعالمية المعرفة في مجالات البحث العلمي في العلوم التطبيقية لهذه الدرجة الرحبة تلك الصلة الوثيقة في المجتمعات المتقدمة بين البحث العلمي والحياة بوجهٍ عامٍ والحياة الإقتصادية بوجهٍ خاصٍ وهو ما جعل دائرة “البحث والتنمية” Research and Development تتسع حتى تصبح أوسع من دائرة البحث العلمي Scientific Research بمعناه القديم والذي يكون فيه البحث العلمي منبتَ الصلةِ بشكلٍ ما بالتوظيفات الحياتية للعلم وهي الغاية الرئيسية لما يعرف الآن بالبحث والتنمية (R & D) .
فنظراً لأن المجتمعات المتقدمة قد أخرجت (بدرجةٍ كبيرةٍ) من الجدران المغلق للجامعات ومراكز البحث وجعلت العديد من مجالاته تدور وجوداً وعدم اً مع التوظيف الحياتي/الإقتصادي/ الإجتماعي للعلم فقد أصبحت عالمية المعرفة في دنيا العلوم التطبيقية هي الحقيقة الكبرى . وهكذا أصبحنا نجد أن ميزانيات البحث العلمي المندرج تحت تسمية “Research and Development” (R & D) من جهة تفوق ميزانيات البحث العلمي المجرد بكثير ومن جهة ثانية فإنها تنفق ليس عن طريق الدول وإنما المؤسسات الإقتصادية. وهكذا أصبح كل من يعمل في أي مجالٍ من مجالاتِ الصناعة أو التجارة أو الخدمات يبحث عن احدث تكنولوجيا العصر لتوظيفها في عملية تطوير وتوسيع أنشطته وتعظيم العوائد منها وهو ما يضاعف من إتساع معنى “عالمية المعرفة”.
ولعلي لا أكون مبالغاً إذ أقول أن النهضةَ اليابانية في طورِها الذي أعقب هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية كانت من أكبر أصحاب الفضل على مفهومِ عالميةِ المعرفة إذ سعت اليابان إلى العلم والتكنولوجيا في كل موضع في الأرض لتحصل عليه وتهضمه وتوظفه بأشكالٍ مذهلةٍ – وهو ما كان عصب التقدمِ الياباني في السنوات التي تلت 1945. وفي مجالِ العلوم الإجتماعية فإن الأمرَ يبدو مختلفاً بعض الشيء إذ تدخل الإعتبارات الحضارية والثقافية في النظرة للعلوم الإجتماعية – ورغم صحة ذلك بشكلٍ نسبي إلاَّ أن دوائراً جديدةً نمت داخل عوالم العلوم الإجتماعية حققت ما حققته العلوم التطبيقية في عالمية المعرفة: فعلومُ الإدارةِ الحديثةِ وعلوُم الموارد البشرية والتسويق والكثير من الأفكار الإقتصادية تمكنت أن تعبر الحدود وتحقق لهذه الفروع من العلوم الإجتماعية قدراً هائلاً من “عالمية المعرفة” نظراً لإتسامها بقدر كبير من عدم الصبغة الثقافية “Culture Free” ولعظيم مردوداتها الحياتية – ولا ينفي ذلك أن بعض فروع العلوم الإجتماعية قد ظلت “بين بين” لشدة إتصالها بالأبعاد الثقافية والحضارية وإن كان ذلك لا ينفي ان تغلغلاً غير يسير للبعد العالمي في هذه العلوم قد تحقق. ومقاومة “عالمية المعرفة” قد تبدو للبعض لاسيما في الواقع العربي سمة طبيعية من سمات المجتمعات القديمة – ولكن من الأرجح أنها ليست كذلك: فالصين مجتمع قديم ولكن الواقع يؤكد أن الجاليات الصينية في جنوب شرق آسيا كانت هي طليعة الطفرات التي قامت على قيم من أهمها عالمية المعرفة… واليابان مجتمع قديم ولكنه المجتمع الرائد في عدد من قيم التقدم وفي مقدمتها عالمية المعرفة … وكذلك الهند التي رغم كونها مجتمعاً قديماً وذاخراً بالمشكلات الإجتماعية فقد كانت المؤسسات العلمية فيها نموذج نادراً للمؤسسات العلمية التي لم تتدهور في العالم الثالث وكانت جسورُ البحوث العلمية والتكنولوجية ممتدة بينها وبين العالم وهو ما أدى إلى الكثير من الإنجازات لعل أهمها الإنجاز الهندي في صناعة السلاح ثم التألق الهندي الفذ في عالم الكمبيوتر وتكنولوجيا المعلومات.
وتفسيري الخاص أن المجتمعات العربية بقت بعيدة إلى حد بعيد عن مزايا عالمية المعرفة بسبب التدهور الكبير في مؤسساتها التعليمية ومراكز البحث العلمي كنتيجة لخضوع هذه المؤسسات والمراكز للحياة السياسية في هذه المجتمعات وهو ما جعل هذه المؤسسات والمراكز منبتة الصلة بحركة العلوم في العالم كما است أصلت روح الإبداع منها وحولتها إلى كيانات راكدة تفرز تعليماً لا علاقة له بالعصر والحياة ومنبت الصلة بحركة البحث العلمي في كل مجالات العلوم التطبيقية والإجتماعية وكانت الترجمة النهائية لذلك هو الغياب العربي المطلق في دوائر الإنجازات العلمية والبحوث المتألقة في كل مجالات العلوم التطبيقية ودوائر بحوث العلوم الإجتماعية على السواء…. يتبع
© منبر الحرية، 09 أبريل 2009

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

أثر عن مفكري عصر التنوير قولهم : نريد ( حكومة القوانين، وليس حكومة الرجال) ويبدو لي أن الأوربيين كانوا قد ضجوا بحكومة السلالات، التي حكمت قرونا عديدة، وبحكم النبلاء، أو العسكر الذي ما أن يتفرغ من حرب، حتى يدفع لأخرى، دون إرادة الناس، أو ربما ضاق هؤلاء المفكرون، بحكم القلة، أو بحكم الطغمة المالية، لذلك جاءت الدعوة إلى أنظمة تحكمها القوانين كأحد المبادئ الأساسية في الأنظمة الديمقراطية الحاكمة…
رأى الداعون من أن الدستور ينبغي أن يكون هو القانون الأساسي لأي نظام، وفي أي بلد، وينبغي أيضا أن يكون القانون محايدا، أي بمنأى عن السياسة على العموم، بحيث يطبق القانون على الجميع، بغض النظر عن الموقع الاجتماعي أو الطبقي، أو المركز الحكومي، الذي يشغله هذا الشخص أو ذاك، فلا يكون أحد فوق القانون، أو بمنأى عن المساءلة، فمتى ما أخل بهذه المعادلة، أي إذا ما طبق القانون على الضعيف، وأعفي القوي عن المساءلة، فما عاد من الممكن أن يوسم النظام القائم بأنه نظام عادل، أو المجتمع بأنه مجتمع حر. لهذا يعد سريان القانون في أي نظام، وتطبيقه من أهم مبادئ وأسس لقيام نظام عادل وحر..
ولننتقل إلى مبدأ قيمي آخر وهو الديمقراطية، كشكل للنظام، للحكم، والديمقراطية هي تستوجب بالأساس سيادة الدستور، واحترام القوانين، أي أنهما مترادفان سياسيا، ومتلازمان حضورا، لا بد أن  يستدعي أحدهما الآخر، وعندما نشيد بمفهوم الديمقراطية، كصيغة من صيغ الحكم، يحضرني هنا ما قاله ونستون تشرشل، عن الديمقراطية، لكي لا نوصف بالمغالاة  في إشادتنا بالديمقراطية، دون معرفة بأشكال النظم السابقة واللاحقة، يقول تشرشل : (لقد تمت تجربة أنماط عديدة من الحكومات، ولسوف تتم تجربة أنماط أخرى في هذا العالم الذي يتسم بالخطيئة والمحن، لا أحد يدعي بأن الديمقراطية كاملة وحكيمة كليا، وفي الحقيقة فقد قيل بأن الديمقراطية هي أسوأ أنواع الحكم، ما عدا جميع تلك الأشكال الأخرى التي تمت تجربتها من وقت إلى آخر.)..!
فبالديمقراطية وحدها تكتسب أنظمة الحكم الشرعية، وتؤسس للاستقرار، وفي ظل الديمقراطيةـ  فضلا عن حرية التعبير وحق الاجتماع والتظاهرــ لا بد أن تؤسس أحزاب، وتتشكل تكتلات سياسية، وبالتالي كان الإعراب عن وجهات نظر مختلفة هو سمة الأنظمة الديمقراطية، فهي بمثابة الخيمة التي يستظل بها كل الأطياف السياسية، مهما تباينت رؤاهم، واختلفت آراؤهم..
كما إن الديمقراطية كشكل للحكم، ينبغي أن تكون تمثيلية، أي بمعنى أن يتمثل في السلطة مختلف الشرائح، وسائر قطاعات المجتمع، لا أن تكون السلطة مقتصرة على النخبة المتنفذة  والمحظوظة، أو على  الفئة الميسورة، أو تحتكرها طبقة استبدادية تستأثر بالسلطة عنوة عن طريق الانقلابات..
إن الديمقراطية التمثيلية تتيح لكافة الشرائح فرصة للتعبير عن آرائها، والدفاع عن مصالحها، بحيث أن القرارات عندما تصدر، لا بد لها من أن تعكس مصالح مختلف فئات المجتمع، في إطار من التوفيق والتوازن بين الجميع، أو يعكس ما يعرف بالمصلحة العامة..
بالديمقراطية أيضا، يمكن إزاحة من يتشبث بالسلطة، أو تكون الديمقراطية بمثابة رقيب عليه في حال سوء استخدام السلطة، وردعه وإزاحته إن اقتضى الأمر ذلك..
في النظم الديمقراطية، تقف الديمقراطية بالضد من تركيز السلطة بيد أي فرد، كما ترسم ضوابط متوازنة تحول دون خطر استبداد الأغلبية، أو تحكم واستبداد الأقلية، ثم فالسلطة التنفيذية مسؤولة أمام السلطة التشريعية، في المساءلة والمحاسبة، وبالتالي لا بد أن يشعر المسؤولون عن تلك المؤسسات أنهم مراقبون، ومعرضون بالتالي للإزاحة والمحاسبة، في حال تماديهم بممارسات سلبية ضارة..
وهنا لو انتقلنا إلى مبدأ قيمي آخر، هو مبدأ المساواة، فهذه اللفظة تأخذ طابع العمومية، ولا تفسر عن مضمونها بيسر وسهولة، فماذا تعني المساواة ؟ يرى أحد الليبراليين، بأنه لا بد أن يكون (جميع الناس، يملكون حقوقا متساوية، ولكن ليس لأشياء متساوية) وهذا الرأي منطقي
أما مشاركة الأثرياء الرأسماليين أموالهم قسرا، فباعتقادي أن هذا رأي فج، وحلم طوباوي، ويدخل في دائرة الأحلام، عن قليل في الحقبة الحالية؛ لكن بالمقابل لا نستطيع أن ننفي مثل هذا النزوع عند بعض السياسيين الحالمين وحتى عند بعض المفكرين.
نأتي أخيرا إلى مكونات المجتمع المدني، كمبدأ أساسي من مبادئ المجتمع الحر، ونعني بالمجتمع المدني هنا سائر المنظمات التطوعية، بدءا من الأسرة، إلى مختلف الأنشطة الأخرى، من أندية رياضية أو موسيقية، وجمعيات خيرية، ومنتديات ثقافية، وروابط نسائية، وسائر النقابات..إلخ
إن نشاط المجتمع المدني، يصب في مصلحة الدولة بالأساس، لكن ليس أي دولة، بل دولة الشعب بأسره.. دولة الحرية والعدل والمساواة، دولة الأمن والحماية والطمأنينة، دولة الوفرة في المعيشة، فقوة الدولة ينبغي أن تستمد من حيوية الشعب، ومن أنشطته المختلفة، لا من خموله، ولا من الحكم عليه بالسوط والصمت..
هذه هي أهم المبادئ التي أثرناها هنا، كدعائم أساسية لبناء مجتمع ديمقراطي حر، والتي ينطوي بدورها على كثير من القيم الأخرى، تتفرع عنها،، تلك القيم التي يتمتع بها الكثيرون اليوم، وينشدها المحرومون خاصة، في سائر بقاع العالم..
© منبر الحرية، 08 أبريل 2009

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

قبل بدء تحليل مفهوم الانتقال الديمقراطي والوقوف عند حقيقته، نقر بدءا بأنه إلى جانب مفاهيم كــالعهد الجديد، الحكامة الجيدة، دولة الحق والقانون، التنمية المستدامة … شكلت وما تزال بضاعة مزجاة  يتغذى بها المسؤولون والإعلاميون دون أن يتحقق منها شيء على أرض الواقع من جهة، ومن أخرى قبول انسياق السياسيين وراء هذه  المفاهيم و المقولات بالنظر إلى الثقافة السياسية السائدة التي تشكل التبعية و الانتظارية العنصرين الثابتين فيها، لكن الأمر غير  المستساغ هو موقف جل المثقفين الذين انخرطوا في تعويم هذه المفاهيم التي  تم التعامل معها كوعاء فارغ بإمكاننا وضع ما شئنها فيه من الوقائع والتحولات.
مقولة “الانتقال الديمقراطي” تدل على جملة من التحولات المتعاقبة والممكن حصرها زمنيا ـ نسبيا فقط ـ وفيها يتحول أساس نظام السلطة من الإكراه إلى الإقناع والاهتمام بديمقراطية الجوهر بدل تحصيل جمالية الشكل، قصد الشرعنة للنظام القائم أمام العالم الخارجي والحصول على تأييد الجماهير دون الاكتراث بالحصيلة. ومن خلال معاينة بعض التجارب الدولية (جنوب إفريقيا، البرازيل، البرتغال، إسبانيا) تم حصر مراحله في ثلاث محطات أساسية، رغم ما قد يقال عن محدودية التقسيم لكونه مستنبطا من تجارب معينة غير أن اعتمادنا له قائم بالأساس على اتسامه بالعمومية والتجريد.
مرحلة الانفتاح: فيها يوسع هامش الحرية وتظهر الليبرالية الحقيقية وتبدأ خطوات تفكيك الأجهزة السلطوية المسيطرة.
مرحلة الاختراق: يسطع دستور جديد يؤسس لنظام ديمقراطي جديد يقوم مقام النظام الآفل يفرز سلطة جديدة منبثقة عن انتخابات نزيهة.
مرحلة الترسيخ:  هي الأخيرة تحتوي على جملة من العمليات أبرزها:
1/  تنظيم انتخابات نزيهة بشكل دوري .
2/ سعي هيئات المجتمع المدني لحماية الديمقراطية وقواعدها التي أضحت ثقافة سيـاسية سائدة.
3/  التباين على مستوى الأهداف بالتركز على جوهر الممارسة الديمقراطية.
4/ بطء الخط الزمني لهذه المرحلة.
وقد يقول قائل بأن هذه التقسيمات ضرب من العبث لاتسامها بالغموض والتداخل فيما بينها من جهة، ومن أخرى اختلاف شروط كل تجربة انتقالية، فالظروف المؤثرة في الانتقال ببلدان أوربا الشرقية ليست نفسها في دول أمريكا اللاتينية.
ورغم كل ما يقال يبقى السؤال المطروح وبإلحاح هو موقع المغرب وكل متغيراته في هذا المسار؟ وإن صح الحديث عن انتقال ديمقراطي فهل نحن في أولى مراحله أم آخرها؟
إن التأمل العميق في المحطات الأساسية للتاريخ السياسي المغربي الحديث يفضي بنا وقائع لا يمكن اعتبارها نقطة ارتكاز (Le point zéro) لبدء الانتقال، والحقيقة أننا أمام لمسات “روتوشات” هدفها تلميع الصورة أمام الرأي العام العالمي وتحصيل جمالية الشكل في مواكبة للتغيرات التي يعرفها المحيط الداخلي والخارجي للبلاد (إفرازات للضغط)، أكثر مما هي تحولات جذرية في سبيل الديمقراطية.
فلنتوقف في هذا الإطار على بعض من هذه التحولات و نذكر منها:
– إنشاء المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان سنة 1991 لتفادي النقد الموجه للنظام من قبل المنظمات الحقوقية، كما أن ملف حقوق الإنسان يتخذ ورقة رابحة لدى البوليساريو.
– إحداث وزارة حقوق الإنسان سنة 1993.
– إطلاق صراح المعتقلين السياسيين وعودة المنفيين في غشت 1991 و يوليوز  1993 و مايو 1994.
– صعود نقاش حول الإصلاح الدستوري المفضي لدستور 1992 ودستور 1996.
– الانتخابات التشريعية لسنة 1997.
– دخول المعارضة التاريخي إلى الحكومة وتجربة التناوب سنة 1998.
– انتقال العرش في يوليوز 1999.
– إقالة وزير الداخلية إدريس البصري.
– الانتخابات التشريعية وحكومة التكنوقراط سبتمبر 2002.
– تجربة الإنصاف والمصالحة سنة 2003 وصداها وطنيا ودوليا.
ـ ترسانة قانونية تكشف عن رياح التغيير في نصوصها فقط (مدونة الأسرة، قانون الأحزاب، قانون الصحافة،…).
ـ الانتخابات التشريعية في سبتمبر 2007 وديمقراطية تعيين الوزير الأول.
قد نوصف بالعدميين إذا قلنا بأن استقراء هذه الحالات لا يكشف عن واحدة قد تعد نقطة البداية، لكننا نقر في ذات الوقت بوجود إصلاحات لم ترقى لتكوين حلقات مسلسل الانتقال الديمقراطي. فما موقعها ضمن الخريطة إذن ؟
عملية الإصلاح هذه تعكس في جوهرها انتقالا سلطويا لا انتقالا ديمقراطيا، إذ معظم الإصلاحات هدفها تجديد آليات اشتغال النظام السلطوي و ملاءمته للمتغيرات داخليا وخارجيا للزيادة في وسائل الحكم وتجديد المشروعية، فالتأمل العميق في الواقع يفضي بنا إلى العناصر الرئيسية المتداخلة في تحديد إستراتيجية الانتقال السلطوي أبرزها:
– تدجين وأدلجة الانتقال الديمقراطي
أي تحويره عن دلالته الحقيقية ليصير طبلا أجوف قابل لاحتواء كل الوقائع والتحولات، وبالعودة إلى مرحلة التسعينات نجد ترسانة من المؤسسات أنشئت بهدف تصريف اختيارات النظام في مختلف القضايا دون تقديم تنازلات مما يكشف عن سعيه لتكيف مع المتغيرات بلا تغيير ذاتي. ولا غرابة في كون معلني الانتقال الديمقراطي بهذا المعنى ليست لديهم أية مطالب إزاء النظام القائم وثقافته السلطوية، بل كل مطالبهم و خطاباتهم موجه لمن يشكك في المشروع الانتقال.
– تكريس الإصلاح من الأعلى
التوفق فيما سلف يسهل ضبط إيقاع وتيرة الإصلاحات التي تسوق على أنها مظاهر  الانتقال المنشود، وبناء عليه يستطيع النظام التحكم في عمليات الإصلاح وتنويع أشكالها و طرقها. حيث نجدها ذات منطق استعادي (الاسترجاع) كما هو الحال مع إحداث ديوان المظاليم أو منطق استباقي (السبق) كمبادرة التنمية البشرية، أو هما معا في تجربة التناوب التوافقي التي لم تكن سوى تسوية سلمية وتصالحية أفضت إلى “كشكول” حكومي أفرزته تظاهرة انتخابية لا أقل ولا أكثر، المستفيد الأول منها هو المؤسسة الملكية التي أضعفت منافسيها(الأحزاب) مكرسة الانتظارية والتملق والانتهازية.
لا غرابة البتة أن نكون إذن أمام إصلاح علوي أحادي القطب من جهة، وجزئي ومرحلي من جهة أخرى.
– الإصلاح وفق منطق الاختيار
إن المقاربة الاختيارية من أولويات الإصلاح باعتباره مدخلا لتكيف النظام مع تحولات المجتمع وتحديات الاندماج في المنظومة الدولية، محاولا الاستجابة لمتطلبات الظرفية الراهنة والآنية أي دون تخطيط ودراسة مسبقة لتلك الإصلاحات التي تظل مردوديتها محدودة جدا، في غياب مسلسل مترابط يفضي لنتائج ملموسة. كما أن تجاهل إصلاحات جوهرية من قبيل الإصلاح الدستوري والإداري و العسكري يكشف بساطة المنجز.
الانتقال الديمقراطي بالمغرب يتطلب إرادة حقيقة هي إرادة الانتقال، ولن يتأتى هذا بدون ترسيخ ثقافة المشاركة والاختلاف، وبدون إصلاح العقليات و البنيات الفكرية أولا في إشارة لمقولة كارلوس ألبرتو مونتانير: يجب تنظيف السياسة بعض الشيء، من أنماط معين من المسؤولين والسياسيين الذين لا يحملون من هذه الصفات غير الاسم. وترسيخ المؤسسات ودمقرطتها وإعادة الثقة بها ثانيا. أمران يتطلبان توافق إرادتين: إرادة سياسية لدى المسؤولين وإرادة شعبية تحمل في ثناياها ثقافة الممانعة والتضحية لدى المثقفين وكل من يحمل هموم هذا الوطن الجريح ، سواء اشتغل في الحقل المدني أو الأكاديمي أو الحزبي.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

إذا كان العالم، بعد صدمة الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة، قد أعلن بصوت واحد وضع مسألة “محاربة الإرهاب” وتجفيف منابعه في طليعة أهدافه، فإن الحرب في غزة بالصورة التي شهدها الجميع وتداعياتها تدل على أن هذا الأمر يبقى طي نسيان المحافل الرسمية العالمية، إذ أن نواقيس الخطر يجب أن تُقرع لتفادي ما جرى في غزة. فالشروط الملائمة للتطرف ولتفريخ “إرهابيي المستقبل” هي اليوم أكثر ازدياداً من ذي قبل.
لنتذكر أن محاربة الإرهاب أعنت لغالبية المتابعين المعنيين بهذه المهمة التركيز على جوانب محددة منها عسكري واستخباراتي يتمثل بالعمل السريع على تعقب الإرهابيين وملاحقتهم وإخماد تحركاتهم الساعية إلى الإرهاب ويرمي كذلك إلى ضبط مواردهم المالية ومحاولة تجفيفها عبر تضافر علاقات تعاون دولية لتحقيق الهدف المنشود. فالهدف الأيديولوجي يتلخص في التصدي للنهج التربوي، وللخطاب، الذي يحض، بشكل ما، على العنف والكراهية ونفي رؤية الآخر. إلا أن الثغرة التي لا يزال العالم يخفق بسدها لبتر دوافع الإرهاب فإنها، وللمفارقة الكبرى، تتسع بمساهمة دولية رسمية حين يفشل العالم في أن ينفذ إلى الجانب النفسي للأفراد والجماعات المغبونة التي تشعر بأنها عاجزة عن القيام بما يزيل غبنها وترى العالم صامتاً حيال ضيمها. ولعل في ما عبر عنه المظلي الإسرائيلي بن موكا والاحتياطي الإسرائيلي “نوعيم ليفنا” لصحيفة الغارديان (تاريخ 17 يناير) يكمن بعضاً من الوصف لما يجري وبنفس الوقت خوفاً، عقلانياَ ومشروعاَ، من نتائجه نظراً للحالة النفسية للفلسطينيين، فيقول بن موكا في تبرير رفضه للخدمة في غزة إنه “انضم للجيش الإسرائيلي على اعتقاد أنه سيحارب “منظمات إرهابية”، ليجد نفسه يقمع تطلعات الفلسطينيين للحرية واحتجاجات المزارعين الفلسطينيين ضد السرقة التي لا تنقطع لأراضيهم” ويتابع بن موكا بقوله إنه قد “شاهد انتهاكات مثل إرسال الجنود الإسرائيليين للنساء والأطفال الفلسطينيين ليدخلوا بعض المنازل للتأكد من خلوها من الألغام، ومثل استخدام المدنيين كدروع بشرية”. وأما ليفنا فإنه يعبر عن مخاوفه من آثار هذه الحرب مستقبلاً إذ يقول: “فقتل المدنيين الأبرياء لا يمكن تبريره، لا شيء يمكن أن يبرر هذا النوع من القتل، إنما هي الغطرسة الإسرائيلية المستندة إلى منطق أنه إذا ما أكثرنا الضرب فسيكون كل شيء على ما يرام، لكن الكراهية والغضب اللذين نزرعهما في غزة سيرتدان علينا”.
لابد من الاستباق للتأكيد على نقطتين: الأولى تتلخص في رفض استخدام العنف، أياً كان شكله أو مصدره، بالتلازم مع نبذ أية لغة أو خطاب أو أيديولوجيا، دينية كانت أم غيرها، متزمتة ترفض الآخر وتستعلي عليه؛ والثانية أن هذه الأسطر لن تتطرق للجانب السياسي البحت للعنف الدائر، فقد أُطنب آخرون في تغطيته وتحليله، وإنما الغاية تنحصر هنا في محاولة استقراء وفهم من وجد نفسه في غزة وسط القصف والتدمير والقتل دون أن يكون مسلحاً أو متحزباً ولكنه عانى من العنف الدائر وكأنه طرف منه وما هي تداعيات ذلك عليه في المستقبل، وهذا لا يخص فقط أطفال غزة ومن سينجو منهم “جسدياً” وإنما يشاطره أيضاً في مشاعر الغبن والإحساس بالعجز من يراقب عن بعد الصورة المريعة لما تفعله آلة الحرب بالأطفال والمدنيين عموماً وقد مزقت أجسادهم أو أحرقتها آله الحرب بدباباتها وطائراتها وصواريخها.
خلافاً لنظيره الفلسطيني، يحظى الطفل الإسرائيلي الذي يتعرض لصدمة نفسية ويعاني منها بالعناية اللازمة من قبل الأخصائيين، فهناك مراكز تدريب مختصة وورشات عمل متعلقة بذلك ويتم تقديم الخدمات والاستشارات والعناية المتطورة في مجال معالجة اضطرابات ما بعد الصدمة. أما الطفل الفلسطيني الذي يفتقد، في الأحوال العادية، للمساعدة المناسبة والعلاج اللازم، فيبقى فريسة للقلق والخوف، وإذا كان الكبار محصنين عموماً بعامل السن والخبرة، فإنه يتعذر على الطفل بمفرده المقدرة على مواجهة ما يعيشه من مآس ستنتج، لامحالة، اضطرابات نفسية عميقة وحالات من التوتر والاكتئاب. وسيبقى عرضة للخوف والقلق و الكوابيس جراء شعوره بتهديد حياته وتعرضه للأخطار ونتيجة لقصف المكان الذي يعيش فيه والدمار والخراب في كل مكان من حوله وهلع الموت بافتقاده لواحد أو أكثر من أفراد أسرته.
يجب أن تتمحور الأسئلة، التي يفترض أن تشغل بال الكثيرين الآن، حول المستقبل واحتمالاته. من المؤكد أننا لا نستطيع أن نقرأ بدقة مستقبل الطفل الفلسطيني الآن وهو يتعرض لما نشاهده، لكن من البديهي، والواقع هكذا، أن نقدّر أن احتمال نزوعه إلى العنف قائم وبقوة، فما من أحد يستطيع أن يخمّن ليس فقط كم ستبقى في ذاكرة الفلسطيني مشاهد العنف والدمار والقتل والانفجارات والبكاء والعويل بل وأيضاً إلى أي حد ستطبع حياته أو كيف ستؤثر عليه مستقبلاً، ناهيك عن الشعور بأن طفولته قد سُرقت واغتيلت، ويبقى احتمالاً مرجحاً أن تفكيره سيدور بحلقة يشعر بها أن أحداً لم يقدر طفولته ولم يرحمها وأنه عومل، وسط صمت العالم، كما لو كان ناضجاً ومحارباً، وهو طفل يريد أن يلعب ويلهو.
في كتابه (From the Wings) ـ كما في مقابلات معه ـ يوضح جوزيف هارماتز (مواليد ليتوانيا 1926) وهو أحد الذين أثرت في حياتهم آلة الحرب النازية بتدميرها وقتلها لليهود أنه خطط، ومجموعة انتظمت، لقتل الملايين من الألمان بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بطرق إرهابية (وأفلح في الواقع بقتل بضعة مئات) ويبرر ذلك أنه أراد أن ينتقم من أي كان لأن صمت الألمان عامة لما جرى قد أعنى له، بشكل أو بآخر، المشاركة فيما حدث، أو أن من بقي صامتاً إنما كان مقتنعاً، على الأقل، وأعطى موافقته الضمنية على استمرار القتل. ختاماً، المأساة يعيشها البعض والبعض الآخر يتعاطف مع من تحل عليه وأما تأثيراتها على الاثنين فهذا ما سيبينه المستقبل.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 28 يناير 2009

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

يُنْسَبُ للإمام عليّ أنه قال: “مَنْ مَلَكَ استبد”!، وهو ما أكدهُ ابن خلدون لاحقاً بقولِهِ: “إنَّ المُلْكَ يعْني التغلُب والحُكم بالقهر، فصاحِبُ العصبيّةِ [السُلطة] إذا بلغَ رُتْبَةً طلبَ ما فوقها؛ فإذا بلغَ رُتْبَةَ السُؤْدَدِ والإتباع ووجدَ السبْيلَ إلى التغلُّبِ والقهر لا يَتْرُكهُ لأنه مطلوبٌ للنفس”.
وما نودُ أنْ نؤّكِدَ عليه من خلال هذين الاستشهادين هو أنَّ “السُلطةَ المُطلقة مَفْسَدَةٌ مُطلقة”. وتبعاً لذلك، تتأتى الأهمية القصوى لمبدأ “تدوُال السلطة” في المجتمعات الإنسانيّة لأنَّ الإِبقاءَ على نظامٍ سياسيٍّ مُعين في السلطة لمدة طويلة من شأنِهِ أن يُفرزَ بمرور الوقت كياناتٍ فاسدةٍ تدور في فلكه، أو تتركزُ من حوله مهما بلغت درجة نجاحه ونزاهته.
غيْرَ أنّ أغلبَ الأنظمةِ العربية، والتي عادةً ما تتشدَّقُ بالديمقراطية، دائماً ما “تُباغت” مواطنيها بإجراءِ تعديلاتٍ دُستوريّةٍ تُتيحُ لها البقاءَ في السلطة إلى الأبد!. ولعل آخر هذه الأخبار “المُباغتة” ما حدثَ مؤخراً من إقْرارِ البرلمانِ الجزائريّ تعديلاتٍ دُستوريّةٍ تُتيحُ للرئيس بوتفليقة الترشح لولايةٍ رئاسيّةٍ ثالثة!!.
وفي الواقع، إنَّ ما يجري في الجزائر الآن ليسَ بعيداً عن مُحاولاتِ التوريث التي تتمُ سراً أو علانيّةً في أكثر من مكان (سواء في ليبيا أو في مصر) اقتداءً بسوريّا بشار الأسد. كما أنهُ ليْسَ بعيداً أيضاً عمّا حدث في الماضي من تأبيدِ السُلطة لصالح أنظمةِ الحِزبِ الواحد.
ومما لا شك فيه، أنَّ جانِباً مُهماً من العقدِّ الاجتماعيَّ الذي تكْشِفُ عنهُ “رُوحُ القوانين”، على حد تعبير مونتسكيو، إنَّمَا يظْهَرُ في البنيّةِ العامَّةِ للسُلطةِ السياسيةِ وكيفيةِ توزيعهَا. وتبعاً لذلك، فإنَ أيَةَ تعديلاتٍ دستوريّةٍ ينْبغي أنْ تنْعَكِسَ آثارُها الإيجابيّة بصورةٍ واضحةٍ على النموذج الكُليّ للنظامِ السياسيّ الذي تنقُلنا إليهِ، أوْ لا تنقُلنا إليه.
ومن ثمَّ، إذا ما قُدِّرَ لأيّةِ تعديلاتِ دُستوريّةِ أنْ تتوافقَ مع‏َ رُوحِ القوانين فسيُفْضي ذلكَ حتماً إلى تحقيقِ أمْرينِ رئيسين‏:‏
الأول: إنتاجُ نمطٍ للعلاقة بين الدولةِ والمجتمع يكونُ بديلاً للنمط السائد في العصور الوسطى والقديمة‏.‏
الثاني: بناءُ نظامٍ سياسيٍّ يُتيحُ للمجتمع تحقيقَ أكبر قَدْر مُمكن من الانسجام الحُر‏،‏ وبناءُ التوافُق من خلال نماذجَ وهياكلَ واضحة تُنظِّمُ التفاوُضَ الاجتماعيّ على المستوياتِ كافةً.
أي أنَّ المحكَ الأساسيّ في أيةِ تعْديلاتٍ دُستوريّةٍ إنمَّا يتلخصُ في التساؤلِ حولَ ما إذا كانت تسْعى إلى إعادَّةِ توزيعِ السُلُطاتِ، أمْ تعْزيزِ مَرْكزيتِها؟!.
ولدينَا بالطبعِ أسبابٌ كافيةٌ للتركيز على هذه الناحية. فبالنظر إلى مُجْملِ التعدّيلاتِ التي تمتْ بمصرَ مؤخراً يتَّضِحُ أنَّها في مُحصلتِها النهائيّة لمْ تُحقِق أيَّاً من الأهْدَافِ التي تمَّ تروِّيجُها من أجلِّ تمريرهَا. بل إنَّها، على العكسِ تماماً، أدَّتْ إلى تقْوّيةِ الاختصاصاتِ الكُليّةِ لرئيسِ الجُمهورية‏، وذلك بعدَمِ تصدِّيهَا لهذِهِ المُشكِلة أصْلاً مُكتفيّةً بتركِ الوضعِ على ما هو عليه، فَضْلاً عن أنَّهَا زادتْ من حِدَّةِ الاحتقانِّ السياسيِّ في المُجتمعِ المِصْريّ.
لِنَقْتَرِبَ الآنَ من وضعيَّةٍ مُغايرَةٍ تماماً في النُظُمِّ الدِيمُقراطيةِ الرائِدة. ففي الولايات المتحدة الأمريكيةِ، على سبيل المثال، استطاعَ الرئيسُ بوش كسْرَ ما يُسمى بـ “لعنةِ الرجلِ الأبيض” والبقاءِ حيّاً حتى نهايةِ ولايتهِ الثانيّة. ومع ذلك، يؤكد البعض أنه ليسَ بمقدورِهِ أن يقْهَرَ قاعِدةَ “قَيْدِّ الوُلايتَيّنِ” والتي نبعتْ من العُرفِ الدُستوريِّ الذي وضعَهُ جورج واشنطن، أول رئيس لأمريكا، حينَ رفضَ البقاءَ لفترةٍ ثالثةٍ، بالرُغمِّ من أنَّ “قيْدَ الوُلايتيّنِ” لم يكُن آنذاكَ قاعدةً قانونيّةً منصوصٌ عليها في الدُستورِ الأمريكيّ.
لكن بمرور الوقت تحوّلَ هذا العُرف إلى قاعِدةٍ ثابتةٍ لم يَخْرِقهَا سُوى رئيسٍ أمريكيٍّ واحد، هو روزفلت، الذي بَقِيَ في الحُكمِ لأربعِ وُلاياتٍ متتالية.‏ ومع أنَّ فترةَ حُكْمِهِ الإجماليةَ، كما لاحظ البعض، لم تَزِدْ على اثنتيْ عشرةً سنةً، وعلى الرُغمِ من أنَّها هي التي صنَعتْ أمريكا كقوَةٍ عُظمى بعد تحررهَا من الكسادِ العظيم وفوزها في الحربِ العالميةِ الثانية، لمْ يترددِّ الأمريكيونُ في وضعِ التعديل رقم ‏22‏ من الدُستور عامَ ‏1951‏ والذي نصَ رسمياً على “قيْدِ الوُلايتين” مُحدِدَاً مجموعهمَا بثماني سنوات‏.‏
ولمْ تكَدْ تَمْضِ أربعونَ سنةً على هذا التاريخ، فيما يؤكد د. محمّد السيَّد سعيد، حتى صارَ هذا القَيْدُ أمراً أساسيّاً بالنسبةِ للغالبيةِ العُظمى من الدساتيرِ الديموقراطية التي تأخُذُ بالنظام الرئاسي‏.‏ وفي أوروبا، لا يقْتَصِرُ هذا القيدُ على الدول القليلةِ التي تأخُذُ بالنظامِ الرئاسي، مثل روسيا ورومانيا، وإنما يمْتَدُ كذلكَ إلى الدُولِ التي تأخُذُ بالنظامِ البرلمانيّ كالنمسا، وإيطاليا، وألمانيا…إلخ.‏
أما فرنسا، فتبْقَي بمثابةِ الاستثناءِ الكبير والمُهم حيث لم يأخُذْ دُستورُها بقيدِ الولايتين‏، وإنْ أصبحَ فيما بعْدُ يُجَسِّدُ نوعاً من‏ “العُرْفِ الدُستوري‏”‏ خاصةً بعد أن التزمَ بهِ الرئيسُ الفرنسيُ الوحيد الذي أكْمَلَ وُلايةً ثانيةً مُتصّلَةً منذ عام ‏1945‏، وهو الرئيسُ ميتران‏.
وحقيقةُ القولِ إنَّ لهذا المبدأ علاقةٌ وطيدةٌ بإمكانيّةِ التحُول الديمقراطي من عدمه. فإذا مسحنا تجاربَ التحُول الديموقراطي خلالَ العِشرينَ عاماً الماضية لوجدْنَا أنَّ الدُول التي حققت انتقالاً ديمقراطيّاً قويّاً قد التزمتْ بهذا القيد، أو على الأقل تركتِ النظامَ الرئاسيَ كليّةً إلى النظامِ البرلمَانيّ‏.‏
أما الدُولُ التي لم تحقق انتقالاً ديموقراطياً، كبلادنا العربية، فقد استمر فيها الحُكمُ الرئاسيُ الأبدي حيْثُ يجثُمُ على صُدور الشُعوب العربيَّة حكامٌ جاوزتْ فتراتُ حُكمِهم رُبعَ قرْنٍ منَ الزمان (كصدام، والقذافي، ومبارك، وآخرون)‏.‏ وهو ما يذكرنا بدول آسيا الوسطى التي تولى رؤساؤُها السُلطةَ أثناءَ الحُقْبةِ السوفياتيّة، ولم يترُكْ أحدٌ منهم الحُكم إلا بسببِ الوفاة!!‏.‏ ونتيجةً لذلك، لمْ تشْهَد أيُّ دولةٍ من الدول الستِ انتقالاً ديموقراطياً نتيجةَ عدمِ التزامِ دُستورِ الاستقلالِ بهذا القيد.‏
أما في دُول شرق آسيا، فكانَ الوضعُ مُختلِفاً تماماً حيثُ أسْرَعَ المُجتمعُ بوضعِ “قيد الولايتين” بعد أنْ حقّقَ النضالُ الديموقراطيُ أولَ انتصارٍ لهُ،‏ وتُجسِّدُ كوريا الجنوبيةُ هذهِ الحقيقة بوضوحٍ تام‏.
ومع إقرارنا بأنَّ الديمقراطيةَ لا تعْني فقط مَحْضَ التداوُّلِ على السُلطة، إلا أنَّ فتحَ البابِ على مصراعيهِ أمامَ توّلي السُلطة الرئاسية دونَ قيدٍ زمنيٍ يؤدي ضرورةً إلى زيادةِ رُقْعَةِ الاستبداد حيث يتمكنُ الزعماءُ الأبديونَ من جمعِ السُلطاتِ الكُبرى ومَرْكَزتِهَا بأيديهم للدَّرجةِ التي يُصْبِحُ فيها من الاستحالةِ بمكانٍ استعادّةُ سيادةِ الشعب، أو تحقيقُ أدنى درجَةٍ من التوازُن المطلوب بين السلطات، أو حتى مُجردَ الدِّفاعِ، إذا ما اقتضتِ الحاجَةُ، عن الحُريّاتِ العامّة‏.‏
هَذا بالطبعِ فَضْلاً عن تحويلِ البلاد إلى ضَيْعَاتٍ شخْصيَّةِ لأسر الحُكام، وانعدام تحْقيقِ الحدِّ الأدْنى لقيم العدَّالةِ والحُريَّةِ والمُسَاوَّاة. إضافةً إلى إضْعَافِ قُدرَةِ الهيئاتِ النيابيّةِ، بَلْ والمجتمعِ المدنيِّ والسياسيِّ بأكمَلِهِ، والعجزِ عن مُوازَنةِ سُلُطَاتِ الرئيس التنفيذية الفعلية ممّا يؤدي إلى تَعَطُّلِ آلياتِ الدِّيموقراطية واعتبارِ القفز عليها أمْرَاً مُسْتَثَاغَاً وشَائِعاً لدّرجةِ أنْ تزداد الشُعوبُ المغلوبةُ على أمْرهَا قنَاعَةً، يوْمَاً بعْدَ يوْمٍ ،بأنَّهُ مَا مِنْ أمَل أو حتى فَائِدةٍ في التغيير، وأنَّهُ لَيْسَ في الإمّكَانِ أفْضَلُ ممَّا كان!!.‏
© معهد كيتو، منبر الحرية، 22 يناير 2009

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

كثر ما يثير الانتباه فيما يحصل نتيجة مجزرة غزة وتداعياتها هو حجم وسعة الغضب الشعبي واتساع رقعة التضامن العربية والعالمية التي قلّما نراها محتشدة أو مجتمعة للاعتصام أو الاحتجاج على أوضاع أخرى في العالم العربي لا تقل هولا عما يحصل في غزة.
ولكن من جهة أخرى، إن الأمر نفسه يدعو للرثاء والتعجب إذا ما سألنا عن جدوى هذه التظاهرات والهتافات ونتيجتها، فليس هناك تحرّك شعبي على طول العالم العربي له هدف معين سوى الاحتجاج وإيصال الصوت، حيث يبدو الأمر وكأنه بيان شجب وتنديد ولكن بطريقة شعبية! إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الجماهير وقادة الرأي في العالم العربي دائما يعيّرون السلطات والقمم العربية بأنها تكتفي بالشجب والتنديد.
منذ نكبة فلسطين والجماهير العربية تنزل الشوارع وتتظاهر، وتتوالى المشاهد والمظاهرات مع كل مجزرة و حرب و اعتداء، دون هدف معيّن أو نتيجة تذكر، ودون أن تستطيع تلك الجماهير في أي بلد عربي أن تجعل سلطة ما تتراجع عن قرارها أو تغيّر رأيها، أو تقيل ولو وزيرا !
في مقابل ذلك الكرم الجماهيري الغامر في الوقوف إلى جانب القضية الفلسطينية – وهي قضية حق وتستلزم التضامن وحشد الدعم والتأييد – نلاحظ غيابا فاجعا للجماهير عن قضايا أخرى ذات صلة بحياة المواطن المعيشية أو بواقع البلد الداخلي من حقوق إنسان وحريات عامة ومجتمع مدني تضيق رقعته يوما بعد آخر في العالم العربي، وكأن تلك الحرية الفائضة في التعامل مع القضية الفلسطينية تقابلها حرية شبه معدومة أو شحيحة في التعامل مع قضايا الداخل، الأمر الذي يثير الكثير من التساؤلات عن هذا الازدواج والتناقض الفاضح، مما يجعلنا نحاول أن ندقق أكثر في طبيعة تلك التظاهرات العامرة، لندرسها في العمق ونحلل أسباب عدم قدرتها على الفعل وإحداث التغيير المنشود.
مما يمكن ملاحظته حول هذا الأمر، أن السلطات العربية بسماحها لنزول شعوبها إلى الشارع تحقق بشكل جزئي شيئا من أهدافها المتمثلة في تخفيف الاحتقان الشعبي وتوجيهه في اتجاه آخر فهي – باستثناء مصر والسعودية حاليا- تقف في صف جماهيرها ظاهريا ليبدو الأمر وكأن مواقف السلطات متناغمة مع مواقف شعوبها، شرط أن يبقى ذلك ضمن الحد المسموح به سلطويا. إضافة إلى أن هذا الأمر يفرّغ مكبوتات الجماهير ويريحها لأنه ينفّس احتقانها المتراكم، أي أن السلطات تستخدم المأساة الفلسطينية كمنفّس لاحتقان الشعوب خوفا من وصول ذلك الاحتقان إلى نقطة لا يمكن ضبط الأمور بعدها.
إن محاولة فهم لماذا تبدو آليات فعل الجماهير ضعيفة ولا تؤدي أي نتيجة عملية على أرض الواقع، تبدو معقدة ويتداخل فيها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، حيث الشائع هنا أن السلطات التي تحكم قبضتها على مجتمعاتها هي السبب الرئيس في ذلك، ولكن هذا جزء من المشكلة، حيث هناك الكثير مما لا يرى حول هذا الأمر، منها : ضعف ثقافة المجتمع المدنية وانتشار الثقافة الطائفية، وضعف بنى وثقافة الأحزاب المعارضة والمؤيدة للسلطات معا، حيث لم تستطع هذه الأحزاب حتى اللحظة بلورة بيان عمل أو آليات فعل توصل إلى نتيجة ما فيما يتعلق على الأقل بفلسطين كقضية جامعة.
تبدو لدينا آليات تفعيل تحركات الجماهير ضعيفة جدا، بسبب عدم وجود ثقافة مدنية ومواطنية تؤمن بأهمية الفرد كسيد لنفسه، فكل البنية الثقافية الموجودة في أغلب الأحزاب العربية تحل الجماعة والطليعة والنخبة والطبقة محل الفرد، ليغدو القرار النهائي بيد هذه “الجماعات” على اختلاف مسمياتها حتى لو تعلّق الأمر بقرار يتعلق بأبسط الأشياء، وهنا نجد هذه الأحزاب غير قادرة على إدارة شؤونها إلا بطريقة رثة، فكيف ستكون قادرة على تفعيل تظاهرات جماهيرها ؟
نستنتج من ذلك أن أحد أسباب عدم قدرة الجماهير على فعل شيء، هو نتاج أزمة الأحزاب السياسية وآليات عملها في العالم العربي، دون أن ننسى النقابات بمختلف أشكالها الملحقة إما بالسلطة أو بالأحزاب المكوّنة لها، وهي في كلتا الحالتين تفقد مسوّغات وجودها، لأن العمل النقابي يستلزم الحرية في القرار والتحرك، وهنا نرى أن السلطات العربية نتاج هذا الوعي المأزوم الذي يقلب المفاهيم رأسا على عقب.
حيث أن الشعب العاجز عن المطالبة بحقوقه الذاتية والمدنية، والعاجز عن التظاهر ضد حكومته لتحقيق مكاسب اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية، سيكون عاجزا بالتأكيد عن تحقيق أي شيء يذكر لنصرة فلسطين وأهلها، لأن المواطنين الخائفين هم رعاع ومسجونين لا يمكنهم إعطاء الحرية للآخرين، ببساطة لأنهم لا يعرفونها, وفاقد الشيء لا يعطيه !
ويبدو هذا الأمر نتاج الوعي المأزوم الذي ساد منذ نصف قرن في الوعي العربي من خلال شعار (لا صوت يعلو على صوت المعركة)، حيث كانت تغيّب كل القضايا الداخلية وتقمع باسم القضية الفلسطينية وشعارات التحرير، لنكتشف بعد نصف قرن أن فلسطين ضاعت والداخل العربي ازداد تخلّفا وبعدا عن العصر.
إذا أردنا فعلا التقدم لا بد من قلب المفهوم السائد ليصبح كالتالي : ربح المعركة يبدأ من بناء الداخل العربي، وإعطاء الجماهير العربية حريتها الكاملة وحقها في محاسبة السلطات وسؤالها، كما لا بد من تفعيل مؤسسات المجتمع المدني، وإطلاق قوانين عصرية للأحزاب، لتغدو الجماهير قادرة على رفع أفعالها إلى ما يليق بمستوى الحدث، بدل تلك الأصوات التي تصم الآذان وترهقها دون أثر يذكر!
© معهد كيتو، منبر الحرية، 17 يناير 2009.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

الحداثة من المفاهيم التي جرى حولها جدل ولغط كبيران، فإذا كانت الحداثة انبنت بالأساس على المعنى اللغوي، فإنها حملت إيحاءات ومعاني ومضامين جديدة، فغالبية الباحثين يرون أن بواكير الحداثة بدأت منذ أواخر القرن التاسع عشر في الغرب وفي حقول الأدب بعد أن قوضت الرومانسية أركان الكلاسيكية، فنشأت الحداثة على أيدي شعراء فرنسا شارل بود لير، ورامبو، ولامارليه. دعا الحداثيون إلى التحرر من الكثير من القيود، والثورة على التقليد والمحاكاة، ورأى بعضهم أن الحداثة جاءت نتيجة تراكمات وإرهاصات للمذاهب والتيارات الأدبية والفكرية السابقة للحداثة…
ولكن هناك من يعود بمصطلح الحداثة إلى القرن الخامس عشر، أي ربما إلى حركة مارتن لوثر الذي قاد الشقاق البروتستانتي ضد الكنيسة والتمرد على سلطتها الروحية، وثمة من يربط الحداثة بديكارت صاحب مذهب الشك في القرن السابع عشر، أي إعمال العقل، وإعادة النظر في كل شيء، ومنهم من يربط المصطلح بعصر التنوير في القرن الثامن عشر، حيث ميدانه العقل والاستنارة على ضوء العلم والتكنولوجيا، وأخيرا هناك من يربط مفهوم الحداثة بمطالع القرن العشرين. أي في عصر الإذاعة والكهرباء ووسائط النقل السريعة، ووسائل الاتصالات المبتكرة.. كل هذا الاختلاف في تاريخ هذا المصطلح ناجم عن الاختلاف في تحديد غرض ومفهوم الحداثة، واختلاف الرؤية إليها…
وهنا تحدوني مبادرة للقول: إن التحديث أو الحداثة ــ رغم التمايز بينهما كما يرى بعضهم ــ حالة دائمة، وعملية مستمرة، في إعمال الفكر، ومجاوزة الواقع المعيش، والتطلع نحو التجديد، ورفض لكثير من القيم التقليدية السائدة. لكن، قد لا يتجلى تبلورها واضحا كما هي حال الحداثة اليوم، بسبب معاندة الظروف، واندحار المفهوم أمام قوة وهيمنة الفكر السائد. لذلك فالحداثة أو التحديث قد تأخذ فترات من السبات القسري وقد تطول الفترة، لتظهر ثانية ـ ربما ـ أكثر جدة وقوة وغنى، وفي هذا السياق نقول: الم تكن دعوة أبي العلاء المعري، الذي كان يرى أن لا إمام سوى العقل، وقوله: ( فكل عقل نبي ) رفضا للفكر السائد، ودعوة للحداثة، أو بمعنى آخر دعوة لتحديث العقل، فقد تهكم المعرّي من معتقدات وطرائق العبادة لدى الديانتين المسيحية والإسلامية، يقول : ( كلّ يعظم دينه…. ياليت شعري ما الصحيح ) واعتبر الدنيا الثانية، أي الآخرة خرافة، لتأتي بعد ذلك فترة السّبات، والركون إلى الفكر التقليدي السائد، والاكتفاء به، دون حق الاجتهاد، هذا في عهد الإمام الغزالي، الذي رفض إعمال الفكر في هذه المناحي الجدلية، ورأى السلامة في إتباع سنن الأقدمين، والخطر في البحث والتقصي.. وكانت الظروف مؤاتية لرؤيته السلفية، فخمدت جذوة التفكير الحر، وأخلدت إلى كمون أو سبّات كما قلنا قبل قليل ولو إلى حين…
الحداثة بحسب تعبير رولان بارت، طوفان معرفي، وزلزال حضاري عنيف، وانقلاب ثقافي شامل…الحداثة ـ أيضا ـ موقف عام وشامل ومعارض للثقافات التقليدية السائدة.. الحداثة تدعو إلى إعادة النظر في كثير من الأشياء، والتحرر من كل القيود.. الحداثة ثورة على كل ما هو تقليدي في المجتمع.. الحداثة عملية تقدمية، حتى لو كان المخاض عسيرا، فهي تنشد عصرا جديدا يقترن بالتطور والتقدم وتحرر الإنسان.. الحداثة رؤية فلسفية وثقافية جديدة للعالم..الحداثة حالة وعي الواقع وبالتالي نقده.. الحداثة تتكئ على مكونات وعناصر مثل التصنيع، العلمانية، الديمقراطية، عند مطالبتها التوسع في وسائل الإعلام، وفي المشاركة السياسية، وهي كثيرا ما تنتقد الموروث الثقافي الديني بهدف  التغيير نحو الأفضل. الحداثة دعوة لانتصار العقل على النقل، وعرض المنقول من السلف لمنخل العقل مهما كان مصدره، من دون تقديس لأي نص، وتمريره بالتالي كحقيقة منزهة …
يعد الشاعر السوري أدونيس من أبرز رواد الحداثة العرب، كما يعد المنظر الفكري لهذا المصطلح، وأحد الراديكاليين المتحمسين للدفاع والترويج للحداثة فهو يرى أن ولادة الحداثة تاريخيا نتيجة: ( التفاعل والتصادم بين موقفين وعقليتين في مناخ تغير ونشأت ظروف وأوضاع جديدة ) ويرى أيضا من أنه 🙁 لا يمكن أن تنهض الحياة العربية، ويبدع الإنسان العربي، إذا لم تتهدم البنية التقليدية السائدة للفكر، ويتخلص من المبنى الديني التقليدي الاتباعي ) ويقول الدكتور شكري عياد إن الحداثة العربية قد انبثقت نتيجة شعور النخبة العربية المثقفة : ( بسقوط الحلم العربي… وأصبحت الحداثة مخرجا مناسبا من حالة الضياع التي سقط فيها جيل الثورة والأجيال التالية) فضلا عن ذلك فهو يرى أن الحداثة بمدلولها عند العرب والغرب على حد سواء: (تتجه إلى تدمير أعمدة النظام القديم ) ويقول إلياس خوري الكاتب اللبناني في مرحلة سابقة بأن ( الحداثة العربية هي محاولة بحث عن شرعية المستقبل، بعد أن فقد الماضي شرعيته التاريخية في عالم توحده الرأسمالية الغربية بالقوة )…
و أخيرا…من الأهمية بمكان، الإشارة إلى سمات الإنسان الحديث أو الحداثي، فمن أهم تلك السمات، استقلالية الفرد عن الرموز التقليدية، في الأسرة كالأبوين، أو الأخ الكبير حتى، وعن التبعية لزعماء القبيلة، ورجال الدين، وبالتالي يكون ولاؤه للوطن الكبير وحده؛ احترام المواعيد، الإيمان بعلوم الطب كعلاج، بعيدا عن السحر والشعوذة والتمائم، الاهتمام بالتخطيط في حياته، مقـدّر لظروف ضبط الإنجاب، هو أيضا  داع لقراءة العلوم، متابع للأخبار السياسية على صعيد الداخل والعالم، مؤمن بالتغيير وراغب فيه، ومؤمن بقدرة الإنسان الكبيرة على فعل التغيير… هذا بخلاف الإنسان القديم الذي إذا ما عكسنا تلك السمات التي أتينا على تناولها، فهي كثيرا ما توائم نظرته في هذي الحياة، فهو عادة يتميز بالسلبية والإذعان لما هو قائم، غير محبذ للتغيير، وغير مؤمن بقدرة الإنسان على فعل التغيير، هو مؤمن باستمرارية الحالة في الطبيعة والمجتمع دون اعتقاد منه بإمكانية التغيير.! هذه كانت أهم السمات التي خرجت بها جامعة هارفرد في الولايات المتحدة الأمريكية إثر بحث ميداني شملت دولا عديدة ومن مختلف القارات…
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 07 يناير 2009.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018