peshwazarabic

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

ممّا لا شكَ فيهِ أنَّ مبدأ المُساوّاةِ بينَ البشر، على اختلافِ انتماءاتِهمُ العقديّةِ والفكريّةِ والسياسيّةِ، قد تشكّلَ عبْرَ آلافِ السنين بلْ ولا يزَالُ في طورِ التشكُّل حتى الآن. ولعلّ مرورَهُ بتلكَ الحُقبِ الزمنيّةِ المديدةِ قدْ سَاهَمَ بدورهِ في غموضه للدَّرجة التي أصبح فيها من الصعوبة بمكان الوقوفُ على معْنَاهُ وفهمُ طبيعته. وآيةُ ذلكَ، أنَّ ما نَفْهَمْهُ اليومَ من عبارة ” المُساوّاةِ” يختلِفُ اختلافاً كبيراً عمَّا كانت تَعْكِسْهُ من معنىً لأيٍ من مُواطني أثينا إبّانَ عَهْدِ بيركليز، على سبيل المثال.
بل لعلَّنا نُفاجأ إذا مَا علِمنَا أنَّ أرسطُو لم يَجِد أدْنَى غَضاضةً في أنْ يُصرّحَ في كتابِهِ “السيّاسة” بأنَّ الفِطرَة هي التي أرَادتْ أنْ يكُونَ البرابِرة عبيداً لليونان، وأنَّ الآلهةَ قد خلقَتْ نوعينِ منَ البَشرْ: نوعٌ رفيعُ المقامِ زوّدَتهُ بالإرادةِ والعقل، وهم اليونانُ بطبيعةِ الحال، وآخرٌ لمْ تُزوّده إلا بالقوةِ الجُسمانيَّةِ فقط، وهُم غيرُ اليونانيين!.
أمَّا في الجزيرَةِ العربيَّةِ، في حُقبة ما قبلَ الإسلام، فكانتِ الغَلبَةُ هي المِعيّارُ الوحيدُ لتحقيق السِيَّادةِ ومنْ ثَمَّ لتحديدِ مَنْ هُمُ الأحرارُ ومَنْ يكونُ العبيد، ولدرجة أنَّ بعضَ جبابِرةِ العرب كانوا يقيسُونَ عِزَّهُم بإذلالِهم للآخرين!
ومَعَ أنَّ الإسلام أقرَّ المُساواةَ بينَ الناس بعدم تقرير التَّمايُز بينَ البشر لأي سببٍ كان؛ إلا أنَّ الواقِعَ التطبيقيّ لمبادئِه (خاصَةً في المراحِلِ المُتاخِرة) كانَتْ أبعَدَ مَا تكونُ عن ذلك بحيثُ أدَّتْ، فيما أدَّتْ، إلى إحداثِ نوعٍ من العِلاقاتِ غيْر المُتوازنّةِ على مُستوى كُلٍّ مِن: توزيعِ السُلطة، واختزالِ العِلاقاتِ الاجتماعيَّةِ فى نمطٍ ثُنائِيٍّ من السيَّادَةِ والتّبعيَّةِ، ممَّا أدى إلى تهْمِيشِ القُوى الفاعِلة في عمليَّة الإنتاج، والمُشاركةِ السياسيَّة…إلخ.
صحيح أنَّ الإسلام قد بسَطَ لشعوبِ القرنيْنِ السابع والثامن حيَّاةً أكثَرَ مُساوَاةً وحُريَّةً وأمنَّاً من أي عَصْرٍ مَضَى، وأنَّهُ في كثيرٍ منَ الأحْيَانِ حدَثَ التحوُّلُ الإراديُّ من قِبَل شُعوبِ الأرض للإسلام نتيجةً للخدَماتِ الكبرَى التي قدَّمَها المسلمون أنفسهم دينيَّاً وإداريَّاً وتعليميَّا؛ إلا أنَّ الخيّاراتِ التي كانت مُتاحةً لشعوبِ المناطق التي غزتهَا الإمبراطورياتُ الإسلاميَّةُ لم تكُن تَصُّبُ في اتجَاهِ المُساوّاةِ وتحقيقِ الحُريَّةِ الباحدينيَّة، وهي: (الدخول في الإسلام- دفعُ الجِزيّة- القتال).
أضِفْ إلى ذلكَ انتشار الفَهْم المغلوط لدى معظمِّ المُسلمينَ بأنَّ محلّ التفاضُل بالتقوى، كما هو منصوص عليه في الآية الكريمة “إن أكرمكم عند الله أتقاكم” (الحجرات: آية 13)، في الحيَّاةِ الدُّنيا!. ممَّا يكونُ له أثرٌ سلبيٌ في آلياتِ تطبيقِ القانون على المواطنينَ، أو في إعْمَالِ مبدأ المُواطنةِ الكامِلة والمُساوَّاةِ التامَّةِ بينهم في تولي المناصب والترقي …إلخ. بينمَا المقصودُ بأنَّ محلَ التفاضُل بالتقوى لا يكونُ إلا في الآخرةِ أمامَ الله، وليْسَ في الحيّاةِ الدُّنيَا.
أمّا في أوربا العصور الوسطى، فقد ظلَّ لورداتُ وباروناتُ الأراضي يتمتعونَ حتى القرنِ الرابعِ عشر بـ “حَقِّ الليلّةِ الأولى”!!، أي قضاؤُها مع كلِ عَروسٍ يَعْقِدُ عليها أحدُ “الأقنَان” ممّنْ يقومونَ بزراعةِ الأراضي وتنتقلُ تبعيتُهم معهَا في حالاتِ البيْعِ والشِّرَاء!.
وفيمَا يتعلَّقُ بالمساواةِ في الحقوقِ السياسيّة، فمنَ المعلومِ أنَّ اليونانيينَ قد بَدأوا باستّخدامِ عِبَارة “Demokratia” بحدُّودِ مُنتصفِّ القرنِ الخَامِس قبلَ المِيلادِ للدّلالَةِ على “حُكمِّ الشَّعب”. فهلْ كانَ ذلكَ يعْني اشتراكُ جميعِ طوائِفِ وطبقاتِ الشَّعب في الحُكم؟، “لا” بطبيعة الحال.
أمّا في ظِلِّ شريعَةِ رُومَا التي سادَتْ لفتراتٍ طويلَةٍ منَ التَّاريخ، فكانَ الناسُ يُقسَّمُونَ إلى أحرارَ وغيرِ أحْرَار، والصِنفُ الأول يُقسَّمُ إلى طبقتين: أحرارٌ أُصَلاء هُمُ الرُومَان، وأحْرَارٌ غيْرُ أُصَلاء هُمُ اللاتين. أمَّا غَيْرُ الأحرار فكانوا أنواعاً أربعة: الأرِّقَاءُ، والمُعْتقُّونَ، وأنْصَّافُ الأحْرَار، والأقْنَانُ التَّابِعُونَ للأرض!
وفي كلِّ الأحوال، لم يكُن “الدّيمُوس” يضُمُ إلا عدداً يسيراً منَ السُكان البالغين في أثينا، حتَّى في أوجِ ازدهار الدِّيمُقراطيَّةِ بها.  وواقِعُ الأمر، أنَّهَا لمْ تكُن فريدَّةً في هذا الإطار فعلى الدَّوام هُناكَ من يتمُّ استثناؤهم من العمليَّةِ السياسيَّةِ برمتها.
ويذكُر روبرت دّال في كتابه “Democracy and its Critics” أنَّهُ حتى حلولَ القرنِّ العشرين، عنَّدما حصلتِ النِساءُ أخيراً على حقِّ الانتخاب، كان عددُ الذينَ يتمُ استثناؤهن يزيدُ كثيراً يوماً بعدَ يوم عن عدد المُشاركات.
أمّا على مستوى الفكر العربي المعاصر، فإنّنا نُلاحِظُ ابتداءً من رفاعة الطهطاويّ في كتابه “تخليصُ الإبريز في تلخيصِ باريز” اهتماماً متزايداً بمسألةِ المُساوّاةِ في الإسلام حيث أعلنَ صراحةً أنَّ مفاهيمَ فرنسيَّةً مثلَ الدُّستور والجُمهوريَّة والحريَّة تُرادِفُهَا في المجالِّ الإسلاميّ قيمُ العدلِّ والإنصافِ والشُورَى والمُسَاوَّاة.
وفي السياق ذاته، يكثُرُ الحديثُ اليوم عن مقاصِد الشريعة وتطبيقاتِهَا العملية المتعلقة بمصالحِ العِباد، وعلى رأسها تحقيقُ العدالةِ الاجتماعيَّة والمُسَاوَّاةِ بين الناس. لكن يبقى الخِطابُ العربيُّ في عُمومِهِ، سياسيّاً كانَ أو دينيَّاً، بعيداً كلَّ البُعدِّ عن الاجتهاداتِ العالميّة الخاصّةِ بنظرياتِ المُساوّاةِ والجِدالُ الذي يتسعُ حولَها يوما بعد يوم، مُحْتفِظاً بتحليقهِ في فوضى اليوتُوبيا.
وبحسب مَا يؤكد نُوحُ الهَرْمُوزيُّ في مقالِه “قِراءةُ لنظريَّاتِ المُسَاوَّاة والعدَّالةِ الاجتماعيَّة”، فإنَّهُ بالإمكان حصْرُ أهمُّ هذهِ النظريات إجمالا في مذهبينِ رئيسينِ يتحدَّدانِ وفْقَ رؤيتِهمَا للمعيار الأنسب الخاص بقياسِ العدَّالةِ وهما: مذهبُ العدَّالةِ التوزيعيَّة، ومذهبُ العدالةِ الإجرَّائيّةِ أو التَّاريخيّة.
ففيمَا تعْتَمِدُ المدرسةُ الأولى في قياسِ العدَّالةِ على وضعيَّةِ النتائِج النِهائيَّةِ للأفراد، أي التساؤُل عَمَّن يملُك وليْسَ عن كيفيَّةِ حصولهِ على ما في يده، تأخُذُ مدرسَةُ العدَّالةِ الإجرائيَّةِ مُجْمَلَ الظُروفِ الزمنيَّةِ التي ساهمتْ في الوصولِ إلى تلكَ النتيجة في الاعتبار. وبالتالي، فإنَّها تُولِي اهتماماً بالغاً بآليَّةِ الحُصولِ على الثرواتِ والمُدَّخراتِ والمُمتلكاتِ، وليْسَ فقط بوضعيَّةِ نتائِجهَا النِهَائيَّة.
يترتَّبُ على ذلكَ أيضاً، أنَّهُ فيْمَا تَعْني العدَّالَةُ لدى الفريق الأول المُساوَّاةَ في النتائِج، يَنْحُو الفريقُ الثاني نَحْوَ تحدِّيدِهَا بعدّالةِ القواعِد والإجراءاتِ المؤديَّةِ إلى حيَازَة الثَروة، وبما يَضْمَنُ أخْذَ الفُروقِ الفردِّيةِ بيْنَ المواطنين/المتنافسين في الاعتبار.
وختامَاً يبقى القُولُ، إنَّ ثَمَّةَ هُوَّةً سحيقةً تفصِلُ ما بينَ نظرياتِ المُساوَّاةِ والعدَّالةِ الاجتماعيَّةِ وبينَ تحقُقِهَا على أرضِّ الواقع. وأبسَطُ دليْلٍ على ذلكَ أنَّه رُغْمَ مُرور ستينَ عامَاً على اعتمادِ “الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان”، والذي يَنُصُ في مادتِهِ الأولى على أنَّهُ “يولدُ جميعُ الناسِ أحْرَاراً ومُتساوينَ في الكرَامَةِ والحُقوق”؛ إلا أنَّ اتسَاعَ دائِرةِ الانتهاكاتِ وارتفاعَ وتيرتهَا في مُعظم أرجاءِ العالَم يَجْعَلُ مِنهَا مُجرَد “حِبْر على ورق”، فضْلاً عن اتبّاعِ المَعاييرِ المُزدوجَةِ في تطبيقها من قِبَلِ الدُّولِ العُظمَى، ولعلّ في الانتهاكاتِ الإسرائيليَّة الأخيرة أبلَغُ دليلٍ على ذلِك.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 02 يناير 2009.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

تنكشف لك حين تعتلي سدة التدريس في إحدى الجامعات الأميركية، وتكون على اتصال مباشر مع الطلاب، تنكشف على الفور حالة من الرغبة الغريزية المفرطة لدى الطالب الأميركي في تحصيل أسباب المعرفة لتخصصه المختار، واهتمامه بأدق تفاصيله العلمية، ومتابعته الاستقرائية والبحثية والفقهية لكل ما يتعلق بالمادة الدرسية، التي تراه ينكبّ عليها بانحياز الفاتح الغالب.
ففي إحدى قاعات جامعة ميريلاند في العاصمة الأميركية واشنطن حيث أقوم بتدريس مادة اللغة العربية، كنت أتابع على مدار النيف وشهر من تاريخ كتابة هذه السطور، أي منذ بدء الفصل الدراسي الشتوي للعام 2007، أتابع لهفة الطلاب العلمية ـ الذين لم تكن في البدء معرفتهم باللغة العربية لتتعدّى معرفتي أنا باللغة الصينية ـ ، وأحاول سبر تلك الحالة السائدة في قاعة الصف والتي ترسم مسار الطلاب مجتمعين، وبلا استثناء، رغم اختلاف اختصاصاتهم الجامعية، كون اللغة العربية هي مادة من المواد التي اختاروها لتكون مادة مكملة لاختصاصهم الأساسي في الجامعة.
أما القاسم المشترك بينهم فهو ذاك الخط الصارم من الإصرار على تعلم اللغة  الجديدة بكل ما تفرضه عليهم من تحد أبجدي ولفظي ولغوي. كانوا ” يجاهدون” – والجهاد هنا هو جهاد تحصيل العلم – تماما كما أراده الإسلام الحنيف قبل أن يتم اختطافه على أيدي أصحاب الأجندات السياسية والعقد السلطوية، يجاهدون لغزو أرضية لغة الضاد العنيدة، وتلفظ أحرفها الجذلة التي تنفرد بها دون اللغات، حتى أن أحدهم، وهو الطالب الذي كان يلطّف الجو المشدود أثناء تناول المادة بنكاته الطرية، كان كثيرا ما يقول لي إن حرفي الحاء والقاف أصاباه بأشكال البحة والنزلات الصوتية في الحنجرة!
نعم، إنها العقائدية ـ عقائدية المعرفة التي ينفرد بها الطالب الغربي، وأخص هنا الأميركي، حين يختار راغبا، وبمحض إرادته مادته العلمية التي ستكون حجر الأساس لمستقبله المهني! عقائدية المعرفة التي دفعت بالغرب إلى صفوف المقدّمة من الركب الحضاري المعاصر، على نقيض ذلك الضباب الغامض من الغيبيات التي يلف حاضر شعوب بعينها في شرق غارق في أوهامه، شرق بدأ يستدعي أسباب جهالته المذهبية وينبش في رماد عقده التفريقية،  ليقع  خيرة شبابه بيد حفنة من صيادي المنابر ومهووسي الترويج الأصولي والانحراف الطائفي، ويُزجّوا كالأضاحي في طابور التشدد والهذيان الديني التجهيلي والحقن الماضوي العنفي في مداورة  مفضوحة على  تعاليم الإسلام الحنيف ومقايضة سياسية على تعاليمه الأصيلة.
حين كنت أشرح للطلاب الدور اللغوي لتاء التأنيث المربوطة، وكيف تغيّر من معنى المفردة حين إضافتها إليها، ضربت لهم مثالا لمفردتين هما: جامع وجامعة!  ولأني ” لحرمة المكان الأكاديمية” ولـ “مهنية” في تركيبتي الشخصية، أتحاشى أن أخوض في غرفة الصف أي حوار يخرج بنا عن سياق البحث العلمي، ولأني أقرّ أن الوقت الذي يصرفونه معي هو وقت للمعرفة والعلم وليس للتوجيه السياسي والتجييش الغيبي، لهذه الأسباب مجتمعة لم أذهب بهم إلى الفارق الفقهي بين المفردتين كيف اتسعت هوّته في يومنا هذا، وكيف كان الجامع في العهد الإسلامي الأول تماما كالجامعة، بالحكم الوضعي، حيث عرف الجامع في حينها مكانا للعبادة والحوار وتبادل الرأي والمعرفة أيضا، بينما تحوّل اليوم إلى منبر للتهييج الطائفي، والاصطفاف الديني، والتشهير الاجتهادي الذي يتجلى في رشق الفتاوى العجاف باستهتار بليغ بتعاليم بالدين الإسلامي أولا، وبالعقل العربي المغلوب على أمره تاليا. وكلنا شهد تلك الذلة التي تشدّق بها واحد من أصحاب العمامات الجزاف، والتي  أطلق عليها “فتوى إرضاع الكبير”، وما أدراك ما إرضاع الكبير!
نعم، أستعيدها تلك الهوة، وأنا أقرأ أوراق الامتحان النصفي لطلبة لم يمض على ولوجهم باب اللغة العربية الأسابيع الستة، وأجدهم يتعاملون مع هذه اللغة، رغما عن أجنبيتها، بيسر العارف ومرونة المحب. أستعيد تلك الهوة العلمية والثقافية التي تفصل بين هؤلاء الشباب الذين يتعلمون العربية وبين أصحاب اللغة الأصليين وما يعاني شبابهم من تغييب وحجر على المعرفة ابتداء بما يتلقونه من مواد درسية في المناهج التعليمية ” العثمانلية” التي هي أشبه بالكتاتيب المعرفية في أفضل الأحوال، أو أداة لنفخ بوق العصبية وبث الفرقة والعنصرية والفوقية المذهبية، في أسوئها، وصولا بهؤلاء الشباب إلى مطبّ الدعوات الأصولية الموتورة بلهجة العنف الطائفي البغيض؛ والتي مجتمعة تتضافرمع جهود الأنظمة الاستبدادية في كم الأفواه وحجر الحريات وحجب السيالات المعلوماتية وفي مقدمتها شبكة الآنترنت الدولية على حساب ترويج الغيبيات، مذهبية كانت أم سياسية أم اجتماعية، والتي يتناوب على إشاعتها كل من الأنظمة القهرية والجماعات الدينية التكفيرية في حلف شيطاني بينهما غير معلن!
نعم، أشعر بالفخر بإرادة هؤلاء الشباب على لوي ذراع الجهل، وبفخر مواز بقدرة اللغة العربية النافذة على اختراق حاجز الثقافات، اللغة الحيّة التي دوّن بها القرآن العربي والمعلقات الشعرية من قبله. وفي الوقت عينه ينتابني حزن منيع لأن في أرض لغة الضاد جيل من الشباب العربي يُجَرّ قسرا إلى سراديب الغيبيات التي يفرزها ذهن مريض لفئة تمرست في التفريغ الفكري المبرمج والتعتيم الدنيوي الأجوف لصالح كل ما هو غيبي غابر ومقيت، فئة من فصّلوا لغة الله عصا من جهنم يهشّون بها قطيع الواهمين بأن الجواب على أسئلة الهوية والحرية والسيادة يكمن في إلغاء الآخر، ورفضه، وحتى تصفيته، بعيدا عن إعمال الفكر لنبذ الجهل وتحقيق التقارب الإنساني بين الشعوب كافة كما أراد الله لخلقه في ذكره الحكيم: “وسخّر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون”، آية 13 من سورة الجاثية.
نعم، أنا على يقين أن هذا الجيل من الشباب العربي سيستعيد عنفوانه المعرفي ويركل أسباب انكفائه ويصنع مصائره بإرادته الخاصة واختياره المحض، ما يلحقه بمسيرة أترابه من شباب العالم ، مسيرة من يكافئونه في القدرات الذهنية  ولكن يتفوقون عليه في إرادة الاختيار!
© معهد كيتو، منبر الحرية، 25 ديسمبر 2008.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

لا تزال الأفكار الخاصة بحقوق الإنسان، وتطوراتها المتعددة، تلاقي ضروباً مختلفة من اللامبالاة، أو الفهم المنقوص، أو الوعي المغلوط والمبتسر في قطاعات واسعة من المواطنين في المنطقة العربية، وربما يرجع ذلك إلى أن منظمات حقوق الإنسان، تركز دائماً على الانتهاكات الجسيمة للحقوق السياسية، وهي أمور تهم الصفوة السياسية المعارضة في البلاد، أكثر من القطاعات الشعبية، التي تركز غالب اهتماماتها على أمور الحياة اليومية ومشاكلها وضغوطها المتعددة. وهناك أسباب أخرى تركز على بعض الجوانب الهيكلية التي تواجه دعاوى حقوق الإنسان، وخاصة في ظل المرحلة الراهنة في التطور السياسي في المنطقة العربية، ولاسيما في ظل تفاقم المشكلات الاقتصادية – الاجتماعية وتفجر العنف الاجتماعي والسياسي ذي الأقنعة الدينية، وتبلور اتجاهات سياسية- دينية يطرح بعضها مجموعة من التصورات والمفاهيم التي قد تشكل في نظر دعاة حقوق الإنسان موقفاً مضاداً لهذه الحركة العالمية الإنسانية.
ما هي المصادر التي تقاوم نظام حقوق الإنسان؟ ثمة مصادر متعددة تغذي الوعي والمخيلة الجماعية بتيارات من اللامبالاة، أو الرفض والعداء لفكرة حقوق الإنسان وتطوراتها المتعددة. أول هذه المصادر الربط بين نظام حقوق الإنسان والنموذج الحضاري والثقافي الغربي، واعتبار هذا النظام أجنبياً، ومن ثم يحدث ارتباط ذهني وشعوري ووجداني بين هذا النعت أجنبي- غربي وبين كل المواريث المرتبطة بالصراعات مع الغرب، وتتدفق النعوت السلبية، كالهيمنة والاستعمار والاستغلال والاختلاف الديني والتحلل الأخلاقي، كل هذه الصور السلبية النمطية التي صيغت عن الغرب في علاقته بالعالم العربي.
وتزداد هذه العقبات من مصدر هام، هو طبيعة النظام الثقافي والقيمي الذي تطرحه بعض الجماعات الإسلامية الراديكالية، وفقاً لتفسيرات متشددة تركز على الجوانب الخاصة بالحاكمية والألوهية والإلهيات على وجه العموم وعلى الشريعة في جوانبها الخاصة بالحدود.
أحد أبرز العقبات إزاء حركة حقوق الإنسان تستمد من طبيعة الممارسة التسلطية السياسية على مدى عقود تاريخية طويلة. مثل هذه الممارسة رسخت في الوعي الجماعي للعرب إحساسا بعدم جدوى الحريات العامة التي تنتهك يومياً، ولاسيما وأن أغلب النظم التسلطية، إن لم يكن كلها، كانت تطرح خطاب الحريات العامة والديمقراطية باعتباره من أهم وعود وأساطير دولة ما بعد الاستقلال، وأن هذه الوعود- الآمال سقطت بالتجربة في مجال الحريات المدنية التي تعرضت لمحن عديدة في ظل حكومات دولة ما بعد الاستقلال الوطني. وثمة مصادر هيكلية ترتبط بالتطور التاريخي لهياكل المجتمعات العربية، وهو أن الفرد ذاته لم يولد ككيان اجتماعي- سياسي فاعل له حرياته، وهوامشه وفكره الحر، وهناك قيود على ميلاد الفرد كفاعل اجتماعي وهي قيود تأتي من نظام القيم والتنشئة الاجتماعية البطريركية-الأبوية ودور الأسرة ودور الأشكال المختلفة من الرقابة السرية التي تمارس باسم الأسرة والدين والسياسة.. الخ، و التي تحدد هيكل المحرمات السائد في المجتمع.لا يمكن أن نكون إزاء مجتمع بالمعنى الدقيق للكلمة، ومجتمع مدني- كما حدث في الغرب- في ظل سيولة اجتماعية، وابتسارات هيكلية للنظام الاجتماعي، إذن لا مجتمع دونما فرد وبلا هيكليات طبقية متبلورة، ولها آلياتها في التضامن، وقواعدها في الصراع والتنافس السياسي- الاجتماعي، وأيضاً آليات للتوازن، وإعادة التوازن الهيكلي. وما يسرى على الفرد والمجتمع يسري أيضاً على مستوى بنية السلطة السياسية، وأيضاً الصفوة الحاكمة. حيث تختلط شخصية من بيدهم زمام السلطة وبين السلطة ذاتها، وبينهم وبين الدولة، ناهيك عن شيوع أنماط الفساد السياسي والهيكلي والوظيفي بين أصحاب السلطة والصفوة السياسية وزبائنها وبين الموظفين العموميين. كلها أمور تقف عائقاً ضد شيوع نظام حقوق الإنسان والتطور الديموقراطي السلمي في الدول العربية.
هناك تركيبات اجتماعية لا تزال تشكل عوائق ضد نظام حقوق الإنسان تحت دعاوى الخصوصية، لعل على رأسها مفاهيم الطائفة والعائلة والعشيرة والعصبيات المحلية –وأساطيرها المختلفة- والتي تتساند وتتفاعل في ديناميكية فريدة مع مفهوم الأبوية –البطريريكية- التقليدية، أو الحديثة الممثلة في الدولة وقائدها. ومثل هذه المفاهيم تتسم بالفاعلية، والرسوخ المستمد من طبيعة التطور الاجتماعي في العالم العربي والتشكيلات الاجتماعية والثقافية الأساسية والفرعية في هذه البلدان. هذه التركيبات الفسيفسائية، وأسسها العرقية والقومية والطائفية واللغوية والمللية والدينية، تمثل عقبات بنائية ضد نظام حقوق الإنسان بل أن العائلة الممتدة في مناطق عديدة، داخل هذه التركيبات لا تزال تمثل عقبة أخرى من العقبات.
ولعل أخطر هذه العقبات قاطبة هو سيادة العقل المغلق والسلفية الفكرية – لدى غالب القوى السياسية والثقافية والحزبية- حيث يعاد إنتاج مصادر الأفكار داخل كل جماعة، دونما تجديد أو اجتهاد، مما يعيد إنتاج الحدود بين المدارس الفكرية والسياسية والعملية في هذه المجموعة من الدول ومجتمعاتها. وتتفاقم مشكلات العقل المغلق مع انتشار موجة من العنف السياسي ذي الوجوه الدينية والطائفية. وانكسار الجسور بين مدارس الفكر والعمل كافة يزيد الأمر خطورة في ظل غياب التسامح الديني والفكري إزاء الأغيار بالمعنى الديني أو السياسي، ناهيك عن لجوء الأفراد والجماعات لممارسة الاغتيال المادي للمغايرين لهم فكرياً، بما يمثل تهديد للحقوق الأساسية للإنسان.
وتتزايد خطورة الأوضاع الراهنة، والانتهاكات التي تحفل بها تقارير المنظمات غير الحكومة العاملة في مجال حقوق الإنسان –بكل مواءاماتها- في ظل طرح إشكاليات الخصوصية والهوية إزاء الأطروحات الغربية لحقوق الإنسان.
إن الخصوصية تبدو في خطاباتها المتعددة- سواء من الدولة أو من القوى السياسية غير الحكومية- وكأنها دعاوى للدفاع عن انتهاكات الدولة، وأطراف غير حكومية، أو للتغطية على هذا النمط الفظ من الانتهاكات. وكأن الخصوصية تقتضي عدم احترام الإنسان.
ثمة تواطؤ ما بين قطاعات من المثقفين أشباه الحداثيين مع السلطة، جلباً للمنافع الذاتية، وتغاضيهم عن ظاهرة توحش قوة الدولة البوليسية، وآلاتها القمعية “المشروعة”! مما أدى ولا يزال إلى تآكل دولة القانون الحديث وسيادته. و مما زاد الأمر تعقيدا  تشكيك قوى سياسية، وفئات اجتماعية واسعة في مفاهيم سيادة القانون والقيمة التي يحملها خطاب الحداثة القانوني، وحقوق الإنسان. مثل هذه الممارسات ساهمت في تآكل وانهيار التقدم والحداثة وحقوق الإنسان في الدول العربية.
هناك عوامل أخرى تساهم في إعاقة وحجز دعاوى حقوق الإنسان منها ضعف المنظمات الوسيطة، وأزمة مؤسسات الدفاع عن حقوق الإنسان ذات الطابع النخبوي، وتحول الأطروحات السياسية والأيديولوجية المهزومة ودعاتها ومناصريها إلى مجال حقوق الإنسان.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 21 ديسمبر 2008.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20101

إن الخلط الشائع بين الشريعة والدستور يثيرُ تساؤلاتٍ شتى على أكثر من مستوى تتعلق عادةً بمدى قدرة الشريعة على استيعاب الطفرات الهائلة التي تنمو باستمرار في عالم اليوم، وما إذا كان بإمكان جملة القواعد التشريعية التي كانت وليدة ظروفها التاريخية الخاصة أن تنتظم هذا الفضاء العام الذي يُعيدُ مرارا وتَكرارا هيكلة الأوضاع وفق أسس ومبادئ لم يعد حتى في الإمكان التنبؤ بها، وما إذا كان سيتم التعامل مع هذه الإحداثيات، والحالة هذه، وفق مبدأ “محدثات الأمور” وأن كل محدثة بدعة …إلخ، أم سيتم تقبلها بمرونة من خلال تقنينها دستوريا؟!.
إن الحل الأمثل لهذا الإشكال يتمثل في إرساء قواعد الممارسة الدستورية والتي تأخذ في الاعتبار الشريعة بإطارها المقاصدي (أينما تكون المصلحة فثم شرع الله) بدلا من القول بأبديتها، كما هي محددة بشكلٍ نهائيٍ في سياق الخطاب السياسيّ الإسلاميّ. أي أننا بحاجة ماسة إلى دستور ليبرالي إسلامي عبر إعمال المزيد من القواعد/الاجتهادات الجديدة والتي تتواءم مع معطيات العصر، إن لم تتجاوزه نحو مستقبلٍ أشد انفتاحاً وأكثر رحابة.
خاصة وأنه يتم اختزال الشريعة عادة في جانبها الجنائي فقط والذي لا يتعدى 2% منها (بواقع 4 آيات من أصل 220 آية تحدد أصولها في القرآن الكريم)، مما يعني أن ثمة 98% منها لا يزال مهملا وغير مطروح بتاتا، الأمر الذي من شأنه الإجحاف بحق منظومة الحقوق المدنية والسياسية وترجيح كفة الواجبات على حسابها.
أضف إلى ذلك، أن التنصيص على الشريعة كمصدر رئيس للتشريع داخل الدستور يفضي إلى إحداث تناقضات صارخة في التطبيقات العملية. فعلى سبيل المثال، لو قدِّرَ لمصرية تمتهن الرقص أن تحتكم إلى قانون الأحوال المدنية في شكواها المتعلقة برفض رئيسها صرف مستحقاتها المالية لصدر الحكم لصالحها استنادا إلى كونها تمارس عملا مشروعا بحكم القانون. لكن في الوقت ذاته لو أنها مثلت أمام قاض تابع للأحوال الشخصية في شكواها المتعلقة بانتزاع أطفالها لصالح زوجها لجاء الحكم في غير صالحها استنادا إلى كونها تمارس عملا غير مشروع بحكم الشريعة الإسلامية. وهكذا يبدو العمل مشروعا وغير مشروع في آن معا لاختلاف وتعدد المرجعية ما بين الدستور والشريعة الإسلامية، تبعا لاختلاف وتعدد المرجعية القانونية في الدستور الواحد.
لكن لا يُفهم مما سبق ضرورة توحيد المرجعية: إما الشريعة أو الدستور! نظرا لأن ذلك لا يحل الإشكال حتى من الناحية النظرية. وآية ذلك، أنه رُغم التنصيص صراحة على كون الشريعة هي المصدر الوحيد للتشريع في بعض الدساتير العربية، لا تزال هذه الدساتير تعاني هي الأخرى من مشكلات كبرى تتعلق غالبا بحجم الحرية الفردية التي تتيحها مثل هذه المنظومة التشريعية.
وفي المقابل، لا تزال الدول الإسلامية التي لا ينص دستورها صراحة على هذا الأمر تواجه تحديات مماثلة، سواء فيما يتعلق بطلب الاحتكام إلى الشريعة من قبل الحركات الإسلامية، أو فيما يتعلق بالشق القانونيّ الخاص بالأحوال الشخصيّة.
أيضا ينشأ عن هذه الصيغة الحاليّة مشكلتين رئيستين: الأولى واضحة بذاتها، وهي أن النص بصيغته يميز بين المواطنين على أساس الدين بمجرد إشارته إلى دين دون آخر. الثانية: فقدان الانسجام الدستوري بين النص على دين معين وشريعة بذاتها للدولة وبقية نصوص الدساتير العربية والتي ينهض أغلبها على فكرة الدولة المدنية الدستورية الحديثة.
فعلى سبيل المثال، تنص المادة الخامسة المُعدّلة حديثا من الدستور المصري على منع نشأة الأحزاب وفق أسس دينية الأمر الذي يتعارض بداهة مع نص المادة الثانية المتعلقة بكون “الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع” والذي يقنن تماما إمكانية نشوء الأحزاب على أساس ديني.
كما يمكننا أيضا أن نرى هذا التعارض الصارخ بين المادتين إذا نظرنا لإمكانية مخالفة نص المادة الثانية أو منازعتها. فلو قام حزب سياسي على أساس يعارض نص هذه المادة ويدعو مثلا لفصل الدين عن الدولة لصار هذا الحزب مناهضا لمبادئ الدستور منطقيا.
ونخلص مما سبق إلى أن نتيجة مؤداها أن الشريعة، وفق التصور السائد عنها لدى حركات الإسلام السياسي، تظل قاصرة عن اللحاق بالعصر، فضلا عن التحكم فيه، كما أنها تظل قاصرة أيضا مقارنة بالدستور وآليات اشتغاله في العالم المعاصر، وهو ما تعجز الجماعات المنادية بتطبيق الشريعة عن قبوله أو حتى تفهمه.
والحل الرئيسيُ في اعتقادنا يكمُن في تعديل هذه المواد إلى: “الشريعة الإسلامية أحد مصادر التشريع إلى جانب الفقه الدستوري والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان”، فنضمن بذلك أن ننتصرَ ابتداءً للاجتهادات المستنيرة التي تفسرُ الشريعة تفسيراً يتوافقُ مع أرقى ما أنتجه العصر من معاييرَ أساسيّة في المجالين السياسيّ والمدنيّ ولا ترى تعارضا يُذكر بين الإسلام وحقوق الإنسان أو بينه وبين أي من مبادئ الليبرالية والديمقراطية الغربية.
وختاما، إن ما ندعو إليه ليس الاصطفاف مع أو ضد الشريعة وتبادل الاتهامات بالرجعية والقصور تارة أو بالعمالة والعلمنة تارة أخرى، وإنما ندعو إلى فتح حوار مشترك حول وضعية الشريعة في العصر ككل وفي الدستور بصفة خاصة. انطلاقا من أحقية كل إنسان يُطلب منه الاحتكام إلى الشريعة أن يجد إجابة شافية عن تلك التساؤلات المعقدة التي تثيرها هذه الوضعية الملتبسة وعلى رأسها: هل يعد الدين مصدرا للقيم أم مصدرا للسلطة، وكيف يكون مصدرا للقانون دون أن يكون مصدرا للسلطة؟!
© معهد كيتو، منبر الحرية، 16 (ديسمبر) 2008.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

تتبارى الأنظمة الدكتاتورية وخاصة  التي وصلت الحكم عن طريق الانقلابات العسكرية، في بداية عهدها في الترويج والتطبيل، أن أولى مهامها مكافحة الفساد والتوزيع العادل للثروة، وعادة ما تقوم تلك الأنظمة بحملات محدودة النطاق فتطيح ببعض الرؤوس التي لا تتناسب مع الوضعية الجديدة وغالبا وما تكون تلك الرؤوس المطاح بها، من الرموز القديمة “الحرس القديم” التي زكمت رائحة فسادها الأنوف فيعطي خبر محاكمتها ارتياح ما في أوساط العامة التي تستبشر خيرا متوهمة أن عهدا جديدا قد بدأ.
ولكن نظرة متفحصة لطبيعة تلك الأنظمة تبين أن الأمر أعقد من ذلك بكثير لأن العقد المضمر القائم بين السلطات المستبدة والفساد يكاد يكون عقدا أبديا بحيث أن زوال أحدهما يعني زوال الآخر بالضرورة، لأن الفساد يعطي النظام المعني ورقته القوية في اللعب بضمائر الناس وإفسادها، وفي تقديم المزايا الخاصة للرؤوس التي تشكل مواقعها خطرا قد يهدد النظام،حيث يعطي النظام تلك الرؤوس مزايا استثنائية الأمر الذي يجعلها تستميت وتستشرس في الدفاع عن الوضع القائم لأنها بذلك تدافع عن امتيازاتها ومصالحها . وبالمقابل يعمل النظام على ديمومة واستمرارية الفساد بحيث يترك الأبواب  أمامه مفتوحة ومشرعة باتجاه الإفساد المتعمد، بحيث “يجعل الجميع مدانين تحت الطلب “، وفق تعبير المفكر طيب تيزيني وفق توصيفه للدولة الأمنية، حيث تستخدم السلطة الفساد بكافة أشكاله (فساد مالي وسياسي وأمني وجنسي ..) من أجل ترسيخ سيطرتها و قمع معارضيها وتفتيت كل تجمع مدني حر وإفقار الحياة السياسية عن طريق شراء ضمائر المثقفين والسياسيين  وخاصة الضباط ذوو المواقع الحساسة حيث يتم التغاضي عن كل فسادهم وجبيهم اللا مشروع للأموال والسيارات والشقق، مقابل ولاءهم الكامل .وبذلك يصبحون جزءا من بنية النظام نفسها، وكذلك الأمر بالنسبة للمواطنين الذين يصبح جل همهم الوصول لمنصب مهما كان صغيرا يستطيعون من خلاله تحسين أوضاعهم، الأمر الذي يعني أن هذه السلطات لا تستطيع محاربة الفساد ولا تريد ذلك أصلا لأن هذا يعني حفر قبرها وإقصاءها من موقع الحكم، لأن تقليص حجم الفساد يعني توزيع عادل بشكل ما للثروة، ولجم يد السلطة عن شفط أموال الناس واستخدامها بما يديم سيطرتها.
إن شعار محاربة الفساد في النظم الشمولية ونظم الاستبداد هو مجرد شعار طالما أن بنية هذا النظام ستبقى محاصرة بمنظومة قوانين الطوارئ وحالات الاستثناء وغياب الحرية وعدم وجود قانون عصري للأحزاب، ذلك لأن الاستثناء والفساد مترادفان أيضا لا يستمر أحدهما دون الأخر، عندما تستثنى الغالبية من ميزات معينة تمنح لأقلية معينة نتيجة قرابتها السياسية أو العائلية من السلطة، الأمر الذي يعني أن محاربة الفساد لا يمكن أن تكون جدية دون إلغاء قوانين الطوارئ وحالات الاستثناء التي تمنح النظام شرعيته المفقودة شعبيا.
غالبا ما يطرح أفراد السلطة – خاصة في العالم الثالث- الواصلين حديثا إليها شعار مكافحة الفساد، – وبعضهم يكون صادقا – فيبدأ بحملات  إصلاحية محدودة هنا وهناك لمحاولة تصويب الوضع القائم قليلا و ليعطي النظام الجديد نفسه شيئا من الشرعية ولكن حتى هذا الإصلاح الجزئي قد يقوم بتعميق الفساد أكثر مما يحده لأنه ينطلق في محاربة الفساد من زاوية ضيقة لا ترى الجذر الحقيقي للفساد وهو طبيعة النظام وآلية عمله المفرخة للفساد بكافة أشكاله، فتعمل هذه الإصلاحات على خلخلة البنية الراكدة لنظام لا يحتمل الخلخلة أساسا، الأمر الذي يوضح لنا تراجع أغلب هذه النظم عن شعاراتها في مكافحة الفساد لأنها تستشعر مدى خطر هذا الأمر على بنية النظام المتعيشة على الفساد، فيغدو إصلاحها بعد ذلك هو مجرد استبدال أشخاص أتخموا من النهب و – وغالبا ما يتم نقلهم لأماكن دنيا – بأشخاص جدد جيوبهم مجهزة لتعبّأ.
إن شعار محاربة الفساد لا يمكن أن يطرح بعيدا عن منظومة كاملة من الإجراءات أهمها الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، لأن محاربة الفساد تـأتي  ضمن هذه المنظومة ولا يمكن لها أن تنجح خارجها حيث أن حالات الاستثناء واليد المطلقة للسلطة و تغييب القضاء ( وهي الركائز الأساسية لتغلغل الفساد وترسخه) لا يمكن أن تبتر إلا من خلال الديمقراطية التي تعطي الجميع حقوقا متساوية وتحد من تدخل السلطة وتُخضع الجميع لمبدأ القضاء، وهذا الأمر يستحيل تحققه في نظم استبدادية تسعى للسيطرة أكثر مما تسعى إلى  تحقيق مطالب مجتمعاتها وترسيخ قيم الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

يتناول عدد من مثقفي منطقتنا مسألة المساهمة العربية في هذا العصر من تاريخ البشرية باعتبارها مشكلة حين يشددون وبقلق على غياب العرب وذلك من منطلق ضعف الأداء في الحاضر أو تقلصه إلى درجة انتفاء دور العرب على الساحة العالمية. ومع أن هذا الرأي لا يعاني من صعوبة الارتكاز على أسس قوامها الأمثلة والمفاهيم والأسئلة، إلا أن طرح المشكلة هذه، في كثير من الحالات، يتسم بشيء من الابتعاد عن التعاطي العقلاني معها حين يميل المثقف إلى رؤيتها بمعزل عن صيرورة سياسية اجتماعية تاريخية من جهة، وحين يتضمن تقييمه، بشكل غير مباشر، ما فيه تنكّر لمساهمة الفرد العربي ما لم يكن الأخير يقطن جغرافياً، ويعمل، في المنطقة العربية من جهة أخرى.
من الواضح أن النقطة المحورية للكثير من المدققين في واقع ما يقدمه العرب للعالم اليوم هي مقارنة حاضر العرب بماضيهم وما كان له من أثر، مباشر أو غير مباشر، على العلوم والفلسفة في عصر لاحق. أي استذكار العصر “الذهبي” للعرب في الفترة الممتدة مابين القرن الثامن والثالث عشر الميلادي وما زخم به ذلك العصر من إنتاج في مجالات العلوم عامة: في الكيمياء والطب والبصريات والفلك وغيرها إضافة إلى الفن والفلسفة مقابل عقم إنتاجهم في هذا العصر.  بيد أن استحضار هذه الحقيقة قد يلعب دوراً سلبياً فيما لو كان يرمي بالمطلق إلى صدم الحاضر بالماضي، وما لم نستحضر، بنفس الوقت، ونؤكد على ما تعلمه قراءة التاريخ من أن أياً من الشعوب لم يكن لينتج بشكل فاعل ومؤثر في مسيرة البشرية وتطورها لولا توفر مجمل شروط ذاتية وموضوعية مهدت، أو سمحت، بحينها بارتقاء هذه المجموعة البشرية أو تلك إلى  ما كانت عليه يوماً من تقدم ونهضة وحضارة (مع التذكير بأن طبيعة الشروط تتغير أيضاً تلاؤماً مع متطلبات زمنها).  يضاف إلى ذلك حقيقة تاريخية لا يمكن تجاهلها وهي أنه في ذروة عطاءات العرب في الفترة آنفة الذكر لم يكن كل من أبدع وابتكر وأنتج شيئاً في ذلك الحين قد ولد عربياً أو في المنطقة العربية لكنه عاش وكتب وقدم اكتشافاته باللغة العربية. إذ كانت الأخيرة حينها لغة النخبة السياسية، ومع ذلك فقد كانت مساهمات هؤلاء المبدعين تنسب للعرب؛ الأمر الذي يقودنا إلى أن نسحب ذلك على واقع اليوم بإضاءة هذا الجانب فيما يخص مساهمات الأفراد العرب ممن يعيشون خارج المنطقة العربية (لأسباب متعددة في طليعتها انعدام الديمقراطية في المجتمعات العربية عامة). إذ يُنسب إنتاجهم في المجتمعات المتقدمة صناعياً والمتطورة ثقافياً وحضارياً بالتحديد إليها فهي من توفر لهم الشروط اللازمة لعملهم. وإذا ما أضفنا أيضاً ما نقله العرب تاريخياً من الشعوب والحضارات أخرى عبر الترجمات فإن ذلك يدفعنا إلى تذكر حقيقة أن الفترة المتميزة بتاريخ العرب كانت عهد اتصالات وتبادل بين الثقافات وانفتاح واستعارات في كلا الاتجاهين.
حينما نستعرض ما هي عليه البشرية جمعاء من إنجازات في كافة المجالات العلمية والمعرفية وما هو بتناول الجميع في وقتنا الحالي، لا نمتلك إلا أن نبوّب لحقيقة أن ما ينتج عبر التاريخ، من قبل هذا أو ذاك ـ وحيثما كان ـ يصبح ملكاً للجميع وليس وقفاً أو حكراً لفئة ما أو لشعب محدد دون غيره. مما يعيد إلى الأذهان مشهداً وصفه مراقب غربي بالمحيّر حين نظر إليه للوهلة الأولى لا بتفكير “من يساهم بماذا” بل من زاوية الربح والخسارة للشعوب. ففي مشهد تتداخل تداعيات مدلولاته، حيث يتجمع عدد من الأفراد العرب حول جهاز تليفزيون ياباني الصنع ويراقبون فيلماً أمريكياً، تعذر على ذلك المراقب الغربي الجواب عن سؤال من يغزو من فيما يراه!؟ أهي التكنولوجيا اليابانية المتطورة في جهاز التليفزيون التي تغزو العرب؟ أم أن الثقافة الأمريكية في المادة المقدمة تليفزيونياً هي التي تغزو العرب!؟  أم العكس تماماً؟ أي أن العرب هم من يغزون اليابانيين بحصولهم على التكنولوجيا اليابانية الحديثة بمقابل مالي زهيد مقارنة بالجهد البشري الياباني (والعالمي) في المجال التقني والذي وصل إلى ما وصل عليه من تقدم. كما ويغزون الأمريكيين بإطلاعهم على المنتج الثقافي الأمريكي والذي يعبر عن فكر متطور يأتيهم عبر ذلك الجهاز الصغير وتفصل بينهم وبين أمريكا مسافات كبيرة!؟ وتداخلت الأسئلة في رأسه أكثر حينما تذكر أن التليفزيون ليس اختراعاً يابانياً في الأساس وأدرك صعوبة الجواب عن سؤال يحدد بدقة “من يغزو من!؟” في المشهد الذي رآه خصوصاً عندما فكر بما كان من أثر لما قدمه العرب تاريخياً للبشرية وفي أكثر من مجال، وسرعان ما تخلى عن النظر للموضوع من باب الغزو أو قياسه بأية مقاييس أخرى غير تلك التي تُرجع تاريخ وحياة البشرية جمعاء على مر العصور إلى مساهمات وأخذ وعطاء بين شعوب الأرض في كافة المجالات، وأن ما تنتجه فئة من الناس في مكان ما هو ربح للبشرية في أماكن أخرى.
باختصار شديد، يخرج طرح مشكلة المساهمة العربية عن إطار التوصيف البنّاء فيما لو ترافق ذلك بخطاب يمجد بماض غني ويتحسر على حاضر عقيم، إذا جاز التعبير. ولن يكون له من الأثر إلاّ ما فيه المزيد من الشعور بالعجز والتصدع النفسي الفردي والجمعي يتمخض عنه حيناً نزعة إلى الانعزال، وربما يلعب ذلك دوراً هدّاماً فيما لو تم التعرض للمسألة بإلقاء اللوم على “الآخر” النشط الفاعل والبارز بدلاً من تشخيصها بشكل دقيق يعزي قصور أو اضمحلال ما تنتجه الكتلة البشرية في المنطقة العربية إلى صعوبات داخلية شتى في طليعتها ـ كما نوهنا أعلاه ـ غياب الديمقراطية في الدول العربية والقيود السياسية والاجتماعية عموماً، إضافة إلى انعدام عامل الأمن الأهلي في بعض منها، ما يغيّب الكوادر عن بلداننا ويجفف أدمغتها.

© معهد كيتو، مشروع منبر الحرية ، 12 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

تقع إيران حاليا في قلب الحدث السياسي بسبب الشكوك المتزايدة حول نزاهة الانتخابات الأخيرة و بسبب برنامجها النووي. و يجدر التذكير  في هذا الصدد أن هذا الغليان السياسي الذي يشهده الشارع الإيراني يجد جذورا له في المحنة الاقتصادية الحقيقية التي يعيشها المجتمع الإيراني. فإذا سلطنا الضوء على المعطيات الكََمية للاقتصاد الإيراني نصل إلى خلاصة مفادها أن 85 % من البنية الإنتاجية الإيرانية مملوكة من قبل النظام الحاكم. و على غرار الاقتصاديات الموجهة، فالقرارات لا تصدر بدون موافقة “السلطات المعنية” الشيء الذي يضعف الحريات الاقتصادية و يشجع اقتصاد الريع. ففي إيران، قام النظام الحاكم القائم على ولاية الفقيه بتفويض إدارة شؤون البلاد الاقتصادية للحرس الثوري (الباسداران) مقابل توفير الحماية للنظام. مما أدى إلى سيطرة الباسداران بقيادة الجنرال سفافي على جزء كبير من الاقتصاد الإيراني وما نتج عنه من تضييق على حرية ممارسة التجارة و عرقل نمو و تطور البلاد بشكل واضح.

تعتبر تركيبة نظام الحكم في إيران تركيبة معقدة. إذ أن الجمهورية الإيرانية الإسلامية تقوم، كما ينص الدستور الذي وضع بعد الثورة الإسلامية سنة 1979 و عدل سنة 1989 بعد وفاة أية الله الخميني، تقوم على ركيزتين أساسيتين :  الإسلام من جهة و النظام الجمهوري من جهة أخرى. فشرعية السلطة مزدوجة وهي تُستمد من الإرادة الإلهية (مادة 2) من جهة و من إرادة الشعب (مادة 1 و مادة 6) من جهة أخرى.

كما أن الدستور يولي أيضا أهمية خاصة لمؤسسة ولاية الفقيه. فالمرشد الأعلى للثورة يعتبر العمود الفقري للنظام الإيراني. فهو يشرف على السلطات الثلاث: التنفيذية و التشريعية و القضائية، و يحافظ على حسن سير المؤسسات، و يضع الخطوط العريضة لتوجهات البلاد السياسية و الاقتصادية و الأخلاقية. وتوزيع الريع من قبل الدولة والذي يشكل أداة لدعم الاقتصاد الفارسي، لا يستفيد منه إلا الأشخاص الذين يؤمنون بمبادئ الثورة.

و يعتبر جهاز الحرس الثوري الإيراني، الباسداران، الذي أسسه الإمام الخميني في بداية الثورة في إيران، من اقرب الأجهزة من المرشد الأعلى للثورة. فحتى نهاية الحرب ضد العراق كان الباسداران يُعتبر جيش تحرير. بعد ذلك قاموا بتنظيم أنفسهم و أصبحوا تنظيما عسكريا و استخباراتيا حقيقيا، لا يتوانى عن التدخل في الشؤون المدنية، كالتصنت على المكالمات الهاتفية و التجسس على المعارضة الموالية للغرب، وذلك من أجل حماية مبادئ الثورة. و بعد دلك تحول حوالي اثنا عشر ألفا من عناصر الباسداران إلى التجارة مستفيدين من السلطة المطلقة التي يتمتعون بها. فالرئيس الإيراني الحالي، السيد أحمدي نجاد، وعدد من وزرائه ينتمون إلى الباسداران. و من البديهي أن يصبح من السهل حصول التجار المنتمين إلى الباسداران، على مشاريع الدولة الكبيرة كمشروع تطوير حقل بارس الجنوبي للغاز المقدر ب 1.56 مليار يورو (حوالي 2.10 مليار دولار).

إن الاقتصاد الإيراني الحالي يعيش على الإعانات المالية الضخمة التي يقدمها النظام الحاكم. فرجل الأعمال الذي ينجح في إيران هو الذي يتلقى دعم الدولة.  نحن أمام نظام مبني على الفساد، والبحث عن المكاسب المالية. اقتصاد غير قابل للتطور في ظل هذه الظروف. فككل مجموعة ضغط، حول الباسداران دعمهم للثورة إلى امتيازات. إذ عُهد إليهم الأمن الداخلي و الخارجي و جميع الصناعات العسكرية و النفطية و الزراعية فأصبحوا يسيطرون على الاقتصاد بدون أي منافس. وشكل الباسداران في العديد من القطاعات التي يسيطرون عليها اتحادات احتكارية، فأصبحوا بذلك المُسيرين الجدد للاقتصاد الإيراني على حساب حرية ممارسة التجارة و ديناميكية السوق.

و يعتبر الاقتصاد الإيراني في الوقت الحالي فريسة للتخلف. فالناتج المحلي الإجمالي الإيراني يقارب ال196.3 مليار دولار. و الدخل الوطني الإجمالي (بمقياس القوة الشرائية للعام 2005) وصل إلى 545 مليار دولار، أي ما يقارب ال8050 دولار للفرد الواحد. أما بالنسبة لمؤشر التنمية البشرية، فتحتل إيران المركز ال 96 بين دول العام بمعدل 0.746. كما أن التضخم الذي تصل نسبته إلى 15% سنويا يعرقل بدوره مشاريع الفاعلين الاقتصاديين. يضاف إلى ذلك نسبة بطالة مرتفعة تطال 20 مليون نسمة من سكان إيران الذين يصل عددهم إلى 70 مليون نسمة. كما أن سوق العمل حاليا مشبع ولا يمكنه أن يحتوي ال 800.000 شابا الوافدين إليه سنويا.

يعتمد الاقتصاد الإيراني بشكل أساسي على الصادرات النفطية. فالذهب الأسود يشكل 85% من إجمالي الصادرات. صحيح أن العائدات النفطية ارتفعت من 32 مليار سنة 2004 إلى ال50 مليار سنة 2006 . إلا أن غياب التنوع في نشاطات التصدير يضر بالاقتصاد لأنه يقوم على التخصص في قطاعات أولية غير متطورة و غير قادرة على مواجهة المنافسة. كما أن الضعف التكنولوجي للاقتصاد الإيراني يفرض عليه التموين من الخارج خاصة وأن ذوي الكفاءات يهاجرون إلى الغرب مما يزيد من حدة ظاهرة ضعف التنوع الاقتصادي.

إن الاقتصاد الفارسي يعيش حالة من الازدواجية لأن الاقتصاد المقنن يصطدم مع اقتصاد السوق السوداء الذي يتمثل بالتجار الصغار الأحرار.  فالسوق السوداء أو الاقتصاد الموازي يشكل ما بين %20 و%30 من الاقتصاد الحقيقي في إيران. هذه الازدواجية تعكس الشغف بالتجارة المعروف عند الإيرانيين. شغف يتم اضعافه وإهماله من قبل الباسداران، الساعد السياسي والاقتصادي للمرشد الأعلى وأصحاب القرار الجدد في إدارة الاقتصاد الإيراني.

© منبر الحرية، 28 تشرين الأول (أكتوبر) 2008.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

إن صح ما ذهبنا إليه في مقالة سابقة، من أن “الصيغة اللبنانية” قد تكون مستقبل كيانات المنطقة المشرقية والنموذج الذي تسير نحو احتذائه، نظرا إلى افتقار تلك الكيانات إلى مقومات الوجود والاندماج الوطنيين، تستعيض عنهما بتعايش، وإن من طبيعة نزاعية كملمح له أساسي وفارق، داخل كيان يتعذر تفكيكه أو إعادة النظر فيه، بالرغم من أنه مصطنع واضطراري، تضمنه (التعايش) قوى خارجية حليفة لكل فئة من الفئات “المحلية” أو الأهلية أو راعية لكل منها، بحيث يبقى مآل مثل تلك الكيانات مشروطا، على نحو لا فكاك منه، بمساومات بين داخل (أو دواخل) وبين خارج (أو خوارج إن جاز هذا الجمع)، تفضي إلى السلام إن استتبت وإلى الاقتتال إن انخرمت.

غير أن القول بذلك، وما قد يُستخلص منه من توقعات، لا يعدو أن يكون استجلاءً لمبدأ عام (أو أن ذلك ما يأمله) وتوصيفا لمنحى، وهو لذلك يظل منقوصا لأنه يُغفل التاريخ، وذلك ما يتعين تداركه. إذ أن بين “الصيغة اللبنانية” الأولى، والتي يبدو أنها استوت، بقوّة الأشياء، أصلا، وبين تلك التي قد تحاكيها مستقبلا، فارقا هو المتمثل في المدى الزمني، وهذا لم يكن تعاقبا خاما للأيام وللسنين، بل كان تاريخا، حافلا، بصفته تلك، بتحولات كبرى، بعضها عاصف، شهدتها المنطقة.

والفارق الذي نعنيه ونراه أساسيا، اعتبارا لتلك التحولات ولما انجرّ عنها، أن “الصيغة اللبنانية” قامت مساومة بين خارج، هو الغرب، وبين “داخل”، هو المجال العربي، السوري (بمعنى الشّامي)، في طور أوّل ارتبط بالحقبة الاستعمارية، ثم المصري (في العهد الناصري)، في طور لاحق ملازم لفترة الحرب الباردة والاستقطاب الثنائي، وهكذا دواليك، في حين أنه من المرجح لكل مساومة كيانية من ذلك القبيل تنشأ مستقبلا أن تقوم، حصرا، بين خارج وخارج. ذلك أنه لم يبق من طرف إقليمي، منتمٍ إلى المجال العربي، دولةً قطباً أو حالة سياسية ضاغطة تعتمل “جماهيريا”، قادر على أن يستوي شريكا فاعلا، إن بالمبادرة وإن بالضغط، ضالعا في توزيع النفوذ على صعيد المنطقة.

الموضوع اللبناني نفسه أضحى يعكس تلك الحالة المستجدة ويشهد عليها، فإذا كان الداخل العربي قد تمثل، طوال العقود الأخيرة، في سوريا، فإن هذه الأخيرة قد آلت في بلاد الأرز إلى انكفائها المعلوم، سحبت قواتها من ذلك البلد انصياعا لقرار أممي، ثم تمادت في الانكفاء حتى بلغت الإقرار بما امتنعت عن الإقرار به منذ أن انبعثت إلى الوجود “دولة” حديثة، أي حتى قبل أن يحكمها ثوريون قوميون وحدويون، نعني الاعتراف باستقلال لبنان وتبادل السفراء معه على ما هو سار معمول به بين دول يُفترض فيهما أنها متكافئة سيادةً.

غير أن اللافت في الأمر هذا، وما يقع منه في صلب موضوعنا، أن الانكفاء السوري ذاك، لم يتحقق فقط لصالح لبنان، ولكن كذلك، لصالح قوة خارجية، هي إيران التي انفردت بالتأثير واستأثرت بالفعل في المجال اللبناني عبر “حزب الله”، ذلك الذي اجترح، بوصفه المعبّر عن مصالح ومطامح فئة والناهض بتمثيلها، جديدا غير مسبوق في سياسات الطوائف، إذ هو ما عاد يكتفي بتحسين وتقوية موقع من يمثلهم في الدولة التي يُفترض أن تظل المرجعية المسلّم بها، بل استوى قوة محاذية لهذه الأخيرة، تنازعها صلاحياتها وتستحوذ على بعض منها شأن صلاحية إعلان الحرب أو الجنوح إلى السلام، ولا تتردد عن الاستظهار بولائها لسيادة أجنبية من خلال الجهر بالأخذ بمبدأ “ولاية الفقيه” وبالانضواء تحته… قد يعود ذلك إلى أن انعدام القطب الإقليمي الداخلي، الموازي والموازن، يفضي إلى مثل ذلك الاجتراء ويزيّنه لدى من يُقدم عليه.

مثل ذلك ما يبدو أنه ينتظر العراق أيضا، إذا ما قيض له أن ينبعث كيانا من جديد وأن يستعيد دولته، إذ لن تكون هذه الأخيرة، على الأرجح، وقد تبلورت الطوائف والمذاهب والأعراق وسواها من أشكال الانتماءات الأولية كائناتٍ وذوات سياسية، وتواجهت على نحو دموي كان له الأثر الأفعل في فرزها وإقامة “الحدود” بينها، غير نتاج مساومة، تتولى أطراف خارجية، ليس بينها طرف عربي، هي إيران والولايات المتحدة وربما تركيا، زمام رعايتها ودور الضامن لإرسائها أو المبادر إلى إجهاضها، إن دعاه اعتبارٌ إلى ذلك… وقس على ذلك حال كل كيان من كيانات المنطقة يصيبه تفكك، غير مستبعد البتة، يعيده إلى عناصره الأولى.

ذلك أن المنطقة تلك تواجه من جرّاء كل ذلك تحديين في آن، ناجمين عن الإخفاق في إنشاء الدول، أولهما أن تعميم “الصيغة اللبنانية” سيفضي، إن تحقق، إلى استفحال ظاهرة الكيانات التي لا داخل لها، طالما أن مقوماتها، في التئام فئاتها كما في تنازعها، ستتمثل حتما في استدخال القوى الخارجية، والثاني أن الأمر ذاك، معطوفا على انعدام قوة أو قوى إقليمية عربية توازن، وإن بالحد الأدنى، الأقطاب الإقليمية أو الدولية الفاعلة في المنطقة من شأنه أن يجعل هذه الأخيرة، برمتها، بلا داخل، بحيث أنها ستكون، مجرد موضوع أو مادة أولية لصيغٍ مساوماتية تخصها أو تخص كلا من كياناتها، ما يحيلها إلى مجرد مجال مفتوح، منفعل غير فاعل، لصراع الإمبراطوريات الصغرى والكبرى، المجاورة أو البعيدة، القائمة أو الصاعدة.

ولكن ذلك يطرح سؤالا آخر، ليس هذا مضمار الخوض فيه، هو لماذا أخفقت كيانات المنطقة في أن تستوي أوطانا ودولا مندمجة، ولماذا فشل أكبرها، لثقل سكاني يتمتع به، أو لوزن نفطي أو لإشعاع ديني يحوز عليهما، أو لسوى ذلك من الأسباب الموضوعية للقوة، في أن يكون القطب الوازن المنشود، في أن يبلغ، من زاوية النظر تلك، ما بلغته إيران أو ما كان في متناول تركيا.

فهل أن للفوات وللتخلف العربيين خصوصية قصرنا حتى اللحظة في النفاذ إلى كنهها؟

© معهد كيتو، مصباح الحرية، 25 أيلول 2008.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

لا يبدو التحول الذي طرأ على استراتيجية تنظيم “القاعدة” في اليمن في الآونة الأخيرة، والمتمثل في تغيير زاوية التصويب من استهداف المصالح الغربية في البلاد إلى ضرب المؤسسات الحكومية اليمنية وأجهزة الأمن الداخلي، أمراً مستغرباً أو خارجاً عن المألوف وإن بدا للبعض كذلك؛ وكل متابع لتوجهات هذا التنظيم داخل اليمن وفي معظم الدول العربية والإسلامية لا يحتاج لكثير من الجهد حتى يلاحظ علامات ذلك التحول ومؤشراته التي ظهرت في وقت مبكر، لاسيما بعد الاحتلال الأميركي للعراق في 2003، وتكوّن جبهة جديدة أعادت لهذا التنظيم الإرهابي الهُلامي بعضاً من حيويته التي فقد جزءاً كبيراً منها خلال الفترة التالية لأحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة، بفعل توالي الضغط العالمي والضربات القاسية التي لحقت بالتنظيم في قواعده وامتداداته كافة من قبل الكثير من حكومات ودول العالم.

واليمن لم تخرج عن نطاق هذا التحول في استراتيجية “القاعدة” بل كانت في قلبه تماماً؛ فقد وجد التنظيم في هذا البلد الفقير الذي تتجذر فيه الروح القبلية والدينية المحافظة بقوة، بيئة ملائمة قابلة للاستغلال الفكري والتنظيمي وإمكانية إدارة حملة منظمة وطويلة الأمد للتعبئة الإيديولوجية والحشد العقائدي، وتالياً استقطاب كثير من الشباب الذين يشكلون الفئة الأكبر بين فئات سكان البلاد التي تنوء بحمل ديمغرافي ثقيل ومتسارع على نحوٍ يبدو وكأنه غير قابل للكبح أو الاحتواء.

والحقيقة أن أهمية اليمن راسخة في “تفكير” القاعدة منذ زمن ليس بالقصير، ورغم أن البعض يربط ذلك بأصول “أسامة بن لادن” الحضرمية، إلا أن هذه تبقى مسألة رمزية فحسب؛ فالتيار السلفي-الجهادي، بمختلف تلاوينه عموماً وتنظيم “القاعدة” بوجه خاص، يمتلك رؤية جيوبوليتيكية خاصة لليمن لعل أفضل من عبّر عنها، عمر عبدالحكيم المعروف بـ”أبي مصعب السوري”، وهو واحد من أهم منظري التيار، والمعتقل في باكستان حالياً. فقد كتب السوري في عام 1999 مؤلفاً صغيراً بعنوان “مسؤولية أهل اليمن تجاه مقدسات المسلمين وثرواتهم” أبرز فيه تلك الرؤية، فأشار إلى أن العامل الديمغرافي في اليمن، والمرتبط بالشكيمة اليمنية والفقر، في آن معاً، إضافة إلى العامل الجغرافي المرتبط بما تتميز به اليمن من طبيعة جبلية حصينة “تجعل منها القلعة الطبيعية المنيعة لكافة أهل الجزيرة، بل لكافة الشرق الأوسط، فهي المعقل الذي يمكن أن يأوي إليه أهلها ومجاهدوها”، فضلاً عن امتلاكها حدوداً مفتوحة “تزيد على أربعة آلاف كم”، وسواحل بحرية “تزيد على ثلاثة آلاف كم”، وتتحكم بواحد من أهم البوابات البحرية وهو مضيق باب المندب. وأيضاً عامل انتشار السلاح “نظراً للتقاليد القبلية”، إضافة إلى العامل الديني المرتبط بعدد من الأحاديث و”البشائر” المرتبطة باليمن، تمثل كلها، بنظر “السوري” و”القاعدة” عوامل أساسية، لتكون اليمن “منطلقاً” وقاعدة للجهاد “لتطهير المقدسات واسترجاع الثروات المنهوبة من أهل الجزيرة والمسلمين”. وبالتالي فإن “المطلوب تشكيل قوة إسلامية من أهل اليمن وشبابه ومجاهديه ومن لحق بهم من أهل الجزيرة وشباب الإسلام، تتمركز في اليمن… كقاعدة انطلاق، والتوجه لضرب الأعداء في الجزيرة عامة… فميدان الغنيمة كما هو ميدان الجهاد، كامل الجزيرة: أموال المرتدين من الأمراء والملوك والسلاطين والحكومات العميلة… وأموال الصليبيين والنصارى من الشركات الاستعمارية التي تشرف إما على نهب الثروات وإما على بيع منتوجات المحتلين، وهذه اليمن تشرف على واحد من أهم مضائق العالم وسفن وناقلات نفط الكفار تعبر كل يوم بالمئات بالرزق والمال”.

ومع أهمية الرؤية النظرية هذه التي بلورت المكانة الخاصة لليمن في عقول وقلوب منتسبي التيار الجهادي–السلفي، إلا أن السياق السياسي المحلي في هذا البلد خلال العقدين الأخيرين قد أضفى عليها أهمية مضاعفة وأبعاداً أكثر عملية. والعارفون بكواليس اللعبة السياسية اليمنية منذ مطلع تسعينيات القرن الفائت حتى اليوم يدركون تماماً الكيفية التي أُدير—ولا يزال يُدار—بها ملف الجماعات الجهادية-السلفية، لاسيما المقاتلين العائدين من أفغانستان، اليمنيين منهم وغير اليمنيين، وطبيعة التجاذبات والصراعات التي أُقحِم هذا الملف في إطارها، بغرض توظيف المنتمين إلى التيار الجهادي-السلفي بمختلف تشكيلاتهم، بما فيهم المنتمين إلى تنظيم “القاعدة”، واستغلالهم سياسياً من أجل دعم المواقف والمطامح السياسية لدى بعض اللاعبين الكبار في الساحة اليمنية.

وإذا كان هذا الأمر قد طرأ عليه نوع من التحوّل بعد بروز العديد من المتغيرات في الداخل كما في الخارج، وفي مقدمتها تداعيات الهجوم على المدمرة الأميركية (يو إس إس كول) في تشرين الأول/أكتوبر 2000 والهجمات الانتحارية في واشنطن ونيويورك في أيلول/سبتمبر 2001، وما خلّفته هذه المتغيرات من ضغوط هائلة على الحكومة اليمنية بحيث أصبح لا مناص لها من الانخراط في “الحرب العالمية على الإرهاب”، لكن هذا، في المحصلة، لم يمنع جهات يمنية معينة ومعروفة، ووفقاً لحسابات محلية صرفة، من المُضي في التكتيكات القديمة ذاتها المتعلقة بملف الجماعات الجهادية في اليمن، واللعب بأوتار التناقضات الكثيرة التي تتخلل هذا الملف الشائك. وكان من الطبيعي، والحالة هذه، أن تتعزز الرؤية الجيوبوليتيكية الخاصة التي تحملها الجماعات الجهادية، وعلى رأسها تنظيم “القاعدة”، تجاه اليمن بوصفها “حاضنة” مثالية للعمل الحركي والتعبوي تُشابه في أوجهٍ عديدة “الحاضنة الأم”، أي أفغانستان، وتقع على مرمى حجر من غايتها الأسمى “بلاد الحرمين”، أي العربية السعودية.

ويُثبِت رصد نشاط القاعدة في اليمن بوجهه القديم الذي تم احتواؤه (في ظل الجيل الأول) أو الجديد الحالي المستعصي على السلطات اليمنية (في ظل الجيل الثاني)، أنه لا يخرج عن سياق جَعْلها—أي اليمن—منطلقاً “للجهاد” في الجزيرة العربية، وهو ما حدث حين كان أغلب السلاح بيد “جهاديي” السعودية يأتي من اليمن، ومما يدلل على ذلك، أيضاً، أن اليمن والسعودية وقعتا اتفاقية للتعاون الأمني عام 2004، ومنذ ذلك الحين، تبادل البلدان تَسَلُّم (وتسليم) العشرات من المطلوبين والملاحقين أمنياً.

والظاهر أن هذا الأمر أخذ في الآونة الأخيرة زخماً أكبر في ظل الحديث عن بوادر “تحالف” وربما “اندماج” بدأت علاماته (بل وآثاره) في الظهور والتبلور بين فرعي تنظيم القاعدة اليمني والسعودي، واللّذين—على ما يبدو—يتوخيان الاستفادة من ذلك في تعزيز قوتيهما بالنظر إلى حاجة الفرع اليمني للقاعدة لاكتساب المزيد من الخبرة والدعم المالي، في مقابل رغبة الفرع السعودي في الحصول على ملاذٍ آمن يسمح بإعادة بناء بنيته المدمرة بفعل الإجراءات التي اتخذتها السعودية ضده ونتج عنها قتل واعتقال معظم أعضاء فرع تنظيم القاعدة في المملكة.

لقد أضحى من الجلي أن تنظيم القاعدة بفروعه كافة، والذي اضطر تحت تأثير الضربات التي تعرض لها في إطار ما يسمى “الحرب على الإرهاب” للعمل بشكل لا مركزي والاعتماد على الخلايا المحلية، بدأ يعيد تنظيم نفسه في سياق هذه اللامركزية، ولكن عبر سياسة تسعى إلى توحيد تلك الخلايا قدر الإمكان وفقاً للمنطقة الجغرافية، سعياً للتغلب على التشتت الذي تفرضه اللامركزية. ومن هنا بدأت “القاعدة” تعمل على تنشيط خلاياها في كل من أفغانستان، والعراق، وشمال أفريقيا، وآسيا الوسطى، واليمن، والصومال.

ومع اتساع نطاق ظاهرة “إعادة التوحد اللامركزي” لهذا التنظيم، فإنه من المتوقع أن تصبح “القاعدة” مصدراً رئيسياً للأخبار في مناطق متنوعة من العالم تحت إمرة هذه القيادات الجديدة، ولكن الخطورة تكمن في أن هذا الجيل الجديد من القيادات يعد من ذوي الخبرات المشتركة سواء في أفغانستان أو العراق أو غيرهما، مما يعني أن درجة التنسيق فيما بينها ستكون عالية، وبالتالي فإن “القاعدة” لن تعود للاعتماد على الخلايا المحلية، كما فعلت منذ هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر عام 2001، بل سيكون لها قرار “شبه مركزي”، وستعمد إلى تنفيذ عمليات تتميز بالنوعية العالية والتأثير.

ومع أن عملية توحيد الجبهات التي يسعى إليها تنظيم “القاعدة” الآن، من خلال هذا الجيل الجديد من القيادات، تبدو مؤثرة في البنية الهيراركية للتنظيم، إلا أن خطورتها تكمن في تأثيرها في أسلوب العمليات التي سيتبعها التنظيم في المراحل القادمة؛ إذ يتوقع أن تكون من حيث الأهداف أو التكتيك المتبع في تنفيذها مؤثرة وذات صخب إعلامي كبير (وهو ما بدا واضحاً في عمليات “قاعدة اليمن” وعمليات “قاعدة المغرب الإسلامي” في الجزائر مؤخراً). ورغم سعي “القاعدة” إلى تجاوز حالة التشتت واللامركزية التي عانت منها في السابق وجعلت الخلايا المحلية تلعب دوراً سلبياً في الدعاية للتنظيم، نتيجة غياب القرار المركزي، فإن هذه “الخلايا المحلية” ستظل تؤدي دوراً مهماً في إظهار التنظيم كقوة متغولة تصعب هزيمتها، كما أن تلك الخلايا ستحافظ على لعب دور أساسي في تجنيد أعضاء جدد، بالإضافة إلى إثارتها القلاقل من حين لآخر، بينما تتفرغ “القاعدة الأم” لتنفيذ أهدافها الاستراتيجية الكبرى.

وفي اليمن يبدو النهج “القاعدي” الجديد، بكل مساوئه وتناقضاته، واضحاً، على أن إحدى الدلالات المهمة الخاصة للتحول الاستراتيجي في تكتيكات تنظيم “القاعدة” في اليمن من ضرب الأهداف والمصالح الغربية في البلاد إلى استهداف بُنى السلطة والحكومة ذاتها والأجهزة الأمنية الداخلية على نحو سافر كما بدا ذلك في العمليات الأخيرة، وبوجه خاص عملية سيئون الانتحارية أواخر شهر تموز/يوليو الماضي، تكمُن في محاولة عناصر التنظيم وقيادته الجديدة استغلال المناخ المحتقن الذي يطبع البيئة السياسية والاجتماعية والأمنية في بعض المناطق اليمنية، وعلى نحو خاص المناطق الجنوبية في البلاد التي يسودها نوع من التململ الشعبي والشعور بالسخط على خلفية سوء إدارة السلطات للكثير من الملفات الحيوية العالقة في هذه المناطق منذ ما يقارب العقد ونصف، أي منذ نهاية الحرب الأهلية القصيرة في صيف 1994.

والملاحظ، في هذا السياق، أن وتيرة الأعمال الإرهابية التي تطال بعض المناطق اليمنية الجنوبية قد أخذت في التزايد على نحو ملحوظ، وهذا يشير إلى حدوث نوع من “التمدد الاستراتيجي” لتنظيم “القاعدة” في جنوبي اليمن، وينبئ ذلك عن تمكن التنظيم في السنوات القليلة الماضية من الحصول على ملاذات/بيوت آمنة ومساعدات لوجستية تتضمن أموالاً وأسلحة وأدوات اتصال وبنية إعلامية متطورة نسبياً من الناحية التقنية، بالإضافة، وهذا هو الأهم، إلى عناصر وخلايا بشرية تتشكل منها شبكات التنظيم العنقودية المُستحدثة وتدعمها (بعض هؤلاء مقاتلون عادوا من العراق واستقروا في مناطقهم الأصلية كأبين وتعز ولحج أو في مناطق أخرى، كما يوجد مقاتلون آخرون من غير اليمنيين وبشكل خاص من السعوديين، الذين انتقلوا—في معظمهم—إلى اليمن على إثر توثيق كُلٍّ من فرعي “القاعدة” اليمني والسعودي عُرى التحالف بينهما خلال الأشهر الأخيرة الماضية)، الأمر الذي يجعل مهمة قوات الأمن اليمنية في محاربة التنظيم وخلاياه، النشطة منها والنائمة، صعبة بمكان وفي غاية التعقيد.

كما أن هذا التحول التكتيكي الذي طرأ على استراتيجية “القاعدة” يأخذ زخمه أيضاً من الطابع الدولي الفاقع الذي يمتاز به ملف الإرهاب المفتوح على مصراعيه في اليمن في الفترة الأخيرة، وهو الملف الذي “فشلت” حكومة صنعاء، بحسب التقديرات الأميركية المعنية مباشرة بقضية الإرهاب في الأراضي اليمنية، في إدارته بالشكل الكافي والحاسم، حتى يُمكن اقناع من ينبغي اقناعهم في واشنطن بأن ثمة انجازٌ ما قد تحقق في الحرب التي تشنها اليمن على الإرهاب. ويبدو أن الأميركيين قد أصيبوا بخيبة أمل كبيرة جراء الطريقة التي تدير بها السلطات اليمنية ملف الإرهاب والحرب عليه، وبدا ذلك واضحاً في تعليقاتهم وتقريراتهم الحكومية والصحفية على حد سواء، والتي تواترت في الآونة الأخيرة بصورة تثير الانتباه والقلق معاً والناضحة بكثير من النقد للحكومة اليمنية، مُتهمة إياها تارة بـ”التقصير” و”عدم الجدية” في مكافحة الإرهاب، أو بـ”التساهل” مع أخطر الإرهابيين والمطلوبين و”توفير الحماية لهم” تارة أخرى.

والواقع أن هذا المناخ الضاغط سلاح ذو حدين بطبيعته؛ فهو يدفع الحكومة اليمنية إلى محاولة “تبييض” سجلها في مكافحة الإرهاب بمختلف الأساليب والطرق، لكن هذا الأمر قد يتم على نحو تغلبه العجلة والتصرفات غير المدروسة في إدارة هذا الملف البالغ الحساسية، وربما يتطور الأمر إلى نوع من التطرف غير المحسوب في اتخاذ المواقف والسياسات بحيث ينقض بعضها بعضاً، وفي نهاية المطاف تدفع صانعي القرار الأمني كما السياسي إلى الإنزواء في زاوية حرجة وضيقة؛ فيضيع بذلك الكثير من الجهد في الداخل ودعم الحلفاء وثقتهم في الخارج، وفي الطريق نفسه تُهدر كثير من الدماء وتبدأ من ثمّ حلقة مُفرغة وشريرة من الانتقامات والثارات التي قد تضعضع الأمن في البلد، وتنعكس بالضرورة سَلباً على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والأحوال المجتمعية المتأزمة أصلاً، وهو أمرٌ بات من غير الإمكان تقبّله، ناهيك عن تحمّله أو ضبط عواقبه الوخيمة إن حدث.

© معهد كيتو، مصباح الحرية، 16 أيلول 2008.

peshwazarabic11 نوفمبر، 20100

هل تكون الصيغة اللبنانية الصيغة المستقبلية للبلدان المشرقية، والأفق الذي تشخص نحوه كيانات تلك المنطقة، إن لم يمسسها تحوير يعيد تركيب مكوناتها على نحو ونسق غير ذينك اللذين عهدتهما منذ أن فُصلت عن المجال العثماني في أعقاب الحرب الكونية الكبرى، ثم منذ أن استوت دولا مستقلة في أعقاب الحرب العالمية الثانية؟

قد يبدو هذا السؤال غريبا، إن لم نقل مريبا، إذ يلوح كالزاعم إضفاء صفة النموذج على ما درجت نخب المنطقة، وتلك اللبنانية منها في المقام الأول، على حسبانه أنموذجا-مضادا، عنوان حرج وهشاشة، مبعث انشقاق أهلي مطّرد متجدد، ينفجر نزاعات على نحو دوري، نشازا مضنيا لأهله ولجواره، وذلك قياسا إلى ما يُتوهّم “قاعدة” مستتبّة أو ما يقوم مقامها، هي المتمثلة في الدولة المركزية، المتجانسة صلدةً والمنسجمة هيئةً مُحكمةً، قد يُبلغ في تبجيلها مبلغ الانسحار بمقترفي الانقلابات العسكرية بُناة أنصبة الاستبداد.

وراء ذلك، بطبيعة الحال، مسبقات هي من صلب الإيديولوجيا العربية، بالمعنى الأوسع وغير الحصري لهذه العبارة، أفكارا مبثوثة تشكل “المادة الأوّلية” للوعي السياسي لدى النخب والجمهور، سواء تبلورت في تيارات بعينها، وطنية أو قومية أو إسلامية، أم لم تتبلور، قوامها (نعني تلك المسبقات) ثنائيات راسخة مطلقة التنافر: وحدةٌ تناصب التعددَ العداء نقيضا مبرما، اندماجٌ يقابله، مقابلة الضد للضد، تجزيء وتفتيت… وقس على ذلك.

غير أن ما يعنينا هنا ليس الدخول في مفاضلة بين “النموذجين”، إذ ليس فيهما ما يدعو إلى المفاضلة. الصيغة اللبنانية معلومة عاهاتها، لا تنفك بادية للعيان منذ أكثر من ثلاثة عقود، إن نحن توقفنا عند التاريخ القريب والراهن، عسرا في تحقيق التئام ذلك الكيان ومكوناته حول ترتيب تأخذ به وتطمئن إليه، فإذا هي أزمة دائمة تراوح بين تعايش بين تلك المكوّنات لا مناص منه وبين قصور ملازم عن بلوغه. أما الصيغة المركزية فهي ليست أفضل حالا، إذ هي قد تفلح في إحلال الاستقرار، ولكن إلى حين وبثمن باهظ، أساسه الاستبداد ووسائله القسر والإرغام، قاسٍ مولّد للضغائن، وهي لذلك لا تلغي أسباب التفكك بل تؤجله، وهي إذ تفعل، متوخية تلك الوسائل، إنما ترسي الاحتقان وتغذيه.

لذلك، ليس في أخذنا بتلك الفرضية التي انطلقنا منها سؤالا حول ما إذا كانت الصيغة اللبنانية أفقا تشخص نحوه كيانات المنطقة، مستقبلا لها محتملا، لا ينم عن تبجيل لتلك الصيغة أو عن تفضيل، إنما هو يحاول استقراء الواقع القائم وممكناته.

إن كان من سمة فارقة للصيغة اللبنانية، فهي تسليمها بالفشل في استخلاص وحدة الكيان ودولته من مقومات فيهما داخلية، صير إلى التعويض عنها بعوامل (قوى) خارجية، ذات نفوذ إقليمي أو دولي، ترسي فيما بينها مساومة يكون نتاجها، في الحالة التي تعنينا، لبنان. مشكلة تلك الصيغة أنها، من جراء ذلك وبفعل افتقارها إلى مقومات التماسك الداخلية، هشة بطبيعتها، متحوّلة لا تثبت على حال، بفعل ما يطرأ على تلك القوى الخارجية، المؤثرة والضامنة للتوازن، من تقلب على صعيد النفوذ وعلى ميزان القوة بينها. ليس في القول بذلك من جديد، بل هو من البدائه البالغة مبلغ الابتذال.

لذلك، إن كان من عنصر جدّة في هذا الطرح، فهو ذلك الذي يتوقع لبقية كيانات المنطقة المشرقية أو لبعضها، مآلا كذلك اللبناني، يجد في تنامي الهويات العضوية، الطائفية والمذهبية والإثنية والعشائرية وفي نزوع الكيانات إلى التفكك، أماراتٍ ترجّحه. ربما مثّل العراق، ذلك الذي جاء الغزو الأمريكي قبل سنوات خمس ليودي بالنظام الذي كان يحكمه فأودى بدولته، مثالا ذا دلالة على كيان قام، حتى احتلاله، على مركزية قسرية شديدة القسرية، كانت قد تأزمت وفقدت مقوّمات الاستمرار حتى قبل ذلك الغزو ربما، فانطلقت قوى الانتماء العضوي من عقالها، وبرزت إلى الواجهة الطوائف والقوميات والمذاهب، تشخص بأبصارها نحو خارج ما تنشد الدعم، على أساسٍ مذهبي أو طائفي، أو على أساس مجرد التحالف.

ما هو في حكم اليقين أو يكاد، أن بروز تلك القوى مبرم لا رجعة فيه وأنها ستظل، في المدى المنظور، فاعلة تحظى بالتأثير، حتى إذا ما استعادت بلاد الرافدين تماسكاً، فإنه سيكون خلاصة مساومات بينها على تعايش لا مناص منه، على شكلٍ قد يكون فيدراليا أو على أي شكل سواه يُصار إلى توخيه، سيكون، على أية حال، بحاجة هو بدوره، وعلى نحو تأسيسي، إلى ضمانة خارجية (إيرانية وأمريكية وربما تركيّة أو سواها) بحيث يكون التوازن الداخلي جزءا من توازن إقليمي، أي، بمعنى آخر، خلوصا إلى ما يمثل لب ما يُعرف بالصيغة اللبنانية.

وذلك ما قد يكون أيضا مآل سوريا، إن اعترى تماسكها (وهو أمني في المقام الأول) اضطراب، وجدّ من العوامل الداخلية أو الخارجية ما يفضي إلى انهيار نظامها.

فالصيغة اللبنانية هي، على علاّتها، ما يتبقى متاحا، حيث ما وُجد كيان متعدد المكوّنات، يتعذر القفز من فوقه، مجالا اضطراريا للتعايش من ناحية، ولا يمتلك مقوّمات تماسكه الداخلي من وجه آخر، يستقيها من بيئته الاستراتيجية، ازدواجية ولاء، استقواء بخارج كاسر على داخل غير مطمئِنٍ، بحيث لا يتيسر الانتماء إلى الوطن إلا بالانتقاص منه، شرطا لذلك الانتماء شارطا.

كل ذلك لأن الصيغ “المركزية”، فشلت، منذ أن بعثت إلى الوجود مع استقلال دول المنطقة، في اجتراح وطنيات ناجزة، بحيث يمكن القول أنه إذا ما كان لمقولة “الدول الفاشلة”، تلك التي ترددها أوساط أمريكية بعينها، من جدوى تفسيرية في ما يخص تلك المنطقة، فهي تلك المتمثلة في أنها قد تمثل تشخيصا لا يخلو من دقة لذلك الوضع.

بل أن الفشل ذاك قد يكون أشمل من أن يتوقف عند حال تلك الكيانات وأبعد مدى، وقوامه أنه ليس بين تلك القوى الخارجية الراعية للتوازنات الداخلية لتلك الكيانات قوة تتأتى من المجال العربي. وذلك ما سيكون موضوع تناول مستقل.

© معهد كيتو، مصباح الحرية، 17 تموز 2008.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018