peshwazarabic

peshwazarabic10 نوفمبر، 20101

النشر العلمي هو واحد من مخرجات النشاط العلمي المختلفة. ويعتبر النشر العلمي مقياس للنشاط العلمي للفرد العالِم أو للمؤسسات العلمية. و له شروط وضوابط صارمة و هذا ما جعله في واحد من أعلى مراتب التقييم. على ذلك ليس كل ما ينشر يعد بحثا علميا، و ليست أية مطبوعة تنشر علما تعتبر مجلة علمية. كما انه ليس كل بحث ينشر يعد قفزة أو طفرة علمية.
كان لابد من هذه المقدمة البسيطة لتناول تقرير نشرته مؤسسة (Science-Metrix)  و بعنوان (“ثلاثون سنة في العلم) يهتم بدراسة العلاقة ما بين العوامل الجيوبولتيكية والنشاط العلمي وذلك من خلال دراسة النشر خلال الثلاثين سنة الأخيرة (1980-2009). إن هذه الفترة الزمنية تغطي أحداثا سياسية كبيرة وخطيرة مثل انهيار الاتحاد السوفيتي وما تبعه من تغيرات في أوربا الشرقية. أما في الشرق الأوسط فنجد الحرب العراقية الإيرانية واحتلال الكويت وتحرير الكويت وسقوط النظام العراقي السابق. ويشكل العراق الطرف المهم داخل هذه المشاكل الشرق أوسطية.
لقد استخدمت الدراسة مخرجات إحصائية من (Thomson Reuters, database) والخاصة بالنشر العلمي لتلك الفترة. و فيما يلي خلاصة سريعة لما  بينته هذه الدراسة :
أولا: أن بعض الدول المنسلخة عن الاتحاد السوفيتي السابق عانت تراجعا في النشر. في حين أظهرت بولندا و ليثوانيا و استونيا نموا واضحا.
ثانيا: كان النمو واضحا في الشرق الأوسط (حوالي أربعة مرات أسرع من المستوى العالمي) و تصدرت إيران و تركيا قمة النشاط.
ثالثا: ظهرت إيران على أنها أسرع دولة في العالم في بناء مقدراتها العلمية خلال العشرين سنة الماضية. و يعزو التقرير هذا النمو إلى البرنامج النووي الإيراني المثير للجدل.
رابعا: ساهمت قارة آسيا خلال الثلاثين سنة ب 155% من النشاط العالمي متجاوزة أمريكا الشمالية. أظهرت الصين نموا مذهلا حيث كان نموها أسرع بخمسة مرات من النمو الأمريكي. ولكن من جهة أخرى أظهرت الصين تباطأ في نمو العلوم الإنسانية و الاجتماعية مقارنة مع الولايات المتحدة.
خامسا: أدى احتلال الكويت إلى تراجع كبير في نشاطها العلمي واستطاعت الكويت استعادة نشاطها بعد التحرير إلا أنها لم تتمكن من الوصول إلى ما كانت عليه خلال عقد الثمانينات.
سادسا: أدت الحرب العراقية الإيرانية إلى تراجع النمو العراقي في نهاية الثمانينات ومن ثم انهيار النظام العلمي العراقي والذي استمر لغاية 2004 تقريبا.
سابعا: يعتقد التقرير بان هناك إعادة تشكيل عالمية للنشاط العلمي و يعطي لآسيا المكان المتقدم. حاليا تحاول أوربا الحفاظ على موقعها في حين أمريكا الشمالية تخسر موطئ قدمها لصالح آسيا و أمريكا اللاتينية.
مما يلاحظ أن التقرير كان قد ركز على النشر العلمي كمقياس للتقدم العلمي وهذا مقياس معتمد عالميا، إلا أن التقرير لم يبين مستوى النشريات العلمية و أنواعها التي تم اعتمادها في إحصاء البيانات و بذلك تكون مدخلات العملية الإحصائية غير واضحة. من جهة أخرى فإن مؤسسات النشر العلمي العالمي تتركز أساسا في أوربا و أمريكا و جنوب شرق آسيا و اليابان، و معظم النشاط العلمي العربي منشور في مجلات محلية غير معروفة عالميا.
على أية حال لقد لوحظ بعد منتصف القرن الماضي نوع من الانحسار في نشاط العلوم الصرفة لصالح النشاط التكنولوجي. و هذه الظاهرة نتيجة عوامل كثيرة لا مجال لتناولها الآن. و هذا ما قادني لافتراض توسيع نموذج أوكست كونت (المراحل الثلاث للتطور الفكري) ليكون على أربعة مراحل بدلا من ثلاث.
إن بروز النشاط الرابع (التكنولوجيا) لم يظهر إلا بعد وصول النشاط العلمي إلى نوع من الاستقرار في نموه. على ذلك نجد أن نمط النشاط العلمي التقليدي يكاد أن يكون مستقرا في أوربا و أمريكا التي عاشت نموا طبيعيا خلال القرون الخمس الماضية وهي الآن في قمة تربعها. إن الإبداع العلمي الذي و صفه الفيلسوف الأمريكي كون (Kohn) اخذ بالتباطئ و ربما كانت آخر ثورة علمية هي ثورة الخارطة الجينية في التسعينات من القرن الماضي. على ذلك نجد أن التجمعات الدولية المتقدمة والمترابطة علميا مثل الدول الغربية و حتى إسرائيل ذات نمو مستقر. يبلغ مؤشر النمو (Growth index) الأمريكي 0.73 في حين مؤشر النمو الإسرائيلي 0.94.
إن البحوث العلمية الصرفة أخذت تشهد انحسارا وقل إقبال الطلبة والباحثين عليها كما قل الدعم المالي المقدم لها. إن معظم حالات النمو العلمي المؤشرة ذات طبيعة تطبيقية و تمول بحثيا من شركات صناعية  أو مراكز بحوث تطبيقية، وهذه البحوث التطبيقية تعتمد على أساسيات العلوم الصرفة بمعنى آخر إن نتائج هذه البحوث ذات تطبيقات علمية متخصصة و ضيقة التطبيق، إنها تقود إلى ثورات تكنولوجية وليس ثورات علمية. و هذا ما يظهره التقرير في النمو الصيني.
أما بخصوص ظواهر النمو العلمي فقد اظهر التقرير أربعة أنواع من النمو:
نموا في بعض الدول التي تحررت من قيود الايدولوجيا (الشيوعية) و ذات بعد أوربي.
نمو في الدول التي تحاول النهوض مثل الدول العربية. وكان مؤشر النمو العربي مابين 0.47 للعراق و 3.29 لعمان.
نمو متسارع لإيران بلغ 11.07. و هذا نمو تحفيز مأدلج لأن مؤشرات التنمية البشرية التي أظهرتها الأمم المتحدة لم تبين نموا موازيا لهذا. و هذا ما يعني أن هناك تركيز مقصود على جانب معين من التنمية أكثر من الجوانب الأخرى. ويعرض التقرير مقدار التركيز على الكيمياء والهندسة – التكنولوجيا والفيزياء وحصلت فيزياء البلازما على أعلى مؤشر للنمو (95.8)، في حين حصلت الهندسة الميكانيكية على أوطأ مؤشر (12.5). لقد أظهرت الفيزياء حصولها على اهتمام عالي جدا في البحث العلمي الإيراني.
نمو علمي صناعي صيني مذهل. إن الثورة التقنية الصينية بدأت بعد انحسار الثورة الثقافية لماوتسيتونغ و زوال تأثيرها. أظهرت الصين نموا متسارعا في تخصصات تطبيقية مثل علم المواد و البوليمرات والمعادن والتعدين، وهذه التخصصات هي ذات طابق تقني.
بدأ النمو الإيراني نهاية الثمانينات في الوقت الذي بدء فيه التلاشي العلمي العراقي. استمر التلاشي العراقي إلى حدود عام 2004 حيث بدأ النمو من جديد و هو الآن في حالة تصاعد بطيء. رغم الأدلجة الدينية الإيرانية فإن إيران ذات قاعدة علمية علمانية تم تأسيسها في عهد الشاه السابق و بقت محافظة نوعا ما على البعض من التقاليد العلمانية السابقة. لقد ظلت العلوم الطبيعة التقليدية بعيدة نسبيا عن التسلط الأيديولوجي إلا أن العلوم الإنسانية والاجتماعية تراجعت كثيرا. لهذا بقى النشاط العلمي الإيراني على علاقاته العالمية بعد الثورة دون أن يتأثر كثيرا و استمرت البعثات الطلابية إلى الولايات المتحدة و الغرب عموما. و لا تختلف الثورة الإيرانية عن أي ثورة مؤدلجة في محاولة الاستثمار السياسي للعلوم في المجالات التي يهدف لها تطلعها الأيديولوجي.
التقدم الصيني الهائل الذي حدث بعد التخلص من الثورة الثقافية المؤدلجة لم يبنه التطبيل و الدعاية الجوفاء لتاريخهم المجيد، بل الذي بناه هو التخلص من الأدلجة المتزمتة و الانفتاح على العالم و السوق الحر. الباحث الصيني الآن لديه مختبرات وكتب و مؤسسات نشر صينية، ومؤسساته العلمية على صلة مستمرة بأشهر مؤسسات العلوم و التكنولوجيا في العالم، و هناك علاقة ما بين ما تنتجه البحوث و ما تتبناه التكنولوجيا. هناك أربعة عناصر مترابطة في النمو الصيني وهي النمو الصناعي والنمو العلمي و النمو الاقتصادي، إضافة لعامل مهم وهو القدرة البشرية الهائلة و قابلية الفرد على تقبل الأفكار الحديثة، حيث لا يوجد تعارض ما بين الموروث التقليدي و الحداثة. هذه العناصر تبين أن النمو الذي حققته الصين نموا حقيقيا مترابط العناصر و ليس نموا مؤدلجا أو بهدف ادعاء التحضر و المعاصرة.
النشاط العلمي يعتمد على عدة عناصر مثل توفر الدعم المادي والنمو الاقتصادي والحرية الفردية و الاجتماعية والقدرة على الخلق و الإبداع. بالإضافة للتأثيرات الفردية للحرية على الفكر الإنساني المبدع فان الحرية الاجتماعية تدعم الاندماج العلمي عالميا و تساعد على التكامل العلمي ما بين الدول. أما علاقة الحرية بالإبداع فإنها ضرورة ملحة و تطمح المجتمعات المعاصرة على تربية أجيالها على الإبداع وعدم التقليد .
إن الكثير من المجتمعات العربية تعتبر من أغنى المجتمعات ذات الثروة الطبيعية، ورغم أن الجانب الاقتصادي واحد من عناصر النمو العلمي إلا انه ليس كافيا لخلق بيئة علمية منتجة. قد يتمكن العرب من استجلاب المختبرات و الأساتذة الأجانب وإنشاء مراكز البحوث و..، ولكن لن يتمكنوا من خلق بيئة علمية منتجة بدون حرية فكرية وتربية مدرسية تربي روح الإبداع وتخلق مجتمعا منفتحا. إن طبيعة الموروث التقليدي للفرد ما تزال مناهضة للتحديث حتى لدى الكثير من العلميين. مثل هذه الظاهرة المحبطة غير موجودة في المجتمعات الصينية و اليابانية.
بالإضافة للأمثلة التي يمكن استخلاصها من التقرير فان ظاهرة الارتباط ما بين الحرية و التطور تم تشخيصها في تطور العلوم عند العرب خلال الفترة مابين 700م-1000م، و كذلك تطور العلوم في الغرب بعد عام 1400م تقريبا.  النمو العلمي العربي البسيط  الذي ذكره التقرير هو الآخر ناتج الحرية النسبية التي عاشها العرب بعد اندحار التسلط العثماني مطلع القرن العشرين وظهور المؤسسات الحديثة ولكن التأثيرات الفكرية لفترة الانغلاق العثمانية ما تزال ذات سلطة اجتماعية هائلة تعيق الفكر الحر حتى الآن. لقد تمكنت تركيا من الحد من تأثير الفكر العثماني المغلق، وهذا ما قادها إلى نمو قدرهُ التقرير ب5.47. رغم التقبل النسبي للمجتمعات العربية لهذه المؤسسات العلمية الغريبة عنها إلا أن هذه المجتمعات ما تزال غير قادرة على التعامل مع العلم ومؤسساته بكفاءة.
لقد جاء تسلسل النمو العلمي العربي في الشرق الأوسط خلال الثلاثين سنة الماضية كما يلي مع مؤشر النمو:
عمان 3.29
الإمارات العربية المتحدة 2.7 (هناك عدة مؤسسات حديثة لدعم البحوث العلمية)
لبنان 1.88
الأردن 1.7
سوريا 1.52
اليمن 1.31
قطر 1.22 (تأسست فيها عام 1995 مؤسسة قطر و هي مؤسسة راعية و داعمة للبحوث العلمية)
الكويت 1.06
مصر 1.0 (أقدم دولة عربية من مجال العمل العلمي)
البحرين 1.0
المملكة العربية السعودية 0.96
العراق 0.47 (تأثير الوضع السياسي).
إن معظم الناتج البحثي العربي هي عبارة عن أعمال أكاديمية يجريها طلبة البحوث لكون مؤسسات البحوث العربية تجربة حديثة في معظم الدول العربية. و مع زيادة الأكاديميات العربية تزداد البحوث. مثل هذا النمو البحثي و النمو في النشر العلمي لا يعني نموا مماثلا في الإنتاج الصناعي والتطبيقات لهذه البحوث. كما لم يصاحبه نموا اقتصاديا ملازم للتطبيقات. إن هذا النمو لا يعدو عن كونه نموا منفصلا لا تأثير اجتماعي له. الدول العربية عموما تعاني من انفصال كبير ما بين المؤسسات الأكاديمية و البحثية والصناعة لكون الصناعة مستوردة أساسا وليست ناتجا محليا. لذلك يبقى الانجاز البحثي دائما معزولا و أكاديميا فقط و من ثم لا قيمة محلية له.

peshwazarabic10 نوفمبر، 20102

لقد أثبتت حقائق التاريخ بأن الازدهار الحضاري لا يمكن أن يتم صدفة وإنما نتيجة ظروف معينة. إنه أشبه ما يكون بناتج تفاعل كيماوي يحتاج ظروف معينة و شروط خاصة لكي يتم. وقد عكف الكثير من الباحثين على دراسة هذه الظاهرة الحضارية في المجتمع البشري  . وأهم ما يمكن الإشارة إليه بالإضافة للعامل الاقتصادي هو دور الحرية الاجتماعية و عدم الأدلجة في بناء الحضارة.  تقدم سجلات التاريخ شواهد على ذلك فالمجتمع الإغريقي القديم لم يكن مقيد فكريا  وأطروحاتهم الفلسفية خير دليل. والحضارة العربية الإسلامية الغابرة كانت كذلك.  لقد كان العرب ما بين 700-1000  ميلادية أقرب للعلمانيين المعاصرين سواء كانوا في بغداد أو الأندلس أو القاهرة.  و هذا هو سر النهضة العربية الإسلامية اليتيمة. اندثرت هذه الحضارة و حتى يومنا هذا بسبب الأغطيات الإيديولوجية الدينية التي لم تكن موجودة بشكلها الصارم أيام النهضة اليتيمة. التنوع الفكري و الديني و القومي في تلك الحقبة الزاهرة مماثل لما هو عليه الآن في المجتمعات المتطورة المعاصرة .
كانت ملامح العلمانية الأولى أساس نهضة العرب الوحيدة، و العلمانية ذاتها أساس نهضة الغرب الآن، لذا على المجتمعات العربية الإسلامية أن لا تتوقع أية نهضة بعيدا عن المجتمع العلماني.  لم تتطور تركيا الحديثة إلا بعد اختيارها طريق العلمانية و لم تتطور ماليزيا  إلا بسبب نظامها العلماني.  لقد قادت العلمانية والحرية الغرب إلى التطور الحضاري و إلى سيطرته على الكثير من جوانب الحياة المعاصرة. الغرب ليس غبيا عندما يطمح لفتح مجتمعه ليكون متعدد الثقافات (Multi culture society). الغرب لا يريد أن يدمر مجتمعاته بالتعددية الفكرية و الدينية ، بل يدرك أن هذا التعدد و الاختلاف هو عنصر قوة لديمومة التحديث. التعدد الاجتماعي و الانفتاح على الآخر  والحرية الفكرية هي السر وراء بناء الحضارة ، لذا تطمح هذه المجتمعات إلى بناء الفرد المعاصر الذي يستطيع تقبل الآخر فردا كان أو فكرا. المجتمعات المغلقة فكريا لا تستطيع تقبل الآخر و لا تستطيع تقبل ما لا يسود اجتماعيا، مثل هذه المجتمعات لا يمكنها الاندماج عالميا ولا يمكنها بناء حضارة،  لذا فان سر البناء المعاصر هو الفرد الاجتماعي المعد إعدادا خاصا ليحيا زمنه الحالي و المعقد، و لكن كيف يُبنى الفرد المعاصر؟ إن علم الاجتماع يهتم بالشخص (Person  ) وليس الفردIndividual  وذلك أن الشخص هو الفرد الذي تفاعل اجتماعياً وأصبح كائناً اجتماعياً. وبذلك يكون التفاعل الاجتماعي مابين الأشخاص مجالاً أساسيا و مهما في علم الاجتماع. الشخص أو اللبنة الاجتماعية يمتلك حرية القيام بأفعاله ضمن الضوابط الاجتماعية، فهو يملك احتمالية كبيرة و واسعة لتحقيق الفعل. لكي يكون الفرد عضوا في المجتمع (شخصا) فإنه لابد وأن يخضع لعملية التأنيس (Socialization)  و بذلك يكون قادر على التفاعل الاجتماعي ( Social interaction ) . إن التأنيس يعني أن عضو المجتمع قادر على التفاعل مع الأعضاء الآخرين ويستجيب اجتماعيا وليس للدوافع  الذاتية فقط. عملية التأنيس تسير بشكل طبيعي للفرد من خلال نموه و تطوره اجتماعيا. حرية الإرادة ميزة مهمة يجب توفرها في اللبنة الاجتماعية و الحرية هنا هي المساحة المسموح  للفرد العضو التحرك فيها اجتماعيا. إن مفهوم الحرية الاجتماعية مفهوم نسبي ومهما تقلصت هذه الحرية فإنها تبقى موجودة و لا يمكن إلغائها مطلقا  (حتى مجتمع العبيد يتمتع أفراده بنسبة من الحرية المحدودة جدا) لكن حرية الإبداع لابد أن تكون من السعة بما يتجاوز حرية العبيد بكثير،  وهذه الحرية هي ما يكفلها المجتمع لأبنائه. حرية الإرادة هذه هي ما تظهر من خلاله فردية اللبنات الاجتماعية، وهي ما تشكل الحركة المتغيرة دائما في المجتمع. على أية حال إن الدول المتطورة تهتم كثيرا ببناء أفرادها و يمكن  بيان ملامح البناء فيما يلي:
خلق مواطن صالح للمعيشة في الظروف الاجتماعية المعاصرة بتغيراتها، أي خلق مواطن محلي معاصر. منذ مراحل التعليم الأولى يتعلم الطفل التعامل الاجتماعي وحدود حريته وطريقة التفكير والتعامل مع الآخرين وفهم الأديان الموجودة في مجتمعه وليس عقيدته الخاصة، لأن معظم المدارس ذات توجه تربوي عام. إن الإعداد هو إعداد تطبيقي و ليس نظري، و طريقة التعليم ليس طريقة الكتاتيب التي تعتمد الحفظ الأصم بل المناقشة و النقد. وحتى العلوم الطبيعية يدرسها الطالب الصغير من وجهة نظر دورها في مجتمعه مثل البيئة و الطاقة النظيفة و استهلاك الطاقة و هو بذلك يعرف فائدتها التطبيقية المباشرة. خلق مواطن يمكن أن ينتج و يعمل بالمواصفات التي يحتاجها مجتمعه، على المستوى المهني يسير الطالب في دراسته بالاتجاه الذي يختاره و الذي يمكن من خلاله أن يوفر له فرص أكبر في سوق العمل. سوق العمل يلعب دورا كبيرا في اختيارات الطالب و كذلك في توجيه المناهج الدراسية و البحوث، و سوق العمل مرتبط بمنظومة الحياة المعقدة وتلعب الصناعة و التكنولوجيا دورا كبيرا فيها.  إبعاد المدارس عن خلق جيل مؤدلج قوميا كان أو دينيا أو سياسيا. هذه الاتجاهات تترك للعائلة و الفرد، وبذلك يكون الجيل المنتًج غير مشحون ضد الآخر و ذي مرونة فكرية عالية في تقبل التحديث الذي هو الهم الأساسي لديمومة المجتمع و تطوره، والولاء الوحيد هو للوطن و كسب المواطنة لا يحتاج أدلجةَ فكرية صارمة. و لما كانت الظروف المحلية و العالمية دائمة التغير و التطور اجتماعيا و تكنولوجيا فإن منظومات التعليم تعيش نشاطا فاعلا دءوبا في تطوير مناهجها و أساليبها التعليمية وبصورة مستمرة.  من هذا يتضح الابتعاد عن أدلجة المجتمع و خلق أفراد ضيقي الأفق في مجتمعات ذات تنوعات عرقيه و دينيه مختلفة.
خلال القرن العشرين حصلت الدول العربية على استقلالها السياسي و طمحت في البناء.  و كان البناء الأول هو بناء مؤسسات دولة وليس بناء مجتمع،  لذا اتجهت الحكومات العربية إلى استنساخ ملامح المدينة الغربية المعاصرة. لاشك أن فجوة التخلف الحضاري هائلة أكثر من خمسة قرون لذا واجهت عملية البناء الاجتماعي التحديات التالية:
البناء الاجتماعي غير مؤهل لطفرة خارقة يتجاوز بها تراكمات كل تلك القرون، كما أن الإمكانيات المادية مهما كانت لا يمكنها أن  تساعد في تجاوز هذه الفجوة القاتلة .إضافة لعدم توفر المتخصصين في هذا المجال، حتى الغرب لم يكن ليألف التعامل مع حالة كهذه.
خلال القرن الماضي و الوقت الحاضر كان التركيز وما يزال على ظواهر التحديث الضرورية مثل مراكز البحوث و الجامعات لتوفير الكوادر المهنية و كذلك المستشفيات و المعامل …إلخ. لقد حاولت الدول العربية و الإسلامية أن تكسب مدنها و مجتمعاتها ملامح المعاصرة ، و لكنها خلال هذا الهم الكبير تركت ورائها بنائين مهمين هما:  البناء المعاصر للفرد ليكون شخصا اجتماعيا معاصر و ليس مجرد كادرا مهنيا.
بناء الفرد و نوعيته هو الذي سيعزز و يديم البناء الحضاري الأعلى مثل الجامعات و مراكز البحوث و المؤسسات التكنولوجية و الثقافية.
وليس مجرد تعليم القراءة و الكتابة كافيا لمحو الأمية. إن تعليم القراءة و الكتابة قد يساهم في زيادة الأمية الحضارية. مهارات القراءة والكتابة تساعد على دوام التواصل مع ما هو مكتوب و هنا قد يكون نوع المكتوب مشكلة أكبر من عدم القراءة و الكتابة! ، لذا فإن مفهوم الأمية في المجتمعات العربية لاشك مختلف عن مفهوم الأمية في المجتمعات الغربية، على ذلك يكون البناء التربوي المدروس للمناهج الدراسية و التوعية الثقافية مهم جدا بالإضافة لمهارتي القراءة و الكتابة. إذ لابد من تغيير الثقافة الاجتماعية البالية و المتخلفة.  عليه نجد أن البناء العربي يجب أن يكون باتجاهين، الأول بناء الإنسان و الثاني بناء المؤسسات العلمية المتقدمة، و لكن للأسف اهتمت الدول العربية و ما تزال بالبناء الفوقي أو المؤسساتي دون أن تهتم ببناء الإنسان، و القرى هي المصدر الكبير و الأساسي لهذا الإنسان و لكن الدولة العربية تركته للتربية الاجتماعية السائدة و الغير مناسبة لزمنه الحالي. هذا التناقض في بناء الفرد ما بين المؤسسة التعليمية المكتفية بالمعارف العامة (التي تعتمد المعاصرة) و التربية الاجتماعية البعيدة أساسا عن المعاصرة هو ما يخلق الكثير من الإشكالات الاجتماعية و السياسية. المجتمع العربي يعاني ليس من أمية الأبجدية فقط و لكن من أمية حضارية نتيجة الانقطاع الحضاري المستمر، و الذي مازال يلعب دورا كبيرا في القرى والأزقة العربية بشكل ظاهر و في المدن بصور متفاوتة. التعامل اليومي مع منظومات معاصرة مثل السيارة، الكهرباء، نظام المرور في الشارع، جهاز الدولة، منظومات التعليم  و البحوث، الأنظمة السياسية الأحزاب، البرلمانات، أجهزة الإعلام، المجتمع المتنوع الأعراق ، … الخ من الأنظمة المعاصرة يتطلب دراية و أسلوب تعامل خاص ودور خاص،  و لكن لم يتم تنشئة الأجيال العربية الحديثة عليه. نعم قد تكون هناك مدرسة تحاول أن تقدم شيئا، و لكن عموم المجتمعات العربية بعيدة عن التحديث حتى داخل المدن.  ينشأ الفرد العربي نشأة عشوائية و حسب الموروث الاجتماعي و الديني دون أن يكون له إعداد خاص ليعيش القرن الحادي و العشرين. لهذا السبب و للأسف نجد أن معظم محاولات التحديث العربية مجرد تحديث سطحي لم يصل للقعر و لم تنجز المجتمعات العربية خلال تعاملها بكل المنظومات المعاصرة المذكورة أعلاه أو التي لم تذكر أية كفاءة. إن أي جامعة عربية حديثة وذات أحدث المعدات لن تستطيع أن تعمل بنفس كفاءة جامعة غربية بسبب نوعية الفرد العامل على إدارتها و الطالب الذي يدرس بها، لذا سيبقى التحديث مجرد مظاهر مهزوزة سهلة التراجع و تبقى جهود التحديث بعيدة طالما بقي الفرد البسيط بعيدا عن التوجيه و التربية الحديثة، و هذا لا يتم إلا من خلال تقليص الفرق الحضاري بين المدينة و القرية أو الزقاق و تغيير مناهج التربية و التعليم للأطفال.
© منبر الحرية،11 ماي /أيار 2010

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

لابد من وقفة موضوعية جادة لرصد ظاهرة المراكز العلمية ومراجعة أدائها في دول الشرق الأوسط، وفي منطقة الخليج على نحو خاص، حيث راحت مثل هذه المراكز تنتشر كـ”الفطّر” على نحو ملفت للنظر في الجامعات والمؤسسات الحكومية ووسائل الإعلام، ولدى القطاع الخاص في حالات معينة.
المهم في هذا السياق هو الإعتراف بأن هذه الظاهرة صحية وواعدة بقدر تعلق الأمر بإعداد مثل هذه المراكز وبحقول تخصصاتها وتشعباتها التي تمتد لتحتضن مديات واسعة من الحقول العلمية: إبتداءً من دراسات السيرة والسنة النبوية الشريفة، مروراً بالبحوث الإستراتيجية والسياسية، وإنتهاءً بأبحاث التمور وألعاب الأطفال التراثية. ولكن مع هذا التوكيد على فوائد هذا النوع من النشاط، ينبغي رصد جدواه ومعطياته ومخرجاته الواقعية الملموسة تجنباً لتحول مثل هذه المراكز إلى مجرد ” تقليعة ” تعبر عن “حمى” لتأسيس مراكز غير مجدية أو مراكز بأسماء وأقنعة علمية مغرية يراد لها إخفاء الترهل والتغطية على قنوات صرف الأموال وإستحلابها من الرعاة بلا إنتاج حقيقي ملموس يرقى إلى المتوقع والمرجو.
ولكن قبل مباشرة مثل هذه الإستفهامات الحساسة، التي يمكن أن تستثير حفيظة البعض، يتوجب التسليم بحقيقة أن ظاهرة المراكز العلمية التخصصية إنما هي من إفرازات “محاكاة” المؤسسات العلمية الغربية، ذلك أن الأقاليم العربية لم تكن على معرفة وتجربة ملموسة بمثل هذه المراكز، اللهم بإستثناء تجربة قديمة ومنسية، وهي تجربة “بيت الحكمة” البغدادي الذي تاسس على عهد الخليفة العباسي المأمون لرصد وترجمة وأرشفة النتاجات العلمية للأمم الأعجمية، من أجل إفادة رأس الدولة والمختصين في الطب والفلسفة وسواهما من علوم ذلك العصر. بإستثناء هذه الحالة العتيقة والنادرة، لم تشهد حركة الثقافة والعلوم في البلدان العربية مراكزاً من هذا النوع، نظراً لعدم وجود الرعاية Sponsorship أو المؤسسات الأكاديمية والسياسية التي تحتاج إلى مثل هذه المراكز عبر العصور المظلمة بعد سقوط بغداد على أيدي هولاكو خان عام 1258م. لذا يمكن أن نخلص إلى أن هذه المراكز حديثة العهد في منطقتنا لأنها لم تكن سوى صدى للمراكز العلمية الغربية، صدى جاء إلينا بسبب الإحتكاك بالغرب ونتيجة لزيادة أعداد خريجي الجامعات الغربية في الأقطار العربية والإسلامية.
لذا فإن الظاهرة هي نوع من أنواع التشبث بالتقدم العلمي الذي أحرزه الغرب كي يتحقق مثله في الدول العربية. ويبدو أن الإنتشار السريع والواسع للظاهرة في مختلف دول الخليج يتصل بقوة بفوائض الموارد المالية الآتية مع تصدير البترول. لقد حضيت مقترحات تأسيس مثل هذه المراكز العلمية بالدعم والرعاية من قبل الممولين في المنطقة على نحو مشجع، وربما غير متوقع، الأمر الذي يفسر تسابق البعض إلى “إبتكار” الأفكار والموضوعات لتقديمها للرعاة كي تتم الموافقة عليها ويتم تأسيس المركز المطلوب على اسس مالية واعدة. وقد كانت الحكومات العربية (نظراً لإهتمامها التقليدي بالحقول التنموية والعلمية) وراء تمويل مثل هذه المراكز، الأمر الذي حدا (فيما بعد) بالمستثمرين والميسورين من الأفراد والشركات إلى تأسيس ودعم مراكز علمية من هذا القبيل، إما لخدمة مصالحهم وأهدافهم الحرفية الخاصة، وإما من أجل الصالح العام، حيث لاحظت في رصد إحصائي لمثل هذه المراكز ثمة ممولين أرادوا تخليد أسماءهم عبر تأسيس مثل هذه المراكز المختصة بالتراثيات والمأثورات أو بالدراسات الدينية، كنوع من أنواع “الأعمال الخيرية”. ومن ناحية أخرى، حاولت بعض الحكومات التعبير عن رعايتها لأصحاب الكفاءات من حملة الشهادات التخصصية العليا عن طريق تأسيس مثل هذه المراكز على أساس “ضرب عصفورين بحجر”، من خلال إجراء المكافآت والمرتبات السنوية لهؤلاء المتخصصين من ناحية، والإفادة من معارفهم وأبحاثهم على سبيل توظيفها في عملية صناعة القرار السياسي (كنشاط إستشاري)، من الناحية الثانية. أما الجامعات العربية، فقد إضطلعت بمشاريع من هذا النمط المؤسسي، بيد أنها بقيت أدنى مما كان مرسوم لها، ذلك أنها لم ترقَ قط إلى مستوى المراكز العلمية التخصصية ومراكز الدراسات الإقليمية في الجامعات الأميركية والأوربية الغربية عامة. ويرد سبب ذلك إلى إنهماك بعض الجامعات العربية بعمليات التخريج بالجملة، زد على ذلك ضعف التمويل الذي تحظى به مثل هذه المشاريع التي تعد “فرعية” في بعض الأقطار العربية. بل أن مثل هذه المراكز العلمية الجامعية وصلت حداً من التدني أنها صارت نوعاً من “المنفى” للتدريسيين من الجامعيين غير المرغوب بخدماتهم في قاعة المحاضرات، أما لأسباب فردية أو لأسباب سياسية أو لسواها من الأسباب. لذا لوحظ وجود مراكز علمية متخصصة بأسماء كبيرة ولكن بمخرجات مجهرية صغيرة في عدد من الجامعات العربية التي تفتقر أصلاً لما يكفي من الكوادر العلمية الرفيعة القادرة على الإبتكار والأصالة في البحث.
وفي مقابل هذه الحال، برزت ظاهرة الإندفاع الواسع الذي عبر عنه العديد من حملة الشهادات العليا والمتخصصين نحو الإنضمام أو الإلتحاق بمثل هذه المراكز العلمية (في الدول الغنية) نظراً لأنها تقدم المرتبات العالية والإيفادات العلمية المغرية دون الحاجة إلى العمل المثابر لساعات طوال وعلى نحو دوام رسمي، بإعتبار أن المنتمي إنما هو “باحث” لا يحتاج إلى مثل هذه التعقيدات الشكلية. وهكذا صارت بعض المراكز العلمية “لا علمية”، بل غدت نوعاً من أنواع البطالة المقنعة. ومن ناحية أخرى، شهدت وسائل الإعلام حالة من الإنجراف في تيار تأسيس المراكز والنوادي العلمية على  سبيل تجهيزها بالمواد الصالحة للنشر أوللضخ الإعلامي، الأمر الذي يبرر إعلانات الفضائيات العربية وبعض الصحف تاسيس مراكز من هذا النوع، ليس فقط من أجل تحقيق مثل هذه الأهداف، وإنما كذلك من أجل منح وسيلة الإعلام المذكورة مسحة من “الرصانة” العلمية وشيئاً من “الوجاهة” أو السمعة التي قد ترقى بها إلى مصاف (نيويورك تايمز) أو الـ(CNN). بيد أن الملاحظ هنا هو إساءة توظيف مثل هذه العناوين الكبيرة عبر نتاجات أدنى مستوى من المتوقع والمأمول. إن هذا، بطبيعة الحال، ليس بتعميم أعمى لأنه لا ينفي وجود مراكز بحث ودراسات إعلامية متخصصة بدرجة عالية من الجدوى و الفائدة الملموسة.
ولكن من منظور آخر، تبقى حالة هدر الأموال والتغطية على غياب الجدوى العلمية حالة مغرية لمتابع هذا الموضوع في بعض الدول العربية. والدليل هو تحول بعض هذه المراكز العلمية، بأسمائها المبهرجة والكبيرة، إلى مجرد “مكاتب” وسكرتيرات وحواسيب لجمع الغبار. بل أن بعض المراكز التي تعد نفسها أكثر نشاطاً هي تلك التي “تتوج” عملها العلمي بإصدار مجلة أو دورية متخصصة فصلية أو شهرية أحياناً من أجل أن تقدمها للجهة الراعية أو الممولة كتوكيد على نشاط المركز الذي يشبه نشاط وحيوية عمل النحل في بناء خلاياه. ولكن رصد المؤلفات والأبحاث المنشورة في مثل هذه الدوريات يبرهن على أن المركز لا يؤدي ماهو متوجب عليه من دراسات وأبحاث لأنه يستعين بأقلام باحثين من خارج المركز، من هؤلاء الذين يريدون نشر أبحاثهم في أي إناء علمي معتمد أكاديمياً. مثل هذه المراكز كثير للغاية: فعلى الرغم من فوائد أنشطة النشر من هذا النوع، على سبيل  تشجيع حركة النشر العلمي، تبقى المراكز “ستائر” لإخفاء البطالة المقنعة بداخلها.
هذا هو ما يسحبنا تلقائياً إلى ضرورات التمييز بين مراكز البحث العلمي من ناحية، وبين دور النشر من الناحية الثانية. وهذا مأزق طالما أرّق القياديين الأكاديميين الجادين الذين كانوا يريدون للمراكز العلمية التي يؤسسونها أن تكون مراكز بحث علمي بحق (بباحثين جادين ومثابرين، وبمكتبات كبيرة، وبمشاريع علمية مخططة ومدروسة مركزياًُ، بأهداف رصينة ومفيدة)، وليس دوراً للنشر تبحث عمن يضنيه البحث عن الناشر كي تنشر كتابه أو بحثه ضمن سلسلة أوراق أو أبحاث يصدرها المركز، مقابل مكافآت مالية. ومن أجل المقارنة والمقاربة، على المطلع أن يلاحظ أن مراكز البحث الرفيعة في الجامعات والمؤسسات الغربية تخصص أموالاً طائلة وربما أسطورية من أجل إضطلاع باحثيها بدراسات عالية ودقيقة التخصص، ليس من أجل النشر بحد ذاته، بل من أجل تقديمها للراعي (حكومة أو مؤسسة خاصة) على نحو سري أو محدود التداول. بيد أن هذه الظاهرة قلما تحدث في العديد من الدول العربية، نظراً لتباين المنظور (منظور الجهة الراعية) وبسبب تدني المستوى العلمي والدافعية البحثية في حالات عديدة منظورة. بل أنني قد لاحظت، عبر تجارب وزيارات شخصية عديدة أن بعض مراكز البحوث والدراسات “الإستراتيجية”، أن هذه المراكز إنما هي في جوهرها مجرد يافطات للإعلان، لأنها لا تزيد عن مكتب مستأجر في بناية، زائداً موظف او موظفة مع شيء من المرطبات الساخنة شتاءً، والباردة صيفاً.
هنا تكمن المعضلة الجوهرية في ظاهرة “محاكاة” الغرب شكلياً، ولكن بدون محاولة تحقيق ذات النتائج المرجوة من عمليات تأسيس المراكز العلمية المتخصصة لدينا في الأقطار العربية. إن هذه المراكز الموجودة، أو المزمع إقامتها، حيث نتلقى دعوات الإسهام بها هذه الأيام، هي بحاجة ماسة إلى المراجعة الشديدة والدقيقة من قبل الجهات الراعية والعاملين بها أنفسهم على سبيل تفعيلها وإحالتها من مراكز لجمع شحوم الترهل والتكاسل، إلى مراكز مجدية ونابضة بالحياة ترقى بصانع القرار السياسي أو الإقتصادي أو الإجتماعي إلى مستوى المرجو من العطاء.
© منبر الحرية، 30 دجنبر/كانون الأول2009

peshwazarabic10 نوفمبر، 20101

إن قصة المجاعة المألوفة تحدّق ثانية بشرق أفريقيا. ومرة أخرى، تتناول القمة العالمية للأمن الغذائي التي عُقدت قبل أيام أعراض هذه المجاعة، وتغفل أسبابها. فأحد هذه الأسباب هي السنوات المتعاقبة من الأمطار الشحيحة؛ فالقلة القليلة من المزارعين الأفارقة يمتلكون أنظمة للري. ففي أثيوبيا على سبيل المثال، تعتمد 90% من الزراعة على مياه الأمطار. ولكن كثيرا ما يتعرض المزارعون في أنحاء أخرى من العالم إلى موجات من الجفاف ومع ذلك فهم يتجنبون المجاعة.
قبل عام 1800، كانت المجاعة سببا رئيسا للموت في شتى أرجاء العالم. وكانت معظم الشعوب تعيش من الزراعة. فقد كانوا ينتجون ما يكفيهم من الغذاء وبعض الفائض عندما تكون الظروف ملائمة. أما إذا ما ساءت الأحوال، فيستهلكون ما ادخروه. وفي حال استمرار الأحوال السيئة كانوا يلقونَ حتفهم من الجوع.
لقد تغيّرت هذه الحلقة ببطء  في أوربا الغربية بعدما ازداد التمدن، وأصبح الأفراد يتخصصون في تصنيع بعض البضائع والمتاجرة بها مع أفراد آخرين متخصصين في مجالات أخرى. فازداد الإنتاج وأدت المنافسة إلى الابتكار وتضاعف المخرجات. فارتفع الإنتاج الزراعي بشكل كبير في المحصلة وانخفضت نسب المجاعة.
بيد أن مجاعة أيرلندة منذ عام 1845  إلى 1852، ومجاعة فنلندة منذ عام 1866 وحتى عام 1868 تشكلان استثناءا لتلاشي هذه الظاهرة في أوروبا في القرن 19. و تجد ومجاعتي فنلندة و أيرلندة  سببهما في الحكومات القمعية التي تقيد حقوق الأفراد في امتلاك الأراضي والتجارة.  فأدت الزراعات المعيشية المصحوبة بالمرض وسوء الأحوال الجوية إلى مقتل مئات الآلاف من الناس.
منذ عشرينيات القرن الماضي، سجّلت معدلات الوفيات العالمية الناجمة عن المجاعات المرتبطة بالجفاف تراجعا كبيرا بنسبة 99.9%. ما هو السبب؟ التخصص المتواصل والتجارة هما اللتان ضاعفتا كميات الطعام المنتج للفرد الواحد، ومكّنتا الناس في الأقاليم المعرّضة للجفاف من التنوّيع، ليصبحوا أقل عرضة للمجاعة. ولكن في أفريقيا، حيث تقوم الحكومات بمنع حرية حركة وانتقال البضائع والأفراد، وحيث حقوق ملكية الأرض مقيّدة جدا وغير مؤمنَّة، لم تبقى للأفراد سوى فرص ضئيلة لكسب قوت يومهم الهزيل. وأثيوبيا هي المثال الأبرز على ذلك: فالحكومة هي المسؤول الأول عن تكرار تلك الكوارث.
في عام 1975، قامت الدكتاتورية الاشتراكية بقيادة مينغيستو هايل مريم بتأميم كافة الأراضي الزراعية في أثيوبيا، معرقلة ً بذاك نظام الملكية المعقد والشائك، فضلا عن تقويض عملية تمليك الأراضي الناشئة. كان الهدف المعلن هو حيازة الأراضي من المالكين الإستغلايين، و منح الفلاحين حقوق استغلالها، وخلق تعاونيات زراعية لغرض إطعام الشعب، وإبقاء الناس خارج المدن.
ولكن هذه السياسة فشلت فشلا ذريعا. فقد تم استبدال الاستغلال بالقمع. ففي غياب الحوافز لتطوير الأرض، تراجع الناتج تراجعا حادّا، ناهيك عن منع التجارة وتجريمها. وفي ظل مينغيستو، لم يُسمح للمزارعين بتخزين المحاصيل وتوفيرها لأوقات الشدّة، ولا بتوفير المال المتأتي من مبيعاتهم. ولم يُسمح للمقاولين بنقل الغذاء وتوجيهه إلى المناطق التي هي في أمس الحاجة إليه. فقد اعتبرت جميع هذه الممارسات ممارسات رأسمالية مضادة للاشتراكية. وعندما ضرب الجفاف البلاد عام 1983، كما يفعل دوريا ، لم يكن بوسِع الملايين من الناس أن يجدوا كفافهم من الطعام، فلقي مئات الآلاف حتفهم جوعا.
فهل تعلّمت حكومة ميليس زيناوي، رئيس وزراء أثيوبيا منذ عام 1991 دروس عام 1983؟
لم تدخل حكومة ميليس تغييرا ملموسا على سياسة مينغيستو في ملكية الحكومة للأراضي. فبموجب دستور عام 1995 ضل للمزارعين الحق في استخدام الأرض دون الحق في امتلاكها. لذا لم يكن بمقدورهم رهن أراضيهم؛ أي أنهم لم يستطيعوا الحصول على قروض معقولة لأجل رفع إنتاجهم من المحاصيل (من خلال البذور الجيدة  والأسمدة والمبيدات والري، الخ)، مما جعل معدلات الفائدة المترتبة على القروض التي حصلوا عليها عالية جدا.
كما أنهم لا يستطيعون بيع أراضيهم والانتقال بحثا عن فرص اقتصادية أفضل. فليس أمام العائلات سوى أن تقسّم الأرض التي يستخدمونها إلى قطع أصغر فأصغر لتوزيعها على البالغين من الأبناء. وهذا بدوره أدى إلى مجموعة من العواقب الوخيمة: توجّب على العائلات استنفاذ مدّخراتها أو بيع ممتلكاتها الأخرى من أجل البقاء؛ كما أن التقسيم المتواصل أدى بصورة مباشرة إلى تدهور البيئة و انخفاض المحاصيل الزراعية مما فاقم مشكلة الجوع. وأخيرا، لم يكن مسموحا للمزارعين الأكفاء بالتملك وإنشاء مزارع أكبر وأكثر أنتاجا.
والأسوأ من ذلك هو الحد المتعمد من الهجرة إلى المدن من طرف الحكومة. لماذا؟ تدّعي الحكومة، من خلال الحد من الهجرة إلى المدن، أنها قلقة بشأن النمو الحضري “الفوضوي”. ولكنها تتخوّف في الحقيقة من تزايد الناس في العاصمة أديس أبابا الذي سيصعب عليها عملية إخماد الاحتجاجات وإسكاتها، والتشبث بالسلطة السياسية. فعندما يُمنع الناس من الانتقال إلى المدن، فهم بذلك يُمنعون من السعي وراء الفرص الاقتصادية واستخدام مواهبهم في إقامة المشاريع – وهو الشيء الذي يحتاجه الناس عندما لا يكون بمقدورهم إعالة أنفسهم وعائلاتهم من خلال الزراعة.
إن إجبار الناس على البقاء مجرد مزارعين صغار، وحرمانهم من استغلال الفرص المحتملة في المدن، وإجبارهم على الهجرة، وجعلهم يدمرون الأرض من خلال تقسيمها إلى حصص صغيرة، هي سياسات حكومية سيئة، وليست طقسا سيئا.
كان من الممكن تفادي مأساة العام الحالي عبر سياسات مختلفة، بتحويل ملكية الأرض التي تملكها الحكومة إلى الذين يحرثونها، وإزالة القيود المفروضة على التجارة والتنقل. لقد أن الأوان لتحسين وضع الفقراء لمنع المآسي المستقبلية.
* جوليان موريس هو المدير التنفيذي لشبكة السياسة الدولية، و كارول بودرو هي زميل أبحاث أقدم وباحثة قيادية في مشروع إنتربرايس أفريكا! في مركز ميركاتوس في جامعة جورج ميسون بأمريكا.
© منبر الحرية، 23 نوفمبر/تشرين الثاني2009

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

أكثر ما يحفل به حاضرنا العربي المعاصر ودون شك، هو حالتا التخوين والتكفير اللتان ترهقان الفضاء الفكري وتحدان من سلطة العقل وحقه في التفكير الحر الذي يفكك بنية الوعي المولّد للتكفير و التخوين إلا ما استند على دليل ظاهر.
ولكن المتفحص لحالات التخوين التي تتم في العالم العربي، والمدقق في مفردة خيانة واستخدامها الحالي ، لاشك سيلحظ اقتصار نمط التخوين على حالتين اثنتين : أولهما التعامل مع العدو بالنسبة لمن تعامل وعمل جاسوسا لصالح العدو بحق.
وثانيهما: اتهام السلطات للمعارضين لها بالتعامل مع الخارج وتلقي معونات خارجية. ويقابلها من الطرف اّلآخر اتهام المعارضين للمثقفين المستقلين ولمن يخالفوهم في الرأي بالعمالة لصالح السلطات.
لن نناقش في هذا المقال الدوافع التي تجبر السلطات والمعارضات العربية على اتهام المخالفين لهما بالخيانة، لأنها في جذرها تعود إلى غياب الأرضية الديمقراطية اللازمة.
ولكن سنناقش امتناع السلطات العربية وأبواقها الإعلامية قاطبة، والمعارضات على اختلاف أشكالها والمثقفين والشعوب نفسها على إطلاق عبارة الخيانة على حالات الفساد التي يتم كشفها، علما أن حجم الضرر التي يتسبب به هؤلاء الفاسدين يكون في أحيان كثيرة أفجع وأفدح وأكثر ضررا مما قد يسببه “الخونة” بالمعنى الأول.
أليس تخريب اقتصاد الوطن خيانة ؟
أليس سرقة أموال الوطن خيانة ؟
ألا يخون المؤتمن على أموال البلاد والعباد ثقة من أمنوه؟
خطر الفساد عندما يكون في مراكز حساسة لا يقل عن خطره عن حالات الخيانة والتجسس لصالح العدو، وخاصة عندما يصل الأمر إلى مرحلة الإفساد المتعمد، تحقيقا لمصالح شخصية ضيقة، وأحيانا ربما يكون الهدف الخفي هو تخريب واضح وممنهج للاقتصاد الوطني ، الأمر الذي يجعل من الحالة “خيانة وطنية بامتياز”!
ولكن رغم ذلك لا نجد من يطلق على الفاسدين، صفة الخيانة، لا من قبل السلطة التي تحاكم هؤلاء الفاسدين، ولا من قبل الإعلام الذي يسرد وبالتفصيل الممل فسادهم، ولا من قبل المعارضات التي تشنف أذاننا ببياناتها الصاخبة ضد الفساد والمفسدين، ولا من قبل المثقفين الذين يعتبرون “ضمير الأمة ورسلها”، ولا من قبل الشعب نفسه الذي يحصد نتيجة ما يزرع هؤلاء المفسدون.
السؤال المربك : هو لماذا لا يتهم هؤلاء بالخيانة؟ ما لسبب؟
للوهلة الأولى يبدو الأمر طبيعيا، وغير ذي أهمية، إذ يكفي القول أنهم مفسدون وهذا يفي بالغرض، ولكن تدقيقا ما في الحالة سيكشف ما هو أدهى وأعظم، لأن خلف الأكمة ما خلفها!
نبدأ من السلطات التي تحاكم هؤلاء الفاسدين، فهي لا تطلق عليهم صفة الخيانة، لأنها بإطلاقها الصفة المذكورة، يعني أنها تطلقها على نفسها، لأن الشخصيات التي تحاكم بتهم الفساد “دائما” هي شخصيات تربت في بيت السلطة وضربت بسيفها، و هي التي سمحت لها بالفساد والإفساد المتعمد من أجل تسهيل مهمتها في الحكم، ليصبح “الجميع مدانون تحت الطلب”، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن العديد من الشخصيات الموجودة في السلطات العربية وما تزال تمارس عملها، هي شخصيات معروفة بفسادها وإفسادها، وامتلاكها لأموال غير مشروعة، الأمر الذي يعني أن إرداف صفة الخيانة بمن يحاكم بتهمة فساد، هو توجيه التهمة نفسها وبطريقة غير مباشرة لمن مازال يمسك بزمام الأمور، الأمر الذي ينتزع من أيدي السلطات العربية، أهم سلاح تشهره في وجه معارضيها. هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن السلطات المذكورة لا تقدم على محاكمة أي شخصية من شخصياتها بتهم فساد لأنها تنوي مكافحة الفساد، إنما تحقيقا لهدف معين يخدم مصلحتها، وهو ما بيناه في مقال سابق منشور على هذا الموقع تحت عنوان : الفساد والسلطة والديمقراطية.
هنا نجد أن امتناع السلطات عن إرداف صفة “الخيانة” بمن تمت محاكمته بتهم الفساد، ليس عبثيا أو نتيجة غباء ما ، إنما هو أمر مدروس وممنهج، كي لا تطالها الخيانة، وتصبح كمن يشرب من سُمّا طبخه بنفسه!
ولكن المحيّر هو عدم انتباه المعارضات العربية في العالم العربي كله لهذا الأمر، إذ رغم اتهام السلطات لها دوما” بالعمالة والخيانة”، لم تسع يوما لأن تفكك ذلك المصطلح، وتعيد تركيبه بشكل فكري ممنهج لرد التهمة إلى أصحابها الحقيقيين، الأمر الذي يعكس أوجه قصور هذه المعارضات وعدم نضجها، وعدم قدرتها على الخروج من حالة “الأدلجة” التي حصرت نفسها بها، إذ تعكس أغلب بياناتها مراهقة فكرية تؤكد عجز هذه المعارضات عن تشكيل نموذج يمكن أن يشكل حالة تشي بأمل ما.. حيث مازال تفكيرها محصورا بنطاق السلطة والوصول إلى الحكم، دون أن تكلف نفسها العمل على قضايا المجتمع والفساد، أي مازالت تطفو على السطح، ولم تسع لتأسيس حالة شعبية عن طريق اهتمامها بالثقافة والفكر وقضايا الناس، إضافة إلى أن المعارضات نفسها تعيش فسادا معنويا من نوع آخر، وهو الفساد السياسي الذي يجعلها تناور”سياسيا” فقط دون أن تسعى لتشكيل جذر حقيقي معارض في المجتمع، أي تسعى مثلها مثل السلطات الحاكمة لأن تلعب على تناقضات المجتمع من أجل الوصول حتى لو أدى ذلك إلى خلخلة روابط المجتمع المفككة أصلا.
وهنا حال التصاق مفردة الفساد بالخيانة، سيجعل التهمة موجهة إلى المعارضة نفسها التي تتحاشى أن توسم بها، الأمر الذي يجعل من السلطة والمعارضة وجهان لعملة واحدة.
أما على الصعيد الشعبي، فيبدو الأمر معقدا جدا، حيث أضحى الشعب في أحيان كثيرة من خلال منظومته الفكرية التقليدية (التي تسعى السلطة وأعوانها إلى تكريسها) عاملا مساعدا على الفساد ، رغم أنه المتضرر الأكبر، حيث وصلنا إلى مرحلة أصبح فيها الفساد بنيويا، وأصبح الشعب نفسه يدافع عنه ويكرسه، حيث استطاعت السلطات أن تجعل من الجميع مشاركا ومساهما بشكل أو بآخر، الأمر الذي يعني وسم الفساد باسم الخيانة أمر غير مستحب لدى الشعوب السائدة بسبب الوعي المشوه الذي تم زرعه عبر عملية غسل دماغ مستمرة منذ عقود، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، نلحظ أن ثقافتنا العربية عموما مبنية وقائمة على التخوين الذي فرضته الإيديولوجيات الشعبوية، والتكفير الذي فرضته الأصوليات الإسلامية، ومابين إيديولوجية التكفير وإيديولوجية التخوين يبدو الوعي العربي محاصرا بفخ يصعب الفكاك منه، حيث تعلم المواطن العربي أن التخوين يمكن إطلاقه على المخالف في الرأي وعلى المعارض وعلى كل من يسعى لخلخة البنى السائدة المكرسة للوعي المأزوم هذا.
الأمر الذي يعني أن الخيانة في الوعي المأزوم هذا تبدو ثقيلة جدا، لذا يتحاشى الوعي الشعبي إطلاقها على الفساد لأن الكل مشارك بهذا الفساد، الأمر الذي يعني أن هذا ينطبق عليه.
وهنا نلحظ ذلك الازدواج المرعب في الثقافة العربية، هذه الثقافة التي تتحاشى إطلاق صفة الخيانة عندما تمسها، وتطلقها بسهولة على من يختلف معها في الرأي، وهذا أصعب ما في الظاهرة وأعقدها، إذ يغدو الأمر مركبا، فالمتضرر من الفساد هو الذي يدافع عنه، ولا يكتفي بذلك بل يخترع”ايديولوجيا” تشرعه وتقدم له المسوغات اللازمة لنموه واستمراره.
من هنا لا يمكن فصل محاربة الفساد، عن توجيه النقد العنيف لكل البنية الثقافية المولدة لتلك الأنظمة (سلطة ومعارضة وإعلام ووعي شعبي زائف) التي استطاعت أن تلعب وتناور وتبني قلاعا داخل مدن خصومها، ليصبح المتضرر هو المدافع عما يسبب تضرره دون أن يدرك ذلك.
© منبر الحرية 16 يونيو/حزيران 2009

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

بات الممر المائي الهام في البحر الأحمر منطقة حساسة تتلاقى عبرها مصالح خطوط التجارة لقارات العالم القديم (آسيا- أفريقيا- أوروبا) و فوق ذلك ساحةً للبارجات والسفن العسكرية للدول النافذة في العالم، ووجود هذا العدد المتزايد من القطع العسكرية الأجنبية له تأثير خطير على الأمن الإستراتيجي للجزيرة العربية والقرن الأفريقي اللتان تتقاطع مصالحهما في هذه المساحة من العالم. وعلى اعتبار أن مضيق باب المندب يربط بين ثلاث قارات، ويزداد الاهتمام العالمي به منذ القديم، وخصوصاً بعد حفر قناة السويس عام 1869 ثم ظهور البترول وتزايد التجارة العالمية، ثم يأتي المستطيل البحري الممتد من خليج عدن والواصل إلى شواطئ جيبوتي في الأهمية التالية، ومع هذا التفاوت في الأهمية إلا أن منطقة البحر الأحمر الجنوبي برمتها تظل محل تطلع عالمي.
وأنتقل تحديداً إلى جنوب البحر الأحمر المتحكمة في مضيقه –باب المندب- اليمن وجيبوتي وإلى حد ما الصومال، والمعروف أن اليمن والصومال هما صاحبتا أكبر إطلالة مباشرة على المياه الإقليمية في خليج عدن، ويمتلكان سواحل بحرية طويلة؛ فلليمن 2800 كلم على البحر الأحمر والعربي والصومال 3500 كلم على البحر الأحمر والمحيط الهندي. وتمضي الأهمية الجيوسياسية لمنطقة جنوب البحر الأحمر إلى تأكيد أهمية كلاً من اليمن والصومال اللتان يرتفع لديهما مؤشر التهديد كلما ازدادت احتمالات العسكرة الأجنبية في البحر الأحمر، وبالتالي فإن اليمن يصبح في صدارة الاستهداف كون الصومال غارق في الفوضى منذ العام 1991، الأمر الذي يضع كثيراً من التكهنات والاستفسارات عن ثمة أحداث دراماتيكية قادمة تضع هذا المستطيل البحري في صدارة الأحداث.
وتصير الجزيرة العربية والقرن الأفريقي هما الشق الآخر المتأثر مما يجري لدى اليمن والصومال، فاليمن يقع في الكفة الجنوبية من الجزيرة العربية وبالتالي فهو الحامي الجنوبي للخليج العربي بعد تدمير العراق الحامي الشمالي وما يجري في الصومال سينتقل بتأثيره إلى البقية في القرن الأفريقي، في حين أن الأحداث المكوكية –عمليات القرصنة- في السواحل اليمنية والصومالية سيتجاوز الجزيرة والقرن الأفريقي إلى التجارة الدولية المستفيدة من سلامة الملاحة الدولية في البحر الأحمر، وسلامة آبار النفط في الجزيرة والقرن الأفريقي، ويأتي تكهن أساسي أن التجاهل الدولي للحرب الأهلية في الصومال ثم عمليات القرصنة الناتجة عن الفوضى الصومالية مفاده إيجاد مبرر لفرض وجود عسكري أجنبي في البحر الأحمر –وهو بحر عربي- يكون له ما بعده، حيث ستكون المنطقة برمتها عرضة مباشرة للإملاءات والسيناريوهات القادمة من الدول النافذة التي يروق لها انتقاص –أو انتفاء- السيادة العربية –خصوصاً اليمنية- على مياه وجزر البحر الأحمر.
واليمن منذ وقت باكر كان يدعو إلى جهود جماعية تقف على ما يجري في جنوب البحر الأحمر، واستدعت دواعي الحرص على الأمن والسلم اللذين يتوجب توفرهما في البحر الأحمر والقرن الأفريقي إلى جهود يمنية حثيثة كانت وراء ميلاد تجمع صنعاء بإيجاب وتعاون سوداني أثيوبي عام 2002 يدعو ميثاقه التأسيسي إلى انضمام دول جنوب البحر الأحمر والقرن الإفريقي، حيث وصل المشاركون خمسة دول (اليمن، السودان، إثيوبيا، الصومال، جيبوتي) في القمة الأخيرة في كانون الأول/ ديسمبر الماضي بالعاصمة السودانية الخرطوم. واليمن عموماً -بغض النظر عن ما يمكن أن يقدمه له تجمع صنعاء أم لا- كانت عرضة لتأثر والتأثير بما جرى من أزمات وتوترات في هذا الجزء من العالم، يمكن وصفها في التالي:
أولاً: الحرب التي دارت بين إثيوبيا وإريتريا من العام 1998 إلى العام 2000 وإثره توصل الطرفان (الاريتري- الأثيوبي) إلى قرار يرسم الحدود بينهما بناءاً على توصيات لجنة مستقلة لترسيم الحدود بينهما في العام 2002..
ثانياًُ: النزاع اليمني الإريتري في العام 1995م بشأن أرخبيل جزر حنيش الإستراتيجي الواقع على البحر الأحمر، وقد حسمت محكمة لاهاي النزاع بين الطرفين بأحقية اليمن لجزرها التاريخية.
ثالثاً: القضية الصومالية التي ابتدأت بحالة انتهاء الدولة منذ العام 1991 ومروراً بحكم الإسلاميين وانتهاء بالغزو الأثيوبي المنسحب مؤخراً.
وجراء تلك الأحداث كانت الأراضي اليمنية تستقبل موجات من النازحين من البلدان الثلاثة –الصومال واثيوبيا واريتريا- وخصوصاً اللاجئين الصوماليين الذين تجاوزت أعدادهم الستمائة لاجئ صومالي.
ناهيك عن أن الفوضى الصومالية قد أسفرت عن ظاهرة القراصنة التي تركت للتداعي، الأمر الذي يفتح المجال للتكهن عن وجود أجندات خارجية تقف وراء التزايد والاتساع الملفت لعمليات القرصنة التي قد تجاوزت البحر الأحمر إلى المحيط الهندي وسواحل كينيا والسواحل اليمنية في البحر العربي. ويحذر معهد “شاتام هاوس” في اكتوبر 2008 بأنه لابد من التعامل مع القراصنة، إذ أن انعكاسات ارتفاع التكلفة ستؤدي بالسفن إلى تجنب الإبحار في خليج عدن لتسلك الطريق الأطول عبر أوروبا وأميركا الشمالية ورأس الرجاء الصالح.
ويفضي القلق والتساؤل المتراكم منذ دخول منطقة القرن الأفريقي وجنوب البحر الأحمر في حلقة أحداث أمنية ومواجهات عسكرية وأخيراً عمليات القرصنة التي أسفرت عن تداعي عشرة دول أوروبية في حلف الأطلسي لإرسال قواتها البحرية لمواجهة القراصنة إلى القول بأن مخاوف اليمن القديمة بخصوص مايجري في المنطقة كانت طبيعية. فقد كرراليمن نداءاته لأميركا والعالم الغربي (وحتى العالم العربي والخليجي تحديداً) بضرورة مكافحة القرصنة ومنذ وقت باكر، ناهيك عن تأكيداتها منذ سنوات الفوضى الصومالية الباكرة أن ذلك سيخلف تداعيات وانعكاسات على المنطقة برمتها.

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

في غرفة الإجتماعات الملحقة بمكتب رئيس المخابرات الأمريكية كانت جميع المقاعد حول المائدة البيضاوية مشغولة بعددٍ من كبار رجال الوكالة وعددٍ آخر من أكبر الشخصيات البترولية التي جاءت على طائراتٍ خاصة من ولايتي تكساس وكاليفورنيا للمشاركة في هذا الإجتماع الهام والذي بدأ في موعده تماماً عندما لحق بالمجتمعين رئيس الوكالة.
بدأ الإجتماع بمقدمة ملخصة عن أسعار البترول وعلاقاتها بالأحداث السياسية الكبيرة والهزات النفسية في العالم منذ الصدمةِ البترولية الكبرى التي جاءت كنتيجةٍ لنقص الإمدادات في أواخرِ 1973 وطيلة سنة 1974. جاء إستعراض موجات إرتفاع وإنخفاض الأسعار وخلفيات ذلك السياسية والنفسية موجزاً وعلى أعلى المستويات.
بعد هذا العرض المبدئي الموجز ، أخذ رئيس وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في الإستماع لوجهة نظر كل من الحاضرين ولكن قرب النهاية كان واضحاً أن أكثر ما نال إعجابه هو عرضٍ موجز لرئيس شركة بترول عالمية كبرى عندما قال: “خلال السنوات الثلاثين الماضية إنتقلت مجموعة الأوبك من تزويد العالم بثلثي إحتياجاته في مرحلةٍ ثم بنصف إحتياجاته في مرحلةٍ تالية والآن فإن مجموعة الأوبك لا تزود العالم إلاِّ بثلث إحتياجاته من البترول الخام فقط. رغم هذه الحقيقة الكبيرة والتي ترجع لخططٍ دقيقة وُضعت لجعل إنتاج الدول غير الأعضاء بالأوبك (اليوم) ضعف إنتاج دول الأوبك .. وذلك بتكثيف عمليات البحث في غرب إفريقيا وتنمية حقول جمهوريات آسيا الوسطى وغير ذلك .. رغم هذا العامل المهم ورغم زيادة الإعتماد على الغاز الطبيعي في مجالاتٍ عديدةٍ ورغم وجود تقنية حديثة تسمح بإستخلاص وقود وسائل النقل من الغاز وليس من زيت البترول الخام .. رغم كل ذلك فلا تزال أسعار البترول عُرضة للإرتفاع أو الإنخفاض الشديدين ليس أساساً بسبب المتغيرات التي تطرأ على مستوى الطلب وإنما في المقام الأول بسبب عوامل نفسية تتعلق بإحتمالات تعرض مصادر الإمدادات البترولية للخطر. إذاً لو بقينا نعمل في نفس الإتجاهات كما فعلنا منذ الصدمة الكبرى من ثلاثين سنة ، فلن يفيدنا ذلك كثيراً. المطلوب الآن إجراء جديد وهو في وجهة نظري وجود منتج ثاني لا مثيل له إلى جانب المنتج الكبير الأوحد الذي لا مثيل له اليوم. إننا نسمي السعودية منذ ثلاثين سنة Swing Producer أي المنتج الوحيد الذي يستطيع أن يجلس على (المرجيحة) فيغير توازنها. طالما بقى هذا المنتج (بضمة فوق الميم وسكون فوق النون وكسرة تحت التاء) الوحيد بمفرده فستبقى أمور أسعار البترول على نفس الحالة: إرتفاعات مهولة نتيجة مخاوف حقيقية من تعرض مصادر زيت البترول الخام لما يمكن أن يجعلها معطلة أو شبه معطلة)”.
ثم أضاف نفس المتحدث: “والآن بالذات فإن السعودية تشهد قلاقلٍ كبيرة بسبب ما أسميه حرب النظام مع الجناح المتطرف من الثقافة الوهابية والتي هي في الأساس قاعدة شرعية النظام. وليس من المستبعد أن تزداد القلاقل وتحدث هجمات على الحقول أو وسائل التخزين أو خطوط الأنابيب أو تسهيلات الشحن مما يعرض العالم بأسره لهزةٍ عظمى. إن إحتياجات العالم اليوم من زيت البترول الخام هي ما بين 70 و74 مليون برميل يومياً .. وتنتج دول الأوبك ثلث هذا الحجم المطلوب .. وتنتج السعودية وحدها ثلث مجمل إنتاج مجموعة الأوبك. وإذا كانت السعودية تنتج ما بين 8 و9 مليون برميل في اليوم فإن معظم دول الأوبك تنتج ما بين 1 و3 مليون برميل يومياً .. أي أن هناك هوة شاسعة بين الدولة التي تحتل المرتبة الثانية (إيران) والدولة التي تحتل المرتبة الأولى (السعودية). وهذا هو مصدر مصطلح Swing Producer”.
وأنهى المتحدث الذي كان واضحاً أنه حاز الإعجاب الشديد لرئيس وكالة الإستخبارات الأمريكية كلامه قائلاً: “إن أمامنا اليوم فرصة تاريخية وهي أن نصل بإنتاج العراق خلال خمس سنوات إلى أكثر من 6 مليون برميل يومياً فيصبح في العالم لأول مرة منتج كبير ثاني Second Swing Producer يستطيع أن يعوض إحتياجات العالم إذا تعرضت الإمدادات الواردة من السعودية للتوقف بسبب عدم الإستقرار.
رفع رئيس المخابرات الأمريكية رأسه وسأل الحاضرين: “هل من الناحية التقنية تستطيع إحتياطيات العراق إنتاج 5 أو 6 مليون برميل يومياً؟” فأجاب الحاضرون في نفس واحد: “بكل تأكيد”. أما المتحدث الذي كان قد نال إعجاب رئيس الوكالة فقد أضاف: “نعم وبكل تأكيد من الناحية الفنية وبشرط أن تكون الإعتبارات السياسية والأمنية لا تعوق ذلك”. عندئذٍ أثار أحد الحاضرين سؤالاً هاماً: “إن تحقيق ذلك يحتاج لمدة من ثلاث إلى خمس سنوات .. فما العمل إذا إنهارت الأوضاع الأمنية في السعودية وتسبب ذلك في كارثة قبل أن تصبح العراق ذلك المنتج الذي سميناه Second Swing Producer أي المنتج الأكبر الثاني؟”. توجهت عيون الحاضرين إلى وجه وعيني رئيس الوكالة الذي لم يجب وإنما إستدار بوجهه وعينيه ناحية مساعد وزير الدفاع والذي كان حاضراً الإجتماع … وكانت النظرة كافية للدلالة على ما في رأسه!!!
وقبل نهاية الإجتماع ، أثار أحد الحاضرين من الوكالة سؤالاً كان يدور بذهن كثيرين من الحاضرين: “وهل للسعودية دور في تجنبِ حدوثِ كارثة المدى القصير (أي إنخفاض إمدادات البترول من السعودية بسبب تدهور الأحوال الأمنية وهي كارثة بالنسبة للعالم) .. وكذلك كارثة المدى الطويل (وهي إنخفاض صادرات البترول السعودية وعدم إهتمام العالم بذلك لوجود بديل وهو العراق وهو ما يعني إنهيار الإقتصاد السعودي تماماً)؟!” .
أجاب عن هذا السؤال أحد الحاضرين وهو باحث مرموق بأحد مراكز البحوث قائلاً: “من الناحية النظرية تملك السعودية الحل على المدى القصير والمتوسط والطويل وهو إقدامها على طلاق كامل مع الفكر الوهابي وسند هذا الفكر وتغيير المرجعية الدينية إلى مختارات معتدلة من كافة المذاهب الإسلامية وإلقاء الإتفاق الذي تم في القرن الثامن عشر بين آل سعود وآل الشيخ في متحفِ التاريخ. عندئذٍ فقط سيكون هناك حل وبمبادرةٍ سعوديةٍ – ولا تسألوني عن إحتمالية حدوث ذلك .. فأنا ببساطةٍ لا أعرف.
هل حدث هذا الإجتماع؟ … وهل دار هذا الحوار؟ … أم إنه مجرد حلمٍ في غفوة؟ … الحقيقة أنه لم يحدث … أو على الأقل أنه ليس لي علم بحدوثه … ولكنني سأكون مندهشاً بل ومذهولاً إن لم يكن ما رأيته أمام عيني كحلمٍ عابر قد حدث وبنفس الكيفية.
منذ مائة سنة تصارعت أجهزة المخابرات الدولية بسبب البترول على المنطقة التي أصبح أسمها بعد ذلك المملكة العربية السعودية .. وكان من المنطقي أن يُعلن عن اكتشاف البترول بعد أربع سنوات فقط من تكوين المملكة بشكلها الحالي … فما الذي يمنع أجهزة المخابرات الكبرى أن تهتم بنفس المنطقة ولنفس الأسباب اليوم؟
© منبر الحرية، 19 أبريل 2009

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

يعتبر الانفاق العسكري احد اهم جوانب الاقتصادات الدفاعية في العالم، وقد تراوحت نسب النفقات الدفاعية لدول الشرق الاوسط وشمال افريقيا ما بين 5.26 % و 7.73 % من اجمالي الناتج المحلي خلال السنوات العشرة الممتدة ما بين عام 1997 حتى عام 2006 ؛ وذلك حسب الاحصائيات المنشورة في عدد من المراجع الدفاعية العالمية المعتمدة في هذا المجال. وقد كان أقصى ارتفاع للنفقات الدفاعية لتلك الدول قد تحقق خلال عام 1997 في حين وصلت الى ادنى مستوى لها في عام 2006.
ومن الجدير بالذكر أن منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا ؛ تشمل – حسب تصنيفات المراجع الدفاعية العالمية بالاضافة الى الدول العربية ؛ كلاً من اسرائيل وايران.
وقد كان لارتفاع اسعار النفط خلال عامي 2007 و 2008 بعض التأثيرات المباشرة على اقتصادات الدفاع ؛ حيث وفرت الزيادات في اجمالي الناتج المحلي مساحةً من الحرية الحكومية لبعض الدول للتوسع النسبي في الشؤون الدفاعية و مشاريع تطوير القوات المسلحة من حيث التسليح والتجهيز والاعداد والتدريب، ما زاد من وتيرة النفقات الدفاعية وتعزيز الميزانيات الدفاعية السنوية المخصصة للقوات المسلحة والاجهزة الامنية ؛ ومن بينها بطبيعة الحال القوات شبه العسكرية، والتي يُطلق عليها أحياناً قوات الشرطة والامن العام والدرك ؛ والاجهزة الامنية وكل ما يتبع لوزارات الدفاع والداخلية من وحدات وتشكيلات مسلحة.في حين بقيت بعض الدول غير النفطية تعاني من وطأة المديونية، او تلقي برامج المساعدات العسكرية الاجنبية، من اجل تعزيز قدراتها الدفاعية والعسكرية والامنية، سواءً للمحافظة على امنها الوطني من اية اخطار خارجية لاسيما في ظل وجود بؤر توتر اقليمية ؛ خاصةً مع دول الجوار والإقليم، أو ضد الاخطار الامنية الداخلية التي اخذت بالتفاقم خلال السنوات العشرة الاخيرة، بوجود نسب بطالة عالية داخل القوى العاملة ممن هم في سن الشباب، مع تزايد كبير في اعداد السكان، وما يرافق ذلك من تحديات خطرة على الساحة الداخلية.
وتُعد نسب الانفاق العسكري مرتفعة في بعض الدول غير النفطية كون ناتجها الاجمالي المحلي يعاني من صعوبات جمة ؛ في حين تكون النسب منخفضة في بعض الدول النفطية لأن ناتجها الاجمالي مرتفع؛ خاصة مع الطفرة التي حصلت على اسعار النفط خلال السنوات الماضية، وعلى وجه التحديد السنوات الخمسة الاخيرة، مع ان الانفاق الدفاعي الفعلي يكون مرتفعاً بسبب صفقات السلاح ومشاريع التسليح وبرامج التطوير الكبيرة ؛ التي غالباً ما تغطى من موازنات خاصة. وعلى الرغم من أن بعض الدول اكدت على ان نفقاتها الدفاعية تتناسب و سياسة الانفاق العام الداخلي للدولة ؛ ولا تؤثر سلبياً على مشاريع البنى التحتية التي تهدف الى تحسين مستويات المعيشة لمواطنيها وتطوير التعليم والخدمات الصحية والاسكانية ؛ وغيرها من برامج التنمية الوطنية؛ وفي مقدمتها تخفيض مستوى البطالة وتوفير فرص العمل؛ نسبةً الى تزايد عدد السكان ومؤشرات التضخم المالي السنوي العالية، الا ان تأثير الانفاق الدفاعي يبقى سلبياً في عموم الاحوال ؛ على مختلف برامج التنمية الوطنية كالصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية، كونه يستنزف مبالغ ضخمة من موارد الدول ؛ سواءً كانت نفطية ام غير نفطية.
الجدير بالذكر ان هنالك فارقاً كبيراً في المفهوم بين ما يسمى بالنفقات الدفاعية؛ وبين ما يسمى بالميزانيات الدفاعية السنوية، ويكثر الخلط بينهما من قبل الكثير ممن يتناولون هذين الموضوعين بالبحث والتحليل.اذْ ان النفقات العسكرية تحسب بناء على ما دفعته الدولة ثمناً لكل ما يتعلق بشؤون الدفاع ؛ كصفقات السلاح والتصنيع العسكري ومشاريع التطوير والتحديث العسكرية ؛ على مدى عدة سنوات قد تتراوح من 3-5 سنوات، ثم يجري حساب المعدل العام للانفاق الدفاعي السنوي. بينما تعني ميزانية الدفاع السنوية المبالغ المالية المرصودة سنوياً بصورة مسبقة، بحيث تغطي متطلبات القوات المسلحة السنوية لأغراض العمليات والتدريب والشؤون الادارية والصحية واللوجستية، بما في ذلك قطع الغيار اللازمة للأسلحة والمعدات والآليات والوقود والذخائر، وكذلك الرواتب واللوازم كاللباس والطعام وغيرها. ولا تشمل ميزانيات الدفاع السنوية بطبيعة الحال مشتريات الأسلحة الجديدة وبرامج تطويرها وتصنيعها.
وإزاء المبالغة بالنفقات والميزانيات الدفاعية ؛بوجود مصاعب وتحديدات مالية مؤثرة على مختلف انواع برامج التنمية ؛ تكمن اهمية دور المواطن في دول منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا ؛ للتعبير عن رأيه بحرية ؛ من خلال المؤسسات الدستورية والديمقراطية والمنابر الاعلامية المسؤولة؛ حول مدى استنزاف الموارد الوطنية في مشاريع تسليحية كبرى ؛ قد لا تفيد في نهاية المطاف سوى بعض اللوبيات ومراكز الضغط المحلية شركات تصنيع السلاح العالمية الكبرى في الولايات المتحدة واوروبا وروسيا والصين؛ وبعض الدول الاخرى الموردة للسلاح على الساحة العالمية. وما يزيد الأمر سوءاً ان الانفاقات الدفاعية الكبيرة؛ تجري معظم الأحيان بعيداً عن الرقابة والسيطرة المدنية على شؤون الدفاع في معظم الدول العربية ؛ مقارنة بالرقابة والسيطرة المدنية على شؤون الدفاع التي يجري ممارستها في معظم الدول ذات المؤسسات المدنية الديمقراطية.
© منبر الحرية، 21 مارس 2009

peshwazarabic10 نوفمبر، 20100

1. مقدمة
هنالك شيء يثير عدم الرضا العميق، عندما يتعلق الأمر بعلماء اقتصاد، الذين يقدمون موضوع بحثهم بالإشارة المعتادة إلى روبنسون كروزو، الذي يواجه “مشكلة اقتصادية” لأن عليه أن يقرر كيف يخصص موارده المحدودة (بما في ذلك الوقت) بين استخدامات متنافسة. مع هذه التقدمة، يصبح أمراً سهلاً للغاية الانزلاق من مصفوفة كروزو إلى إطار يواجه فيه “المجتمع” أيضاً “معضلة اقتصادية”، ثم القفز، لا شعورياً، من تحليل تعظيم الفائدة الفردية إلى اهتمام مباشر بتعظيم القيمة للمجتمع.
ما يظل خارج هذا السياق التدريسي البداغوجي هو التفاعل بين أشخاص مختلفين الذين يتألف منهم المجتمع. الأفراد يواجهون خيارات في إطار اجتماعي يكون فيه وجود وسلوك الأشخاص الآخرين، جنباً إلى جنب مع المؤسسات التي تحد من سلوكهم، أكثر أهمية بكثير من العوائق الفيزيائية التي تمثلها الطبيعة. الاقتصاد، هو، أو يجب أن يكون، حول سلوك الأفراد في المجتمع.
مثل هذا السلوك ليس بالضرورة “اجتماعياً” بمعنى أن يعترف الأفراد بمؤثرات متبادلة في تفاعلات مباشرة بين مختلف الأطراف. السلوك الشخصي في المجتمعات الكبيرة الحديثة قد يكون غير شخصي، كما يتجسد ذلك في الأنماط المثالية للأسواق المتنافسة. في القضايا المحددة، جميع المساهمين يستجيبون لأطر خارجية مقررة سلفاً: لا يمارس أي شخص نفوذاً مباشراً على غيره. إن نتائج الاعتماد المتبادل والمعقد بين جميع العاملين في الميدان، ليست متوافرة كمواضيع اختبار لأي واحد منهم.
وفي الحالات المحددة، أو في أطر عامة أكثر، حيث يعتبر جزء على الأقل من السلوك “الاجتماعي” بشكل محدد، فإن القواعد التي تنسق أفعال الأشخاص هي مهمة وضرورية لأي فهم لعملية الاعتماد المتبادل. الأشخاص نفسهم، مع الدوافع والقدرات نفسها، سوف يتفاعلون لتوليد مجموعة من النتائج التي تختلف تحت ظروف مختلفة، مع تداعيات مختلفة تماماً بالنسبة لمصالح كل مشترِك. إن تخصيص وقت وطاقة إنسان ما سوف يكون مختلفاً في إطار تكون فيه المكافآت مرتبطة بحسن الأداء، عما سيكون عليه في إطار يتقرر بمواصفات ومقاييس أخرى. ومنذ القرن الثامن عشر، على الأقل، وبالأخص منذ آدم سميث، فإن نفوذ الأحكام (أسماها سميث بـ”القوانين والمؤسسات”) على النتائج الاجتماعية كانت مفهومة، وهذه العلاقة كانت الأساس لمفهوم مركزي في علم الاقتصاد والاقتصاد السياسي، وبالأخص كما استنبط من جذوره الكلاسيكية.
إذا كانت القوانين تؤثر على النتائج، وإذا كانت بعض النتائج “أفضل” من أخرى، فإن مما يتبع ذلك القول، وإلى المدى الذي يمكن فيه اختيار القوانين، بإن دراسة وتحليل القوانين والمؤسسات المقارنة، تصبح موضوعاً يستحق منا كل الاهتمام. فبدون فهم كيف أن الأفراد الذين يشكلون النظام الاجتماعي يتفاعلون، وكيف أن مجاميع قوانين مختلفة تؤثر على تلك التفاعلات، فإن من المستحيل على المشاركين إحداث تغييرات ذات قيمة في القوانين القائمة حالياً، أو حتى أن تسلك بحكمة فيما يتعلق بالحفاظ على تلك القوانين التي أثبتت حيويتها في تفعيل المجتمع تفعيلاً جيداً ومقبولاً.
ما هي النصيحة التي نستطيع تقديمها لأنفسنا في مجتمعاتنا، حيث نقف أمام فوائد ومزايا التعاون من جهة، واحتمالات النزاع من ناحية أخرى؟ أية نواحي من حياتنا الاجتماعية يتوجب التخلي عنها؟ أين هي “قوانين النظام الاجتماعي”—الترتيبات المؤسسية التي تحكم تفاعلاتنا—والتي تقودنا إلى التفاعل سلبياً تجاه بعضنا بعضاً؟ أين هي القوى التي تدفع باتجاه التوافق، والتي يمكن تعبئتها؟ أية قوانين—وأية مؤسسات—يجب علينا أن نكافح من أجل الحفاظ عليها؟
هذه الأسئلة تمثل مجال التحقيق الذي نسميه “الاقتصاد الدستوري السياسي” (من وحي علماء الاقتصاد الكلاسيكيين، الذين كانت مثل هذه الأسئلة مركزية في تفكيرهم). إنها أسئلة مهمة حتى وإن كان يتم تجاهلها على نطاق واسع في الأبحاث الحديثة. وهي لا تسأل في فراغ فكري تحليلي تام. فلقد أشغلت في الواقع عقول بعض أعظم المفكرين في التراث الغربي. مما يدعو إلى الأسف أن كثيراً من الحكمة المتراكمة قد سقط بين الشقوق. مثل هذه الأسئلة كثيراً ما تعتبر أيديولوجية فكرية، بحيث أن الأجوبة هي ببساطة مسألة آراء ووجهات نظر، يتساوى فيها رأي ما مع الرأي الآخر. هنالك مجال كبير، بكل تأكيد، لوجود خلافات يمكن قبولها. ولكن هنالك أيضاً إجراءات تتعلق بتوجيه الأسئلة وطريقة للتحليل تتضمن مجموعة من الشروط يمكن في إطارها إجراء الحوارات.
الأسئلة نفسها، والإجراءات المناسبة للسؤال عنها، وطريقة التحليل المتصلة بها، هي ما يشكل أجندة هذا البحث. إن هدفنا في هذا البحث هو هيئة المشجب الذي تعلق عليه فيما بعد القبعات المختلفة. وبشكل محدد، سوف نقدم تشخيصاً لأنماط مختلفة من التفاعلات، بداية بعبارات مجردة. ولسوف نبين بشكل مجرد أيضاً الطرق التي تكون بموجبها القوانين والمؤسسات ذات علاقة بطبيعة التفاعلات التي تسود، ومن ثم سوف نذكر مختلف أنماط التفاعلات، في أطر اجتماعية مختلفة تكون في أحيان كثيرة مرتبطة بها. وأخيراً سوف نبحث بإيجاز القوانين بشكل عام، وأن نربط بين بعض الدروس التي نستفيدها منها إلى المسرح الاجتماعي-السياسي-الاقتصادي الذي هو، بطبيعة الحال، اهتمامنا الرئيسي.
2. مبررات الأحكام

إن عنوان هذا البحث هو مبررات الأحكام، وسوف نبحث أسباباً كثيرةً بالتفصيل كلما تقدمنا في البحث. ولكن أولاً، يجب بحث السبب الجوهري من بين جميع الأسباب، على الرغم من أنه قد بحث باستفاضة في كتب أخرى. إننا نحتاج إلى قوانين في المجتمع لأنه بدونها، تصبح الحياة كما وصفها لنا ثوماس هوبز المفكر الإنجليزي قبل أكثر من ثلاثة قرون مضت: “معزولة، فقيرة، بشعة، وحشية وقصيرة”. رومانسي فوضوي فقط هو الذي يظن بأن هنالك انسجاماً طبيعياً بين الناس من شأنه إزالة جميع النزاعات في غياب القوانين والأحكام. إننا نحتاج إلى الأحكام للعيش معاً لسبب بسيط هو أنه في غيابها، سوف نتقاتل بكل تأكيد. سوف نتقاتل لأن رغبة الفرد في شيء ما سوف يسعى إليه شخص آخر. الأنظمة تحدد المساحات الخاصة التي يمكن في إطارها لكل منا مواصلة رغباته ونشاطاته.
ربما تكون أفضل وسيلة، وأكثرها شيوعاً في الدلالة على احتمالات النزاع هذا بين الأفراد، والوسائل الممكنة لحل تلك النزاعات، هي معضلة السجناء الكلاسيكية. أنظر إلى المصفوفة (1-1) الذي تكون فيه الأعداد في كل خلية تمثل مزايا ذات قيمة إيجابية لكل من الشخصين (أ) و(ب)، مع معرفة أن الرقم إلى اليسار يشير إلى الميزة لصالح (ب)، والرقم على اليد اليمنى لصالح (أ). لاحظ أن هنالك صفاً وعاموداً للسيطرة. أو بعبارة أخرى، هنالك فقط مرة واحدة لأداء اللعبة: (أ) الذي يختار بين الصفوف، سوف يختار الصف 2، وبشكل مستقل عما يمكن أن يتوقعه حول ما سيكون عليه اختيار (ب). ومثل ذلك (ب)، الذي يختار بين الأعمدة، سوف يختار العامود 2. ونتيجة لهذه الاختيارات المنفصلة، فإن الحل يقع في الخلية رقم 4. هنالك في هذه المصفوفة رسالة واضحة وبسيطة: بالنسبة لمجموعة الأشخاص المشتركين في هذه العملية، هنالك حاجة إلى نظام، ملزم اجتماعياً، والذي يمنع الأفراد من التصرف بشكل يؤدي في النهاية إلى النتيجة التي تم وصفها في الغرفة 4، وهي نتيجة لا يرغب فيها أي من الجانبين.

عدة نقاط تستحق الملاحظة من هذا المثل البسيط. أولاً، وكما ذكر سابقاً، لا يستطيع (أ) ولا (ب) بمفردهما تقرير نتيجة التفاعل الاجتماعي. النتيجة تتأتى من سلوك الفريقين كليهما، سواء سمي ذلك السلوك نتيجة لتوقعات الفرد في تعظيم الفائدة لنفسه وبدون الركون إلى أحكام، أو نتيجة التمسك بنوع من النظام أو العادات.
ثانياً، إن إمكانية الاتفاق حول نوع من الأحكام أو العادات تكون قائمة ما دام أن هيكل التفاعل يظل باقياً كما وصف في المصفوفة. أو بعبارة أخرى، ليس من الضروري أن تكون ميزة اللعبة متناسقة، كما هو مبين. كل ما هو مطلوب هو أن تكون الدرجة الترتيبية للخلية أو الغرفة مطابقة كما تم وصفها لكل من الفرقاء المعنيين. فما دام أن (أ) يصنف الغرف 3، 1، 4، 2 و(ب) يصنفها 2، 1، 4، 3، فإن النتائج تظل قائمة. وبالتالي، نستطيع، إذا رغبنا، مضاعفة الأرقام إلى (أ) بمقدار مائة، بينما نبقي الأعداد لـ(ب) كما هو مبين، وبدون تعديل الهيكل الأساسي للتفاعل.
ثالثاً، حتى هذا الرسم التوضيحي البسيط يبين مسألة تطبيق الأحكام، على الرغم من إمكانية الوصول إلى اتفاق عام حول الرغبة في تطبيقها. لنفترض بأن (أ) و(ب) قد اتفقا على اختيار الصف 1 والعامود 1، وبالتالي يهيئان لنتيجة متوقعة في خلية رقم 1. فإذا كان (أ) يتوقع من (ب) التمسك بالاتفاقية، فإن (أ) يستطيع نفسه ضمان نتيجة أفضل باختيار الصف 2 بدلاً من الصف 1 كما تم الاتفاق عليه. كذلك، يستطيع (ب) اختيار العامود 2 وتحسين مركزه، إذا كان يتوقع أن يختار (أ) الصف 1. لذا فإن أية أحكام أو أنظمة تضمن مردوداً أعلى، إذا تم احترامها من قبل جميع الأشخاص، هي عرضة للمخالفة بدوافع عقلانية شخصية، من قبل بعض أو جميع الفرقاء للتفاعل الذي جرى فيما بينهم. الموضوع ليس أن المخالف هو منحرف أو غير عقلاني في تصرفاته. وفي الحقيقة، فإن مثل هذه الافتراض يجب أن يُعكَس. ففي غياب إجراءات تنفيذية فعالة، فإن التمسك بالأحكام، وليس بالابتعاد عنها، يتطلب من الأشخاص التخلي عن المنافع القصوى المتوقعة، على الأقل لأن مثل هذا السلوك المقترح هو عادة مُصاغٌ في النظريات الاقتصادية الحديثة.
إن مشكلة التفاعل بين السجناء هو مَثَلٌ غايةً في التبسيط، ولكننا نعتقد بأنه يحوي في كينونته معظم العناصر المطلوبة لفهم القضايا المركزية للنظام الاجتماعي، ألا وهي كيفية التوفيق بين سلوك أشخاص وراء تصرفاتهم دوافع مختلفة، من أجل خلق أنماط من النتائج تكون مقبولة لدى جميع المشاركين. زميلنا غوردن توللوك، كان صائباً عندما سمّى كتابه حول الموضوع: المشكلة الاجتماعية، وبالتالي التأكيد على مدى وجودها. وعندما تُعمَّمْ، سوف تتخذ المعضلة ملامح هيكلية عالية التعقيد. وعندما نوسع التحليل ليشمل أشخاصاً عديدين، والذين قد يتصرفون بشكل منفرد، في جماعات أو كوحدة مشتركة، من خلال الدوائر الحكومية، وإزاء خيارات عديدة تشمل عدة مستويات من تقرير الاختيارات، فليست هنالك أية قيود على عدد الأطر المتفاعلة المثيرة للاهتمام والتي يمكن إخضاعها للدراسة.
إن هدفنا في هذا البحث، مع ذلك، ليس إعطاء أمثولة حتى لجزء صغير من تلك التفاعلات. فمن الآن فصاعدا، فإن نقطة انطلاقنا ستكون فهم المعضلة العامة التي تدعو إلى ضرورة وجود أنظمة أو مجموعة من الأنظمة، التي تحدد القيود المناسبة على سلوك الأفراد والمجموعات والسلوكيات العامة. وفي الأقسام المتبقية من هذا البحث، سوف نعزل معالم الأنظمة في عدد من التفاعلات المعتادة، كوسيلة لتقديم بحث الأنظمة في الإطار الاجتماعي-السياسي.
3. أحكام الألعاب
عندما تذكر كلمة “أحكام”، فإنها أكثر ما تكون ارتباطاً بالألعاب. وسوف يكون مفيداً بحث الأحكام في الألعاب المعتادة—ألعاب صالونات البريدج المرفهة، أو الرياضة مثل التنس أو كرة السلة. جميع الألعاب لها قوانين تبين الحدود التي تجري الألعاب في أطرها—الأفعال المسموح بها للاعبين، الأدوات المستخدمة، وسائل فض الخلافات، الطريقة التي يتم بواسطتها تقرير من هو الفائز، وهكذا وهكذا.
ولدى بحث الألعاب العادية، فإننا لا نجد أقل صعوبة في التمييز بين أحكام اللعبة من حيث هي، وألعاب اللعبة في إطار تلك الأحكام. اللعب يتم من خلال تلك الأنظمة، بيد أن اللعب نفسه لا يشكل جزءً من تلك الأحكام. الأحكام تقدم الإطار للعب تلك المباراة، وأنماط عديدة من اللعب يمكن أن يتم ضمن أحكام محددة. وخلافاً لذلك، فإن نمطاً معيناً من أداء اللعبة هو ذو نهاية أو مغلق. وفي الحقيقة فإن من الأمور المشوشة أننا في الاستعمالات الدارجة، نستعمل كلمة “لعبة” في الإشارة إلى تركيبة الأحكام، وأيضاً إلى اللعب ضمن الأحكام المقررة لها.
وفي إطار اجتماعي–سياسي، فإن التمييز نفسه ينطبق بين أحكام التفاعل الاجتماعي وبين أنماط السلوك التي تتم ضمن تلك الأحكام. التمييز هنا هو غالباً ما يكون أكثر صعوبة منه في الألعاب العادية، وبحث الأخير مفيد بسبب ذلك على وجه التحديد. إن صحة التمييز بين الأنظمة والسلوك ضمن الأحكام بشكل عام مع ذلك، ينطبق على جميع أطر التفاعل. إطار اللعبة العادية، كذلك، يساعد البحث في موضوع قريب ولكن منفصل بين اختيار استراتيجية اللعب ضمن مجموعة من الأنظمة المحددة، واختيار الأنظمة نفسها. فاختيار مجموعة من لاعبي البوكر بين نوعين مختلفين منها، يختلف تماماً عن اختيار لاعب فرد ضمن أحكام النوع الواحد؛ بين الطي أو البقاء في طلب كرت إضافي.
إن التمييز الموازي في الإطار الاجتماعي–السياسي يجب التأكيد عليه. من الضروري فصل العملية التي يتم من خلالها تقرير الأحكام، عن العملية التي من خلالها تستنبط أحكام لأفعال محددة ضمن تلك الأنظمة. أيضاً، التمييز أكثر صعوبة بعض الشيء في الإطار الاجتماعي، بسبب التداخل المعقد بين الأنظمة التي تحدد القيود على السلوكيات الفردية، والأنظمة التي تحدد القيود على الاعبين السياسيين، الذين قد يشتركون في نشاطات تشتمل على تغييرات في المجموعة الأولى من الأنظمة. وبعبارة أخرى، الأغلبيات التشريعية قد تكون في سلوكها ضمن حدود القانون (الدستور السياسي) الذي يُقيّدُ سلوكهم أنفسهم بالنسبة لتغيير الأنظمة التي تقيّد سلوك الأشخاص بصفتهم الشخصية. لذلك، يجب أن يكون الإنسان حذراً في إيجاد تمييز بين اختيار أنظمة، وبين اختيار استراتيجيات ضمن الأنظمة، تكون قابلة للتطبيق في الحالة التي تواجه وحدة محددة بدقة لاتخاذ القرارات. على سبيل المثال، إذا كان نظام من أنظمة البناء يسمح بحرق الأعشاب في الأراضي التي نملكها، فإننا نتصرف ضمن حدود القانون عندما نقرر حرق كومة من القش في يوم محدد. صدور تشريع يمنع حرق الأعشاب هو بمثابة تغيير في القوانين التي نحن ملاك الأراضي نتبعها. بيد أن المشرعين في إصدارهم لهذا التشريع يتصرفون ضمن أنظمتهم الخاصة بهم، والتي تتألف من تصويت الأغلبية البسيطة. إذن، الميزة الأساسية لبدء بحثنا بالحديث عن لعب عادية معروفة، هي أن مستويي الخيار واضحان تلقائياً.
استخدام الأنظمة في المباريات العادية قد يكون مضللاً من بعض النواحي. فالألعاب العادية مصممة لكي تجعل اللعب ضمن قوانين اللعبة مثيراً. أي أن اللعب بحد ذاته هو هدف يشارك فيه جميع المشاركين المحتملين. المعضلة الأساسية التي قدمنا لها سابقاً، والتي تكون فيها الأحكام مرغوبة لأنها تؤدي إلى تفادي نتائج غير مرغوب فيها، تكون غير واضحة في التعامل مع الألعاب العادية.
وحيث ننقل الاهتمام إلى الأطر التي تتم فيها التفاعلات الاجتماعية–السياسية، لا حاجة إلى أي شيء يوازي التمتع باللعب، من حيث هو لعب، والمغانم التي تُعطى للاعبين الأفراد، لا حاجة لأن تصمم كمقابل من أجل جعل اللعب مثيراً. ليس هنالك من حاجة إلى هدف مشترك في أنظمة الاجتماع والسياسة. هنالك اعتراف بأن الأفراد يملكون أهدافهم الشخصية المقررة، خطط حياتهم، وهذه لا تحتاج إلى كونها مشتركة لجميع الناس. في هذا الإطار، الأحكام لها مُهمة تسهيل التفاعلات بين الأشخاص، والذين يرغبون في أشياء مختلفة تماماً. ولبحث هذا الجانب، فإن أفضل شيء هو الانتقال إلى إطار بديل.
4. أحكام الطرق
أحكام الطرق، وهي استخدام معروف آخر للتعابير في هذا المجال، ليست مصممة و/أو أنها لم تتطور على أساس أية مواصفات لأهداف الأشخاص الذين يستخدمون الطريق. لمستخدمي الطرق أهداف تتراوح وتختلف اختلافاً كبيراً—النشاط التجاري، التمتع أو الجمع بين هذا وذاك—وهي التي تفرض شق الطرق المختلفة، والسرعة ونوع المركبة. أحكام الطرق تخدم هدف السماح للأشخاص بانتهاج مجالاتهم المختلفة والمستقلة، والتي قد تتنازع في غياب الأحكام. هذه الأحكام لا تعني بأن أهداف مستخدمي الطرق يجب أن تُلخص في هدف واحد مواز لهدف التغلب في الألعاب العادية.
أحكام الطرق تجلب مَعْلَماً آخر لاهتمامنا. نجاعة مجموعة الأحكام لا تتوقف على مقارنة بين مستوى مهارات أولئك الذين يستخدمون الطرق. مجموعة الأحكام قد تُفَضّلُ لأنها تتحمل تعايش السائق الجيد والسيء على الطريق، وهي ظاهرة لا تنطبق على الألعاب العادية. لأحكام الطرق فعل اجتماعي، ألا وهو تسهيل تحقيق أهداف جميع الأشخاص الذين يستخدمون هذه البنية—وبغض النظر عن ماهية تلك الأهداف. ويُحكم على هذه القوانين بموجب قدرتها على تحقيق هذا المعيار.
وبنفس هذه الطريقة، فإن الأحكام التي تُقيِّد التفاعل الاجتماعي–السياسي—العلاقات الاقتصادية والسياسية بين الأشخاص يجب أن تُقيَّم في نهاية الأمر في ضوء قدرتها على تحقيق الأهداف المختلفة لجميع الأشخاص في المجتمع. هل تسمح تلك الأحكام والأنظمة للأفراد بمتابعة أهدافهم الخاصة، وفي إطار يتوقف فيه تحقيق تلك الأهداف على التفاعل، وبطريقة يحقق فيها كل فرد الحد الأقصى من نيل أهدافه مشروطاً بإتاحة حرية مساوية للآخرين لتحقيق أهدافهم بدورهم؟ التركيز على المثل المتعلق بأحكام الطرق يتيح لنا التعرف على مَعْلَمٍ آخر، كثيراً ما يفوتنا. الأحكام توفر لكل مشترك التنبؤ مسبقاً حول سلوك الآخرين. هذه المعرفة المسبقة تأخذ شكل المعلومات أو الحدود المعرفية حول سلوكيات أولئك المشتركين في التفاعل.
على سبيل المثال، لنفترض أنه في بلد صغير نامٍ، السيارات ظاهرة جديدة وقليلة العدد. وقد تواجد في هذا البلد نفوذان: نفوذ فرنسي وآخر بريطاني، بحيث أن أوائل مستخدمي الطرق كانوا يستخدمون الجانب الأيمن أو الأيسر في سواقتهم. وبتزايد عدد السيارات، فإن غياب أنظمة مقررة يخلّف المشاكل. التأقلم المنفرد من قبل كل سائق عندما تتلاقى سيارتان، ودون أن يعرف أي منهما كيف سيتصرف الآخر، ينتج عنه نمط من النتائج مشابهة للعيش في الأدغال التي وصفها هوبز. جميع الأطراف سوف يكونون في وضع أفضل إذا أقروا أحكاماً، أية أحكام.
المصفوفة (1-2) تدلل على هذه القضية. اللعبة هنا هي في جوهرها لعبة تنسيق من حيث أن النظام القائم يخدم أهدافاً إعلامية. كل واحد من الفريقين يعطي القدرة على التنبؤ حول نوايا الطرف الآخر، وكيف سيكون سلوكه. ولا يهم، افتراضاً، ما إذا كان النظام الذي يتم إقراره ينطوي على استخدام اليد اليمنى أو اليد اليسرى في قيادة السيارة، ما دام أن النظام يؤدي إلى سلوك متوازٍ. في مثل هذه الحالة، قد يكون هنالك دور للحكومة في الإعلان عن النظام. التاريخ، مع ذلك، قد يفعل هذا أو ما هو أحسن منه، إذ أن المواثيق والعادات الاجتماعية كثيراً ما تقرر أنظمة السلوك المناسبة.
التفاعل المبين في المصفوفة (1-2)، يختلف عن القضية الأوسع والمبينة في مصفوفة اللعبة (1-1)، من حيث الأهمية النسبية لمحتوى التنبؤ في النظام، وما يتبع ذلك من تطبيق. المصفوفة (1-2) تصف لعبة هي في جوهرها مسألة تنسيق؛ المكاسب الرئيسية تتأتى عن إقرار نظام، أي نظام، وليس هنالك إلا أقل القليل من الفائدة التي تُجنى من التخلي عن النظام. كما هو مبين في المصفوفة، مع ذلك، هنالك بعض الكسب من التخلي، ومن هنا تنشأ أهمية التنفيذ. إذا كان (أ) يعرف، على سبيل المثال، بأن (ب) سوف يتَّبِعُ دائماً نظاماً متفقاً عليه، عندها فإن (أ) سوف يجد فائدة بين الحين والآخر من الخروج المنفرد عن النظام المقرر. بيد أن الإغراء لخرق القانون، عندما يُقرّ، ليس دائم الوجود مثلما هو الوضع عليه في إطار لعبة معضلة السجناء.

لعبة تنسيق مجردة (ليست مبينة في شكل مصفوفة هنا) تكون فيها الفائدة المتأتية عن الخروج الفردي عن الأنظمة المقررة، غائبة تماماً، واحدة لا يكون فيها أية مشكلة بالنسبة لتطبيق النظام، وبعض مثل هذه التفاعلات موجودة بكل تأكيد. إذ يمكن التفكير بعامل اللغة في مثل هذه الحالات. فجميع الأفراد في المجتمع لهم مصلحة في استخدام كلمات يفهمها الآخرون. إذ هنالك قوة طبيعية تعمل على خلق لغة وقواعد لغوية مشتركة. والوصف ذاته ينطبق على لغة السلوك والإتيكيت، حيث يكون الهدف الظاهر من السلوك هو نقل معنى من نوع معين للآخرين.
معالم مهمة أخرى غامضة في كل من قضية تفاعل السجناء، أو تفاعل المعلومات–التنسيق، في المصفوفتين (1-1) و(1-2). كلاهما موجه تجاه الخيار النهائي بين القانون وانعدام القانون. الخيار الثاني قد يشتمل على خيار بين قانونين أو نظامين، بعد أن تكون أبعاد اللعبة قد تمت، أي في اللحظة التي توافق فيها جميع الأطراف على الحاجة إلى وجود نظام.
تمعَّن إذن في حالة تكون فيها المسألة هي خلاف بين قوانين مختلفة، حتى وإن احتفظنا بالفرضية بأن هنالك تناسق وتماثل في الفائدة التي تُعطى للاعبين. “اللعبة” الموصوفة هنا هي في حقيقتها “جزء من اللعبة” المبينة في المصفوفة (1-2).

أنظر في المصفوفة (1-3) التي تجري “ضمن” الخلية 1 من المصفوفة (1-2). خيارات الفريقين كليهما في هذه الحالة ليست في إقرار نظام وأقلمة سلوك بدون نظام. الخيارات هنا هي التي تواجَه في مجموعة الأنظمة البديلة وكما هو مبين في المصفوفة (1-3)؛ فالنظام الذي يصنف على (قُد السيارة على اليمين) يسيطر على النظام الذي (نظام قُد السيارة يساراً). من المهم هنا أن يكون هنالك نظام (كما هو مبين في المصفوفة 1-2)، ولكن مسألة “أي نظام”، هي أيضاً مهمة. وبسبب التناسق في الكسب بين اللاعبين، فإن كليهما—إذا أعطيا الحق الدستوري في الاختيار—سوف يختاران نفس النظام.
هنالك نقطتان تستحقان البحث حول التفاعل الموصوف هنا. أولاً المواثيق الاجتماعية التي تأتي إلى الوجود تاريخياً، وتتخذ وضع “القانون غير المدوَّن”، لا تفرز بالضرورة أفضل الأنماط التي يمكن تصور نتائجها. بعض المحللين الاجتماعيين المحدثين (بشكل خاص هايك وأتباع مدرسته)، يبدون إيماناً واضحاً في تطور القوى الاجتماعية والثقافية بحيث تتمخض عنها أنظمة كفؤة. لا يبدو أن هنالك أي سبب للتنبؤ بأن تلك القوى سوف تضمن دائماً اختيار أفضل القوانين. في مثلنا مثلاً، فإن نظام “قيادة اليسار” قد تصبح الغالبة والأكثر استخداماً—وبالأخص إذا كانت التغييرات من نطاق خارجي من شأنها تغيير المزايا النسبية لأنظمة مختلفة مع الوقت. لن يكون عندها سوى القليل من الضغط، أو حتى لن يكون أي ضغط تطوري بالمرة لقيام أنظمة أكثر كفاءة. هذا الاحتمال ينبهنا إلى الحاجة، بين المرحلة والأخرى، لإعادة النظر في مجموعة الأنظمة البديلة، وأن ننظر إلى الأنظمة نفسها كأهداف للخيار تكون قابلة للتغيير وإعادة الصياغة، وفق أطر الحالات الاجتماعية التي يخلقونها. هذا الاحتمال يثير اهتمامنا لإمكانية لعب دور من قبل الحكومة بمجموعها الكُلّي، ألا وهو تسهيل الانتقال من قوانين قديمة إلى قوانين جديدة. و”الحكومة” في هذا الإطار يمكن الإشارة إليها بصيغ مختلفة—كمجلس وطني معين بالتوافق، أو جماعة كاملة من الفاعلين من ذوي العلاقة، أو، في آخر الطرف الآخر شكل من اشكال الدكتاتور–الملك، وما دام أن المكاسب في هذا المثل متوازية، فليس هنالك أية ميزة معينة لمن يختار القوانين، ولكن ربما يكون مهماً أن يكون هنالك شخص أو جماعة، أو عملية معينة يوكل إليها اختيار الأنظمة المناسبة.
ثانياً، الانتقال من “القيادة من جهة اليسار” إلى “القيادة من جهة اليمين” قد لا يكون أمراً مرغوباً فيه، على الرغم من هيمنة الأخيرة في المصفوفة. فإذا كان ينظر إلى الأنظمة بصفة كونها تقدم المعلومات التي تُمكِّن اللاعبين من التكهن بتصرفات بعضهم بعضاً، فإن ما يتبع ذلك هو أن أي تغيير في الأنظمة يدمر المعلومات. فإذا كان النظام الذي يقول (“القيادة من جهة اليمين” أو “القيادة من جهة اليسار”) يقرَّر مجدداً كل صباح بشكل عشوائي، فإن ذلك يعني عدم وجود أية أنظمة على الإطلاق. وحتى تكون فاعلة، تحتاج الأنظمة إلى الاستقرار. فإذا كانت الأنظمة خاضعة للتغييرات المستمرة، فإن المعلومات التي تعطيها تصبح لا قيمة لها. كل لاعب لا يعد يعتبر بأن الآخرين سوف يتقيدون بالقوانين المرعية، حتى لو كان هو مُلهمٌ بها، لأنه لا يمكن أن يعرف بأن الآخرين سيعرفون بأنه يعرفها. وعندما يكون اللاعبون يلعبون بأنظمة عفا عليها الزمن، فإن أياً منهم لن يكون له الحافز للعب بالأنظمة الجديدة.
هذه المقولة تُشير إلى أن هنالك ميلاً طبيعياً نحو المحافظة في المجال الدستوري. مجرد إظهار أن الحالة (أ) ستكون افضل من الوضع القائم، بمجرد أن تتحقق حالة (أ)، ليس كافياً للدليل على أن الانتقال من الوضع القائم له ما يبرره. فرياضياً، القمة الـ”محلية” قد تكون عالمية بمجرد تحقيق القمة المحلية.
إن الاعتراف بهذه الحقيقة يكشف النقاب عن تمييز بين “التصميم الدستوري” و”الإصلاح الدستوري”. في التصميم الدستوري حيث لا تكون هنالك أنظمة فعالة قائمة مسبقاً، كل ما هو مطلوب هو الاختيار بين نظام يؤدي إلى مجموعة معينة من النتائج، والنظام الذي يؤدي إلى مجموعة بديلة. النظام الذي يؤدي إلى مجموعة النتائج المفضلة هو النظام المفضل. ولكن عندما يتعلق الأمر بتغيير نظام قائم، كما هي الحالة في الإصلاح الدستوري، فإن النظام الذي يحقق أفضل مجموعة من النتائج، ليس بالضرورة الأفضل.
النقاش هنا يعطي بعض القوة لدعاة التطور التدريجي الاجتماعي الذين يكرهون حماس دعاة خلق الدساتير. فإلى المدى الذي توجد فيه أنظمة مستقرة ومقبولة، فإن من الأفضل للمجتمعات عدم محاولة التغيير. الاعتراف بهذا القول لا يقودنا مع ذلك إلى وجهة النظر القائلة بأن الإصلاح المتعمد للأنظمة القائمة لن يكون مرغوباً فيه في جميع الأحوال.
المقولة هذه إنما تنبهنا فقط إلى الحاجة للأنظمة المتعلقة بالإجراءات التي يمكن بواسطتها تغيير الأنظمة القائمة، وبالأخص للتأكد بأن تغيير الأنظمة لا يجب أن يتم مرات عديدة متتالية، ودون الأخذ بالاعتبار ثمن المراحل الانتقالية. الألعاب التنسيقية الأساسية في المصفوفة (1-2) و(1-3)، مبسّطةٌ في بعد مهم آخر. وبغض النظر عن النزاع المتجدد دوماً بين الفرد ومصلحة “المجتمع”، والذي يستدعي موضوع إلزامية التنفيذ، هو الاختلاف بين الأفراد أنفسهم حول اختبار النظم التي يرغبون فيها. هذا الصراع الممكن قد طُمس عمداً في الألعاب التنسيقية التي بحثت حتى الآن. فليس هنالك خلاف بين اللاعبين الاثنين في ترتيب الخانات في المصفوفة.

أنظر، مع ذلك، في مثل آخر يظل ضمن القواعد العامة لقوانين القيادة. لأسباب سبق شرحها، هنالك فائدة واضحة من وجود نظام ما؛ الإطار مطابق لذلك الذي وصفناه في خانة “القيادة من جهة اليمين”-“القيادة من جهة اليسار” ولكن لنفترض أن هنالك قانونين ممكنين لتنظيم السلوك في المنعطفات، وليس بالإمكان إلا اختيار واحد منهما. نظام يقول “إعطاء الأولوية لجهة اليمين”؛ الثاني يقول “إعطاء الأولوية لجهة اليسار”. المصفوفة (1-4) أعلاه تبين هذا المنحى. لاحظ بأن الترتيب المتسلسل للخانتين موضوع البحث، يختلف ما بين (أ) و(ب)، مع (أ) مفضلا كثيراً النظام الأول أي “إعطاء الأولوية لجهة اليمين”، و(ب) مفضلاً كثيراً النظام الثاني، أي افسح الطريق إلى اليسار. مثل هذه الخلافات في الترتيب قد تحصل، على سبيل المثال، إذا ظن (أ) بأنه في صباح معظم الأيام سوف يتجه إلى المنعطف من يمين توجه (ب).
اللاعبان الاثنان يفضلان أنظمة مختلفة، على الرغم من حقيقة أن كليهما يفضلان وجود نظام بدلاً من لا نظام. والخلاف حول أي نظام الذي يجب أن يطبق قد يُولّد تأخيراً ونزاعاً بين المشاركين، حيث أن كلاً منهما سوف يحاول تعظيم المزايا المتأتية عن تحديد المسارات التي يتضمنها الاختيار بين أنظمة بديلة.
إن المزايا المتفاوتة التي تنشأ عن أنظمة مختلفة، من قبل أشخاص متعددين، لا يجب أن يبالغ في أهميتها. فإلى المدى الذي تكون فيه الأنظمة قديمة العهد، وأن الأفراد يتوقعون أن يحتلوا في نطاقها مراكز مختلفة، في مراحل متلاحقة من اللاعبة، فإن من المتوقع أن يتوجه اللاعبون إلى الاتفاق على النظام الذي يجب تطبيقه، بسرعة تفوق كثيراً ما يتضمنه التحليل النظري البسيط. ففي المثل الذي قدمناه، إذا تنبأ اللاعبان بأن كلاً منهما سوف يتجه نحو المنعطف في بعض الأحيان من اليمين، وفي بعض الأحيان الأخرى من اليسار، فإن المصفوفة ستوضع بموجب (1-2) بدلاً من المصفوفة (1-4).
5. أنظمة السوق
كان هدفنا في القسمين 2 و3 التعريف بعناصر عدة من القوانين، من خلال أمثلة شائعة مستقاة من الألعاب العادية من ناحية، وأنظمة الطرق من الناحية الأخرى. ولكن، وكما لاحظنا، فإن اهتمامنا الرئيسي هو حول الأنظمة التي تحكم النظام الاقتصادي–السياسي. في هذا الجزء، سوف نُقدم نظام السوق، أو النظام الاقتصادي، وفي القسم 6 سوف نبحث في قوانين النظام السياسي.
في المثالين الاثنين السابقين، الحاجة إلى نظام كانت واضحة بشكل مباشر؛ لا يستطيع المرء أن يتصور ألعاباً عادية أو أنظمة مرور بدون وجود أنظمة. وفيما يتعلق بالتفاعل الاقتصادي بين الأفراد، وهو الأكثر أهمية، فإن الأنظمة التي تحكم سلوك الأفراد كثيراً ما يتم تجاهلها. علماء الاقتصاد أنفسهم كانوا مهملين بشكل فاضح في هذا المجال. إن تمرينات تحليلية معقدة حول أعمال السوق تتم في كثير من المناسبات بدون أدنى إشارة إلى الأنظمة التي يتعامل الأفراد في الأسواق ضمن إطارها. لم يكن آدم سميث واحداً من أولئك المتجاهلين؛ فقد أكّد على أهمية “القوانين والمؤسسات”، في النظام الاقتصادي.
إن التباعد والتخلي عن تأكيد سميث والعلماء الكلاسيكيين على النظام يظهر أكثر ما يظهر في تحليلات “فشل الأسواق” في اقتصاديات الرفاه، والتي تطورت في العقود الوسيطة من القرن الماضي، حيث ادّعت بأن الأسواق سوف تفشل عندما تقارن وتقاس بالأنماط المنمقة المستقاة من تمارين علماء الاقتصاد في المعادلات الرياضية. فقد تمت التحليلات وكأن القيود المؤسسية لا علاقة لها إطلاقاً بالطريقة التي يتفاعل فيها الأفراد ضمن هياكل السوق.
إن أهمية وجود الأنظمة ربما تتجسد بشكل واضح بالرجوع إلى المثل الدارج فيما يتعلق بالاستغلال المشترك للموارد، والذي يشار إليه أحياناً بـ”المأساة المشتركة”. إذا كان الافتراض هو تعظيم الفائدة القصوى للمستفيدين لشرح سلوك الأفراد، فإن المشترك سوف يكون مكتظاً ومستغلاً أكثر مما يجب. ويُدعى بأن السوق قد فشل في تكوين استغلال كفءٍ لاستغلال هذا المورد الشحيح. ومع ذلك، وكما أصبح واضحاً حتى الآن، فإن المشكلة لا تكمن في عمليات السوق، ولكن، في الأنظمة التي يعمل المستفيدون من خلالها. أي تغيير في الأنظمة، بحيث يتم استغلال هذا المورد الشحيح من قبل الأفراد ذوي الملكية الفردية، جنباً إلى جنب مع وجود قوانين لتنفيذ وحماية حقوق الملكية الفردية، سوف يزيل ذلك الفشل في استغلال المورد المتاح. المثل يدل على أن تحيُز علماء الاقتصاد المتمثل في النظر إلى النتائج بدلاً من الأنظمة التي أوصلت إلى تلك النتائج، كان سبباً في خلق حالة من الارتباك العميق. فإصلاح النتائج يتأتى من خلال إصلاح الأنظمة، وليس من خلال التلاعب بالنتائج مباشرة.
إن الاندفاع المعتاد لعلماء اقتصاد الرفاه كان يأخذ شكل تأييد الحكومة أو التدخل الجمعي في الأسواق. وهنالك إهمال مقارن واسع لأهمية النظم والقوانين في توجهات علماء الاقتصاد الذين يؤيدون مؤسسات السوق وتوجهاته. لقد اتجه أولئك العلماء إلى إهمال أهمية الأنظمة، تحت تأثير افتراض سطحي مفاده أن السوق سوف يصلح نفسه “بغض النظر عن القيود المؤسسية”.
الافتراض هو أن حلول الأسواق من القوة بحيث أنها قادرة على اجتياح أية قيود مؤسسية قد تكون قائمة. يبدو أنه كان هنالك بعض الخلط بين السلوك الاقتصادي الناشط ضمن قيود محددة، وإمكانية نشاط اقتصادي بدوافع شخصية تعمل على تعديل الأنظمة نفسها. ويبدو ممكناً تماماً أن تكون نتائج الأسواق ناجحة ضمن مؤسسات محددة، ولكن قد تكون تلك المؤسسات في الوقت ذاته غير واعية لأهمية التغيير بدون توجيه مباشر ومحدد يحث تلك المؤسسات على التغيير والإصلاح.
ونعود إلى مثل الملكية المشتركة، حيث يمكن أن توجد أسواق صيد السمك تعمل جيداً، وحيث يكون هناك توازن بين العرض والطلب لإحراز نتائج مجزية تماماً في التخصيص والتوزيع (مع اعتبار الحدود المؤسسية والموارد)، ولكن في الوقت ذاته، فإن غياب حقوق الملكية في مناطق صيد الأسماك، يفشل في تحديد مجموعة الأنظمة التي تكون في جميع الأحوال مثالية.
وجه آخر من أنظمة السوق تستحق الاهتمام. ففي تحليلاتنا السابقة لأنظمة الطرق، وجدنا بأن الفعل الأساسي للأنظمة يتمثل في منع الأفراد من التغول على تصرفات الآخرين: الأنظمة هنا لها دور سلبي ألا وهو منع وقوع أضرار مسيئة. هذه هي أصلاً المهمة الرئيسية التي أوكلها هوبز إلى أنظمة المجتمع المدني لكبح جماح الفوضى. ولكن ضمن منظور سميث لنظام السوق، هنالك وجه إيجابي مهم للتفاعل الإنساني. فضمن وجهة نظر سميث للعالم، فإن توزيع الأعمال يولد مكاسب متبادلة نتيجة التعاون بين التجار، مكاسب يحصل عليها كل تاجر، ولكنها تتجاوز قدرة أي شخص واحد على فهمها فهماً تاماً. ففي كل مرحلة من المراحل المتتابعة في نظام تقسيم العمل، كل مشترك يستجيب لبيئته باستخدام قواه الخلاقة مباشرة في خدمة مصالحه، وبشكل غير مباشر، لخدمة مصالح الآخرين. إن تتابع مثل هذه الأفعال الخلاّقة يخلق نظاماً يعكس المزايا الضخمة المتأتية عن التعاون الإنساني، مثلما يقدم مجالاً لمزيد من الإنجازات الخلاقة. في كل نقطة من النقاط، يستطيع المرء تصور نظام السوق السائد، وأن يدرك طبيعة وحجم المكاسب من التعاون الإنساني في ظل تقسيم العمل. ولكنه لا يستطيع سلفاً معرفة طبيعة وحجم تلك المكاسب. أن يستطيع فعل ذلك يتطلب من المحلل أن يتحلى بجميع الخيال البنّاء، والمنتشر حالياً على اتساع جميع العوامل الاقتصادية.
أمران يتبعان وجهة النظر هذه. أولاً، هنالك شيء هو ليس بالضرورة بدون غاية بالنسبة لاختيار قواعد السوق. إذ كيف يمكنك اختيار القوانين في ضوء النتائج المحددة التي تؤدي إليها تلك الأنظمة، إذا كانت الطبيعة الدقيقة لتلك النتائج لا تكتشف إلا بعد أن تظهر؟ ثانياً، عندما تكون مؤسسات السوق محددة بشكل غير كاف، أو أن مجموعة أخرى من الأنظمة البديلة تطبق والتي لا تملك العناصر الإيجابية للسوق، فإن الأبعاد الحقيقية “للفشل” الطبيعي لا يمكن معرفتها جميعها. نستطيع الافتراض بأن العربة التي تعبئ التعاون البشري لم تكن تعمل بكامل قوتها—ولكن، ما كان يمكن أن يكون خلاف ذلك يظل في حيز التنبؤ والافتراض.
6. النظام السياسي

كثير من المحللين الاجتماعيين قد يتفقون بأن عمليات السوق تتم ضمن قواعد واضحة المعالم، وأن مثل هذه القواعد هي مواضيع مهمة للبحث. ولكنهم سيكونون أقل رغبة في تطبيق نفس الآراء إلى العمليات السياسية، بيد أن “خيارات” سياسية تظهر أيضاً نتيجة تفاعل العوامل الفردية ضمن مجموعة من الأنظمة المؤسسية، حيث يكون كل فاعل مقيداً بأفعال الآخرين. اللاعبون السياسيون يعملون في ظل قواعد واضحة المعالم تقريباً، وهم يتخذون خيارات بين أهداف متاحة أمامهم من أجل تعظيم مكاسبهم (والتي هنا، كما في أطر أخرى، تشمل أهدافاً أخلاقية بالإضافة إلى الأهداف الاقتصادية). المحك الأساسي هو ما إذا كانت مجموعة الأنظمة التي تحدد العلاقات بين أفراد مستقلين هي تلك المجموعة التي تقود الأفراد لتحقيق أفضل المصالح للآخرين، أو على الأقل، أن تمتنع عن إلحاق الأذى بهم.
هنالك طرق عدة للنظر إلى العمليات السياسية بنفس المعايير التي ننظر بها إلى الأسواق. الأولى والأكثر أهمية هنا هي النظر إلى العملية السياسية كنظام للتفاعل بين الأفراد والذي تنتج عنه النتائج الموازية. وجهة النظر هذه متوافقة مع عدد من الدوافع التي يمكن أن نعزوها إلى الأفراد، وأي عدد آخر من المقاييس والتي بواسطتها يمكننا تقييم القواعد المطبقة. أما الدوافع والمقاييس، فيمكن اختيارها من جعبة أدوات عالم الاقتصاد.
ما هو مهم هنا، مع ذلك، ليس الدافع وراء اللاعب، ولا المعايير التقديرية، إنما الاستعداد لفحص العملية السياسية بالمعايير العامة ذاتها التي نقيس بها الأسواق. الأفراد بتفاعلاتهم الموضوعية، وفق مجموعة من النظم (المؤسسات السياسية) لتحقيق تلك الأهداف، والتفاعل في النهاية، يؤدي إلى إقامة نتيجة محدددة ينتج عنها التوازن. فإذا كانت قدرات وأهداف الأفراد معروفة، فإن الطريقة الوحيدة لتغيير نمط النتائج يكمن في تغير الأنظمة. وتغيير الأنظمة بالمقابل سوف يُغيّر النتائج التي تنبثق عن أي مجتمع من الأفراد.
يجب أن ننبه القارئ هنا إلى الدقة الضرورية في التمييز بين الأنظمة والنتائج في الإطار السياسي. في أحد المستويات، فإن أنظمة اللعبة السياسية واضحة بشكل كافٍ: حكم الأغلبية؛ الانتخابات الدورية؛ القيود المختلفة على مقدرة الحكومة على الأخذ؛ وجود تقديم حساب متكامل حول نفقات الأموال العامة؛ التكوين الجغرافي للترتيبات الانتخابية، بما في ذلك إمكانية تقسيم الصلاحيات السياسية نفسها وفق الأنظمة اللامركزية، إلخ. ومع ذلك، فإن كثيراً من تلك المعالم نفسها تتكون من العملية السياسية. على سبيل المثال، التفاهمات فيما يتعلق بالمجال المناسب للنشاط العام، والتي لها قيمة دستورية مهمة، تتم إلى حد كبير بقرارات سياسية متواصلة. ومن هذا المنطلق، فإن التمييز بين الأنظمة والنتائج يميل إلى الغموض في الإطار السياسي.
يضاف إلى ذلك أنه ما دامت الأنظمة والقرارات ضمن النظم نفسها تنبثق عن عمليات سياسية متشابهة، فإن أهمية التمييز بينهما تبدو مبالغاً فيها. إنها في الحالات التي لا يكون التمييز فيها واضحاً أن تتعرض الأنظمة الأساسية في اللعبة إلى الخطر—ولهذا السبب علينا المحافظة على التمييز بين الأنظمة والنتائج ضمن الإطار السياسي.
7. أهمية الأنظمة
الحجة الأولى لدراسة الأنظمة تعتمد على الاعتراف بالدور الذي تقوم به الأنظمة في فرز نتائج متوازية أو نمط من النتائج لمجتمع من المشاركين الاجتماعيين يتمتعون بقدرات وأهداف. لقد جهدنا في توضيح أن التفاعل الذي يجري بين الأفراد أنفسهم ضمن أي مجتمع من المجتمعات قد يُولِّدُ العديد من النتائج الاجتماعية، رهناً بالأحكام التي تكون مرعية ومطبقة. ولكن فقط تلك النتائج الاجتماعية التي تكون مقبولة وذات جدوى هي تلك التي ينتج عنها توازن ضمن ترتيبات مؤسسية، ولهذا السبب، فإن من التضليل بحث جميع النتائج الاجتماعية التي يمكن تصورها واختيار أحدها كمثال لما هو أنسب في تقييم مستقل للمعايير. فالترتيبات المؤسسية تقيّد مجموعة النتائج ذات الجدوى بشكل لا يقل أهمية عن القيود الفيزيائية الأساسية التي تحدد آفاق المنتجات المرغوبة.
لئلا نُتهم بأننا نبني إنساناً من قش هنا فلننظر في الأبحاث المعتادة حول توزيع العدالة أو “الإنصاف” في دوائر السياسة العامة. الإجراء المعتاد هو دراسة جميع توزيعات الناتج العام التي تكون متفقة مع العطاء الأولي للقدرات الإنتاجية، مع الخسارة الضرورية في الإنتاج المتأتية عن إعادة التوزيع (على الرغم من أنه في بعض الحالات، يتم تجاهل الأمر الأخير).
بيد أن السؤال الدستوري الطبيعي هو: كيف لنا أن نتأكد بأن الاختيار “الأفضل” سوف يتم عبر العملية السياسية؟ سوف يكون من الأجدى، بكل تأكيد، أن نحدد مجموعات بديلة من الأنظمة السياسية، وأن نتفحص التوزيعات التي تتأتى عنها. فإذا لم يتبين بأن أياً منها تتناسب مع “الأفضل”، عندها يجب أن نصل إلى قناعة بأن “الأفضل” ليس ممكنا.
إن أي مروِّج للدستور يُصر على دراسة الأنظمة لأنه يسعى إلى ضم جميع القيود ذات الصلة ضمن تحليلاته. ولكن، أن تُترَك القيود المؤسسية جانباً ليس أقل خطأ، من الناحية التحليلية، من تجاهل القيود على القدرات الإنتاجية لعناصر الاقتصاد، أو إهمال القيود الناتجة عن شح أساسي في الموارد.
الحجة الثانية لدراسة الأنظمة هي مستقاة من الطبيعة ولها أبعاد مختلفة. فالاختيار بين الأنظمة، كونها مطبقة على امتداد سلسلة طويلة من الأفعال، وتكون فيها حظوظ كل لاعب غير مؤكدة، ينطوي على بعض الخصائص الخاصة التي تكون غائبة من إطار الاختيار ضمن الأنظمة التي يكون فيها موقف كل لاعب من اللاعبين محدداً بشكل دقيق. وبشكل محدد، هنالك نزوع طبيعي لتعارض المصالح بين اللاعبين، ولكن ذلك يميل إلى الاعتدال الكبير عند اختيار الأنظمة، وبالتالي توسيع آفاق الاتفاق فيما يتعلق بالأحكام والأنظمة بينهم.
هنالك، مع ذلك، بُعد آخر للحجة المعيارية والداعية إلى الاهتمام بالأنظمة بدلاً من النتائج. هذا يشمل الادعاء بأنه لا يستطيع المرء أن يُقيِّم النتائج إلا إذا توافرت المعلومات حول كيفية الوصول إليها. مثل هذا الادعاء يمكن تقديمه على أساس أن العملية هي في جذورها ذات علاقة معيارية، أو على أساس أن المعلومات في العملية بدورها تقدم معلومات حول النتائج، والتي بدونها يكون صعباً أو مستحيلاً القيام بأي تقييم.
أنظر في مثل بسيط. لنفترض بأن نتيجة اقتصادية معينة قد قُدمت يكون فيها (أ) مالكاً لخمس تفاحات وست حبات برتقال، بينما يملك (ب) عشر تفاحات وتسع حبات برتقال. إن تقييم هذه النتيجة يعتمد جزئياً على معرفتنا بمعلومات حول كيفية حدوث ذلك. لنفترض بأننا وجدنا بأن ما حدث هو نتيجة أخذ (أ) لست برتقالات كانت في الأصل في حوزة (ب). وإذا افترضنا بأن ملكية (ب) الأصلية تثبت شرعية امتلاكه لها، فإن النتيجة تصبح غير جذابة لأنها كانت نتيجة سرقة ارتكبها (أ)، لأن (أ) من خلال هذه النتيجة كان قد ارتكب مخالفة للأنظمة المرعية.
وبالطريقة ذاتها، فإن نتيجة أية مسابقة—سباق ركض مثلاً قد لا يكون لها أي مغزى معياري: أية نتيجة تكون مقبولة ما دام أن الأنظمة عادلة ويتم التقيد بها. ومن ناحية أخرى، مع أن النتائج تكون عادة ذات صلة، يمكن أن تكون العملية الموصلة إليها ذات أهمية أيضاً. رجل بريء يحكم عليه خطأ بجرم، قد يجد راحة في معرفة أن المحاكمة كانت عادلة تماماً، وإن كان طاقم المحلفين قد أخطأ في تقرير الحقائق. كذلك، فإن شخصاً مذنباً قد يجد ميّزة في مجريات محاكمة صحيحة تماماً، على الرغم من أن النتيجة هي أمر مفروغ منه. في الحالتين كلتيهما، العملية والنتيجة لها علاقة بالأهداف المعيارية.
الأنظمة يمكن أن تكون لها علاقة بمعنى آخر—ليس بسبب أن العمليات تتم بموجب أنظمة معينة، بل لأن التمسك بأنظمة معينة يقدم معلومات حول النتائج. هذه هي الحالة بشكل خاص عندما تكون عناصر النتيجة المتوخاة في كفاءة أدائها.
وبشكل محدد وإذا كان توزيع التفاح والبرتقال بين الشخص (أ) والشخص (ب) قد تم نتيجة تبادل حُرّ بين الفريقين، من نقطة البدء، وإذا افترضنا بأن التفاح والبرتقال يتمتعان بخصائص “السلع الفردية” المعتادة، فإننا نستطيع الافتراض بأن نتيجة التوزيع كانت كفؤة، أو على الأقل، أنها تراعي معيار باريتو في التجارة. ففي غياب معلومات حول كيفية التوصل إلى النتيجة النهائية، لا يوجد أي سبب يدعو إلى افتراض الكفاءة. وفي الحقيقة، وما لم يكن المحلل يملك القدرة على قراءة عقول الأشخاص المعنيين، وأن يستخلص مع ذلك الفائدة المرجوة لكل سلوك، فإنه لن تكون المعرفة ممكنة مطلقاً.
حقيقة أن النتائج تظهر من عملية تحكمها أنظمة محددة هي التي تقدم معلومات حول الوضع المعياري للنتيجة، والذي لن يكون ممكناً في غياب ذلك. وهنا توعز الأهمية المعيارية للنتيجة لا للعملية، بيد أن العملية تقدم دليلاً على طبيعة النتيجة.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 2 نيسان 2007.

peshwazarabic10 نوفمبر، 20101

المؤسسات هي القيود التي استنبطها الإنسان، والتي تنظم التفاعل السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وتتضمن قيوداً غير رسمية (العقوبات، والمحظورات، والعادات، والتقاليد، ولوائح السلوك)، وقوانين رسمية (الدساتير، والقوانين، وحقوق الملكية). وعبر التاريخ، تم استنباط المؤسسات بواسطة أشخاص كانوا قادرين على تأسيس النظام، وتقليص مستوى عدم اليقين في التبادل. وهي إلى جانب القيود الاقتصادية المعيارية، تحدد الخيار المعلن، وتقرر بناء عليه تكاليف العملية والإنتاج، وبالتالي، الربحية والجدوى الاقتصادية جراء المشاركة في النشاط الاقتصادي. كما أنها تتطور بشكل متزايد، لتصل بذلك الماضي مع الحاضر والمستقبل؛ والتاريخ نتيجة لذلك هو إلى حد كبير قصة التطور المؤسسي التي لا يمكن فهم الأداء التاريخي للاقتصادات فيها، إلا بصفته جزءاً من هذه القصة المسلسلة.
توفر المؤسسات هيكل الحوافز لاقتصاد ما؛ وعندما يتطور هذا الهيكل، يشكل اتجاه التغير الاقتصادي نحو النمو، أو الركود، أو التراجع. وهدفي في هذا المقال التوسع في إلقاء الضوء على دور المؤسسات في أداء الاقتصادات، وتوضيح تحليلي الشخصي من زاوية اقتصادية تاريخية.
فما الذي يجعل تقييد التفاعل البشري مع المؤسسات ضرورياً؟ يمكن تلخيص المسألة بشكل بليغ في سياق نظري للعبة ما. فالأفراد متعاظمو الثروات سيجدون أن التعاون مع لاعبين آخرين جدير بالاهتمام عندما يتم تكرار اللعبة، ويمتلكون معلومات كاملة حول الأداء السابق للاعب الآخر، ويكون هناك عدد قليل من اللاعبين. ومن الصعب أن يدوم التعاون عندما لا يتم تكرار اللعبة (أو تكون هناك نهاية لها)، وعندما تكون المعلومات حول اللاعبين الآخرين غير مكتملة، وهناك أعداد كبيرة من اللاعبين.
تعكس هذه الأقطاب المتنافرة أوضاعاً اقتصادية متضادة في الحياة الواقعية. وهناك العديد من الأمثلة حول مؤسسات التبادل البسيطة التي تفسح المجال أمام التعامل متدني التكلفة بموجب الشروط السابقة. بيد أن المؤسسات التي تتيح التعامل والإنتاج متدنيي التكلفة في عالم التخصص وتقسيم العمل، تحتاج إلى حل مشاكل التعاون البشري بموجب الشروط السابقة.
يتطلب الأمر وجود موارد لتحديد وتنفيذ اتفاقيات التبادل. وحتى لو كان لكل شخص نفس الهدف الوظيفي (مثل تعظيم أرباح الشركة)، فإن التعامل سيستنفذ موارد أساسية؛ ولكن في سياق سلوك الأفراد لزيادة الثروة، والمعلومات غير المتسقة حول قيمة مساهمة ما يجري تبادله (أو أداء العناصر)، تعتبر تكاليف العملية محدداً خطيراً للأداء الاقتصادي. إن المؤسسات وفاعلية التطبيق (إلى جانب التقنية المستخدمة)، تحدد جميعها تكلفة التعامل. والمؤسسات الفاعلة ترفع مستوى المنافع المتأتية من الحلول التعاونية أو تكاليف التراجع، لاستغلال الشروط النظرية للعبة. فضمن بنود تكلفة العملية، تقلل المؤسسات تكاليف العملية والإنتاج لكل عملية تبادل، بحيث يمكن تحقيق المكاسب المحتملة من التجارة. إن كلا من المؤسسات السياسية والاقتصادية هي عناصر رئيسية في أية منظومة مؤسسية فاعلة.
إن التركيز الرئيسي للكتب على المؤسسات وتكاليف العملية انصب على المؤسسات بصفتها حلولاً فعالة لمشاكل المؤسسات في الإطار التنافسي (ويليامسون 1975؛ 1985). وبناء عليه، يُنظر إلى تبادل الأسواق، أو منح الامتيازات، أو التكامل العمودي في هذه الكتب على أنها حلول فعالة للمشاكل المعقدة التي تواجه الرياديين في ظل الشروط التنافسية المتنوعة. وفي ضوء قيمة هذا العمل، فإن مثل هذا المنهج يستبعد المحور الرئيسي لهذا المقال: توضيح الأداءات المتباينة للاقتصادات عبر الزمن، وفي عالمنا الحالي.
فكيف يحقق اقتصاد ما الأسواق الفاعلة التنافسية التي تم افتراضها في المنهج السابق؟ إن القيود الاقتصادية الرسمية أو حقوق الملكية يتم تعيينها وتطبيقها من قبل المؤسسات السياسية، وتأخذ الكتب هذه الأمور على أنها أمور مسلم بها. بيد أن التاريخ الاقتصادي هو إلى حد كبير قصة الاقتصادات التي فشلت في إخراج مجموعة من القوانين الاقتصادية للعبة (مع التطبيق)، التي تحفز النمو الاقتصادي المستدام. إن المسألة الجوهرية لتاريخ الاقتصاد والتطور الاقتصادي هي تعليل تطور المؤسسات السياسية والاقتصادية التي تخلق بيئة اقتصادية تحدث إنتاجية متزايدة.
المؤسسات والحصول على المكاسب من التجارة
سيكون لدى العديد من القراء فكرة إلى حد ما على الأقل حول الاقتصاد التاريخي على مر الزمن على انه سلسلة من القصص المرحلية. إذ كان ينظر إلى الاقتصادات الباكرة على أنها تبادل محلي داخل قرية ما (أو حتى في مجتمع صيد وتجمع بسيط). تدريجياً، توسعت التجارة إلى خارج حدود القرية: أولاً إلى المنطقة، على الأرجح إلى اقتصاد أشبه ما يكون بسوق خيرية؛ ومن ثم إلى مسافات أبعد، بواسطة قوافل معينة أو طرق بحرية؛ وبالنهاية إلى شتى أنحاء العالم. وفي كل مرحلة، انطوى الاقتصاد على زيادة التخصص وتقسيم العمل، وعلى تقنية اكثر إنتاجية على نحو مستمر. لقد تم استنباط قصة هذا التطور التدريجي من الاكتفاء الذاتي المحلي، إلى التخصص وتقسيم العمل، من المدرسة الألمانية التاريخية. وعلى أية حال، لا يوجد مؤشر في هذا البحث أن التطور التاريخي الحقيقي للاقتصادات كان بالضرورة بموازاة تسلسل مراحل التبادل المذكورة هنا.[1]
أبدأ بالتبادل المحلي داخل قرية، أو حتى مجتمعات تبادل الصيد والتجمع البسيطة (التي فيها اجتمعت النساء بينما ذهب الرجال إلى الصيد). إن التخصص في هذا العالم بدائي، وتتسم معظم بيوت الأفراد بالاكتفاء الذاتي. وتوجد تجارة القرية صغيرة الحجم ضمن شبكة اجتماعية “كثيفة” من القيود غير الرسمية التي تسهل التبادل المحلي، أما تكلفة هذا التعامل في هذا السياق فهي متدنية. (رغم أن التكاليف المجتمعية الأساسية للمؤسسة القبلية أو القروية قد تكون مرتفعة، ولكن لا يتم عكسها في التكاليف الإضافية لعملية التعامل). ويملك الأشخاص فهماً شخصياً جداً لبعضهم البعض، ويشكل تهديد العنف قوة دافعة مستمرة للمحافظة على النظام بسبب تأثيراته على الأعضاء الآخرين في المجتمع.
وبامتداد التجارة إلى خارج حدود القرية الواحدة، على أية حال، فإن احتمالات الصراع بشأن التبادل تزداد. وينمو حجم السوق وتزداد تكاليف العملية بشكل حاد، بسبب تغير الشبكة الاجتماعية الكثيفة؛ وبناء عليه، ينبغي تخصيص موارد أكثر للقياس والتطبيق. وفي ظل غياب الدولة التي طبقت العقود، فإن المبادئ الدينية فرضت في العادة معايير السلوك على اللاعبين. غنياً عن القول، أن فعاليتها في تخفيض تكاليف التعامل اختلفت بشكل واسع، اعتماداً على الدرجة التي تم فيها الاعتقاد أن هذه المفاهيم ملزمة.
إن تطور التجارة لمسافة أبعد بواسطة القوافل أو الرحلات البحرية الطويلة يقتضي انفصالاً حاداً عن سمات الهيكل الاقتصادي. ويستلزم تخصصاً جوهرياً في عملية التبادل بين الأفراد الذين تقتصر حياتهم على التجارة وتطور المراكز التجارية التي يمكن أن تكون أماكن تجمع مؤقتة (كما كانت المعارض الأولى في أوروبا)، أو مدن أو بلدات أكثر ديمومة. وتعتبر بعض اقتصاديات الحجم—على سبيل المثال في زراعة المزارع—من سمات هذا العالم. ويبدأ التخصص الجغرافي في الظهور كسمة رئيسية، كما يحدث فضلاً عن ذلك بعض التخصص الوظيفي.
شكّل نمو تجارة المسافات الطويلة أطول مشكلتين مميزتين لتكلفة العملية. المشكلة الأولى هي مشكلة الوكالة الكلاسيكية، والتي قابلها تاريخياً استغلال القريب في التجارة لمسافة أبعد. أي أن تاجراً مقيماً يقوم بإرسال قريب له يحمل بضاعة للتفاوض بشأن البيع والحصول على عائد للبضاعة. وعملت تكلفة قياس الأداء، وقوة روابط القربى، وسعر البضاعة المرتدة، على تحديد نتيجة مثل تلك الاتفاقيات. وعندما نما حجم وكمية التجارة، أصبحت مشاكل الوكالة معضلة كبرى بشكل متزايد.[2] وتضمنت المشكلة الثانية تفاوض وتطبيق العقود في المناطق الأجنبية من العالم، حيث لا توجد وسيلة متاحة بسهولة للوصول إلى اتفاق وتطبيق العقود. ولا يعني التطبيق تطبيق مثل تلك الاتفاقيات فقط، إنما أيضاً حماية السلع والخدمات على الطريق من القراصنة، وقطاع الطرق، وما إلى ذلك.
وتم حل مشاكل تطبيق الاتفاقيات على الطريق بقوات مسلحة تحمي السفن أو القوافل بعد دفع مكوس أو أموال للمجموعات التعسفية المحلية. نموذجياً، استلزم التفاوض والتطبيق في المناطق الأجنبية من العالم تطور المقاييس والتدابير المعيارية، ووحدات للحساب، ووسيلة للتبادل، وكتّاب عدل، وقناصل، ومحاكم للقانون التجاري، ووجود مقاطعات لتجار أجانب محميين من جانب أمراء أجانب مقابل عائد معين. وبتخفيض تكاليف المعلومات، وتوفير حوافز للعقود فإن إنجاز هذا الشكل المعقد من المؤسسات، والمنظمات، والأدوات، جعل هذا التعامل وهذه المشاركة في التجارة بعيدة المسافة ممكناً. وعمل مزيج من الهيئات الطوعية وشبه القسرية، أو على الأقل الهيئات التي تستطيع بفاعلية أن تتسبب في نبذ التجار الذين لم يلتزموا بالاتفاقيات، على تمكين التجارة بعيدة المسافة من أن تحدث.
ويستلزم هذا التوسع للسوق مُنتِجين أكثر تخصصاً. نتج عن اقتصاديات الحجم بدايات المؤسسات المنتجة ذات التسلسل الهرمي، التي لديها عاملون بكامل الوقت، سواء في مكان مركزي، أو في خضم عملية إنتاجية متسلسلة. وتبرز البلدات وعدد من المدن المركزية، ويظهر الآن التوزيع الوظيفي للسكان، إضافة إلى ذلك، حصلت زيادة أساسية في نسبة القوى العاملة المشتركة في عملية التصنيع، وفي تقديم الخدمات، رغم استمرار التفوق التقليدي في الزراعة. وتعكس مراحل التطور هذه أيضاً تحولاً مهماً باتجاه تمدن المجتمع.
ومثل تلك المجتمعات تحتاج إلى تطبيق فعال وغير شخصي للعقود، لأن الروابط الشخصية، والقيود ذات الصفة الطوعية، وعمليات النبذ لن تعود فاعلة في الوقت الذي تبرز فيه أشكال أكثر تعقيداً وغير شخصية من التبادل. ليس الأمر أن هذه البدائل الشخصية والاجتماعية غير مهمة؛ إنها ما زالت مهمة حتى في عالم اليوم المتبادل الاعتماد. ولكن في غياب التعاقد غير الشخصي الفعال، فإن المكاسب من “الارتداد” كبيرة على نحو يكفي لإحباط تطور التبادل المعقد. وهناك مثالان يتعاملان مع تأسيس سوق لرأس المال، ومع التفاعل بين المؤسسات والتقنية المستخدمة.
ويستلزم سوق رأس المال وجود حماية لحقوق الملكية عبر الوقت، ولن يتطور ببساطة في الوقت الذي يستطيع فيه القادة السياسيون مصادرة الممتلكات اعتباطياً، أو تغيير قيمتها جذرياً. إن ترسيخ التزام ذي مصداقية لحماية حقوق الملكية على مر الزمن يقتضي إما حاكماً يمارس الليونة وتقييد استخدام القوة التعسفية، أو تقييد سلطات الحاكم لمنع المصادرة الاعتباطية للممتلكات. كان البديل للأول هو النجاح على نحو نادر لفترة طويلة في مواجهة الأزمات المالية الأزلية للحكام (كنتيجة إلى حد كبير للحروب المتكررة). بينما استلزم الأخير أزمات إعادة هيكلة جوهرية لحكومة الدولة، كما حدث في إنجلترا نتيجة الثورة العظيمة عام 1688، والتي تمخضت عن سيادة البرلمان على التاج.
واستلزمت التقنية المرتبطة بنمو التصنيع زيادة رأس المال الثابت في المصنع والمعدات، وإنتاجا غير متقطع، وقوة عمل منظمة، وشبكة مواصلات متطورة، وبشكل مختصر، اقتضت مصنعاً فاعلاً وأسواقا للمنتج. ويوجد تحت شبكة أسواق مثل تلك، حماية لحقوق الملكية، والتي تستلزم حكومة دولة، ونظاماً قضائياً يسمح بالتعاقد بتكاليف متدنية، وقوانين مرنة تتيح نطاقاً واسعاً من الهياكل المؤسسية، وتأسيس هياكل حوكمة معقدة للحد من مشاكل الوكالة في المؤسسات ذات التسلسل الهرمي.
وفي المرحلة الأخيرة، وهي المرحلة التي نلاحظها في المجتمعات الغربية المعاصرة، ازداد التخصص، وتطلبت الزراعة نسبة بسيطة من قوى العمل، وامتدت الأسواق لتشمل شتى أنحاء البلاد وشتى أرجاء العالم. وتنطوي اقتصاديات الحجم وجود مؤسسة كبيرة الحجم، ليس فقط في التصنيع، إنما أيضا في الزراعة. ويعيش كل فرد بتوليه وظيفة متخصصة، وبالاعتماد على شبكة واسعة من الأقسام المتشابكة الصلات لتوفير الكم الهائل من السلع والخدمات التي تلزمهم كأفراد. ويتحول التوزيع الوظيفي لقوى العمل تدريجياً من هيمنة التصنيع إلى هيمنة ما يطلق على أنها خدمات في النهاية. وأصبح المجتمع مدنياً بشكل ساحق.
وفي هذه المرحلة النهائية يقتضي التخصص زيادة نسبة موارد المجتمع التي يجب أن تشترك في التعامل، بحيث يتزايد قطاع التعامل ليشكل نسبة كبيرة من الناتج القومي الإجمالي. والواقع أن التخصص في التجارة، والتمويل، والأعمال المصرفية، والتأمين، فضلاً عن التنسيق البسيط للنشاط الاقتصادي ينطوي على نسبة متزايدة من قوى العمل.[3]
وتبرز من الحاجة، بناء على ذلك، أشكال عالية التخصص للمؤسسات التي تؤدي العملية. ويقتضي التخصص الدولي وتقسيم العمل مؤسسات ومنظمات لحماية حقوق الملكية عبر الحدود الوطنية بحيث يمكن أن تنشأ أسواق رأس المال (فضلاً عن أنواع أخرى من التبادل) مع الالتزام الجدير بالثقة من جانب اللاعبين.
يبدو وكأن هذه المراحل النظامية تندمج الواحدة في الأخرى في قصة متسلسلة من التعاون المتطور. ولكن هل هي كذلك فعلاً؟ وهل أن أي ترابط ضروري يعمل على نقل اللاعبين من أشكال التبادل الأقل تعقيداً إلى تلك الأكثر تعقيداً؟ إن ما يتعرض للخطر في خضم هذا التطور ليس فقط ما إذا كانت تكاليف المعلومات واقتصاديات الحجم، إلى جانب تطور التطبيق المحسن للعقود، ستتيح وتشجع بالفعل أشكال تبادل أكثر تعقيداً، إنما أيضاً ما إذا كانت المؤسسات تملك الحافز لامتلاك المعرفة والمعلومات التي ستحثها على التطور في اتجاهات أكثر إنتاجية من ناحية اجتماعية.
في الحقيقة، لا يوجد سبب ضروري عبر التاريخ لأن يحدث هذا التطور. وبالفعل، فإن معظم الأشكال الأولى للمؤسسات التي ذكرتها في هذه الأقسام ما زالت قائمة في يومنا هذا في مناطق من العالم. وما زالت هناك مجتمعات قبلية بدائية قائمة؛ إذ ما زالت السوق [The Suq] (اقتصادات السوق الخيرية التي تشترك في التجارة الإقليمية) تزدهر في مناطق عديدة من العالم، وفي حين أن تجارة القوافل قد اختفت، إلا أن زوالها (فضلاً عن التقليص التدريجي لأهمية الشكلين الآخرين من التبادل “البدائي”) عكس قوى خارجية وليس تطوراً داخلياً. وفي المقابل، أحدث تطور التجارة الأوروبية لمسافات بعيدة تطوراً تسلسلياً لأشكال أكثر تعقيداً من المؤسسات.
وسيبحث باقي هذا البحث أولاً فيما تبدو أشكالا بدائية للتبادل التي أخفقت في التطور، ومن ثم التطور المؤسسي الذي حدث في بداية أوروبا الحديثة. وسوف يحاول القسم الختامي للبحث أن يذكر سبب تطور بعض المجتمعات ومؤسسات التبادل، وعدم تطور بعضها الآخر، وأن يطبق إطار العمل ذلك في سياق التطور الاقتصادي في النصف الغربي من الكرة الأرضية خلال القرنين الثامن والتاسع عشر.
عندما لا تتطور المؤسسات
في كل نظام تبادل، يكون لدى ممثلي السوق حافزاً لاستثمار وقتهم، ومواردهم، وطاقتهم في المعرفة والمهارات التي ستعمل على تحسين مركزهم المادي. ولكن في عدد من الأوضاع المؤسسية البدائية، فإن نوع المعرفة والمهارات التي ستجدي نفعاً لن ينتج عنه تطور مؤسسي باتجاه اقتصادات أكثر إنتاجية. ولتوضيح هذه الحجة، أعتبر أن هناك ثلاثة أنواع بدائية من التبادل—المجتمع القبلي، واقتصاد إقليمي مع تجارة السوق الخيرية، وتجارة القوافل لمسافات بعيدة—التي من المحتمل أن تتطور.
وكما أشرنا سابقاً، فإن التبادل في مجتمع قبلي يعتمد على شبكة اجتماعية كثيفة. وتصف إليزابيث كولسون (1974: 59) الشبكة كالتالي:
إن المجتمعات التي يعيش فيها هؤلاء الأشخاص جميعاً كان يحكمها توازن دقيق للقوى، وهذه القوى معرضة دائماً للخطر، ولا يجب أن تؤخذ كأمر مسلم به: كان كل شخص مشتركاً باستمرار في حماية مركزه الخاص في الحالات التي توجب عليه فيها أن يثبت نواياه الحسنة. ويبدو أن الأعراف والعادات مرنة ومنسابة بالنظر إلى أن الحكم على ما إذا كان شخص ما قد فعل ما هو مناسب أم لا يختلف من حالة إلى أخرى… غير أن سبب ذلك كان أن الفرد هو الذي تجري محاكمته وليس الجريمة. وفي ظل هذه الشروط، فإن الاستهزاء بالمعايير المقبولة عموماً يعادل الادعاء بسلطة غير شرعية، ويصبح جزءاً من الدليل ضد المرء.
إن تأثيرات تحليل كولسون، فضلاً عن تحليل ريتشارد بوزنر في اعتباره للمؤسسات البدائية (1980)، هو أنه كان ينظر إلى الانحراف والابتكار على أنهما تهديداً لاستمرار بقاء المجموعة.
وهناك شكل آخر للتبادل كان قائماً لآلاف السنين، وما زال قائماً إلى يومنا هذا في شمال إفريقيا والشرق الأوسط وهو السوق [The Suq]، حيث توجد فيها تبادلات واسعة الانتشار وغير شخصية نسبياً، مع تكاليف تعامل عالية إلى حد ما. وتتمثل الخصائص الرئيسية للسوق في العدد الوافر من المؤسسات صغيرة الحجم، واشتراك ما نسبته 40 إلى 50 في المائة من قوى العمل في المدينة في عملية التبادل هذه؛ وفي التكاليف الثابتة المتدنية المتعلقة بالإيجار والآلات؛ وفي التقسيم الدقيق جداً للعمل؛ وفي العدد الذي لا يحصى من الصفقات الصغيرة التي تعتبر كل واحدة منها بشكل أو بآخر مستقلة عن اللاحقة؛ وفي الاتصال وجهاً لوجه؛ وفي السلع والخدمات غير المتجانسة.
لا توجد مؤسسات متخصصة لجمع وتوزيع المعلومات عن السوق، أي لا توجد مؤشرات أسعار، وتقارير إنتاج، ووكالات توظيف، وأدلة مستهلكين، وما إلى ذلك. أما أنظمة المواصفات والمقاييس فهي معقدة وموحدة المعايير بشكل غير تام. وتبدو مهارات التبادل متطورة بشكل مفصل ومدروس، وهي المحدد الرئيسي لمن يزدهر في السوق. كما أن المساومة حول الشروط المتعلقة بأية ناحية أو شرط من شروط التبادل فهي منتشرة، وعنيفة، ومتواصلة. فالشراء والبيع غير مميزين فعلياً، وهما في الأساس نشاط واحد؛ وينطوي التبادل التجاري على بحث مستمر عن شركاء معينين، وليس مجرد عرض السلع أمام الجمهور العام. واشتمل تنظيم النزاعات على شهادات من جانب شهود يعتمد عليهم كانوا شاهدين على القضايا الفعلية، وليس على ثقل قوانين المنافسة القضائية. وكانت الضوابط الحكومية على نشاط السوق هامشية، وغير مركزية، وعلى الأغلب خطابية.
وفي الملخص، فإن الملامح الرئيسية للسوق [The Suq] هي (1) تكاليف قياس عالية؛ (2) جهود متواصلة في التواصل مع الزبائن (تطور علاقات التبادل المتكررة مع الشركاء الآخرين، مهما كانوا غير مناسبين)؛ (3) المساومة المكثفة عند كل هامش. وفي جوهرها، فإن اللعبة هي في زيادة تكاليف التعامل على الطرف الآخر لعملية التبادل. ويجني المرء النقود بحصوله على معلومات أفضل من تلك التي حصل عليها خصمه.
ومن السهل إدراك سبب النظر إلى الابتكار على أنه يهدد استمرار البقاء في مجتمع قبلي، بيد أن الأصعب فهمه هو سبب استمرار هذه الأشكال “غير الفاعلة” من المساومة في السوق. وقد يتوقع المرء، في المجتمعات التي نعرفها، أن المنظمات الطوعية ستتطور للحماية من المخاطر ومستوى عدم اليقين المتعلقة بمثل هذه المعلومات غير المتسقة. ولكن، تلك هي المسألة تحديداً. إن ما تفتقد إليه السوق [The Suq] هي الأساسيات الجوهرية للمؤسسات التي ستجعل مثل تلك المؤسسات الطوعية قابلة للحياة ومربحة. وتتضمن هذه الأساسيات هيكلاً قانونياً فاعلاً، ونظام محاكم لتطبيق العقود التي بدورها تعتمد على تطور المؤسسات السياسية التي ستخلق مثل ذلك الإطار. وفي غيابها، لا يوجد حافز لتغيير النظام.
والشكل الثالث من التبادل، تجارة القوافل، يوضح القيود غير الرسمية التي جعلت التجارة ممكنة في عالم كانت الحماية فيه أساسية، ولم تكن هناك دولة منظمة قائمة. ويعطي كليفورد غيرتز (1979: 137) وصفاً لتجارة القوافل في المغرب في بداية القرن:
بالمعنى الضيق، فإن الزيتاتا (من الكلمة البربرية تازيتات [TAZETTAT]، وتعني قطعة صغيرة من القماش)، عبارة عن غرامة مرور، أي مبلغ يدفع للسلطة المحلية… من أجل الحماية عند عبور المواقع التي توجد فيها مثل هذه السلطات المحلية. ولكنها في الحقيقة، أو بالأحرى كانت، أكثر بقليل من مجرد دفع مبلغ. لقد كانت جزءاً من طقوس أخلاقية كاملة معقدة، أو عادات بقوة القانون، ووزن العقوبة—التي تمحورت حول علاقات الضيف-المضيف، الزبون-النصير، الملتمس-المقدم إليه الالتماس، المنفي-الحامي، المتضرع-الإله—والتي جميعها تشكل بطريقة أو بأخرى حزمة مجتمعة في الريف المغربي. إن دخول العالم القبلي جسدياً يفرض على التاجر الجوال (أو وكيله على الأقل) أن يدخله ثقافياً أيضاً.
ورغم التنوع الواسع لأشكال معينة تظهر من خلالها ذواتهم، فإن خصائص الحماية في المجتمع البربري في أعالي ووسط جبال أطلس واضحة وثابتة. إن الحماية شخصية، وغير مؤهلة، وصريحة، وينظر إليها على أنها إعطاء شخص معين شهرة رجل آخر. ربما تكون الشهرة سياسية، أو معنوية، أو روحية، أو حتى صفة شخصية خصوصية، أو على الأغلب الأربع نقاط التي ذكرت جميعها مرة واحدة. بيد أن العملية الأساسية هي أن الرجل الذي يعمل على ’قف وتكلم – قُم وقال، كما ورد في العنوان الكلاسيكي‘ لأولئك الأشخاص قائلاً: “هذا الرجل يخصني، فإذا أسأت إليه أهنتني، فإذا أهنتني فسوف تتحمل النتيجة.” ومنح البركة (البركة المشهورة)، وحسن الضيافة، والملجأ، والممر الآمن، هي متشابهة في هذا الأمر: فهي تقع على الأرجح، على الفكرة المتناقضة نوعاً ما بأنه رغم أن الهوية الشخصية هي فردية إلى حد بعيد في كلا من جذورها وتعبيراتها، إلا أنه بالإمكان دمغها على ذات شخص آخر.
وبينما يجد شيوخ القبائل أن الأمر مربحاً لدى حماية قوافل التجار، لكنهم لا يملكون القوة العسكرية ولا الهيكل السياسي لتمديد، وتطوير، وتطبيق حقوق ملكية اكثر استدامة.
التطور المؤسسي في بداية أوروبا الحديثة
على النقيض من العديد من أنظمة التبادل البدائية، كانت التجارة بعيدة المسافة في بداية أوروبا الحديثة من القرن الحادي عشر إلى القرن السادس عشر عبارة عن قصة مؤسسات أكثر تعقيداً بشكل تسلسلي، والتي أدت في النهاية إلى نهضة العالم الغربي. دعوني أولاً أصف بشكل مختصر الابتكارات، ثم استكشف بعض مصادرها المتضمنة.
فالابتكارات التي خفضت تكاليف العملية اشتملت على تغييرات مؤسسية، وأدوات، وأساليب معينة، وخصائص تطبيق عملت على تخفيض تكاليف المشاركة في التبادل عبر مسافات بعيدة. وقد حدثت هذه الابتكارات عند ثلاثة هوامش من التكاليف: (1) تلك التي زادت من حركة رأس المال؛ (2) تلك التي خفضت تكاليف المعلومات؛ (3) وتلك التي وزعت المخاطر. ومن الواضح أن الفئات متشابكة، ولكنها تزود وسيلة مفيدة لتمييز ملامح تخفيض تكلفة التعامل. إن لجميع هذه الابتكارات أصولها في الأزمنة الأولى، وتمت استعارة معظمها من مدن الدول الإيطالية في العصور الوسطى أو الإسلام، أو البيزنطينيين، ومن ثم التوسع فيها.
ومن بين الابتكارات التي عززت حركة رأس المال، الأساليب والوسائل التي تطورت لتجنب قوانين الربا. إن تنوع الوسائل البارعة عملت على تورية الفائدة في عقود القروض، وتراوحت من “جزاءات على السداد المتأخر” إلى التلاعب بأسعار التبادل (لوبيز وريموند 1955: 163)، إلى الأشكال الأولى من الرهن العقاري، لكنها كلها زادت من تكاليف التعاقد. إن تكلفة قوانين الربا لم تتمثل في كونها جعلت كتابة العقود لتورية الفوائد معقدة وتشكل عبئاً فقط، بل أيضاً في أن تطبيق مثل تلك العقود أصبح مشكلة على نحو أكثر. وعندما زاد الطلب على رأس المال، وأصبح التهرب أكثر عموماً، انهارت قوانين الربا تدريجياً، وتم السماح بمعدلات الفائدة. ونتيجة لذلك، تراجعت تكاليف كتابة العقود، وتكاليف تطبيقها.
والابتكار الثاني الذي حسن حركة رأس المال، والذي تلقى الاهتمام الأكبر، كان تطور ورقة التبادل (أمر بالدفع يحمل تاريخاً، لنفرض 120 يوماً بعد الإصدار، عادة ما كان يكتبه البائع ضد مشتري سلع مستلمة)، وبالتحديد تطور أساليب وأدوات تسمح بتفاوضها فضلاً عن تطور أساليب الخصم. قابلية التفاوض والخصم بدورهما اعتمدا على خلق مؤسسات تسمح باستخدامهما، وتطور مراكز يمكن أن تحدث فيها مثل هذه الفعاليات: أولاً في المعارض، مثل معرض شامبين الذي لعب دوراً مهيمناً في التبادل الاقتصادي في أوروبا القرنين الثاني والثالث عشر؛ ومن ثم بواسطة البنوك؛ وفي النهاية بواسطة بيوت المال التي يمكنها أن تتخصص في الخصم. ولم تكن هذه التطورات وظيفة مؤسسات معينة فقط، إنما أيضا مقياس لحجم النشاط الاقتصادي. ومن الواضح أن الحجم المتزايد جعل مثل تلك التطورات المؤسسية ممكناً. وإضافة إلى اقتصاديات الحجم اللازمة لتطور أوراق التبادل، فإن إمكانية التطبيق المحسن للعقود كانت مهمة، بالإضافة إلى العلاقة المتشابكة بين تطور أساليب المحاسبة والتدقيق واستخدامها كدليل في تحصيل الديون وفي تطبيق العقود (ياني 1949؛ واتس وزيمرمان 1983).
وهناك أيضاً ابتكار ثالث أثر في حركة رأس المال، نشأ من المشاكل التي ارتبطت بالمحافظة على سيطرة الوكلاء المشتركين في التجارة بعيدة المسافة. وكان القرار التقليدي لهذه المشكلة في العصور الوسطى وبدايات الأزمنة الحديثة استخدام روابط القربى والعائلة لإلزام الوكلاء بالقوانين. ولكن مع نمو حجم ونطاق إمبراطوريات التجارة وتمدد السلوك الحذر ليشمل آخرين غير القربى فيما يتعلق بالقوانين اقتضى تطور إجراءات محاسبية أكثر توسعاً لمراقبة سلوك الوكلاء.
وكانت التطورات الرئيسية في مجال تكاليف المعلومات هي طباعة أسعار السلع المتنوعة، فضلاً عن طباعة أدلة وفرت معلومات حول الأوزان والإجراءات، والجمارك، وأجور الوساطة، وأنظمة البريد، وعلى وجه الخصوص، أسعار التبادل المعقدة بين الأموال في أوروبا والعالم. ومن الواضح أن هذه التطورات كانت تعتمد بشكل رئيسي على حجم التجارة الدولية، وبناء عليه، نتيجة لاقتصاديات الحجم.
وكان الابتكار الحاسم في هذا السياق تحوّل عالم عدم اليقين إلى مبدأ المخاطر. وأعني بعدم اليقين هنا حالة لا يستطيع المرء فيها تأكيد احتمالية حدوث حدث ما، وبناء عليه، لا يستطيع الوصول إلى وسيلة للتأمين ضد هذا الحدوث. بينما تتضمن المخاطر، من ناحية أخرى، المقدرة على اتخاذ قرار تأميني لاحتمالية حدوث حدث ما، وبناء عليه التأمين ضد هذه النتيجة. وفي العالم المعاصر، فإن التأمين وتنويع المحفظة المالية هي أساليب لتحويل عدم اليقين إلى المخاطر، والتقليص، بناءً عليه، من تكاليف التعامل بواسطة تخصيص صندوق تحوط ضد المتغيرات. وفي العصور الوسطى وبداية العالم الحديث، حدث نفس التحول بالتحديد. فعلى سبيل المثال، تطور التأمين البحري من عقود فردية متشتتة تغطي دفعات جزئية مقابل خسائر العقود التي أصدرتها شركات متخصصة. وكما وصف دو روفر (1945: 198) قائلاً:
بحلول القرن الخامس عشر، تم تأسيس التأمين البحري على أسس متينة. وأصبحت صياغة السياسات نمطية فعلياً وتغيرت بشكل بسيط خلال الثلاث أو الأربع مائة عام التالية… وفي القرن السادس عشر، كانت الممارسة الشائعة فعلياً استخدام النماذج المطبوعة المزودة بمساحات بسيطة فارغة لكتابة اسم السفينة، واسم الربان، ومبلغ التأمين، والقسط، وعدد قليل من البنود الأخرى التي كانت تميل للتغير من عقد إلى آخر.
وكان المثال الآخر حول تطور المخاطر الاكتوارية القابلة للتحقق بشأنها، مؤسسة الأعمال التي وزعت المخاطر إما بواسطة تنويع المحفظة المالية، أو مؤسسات سمحت لأعداد كبيرة من المستثمرين المشاركة في الأنشطة المحفوفة بالمخاطر. فعلى سبيل المثال، كان “الأمر” عقداً يستخدم في التجارة بعيدة المسافة بين شريك مقيم وشريك فاعل رافق السلع. وتطور من أصوله اليهودية، والبيزنطية، والإسلامية (يودوفيتش، 1962)، وحتى من جانب الإيطاليين، إلى (إنجليش ريجيوليتيد كومباني)، وأخيراً (جوينت ستوك كومباني)، حيث قدم بذلك قصة ثورية حول تحويل المخاطر إلى عملية مؤسسية.
تطورت هذه الابتكارات بالتحديد، إلى جانب أدوات مؤسسية معينة، من التفاعل بين قوتين اقتصاديتين جوهريتين: اقتصاديات الحجم المرتبطة بنمو حجم التجارة، وتطور آليات محسنة لتطبيق العقود بتكلفة أقل. وتجري هذه العلاقة السببية في الاتجاهين. أي أن الحجم المتزايد للتجارة بعيدة المسافة زاد من معدل العائد للتجار من استنباط آليات فاعلة لتطبيق العقود. وفي المقابل، خفض تطور مثل تلك الآليات تكاليف التعاقد، وجعل التجارة أكثر ربحية، وبذلك زاد من حجمها.
كانت عملية تطوير آليات تطبيق جديدة عملية طويلة. ففي حين أن عدداً من المحاكم قد عالجت النزاعات التجارية، إلا أن تطور آليات التطبيق من جانب التجار أنفسهم هي التي تعتبر مهمة. ويبدو أن قابلية التطبيق كان لها بداياتها في تطور لوائح السلوك الداخلية في النظام الودي لتجار النقابات المهنية في العصور الوسطى، وكان يتم تهديد الأشخاص الذين لم يمتثلوا للوائح بنبذهم. وتمثلت الخطوة الأخرى بتطور القانون التجاري. لقد حمل التجار لدى القيام بالتجارة بعيدة المسافة لوائح سلوك تجارية، بحيث تم تمرير قوانين بيسان إلى اللوائح البحرية الخاصة بمرسيليا، وأعطت أوليرون ولوبيك القوانين إلى شمال أوروبا، وبرشلونة إلى جنوب أوروبا، ومن إيطاليا جاء المبدأ القانوني للتأمين وأوراق التبادل (ميتشل 1969: 156).
وزود تطور أساليب محاسبية أكثر تعقيداً والسجلات العدلية دليلاً لتأكيد الحقائق أثناء النزاعات. وشكل المزج التدريجي للهياكل الطوعية لتطبيق العقود بواسطة مؤسسات التاجر الداخلية مع التطبيق الذي فرضته الدولة جزءاً مهماً من قصة زيادة قابلية تطبيق العقود. كما أن التطور الطويل للقانون التجاري من بداياته الطوعية، والاختلافات في القرارات التي كانت موجودة في كلا من القانون العام والقانون الروماني، يشكلان جزءاً من القصة.
وكانت الدولة لاعباً رئيسياً في هذه العملية بأكملها، وكان هناك تفاعلاً مستمراً بين الحاجات المالية للدولة ومصداقيتها في علاقتها مع التجار والمواطنين بشكل عام. وعلى وجه الخصوص، تأثر تطور أسواق رأس المال بشكل مهم بسياسات الدولة، حيث أنها إلى حد ما كانت مقيدة بالتزامات بأنها لن تصادر الممتلكات، أو تستخدم القوة التعسفية لزيادة عدم اليقين، وبدلاً من ذلك، جعلت تطور المؤسسات المالية وخلق أسواق أكثر كفاءة لرأس المال ممكناً. وكانت عملية تقييد السلوك الاعتباطي للحكام، وتطور القوانين غير الشخصية التي ألزمت بشكل ناجح كل من الدولة والمؤسسات التطوعية، جزءاً رئيسياً من هذه العملية برمتها. وأصبح تطور العملية المؤسسية التي أصبح بالإمكان بواسطتها تدوير الدين الحكومي جزءاً من سوق رأس المال النظامي، كما أن إمكانية تمويله بمصدر منتظم من الضرائب شكلت جزءاً مهماً من ذلك (تريسي 1985؛ نورث ووينغاست 1989).
وتم ضم هذه الابتكارات المتنوعة والمؤسسات معاً في هولندا، في أمستردام تحديداً، لكي تخلق سَلَف مجموعة الأسواق الحديثة الفاعلة التي تتيح المجال أمام نمو التبادلات والتجارة. واجتذبت سياسة الهجرة المفتوحة المغامرين. وتم تطوير أساليب فاعلة لتمويل التجارة بعيدة المسافة، وأيضاً تطوير أسواق رأس المال وأساليب الخصم في بيوت المال والتي خفضت تكاليف سندات تأمين هذه التجارة. وكان تطوير الأساليب لتوزيع المخاطر وتحويل عدم اليقين إلى مخاطر تأمينية قابلة للتحقق بشأنها، فضلاً عن خلق أسواق الحجم الكبير التي أفسحت المجال أمام تخفيض تكاليف المعلومات، وتطوير مديونية حكومية قابلة للتفاوض، جميعها تشكل جزءاً من هذه القصة (باربر 1949).
قصص متناقضة للاستقرار والتغيير

تمضي هذه القصص المتناقضة للاستقرار والتغيير إلى قلب الأحجية التي تعلل التغييرات في الظروف الاقتصادية الإنسانية. ففي الحالات السابقة، لن يحفز النشاط المتعاظم من جانب اللاعبين زيادة المعرفة والمهارات التي ستعدل الإطار المؤسسي لتحفيز إنتاجية أكبر؛ وفي الحالة الأخيرة، يشكل التطور قصة متناغمة للتغيير المتزايد الذي تم تحفيزه بواسطة المكاسب الشخصية، لكي تحققه التغييرات النظامية والمؤسسية التي زادت الإنتاجية. فما الذي ميز السياق المؤسسي لأوروبا الغربية عن الأمثلة الأخرى؟ لقد كانت الإجابة التقليدية من جانب المؤرخين الاقتصاديين هي المنافسة بين الوحدات السياسية الأوروبية المشتتة التي أبرزتها التقنية العسكرية المتغيرة والتي أجبرت الحكام على السعي للحصول إلى عوائد أكثر (بعمل مساومات مع الناخبين) من أجل الاستمرار في البقاء (نورث وثوماس 1973؛ جونز 1981؛ روزنبيرغ وبريدزيل 1986). لقد شكل ذلك بالتأكيد جزءاً من الإجابة؛ فالمنافسة السياسية من أجل البقاء في بداية أوروبا الحديثة كانت بدون شك أكثر حدة عنها في مناطق أخرى من العالم. ولكنها إجابة جزئية فقط. فلماذا جاءت النتائج متناقضة داخل أوروبا الغربية؟ ولماذا تراجعت إسبانيا، أعظم قوة في أوروبا القرن السادس عشر، في حين أن هولندا وانجلترا تطورتا؟
للبدء في الحصول على إجابة (وهذه بداية فقط)، علينا أن نبحث عميقاً في جزأين رئيسيين من الأحجية: العلاقة بين الإطار المؤسسي الأساسي، الذي جاء نتيجة الهيكل النظامي، والتغير المؤسسي، وبين الطريق الاعتمادي الطبيعة للتغير الاقتصادي الذي جاء نتيجة العوائد المتزايدة التي كانت سمة الإطار المؤسسي.
في الروايات المؤسسية التي ذكرت سابقاً، عكس اتجاه وشكل النشاط الاقتصادي من جانب الأفراد والمؤسسات الفرص التي أنتجها الإطار المؤسسي الأساسي للعادات، والمبادئ الدينية، والقوانين الرسمية (وفعالية التطبيق). وسواء ندرس إطار التجارة في السوق [The Suq] أو في معارض شامبين، ففي كل حالة كان التاجر مقيداً بالإطار المؤسسي، فضلاً عن القيود التقليدية الشائعة في النظرية الاقتصادية.
ففي كل حالة كان التاجر يستثمر في الحصول على المعرفة والمهارات التي تزيد من ثروته. ولكن في الحالة السابقة، كانت المعرفة والمهارات المحسنة تعني الحصول على معلومات أفضل حول الفرص، وامتلاك مهارات مساومة أكبر من تلك التي يملكها التجار الآخرون، حيث أن الفرص المربحة جاءت من كون المرء مطلع بشكل أفضل، وكونه مساوماً أكثر مهارة من التجار الآخرين. ولم يحفز أي من النشاطين التغيير في الإطار المؤسسي الأساسي. وفي المقابل، في حين أن التاجر في المعرض الأوروبي في العصور الوسطى كان سيربح من غير شك من الحصول على مثل هذه المعلومات والمهارات، إلا انه سيكسب أيضا من استنباط طرق لإلزام زملائه التجار، لتأسيس محاكم للتجار، لتحفيز الأمراء على حماية السلع من قطاع الطرق مقابل عائد ما، ولاستنباط طرق لخصم أوراق التبادل. واستثماره في المعرفة والمهارات كان سيعمل تدريجياً وبشكل متزايد على تغيير الإطار المؤسسي الأساسي.
لاحظ أن التطور المؤسسي لم يستلزم فقط وجود مؤسسات طوعية عملت على توسيع التجارة وجعلت التبادل أكثر إنتاجية، بل أيضا على تطور الدولة لتتولى حماية وتطبيق حقوق الملكية، في الوقت الذي جعل فيه التبادل غير الشخصي تطبيق العقود مكلفاً بشكل متزايد بالنسبة للمؤسسات الطوعية التي افتقرت إلى وجود قوة قسرية فعالة. واستتبع القسم الآخر من التطور المؤسسي تقييد السلوك الاعتباطي للدولة إزاء النشاط الاقتصادي.
إن اعتمادية الطريق هي أكثر من مجرد عملية متراكمة للتطور المؤسسي، والتي يوفر فيها الإطار المؤسسي ليوم أمس الفرصة المعدة لمؤسسات يومنا هذا وللمغامرين المختلفين (سياسياً أو اقتصادياً). وتتألف المصفوفة المؤسسية من شبكة متبادلة الاعتماد من المؤسسات، ومؤسسات سياسية واقتصادية تالية تتميز بعوائد هائلة متزايدة.[4] أي أن المؤسسات تدين بوجودها إلى الفرص التي وفرها الإطار المؤسسي. وينشأ الخروج عن الشبكة بسبب تكاليف الإنشاء المبدئية (مثل الإنشاء الجديد للدستور الأمريكي في عام 1787)، وتأثيرات التعلم الموصوفة سابقاً، وتأثيرات التنسيق بواسطة عقود مع مؤسسات أخرى، والتوقعات المقتبسة الناشئة عن انتشار التعاقد الذي اعتمد على المؤسسات القائمة.
عندما تتطور الاقتصادات فعلاً، بناء على ذلك، فلا شيء بشأن العملية يدعم النمو الاقتصادي. لقد كانت الحالة عموماً أن هيكل الحوافز الذي قدمه الإطار المؤسسي الأساسي يخلق فرصاً للمؤسسات التالية لكي تتطور، بيد أن اتجاه تطورها لم يكن لتعزيز الأنشطة التي تزيد الإنتاجية. بدلاً من ذلك، تمت زيادة الربحية الخاصة عن طريق خلق احتكارات، وبتقييد عملية الدخول وحركة عوامل الإنتاج، والمؤسسات السياسية التي رسخت حقوق الملكية التي أعادت توزيع الدخل بدلاً من زيادته.
والتواريخ المتناقضة لكل من هولندا وانجلترا من الجهة الأولى، وإسبانيا من الجهة الأخرى، عكست مجموعة الفرص المختلفة للاعبين في كل حالة. ولتقييم التأثير المنتشر لاعتمادية الطريق، دعنا نمدد الرواية التاريخية لإسبانيا وانجلترا لتشمل التاريخ الاقتصادي للعالم الجديد والتناقض المذهل في تاريخ المناطق شمال وجنوب نهر ريو العظيم.
ففي حالة شمال أمريكا، تم تشكيل المستعمرات الانجليزية في القرن الذي كان فيه الصراع بين البرلمان والتاج قد وصل إلى مرحلة الذروة. وتمت موازاة التنوع الديني والسياسي الموجود في البلد الأم بمثيله في المستعمرات. وكان التطور العام باتجاه السيطرة السياسية المحلية ونمو الجمعيات واضحاً كذلك. وبالمثل نقل سكان المستعمرات السيطرة على الأرض بطريقة الامتلاك الشائعة وغير المقيدة (رسوم بسيطة لحقوق الملكية) وحماية حقوق الملكية في أسواق عوامل الإنتاج والمنتجات.
وشكلت الحرب الفرنسية الهندية من عام 1755 إلى 1763 نقطة حاسمة مألوفة في التاريخ الأمريكي. وأحدثت الجهود البريطانية لفرض ضريبة متواضعة جداً على رعايا المستعمرات، فضلاً عن كبح لجام الهجرة باتجاه الغرب، رد فعل عنيف أدى بواسطة سلسلة من الخطوات، اتخذها أفراد ومؤسسات، إلى حدوث الثورة، وإعلان الاستقلال، وبنود الاتحاد الفيدرالي، والقانون الشمالي الغربي، والدستور، كلها سلسلة من التعبيرات المؤسسية التي شكلت نمطاً تطورياً متسقاً رغم عدم استقرار العملية. وبينما خلقت الثورة الأمريكية الولايات المتحدة، إلا أن تاريخ ما بعد الثورة جلي فقط بلغة استمرار القيود المؤسسية الرسمية وغير الرسمية التي تم نقلها قبل الثورة وتم تعديلها بشكل متزايد (هيوز 1989).
لنتحول الآن إلى الحالة الإسبانية (والبرتغالية) في أمريكا اللاتينية. ففي حالة الأنديز الأسبانية، جاء الغزو في نفس الوقت الذي بدأ فيه نفوذ البرلمان يتراجع، وكانت المَلَكية الإسبانية، والتي مثلت كرسي السلطة في إسبانيا، تُرسِّخ بثبات السيطرة البيروقراطية المركزية على إسبانيا والأنديز الإسبانية. وفرض الغزاة ديناً موحداً، وإدارة بيروقراطية موحدة على مجتمع زراعي قائم فعلياً. وفصّلت البيروقراطية كل ناحية من نواحي السياسة العامة، السياسية والاقتصادية. وكانت هناك أزمات متكررة بشأن مشكلة الوكالة. واستلزم سلوك زيادة الثروة من جانب المؤسسات والرياديين (سياسياً واقتصادياً) الحصول على السيطرة ، أو النفوذ، على الآلية البيروقراطية. وفي حين اتضح أن حروب القرن الثامن عشر من أجل الاستقلال في أمريكا اللاتينية كانت صراعاً للسيطرة على البيروقراطية والسياسة اللاحقة كما كان الحال بين سيطرة المستعمرات المحلية والسيطرة الإمبريالية، إلا أن الصراع كان مصبوغاً بالنغمة التوافقية الأيديولوجية التي نبعت من الثورات الأمريكية والفرنسية. وجلب الاستقلال دساتير مستوحاة من الولايات المتحدة، بيد أن النتائج كانت مختلفة جذرياً. وعلى النقيض من تلك الخاصة بالولايات المتحدة، كان للبرامج الفيدرالية لأمريكا اللاتينية، والجهود لحل المركزية أمراً مشتركاً فيما بينها بعد الثورات. غير أنه لم ينجح أي منها. وميزت العودة التدريجية لبلد تلو الآخر إلى السيطرة البيروقراطية المركزية أمريكا اللاتينية في القرن التاسع عشر.
إن الطرق المتشعبة التي أسستها بريطانيا وإسبانيا في العالم الجديد لم تتقارب رغم وساطة عوامل التأثيرات الأيديولوجية المشتركة. ففي الأولى، تطور إطار مؤسسي يسمح بالتبادل غير الشخصي المعقد اللازم للاستقرار السياسي، فضلاً عن التقاط المنافع الاقتصادية المحتملة من التقنية الحديثة. وفي الثانية، ما زالت العلاقات “ذات الصفة الشخصية” المفتاح الرئيسي للكثير من التبادل السياسي والاقتصادي. إنها عواقب إطار مؤسسي متطور أنتج نمواً اقتصادياً شاذاً في أمريكا اللاتينية، ولكن دون وجود استقرار سياسي أو اقتصادي، ولا تحقيق فرص التقنية الحديثة.
على الأرجح أن يثير مخطط المقارنة الجارية أسئلة أكثر من الإجابات حول المؤسسات والدور الذي تلعبه في أداء الاقتصادات. فتَحْتَ أية ظروف يصبح الطريق معكوساً، مثل انتعاش إسبانيا في الأزمنة الحديثة؟ وما هو الأمر المتعلق بالقيود غير الرسمية والذي يعطيها مثل هذا النفوذ المنتشر على خصائص الاقتصادات على المدى الطويل؟ وما هي العلاقة بين القيود الرسمية وغير الرسمية؟ وكيف يطور اقتصاد ما القيود غير الرسمية التي تجعل الأفراد يقيدون سلوكهم بحيث يجعلون الأنظمة السياسية والاقتصادية فعالة للتطبيق على الغير؟ من الواضح أن أمامنا شوط طويل نقطعه للحصول على إجابات كاملة، بيد أن الدراسة المعاصرة للمؤسسات توفر الأمل بالحصول على فهم جديد دراماتيكي حول أداء الاقتصاد والتغير الاقتصادي.
ملاحظات

[1] في مقال كتب منذ عدة سنوات (نورث 1995)، أشرت إلى أن العديد من الاقتصادات الإقليمية تطورت منذ البداية كاقتصادات للتصدير، وبنت تطورها حول قطاع التصدير. إن هذا الأمر يقارن وعلى نقيض من نظرية المرحلة القديمة للتاريخ المستنبط من المدرسة الألمانية التاريخية، والذي كان فيه التطور يحدث دائماً من مرحلة الاكتفاء الذاتي المحلي إلى مرحلة التطور التدريجي للتخصص وتقسيم العمل. لقد حصل هذا في ظل هذا النمط الأخير المذكور هنا، رغم أنه ربما لن يصف التطور المحدد الذي حصل في الحقيقة.
[2] لقد “حلّ” التجار اليهود في حوض البحر الأبيض المتوسط إبان القرن الحادي عشر مشكلة الوكالة نتيجة للعلاقات المجتمعية الوثيقة فيما بينهم، والتي قللت من تكاليف المعلومات، ومكنتهم من العمل كمجموعة من أجل نبذ والثأر من الوكلاء الذين انتهكوا لوائحهم التجارية.
[3] إن قطاع التعامل (تلك نسبة من تكاليف التعامل التي تدخل السوق وبناء عليه تصبح قابلة للقياس) الخاص باقتصاد الولايات المتحدة كان 25 في المائة من الناتج القومي الإجمالي في عام 1870 و45 في المائة من الناتج القومي الإجمالي في عام 1970.
[4] طوّر مفهوم اعتمادية الطريق بريان آرثر (1988، 1989) وبول ديفيد (1985) لاستكشاف طريق التغير التقني. وأعتقد شخصياً أن للمفهوم قوة توضيحية مكافئة في مساعدتنا على فهم التغير المؤسسي. وفي كلتا الحالتين، تعتبر العوائد المتزايدة المفتاح الرئيسي لاعتمادية الطريق، ولكن في حالة التغير المؤسسي، فإن العملية أكثر تعقيداً بسبب الدور الرئيسي للمؤسسات السياسية في العملية.
مجلة المفاهيم الاقتصادية، المجلد 5، العدد 1 (شتاء 1991)، الصفحات 97-112.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 18 تشرين الأول 2006.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018