تحديات إسلامية معاصرة

peshwazarabic21 نوفمبر، 20101

ما من مرة استمعت أو شاهدت برنامجاً من برامج الفتاوى، المنتشرة على الفضائيات والإذاعات العربية، إلا واتصل أحد المستمعين أو المشاهدين وسأل سؤالا مفاده: هل المصافحة حلال أم حرام؟ وهل هذه المصافحة تجوز مع ارتداء قماش حاجب كالقفازات؟ وهل تنقض الوضوء أم لا تنقضه، ومن هم المحارم الذين تجوز مصافحتهم؟.. وما إلى ذلك من هواجس تقض مضاجع المسلمين، كان من بينهم من سأل أن ابنة عمة أمه في السبعين من العمر تقبّله أثناء السلام عليه، فهل يجوز ذلك؟؟
وغالبا ما يجيب المفتي بإجابة أصبحنا نحفظها عن ظهر قلب، وهي أن الأصل في الوجود هو الإباحة وأن الممنوعات هي قليلة، وفيما يتعلق بالمصافحة فقد أفتى الامام أبو حنيفة بكذا وكذا وأفتى الامام الشافعي بكذا وكذا وأفتى الامام مالك بكذا وكذا عليهم السلام جميعا، ثم ينهي كلامه في الأغلب الأعم بتحريم المصافحة وعدم جوازها طلباً للأمان والسلامة.
الأمر نفسه يتكرر مع الموسيقى والغناء، ويتكرر السؤال كل يوم: هل سماع الموسيقى ومشاهدة الاغاني حلال أم حرام؟ وهل الفن حلال أم حرام؟ فيفتي البعض بجواز الإنشاد بدون آلات موسيقية، وإذا كان لا بد للمنشد من الموسيقى فيُكتفى بالدفوف. ويفتي البعض الآخر بشرعية الغناء حتى مع وجود الآلات الموسيقية، كما هو الحال مع الشيخ يوسف القرضاوي الذي يقول إنه ينظر إلى الغناء نظرة جادة إذا كان الغناء جاداً وأن الأصل في الوجود هو الإباحة خصوصاً الطيبات، فإذا كان الغناء طيبا وكلماته طيبة فلا ضير في ذلك مع وجود الضوابط في الموضوع وطريقة الأداء.  كذلك تخبرنا سيرة الشيخ جلال الدين الحنفي إمام جامع الخلفاء ببغداد، والمعروف بتنوّره واعتداله، أنه كان محباً لتعلم اللغات والاستماع إلى الموسيقى، ويذكر الباحث رشيد الخيون كيف أن الشيخ الحنفي تعرض للنقد على اهتمامه بالموسيقى، والذي تعدى الاستماع إليها إلى التعلم على عزفها عندما انتمى في العام 1940 الى معهد في الموسكي بمصر لتعلم العزف على العود، ويورد نقلا عن صديقه الرشودي أن هذا الصنيع يدل على أن الشيخ يرى رأي أبي حامد الغزالي في حلية السماع ما دام لا يشغلك عن عبادة ربك ولا يدعو الى المجون أو الفجور وأن الغناء ما هو إلا محاكاة لعندلة البلابل وهديل الحمائم وزقزقة العصافير. كما يورد الكاتب رأياً مشابهاً لعالم دين معاصر من أائمة الشيعة، هو الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في أن الغناء، سواء رافقته آلات الطرب الموسيقي أم لا، مباح ما لم يستخف السامع الى حد يخرج به عن الكمال.
إن هذا الاعتدال، الذي يتسم به فقهاء متنورون يجعلون في الدين فسحة من التفاؤل والأمل والفرح وينأوْن به عن اليأس والتجهّم والعبوس، يجعلنا نتوقف باستغراب أمام مواقف أخرى في الطرف الآخر من هذه المعادلة حيث يقف الرأي المتشدد من الموسيقى، ذلك الذي حجب جائزة الإنشاد العالمية عن سامي يوسف لأن القائمين على الجائزة كانت لهم ملاحظات شرعية على فنه فيما يتعلق باستخدامه الموسيقى التي لا يوافق عليها الإسلام برأيهم. كما نتوقف باستغراب أمام مواقف أخرى متطرفة ومتشنجة بحق المرأة نجدها غريبة عن الإسلام، هذا الدين الثائر الذي جاء ليمنح المرأة حقوقاً ما كانت لتخطر على بال الرجال، وليقول إن النساء شقائق الرجال وإنهما خُلقا من نفس واحدة وإن للمرأة الأهلية للإرث والتملك والتصرف بأملاكها والتعليم واتخاذ القرار في شؤون حياتها من زواج وطلاق، بل إن الإسلام جعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة. لكن من الرجال من ظلوا ولا يزالون يقاومون هذا الوضع الجديد ويمارسون قمعهم لهذا الكائن الرقيق ويغالون باعتباره  فضيحة يجب التستر عليها وإخفاؤها عن الناس بأغرب الوسائل وأكثرها قسوة، كالبرقع أو النقاب الذي وصل الى وجوه النساء من الحجيج في التفاف واضح على الدين والسُّنة النبوية الشريفة وعلى الملابس المخصصة للإحرام أداء مراسم الحج.
هذا البرقع أو النقاب يستشري، الأسود منه خصوصاً، بشكل غير مسبوق على وجوه النساء العربيات من المحجبات وفي مناطق معروفة من الجزيرة والخليج العربي، ولا أدري كيف سمح أصحاب الفتاوى الشرعية والفقهاء بانتشاره وجعله جزءاً حلالاً ومكملاً للحجاب، وهو الذي يسيء إلى صورة الرجل المسلم قبل المرأة المسلمة، ويقدمه بصورة غير إنسانية باعتباره وحشاً كاسراً لا يفكر بغير رغباته الحيوانية، وهو غير مسيطر عليها إلى الدرجة التي تجعل المرأة تمشي في الشارع ووجودها الإنساني ملغًى تماماً لكي لا يغوي وجهها هذا الوحش الكاسر أو يفتنه. وهنا أيضا تتكرر الملاحظة حول رجال الفتاوى في تلك البرامج الدينية، من الذين تطفو رجولتهم على السطح فيفتون بأنه لا ضير من ارتداء البرقع ويشجعون النساء على ارتدائه، متجاهلين الحديث النبوي الشريف بإظهار الكف واليدين، ومتطاولين على عباد الله الذين هم أمانة في أعناقهم، وعلى صورة الإسلام والمسلمين التي يجب أن ينقيها هذا المفتي من الشوائب لا أن يسمح لتعصبه الشخصي على تشويهها تحت شعار الدين والتقوى. ولو دخلت على أي موقع إسلامي للفتاوى الدينية لدخت وشاب رأسك من آلاف الإحالات والمصادر التي ينحتها كل واحد منهم حسب عصبيته وفهمه ودرجة انفتاحه أو تشدده.
التشدد الآخر الذي بدأ يستشري في مجتمعاتنا هو ارتداء الحجاب من فتيات صغيرات لا زلن بعدُ في سن اللهو والطفولة، وأذكر في هذا الصدد أبنة جارتي التي رأيتها ذات يوم وهي تلهو وتلعب مع صويحباتها مرتدية فانيلة وسروالاً قصيراً(شورت) من الذي يرتديه الأطفال الصغار، وفي اليوم التالي وجدتها ترتدي (الإيشارب) على شعرها وقميصاً عريضا يستر جسمها النحيف الصغير. ولما سألتها عن السبب قالت إن أختها أخافتها من السفور وحدثتها بأنها ستُحرق بالنار إنْ لم تتحجب.
هنا يجب أن نعترف ونقول إن (حرب الملابس الفاضحة) التي تشنها بعض الفضائيات، والابتذال الإعلامي الذي تمارسه، مع سبق الاصرار والترصد، القنوات التي تتحدى التقاليد، هو سبب من الأسباب التي أدت إلى انتشار مثل هذه الظواهر والرؤى المتشددة، وهو أيضاً يجعلنا نتعاطف مع قوانين الرقابة التي بدأت الحكومات تلوّح بها بوجه من أساء استخدام الحريات، وبعضهم، مع الأسف، من المخرجين المرضى والنجمات الفنانات اللواتي يقضين حياتهن الفنية في خرق العادات والتقاليد ثم يقررن فجأة الاعتزال والحج وارتداء الحجاب.  ولكن أليست أجواء الحريم التي يوحي بها البرقع الأسود والعباءة السوداء هي أيضا من المظاهر الحسية التي تحيل إلى المخادع وامتلاك الرجل لهذه المراة كجسد للمتعة ليس إلا؟ وأليس ذلك المفهوم الحسي للمرأة المسلمة، هو ما ركز عليه المستشرقون في اختيارهم للموضوعات واللوحات المأخوذة من قصور السلاطين مدفوعين بعنصر الإثارة التي أصبحت تمثله كلمة الحريم؟
إننا مع الأسف لا زلنا نعيد ونكرر مادعا اليه قاسم أمين ورواد النهضة من الإصلاحيين قبل مئة عام من الآن، ولا زال  حالنا مثل سيارة (تعتعت)، مرة تتوقف ومرة تمشي إلى الامام ومرة ترجع إلى الخلف…. ففي مطلع الثلاثينيات من القرن الماضي قال الزهاوي وهو الشاعر الجريء، صاحب (ثورة الجحيم) الخارجة عن المألوف:
اسفري يا ابنة فهر، فالحجا   بُ داء في الاجتماع وخيم
كل شيء إلى التجدد ماض    فلماذا يقـر هذا القديـم؟
ثم تراجع عن دعوته إلى السفور بسبب ثورة رجال الدين ضده وضد آرائه ممن أسماهم مجايله الشاعر الرصافي، الذي لا يقل جرأة عنه، ببوليس السماء. ثم انتهت الحرب العالمية الثانية فأحس الناس بجمال الحياة وانفتح العالم على ثورة في الأدب والفن والأزياء، وصلت إلينا في الستينيات فأصبح السفور مظهراً من مظاهر الرقي الاجتماعي، وأصبحت حفلات أم كلثوم التي نشاهدها الآن في أغاني زمان قادمة من زمان المستقبل وليس الماضي، إذ لا تجد في الحضور امرأة واحدة ترتدي الحجاب. وفي السبعينيات بلغ الانفتاح مدًى غير معقول ولا مقبول، مع ظهور الميني جيب والسراويل النسائية وقصّات الشعر الرجالية وملابسهم المتأثرة بالهيبيز والبيتلز وما إلى ذلك من صرعات. ثم عادت الأمور إلى التوازن في الثمانينيات، ومع بدء الحروب والاضطرابات في الوطن العربي، عادت ظاهرة الحجاب من جديد، فانتشرت مثل انتشار النار في الهشيم، وتفاقمت أشكالها فوق رؤوس النساء، حين أصبحت على شكل عمائم ولفّات غريبة عجيبة، وانتهت، كما أشرنا قبل قليل، الى رؤوس البنات الصغيرات ممن لا وعي لديهن ولا حيلة ويُربَّيْن منذ الصغر على كبح تلقائية الخلقة وإخفاء الضحكة والابتسامة والقوة والرأي الجريء، فهذه كلها فضائح يجب التستر عليها ووأدها منذ نعومة الأظافر.ان القول بانتقاد هذه المظاهر لا يأتي من اعتدال الدين الاسلامي وسماحته فحسب، وإنما من إحكام العقل والحس السليم الذي يقول إن حجاب العقل هو الذي يحول الرجال من وحوش كاسرة، إن كانوا كذلك، إلى بشر، وثقافة المرأة هي التي تحولها من حرمة الى إنسانة محترمة في المجتمع، وهي التي تصونها من الخطأ
.
© منبر الحرية، 19 سبتمبر/أيلول 2009

peshwazarabic21 نوفمبر، 20100

مفهوم الحداثة، بوجه عام، هو مفهوم مشّكلْ بالمعنيين التاريخي والمعرفي، إلى الدرجة التي يكاد يستحيل فيها اليوم، أن نجد تعريفاً موحداً، جامعاً ومانعاً له. فإذا كانت هذه الصعوبة تواجهنا في السياق التاريخي لنشوء المفهوم، فليس أقله أن تكون مقاربة المفهوم، على الصعيدين التاريخي والأيديولوجي للإسلام، أكثر تعقيداً وأشدّ إشكالاً.
إن السياق التاريخي الذي قاد الغرب إلى ما وصل إليه، لم تزل العديد من المجتمعات الإسلامية بعيدة عنه. وهو الوضع الذي يمكن تسميته، مستعيراً عبارة هابرماس، بـ(تعاصر اللامتعاصرات) إذ تبدو الأخيرة معاصرة للغرب الحداثي على الصعيد الجغرافي، وكذلك على صعيد استهلاك المنتجات التقنية لتلك الحداثة، دون أن تكون كذلك على المستويات الأخرى. وتلكم هي المفارقة الكبرى والمألوفة جداً. إذ نلحظ هنا (لا) حاسمة وقاطعة للحداثة وأيديولوجيتها، ونفاجأ إلى حدّ الدهشة، في الوقت نفسه، حين نجد تلك المجتمعات غارقة حتى أذنيها في مظاهر الحياة الحديثة. ثمة شره شيطاني بمنتجات الحداثة ووسائلها، وولع لامحدود بالتكنولوجيا وسائر التجهيزات والمعدات اللازمة لممارسة المتعة والرفاهية، وجشع بالمال والمتع والسلطة والشهرة. وتهيمن على سلوكها انتقائية فاشية متطرفة. ومع ذلك ترفض التنظيم الاجتماعي والسياسي الحديث.
هنالك سخط أيديولوجي مسبق إزاء الحداثة ومفهومها، يصاحب الخطاب الإسلاموي في هذه المجتمعات، يتخذ ردّات فعل عنيفة في أحيان عديدة. وأحيان أخرى تجابه الحداثة بمصدّات أيديولوجية قوامها النزعات الخلاصية والخرافات والأوهام العتيقة، التي لاتخلو من الفزع الثقافي والأخلاقي المسرف، الذي ينمّ عن كراهية للتحرر والتقدم والإصلاح والعقلانية. وتكشف عن هشاشة تلك المجتمعات وعجزها عن الصمود في وجه دوّامة التغيير التي تكتنفها. إن القوة المركزية، الجاذبة والساحقة، لتلك الدوامة لا تبقي على شيء، بمنأى عن صيرورتها، إذ تحدث تصدعات وشروخ، في العمق والسطح، وتكشف النقاب عن عمق هوة التفاوت في البنى والمؤسسات والرؤى والمعايير.
إن الوعي الإسلاموي المعبر عنه في الخطاب الفكري والعقائدي للجماعات والأفراد والمؤسسات، وحتى المفصح عنه في الممارسات الرمزية والطقوسية، العامة والشائعة، الإسلامية، يعكس إلى حدّ كبير الكيفية التي يدرك بها العالم  وصيرورته. وهو مطبوع بطابع الحيرة والقلق والتشاؤم والعدمية وعدم الثقة بالمستقبل. ذلك أن هذا الوعي لا يجد الحياة المثلى في الحاضر أو المستقبل، وإنما يتخذ العودة إلى الوراء سبيلاً للسير إلى الأمام. فالإسلاموي  أسير لهذا العالم الحديث على الصعيد المادي والمتع، لكنه في وعيه وروحه ينتمي إلى عالم تقليدي وماض، ويتطلع إلى حجب ضوء التقدم ورفض كل العناصر الإيجابية له. و يسعى جاهداً إلى طرح نموذج منهك للحياة، نموذج عتيق وبال تم تجاوزه، وثقافة متخطاة لا تصلح للأخذ بها نمطاً للحياة المعاصرة. إنه وعي مأزوم يسعى إلى إجبار البشر على السير بعكس التاريخ، متسلحاً بعجرفة أخلاقية ومكابرة جوفاء تأبى القبول بفكرة التقدم. ولهذا نراهم يتحذلقون في شؤون الدنيا برياء أخلاقي يلّف عباراتهم، وهم غارقون في حاضر الحداثة، ويلعنون ثقافتها، ولا يكفون عن إعلان حنقهم على دعواتها السياسية والثقافية.
من نافل القول، إن هيمنة الحداثة الفكرية والعلمية والتقنية، وحتى السياسية والأخلاقية، غدت أمراً مسلماً به، وبداهة معيشة في عالم اليوم. ولدى مقابلة الوعي الإسلاموي بالحداثة، نجد أنفسنا مدعوين إلى الانحياز لتجلياتها الغربية وخصائصها دون الانقياد الأعمى لها، ذلك لأنها تمثل النموذج الكوني الأكثر تقدماً. وهي تتجلى لنا من خلال السمات الأبرز والمعايير التالية:
–    طغيان النزعة العقلية الصارمة. إن الاستعمال التام للعقل يجب أن يكون دائماً حرّاً، كما كان كانط يقول، وغير محدوداً أو مقيداً بزمان أو مكان. وبالمقابل، فإن الوعي الإسلاموي يقيّد استعمال العقل الإنساني، لافتقاره إلى الثقة بالعقل والشجاعة في استعماله. ويكرس قيم الطاعة والخضوع بتقييد حرية استعمال العقل بأصفاد الأقانيم المقدسة، التي ترسخ عبودية الإنسان. إن الإيمان بالغيبيات والمعجزات يغني، برأيه، عن استخدام العقل.

–    نشوء التصور الكوزمولوجي الجديد للكون. وهو تصور يقوم على رفض التفسير الغائي للطبيعة والعالم، ويهدف إلى تأكيد سيطرة الإنسان على العالم الطبيعي، بحيث غدت الطبيعة موضوعاً للفعل الإنساني وغاية لتحقيق المزيد من الحرية والسعادة.. وبموازاة ذلك، فإن الإيمان بالعالم الطبيعي،هذا الإيمان الجديد الذي حملته الحداثة تضمن تحولاً جوهرياً من القيم الأخروية إلى القيم الأرضية. من هنا تعين على البشر تفسير ظواهر العالم باستكشاف عللها المادية الأصلية، لا عللها الغائية المقحمة في الطبيعة.

–    بالاتساق مع القناعة السابقة، صارت الممارسات الإنسانية في بعديها( السياسي والاجتماعي) تتم بمعزل عن التدين أو المقاصد الدينية، واختفت المعايير المقدسة العليا أو الوصايا التي كانت تستبد بالمصير السياسي والاجتماعي للإنسان. فقد حلّ الإيمان بالإنسان ومركزيته، بحيث أصبح معيار الأشياء جميعاً، كما يقول زريق، إنه الغاية والوسيلة معاً. وهو العامل الفاعل في صناعة التاريخ وتقدم الحياة وسيّد مصيره.

–    الحداثة في أحد مظاهرها الرئيسة تعدّ اعترافاً بأن الإنسان هو سيد مصيره وسيد العالم في آن. وتمثل انعتاقاً متواصلاً للإنسان تجاه الموروث وسلطة التقليد والتنظيم الاجتماعي. وهي تعادل الحرية الفردية والمساواة، وتقدس حياة الفرد ومبادراته الحرة بمقابل تماهيه في الجماعة المقدسة. وتقرّ باستقلال وعيه وعالمه النفسي ونزعاته الخاصة وخياراته وأبعاده العاطفية جميعاً. في حين أن خصوم الحداثة يراهنون على القبول بالموروث والتقليد، والخنوع لسلطة الجماعة، والخضوع للنظام الاجتماعي التراتبي الأبدي، في تعريف الفرد. ويدعون إلى كبح الفردية الحرة في سبيل الحفاظ على تماسك النظام الاجتماعي المغلق وانسجامه، ويركنون إلى التقليد والإتباع بإزاء التجديد والابتكار الفردي والإبداع. إنها، بعبارة مختصرة، دعوة إلى خلق الإنسان وفق نموذج ماضوي متقادم، لا يكترث بالحرية الفردية والإبداع والعقل الفردي، ولا حتى بالمساواة بين البشر سوى المساواة في العبودية.

–     الحداثة هي، بمعنى من المعاني، تفكير في التاريخ الواقعي ومن خلال التاريخ، لا في الأساطير التي توؤل التاريخ. وتحوّل من المعايير الأخروية إلى المعايير التاريخية، ومن النزعات الخلاصة الماضوية إلى البحث المتفائل والتقدم اللامحدود في التاريخ. والحال أن الوعي الإسلاموي يتمسك بالنهايات الحتمية، والعوالم المغلقة والمكتفية بذاتها. وهكذا يغدو مفهوم التاريخ لديه مستقلاً عن سياقه الزمني، مغلقاً، ينتمي كله إلى ماض مقدس، هو ليس الزمن البشري المعاش، المنفتح على المستقبل والصائر قدماً.

وطالما هو كذلك، فإنه تاريخ صائر في الزمان والمكان. إن ما يميز المفهوم الحداثي للتاريخ، طبقاً لـهيغل وماركس، هو حركيته  وصيرورته المحطمة لكل ما هو ثابت وأزلي ومقدس. والحال أن ركود التاريخ هو الوضع الأمثل بالنسبة للوعي الإسلاموي، الذي لا يعترف بموضوعية التغيير وحتميته إلا طبقاً لمشيئة مفارقة لهذا العالم.
© منبر الحرية، 28 يوليو/تموز 2009

peshwazarabic21 نوفمبر، 20100

لقد أصاب رواد النهضة العرب وأحسنوا، عندما فسروا الحرية في الغرب، وقابلوها بالعربية ــ استئناسا بلفظة الليبرتارية الشائعة في فرنسا، والدائرة على كل لسان ــ فرأوها تعني العدل والإنصاف، وأشادوا بأهميتها وضرورتها، ومنهم من انتبه إلى جذورها النظرية في مبادئ الإسلام، كما أوضحوا من أن السير في طريق التنمية والتطور، واكتساب المعرفة، يقتضي بالضرورة وجود أحزاب وتنظيمات مؤسسة على دعامة الحرية، فبالحرية حسب رأي هؤلاء يتحقق العدل والسعادة، وتؤثر إيجابيا في حميّة الإنسان للذود عن الأوطان، لهذا جاء فيهم من يقول: من إن الأمة التي يفتقد شعبها الحرية، الأمة التي لا تأبه لشعبها، ولا يؤخذ برأيه، مثل هذه الأمة لا بد أن يعتريها الخلل والاعتلال، وهي بالتالي آيلة إلى السقوط حتما؛ هذا ما نادى به جمال الدين الأفغاني 1838ــ1897ــ :(عليكم أن تخضعوا لسطوة العدل، فالعدل أساس الكون، وبه قوامه، ولا نجاح لقوم يزدردون العدل بينهم). والعدل كما نوهنا ــ قبل قليل ــ هو الحرية والديمقراطية بلغة السياسة اليوم، ومنهم من كان يرى في التمدن والمعرفة شرطين لقيام الحكومة الديمقراطية، وكان يرى أن الحرية عدل، والعدل واجب، والحرية هي التي تنتج العدل…
نظر هؤلاء الرواد، وفي مقدمتهم رفاعة الطهطاوي 1801 ــ 1873 إلى الواقع العربي المعيش، ثم قارنوها بالواقع الغربي المتقدم، فرأوا البون شاسعا، لذلك تحفزّوا في نضالهم لأمرين اثنين هما، التغيير والتطوير، أي تغيير الواقع العربي المعيش، والتقدم نحو نموذج أفضل، في ظل واقع جديد يتمتع ناسه بالحرية والعدالة ، فكان لا بد إذن من التصدي للواقع المزري كضرورة للتغيير.. فالتغيير في الواقع السياسي هو السبيل لولوج واقع حضاري جديد..
مضى هؤلاء الرواد شوطا إلى أمام..فراحوا ينشدون حكومة فيها الحاكم يتقلد المنصب لإدارة الدولة ورعاية المجتمع بموجب قوانين وبسبل شرعية، فرأوا أن الحاكم الذي يأتي بإرادة أناس أحرار، خير من حاكم يمتثل لإرادته الناس كعبيد منقادين، فعندما ينبثق الحاكم من بين صفوف الأحرار، فهؤلاء الأحرار سينعمون بمنافع الدولة، وسيكونون بالتالي عونا  للحاكم وسياجا للوطن، كما أن الحاكم بدوره سيدرأ عن شعبه المفاسد، وسيعمل على جلب المنافع له.. فالحاكم بثقافة هؤلاء، لا يجوز أن يكون مالكا للشعب، بل يكون راعيا عليهم، ضامنا لمعيشتهم الكريمة بعيدا عن العوز وذل الحاجة..
مسألة أخرى ركز عليها رجال النهضة وهي حرية التملك، فهم كانوا فيما يقصدونه من الحرية  السياسية هو التأمين على أملاك الفرد، وحق حرية التصرف فيما يملكه، ومنها أيضا ( حرية الفلاحة والتجارة والصناعة) كما دعوا إلى حرية الملاحة والسياحة…
كما كان لا بد أيضا من التطوير في التصورات الدينية، ومن حق الدارسين الاجتهاد في النصوص الدينية، وظهر من تجرأ بينهم عندما طالبوا بالحرية الدينية. وقصدوا هنا بالحرية، حرية الاجتهاد، كما دعوا إلى نبذ التعصب الديني  للإضرار بسواهم، واعتبروا ذلك ضربا من العصبية، وإذا استحضرنا ذهنيا ذلك الواقع المؤطّر بإسار الدين أدركنا كم هي جريئة زمنيا دعوات الاجتهاد في نصوص الدين، حيث كان العرف السائد من أن العامة يمتثلون لرأي السلف الذي يحبذ الاتباع، دون المجازفة في البحث، فالجريء بينهم طالب بالعودة إلى مبادئ الدين الحنيف في صفائه..كما فعل علي عبد الرزاق في مؤلفه (الإسلام وأصول الحكم).. لهذا كان كثيرا ما  يترنم المحافظون بفحوى هذا البيت:
وكل  خير  في  اتّباع  من  سلف
وكل  شر  في  ابتداع  من  خلف
كما أكدوا أيضا على أحد مبادئ الحرية وهو المساواة، فلا حرية عندهم دون مساواة، فالمساواة هي الوجه الآخر للحرية، كما أن المساواة في الحقوق، ملزمة في الوقت ذاته للمساواة في الواجبات، كما ركز هؤلاء على حرية الطباعة، أي حرية الرأي والنشر…
كانت الحساسية لدى هؤلاء الرواد قوية تجاه الاستبداد، تجاه ظلم الحاكمين، وكانوا يرون أن الظلم هو ديدن الحكم المطلق، لهذا نددوا بالاستبداد، ورأوا في دولة الاستبداد، كيف أن الكل مستبد، الكبير وأيضا الصغير، أي كل من يعمل في سلك الدولة، بحسب موقعه في الدولة، ودرجة مرتبته، ويرى خير الدين التونسي 1812ــ 1889 في حال غياب الحرية في أية دولة، تفقد تلك الدولة الاستقرار، ويغيب عنها الغنى، ويستبد بأهلها الفقر، وتؤثر بالتالي على معنويات البشر، وكانوا كثيرا ما يعنون بالحرية، رفض الاستبداد، فالحرية تعطي الشعب الحق والقدرة معا  لخلع الحاكم المستبد، لأن الحكم هو بالأساس للشعب فلماذا الاستبداد من فرد إذن..؟
وعندما كان رفاعة الطهطاوي يستعرض الاستبداد لدى الغرب وفي فرنسا بالتحديد حيث نهل علمه، كان يذكر الناس، بأنه كيف تمت الإطاحة بالملك (لويس العاشر) عندما استبد في حكمه، وهنا إشارة خفية ربما إلى محمد علي باشا والي مصر، الحاكم الأوحد دون منازع، وبالتالي تحريض الناس ضد الاستبداد..ومن نافلة القول هنا التذكير: هل كان لمثل هذه الصيحات أثر في نفوس العامة.؟ وما رد فعل الحاكم إزاء مفهوم الحريات.؟
كان غالبية الرواد منفتحين للثقافة الغربية، حتى أن الشاب المتميز أديب اسحق 1856 ــ 1885 طالب بتدريس تاريخ فرنسا في المدارس، كونها موئل الحريات، وهي بلد ثورة 1789 بشعاراتها (الحرية الإخاء المساواة).. وبغية حفز الهمم كان يلجأ إلى المقارنة بين مصر وفرنسا، حيث هناك حرية العمل والكتابة والنشر والتنقل، وحرية الملكية، حرية الاعتقاد حرية التعبير..
كما كان يطالب بإصلاح القضاء، وطالب بالاستفادة من التكنولوجيا الغربية، ولكثرة ما ضيق أديب اسحق بالاستبداد دفعه هذا بالتهجم على كل مستبد عبر التاريخ، فهاجم الإسكندر المقدوني، وقيصر روما، وجنكيزخان المغولي..
هذا الجهد من الدعوة إلى الحرية، كان قبل أكثر من مئة وخمسين سنة، إذا أخذنا رفاعة الطهطاوي كبداية لهذه الدعوة، مع اخذ السياق التاريخي في الحسبان، أدركنا كم نحن ما زلنا متخلفين عن الركب الحضاري، وكم نحن متقاعسين في مناضلتنا في سبيل قيمة القيم، أعني بها الحرية…!
© منبر الحرية، 02 مايو 2009

peshwazarabic21 نوفمبر، 20100

اللغة العربية من أقدم فروع اللغات السامية، وقد امتد عطاء تراثها إلى كل الثقافات على مدار العصور على غرار ما كان من تأثير المقامات العربية في العبرية، وما حدث من ترجمات إلى الاتينية و القشتإلىة، عبر مدارس المترجمين في طليطلة وغيرها، من يهود وعرب وأسبان. من هنا تجلت إنسانية التراث العربي في اتساع خريطة تأثيره وتفاعله التاريخي مع كل ما من حوله، حتى ظل هذا التراث مقوما مميزا للشخصية العربية، محققا لقوميتها، وعاصما لها من الفناء.
يزخر الفكر الإسلامي بالعديد من المؤلفات التي يحاول بعض الباحثين إحيائها فيما يعرف بظاهرة إحياء التراث الإسلامي، وهناك ثلاثة مواقف كبرى من هذه الظاهرة.
الموقف الأول، يرى في حركة إحياء التراث الإسلامي مجرد اجترار للماضي، ويرى في محاولة نشر بعض كتب التراث مضيعة للوقت. حيث لا يمكن ان يكون منها وعبرها حلولا لمشاكل العصر الحديث.
الموقف الثاني، هو موقف يدافع عن التراث كلية ويتعامل مع تلك الظاهرة بشيئ من التقديس، وذلك الموقف يقبل كل ما في التراث ويرى فيه ما يحقق الامال والاهداف المرجوة للامة مع ان العصور الأسلامية تنطوي علي كثير من الفكر الهابط الذي عكس انحطاط تلك الأزمان التي عبر عنها وعن تخلفها وانحطاطها.
الموقف الثالث هو موقف وسطي لا يقبل التراث على علاته ولا يرفضه كلية، إنما يأخذ منه ما يتاسب مع الواقع وما يمكن ان يستفاد منه.
واقع الأمر أن موقف الرافض كلية لإحياء التراث الإسلامي و الموقف المؤيد لإحياء التراث على علاته ، كلاهما يجانبه الصواب وكلاهما يتبنى موقفا متطرفا ازاء التراث.أما الموقف الوسطي من التراث فهو الموقف الأسلم للمنطق والأقرب للصواب مع الأخذ في الاعتبار ضرورة وجود معايير لاختيار ما يناسب الواقع المعاش وعدم الرجوع إلى التراث بشكل عشوائي وغير ضروري. إن نشر بعض الكتب التي تمثل أمهات الفلسفة والفقه، قد يكون له ثلاثة وظائف: الوظيفة الأولى الوظيفة اللغوية بمعنى تحليل النص بعناصره وألفاظه وأبعاده. أما الوظيفة الثانية فهي الوظيفة التاريخية من حيث معايشة النص وتحويله إلى شخصيات وحقائق في حين أن الوظيفة الثالثة هي الوظيفة السياسية حيث يلغي عنصر الزمان ويصير النص تعبيرا عن التقاء بين الماضي والحاضر والمستقبل ويعتبر مهمة إحياء التراث ليس مجرد تحليل للنص أو متابعة تاريخية له وإنما قد ترتفع هذه العملية إلى مستوى المعاناة السياسية حيث تصير تلك (الوظيفة السياسية لإحياء التراث) حلقة تسمح بمتابعة الوعي الجماعي ليس فقط في تكوينه و تكامله وإنما أيضا في تحليل معاناته ابتداء من العودة إلى الذات، إلى لحظة التعريف بتلك الذات. وتلك العملية تعيد الوعي إلى الأمة أو تعيد الأمة إلى وعيها، فالتراث هنا جزء من الأمة لا ينفصل عنها ولا تنفصل عنه. ولكن الناظر لكتب التراث التي يتم تحقيقها يجدها تنحرف عن هذا المسار إذ أنها جاءت انتقائية لخدمة أغراض ومرامي سياسية تهدف للمجابهة عن الأخر والانعزإلىة الإسلامية ولم نجد مثلا اهتماما بمفكر كبير مثل موفق الدين عبد اللطيف البغدادي –المتوفي في 8 نوفمبر 1231 – أحد العقول النيرة في تاريخ الفكر العربي. فقد جمع بين التحصيل الوافر الدقيق لكل العلوم المعروفة في عصره، وبين أصالة الفكر ودقة المنهج العلمي والقدرة على النفوذ إلى جوهر المشاكل العلمية فضلا عن أصالة المنهج في الملاحظة والتشخيص والكشف عن الأسباب والعلامات وكان عالما بارزا في الفلسفة والجغرافيا والمنطق. فمثل هذا العلم الفكري يجب العمل علي إحياء تراثه الضخم والعناية به نشرا وتحقيقا حتى تستند النهضة الفكرية العربية إلى أعمدة راسخة تمتد قواعدها إلى تربة التاريخ العربي العريق المزدهر.
أما الشيء الغير المقبول فهو أن يتم النظر إلى التراث بصورة اختزالية وعدم الالتفات إلى أن محور الزاوية في الفكر المعبر عن عقيدة الأديان السماوية والفكر السامي المعبر عنها هو العالمية التي لا تحقق لأحد مطمعا. فالملوك والرؤساء لا يستطيعون أن يبسطوا سلطانهم وزيادة عدد رعاياهم إلا بالتعصب الضيق أو العثور على نصوص مجتزئة لتبرير الأفكار الظلامية بحجة إحياء التراث. وهكذا أضحت الوظيفة السياسية لإحياء التراث الإسلامي- وفق بعض الفكر- هو إنزال الأديان من سمائها لتستغلها في أغراضها. لاسيما أن الأمة الإسلامية وقعت منذ القرن الثامن الهجري فريسة للأفكار ملتبسة ومشوهة. وأسفر ذلك عن ممارسات مغلوطة كثيرة أدت إلى الإخفاق الحضاري لهذه الأمة، وتحولها من أمة شاهدة عادلة إلى أمة مشهودة بائسة، يشهد على فشلها جميع الأمم والحضارات. وقادها سقوطها في فخ مفاهيمي من جراء اجتزاء النصوص من سياقها والتعصب والانعزالية، إلى حالة من التخبط في فهم التاريخ وطريقة النظر إلى المستقبل.
© منبر الحرية، 16 أبريل 2009

peshwazarabic21 نوفمبر، 20100

ثمة رأي ساد حينا من الزمن، على أن العرب لم ينتجوا فكرا أخلاقيا، لا في الحقبة الإسلامية، ولا ما قبل الإسلام. وما يعزز هذا الرأي، خلو المكتبة العربية، أو تكاد تخلو من كتب أو دراسات تتناول الأخلاق العربية بالنقد والتحليل..ويبدو في الإسلام، أن المسلمين لم يعملوا الفكر كما اليونان، بل اكتفوا بالدين كشارح للأخلاق وموجه لهم بالموعظة الحسنة، دون أثر للتفكير الفلسفي.
لقد شهد العراق عن طريق موانئ البصرة خاصة، قدوم أعاجم من بلاد فارس، فضلا عن أخلاط من أقوام مختلفة، وفئات أخرى ممتهنة للتجارة. كل هؤلاء قدموا إلى ديار الإسلام يحملون معهم ميولا وعادات وسلوكيات مختلفة، ناهيك أن كبراء الأمويين أنفسهم، كانوا رقيقي الإيمان، فلم يتملكهم الدين بعمق، ولم يستحكم في أفئدتهم، ولم يستغلق عليهم التفكير. فالأمويون كانوا يبررون سلوكهم باقتراف إثم ما بالقضاء والقدر، أي إن الله قضى على هذا الإنسان باقتراف هذه الجريرة، فليس من راد إذن لقدر الله، وبالتالي فهذا تبرير للسلوك الإباحي عند الفرد، فقد جعلوا من (الجبر) عقيدة تبرر سياساتهم، وتسقط المسؤولية عنهم، طالما الله قضى بذلك..
بالمقابل فقد ظهرت حركة فكرية تنويرية عرفت بالقدرية، التي رأت عن قدرة الإنسان من التحكم بأفعاله، وبالتالي فهو يتحمل مسؤولية ما يصدر عنه. وكان هؤلاء من الذين تشيّعوا لعلي وآل البيت، ومثل هذه الحجة كانت موجهة بالأساس للأمويين، لتفنيد مزاعمهم وما هم عليه..
شاع في العصر الأموي أدب الترسل، وهو نمط من الكتابات، كانت بمثابة منابر إعلامية لتكريس كثير من الأفكار والقيم، لاسيما قيم (الجبر) وطاعة أولي الأمر. وعُدّ هذا من مرتكزات السياسة الأموية، واعتبرت طاعة الخليفة، (خلافة الله) من طاعة الله. ويبدو أن هذا الضرب من الطاعة، انتقلت إلى الأمويين عبر الموروث الفارسي. ورغم ذلك، فقد عـُـدّ حكم الأمويين أكثر تساهلا في الأمور الدينية، مقارنة بالعباسيين، أي أنهم لم يتوسلوا الدين لفرض طاعتهم على الناس، بل كانت حكوماتهم أقرب إلى أخلاقيات العرب الغساسنة قبل الإسلام، المطبوع بالطابع العربي القبلي، في حين وجدنا أن العباسيين عملوا على توظيف الدين لتكريس سيادتهم، وتسويغ حكمهم، وتمكين تواصلهم واستمرار تحكمهم في رقاب الناس. فهذا أبو جعفر المنصور يفاجئ الناس في أول خطبة له قائلا: (أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه) وهنا إشارة إلى أن طاعة السلطان من طاعة الله..
كان تأثير القيم الفارسية واضحا على سلوك الإنسان المسلم. وكان الاطلاع على حياة ملوك الفرس، وتمثّلها من قبل الخلفاء ظاهرا للعيان، فتعظيم الخلفاء، وطريقة الدخول إليهم، واختيارهم لندمائهم، وطرائق إقامة المآدب، والظهور بحالة الأبهة، وطريق التخاطب بلغة التعظيم، كل هذا منقول عن الموروث الفارسي.. وكل هذا لتعظيم ولتكريس وتمجيد الطاعة وتقديس لشخص الخليفة الملك. وكان يعطى دور لرجال الدين، كحلقة هيمنة، فقد كانوا يتزلفون للخليفة وخواصه من جانب، وبالمقابل يقومون بربط العوام بوجوب الطاعة والخنوع للخليفة لأن طاعة الخليفة من طاعة الله. وكثيرا ما حصلت انقسامات بين رجال الدين في تفسيراتهم وتأويلاتهم للنصوص الدينية، فانقسموا متناحرين..
راح ابن المقفع يؤكد على خصال السلطان كسبيل لنجاحه وطريقة لدوام جبروته وملكيته، ووقايته من الشر..وقد تخلّق أبو جعفر المنصور بقيم أكاسرة الفرس (قيم كسروية)، كما تم تداول حكايات وأمثال شاعت في الدولة الإسلامية، لها مغاز، مثلا كقولهم: القائد الذي تخافه الرعية، أفضل من قائد يخاف هو الرعية. وهنا لا يخفى الهدف من تكريس سطوة الظالم، أو قولهم: إذا كان الإمام عادلا فله الأجر، ولك الشكر، وإن كان ظالما، فعليه الوزر، ولك الصبر..وهنا أيضا تكريس للإذعان والخنوع، أو ما روي عن الرسول الكريم قوله: (لن يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة) هذا الحديث قيل بالأساس في الفرس وفي حالة لها طابع الخصوصية، عندما ورثت ابنة كسرى العرش عن أبيها بعد وفاته، فجرى تعميمها كحالة عامة للحط من شأن المرأة. وينقل لنا ابن المقفع مثالا آخر عن الإساءة للمرأة والحذر من الارتباط بها: (المرأة غلّ، فانظر ماذا تضع في عنقك) أو عدم ائتمانهن على سر…
لقد فرضت القيم الكسروية على الحالة الإسلامية، بل حدا بعضهم ليقول من أن النزاع بين علي ومعاوية هو نزاع بين القيم التي ورثها الإسلام عن الفرس. فالطاعة غير المشروطة عند الفرس، اتخذت في الإسلام وجهة ألوهية الإمام، كما عند بعض فرق الشيعة، بخلاف موروث الخلافة الراشدية.. فطاعة كسرى كانت من طاعة الله عند الفرس، حتى أن عبادة كسرى لدى البعض لم تثر الاستهجان، ولا يؤاخذ صاحبها عليها..ومثل هذا الواقع انتقل إلى دنيا العرب المسلمين، فاستحال خليفة المسلمين إلى كسرى المسلمين..
إن الموروث الفارسي قد لامس أهواء الخلفاء الأمويين، لما فيه من تكريس للطاعة. وإذا كان خطاب الطاعة بدأ بالخلافة الأموية، فالعباسيون الذين خلفوا الأمويين أبقوا على خطاب الطاعة، بل أعطوه الأولوية: (من اشتدت وطأته، وجبت طاعته) فطاعة كسرى واجبة دون شرط أو منازعة حولها، ومثل هذه النزعة سرت في فرق إسلامية عرفت بـ (الغلاة) الذين رفعوا أئمتهم إلى مرتبة الإله، وهم من الشيعة المتطرفة، فمنهم من دعا بإلهية علي بن أبي طالب، وآخر هو عبد الله من أحفاد أبي طالب، دعا لنفسه بأنه ربّ ونبي، وقد عبده بعض الناس. بمعنى آخر فقد تشكلت صورة الإمام الأعلى مقاما من الخليفة، تشبها بكسرى، فطاعة الإمام هي نفسها طاعة الإله، وهذا الأمر الأخير مازال ساريا عند فرق من الشيعة إلى اليوم…
© منبر الحرية، 15 أبريل 2009

peshwazarabic21 نوفمبر، 20100

في بحثِنا لظاهرةِ الأصوليّةِ، علينَا أن نُقرَ بداية بأنّها لا تزالُ تسببُ العديدَ من اللّبس حتى لدى المنتمين إلى البيئاتِ العلمية الأكاديمية. وفي اعتقادي أنَّ هذا اللبس ناشيءٌ في الأساس، ليْسَ فقط من معنى الكلمّةِ أو ماهِيتهَا، وإنَّما أيضاً من مسيرةِ تشكُلِها وسيرورةِ اشتغالِها في النصِّ والوعيِّ والتَّاريخِ معاً. وبالتالي، يبدو أن الجدلَ سيطولُ، بحُكمِ ما سَبق، ولن يكون بمقدور أحدٍ ما أن يقولَ الكلمَة الفصْل في هذا السّياق.
يَسْتتبعُ ما سبقَ الإقرارُ كذلك بضرورة بذلِ المزيدِ من الجهدِّ والتحليل لإزالة هذا اللبس من ناحية، وللتقدم خطوة أخرى نحو فهم الظاهرة بصورة أدق من ناحية ثانية. فعلى الرُغم من سيطرة هذا المفهوم على حيّز كبير جداً من التداوُّل الثقافي، الصحافيُ منهُ بخاصة، إلا أنَّ ذلكَ لمْ يَحُلْ دونَ انتقال المفهوم من الوضوح الصّارم إلى الغموض المُربِك في بيئتنا العربية.
ومن مظاهر هذا الغموض اتّساعُ الجدالِ حولَ التسميّة التي تقترنُ بالظاهِرة، وما يتبَعُ ذلكَ من الكشفِ في كل تسميّةٍ عن خلفيّةٍ فكريّةٍ مُحدّدة: ابتداءً من “الأصولية Integrisme”، ومرورا بـ “الجذرية Fondamentalisme”، وليس انتهاءً بـ “الإسلاموية Isalmisme”. حيث، يرتبطُ كلُ تصوُّر من التصوراتِ السابقةِ بمجموعةٍ من الإشكاليّاتِ المُتعلقةِ به، خاصة حين تثارُ الأسبابُ التي تُعيدُنا في الغالِبِ إلى التأكيدِ على وجودِ سِمةٍ مُميزَةٍ متضّمنَة في الإسلام ذاتِه، أو ما يُطلِقُ عليها مكسيم رودنسون لفظة Virus، باعتبارها مسئولة عن توّلدِّ التعصُب الديني!.(راجع كتابه الإسلام سياسة وعقيدة).
ويُعَدُّ جيل كيبل من أول الباحثينَ الغربيينَ الذين لفتوا الانتباهَ إلى انتقالِ مُصْطلحِ الأصوليّة إلى العالم العربي دون الأخذ بالاعتبار أنهُ ولدَ ونشأ أساساً في الغربِّ الكاثوليكيّ والبروتستاني، وذلكَ في كتابِهِ “يومُ الله، الحركاتُ الأصوليّة المعاصرة في الدّياناتِ الثلاث: اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام”. مؤكدا أنَّ استخدامه على سبيلِ الاستعارة خارجَ العالَمِ المسيحيّ لا يعْني ضرورة أنه مفهومٌ عالميّ، وأنَّ إطلاقُ المصطلح على الحركات الدينيّة الإسلامويّة قد أدّى إلى تشويهِ هذهِ الحركات واختزالِ مفهومِهَا إلى مفهوم الأصوليّة لدى العالَم المسيحيّ.
وخروجاً من هذا الإشكال نذهبُ إلى القولِ بأنَّ الاتيانَ على مُصطلحِ “الأصوليّة” مُجرداً من إضافةِ “الإسلامويّة” لا يصلحُ لوصفِ الحركات الإسلاميّة المُعاصِرة بتياراتِها المختلفة. وهو ما يحل الإشكالَ الحاصِلَ أيضاً على مستوى الجِذر اللغويّ للمفهوم في المعاجِم العربيّة حيث الأصل يُقابِلُ الفرعَ ولا يصّحُ وصفُ الظاهِرة الإسلاموية (وهي فرع) بالأصل فقط (الإسلام) تمييزا لها عن الأصوليات الأخرى.
وفي كل الأحوال، فإنّ كافة الحركاتِ الأصوليّة ربما تشتركُ في ثلاثة أمور هي: الشموليّة، والنصوصيّة، والانحيازُ المطلق. فالشمولية تعني أنَّ جميعَ الأسئلةِ التي تفرضُها الحياة الخاصّة والعامّة تجيبُ عنها تعاليمُ الدّينِ أو الأيديولوجيّة،وهو ما يبدو واضحا من خلال النظر إلى القرآن الكريم من قبل أتباع الأصوليّة الإسلامويّة باعتباره متضمنا كافة المعاني الدينية وغير الدينية، وهو ما يبدو واضحا أيضا من خلال كثرة الحديث مؤخرا حول الحقائق العلمية في القرآن الكريم والنظر إليه باعتباره كتابا في الاحياء والفيزياء بل وفي المسائل النووية! .
أمّا النصوصيّة فتعني أنَّ النصوصَ المُقدّسَة يجبْ أنْ تؤخَذَ حَرفيّاً، ومن دونِ الدخولِ في تأويلٍ أو تفسير بما يتضمنُهُ ذلكَ من استكشافِ مُلابساتٍ أو طرحِ تساؤلاتٍ…إلخ. ومن المعلوم أن ثمة مذهباً فقهيا كاملا اسمه “المذهب الظاهري”، أسسه الفقيه أبو داود الظاهري، يقوم على التفسير الحرفي للآيات القرانية والأحاديث النبوية وعدم القبول بتاتا بإعمال الرأي فيها إلى جانب رفض منطق التأويل الصوفي. وأخيراً يعني الانحيازُ الرفضَ المُطلق لأيّةِ مُسَاءَلةٍ نقدّيّةٍ لمنظومةِ المَبادئ التي يعتقدُها الأصوليُّ، ونفي كلِّ ما عداها.
وبهذا المعنى، تلتقي كافة الأصوليّات المعروفة حول فكرة أنَّ النصَ المرجعي بالنسبةِ لكل واحدةٍ منها يحتوى على مجموعةٍ من الحقائق الحيّةِ الخالِدة، والتي هي صالِحة لكلّ زمان ومكان كمؤشر وضمان لمعصوميتهَا من الخطأ. ومن ثم، تعتبرُ الأصوليّة أنَّ الكتابَ أو النصَ الذي يُتخذ كمُرشِدٍ مُكتفٍ ذاتيّاً، بمعنى أنهُ توجَدُ فيهِ كافة الإجابَاتِ على كافةِ الأسئلةِ الماضية والحاضرة والمستقبلية معاً.
وتبعا لذلك أيضا، فإنَّ النزعة الأصوليّة حاضِرة بلا انقطَاع في كافةِ البُنَى الأيديولوجيّة ذاتِ النمطِ الكنسي/الديني، حتى ولو كانت عِلمانيّة!، أي أن الأصوليّة الدينية تُفرزُ المناخَ الملائِمَ لظهور أصوليّةٍ مُضادّةٍ لهَا ذات بُنَى عِلمانيّة.
ولعل ذلك ما دفع مكسيم رودنسنون لأن يُطالِبَ بضرورَةِ “ضمِّ التجمعاتِ المبنيّةِ من هذا الصِنف في مقولَةٍ واسعةٍ واحدةٍ هي الحركاتُ الإيديولوجيَّة التي تجمَعُ الذينَ يؤمنونَ بالسماءِ والذينَ لا يؤمنون، أو بالأحرى لكُلِّ امرئٍ سماؤه” (الإسلام سياسة وعقيدة).
ولتأكيدِ ذلكَ، لنأخُذ مسألة رفض التعدديّة نموذجاً. فقد شاعَ اتهام الإسلامويّة الحركيّة بادّعاءِ امتلاكِها للحقيقة على الرغم من أن أغلب الأيديولوجيات تدّعي امتلاك الحقيقة أيضاً.
وفي المحصلة، يمكن القول إن علاقة الدين بالسياسة كاتهام تُوصم به الإسلاموية من قبل الدارسين الغربيين إنما هو قائم أساسا على مفهوم الدّين الكنسي المسيحي وليس على مفهوم الدّين الإسلاميّ، والذي (بحسب الأصوليّة) يقضي بترابط الأمرين معا (الدّين والسياسة) بحيث لا يتم فهم أحدهما من دون الآخر، وهو بطبيعة الحال فهم مغلوط ومؤدلج لطبيعة العلاقة بين الدين والسياسة في الإسلام.
© منبر الحرية، 29 مارس 2009

peshwazarabic21 نوفمبر، 20100

من المغرب غرباً إلى الخليج العربي والعراق شرقاً، ومن سوريا شمالاً وحتى السودان جنوباً، تكاد تتماثل الرؤية العربية تجاه قضيتين خطيرتين الأولى النظرة الدونية للمرأة، والثانية العداء المشترك للديمقراطية والتعددية السياسية، فهما يمثلان اختراق للخصوصية الثقافية للشعوب العربية، ودليل على انتهاك السيادة الوطنية لنظم الحكم القاهرة وشعوبها المقهورة في آن واحد.
وعلى ذلك لا يكون مستغرباً أن تبدو المنطقة العربية خارج إطار الزمن في خصوص هاتين القضيتين اللتان تشهدان تطورات بطيئة وغير محسوسة في المنطقة في بعض الأحيان، وتراجعات سريعة مذهلة في أحيان أخرى.
ولا يمكن فهم مشكلات المرأة العربية بغير فهم السياق الذي تجري فيه محاولات تطويرها، كما لا يمكن اختزال تلك المشكلات في نصوص القوانين فقط، فبقطع النظر عن أن نصوصاً هنا ونصوصاً هناك تعيق تطور قضايا تمكين النساء، فإن الثابت هو أن المنظومة القانونية العربية بشكل عام تتطور ربما بأسرع مما تتطور به الأوضاع الاجتماعية والثقافية والتي هي في حقيقة الأمر أصل الداء ومكمن البلاء.
وحاز موضوع الدور الإعلامي للمرآة العربية من حيث التمثيل والتمكين في وسائل الإعلام في إطار قضايا التحرر والديمقراطية، حيزا كبيرا في الشأن العربي منذ عقود خلت، وإذا ما كانت الظروف التي مرّت بها المنطقة العربية، قد أجّلت وخفّضت من حجم الاهتمام الحكومي والشعبي في إمكانية زيادة هذا الدور، فان ظروف تغير هيكلية النظام الدولي والإقليمي وجملة المتغيرات العالمية بما رافقها بالدرجة الأولى تصدير النموذج الأمريكي للحرية والديمقراطية وتغيير خريطة الشرق الأوسط ونشر العدالة العالمية من منظور غربي وحسب، وتكرير الدعوة للقضاء على التمييز العنصري على أساس الجنس، والدعوة لتنصيب المرأة أعلى المناصب السياسية والإدارية والقيادية في البلاد العربية، خاصة بعد أحداث 11 أيلول وما تلاها من نتائج إقليمية ودولية، فان جملة تلك المتغيرات دفعت العديد من الدول العربية لتغير نظرتها للمرآة العربية التي بدأت تخرج من دورها الجندري في المجتمع كعضو قاصر إلى عضو فاعلٍ يساهم في بناء الحياة الاجتماعية والسياسية وتشكيل أطر جديدة للتنمية المستدامة على أساس الحق الكامل للمرأة العربية في مقاسمة الرجل لشؤون الحياة العامة، كما هو الحال في القضايا الاقتصادية والاجتماعية.
ورغم أن هذا التحول التدريجي لدور المرأة في وسائل الإعلام من حيث التمثيل والمشاركة في صناعة الصورة الإعلامية المناسبة منها وعنها، لم يأخذ صورته النهائية والمقبولة في كافة الأقطار العربية، نتيجة تركيبة بعض المجتمعات التي ما زالت تعمل بالنظام القبلي والعشائري، فإن مكمن الخوف الحقيقي لدور ومشاركة المرأة في السياسة الإعلامية يتجلى في جملة المنظومة الاجتماعية والدينية والتاريخية للأمة العربية وشعوبها، حيث ورغم ما أحرزته المرأة من تقدم ملحوظ خلال السنوات الماضية على مستوى العمل الإعلامي وتمثيل قضايا المرأة في مختلف وسائل الإعلام، إلا أن هناك تيارات اجتماعية ذات ارتباطات قبلية وعشائرية، فضلا عن النظرة التقليدية لبعض النساء، ما زالت ترفض أو غير متقبلة لمبدأ حرية المرأة في تولي المناصب الإعلامية والحرية بالتعبير عن قضاياها من واقعها القائم، كما هو الحال بالقبول بعملها في المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية الأخرى.
يضاف إلى ما سبق تحديات أصولية ثقافية واجتماعية أخرى تتعلق بالدور الجندري التقليدي للمرأة، وتحديات سياسية واقتصادية وقانونية تمس في جزء كبير منها الإطار القانوني لتكريس عمل المرأة الإعلامي، فعلى مستوى البعد الثقافي الأصولي يعتبر الصعود السريع للتيارات الأصولية في العالم العربي –والأردن جزء منها- واحدا من أشد المعوقات لتطوير ليس فقط أوضاع النساء الأردنيات والعربيات بل تطوير النظام السياسي العربي ككل.
أما المعوقات السياسية فتبدو في التحديات السياسية والممثلة في تدني المشاركة السياسية في العالم العربي وسيادة النظم التسلطية، ولا يستطيع أحد حتى الآن أن يحدد هل تدني نسبة المشاركة السياسية بشكل عام في المجتمعات العربية هو الذي يؤدي إلي سيادة النظم التسلطية أم أن وجود تلك النظم وسيطرتها على مقدرات الحياة داخل الوطن العربي هو الذي يؤدي إلي ضعف المشاركة السياسية ؟ ولكن ما يمكن قوله في هذا الصدد هو أن سيادة النظم التسلطية وغياب المشاركة النسائية في صنع القرار هما من المشكلات الحقيقة التي تعيق تمكين النساء من قضاياها وتهميش دورها الإعلامي.
ولا يمكن أن يكون الحديث عن علاقة الإعلام بموضوع المرأة مجرد حديث عن تقنية التواصل وارتباطها بمسألة إدماج النوع الاجتماعي في التنمية، بقدر ما هو مسألة شائكة تتعلق بمنظور فكري وسياسي تحمله وسائل الإعلام وتروجه داخل المجتمع انطلاقا من خلفيات ثقافية وتصور للنظام الاجتماعي.
وتبرز –في ظل هذه الحقيقة- الإشكالية الخاصة بموقف الإعلام من قضية تحرير المرأة أو آلية تعاطي الإعلام مع قضايا المرأة وكيفية تصويرها من خلال واقعها القائم، وهل يقوم بدور إيجابي في دفع قضايا المرأة إلى الأمام أم يكتفي برصد واقعها الراهن بسلبياته وإيجابياته أم يسعى –متعمداً- إلى تكريس أدوارها التقليدية متجاهلاً إنجازات بعض النساء في مجالات التعليم والعمل والإبداع الفكري والفني.
ورغم تباين مكانة المرأة في المجتمعات العربية من بلد عربي لآخر، فإن معظم الأفكار السائدة عن المرأة سواء في عقلية الرجال أو وسائل الإعلام المختلفة، تتناقض تماماً مع الموقف المعلن لغالبية الدول العربية، فتجد بعضها يعلن انحيازه المطلق لكافة حقوق المرأة ثم تُفاجأ  بسلوكيات من شأنها ترسيخ مفاهيم التبعية وتثبيت صورة المرأة بوصفها كائنا ضعيفا يشغل الترتيب الثاني في سلم المجتمع، و تتباين بدورها مواقف مؤسسات الإعلام العربية في النظرة للمرأة، فهناك من ترى ظهور المرأة في وسائل الإعلام متعارضاً مع تقاليدها وربما مع التعاليم الإسلامية، غير أن الدول التي تملأ الدنيا طنيناً بالحديث عن حقوق المرأة تتورط هي الأخرى في ترسيخ مفاهيم تنال من الحقوق الأساسية للمرأة العربية.
© منبر الحرية، 29 مارس 2009

peshwazarabic21 نوفمبر، 20100

لجدتي رحمها الله قصة قديمة تُستخلص منها الحكمة، وذلك أن الأسد والنمر والضبع والثعبان قرروا السكن في غرفة واحدة وطلبوا من الثعلب أن ينضم إليهم ولكن الثعلب المكار لم يرفض ذلك صراحة بل ادعى أنه بات حديث الزواج. وفى أول ليلة لسكن تلك الحيوانات مع بعضها، اتفقوا على شروط للعيش فيما بينهم، قال الأسد انه لا يريد أن يقوم احد  بإزعاجه أثناء نومه، بينما النمر طلب عدم التفرس في وجهه أثناء نومه، أما الضبع فقد اشترط عدم سؤاله أين كان يسهر إذا أتى متأخراً، والثعبان حذر من مغبة أن يطأ احدهم على ظهره. وفى أول تجربة لهذا الاتفاق حدثت الكارثة. أتى الضبع متأخراً كعادته, فلم يتمالك النمر الذي ينام دائماً وإحدى عينية مفتوحة من سؤاله أين كنت طوال الليل؟، فغضب الضبع ولكن النمر لم يهتم لغضبه إذ أردف مرة أخرى لماذا تنظر إلى هكذا ؟، ونشب العراك بينهم وسرعان ما قتل النمر الضبع, فنهض الأسد من نومه ثائراً وضرب النمر بيده أليسرى ومن ثم انهال على عنقه قضماً, مات النمر. وأثناء المعركة وطأة قدم الأسد ظهر الثعبان فقصم ظهره. وقبل أن يموت الثعبان لدغ الأسد فزرق فيه السم القاتل. بعد ذلك حل على المكان صمت القبور…. قالت جدتي من بين فجوات أسنانها الساقطة أن الثعلب قدم كعادته باكراً فوجد منزل الساكنين الجدد مغلقا إلى ما بعد شروق الشمس.  لم يقرع الباب ولكنة ابتسم ومضى. و عندما تصل إلى هذا الحد من الحكاية كانت جدتي أيضاً تبتسم مغتبطة.
هذه الحكاية الصغيرة ( وهي نتاج مخيلة فلاحيه رعوية ) تنتصر بضرورة البيئة العشائرية المغلقة  التي أنتجتها لحكمة الثعلب الانعزالية أو لقيمة المكر ( فطنة البدوي )، لكنها تغفل جرأة المحاولة. إن النتيجة غير المرضية لجهد ما لا يمكنها إلغاء الدوافع الحسنة منه. لقد خالف النمر ما اجمع علية سكان البيت، وهذا كل ما في الأمر !!!. إذاً المخيلة الرعوية ليست قادرة بالضرورة على استشراف قيم المجتمع التفاعلي والمتعدد والذي يجب أن يراعى فيه كل فرد حقوق الآخر مما يرتد إيجاباً بالحفاظ على حقه هو الخاص و أمنة الخاص وسلامة الخاص و طمأنينته الخاصة.
ربما كانت الحرب مقرر تاريخي لا مفر منه في كثير من الأحيان، أي حتى توفر الإقناع العملي لمجتمعات العزلة  بضرورة التعايش مع الآخر المختلف عرقاً ولوناً وديناً والذي قطعاً انعزالي ومنغلق بدوره، أي حتى تدفع بالمجتمع درجة في اتجاه التعايش التفاعلي و المتعدد، و إلا  فالاحتكام إلى الحرب أي الموت ضد ما يكافح الناس للاحتفاظ بها أي الحياة. في عصور ما قبل التاريخ كانت الحرب نشاط اقتصادي  شبة يومي بين القبائل والعشائر بما في ذلك التي تتحدث لغة واحدة وتنتمي إلى أصل عرقي مشترك. إذ أنها ارث بشري ما قبل إنساني تحفزه  دواعي البقاء. و نشأت الأديان والفلسفة في ظل الحروب وكانت مسوغاتها لرفض قتل الإنسان لأخيه الإنسان بمثل المبررات التي تسوغ شرعية الحروب بل قدسيتها أحياناً كثيرة. إذا هل الحرب محطة تاريخية يجب على كل الشعوب الوقوف عندها ؟؟. وهل كانت من احد عناصر الوحدة وظهور القوميات المتعاضدة وشكل الدولة الحديثة ؟. هل يحدث ذلك لان الحرب تؤدى  للقضاء على الشعوبية والتخفيف كثيراً من مظاهر الكراهية والنعرات العرقية وان كانت هي سبب اندلاعاتها المتكررة. لقد شهد التاريخ تحارب كثير من الفرقاء و إزهاق الكثير من الأرواح لأجل أفكار متعالية وعنصرية ولكن عندما تصيب الحرب كل الأطراف بالإعياء يعلو صوت العقل المنادى بالتعايش وقبول الآخر. ومن داخل تلك اللغة الزاخرة بالتهجم و المتعالية والانعزالية نفسها يتم تأويل لغة السلم. لكن في عصور ما بعد المعرفة والتجربة الإنسانية الحقوقية التي نعيشها لماذا لا زالت الحرب القدر الإنساني الأكثر إيلاماً ؟. هل لان الإنسان لم يتقاسم تجارب البقاء بالقدر نفسه وان هنالك الكثير من المجتمعات لازالت تعانى مخاض الانتقال لأنها لا تود قراءة التاريخ إلا بطريقتها الخاصة عبر تجارب الخطأ والصواب.
ربما احتاج الإنسان إلى ثلاثة ملايين عام حتى يستر جسده  لدواعي ثقافية عوضاً عن الضرورة البيئية ويتكون فيه ضمير ما ويطور مدركاته لشروط بقاء جنسه ووحدة مصيره. فهل لازال الدرب طويل حتى يتمكن من القضاء على الكراهية والجشع وضيق الأفق.
لقد ساهمت القلاع في العصور القديمة إلى حد ما في حماية المدن لكن المدنية الآن تحميها القوانين بينما أصبح أعداء المدنية و المجتمع الآن أكثر قدرة ومضاءً على إصابته بالأذى وإيقاف نشاطاته الحيوية وان قنبلة صغيرة يمكنها أن تغرق مدينة في الظلام والفوضى. الآن تتوفر الفرص أكثر مما مضى لتخريب العالم، إذ كلما أصبحت الحياة أكثر تنظيماً واتساقاً تسهل إصابتها بالأضرار وإشاعة الذعر فيها بعد أن أضحت المدن مأوى للملايين من البشر.
إن المقولة القديمة التي تقول(السلام هنا يعنى أن الحرب هناك) لم تعد تحظى بمدلولها التفاؤلي اليوم، لان آثار الحرب لم تعد تقتصر على جغرافية بعينها، وإنما تتسبب بتداعيات إنسانية ينعكس تأثيرها إلى أبعد الأرجاء (التي لم تعد بعيدة) ، لم يعد هنالك أي عمق آمن لن تطاله أنشطه الحرب والإرهاب.
و نسبة لدور التعصب الديني  في  إذكاء الكثير من الحروب يصبح من  الضروري  التساؤل: هل أن عدم وجود الأديان كان سيشكل خطرا على التعايش الإنساني أكثر مما يشكله وجود الأديان الآن ؟؟
إن الأديان أجابت على الأسئلة الكبيرة التي واجهت الإنسان في مرحلة عوزه المعرفي، والتعاليم الدينية تدعو للسلام والحفاظ على كرامة الإنسان وعدم سفك الدماء والتسامح. لكن مفاهيم القومية والجغرافية والشعوبية قوضت المعنى الإنساني الشامل الذي تتضمنه الأديان، وأضحت حصان طروادة بعد أن نزعت صفتها الكلية الموجهة للذات البشرية وانتحلت النزوات الفردية للاستبداد والسعي للسلطة وكراهية الآخرين و التعصب.
لقد أدى تسارع اندماج المجتمع الدولي في نظام عالمي واحد من حيث الاقتصاد ونظم الحكم، أدى ببعض الشعوب للخوف من فقدان الهوية مما عمق الجرح النرجسي لتلك الشعوب، وبالتالي أصبح هنا الانكفاء على التراث الديني هو العنصر الفاعل لمجابهة خطر الذوبان، لكن مع ذلك يصبح الفقر هو من اكبر عوامل الاستقطاب والمغذى الرئيسي لعوامل عدم الاستقرار وتهديد السلام، إن وحدة مصير سكان هذا العالم تؤكده الكوارث الطبيعية و التي لا تصيب شعوب بعينها لسبب الدين أو العرق، وهو ما يؤمن على ضرورة التآزر  في عالم اليوم  الذي يمكننا فيه تصنيف الدول بصيغة الأحياء الغنية والأحياء الفقيرة لان كوكبنا اصغر مما كنا نظن وسريع العطب بقدر لا يمكن تداركه إذا لم نعى ذلك.
إن مقولة أن السلم هنا يعنى الحرب هناك، يجب أن تتم  إعادة صياغتها لتواكب مقتضيات عالمنا الحديث بان تصبح (السلم هناك يعنى السلم هنا).
© منبر الحرية، 28 مارس 2009

peshwazarabic21 نوفمبر، 20100

هدأت مدافع إسرائيل، ولو إلى حين، في غزة. وعادت طائرات الأباتشي والإف 16 إلى قواعدها، في استراحة لا أحد يمكن أن يتكهن بمدتها، خاصة مع توالي خرق التهدئة من الجانبين. و بالمقابل انطلقت المناورات من هذا الجانب وذاك لحصد النتائج السياسية أو على الأقل تقليص الخسائر، ولو على حساب ألام ومآسي المدنيين من الجرحى والمعطوبين والأيتام والأرامل.
اختلفت عناوين حرب غزة بين الطرفين، وتضاربت التفسيرات بين إرجاعها إلى مبررات إقليمية ودولية وبين ربطها بالواقع الداخلي والانتخابي للمتحاربين. خاضت إسرائيل الحرب بأهداف انتخابية معلنة وأخرى مستترة، فيما جابهت حماس الموقف تحت مسميات مختلفة أقلها فرض واقع الأمر في القطاع مع نهاية ولاية محمود عباس، و التحول إلى القوة الأولى في معسكر المواجهة لمزيد من الشرعية التمثيلية.
من الجانب الإسرائيلي عناوين كثيرة يمكن أن “تصوغ” القتل و الدمار، بدءا من مبررات الرد على صواريخ حماس، وقضية جلعاد  شاليط وصولا إلى تهريب السلاح، مرورا باستعادة هيبة قوة الردع بعد تجربة المواجهة مع حزب الله وغيرها. ومن الجانب الآخر تطل مبررات من قبيل : الدفاع عن النفس، ورفع الحصار وفتح المعابر ووقف الاستيطان ووقف استهداف الكوادر وغيرها من الأمور التقنية.
قطعاً، ليست هاته هي المحركات العميقة والمشكلات الحقيقية بين الطرفين، رغم ما تكتسيه تلك العناصر من أهمية. ثمة هناك مشكل أعمق لم يقو الجانبان على مواجهته بالجرأة والشجاعة اللازمتين. إنه صراع الهوية القاتل، حيث يشعر الطرفان بخوف فظيع ومريع وخوف وجودي لا يوازيه سوى الخوف من العدم.
على المدى القريب على الأقل، ليس هناك من أمل في تجاوز هاته المخاوف، بل إن الحرب الأخيرة زودتها بقوة إضافية، وعززت في الأجيال القادمة ولمدى غير منظور صورة الآخر المتوحش والمتعطش لسفك الدماء. تتداخل في هذا الصراع عوامل التاريخ و الجغرافيا و الدين و اللغة ، لكن المشكل يصير أصعب عندما يرتبط ذلك بمصالح من طبيعة اقتصادية تتغذى على الصراع وتعتاش منه.
إن الأمر الوحيد الذي يجب الاتفاق حوله هو ما طرحه مفكر إسرائيلي شتيرنغر في ندوة نظمتها صحيفة هارتس لمناقشة ما بعد عملية الرصاص المصهور في غزة حين تساءل” كيف نضع المريض، أي المنطقة بأسرها، بشكل صائب في المستشفى. وهل سيوافق أوباما، الأوروبيون والسعوديون للدخول إلى هنا بقوة، لتقديم الدعم السياسي والاقتصادي، وحينها تنتظم هنا عملية علاج يمكن أن تغطي كل المرضى، بخليط ثقافاتهم وأديانهم”
خليط الثقافات والديانات في المنطقة هي الكلمة المفتاح في صراع الشرق الأوسط، وما عداه مجرد مظاهر خادعة. طبعا، لا يمكن لأحد أن يشكك في حقيقة معاناة اليهود على امتداد التاريخ الإنساني، لكن حالة آلاف الأطفال  الفلسطينيين الذين فقدوا أطرافهم وأبصارهم، “على الهواء مباشرة” بفعل قنابل الفوسفور الأبيض لا يمكن أن تحجب حقيقة مستوى العنف الذي يمكن أن تصل إليه المنطقة.
أكدت هاته الحرب مرة أخرى أن هناك لغة لم يتحدث بها الطرفان بعد. وما ينقص المنطقة بأسرها لغة حضارية، لا تتجاوز على الاختلافات الدينية، بل تحتضنها على أساس هوية جديدة للمنطقة. لقد حاولت إسرائيل منذ نشأتها أن تقدم نفسها حامية النموذج الغربي في المنطقة رغم عيشها بين ظهراني المسلمين. هل نجحت في ذلك؟
ربما لكن النجاح الحقيقي يقتضي تطوير لغة يهودية ـ إسلامية تقطع من حيث المنطلقات مع الهوية الغربية لهاته الدولة. وهنا فقط يمكن لهاته اللغة أن تشكل منطلقا لكل التفاهمات الممكنة في المنطقة. لغة يمكن أن تقبلها ليس فقط حماس بل حتى إيران و سوريا وحزب الله. إن الخطوة الحقيقية والصحيحة هي البحث عن المواضع التي لا تكون فيها هوية الطرفين متناقضة حد تهديد الوجود الآخر.
لا
يمكن في ليلة وضحاها أن نحلم بنقلة تجعل المنطقة تعيش في أمن وسلام. لكن ما يجب التأكيد عليه هو أن صراع المنطقة ليس على المعابر والأنفاق، ورفع الحصار. إن الصراع أعمق من ذلك بكثير.  إنه ليس صراع معابر بل صراع من أجل قضايا الهوية والوجود. أما خطورة القضية فتعود إلى أن الطرفين مدفوعان بإيمان ديني صارم بعدالة قضيته، ليبقى السلام الحقيقي معلقا إلى أجل غير مسمى، أو على الأقل إلى أن يطور المتنازعون لغة حضارية جديدة. لغة أصيلة ليست بـ”الغربية” ولا “الشرقية”.
© منبر الحرية، 27 مارس 2009

peshwazarabic21 نوفمبر، 20100

على وقع الأزمة المالية العالمية، وفي ظل أزمات لا تكاد تنتهي تعيشها اليمن هذه الأيام، جاءت سلسلة الاعتداءات الإرهابية الأخيرة التي تعرض لها رعايا أجانب من كوريا الجنوبية، بين سياح وفريق تحقيق أمني، لتزيد الوضع الأمني والاقتصادي في البلاد تأزماً وتعقيداً. وبيّنت – بما لا يدع مجالاً للشك – أن تنظيم القاعدة، الذي نفّذ هذه العمليات، أخذ يمارس عنفه الأعمى بقسوة ودون هوادة، وعلى نحو استعراضي يُقصَد منه إظهار عجز الدولة اليمنية، التي يراها “غير شرعية” و”عميلة” لأميركا والغرب كما للنظام السعودي المجاور، وإنهاكها – وهي المُنهَكة أصلاً – اقتصادياً، ناهيك عن مضيّه في جهوده الرامية لضرب شرعية النظام وهزّ صورته في الخارج وبما يفقده – أي النظام- ثقة أهم حلفائه؛ ولهذا تجاوز إرهاب التنظيم الأهداف السياحية التقليدية والمعتادة، الغربية أساساً، وبدأ نطاقه يتسع ليشمل سياحاً وأفراداً من دول أخرى تربطها علاقات حسنة باليمن، ومن هؤلاء السياح الكوريين الجنوبيين الذين يُنظر إليهم بشكل واسع على أنهم أكثر السُّياح الأجانب وداعةً ومسالمة.
إن التنظيم يدرك بطبيعة الحال عمق الأزمة التي تعاني منها الحكومة اليمنية في الوقت الراهن، إذ تأثّر أداؤها الاقتصادي والمالي بشدة، كما أعترف مسئولوها أخيراً بعد طول ترددٍ ومراوغة، نتيجة التداعيات الارتدادية السلبية للأزمة المالية العالمية. وفي ظل الظروف الاقتصادية الراهنة، من المُرجّح أن يلجأ التنظيم من الآن وصاعداً إلى التركيز، وبشكل أكثر حِدّة، على الأهداف الاقتصادية الأكثر حيوية بالنسبة للحكومة اليمنية، وفي مقدمتها قطاعيّ السياحة والنفط.
لكن إستراتيجية التنظيم هذه، وعلى عكس المتوقع، قد تُفضي – في نهاية المطاف – إلى نتائج عكسية بالنسبة لجميع الأطراف، وبما يحوّل الخاسرين إلى رابحين والعكس. فمع اشتداد العنف الإرهابي الذي يستهدف موارداً وقطاعات اقتصادية حساسة في اليمن، بالتوازي مع استفحال الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعاني منها البلاد، ستكون الحكومة اليمنية في وضع تفاوضي أفضل فيما يتعلق بقدرتها على تلقي المزيد من المساعدات الخارجية، الأمر الذي سيُعطي تحذيرات كبار مسئوليها – وفي مقدمتهم عبدالكريم الأرحبي نائب رئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية ووزير التخطيط والتعاون الدولي – والتي تُلوِّح صراحةً بإمكانية غرق البلاد في الفوضى و”تحولها إلى صومال جديد”، أذاناً صاغية واهتماماً أكبر وبما يدفع إلى استجابة (وتحرك) أسرع من المجتمع الدولي، الذي ما فتئ يُبدي خشيته من دخول الدولة اليمنية طور “الفشل”، وتحولها تالياً إلى “حاضنة مثالية” للمتطرفين والإرهابيين، الذين سيهدد عنفهم المتشظّي واحدة من أكثر مناطق العالم حيوية من النواحي الاقتصادية والأمنية والإستراتيجية، والمقصود بالطبع منطقة الخليج حيث منابع النفط واحتياطياته الأهم والأكبر عالمياً.
وإذا تحقق ذلك، ستزداد القدرات الأمنية اليمنية مع تحسن الوضع الاقتصادي نسبياً وتجاوز الأزمة الراهنة نتيجة تدفق الأموال وارتفاع وتيرة الدعم الخارجي للاقتصاد اليمني، وبالتالي ستتخذ المواجهة مع القاعدة وجماعات العنف المسلح منحنى مختلف، في ظل جهوزية أمنية أكبر وأكثر فعالية تحظى بدعم إقليمي ودولي مهم وحاسِم.
وفي المقابل، قد تنقلب خطط تنظيم القاعدة عليه ومن حيث لا يدرك قادته أو يتوقعون. فالعاصفة المالية الحالية أخذت رياحها العاتية تطال التنظيم، الذي لطالما تفاخر بدوره المزعوم في إحداثها بفعل هجماته على أميركا و”جرّها” إلى حروب استنزاف صعبة ومُكلفة في أفغانستان والعراق، وبدأت تهدد وضع التنظيم المالي، في مركزه وتفريعاته الإقليمية، تهديداً حقيقياً، لاسيما وأن قادته، سواء أولئك المختبئين في الحدود الأفغانية – الباكستانية أو هؤلاء المحتمين بمناطق قبائل اليمن الأكثر نفوراً من قبضة الدولة المركزية –  ليس لديهم في الوقت الحاضر موارد مالية كبيرة، خلافاً للموارد التي تتمتع بها حركة أصولية كطالبان والمرتبطة بشدة بتجارة المخدرات المربحة (يتناقض الوضع المالي الحالي لقادة تنظيم القاعدة تناقضاً حاداً مع الوضع الذي كانوا عليه قبل هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001، عندما كانت الميزانية السنوية لتنظيم القاعدة تتراوح بين 20 و30 مليون دولار، والتي ذهبت عدة ملايين منها إلى طالبان).
وعلى الأرجح فإن الأزمة المالية، التي يحاول تنظيم القاعدة مفاقمة تداعياتها بالنسبة لدول نامية كاليمن، أخذت تؤثر في حجم مبالغ التبرعات التي يتلقاها التنظيم، في الوقت الذي تقل فيه موارد المانحين، وتزداد الطلبات من ملتمسين آخرين. والمؤكد أن المشاكل المالية ستُلحِق أضراراً فادحة بقدرة القاعدة على إدارة تنظيمها بشكل فعّال. إذ يتحتم على قيادة التنظيم أن تدفع ثمن الطعام والسكن والإقامة لأُسر الرفاق الذين فقدوا أرواحهم، وكذلك مصاريف الأمن والحماية وشراء الأسلحة والمعدات والتجهيزات اللوجيستية، فضلاً عن الأموال الضرورية لتجنيد وتدريب العاملين والانتحاريين وتهيئتهم للقيام بالعمليات الإرهابية والانتحارية.
وفي المحصلة، ثمة احتمالات كثيرة لما يمكن أن يؤول الوضع الأمني في اليمن والذي يهيمن عليه مشهد الإرهاب والحرب عليه، خاصةً وأن الدولة لم تقو بعد على هزيمة القاعدة وجماعات العنف المسلح، ناهيك عن كونها ما زالت تضرب، واعية لذلك أم لا، عرض الحائط بتعريفها الحداثي لذاتها ولدورها والذي يجعلها القوة الوحيدة التي تحتكر الاستخدام المشروع للعنف، سامحةً لقوى مجتمعية تقليدية، بل وشبه بدائية، بمزاحمتها واقتسام هذا التعريف معها. لكن المهم اليوم هو أن يدرك المجتمع اليمني، بمختلف مكوناته، طبيعة التهديد الكبير الذي تشكله جماعة “القاعدة” على حاضره ومستقبله، وأن مشروع هذا التنظيم، الذي يتأسس على العنف والمزيد من العنف دون أفق سياسي واضح، بات يتقاطع وبصورة جوهرية مع سعي هذا المجتمع لتجاوز تخلفه وعثراته، والنهوض من غيبوبته الحضارية التي طال أمدها وأصبحت تشلّ إرادته الجمعوية بشكل تام.
© منبر الحرية، 20 مارس 2009

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018