علم الاقتصاد و التجارة الحرة

peshwazarabic6 نوفمبر، 20100

إذا كان كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي محتفظين ببقائهما، فما الذي سيكون عليهما أن يعملاه إن كان حالهما كذلك؟ لقد احتدم الجدال بطريقة متزايدة حول هذا التساؤل من قبل بعض الخبراء، وحتى من قبل أفراد ينتمون إلى هاتين المؤسستين. كما أن هناك عددا متزايدا من النقاد من اليمين واليسار، كليهما على وشك أن يصلا إلى اتفاق بأن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي قد تساهلا بدرجة كبيرة جدا مع فساد كان قد استشرى بين عملائهما، وأن الكثير من برامجهما لا تقوم بالوفاء باختبارات التكاليف والمنافع المعقولة.

يقول صندوق النقد الدولي بأن “غرضه الأساسي هو أن يضمن استقرار النظام النقدي العالمي”، ويقول البنك الدولي بان المهمة الموكولة إليه هي “أن يتم التخلص من الفقر العالمي”. هذه الأهداف هي أهداف جديرة بالثناء حتى وإن كانت غير قابلة للتحقيق، وعلى وجه الخصوص من قبل مؤسسات متعددة الأطراف تمت الهيمنة عليها على المستوى السياسي. كما أن صانعي القرارات في المؤسستين لا يتم انتخابهم بطريقة ديمقراطية. ويجب ألا ننسى بأن مدراء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي قد سمحوا لمهماتهم أن تتداخل فيما بينهما، وفي أحيان كثيرة، تم تعريف “النجاح” على أنه عبارة عن أموال يتم دفعها وليس خدمات يتم تقديمها.

في صيف العام 1944، قام عدد كبير من الأشخاص المتنورين البارزين في عالم المال والاقتصاد، بما في ذلك “جون ماينارد كينز”، بالالتقاء في مؤتمر عقد في “بريتون وودز” في “نيو هامبشير” بغرض التخطيط للنظام المالي العالمي لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. قام الكثيرون من بين الحضور بإبداء عدم الثقة بنظام اقتصاد السوق الحر، واضعين اللوم عليه بالنسبة لحدوث “الكساد العظيم” وبالنسبة لصعود “النازية”. وبما أنهم كانوا جميعا نموذجيين جدا من بين طبقات أكاديمية وسياسية، فقد أخطأوا في تشخيص الأسباب التي أدت إلى حدوث “الكساد”، وهكذا فقد توصلوا إلى “حلول” غير عملية عملت على خلق مشاكل جديدة. (كانت الأسباب الفعلية لحدوث “الكساد العظيم” تتمثل في السياسات النقدية الصارمة التي تمت بطريقة غير مناسبة من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي وبنوك مركزية أخرى، والتعرفات الجمركية المفرطة، والسياسات التجارية التقييدية. فتم وضع اللوم على السوق الحر، وبعد ذلك، استخدامه كعذر لتوسيع دور الحكومات بشكل كبير).

كانت الحكمة السائدة عندئذ تتمثل في اعتبار الاشتراكية موجة المستقبل وبأن البرامج الحكومية الضخمة هي وحدها التي سوف تتمكن من حل المشاكل الاقتصادية وأمراض المجتمع الأخرى. وهكذا، فقد أعقب ذلك من الناحية المنطقية أنه إذا كانت بعض المشاكل الاقتصادية المعينة عالمية، فسيكون بالإمكان حلها من خلال مؤسسات عالمية قوية متفوقة على الدولة القومية.

ومن بركان فلسفة المثالية هذه، والتي تم وضعها في غير محلها ومن الرغبة في التحكم والسيطرة من قبل أولئك “المفكرين المتنورين”، وُلد صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وكان أحد القرارات الذي تم اتخاذه في المؤتمر هو أن يتم استحداث نظام أسعار صرف ثابتة بين الدول، وهو الذي كان يتطلب وجود آلية تقوم “بإدارة” نظام السعر الثابت، والتي، من هنا، ستكون صندوق النقد الدولي.

قام صندوق النقد الدولي بهذه المهمة بالكامل لغاية العام 1971 عندما قام الرئيس الأمريكي نيكسون “بإقفال نافذة الذهب” التي تتعلق بمجال تحويل النقود إلى ذهب، مؤشرا بذلك على النهاية الفعلية لنظام سعر الصرف الثابت.

وبحلول نهاية نظام سعر الصرف الثابت، كان من الواجب على صندوق النقد الدولي أن يخرج من العمل ليكون بلا وظيفة وأن يتم حله. ولكننا كما نعلم، كان في العالم الحقيقي مؤسسات مستحدثة من قبل الحكومات لديها ما دعاه الرئيس الأمريكي “رونالد ريغان” بـ”الشيء الوثيق الصلة والأقرب إلى الحياة الأبدية”. وبالرغم من كل هذا، كان لدى صندوق النقد الدولي بعض المباني الضخمة مقامة في مواقع رئيسية بمركز مدينة واشنطن، وهي عبارة عن كادر من الموظفين المدللين من ذوي الأجور المرتفعة زائدا مسؤولين بيروقراطيين حكوميين من ذوي النهج السلطوي من دول متعددة الذين أحبوا السفر بغرض حضور مؤتمرات تتم تحت رعاية الصندوق.

أدرك المسؤولون عن تطوير مهمة صندوق النقد الدولي بأن معظم زعماء حكومات الدول سوف يروق لهم أن ينفقوا أموال شعوب أخرى، ولكن فرض الضرائب بشكل مباشر على شعوبهم لا يمكن اعتباره تصرفا شعبيا. لذا، قام الصندوق بإلحاق “شروط” معينة بخصوص قروضه التي سيمنحها والتي يتم في معظم الأحيان إدخالها في خطة تخص موازنة موزونة مكونة من نوع من تقييد الإنفاق ومن زيادات ضريبية وخفض في قيمة العملة. وأصبح من الممكن أن يقوم الزعماء المحليون بإلقاء تبعة المشقة التي ستنجم عن ذلك على صندوق النقد الدولي وليس على سوء إدارتهم هم أنفسهم.

أما إمكانية الدفاع عن البنك الدولي فهي أقل بدرجة كبيرة! فقد تأسس البنك على أساس افتراض مزيف هو أن الدول الغنية في حال قيامها بإقراض الأموال إلى الدول الفقيرة فسوف تصبح الدول الفقيرة غنية وسوف يختفي الفقر على نطاق واسع. وفي حقيقة الأمر، ازدهرت الدول الغنية لأنها قامت باستحداث المؤسسات والسياسات التي أتاحت للأفراد الذين يسعون نحو الأرباح أن يبتكروا السلع والخدمات في سبيل زميلهم الإنسان. وتمتاز الدول الغنية بوجود حكم القانون لديها، وحماية الملكية الخاصة، وبتدخل حكومي قليل نسبيا مع وجود أسواق حرة. أما الدول الفقيرة، فيفتقر معظمها إلى وجود هذه الصفات المميزة، كما أنها تمتاز بتساهلها مع فساد مستشرٍ على نطاق واسع.

كان لدى البنك الدولي مهمة مستحيلة. فقد كان مطلوبا منه أن يقدم معظم أمواله إلى الحكومات، ولكن الحكومات التي لا تستطيع جذب رأس مال القطاع الخاص الضروري إليها، كانت إما فاسدة جدا أو غير مؤهلة لإدارة أية أموال تتلقاها. وهناك العديد من ديكتاتوريي دول العالم الثالث قد أصبحوا أغنياء من برامج البنك الدولي، كديكتاتور دولة الكونغو الرئيس الراحل “موبوتو” على سبيل المثال. ونظرا لأن البنك كان يقدم قروضا إلى وكالات حكومية في دول ذات سيادة، فقد كانت لديه فقط رقابة محدودة على المشاريع التي يقوم بتمويلها. كما أن الدول المتلقية والمانحة كلتيهما تقومان بالضغط على مديري البنك الدولي بغرض تقديم القروض، وحيث أن كل دولة مشاركة في هذا الشأن ستقوم بإنفاق أموال دولة أخرى، فإن الحوافز العديدة التي ستضمن إنفاق الأموال بطريقة سليمة سوف تكون مفقودة.

عندما كنت في الخدمة العامة بصفتي رئيسا للجنة الاقتصادية الانتقالية لبلغاريا عام 1991، شهدت كيف يقوم موظفو البنك الدولي بتقويض الإصلاحات المطلوبة في هذا المجال. ففي إحدى الحالات، حاولنا أن نقوم بالخصخصة وأن نزيل احتكار شركة هواتف مملوكة للدولة، وهي شركة “بول تيل”. وكانت شركات الاتصالات الدولية من القطاع الخاص على استعداد أن تقدم أحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا في مجال الخدمات الهاتفية إلى بلغاريا. ومع ذلك، قام البنك الدولي بتقديم قرض إلى شركة الهواتف المملوكة للدولة بالإضافة إلى تقديم شرط صريح وهو أن لا تسمح الحكومة البلغارية بقيام منافسة من القطاع الخاص. وعندما قمت بمواجهة موظف البنك المسؤول، كان جوابه لي: “إن من الواجب علينا أن نتأكد بأن قرضنا سوف يسدَّد”!

بافتراض وجود عدد كبير من الأفراد من ذوي النفوذ والتأثير، والذين لديهم مصلحة كامنة في بقاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، فأن إلغاء هاتين المؤسستين سوف لن يتم. وبناءا على ذلك، ما الذي يمكن أن يتم القيام بعمله؟

الحل الأفضل هو أن يتم خصخصتهما. فهاتان المؤسستان تقومان بتوليد دخل مكتسب يتم جنيه من إقراضهما للأموال، وهما تتلقيان بعض الأتعاب مقابل عملهما الاستشاري، كما يوجد لدى كل منهما أصول مالية وعقارية كبرى تعتبر في الوقت الحالي “مملوكة” من قبل الحكومات التي قدمت رأس المال لهما. وبالإمكان إعطاء الحكومات “المالكة” حصصا من الأسهم بحيث تساوي مساهماتها في كل مؤسسة منهما، وبعدئذ، يمكن لكل حكومة أن تختار إما أن تمتلك أو تبيع حصتها إلى أطراف من القطاع الخاص.

ومن الواجب أن يتم إجراء تغيير على بنية الإدارة وعلى مجلس الإدارة الحاليين ليكونا على شكل شركة عادية حيث يقوم المساهمون بانتخاب عدد قليل من أعضاء مجلس الإدارة للإشراف على الشركة. وبالإضافة إلى الدخل المكتسب والأتعاب التي تجنيها المؤسستان، فبإمكانهما أن تصبحا متعاقدتين مع حكومات أو مع مجموعة من الحكومات بغرض تقديم خدمات معينة، كإدارة المنح، وجمع البيانات ونشرها، أو حتى لتكونا بمثابة منقذين للحكومات التي تعاني من صعوبات مالية.

ومن خلال تحويلهما إلى شركتين عاديتين تسعيان إلى الربح، فسوف تقومان، على الأرجح، بإنجاز المهمة في مجال توزيع الموارد وضبط التكاليف. فقد تنمو الحوافز الخاصة بالدول المتقاعسة بحيث تُدفَع إلى تبني سياسات نمو اقتصادي عالٍ، كما ستنمو مؤسسات اقتصادية ناجحة قائمة في دول نامية في حال إزالة مساندة صندوق النقد الدولي/البنك الدولي. ومن المحتم أن يطور صندوق النقد الدولي خطا رئيسيا تماما للتأمين على مخاطر العملات بالنسبة للحكومات وللمستثمرين من القطاع الخاص، والذي قد يكون خطا مربحا جدا إذا ما تم تسعيره بالشكل المناسب والذي سيخدم بصفته حافزا قويا بالنسبة للسياسة المالية الحصيفة.

ومن المحتم كذلك أن تعمل الخصخصة على تمكين دافعي الضرائب الذين قاموا بدفع مبالغ السندات من أن يحصلوا على عائد جزئي على الأقل من استثماراتهم في تلك السندات. فالحكومات، بما في ذلك حكومة الولايات المتحدة، قامت باستحداث العديد من المؤسسات التي تمت خصخصتها بكل نجاح لتحقق المنفعة لكل فرد. وبناءا عليه، لماذا لا تشمل الخصخصة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي؟

© معهد كيتو، مصباح الحرية، 22 شباط 2008.

peshwazarabic6 نوفمبر، 20100

انتهت قمة لشبونة التي طال انتظارها بين الاتحادين الأوروبي والإفريقي إلى طريق مسدود، بقيام الأفارقة باتهام الأوروبيين بأنهم يزاحمون للدخول إلى الأسواق الإفريقية، بيد أن لغة القمة المنمقة قامت بحجب نقطة هامة إلى حد كبير وهي أن قارة إفريقيا سوف لن تحقق النمو على الإطلاق في الوقت الذي تقوم به حكومات دولها بفرض قيود على التجارة فيما بين دولها نفسها، سواء قام الاتحاد الأوروبي بالتعامل التجاري معها أم لم يقم.

وبالنسبة للصادرات الإفريقية، فهي تسهم بما نسبته 2% فقط من التجارة العالمية، ولكن، بحسب أرقام منظمة التجارة العالمية، فان ما نسبته 10% فقط من هذه الصادرات تتم ضمن القارة الإفريقية. ومع ذلك، فان ما نسبته 70% من التعرفات الجمركية التي يتم دفعها من قبل الأفارقة قد تم فرضها من قبل حكومات في دول إفريقية أخرى. وما يطغى على ذلك، هو أن تقوم حكومات دول صحارى إفريقيا، على الأرجح بمقدار ثلاثة أضعاف، بتطبيق حواجز غير جمركية اكثر مما هو عليه في دول غنية، حسبما تشير إليه أرقام البنك الدولي. وبموجب أرقام البنك الدولي، فان إزالة تلك الحواجز قد يعمل على تعزيز التجارة ما بين الدول الإفريقية بنسبة تتجاوز 50%.

لا تعترض اتفاقيات الشراكة الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي التي هي موضع الجدل على الحواجز التجارية التي تحول دون حصول الشعوب الإفريقية على منتجات هم في أمس الحاجة إليها، كالأدوية أو الأسمدة. فعلى سبيل المثال، وبحسب منظمة الصحة العالمية، قامت إثيوبيا بفرض ضرائب يصل إجمالها من 20% إلى 40% على الأدوية المستوردة، وهي بهذا الشكل تقوم بفرض ضريبة على المرضى. وعلى نحو مماثل، فان الأسمدة المستوردة الرخيصة سوف تدر أغذية بدرجة اكبر واكثر رخصا. فإذا كانت الحكومات الإفريقية جادة بالنسبة لتلبية “أهداف التنمية الألفية”، فان تحرير التجارة في هذه الأقاليم سوف لن يكون مجرد ضرورة اقتصادية بل واجبا أخلاقيا.

ومن ناحية أخرى، سيكون من الصعب تفكيك هذه الحواجز التجارية في الوقت الذي تقوم به مجموعات أصحاب النفوذ المحليين بالضغط بخصوص تطبيق مبدأ الحمائية. وتحت ذريعة “تشجيع بدائل محلية”، تمكن القطاع الزراعي في نيجيريا من الحصول على فرض حظر على مستوردات القمح والأرز والذرة والزيت النباتي، حتى وإن كانت تلك المواد المستوردة اكثر رخصا إلى درجة كبيرة بالنسبة لـ11 مليون نيجيري من المحرومين من التغذية الكاملة. ومع ذلك، فان هذا البلد العملاق ما زال غير مكتفٍ ذاتيا بالنسبة للغذاء بعد مضي ثلاثين عاما من متابعة هذا الوهم.

وهناك مسألة الهواتف النقالة التي سوف تبين ما الذي يمكن أن يحدث بدون وجود الحمائية. ففي دول، مثل كينيا، وصلت الهواتف النقالة إلى الملايين، وكان ذلك على وجه الدقة بسبب عدم قيام الحكومة بالتلاعب في السوق من خلال فرض تعرفات جمركية وإعانات حمائية. وبناء عليه، قامت شركات أجنبية ومحلية بالتنافس فيما بينها بغرض نشر الشبكة بعيدا حتى إلى مناطق ريفية.

وكانت الهواتف النقالة قد أعطت أصحاب المبادرة، بدءا من المزارعين ولغاية سائقي سـيارات الأجرة، صلاحية استخدامها للحصول على معلومات حقيقية وفورية حول الأسواق المحلية والفرص التجارية. وفي دراسة قامت بها جامعة لندن للأعمال مؤخرا، تم الكشف عن أن مقابل كل عشرة أجهزة هواتف نقالة إضافية لكل 100 فرد، سيكون من الممكن أن يرتفع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.6% سنويا.

ولكن الحكومة الإثيوبية تفضل فلسفة “التجارة العادلة”. فهي تعتقد بان احتكار الدولة لـ”مؤسسة الاتصالات السلكية واللاسلكية الإثيوبية” سيكون بحاجة إلى بضعة سنوات أخرى من الحماية قبل أن يتم تحرير ذلك القطاع في العام 2010. ويأتي ذلك بعد عقود من السنوات من عدم الفعالية والإخفاق التام والصريح في تقديم خطوط اتصالات ثابتة أو تقديم تغطية هاتفية نقالة إلى ما يزيد عن 1.2% من السكان، والذين هم مقيمون بشكل رئيسي في المدن.

إنه لأمر يدعو للسخرية بان دولا إفريقية تقوم حاليا بالاستدارة نحو الصين بغرض الاستثمار. وكانت الصين قد أمضت عقودا من السنوات في ملاحقة الحصول على اكتفاء ذاتي اقتصادي بيد أنها تقوم بتسريع الإصلاحات التجارية، وأن تخفيضاتها الهائلة الأحادية الجانب في تعرفتها الجمركية قد ولدت نموا اقتصاديا قارب نسبة 9% سنويا، أدت إلى جعل 400 مليون مواطن ينهضون بأنفسهم خروجا من الفقر. وتعتبر الصين في الوقت الحالي ثاني اضخم اقتصاد في العالم.

إن تحرير الاقتصاد مع العالم الخارجي سوف يرفع الناتج المحلي الإجمالي الإفريقي بمقدار 120 مليار دولار سنويا، بحسب نشرة “أكسفورد للتنبؤات الاقتصادية”، إلا أن السياسيين وأصحاب النفوذ يخشون من التنافس مع اقتصادات الدول المتطورة. وبالرغم من ذلك، فان تحرير التجارة البينية—بين الدول الإفريقية وحدها—سوف يعطي عائدا بمقدار الثلث الكامل من هذه المنافع، بحسب ما أظهرته دراسة قام بها معهد “كيتو” للأبحاث في واشنطن.

إذا رغبت الدول الإفريقية في محاكاة نمو الصين، فان عليها أن تحذو حذوها، وان تتوقف عن تقديم “الدلال” إلى صناعاتها المحلية، وان تزيل تعرفاتها الجمركية من جانب واحد. وفي حال قيامها بذلك، فان الأفارقة سوف يثبتون بان اقتصاداتهم يمكن أن تنمو بسرعة نمو أي اقتصاد آخر.

© معهد كيتو، منبر الحرية، 19 شباط 2008.

peshwazarabic6 نوفمبر، 20100

أود أن أبحث في هذا المقال مسألة كيفية تحديد الأسعار في ظروف تراجع معدل التكاليف. وأود، على وجه الخصوص، مناقشة إجابة واحدة لهذا السؤال وهي الإجابة التي أصبحت في هذه الأيام مألوفة لمعظم الاقتصاديين والتي يمكن تلخيصها على النحو التالي:

1. ينبغي أن تكون القيمة المدفوعة مقابل كل وحدة من المنتج مساوية لتكلفة الهامش.
2. وحيث أنه عند تراجع معدل التكاليف تكون تكلفة الهامش أقل من معدل التكاليف، فإن المبلغ الإجمالي المدفوع ثمناً للمنتج سيكون أقل من التكاليف الكلية.
3. المبلغ الذي تتجاوز به التكاليف الكلية المبالغ المستلمة (الخسارة كما تسمى أحياناً) ينبغي أن تسجل كدين على الحكومة وينبغي تنزيلها من الضريبة.

يدعم هذه النظرية كل من البروفيسور هوتلينغ، والبروفيسور ليرنر، والاقتصاديين ميد وفليمنغ. وقد أثارت هذه النظرية اهتماماً واسعاً واتخذت مكاناً لها بالفعل في بعض الكتب الدراسية الجامعية واقتصاديات المرافق العامة. بيد أنه وبالرغم من أهمية تطبيقاتها العملية، وطبيعتها المتناقضة ظاهرياً، وحقيقة أن هناك اقتصاديين عديدين يعتبرونها غير صحيحة، فإنها لم تتعرض حتى الآن سوى للقليل من النقد.

ربما كانت مجرد كمية الأدبيات التي حبذت هذا الحل وقلة كمية النقد السلبي نسبياً هي ما أدت بفليمنغ للادعاء بأنه حل “ليس، في اعتقادي، مفتوحاً لنقدٍ جاد” وللتحسر على حقيقة أنه لم يكن مفهوماً ومقبولاً على نطاق واسع “خارج الأوساط الضيقة للاقتصاديين”. إلا أن حلاً مختلفاً أعتقد أنه هو الصحيح من حيث الأسس التي يقوم عليها كان قد تم طرحه أصلاً من قبل الاقتصادي بين، عام 1937، ومن قبل البروفيسور كليمنز عام 1941. وقد كتبتُ في عام 1945 ملاحظة صغيرة انتقدت فيها الحل المطروح من قبل ميد وفليمنغ، كما أكدت أخرى كتبها ويلسون، حقيقة أنه لم يكن قد تم التوصل بعد إلى اتفاق في أوساط الاقتصاديين حول ذلك. والآن اقترح إخضاع حل هوتلينغ/ليرنر، كما أريد أن أسميه، لفحص أكثر تفصيلاً وللإشارة إلى نقاط الخلل الجوهرية التي أعتقد أنه يتضمنها.

عزل المشكلة على حدة

إن أي حالة اقتصادية هي معقدة بطبيعتها وليس هناك مشكلة اقتصادية منعزلة لوحدها. تبعاً لذلك، يحدث كثير من التشويش لأن الاقتصاديين الذين يتعاملون مع حالة حقيقية إنما يحاولون حل مشاكل عدة في وقت واحد. أعتقد أن ذلك يصدق أيضاً على المسألة التي أبحثها في هذا المقال.

المشكلة المركزية تتعلق باختلاف بين متوسط التكاليف وتكاليف الهامش. إلا أنه، وفي أي حالة حقيقية، تبرز هناك عادة مشكلتان أخريان: أولاً، إن بعض التكاليف معروفة لدى أعداد من المستهلكين وأي اعتبار لوجهة النظر القائلة بأنه يجب تحميل التكاليف الإضافية للمستهلكين يثير السؤال فيما إذا كان هناك أي منهج منطقي يمكن بواسطته توزيع هذه التكاليف المشتركة بين المستهلكين. ثانياً، إن العديد مما يسمى التكاليف الثابتة هي في الواقع أموال تم تخصيصها في السابق لعوامل معينة تعتبر العودة لها حالياً نوعاً من الريع، والنظر فيما يجب أن تكون عليه العودة لعوامل كهذه (لاكتشاف مجمل التكاليف) يثير مشاكل إضافية شديدة التعقيد. هاتان، في اعتقادي، هما المشكلتان الأخريان اللتان تتواجدان عادة معاً في مسألة الاختلاف بين متوسط التكاليف وتكاليف الهامش. إلا أنهما مسألتان منفصلتان أو، على الأقل، قابلتان للفصل. من هنا، فإن المثال الذي استخدمه البروفيسور هوتلينغ “مشكلة التسعير في حالة جسر مروري”، هو في الواقع حالة معقدة للغاية وليس الحالة البسيطة التي تبدو ظاهرة على السطح.

أقترح، في سبيل عزل السؤال مدار البحث، فحص مثال تُنسب فيه، رغم وجود اختلاف بين متوسط التكاليف وتكاليف الهامش، جميع التكاليف لمستهلكين أفراداً؛ والذي تمت فيه جميع التكاليف حالياً؛ والذي، تجنباً لمزيد من التعقيدات التي قد تزعج بعض القرّاء بخصوص معنى تكاليف الهامش، تكون فيه جميع العوامل متوفرة بمرونة.

لنفترض أن المستهلكين متواجدون في سوق مركزي يتوفر فيه مُنتجٌ معين بأسعار ثابتة. لنفترض أن هناك طرقاً تنطلق من السوق ولكن كل طريق تمر بمستهلك واحد فقط للمُنتج. لنفترض أيضاً أن بوسع المرء أن يحمل وحدات إضافية من المُنتج في كل رحلة دون تكلفة إضافية (على الأقل إلى نقطة تتعدى حدود استهلاك أي مستهلك فرد)(1). لنفترض أيضاً أن المنتج يباع في نقطة الاستهلاك. من الواضح أن تكلفة تزويد كل مستهلك فرد ستكون هي تكلفة الناقل إضافة لتكلفة السوق المركزي لعدد الوحدات المستهلكة من قبل ذلك المستهلك المحدد للمُنتَج. تكلفة الهامش هنا ستكون مساوية لتكلفة وحدة من المنتج في السوق المركزي. متوسط التكاليف سيكون أعلى من تكلفة الهامش، ثم يأخذ بالانخفاض لأن تكلفة الناقل قد توزعت على عدد متزايد من الوحدات(2). يُفترض أن حل هوتلينغ/ليرنر هو أن المبلغ الذي ينبغي أن يدفعه المستهلكون لكل وحدة من المنتج ينبغي أن يكون مساوياً فقط لتكلفة الهامش. نتيجة ذلك ستكون أن يدفع المستهلكون تكلفة المنتج في السوق المركزي وأن تتحمل الحكومة، أو بالأحرى دافعو الضرائب، تكلفة النقل. أريد أن أفحص مدى صحة هذا الحل، ولكن من الضروري قبل ذلك التحول إلى التفكير في نقاط جوهرية.

ما هو التسعير المثالي؟

نظام التسعير، في مفهومي، هو نظام يكون فيه للمستهلكين الأفراد سيطرة على مبالغ مختلفة من المال يستخدمونها للحصول على سلع وخدمات عن طريق إنفاق هذه المبالغ وفقاً لنظام أسعار. ليس هذا النظام بالطبع هو وحده النظام الذي يتم بموجبه تخصيص السلع والخدمات أو، بدقة أكثر، استخدام عوامل الإنتاج بين المستهلكين. قد تتمكن الحكومة من اتخاذ قرار بصدد ما الذي يجب إنتاجه وتخصيص السلع والخدمات للمستهلكين مباشرة. ولكن هناك سلبيات لهذا الأسلوب مقارنة بنظام تسعير. ليس بوسع أي حكومة التمييز بأي نوع من التفصيل بين الأذواق المتنوعة للمستهلكين الأفراد (وهذا هو السبب، بالطبع، في تبني نظام “نقاط” عند تخصيص الحصص التموينية في أوقات الحروب). إذا لم يكن هناك نظام تسعير، فلن يكون هناك دليل مفيد حول أفضليات المستهلكين. إضافة لذلك، فرغم أن نظام التسعير يحمّل المستهلكين والشركات تكاليف تسويق إضافية، فإن هذه التكاليف قد تكون في الواقع أقل من تكاليف التنظيم التي، خلافاً لذلك، ستتحملها الحكومة. هذه هي الأسباب التي قد تدفع بحكومة مستنيرة لتبني نظام تسعير—وسنرى لاحقاً أن لذلك صلة بالمشكلة التي نحن بصددها.

إذا تقرر استخدام نظام تسعير، فهناك مشكلتان رئيسيتان يتوجب إيجاد حل لهما. المشكلة الأولى مقدار المال الذي ينبغي أن يتوفر لكل مستهلك فرد—مشكلة التوزيع المثالي للدخل والثروة. المشكلة الثانية هي، ما هو النظام الذي سيكون عليه التسعير وفقاً لنوعية السلع والخدمات التي سيتم توفيرها للمستهلكين—مشكلة النظام المثالي للأسعار. ما يعنيني في هذا المقال هو المشكلة الثانية من هاتين المشكلتين، فالمشكلة الأولى هي جزئياً، وليس كلياً، مشكلة أخلاق. ولكن من الضروري إدراك أن هاتين المشكلتين موجودتان وأن من الضروري إيجاد حل لكليهما إذا كان لنظام تسعيرٍ أن يحقق نتائج مرضية. حيث أن في هذا الفصل أتعامل مع المشكلة الثانية فقط من هاتين المشكلتين، فسأفترض بأن توزيع الدخل والثروة يتم بصورة مثالية.

نظام الأسعار يمثل، بالنسبة للمستهلك الفرد، الشروط التي يستطيع بموجبها الحصول على مختلف السلع والخدمات. ما هي المبادئ التي ينبغي اعتمادها لتحديد الأسعار؟ تبدو المسألة الأولى (الشروط) أنه بالنسبة لكل مستهلك فرد ينبغي أن يكون لنفس العامل نفس السعر بصرف النظر عن الكيفية التي تم استخدامه بها، حيث أنه بعكس ذلك فإن المستهلكين لن يكون بوسعهم الاختيار بصورة منطقية، وعلى أساس السعر، نوع الاستخدام الذي يفضلونه لعامل معين. المسألة الثانية (المبادئ) تبدو بأنه ينبغي أن يكون سعر عاملٍ ما هو نفسه لجميع المستهلكين، لأنه بعكس ذلك سيحصل مستهلك واحد على المزيد مقابل نفس المبلغ من المال الذي دفعه مستهلك آخر. إذا تم تحقيق التوزيع المثالي للدخل والثروة، فإن تحديد أسعار مختلفة لنفس العامل لمستهلكين مختلفين سيكون من شأنه الإخلال بمبدأ التوزيع. إن تطبيقاً أكثر براعة لهذا المبدأ الثاني يقضي بتحديد السعر بحيث يسمح بأن تكون العوامل من نصيب أعلى المزاودين. أي، بعبارة أخرى، أن السعر يجب أن يكون ذلك الذي يوازن العرض والطلب وينبغي أن يكون هو نفسه لجميع المستهلكين وفي جميع الاستخدامات. هذا يعني أن السعر المدفوع لمنتجٍ ما ينبغي أن يكون مساوياً لقيمة العوامل المستخدمة في إنتاجه في استخدامٍ آخر أو لغرض استخدامٍ آخر. إلا أن قيمة العوامل المستخدمة في إنتاج منتجٍ ما في استخدامٍ آخر أو لغرض استخدامٍ آخر هي تكلفة المنتج. هذا يؤدي بنا، تبعاً لذلك، إلى الاستنتاج المألوف، ولكن المهم، وهو أن القيمة المدفوعة لمنتج ما ينبغي أن تكون مساوية لتكلفته. هذا المبدأ هو الذي سيمكننا من بحث مشاكل التسعير الفردي دون أن نتتبع عبر النظام الاقتصادي بكامله جميع التغيرات التي تترتب على تغيير سعرٍ مفرد.

جدلية التسعير متعدد الجوانب

كيف تنطبق هذه الجدلية العامة حول تحديد الأسعار على أساس التكاليف على الحالة التي نحن بصددها—حالة تخفيض معدل التكلفة؟ يبدو أن الكتّاب الذين أقوم بدراسة وجهات نظرهم يفترضون بأن البدائل التي يواجهها المرء هي فرضُ سعرٍ مساوٍ لمعدل التكلفة (وفي هذه الحالة لا تحدث خسارة). بيد أن هناك احتمالاً ثالثاً—تسعير متعدد الجوانب. سأطرح في هذا الفصل جدلية التسعير متعدد الجوانب وعندما تتوفر حالة معدل تكلفة متناقص.

من الواضح أنه إذا لم يسمح للمستهلك بالحصول، مقابل تكلفة الهامش، على وحدات إضافية من المنتج الذي يجري إنتاجه في ظروف معدل تكلفة متناقص، فهذا يعني عدم السماح له بالاختيار بصورة معقولة بين إنفاق نقوده على استهلاك وحدات إضافية من المنتج وبين إنفاقها بطريقة أخرى، حيث أن المبلغ المطلوب منه إنفاقه للحصول على وحدات إضافية من المنتج يعكس قيمة العوامل في استخدامٍ آخر أو لغرض استخدامٍ آخر. إلا أنه يمكن، ولنفس السبب، المجادلة في أن على المستهلك أن يدفع قيمة التكلفة الكلية للمنتج. ليس على المستهلك أن يقرر فقط ما إذا كان سيستهلك وحدات إضافية من المنتج، بل عليه أن يقرر أيضاً ما إذا كان المنتج يستحق الاستهلاك أصلاً بدلاً من إنفاق نقوده في مجالٍ آخر. يمكن اكتشاف ذلك إذا طُلب من المستهلك دفع مبلغٍ مساوٍ لمجمل تكاليف تزويده بالمنتج، أي المبلغ الذي يعادل القيمة الكلية للعوامل المستخدمة في تزويده بالمنتج. لتطبيق هذه الجدلية على مثالنا، لا يتعين على المستهلك أن يدفع فقط تكاليف الحصول على وحدات إضافية من المنتج في السوق المركزي، بل عليه أيضاً أن يدفع تكاليف النقل. كيف يمكن أن يتم ذلك؟ الإجابة الواضحة هي أنه ينبغي جعل المستهلك يدفع مبلغاً لتغطية تكلفة النقل بينما يدفع مقابل الوحدات الإضافية تكلفة السلعة في السوق المركزي. نصل بالتالي إلى الاستنتاج بأن صيغة التسعير المناسبة هي نظام تسعير متعدد الجوانب (ثنائي الجوانب في الحالة التي نحن بصددها)، وهو نوع من التسعير معروف جيداً للطلاب المتخصصين في المرافق العامة وقد تمت الدعوة لتبنيه لنفس الأسباب التي طرحتها في هذا المقال.

وأعتقد الآن أن من الأهمية بمكان أن لا يكون أحد من المدافعين عن حل هوتلينغ/ ليرنر قد درس الاحتمالات الكامنة في تسعير متعدد الجوانب كحل للمشكلة التي تواجههم. فهم يكتبون كما لو أن الأسلوب الممكن والوحيد للتسعير هو فرض سعر واحد للوحدة الواحدة وأن المشكلة التي يتعين عليهم إيجاد حل لها هي ما هو هذا السعر. قد يكون مبرر عدم التفاتهم لدراسة نظام التسعير متعدد الجوانب هو أنهم كانوا على يقين من أنهم قد توصلوا حقاً إلى نظام التسعير المثالي. تبعاً لذلك، يجب علينا مقارنة نتائج تبني حل هوتلينغ/ليرنر مع الحلول التي تستخدم تسعيراً متعدد الجوانب.
التسعير متعدد الجوانب مقارنة بحل هوتلينغ/ليرنر

إن حل هوتلينغ/ليرنر في حالة تبنيه في مثال سيعني أن تكلفة السلع في السوق المركزي سيتم دفعها من قبل المستهلكين، ولكن تكلفة النقل سيتم تحميلها على الضريبة. إعتراضي على هذا الحل مقارنة مع تبني نظام تسعير ثنائي الجوانب يقع تحت ثلاثة عناوين: أولاً، أنه يؤدي إلى خلل في توزيع عوامل الإنتاج بين استخدامات متعددة. ثانياً، أنه يؤدي إلى إعادة توزيع الدخل، وثالثاً، أن الضريبة الإضافية المفروضة تنحو لإنتاج تأثيرات ضارة أخرى.

أولاً، قد يبدو أن حل هوتلينغ/ليرنر يزيد الوسائل التي يستخدمها الزبائن للتوصل إلى اختيار منطقي بين استخدام العوامل التي تدخل في كلفة النقل كوسيلة نقل أم لأغراض أخرى. في هذا الاستخدام، سيكون العامل مجانياً، بينما في استخدام آخر، سيتعين الدفع مقابله (شريطة أن يدخل في تكلفة الهامش). وعلى نحو مماثل، قد يعني هذا الحل أن المستهلكين سيختارون بين مواقع مختلفة دون الأخذ في الحسبان أن تكاليف النقل تختلف بين موقع وآخر.

الجواب الذي قد يعطيه مؤيدو حل هوتلينغ/ليرنر على هذا الاعتراض سيكون—فيما يبدو—بأنه ينبغي للحكومة أن تقدر بالنسبة لكل مستهلك فرد في مثالي ما إذا كان سيشتري المنتج والموقع الذي قد يفضله إذا كان عليه أن يدفع كامل قيمة التكاليف. فقط في حالة كون المستهلك مستعداً لدفع كامل تكلفة المنتج في موقع معين، سيتم توفير ذلك المنتج في ذلك الموقع وفقاً لخطة هوتلينغ/ليرنر. يشير البروفيسور هوتلينغ إلى أن اتخاذ قرار فيما إذا كان هناك ما يكفي من الطلب لتسويغ تكلفة بناء جسر “سيكون مسألة تقدير حجم حركة الآليات والمشاة التي تبدأ وتنتهي في مناطق معينة مع مقارنة المسافات باستخدام طرق بديلة في كل حالة وكتقييم للتوفير في كل صنف من الحركة”. إذا كان من الممكن إجراء تقييمات كهذه بتكلفة منخفضة، وبدقة جيدة ودون معرفة، بما كان قد حدث في الماضي عندما كان يتعين على المستهلكين دفع التكلفة الكلية، فإن هذا سيؤدي على الأرجح، في رأيي، ليس لتعديل نظام التسعير بل بالأحرى لإلغائه. نظام التسعير، كما أشرتُ سابقاً، هو أسلوب محدد لتخصيص استخدام عوامل الإنتاج بين المستهلكين، والحجج التي تساق لتبنيه تستمد قوتها الرئيسية من وجهة النظر القائلة بأن مسألة تقديرات الطلبات الفردية، من قبل أي حكومة، ستكون تقديرات غير دقيقة أبداً.

وينبغي ملاحظة أنه لا البروفيسور ليرنر ولا السيد ميد يرعيان كثيراً بدقة هذه التقديرات. الواقع أن البروفيسور ليرنر كان قد حاجج في أحد الفصول الأولى من كتابه حول نظام تقديرات يقوم بدقة على أساس أنه من المستحيل على أية حكومة إجراء تقديرات كهذه. وفي رأيي أيضاً أنه لا البروفيسور هوتلينغ ولا السيد ميد قد أوليا أهمية كافية لضرورة تصحيح التنبؤات التي تنشأ عن اختبار سوق لاحق حول ما إذا كان المستهلكون مستعدين لدفع التكلفة الكاملة للمنتج. كما أنهما لا يقران بأهمية المساعدة التي توفرها نتائج اختبار السوق لإتاحة الفرصة لإجراء تنبؤات أكثر دقة في المستقبل. ويقول البروفيسور هوتلينغ: “إن المدافعين عن النظرية الحالية القائلة بأنه يجب توفير النفقات الإدارية لصناعةٍ ما بمعزل عن مبيعات سلعها أو خدماتها يعتقدون بأن ذلك ضروري لكي نعرف فيما إذا كانت إقامة صناعة ما سياسةً اجتماعيةً حكيمة. ليس هناك ما هو أسخف من ذلك”. إن هذا، في رأيه، “سؤال تاريخي مثير للاهتمام”. ويضيف فيما بعد: “عندما يبرز السؤال حول بناء سكك جديدة أو صناعات كبيرة جديدة من أي نوع أو شطب صناعات قديمة، فإننا لن نواجه مشكلة تاريخية بل مشكلة اقتصادية دقيقة”.
لا يستطيع المرء أن يجد في أي جزء من مقال البروفيسور هوتلينغ إقراراً بحقيقة أنه سيكون من الأصعب اكتشاف ما إذا كان يتعين بناء سكك حديدية جديدة أو صناعات جديدة إذا لم يكن بوسع المرء أن يعرف ما إذا كان إنشاء صناعات أو سكك جديدة في الماضي كان سياسة اجتماعية حكيمة. وليس من السخف بالتأكيد أن يؤخذ في الحسبان أن القرارات يمكن على الأرجح أن تتخذ بصورة أفضل إذا كان هناك فيما بعد نوع من الاختبار حول ما إذا كانت قرارات كتلك هي سياسة اجتماعية حكيمة أكثر مما لو يتم اختبار كهذا.

من ناحيتي، لا أعتقد أن بوسع أي حكومة وضع تقديرات دقيقة حول الطلب الفردي في نظام ترتكز فيه جميع الأسعار إلى تكاليف الهامش. ولكن ربما كان من المفيد التفكير في ماذا يحتمل أن يحدث إذا حاولت حكومة ما تنفيذ سياسة هوتلينغ/ليرنر. لنأخذ في الاعتبار المثال الذي كنت أناقشه. لا بد من اعتبار مستهلكين معينين في فئة القادرين على شراء المنتج، ويتعين على الحكومة في هذه الحالة أن تتعهد بدفع أي تكاليف نقل نيابة عن هؤلاء المستهلكين. ستواجه الحكومة صعوبة في كيفية تحديد الأمور، فإذا تبنت وجهة نظر ضيقة حول الشروط المطلوبة من هؤلاء المسموح لهم باستهلاك هذا المنتج، فإن المستهلكين الذين يفضلون استخدام العامل الذي جرى توظيفه في نقل المنتج بهذه الطريقة سيحرمون من ذلك. من جهة أخرى، إذا تبنت الحكومة وجهة نظر أكثر ليبراليةً، فإن كثيرين سيجدون أنه لم يعد هناك ما يردعهم عن استهلاك المنتج أو السكن في مكان أبعد عن السوق المركزي بفضل تكلفة العامل المستخدم في النقل، أي بفضل قيمته في استخدامات أخرى أو لمستخدمٍ آخر. سيكون من الممكن بالطبع للحكومة أن تتبنى سياسة ليبرالية لطبقة من المستهلكين وسياسة ضيقة لطبقة أخرى في نفس الوقت. ليس من السهل التكهن بالسياسة التي يمكن أن تنتهجها حكومة ما، ولكن في بريطانيا أظن أن الحكومة ستنحو لارتكاب أخطاء في الجانب الليبرالي وأنه سيكون هناك تبعاً لذلك توظيف كبير جداً للعامل المستخدم في نقل المنتج.

بيد أنه حتى لو استطاعت الحكومة تقدير الطلب الفردي بدقة، فإن حل هوتلينغ/ليرنر سيواجه اعتراضاً آخر. يفترض في الحكومة أن تستطيع تقدير من هم المستهلكين الذين قد يكونون مستعدين لدفع تكلفة النقل (وسنفترض الآن أن تقديرها صحيح)، ولكنها في الواقع لا تطلب من هؤلاء المستهلكين دفع هذا المبلغ، وعندها يصبح هذا المبلغ متوفراً للمستهلكين لإنفاقه في مجالات أخرى. تبعاً لذلك، فإن المستهلكين الذين يشترون منتجات يتم إنتاجها تحت ظروف معدل تكلفة متناقص، سيحصلون على منتجات مقابل أي إنفاق معين يحوي قيمة أكبر للعوامل من تلك التي لا تحوي قيمة كهذه. هذه إعادة توزيع للدخل لصالح مستهلكي السلع التي يتم إنتاجها في ظروف معدل تكلفة متناقص(3).

ليس هناك في اعتقادي مكان للجدل في أن ما يعادل إعادة توزيع للدخل هو ما يحدث في هذه الظروف. إلا أن البروفيسور هوتلينغ هو الوحيد من بين الكتّاب الذين أقوم بتفحص وجهات نظرهم الذي يتعامل بصورة واضحة مع هذه النقطة. بناءً على ذلك، أود أن أدرس الأسباب التي جعلته يعتقد بأن هذا الاعتراض ليس له قيمة جوهرية. قبل كل شيء، أعتقد أن البروفيسور هوتلينغ يعتبر هذا الاعتراض ليس بذي صلة إلى حد كبير لأن التوزيع الأساسي للدخل، على الأقل في الولايات المتحدة، ليس هو حقيقة التوزيع المثالي. هو لا يقول ذلك مباشرة، ولكنه واضح من خلال كامل مقاربته للموضوع. عندما يحاجج بأن الخسارة الناجمة عن تطبيقٍ لقاعدة تكلفة الهامش ينبغي تحميلها خارج ضرائب الدخل وضرائب الميراث والضرائب على القيمة الفعلية للأراضي، فإنه، في اعتقادي، إنما يفعل ذلك بصورة جزئية لاعتقاده بأن الأثرياء وملاك الأراضي يملكون أصلاً حصة كبيرة من الثروة الكلية والدخل الكلي. ولكن لماذا ينبغي لمستهلكي السلع التي يتم إنتاجها تحت ظروف معدل تكلفة متناقص أن يكونوا هم الوحيدون الذين يستفيدون من إعادة التوزيع هذه؟ السبب الذي يجعل البروفيسور هوتلينغ لا يرى ضرراً كبيراً في استخدام سياسة تسعير باعتبارها، جزئياً، وسيلة لإعادة توزيع الدخل، هو، في اعتقادي، أنه لا يقيم وزناً للفرق بين مستهلكين لمنتجات تم إنتاجها تحت ظروف معدل تكلفة متناقص ومستهلكي منتجات تم إنتاجها تحت ظروف معدل تكلفة ثابت أو متزايد. وهو يحاجج بأن حكومة تقوم بتنفيذ سياساته ستقوم بتنفيذ أشغال عامة متنوعة للغاية… “إن توزيعاً عشوائياً تقريبياً سيكون كافياً جداً لضمان أن توزيعاً كهذا للفوائد سيجعل معظم الأشخاص في كل جزء من البلاد أفضل حالاً نتيجة للبرنامج ككل”. هذا يعني القول إنه في نظام تسعير تكلفة هامش سيشتري جميع المستهلكين سلعاً تم إنتاجها في ظروف معدل تكلفة متناقص؛ أي أن ما يفقده مستهلك معين في إعادة التوزيع التي تتضمنها خطة ما سيتعادل نتيجة لإعادة التوزيع الناجمة عن خطة أخرى؛ وأنه نتيجة لذلك، فإن إعادة التوزيع الجوهرية ستكون من الأغنياء والملاك للآخرين جميعاً.
الواقع أنه سيكون نوعاً من الحذلقة الاعتراض على تحقيق هدف مرغوب به لمجرد أنه تحقق بطريقة غير عادية. ولكن هذه الجدلية تصمد أو تسقط عن طريق الافتراض بأنه لن تكون هناك إعادة توزيع جوهرية بين مستهلكي أنواع مختلفة من المنتجات. ليس هناك سبب يدعو للافتراض بأن الأمر سيكون كذلك. إن المكسب الذي قد يستمده مستهلكون أفراداً من سياسة هوتلينغ/ليرنر سيعتمد على مدى استعدادهم لدفع التكلفة الكلية لمنتجات تم إنتاجها تحت ظروف معدل تكلفة متناقص (حسب دخلهم الأولي)؛ وعلى الاختلاف المطلق بين معدل التكلفة وتكلفة الهامش في حالة هذه السلع؛ وعلى المدى الذي تم فيه صرف الدخل الإضافي المتحقق نتيجة لسياسة هوتلينغ/ليرنر على سلع تم إنتاجها تحت ظروف معدل تكلفة متناقص؛ وعلى الاختلاف المطلق بين معدل التكلفة وتكلفة الهامش في هذه الحالات. سيكون بالإمكان تقدير طبيعة إعادة التوزيع فقط بعد إجراء تحقيق واقعي مفصل. إلا أنه لا يبدو هناك سبب للافتراض بأنها ستكون إعادة توزيع عديمة القيمة.

تبين صناعات المرافق العامة بعض أكثر الحالات المدهشة لمنتجات تم توفيرها تحت ظروف معدل تكلفة متناقص. لنفترض أنها الصناعات الوحيدة التي توجد فيها هذه الظروف. المستهلكون الذين يعيشون في مناطق ذات كثافة سكانية منخفضة لن يكونوا مستعدين على الأرجح لدفع كامل تكاليف توفير خدمات المرافق العامة والتي ستكون بالنسبة لهم مرتفعة جداً ولن يستفيدوا شيئاً، نتيجة لسياسة هوتلينغ/ليرنر، لأنه لن يتم توفير الخدمات لهم. أما المستهلكون الذين يعيشون في المدن فسيجدون أن مكاسبهم محدودة لأنه، وفي ضوء الاستخدام المكثف نسبياً للمعدات هناك، فإن الاختلاف بين معدل التكلفة وتكلفة الهامش سيكون على الأرجح أقل منه في أماكن أخرى؛ وحيث أنهم ربما كانوا يستخدمون أصلاً جميع خدمات المرافق العامة، فإن من المحتمل أن يتم إنفاق الدخل الإضافي على أشياء أخرى عدا خدمات المرافق العامة. أعتقد أن أكثر من يحتمل أن يحققوا أكبر فائدة من سياسة هوتلينغ/ليرنر هم أولئك الذين يقطنون في بلدات صغيرة تتوفر فيها بعض، وليس كل، خدمات المرافق العامة وحيث يوجد اختلاف كبير بين معدل التكلفة وتكلفة الهامش. لست أرى سبباً للافتراض بأنه لن يكون هناك بعض إعادة توزيع، وربما بنسبة كبيرة جداً بسبب هذه السياسة إذا تم تطبيقها بشكل عام. البروفيسور هوتلينغ يعترف بهذا الاحتمال ولكنه يدعي بأنه بإعادة توزيع لاحقة فقد تنشأ حالة يصبح فيها الجميع أفضل حالاً مما كانوا عليه من قبل. وهو لا يصف كيف سيتم حدوث إعادة التوزيع هذه، ولكن من الواضح أنها ستكون ترتيبات أقل شأناً من تبني نظام تسعير متعدد الجوانب مما يجعل من غير الضروري أن تكون هناك إعادة توزيع في مرحلة لاحقة على الإطلاق. بيد أنني لا أستطيع فهم كيف أنه قد يكون من الممكن استخدام إجراءات الضرائب العادية لإعادة توزيع الدخل من مستهلكين لسلع تم إنتاجها تحت ظروف معدل تكلفة متناقص إلى جميع المستهلكين الآخرين. يمكن القيام بمحاولة لعمل ذلك من خلال ضريبة على استهلاك سلع تم إنتاجها تحت ظروف معدل تكلفة متناقص. ولكن هذا سيكون إما مساوياً لاعتماد تسعير متعدد الجوانب (إذا تم فرض ضريبة كلية على المستهلكين) أو، إذا تم فرض ضريبة على وحدة الاستهلاك الواحدة، سيحدث فرقاً بين القيمة المدفوعة للوحدات الإضافية وتكلفة الهامش وهي نتيجة يهدف حل هوتلينغ/ليرنر إلى تجنبها.

أتحول الآن إلى الاعتراض الثالث على حل هوتلينغ/ليرنر. يقال بأنه يمكن تعويض الخسارة الحاصلة عن طريق زيادة الضريبة. الضرائب التي يفكر فيها البروفيسور هوتلينغ والآخرون الذين يؤيدون هذا الحل هي الضرائب على الدخل وعلى الميراث وعلى العقار. لنفترض الآن أن نوع الضريبة التي ستعوض الخسارة هي ضريبة الدخل، ولكن ضرائب الدخل عادة تُعدّ بحيث يتم فرض الضريبة على وحدات هامشية من الدخل، ولذلك فإن ضريبة الدخل سيكون لها نفس التأثير السيء على اختيارات المستهلكين كضريبة على السلع وستؤدي إلى نتائج مشابهة في طبيعتها لتلك النتائج التي تنجم عن زيادة في السعر مقابل وحدات إضافية من الناتج تزيد عن تكلفة الهامش. يبدو أنه قد تم لفت انتباه البروفيسور هوتلينغ، بعد ظهور مقاله الأول، إلى هذه النقطة من قبل البروفيسور ليرنر. يقول البروفيسور هوتلينغ في مناقشة مع البروفيسور فريش تلت مقاله الأول “بأن ضريبة الدخل من النوع العادي هي نوع من الرسوم على الجهد وعلى الانتظار إضافة للوسائل الأخرى، الأقل إمكانية للدفاع عنها، للحصول على دخل. ضريبة الدخل مرفوضة إلى حد ما لأنها تؤثر على الخيارين—الجهد والراحة والخيار بين الاستهلاك الفوري والمؤجل. تبعاً لذلك، يلحق بعض من نفس نوع الخسارة اللاحقة بضريبة الدخل بالرسوم المشار إليها. ما مدى شدة هذا التأثير، هو سؤال مطروح للدراسة الواعية؛ إلا أن هناك ما يدعو للافتراض بأن ضريبة دخل أكبر من ضريبة الرسوم على السلع الفردية في هذا المجال…”(4). البروفيسور هوتلينغ لا يعطي أي تبرير لاعتقاده أن ضرائب الدخل تميل لأن تكون أقل ضرراً في هذا المجال من ضرائب الرسوم. قد يكون الأمر كذلك فعلاً، ولكن من الواضح أن من المرغوب به معرفة ما هي الظروف التي تكون فيها ضريبة الدخل أقل ضرراً ومتى من المحتمل أن نجدها قبل تطبيق حل هوتلينغ/ليرنر، هذا إذا كان لهذه السياسة أن تؤدي إلى زيادات في ضرائب الدخل(5). يحاول البروفيسور هوتلينغ تجنب هذه الصعوبة عن طريق الإيحاء بأن “الواردات العامة، بما في ذلك تلك المطلوبة لتشغيل صناعات ذات مبيعات بتكلفة الهامش، ينبغي أن تُستمد بصورة رئيسية من تأجير الأراضي وسلع نادرة أخرى ومن ضرائب الميراث والأرباح غير المحسوبة ومن ضرائب مصممة لخفض الاستهلاك المضر اجتماعياً”. هذا ليس حلاً مرضياً للغاية، فهو يفترض أولاً أن ضرائب كهذه ستكون كافية لجمع المبلغ المطلوب. وهذا الحل يفترض، ثانياً، أن الخلل في توزيع الدخل والثروة الناجم عن الضريبة الإضافية على الذين يحصلون على دخولهم بهذه الوسائل هو أفضل من الخسارة التي قد تحدث في حالة توزيع عبء الضريبة الإضافية بطريقة أكثر توازناً بسبب كل الأفراد. من جهة أخرى، فإن رأي البروفيسور هوتلينغ ينطوي على الافتراض بأن التوزيع المثالي للدخل والثروة لم يتم تحقيقه أصلاً وأن الذين يحصلون على دخولهم بهذه الوسائل لم تكن قد فرضت عليهم ضرائب كافية في الماضي. ولكن بالطبع، وإذا كان الأمر كذلك، فإن هذه الضريبة الإضافية مرغوبة بغض النظر عن مسألة سياسة التسعير وليس هناك ضرورة تذكر لربطها بمسألة التسعير تحت ظروف معدل تكلفة متناقص. إضافة لذلك، يبقى السؤال حول الكيفية التي ينبغي أن يتم بها حل مسألة التسعير عندما يتم التوصل إلى توزيع مثالي للدخل. إن اقتراح البروفيسور هوتلينغ لتجنب الخسارة التي قد تنجم عن زيادة ضرائب الدخل هو اقتراح محدود التأثير.

لقد قارنت في هذا الفصل نتائج استخدام نظام تسعير متعدد الجوانب مع تلك التي قد تنتج عن سياسة هوتلينغ/ليرنر. لقد أظهرتُ أن حل هوتلينغ/ليرنر سيؤدي إلى سوء توزيع لعوامل الإنتاج وسوء توزيع للدخل وربما إلى خسارة مشابهة لتلك التي تم تصميم الخطة لتجنبها ولكنها ناشئة عن تأثيرات زيادات ضريبة الدخل. يمكن تجنب هذه النتائج باستخدام نظام تسعير متعدد الجوانب.

تسعير معدل التكلفة مقارنة بحل هوتلينغ/ليرنر

يبدو أن البروفيسور هوتلينغ، والبروفيسور ليرنر، والسيد ميد والسيد فليمنغ لم يدركوا بأن كثيراً من المشاكل التي كانوا يحاولون إيجاد حل لها كان يمكن التعامل معها بوسائل التسعير المتعدد وأن هذا النظام في التسعير من شأنه في الواقع تحقيق نتائج لن تكون عرضة للاعتراضات التي يمكن طرحها ضد حل هوتلينغ/ليرنر. ولكن، وإنصافاً لهم، فتجب الإشارة إلى أن النقد كان موجهاً ضد فرض سعر مفرد يستند إلى معدل تكلفة وليس ضد تسعير متعدد الجوانب. هل الجدل صحيح في هذه الحالة؟ إذا لم يكن التسعير متعدد الجوانب ممكناً، أليس من الأفضل تبني حل هوتلينغ/ليرنر بدلاً من تبني أسعار تستند إلى معدل التكلفة؟

ثمة دعم قوي في هذه الحالة لوجهة النظر التي تتبنى حل هوتلنغ/ليرنر من ناحيتين: أولاً، وقبل كل شيء، فمن الواضح أنه إذا لم يُسمح للمستهلكين بشراء وحدات إضافية حسب تكلفة الهامش، فسيكون هناك سوء توزيع لعوامل الإنتاج. وقد بحثنا في فصول سابقة في طبيعة الكسب الذي قد يتجمع في هذه الناحية من خلال تبني حل هوتلينغ/ليرنر(6). أما الناحية الثانية التي تتلقى فيها وجهة النظر التي تتبنى حل هوتلينغ/ليرنر دعماً فهي تتعلق بفعالية تسعير معدل التكلفة في توفير اختبار سوقي لمدى استعداد المستهلكين لدفع كامل التكاليف. وقد أشرتُ في الفصل السابق إلى أن التسعير متعدد الجوانب يوفر اختباراً كهذا. كيف ينطبق ذلك على حالة تسعير معدل التكلفة؟ إن حقيقة أن المستهلكين مستعدون للشراء بسعر يغطي معدل التكلفة يبين بالتأكيد بأنهم يفضلون الحصول على قيمة تلك العوامل بتلك الصيغة بدلاً من أي صيغة أخرى متوفرة لهم. الصعوبة، كما يوضحها البروفيسور هوتلينغ، أن العكس ليس هو الصحيح. لقد كان معروفاً للاقتصاديين منذ زمن طويل بأنه في الحالات التي يقع فيها منحنى الطلب في كل نقاطه تحت منحنى معدل التكلفة، فقد يكون من الممكن، عن طريق التمييز في الأسعار، رفع معدل الواردات بما يكفي لوصولها إلى مستوى معدل التكلفة. فإذا كان التسعير، تبعاً لذلك، هو على أساس معدل التكلفة، فستكون هناك حالات معينة قد يكون فيها المستهلكون مستعدين لدفع التكلفة الكاملة، ولكن ذلك غير ممكن بسبب التحديدات لهذا الأسلوب بالذات في التسعير. يمكن مباشرة الإنتاج في هذه الحالات إذا تم انتهاج سياسة هوتلينغ/ليرنر.

هذه هي ميزات حل هوتلينغ/ليرنر مقارنة بتسعير معدل التكلفة، ولكن تبقى أوجه القصور التي تم بحثها في الفصل السابق. ينبغي موازنة الميزات وأوجه القصور مقابل بعضها البعض. الميزة الأولى المتوفرة في حل هوتلينغ/ليرنر، مقارنة بتسعير معدل التكلفة، هي أنها تسمح باختيار أفضل على الهامش في الاستهلاك. ولكن قد تنخفض قيمة هذه الميزة وربما تتوازن مع الخسارة التي ستحدث إذا ما تضمن حل هوتلينغ/ليرنر زيادة في ضرائب الدخل. الميزة الثانية هي أن حكومة ما قد تتولى الإنتاج في حالات يكون فيها المستهلكون مستعدين لدفع التكلفة الكلية ولكن قد لا تتولى إنتاجها في حالة تسعير بمعدل التكلفة. إلا أنه ينبغي التذكر بأن هذه السياسة هي التي تقوم فيها الحكومة بتقدير الطلب الفردي وأنها لذلك تتأثر بالتحديدات التي بحثناها في الفصل السابق. ليس من الضروري تولي الإنتاج في كل الحالات التي لا يتم فيها الإنتاج وفقاً لسعر معدل التكلفة. إن حكومة ارتكبت أخطاء عديدة في تقديراتها حول الطلب الفردي يمكن لها بسهولة أن تمحو أي أثر طيب قد ينتج عن سياسة كهذه. تسعير معدل التكلفة قد يمنع عمل أشياء ربما كان يجب عملها، ولكنه أيضاً وسيلة لتجنب ارتكاب أخطاء معينة في الإنتاج، وبعضها لا يمكن تجنبه في حالة اتباع سياسة هوتلينغ/ليرنر. وكما أشرت سابقاً فإني لا أعتقد أنه من المنطق الافتراض بأن بوسع الحكومة إجراء تقديرات دقيقة للطلبات الفردية إذا كانت جميع الأسعار تستند إلى تكلفة الهامش. أخيراً، هناك إعادة توزيع الدخل والثروة التي يتضمنها حل هوتلينغ/ليرنر والذي قد يبدو، كما أشرت في الفصل السابق، من الصعب تسويته في غياب تسعير متعدد الجوانب دون إعادة العمل بذلك النوع من الضرائب الذي سيمنع الخيار المنطقي على الهامش، وهو ما يهدف حل هوتلينغ/ليرنر لتحقيقه.

سيتضح من البحث في هذا الفصل أن مسألة تسعير معدل التكلفة مقابل حل هوتلينغ/ليرنر لا تشكل حالة محددة تماماً. تبعاً لذلك، يجب رفض الادعاء باعتبار حل هوتلينغ/ليرنر متفوقاً بصورة مؤكدة على تسعير معدل التكلفة.

المشاكل الباقية

بحثتُ في هذا المقال مشكلة التسعير تحت ظروف معدل تكلفة متناقص، إلا أنني ألزمت نفسي بحالة واحدة محددة تكون فيها جميع التكاليف متعلقة بمستهلكين أفراداً والتي تم تحمل التكاليف فيها حالياً. وقد أظهرتُ، في ضوء هذه الافتراضات، أن حل هوتلينغ/ليرنر هو دون مستوى تسعير متعدد الجوانب، وأنه بمقارنته بمعدل سعر التكلفة، فإن توازن المنفعة ليس واضحاً. ويبدو أن الخطوات التالية ستكون فحص مشكلة التسعير عندما تكون هناك تكليف مشتركة. إذا كان هناك تكاليف لا يمكن عزوها لمستهلكين أفراداً، فهل يبرز حل هوتلينغ/ليرنر عندئذ كحل قائم بذاته؟ هل ينبغي تحميل تكاليف كهذه على الضرائب؟ أم هل أن المقاربة الصحيحة هي اكتشاف بعض الأسس التي ينبغي أن يتم وفقاً لتوزيع هذه التكاليف على المستهلكين؟ أخيراً، هناك مسألة المصاريف التي تم دفعها فعلاً مقابل العوامل. هل ينبغي تحميل هذه المصاريف على الضرائب؟ أم هل يتحملها المستهلكون؟ إذا تم قبول التحليل الذي ورد في هذا الفصل، فيبدو أن هذه الأسئلة هي ما يجب أن تكون موضوعاً للبحث في المرة القادمة.

ملاحظات:

(1)   يجب ألا تكون هناك قابلية للتجزئة في جميع الحالات التي تتراجع فيها معدلات التكاليف. ورغم أني أفترض أنه من غير الممكن استخدام أقل من ناقل واحد، فقد يكون من الممكن افتراض أن خدماته متوفرة بمرونة تامة من حيث أن أجوره ستتنوع وفقاً للزمن الذي عمل خلاله وأن استخدام ناقلين إضافيين لن يرفع مستوى أجورهم.
(2)   الافتراض بأن إجمالي التكاليف يتكون من نوعين متمايزين أحدهما يدخل في تكلفة الهامش بينما لا يدخل الآخر في هذه التكلفة ليس افتراضاً أساسياً. كان بوسعنا افتراض ازدياد تكاليف النقل بازدياد عدد الوحدات المنقولة ولكن أن تكاليف الهامش للنقل كانت دون المعدل. بيد أن ذلك سيساعد في الإيضاح إذا التزمنا بالافتراض الأصلي.
(3)   هذا يفترض بأن الضرائب التي تقتطع منها الخسائر لا تقع كلياً على مستهلكي سلع تم إنتاجها تحت ظروف معدل تكلفة متناقص. الأمر كذلك، بالطبع، لأن من المقترح أن تكون الضرائب المستخدمة هي ضرائب دخل وضرائب مماثلة.
(4)   أود أن أضيف أيضاً بأن ضرائب الدخل تؤثر أيضاً على الخيار بين أن يقوم المرء بعمل ما بنفسه أو توظيف شخص ما للقيام به له، وبالتالي فإن ضريبة الدخل تبدد بعض مزايا التخصص.
(5)   يبدو أنه قد تم إهمال هذه المشكلة في النظرية المالية العامة. تفترض المناقشات العادية لعبث الضرائب غير المباشرة بأن البديل هو دفعة كاملة واحدة.

(6)   قد يتبادر للذهن أنه لو تم تسعير جميع السلع على اساس معدل التكلفة، بحكم أن جميع الأسعار سترتفع فوق مستوى تكلفة الهامش، فإن خيارات المستهلكين لن تتأثر. يصح ذلك فقط في حالة رفع السعر بصورة متناسبة مع تكلفة الهامش، وهذا ما يستبعد في الغالب أن يكون صحيحاً.

© معهد كيتو، مصباح الحرية، 17 كانون الثاني 2008.

peshwazarabic6 نوفمبر، 20100

أليس من المثير للعجب أن غير الأمريكيين يواصلون استثمار مدخراتهم في الولايات المتحدة في حين أن الحكمة التقليدية كانت تقول أن الدولار سيستمر في التراجع؟ فلماذا يستثمر الأشخاص العقلانيون في أصلٍ آخذ في الانهيار؟ هل يفهمون شيئا لا يفهمه السياسيون والمعلقون؟
لقد نشرت الولايات المتحدة الشهر الماضي تقريرا آخر بأن قيمة الأصول التي يمتلكها الأجانب في الولايات المتحدة تتجاوز قيمة الأصول الأجنبية التي تمتلكها الولايات المتحدة (بحوالي 2.5 تريليون دولار)، وقد تراجع الدولار ليسجل أدنى مستويات له أمام اليورو. وقد تعامل بعض السياسيين والإعلاميين مع هذه الأحداث الإخبارية على أنها كارثة قومية. وفي الواقع، لا يشكل الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة مشكلة ولا يعني أن الدولار سيتراجع أو يرتفع نسبة لأي عملة أخرى.
والأسباب التالية سوف تفسر كل هذا. إن السبب الذي يجعل الأفراد أو الشركات أو الحكومات “تدخر”—أي تُنفق أقل مما تجني في وقت ما—هو السماح بمعدل إنفاق أعلى في المستقبل. وعادة يدخر الأفراد المال خلال السنوات التي تكون فيها عائداتهم مرتفعة قبل التقاعد حتى يتمكنوا من الإنفاق أكثر بعده.
والآن فلنفترض أن شخصا نرويجيا غنيا (أو إن أردت بديلا ألمانيا أو يابانيا أو صينيا) يريد أيضا أن يدخر المال لحين تقاعده. إن النرويج بوصفها دولة صغيرة غنية بالنفط، لا تتمتع بكثير من فرص الاستثمار المحلي. لذا سيرغب النرويجي بتنويع مخاطرته بالاستثمار في بلدان أخرى. وتبدو الولايات المتحدة مغرية بالنسبة له لأنها تتمتع بأقوى اقتصاد في العالم، بالإضافة إلى حكم القانون وأنظمة حماية قوية للملكيات الخاصة، كما أنها لا تفرض على المستثمرين الأجانب دفع ضرائب على فوائدهم الناتجة من الاستثمار أو على أرباح الأسهم أو رأس المال.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن للنرويجيين أيضا تأجيل أي التزام ضريبي نرويجي فوري بشكل قانوني وسليم عن طريق القيام باستثماراتهم من خلال جنات ضرائبية خارج البلاد، مثل جزر الشانيل أو برمودا أو جزر كايمان (لأن النرويج مثل معظم الدول وبعكس الولايات المتحدة لديها نظام ضريبة إقليمي).
وعلى المستثمر النرويجي أولا الحصول على الدولارات الأمريكية قبل البدء في الاستثمار، لذا يذهب إلى البنك ويبتاع الدولارات بالكرون النرويجي. وربما يكون البنك قد اشترى دولاراته من شركة نفط نرويجية تبيع النفط للولايات المتحدة. فلنفترض أن النرويجي اشترى بدولاراته سندات مالية حكومية أمريكية وأسهما في شركات أمريكية ومسكنا على شاطئ ميامي. فعندما تدفع الحكومة الأمريكية الفوائد على السندات المالية فهي تدفع بالدولار، كما هو الحال بالنسبة للشركات الأمريكية عندما تدفع أرباح الأسهم؛ ولا يهم من هي الجهة التي تتلقى الدولارات.
وفعليا يتخذ ملايين آخرون من المستثمرين الأجانب (بمن فيهم الأفراد والشركات والحكومات) قرارات مشابهة كل عام. وكل مستثمر لديه وضع محلي مختلف ورغبات مختلفة واختيارات مختلفة للوقت؛ بالتالي لن يبيعوا جميعهم أصولهم الأمريكية في الوقت ذاته. (وعلى الرغم من الاحتباس الحراري العالمي، سيستمر طقس شهر كانون الثاني في ميامي بالتحسن أكثر من طقس أوسلو في القرون القليلة المقبلة!).
وعندما يبيع المستثمرون الأجانب أصولهم، فهم يجنون الدولارات. والشيء الوحيد الذي يمكنهم (أو يمكن لأي أحد يشتري دولاراتهم) فعله بالدولارات هو شراء البضائع والخدمات الأمريكية أو إعادة الاستثمار في الولايات المتحدة؛ وفي كلتا الحالتين، فهو صافي الربح بالنسبة للولايات المتحدة.
إن تذبذب العملات تسببه التغيرات في أسعار الفائدة والتضخم ومعدلات الربح والسياسة الضرائبية والإنفاق والتغيرات المدركة في الخطر الناشئ بين البلدان. فإذا ارتفع الدولار أمام اليورو، سوف يشعر الأوروبيون برغبة أكبر في الاستثمار في العقارات الأمريكية وسوف يشترون بصورة متزايدة البضائع والخدمات الأمريكية، بينما سيواجهون صعوبة أكبر في بيع بضائعهم في الولايات المتحدة، وهو ما يؤدي في مرحلة ما إلى تراجع اليورو أمام الدولار.
لقد استثمر أهالي نيويورك في فلوريدا أكثر مما استثمر أهالي فلوريدا في نيويورك لمدة قرن، وكان هذا في مصلحة فلوريدا. هذا وقد استثمر الأوروبيون في أمريكا فيما يزيد عن السنوات الأربعمائة الماضية أكثر مما استثمر الأمريكيون في أوروبا، وهذا في مصلحة أمريكا.
ويحتمل على المدى البعيد أن تتمتع الولايات المتحدة بمعدلات نمو أعلى من أوروبا بسبب الديموغرافيات المستحبة بشكل اكبر، وإلى درجة ما العوائق الضرائبية والتنظيمية الأقل. كما يحتمل أن يتواصل استقرار الولايات المتحدة السياسي وأن تبلي بلاء حسنا في حماية حكم القانون وحقوق الملكية أكثر من معظم الدول الأخرى في العالم. وسوف ترتكب الولايات المتحدة في بعض الأعوام أخطاء تتعلق بالسياسة العامة—مثل زيادة الإنفاق الحكومي أو السماح بانتهاء صلاحية تخفيضات الضرائب التي أقرها بوش. ولكن على المدى الطويل، تبقى الولايات المتحدة الرهان الأضمن.
وأخيرا، فإن الولايات المتحدة بخلاف كثير من الدول الأخرى، تمتلك معظم أصولها والتزاماتها بعملتها. وتُوقع الدول نفسها في المتاعب عندما تشتري أصولها بعملتها وكثيرا من التزاماتها بعملات أخرى (مثل الدولار). لذا لا يشكل فرقا كبيرا ما إذا كان شخص من نيويورك أو لندن يمتلك شقة في ميامي، أو ما إذا كان شخص من تكساس أو فرانكفورت يمتلك أسهما في شركة عالية التقنية في فرجينيا—لأنها جميعها بالدولار.
ولا يجدر بـ”عجز” الولايات المتحدة التجاري أن “يصحح” نفسه أكثر مما يفعل “عجز” فلوريدا التجاري مع نيويورك—ويمكن أن يستمر ذلك لقرون.
وعلى فكرة، فإن رهاني هو أن الدولار سيرتفع أمام اليورو بعد سنة من الآن!
© معهد كيتو، منبر الحرية، 26 أيلول 2007.

peshwazarabic6 نوفمبر، 20100

أعلن مدير صندوق النقد الدولي رودريغو دو راتو، بضجة كبيرة، أن الصندوق قد تبنى مبدأ إشراف ثنائي الجانب قائم على مفهوم تشجيع “الاستقرار الخارجي”. ويُفترض أن يزود هذا المبدأ الدول الأعضاء في الصندوق البالغ عددها 185 دولة—لا سيما الصين—بـ”توجيه واضح… حول الطريقة التي يجب أن تدير بها سياساتها المتعلقة بأسعار الصرف” و”حول ما هو مقبول بالنسبة للمجتمع الدولي”.
والمشكلة هي أن الصندوق لم يتقيد مسبقا بمبدأ حازم سواء فيما يتعلق بأسعار الصرف المُعوَّمة بحرية أم الأسعار الثابتة حقا (كما هو بموجب معيار الذهب ما قبل 1914). وسوف تخفف واحدة من آليتي التعديل الأوتوماتيكيتين هاتين من الحاجة إلى الصندوق، والذي كان الهدف منه في الأساس الحفاظ على نظام نقدي دولي قائم على “القيم الإسمية” وأيضا تعديل هذه القيم فقط في حال “عدم التوازن الأساسي” في ميزان مدفوعات دولة ما.
إن فشل الصندوق في منع أزمة العملات الآسيوية في 1997-1998 نشأ أساسا من التقيد بالنظام الشائب لأسعار الصرف المثبتة تحت إشراف صندوق النقد الدولي. وتؤكد تلك الخبرة طبيعة الصندوق السياسية بوصفه مؤسسة متعددة الجوانب—وبالتالي الحاجة إلى مبادئ وسطية—بدلا من تأكيدها على قدرته في تطبيق قواعد قائمة على السوق.
وثمة أربعة “مبادئ” يتضمنها “قرار الصندوق لعام 2007 حول الإشراف ثنائي الجانب”: (1) “تتجنب الدولة العضو التلاعب بأسعار الصرف… من أجل كسب ميزة تنافسية غير عادلة على الدول الأعضاء الأخرى”، (2) “تتدخل الدولة العضو في أسواق الصرف إن تطلب الأمر لمواجهة الأوضاع المخلة بالنظام”، “تأخذ الدول الأعضاء بعين الاعتبار في سياساتها المتعلقة بالتدخل مصالح الدول الأعضاء الأخرى”، و(4) “تتجنب الدولة العضو سياسات أسعار الصرف التي ينتج عنها عدم استقرار خارجي”.
إن واحدا من الأهداف الرئيسية للقرار الجديد هو توضيح معنى “التلاعب بأسعار الصرف”. وهذا يعني الآن أن الدولة تحتفظ لهدف ما “بسعر صرف منخفض القيمة”، أو ما يسميه الصندوق “انحرافا أساسيا في أسعار الصرف”، وذلك لتحقيق تبادل متواصل أو فائض في الحساب الجاري. ويوحي هذا التفسير أن عجزا في التبادل المتواصل ثنائي الجانب هو أمر سيء—وهو مبدأ سياسي “ميركنتلي”.
إن المشكلة، كما تعترف “لائحة حقائق صندوق النقد الدولي”، هي أنه في حين أن “مفهوم الانحراف واضح، فهو يخضع لشكوك كبيرة متعلقة بالقياس”. وبالطبع لا أحد يعلم ما هو سعر الصرف المتوازن في غياب حرية أسعار الصرف ورأس المال. ولا يوجد مخطط مركزي أو اقتصادي من صندوق النقد الدولي يمتلك معلومات تمكنه من حساب “الانحراف الأساسي” بدقة. لهذا ليس من المدهش أن القرار الجديد لا تدعمه آلية تنفيذ غير المراوغة قديمة الطراز.
وبخلاف قرار صندوق النقد الدولي، فإن مشروع قانون جديد من مجلس الشيوخ قدمه تشارلز شومر من نيويورك وثلاثة آخرون من كبار أعضاء مجلس الشيوخ من شأنه أن يسمح بفرض رسوم لمكافحة الإغراق على البلدان ذات العملات المنحرفة بشكل أساسي. ويشعر الكونغرس بعدم الصبر تجاه تقدم الصين في جعل اليوان يرتفع أمام الدولار. فمنذ عام 2005، ارتفع اليوان نحو 2.8% فقط. وعلى الرغم من أن لا قرار صندوق النقد الدولي ولا مشروع قانون مجلس الشيوخ يستثني الصين، فلا شك من هوية المسيء الرئيسي “للاستقرار الخارجي” في عقول وقلوب “الصقور” ومؤيدي حماية الانتاج الوطني الأمريكي.
وقال السيناتور شومر، الذي أراد في السابق من واضعي القانون فرض تعرفة تبلغ 27.5% على جميع البضائع الصينية إلا إذا أعادت بكين تقدير قيمة اليوان: “لقد لفت التشريع السابق انتباه الصين؛ والهدف من هذا التشريع الجديد هو إحداث التغيير”. ولفعل هذا، سوف تُجبر وزارة المالية الأمريكية على الإبلاغ عما إذا كانت الصين لديها “عملة منحرفة” تهدف إلى ترويج الصادرات. ويفترض أن تكون تلك المهمة أسهل من تحديد ما إذا كانت الصين “تتلاعب” بعملتها لصالح منفعة تجارية.
يجب أن يكون الكونغرس حذرا فيما يتمناه: فإن ارتفاع اليوان أمام الدولار بنسبة 20% أو أكثر من شأنه أن يفرض تكاليف أعلى على ملايين المستهلكين الأمريكيين، وما ينذر بالشؤم أنه قد يؤدي إلى أسعار فائدة أمريكية أعلى، وهو ما يمكنه أن يؤدي إلى انهيار البورصة وزيادة الضعف في سوق العقارات. ويمكن أن يساعد الركود في تقليص العجز الراهن في الحسابات الأمريكية، ولكنه لن يكون آخذا بالصعود بالنسبة للكونغرس.
إن فائض الحساب الجاري للصين يعكس عدم توازن في الادخار والاستثمار المحليين، وحساب رأس مال مغلق، وسعر صرف منخفض القيمة. وحقيقة أن الأسر والشركات الصينية توفر جزءا كبيرا من مدخولها يعكس بشكل كبير أسعار الفائدة المنحرفة والكبت المالي في الصين، بحيث تسيطر البنوك والشركات التي تمتلكها الدولة على أسواق رأس المال.
يدرك صندوق النقد الدولي أن الاستقرار الخارجي يحتاج إلى استقرار محلي وأن للمؤسسات دورا هاما. والنظام الذي تحتاجه الصين أكثر من أي شيء آخر هو حكم قانون شفاف يحمي الأشخاص والملكية من أي دولة دخيلة ويقلل الفساد. ولكن هل يصدق أحد حقا أن أيا من صندوق النقد الدولي أو الكونغرس الأمريكي يمكنه أن يُحدث ذلك التغيير الكبير في الصين؟
© معهد كيتو، منبر الحرية، 12 أيلول 2007.

peshwazarabic6 نوفمبر، 20100

ثورة الهاتف النقال التي حولت العالم يمكن أيضاً تحويلها إلى ثورة مصرفية. تستخدم الهواتف النقالة في العديد من الدول للإيداعات والتحويلات على نطاق ضيق. هذا يمكن تحديثه ليصبح تصميم البناء الجديد للبنك في القرن الواحد والعشرين.
أكبر نموذج مصرفي محتمل، كما يسمى، هي الهند حيث تنمو توصيلات الهواتف النقالة بمعدل ضخم يصل إلى 6 مليون شهرياً. لا تزال توصيلات الهاتف النقال محصورة في المدن بشكل كبير، لكن السياسة الجديدة قدمت حوافز لشركات الاتصالات لتركيب أبراج الهواتف النقّالة في المناطق الريفية حيث يعيش 70% من الهنود. ويتوقع مزودو الخدمة أن يصل عدد التوصيلات إلى 500 مليون خلال خمس سنوات.
يمكن للهواتف النقالة أن تفتح حسابات افتراضية في بنوك افتراضية. ويمكنك أن تنظر إلى رصيد حسابك المصرفي النقال، وأن تصدر التعليمات عن طريق الرسائل الخطية. كما يمكن ضمان السرية من خلال كلمات السر المتعددة. حتى القرويين الذين لا يملكون هواتف نقالة يمكنهم أن يستخدموا—بالمجان—هواتف أصحاب المحال التجارية، الذين تطوروا، دون ذكاء، إلى أمناء صناديق حقيقيين في بنوك حقيقية.
عندما يدفع الزبون نقداً إلى صاحب المحل التجاري لإعادة شحن رصيده يكون ذلك بمثابة إيداع نقدي في حساب مصرفي افتراضي. يمكن للزبون أيضاً سحب مبلغ نقدي بالمجان حيث يقوم صاحب المحل بتحويل المبلغ من الحساب النقال للزبون إلى حسابه الخاص ومن ثم يدفع للزبون نقداً. ويمكن توسيع هذه العملية لتشمل تسديد الفواتير.
لكن إذا كان على شركات الاتصالات الهندية أن تقدم خدمات مصرفية عن طريق الهاتف النقال، ينبغي عليها أن تحصل على موافقة الجهة الرقابية، من بنك الاحتياطي الهندي، والذي يتخوف من أن تصبح البنوك أهدافاً لغسيل الأموال. لذلك يصر البنك على سياسة متشددة وهي: “إعرف عميلك”. يتغاضى بنك الاحتياطي عن المبالغ الصغيرة المحولة من خلال شبكة صاحب المحل، ولكنه لن يسمح لشركات الاتصالات بالتطور وتقديم حسابات مصرفية رسمية وإيداعات بالفائدة وخدمات مصرفية أخرى.
كما فعلت الجهات الرقابية على المصارف في دول مثل كينيا وجنوب إفريقيا، من المحتمل أن يصر بنك الهند الاحتياطي على شركات الاتصالات أن تتعاون مع بنك مرخص قبل تقديم خدمات مصرفية رسمية.
مع ذلك يوجد لدى بنك الاحتياطي الهندي سبب وجيه لتشجيع الخدمات المصرفية بواسطة الهاتف النقال، ولقد تحدث منذ زمن طويل عن الفكرة الخيالية بوجود حساب مصرفي لكل عائلة، حتى في المناطق الريفية. كان هذا أمل كاذب نظراً للتحديدات المفروضة على شبكة فروع البنك. لكن الخدمات المصرفية بواسطة الهاتف النقال يمكن أن تجعل الحلم حقيقة، حتى للقرويين الأميين. مثل هؤلاء الأميين لا يمكنهم التعامل مع المعاملات الورقية في بنك تقليدي، لكن يمكنهم إيداع وسحب النقود من خلال البطاقات الذكية التي يمكن إعادة شحنها بمساعدة أصحاب المحال التجارية.
بسبب إغراء الفساد، يمكن أن تنخفض المعونات المالية والتحويلات النقدية للفقراء إذا أودعت المبالغ مباشرة في حسابات المستفيدين النقالة مباشرة. فالكثير من الأموال المخصصة للفقراء لا تصلهم في هذه الأيام—وإنما “يشفطها” البيروقراطيون الفاسدون والمقاولون. الحسابات النقالة الآمنة قد تضمن أن لا تذهب الأموال إلا للمستفيدين المعنيين.
العمليات المصرفية التقليدية محدودة لأن قطاعات كبيرة من المناطق الريفية الهندية تفتقر إلى الكهرباء وحتى القرى التي تصلها خدمات الكهرباء، يصلها التيار لفترة تتراوح من ست إلى ثمان ساعات في الليل. لكن الهواتف الخلوية بإمكانها التغلب على هذه العقبة إذ تحتاج إلى القليل من الكهرباء ويمكن شحنها في الليل.
استخدمت شركات التسويق في المناطق الريفية البطاريات التي تعمل بالطاقة الشمسية منذ وقت طويل لتشغيل أكشاك الإنترنت في الأسواق. ويمكن لهذه البطاريات أن تشحن الهواتف الخلوية أثناء الليل، حتى بطاريات التراكتورات يمكن شبكها لشحن الهواتف الخلوية. إذاً بإمكان الهواتف الخلوية تقديم خدمات مصرفية إلى جميع المناطق الريفية في الهند.
تستخدم الهواتف الخلوية حالياً في التحويلات المالية. لقد هاجر الملايين من الريفيين الهنود إلى الدول المجاورة والخليج العربي بحثاً عن العمل ويرسلون تحويلاتهم المالية إلى الهند، لكن عائلاتهم في الهند هم على الأغلب أميين ولا تتوفر لهم سبل الوصول إلى المصارف.
تصل التحويلات المالية إلى كافة القرى في الهند عن طريق البريد، لكن العمولات عالية. الهواتف الخلوية تقوم بتحويل الأموال بطريقة أسرع وأرخص من النظام البريدي، باستخدام شبكة الإنترنت في أي محل تجاري.
هذه بداية جيدة، لكنها بحاجة إلى التطوير. وهذا يعني أن على الشركات إقامة مشاريع مصرفية جديدة عن طريق الهواتف النقالة، وعلى الجهات الرقابية أن تسمح لهم بذلك.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 22 آب 2007.

peshwazarabic6 نوفمبر، 20100

استقالة بول وولفوفيتز كرئيس للبنك الدولي يُثير مسألةً يسأل الناس عنها في كل مرة يكون فيها رئيس البنك على وشك المغادرة: من سيكون الرئيس القادم، وهل سيكون باستطاعته إصلاح الوكالة التي سيرأسها بحيث تصبح فعالة في محاربة الفقر؟ السؤال ذو دلالة حيث أنه لا أحد—سواء داخل البنك أو خارجه—يُبدي رضاءً حول أداء البنك على الرغم من الإصلاحات العديدة التي تم إدخالها على امتداد السنوات.
من السهل أن نرى لماذا هذا الشعور بعدم الرضى منتشر انتشاراً واسعاً. فالبنك غير قابل لإدارة نفسه من الناحية العملية. إنها بيروقراطية حكومية دولية تضم حوالي 10000 موظف وآلافاً آخرين من المتعاقدين والمسؤولين تجاه عشرات من الحكومات المانحة، والتي كثيراً ما تتعارض أولوياتها السياسية والاقتصادية.
إنها هيئة تعاني من أهداف متفرقة مثل مكافحة الفساد، وتنمية المساواة الجندرية، ومكافحة الأمراض، ودعم الزراعة، وخصخصة المؤسسات التي تملكها الدولة، وبناء السدود وتمويل مشاريع الإقراض الصغيرة. وهكذا، فإن البنك لا يملك تركيزاً محدداً.
وعلى النقيض من دروس التاريخ الاقتصادي، فإن نموذج التنمية الذي يروجه البنك يقوم على أساس نقل الثروة من حكومات البلدان الغنية إلى حكومات البلدان الفقيرة، والتي بشكل معتاد تفتقر إلى الشفافية أو القدرة على تنفيذ مشاريع حكومية ضخمة.
وبوجود كل هذه “الأولويات” العديدة، ليس غريباً أن القضية المركزية في البنك الدولي هي انعدام المساءلة. وفي الحقيقة، فإن الطريقة التي غادر فيها وولفوفيتز البنك بسبب أنه وافق على إعطاء زيادة كبيرة على راتب صديقته، غابت عنها الشفافية والمساءلة. فقد تم طرده بالتفاوض وراء أبوابٍ مغلقة بدلاً من التصويت العلني من قبل مجلس الإدارة، وفي حادثة حصلت تحت أنوف أعضاء المجلس، بل وباشتراكهم. وفي النهاية فقد أرغم البنك وولفوفيتز على ترك منصبه، وفي الوقت نفسه برّأه من المخالفات الأخلاقية.
ولكن أكثر أهميةً ومغزىً بالنسبة لفقراء العالم هو غياب المساءلة في وسائل الإقراض التي يتبعها البنك الدولي. فإن وكالة التنمية هذه لا تسمح بتدقيق مستقل للمشاريع التي تمولها، مع أننا نعرف بأن عدداً مذهلاً من مشاريع البنك—ما بين 20 إلى 50 بالمئة، منذ عام 1990—لم يكن قابلاً للإدامة والصمود بموجب مقاييس البنك الدولي نفسه.
في عام 2000، وجدت لجنة ميلتزر التي تضم جمهوريين وديمقراطيين من أعضاء الكونغرس الأمريكي بأن البنك الدولي لم يكن قد دَقّق إلا خمسة بالمائة من برامجه في غضون ثلاث إلى عشر سنوات من توزيع أموال البنك على تلك المشاريع. هذه المشكلة لم تجد لها حلاً بعد، الأمر الذي أدى إلى توافق عام لدى المراقبين بوجوب الاستعانة بمدققين مستقلين فعلاً لا قولاً. وكما صرحت مؤخراً نانسي بيردسول، رئيسة مركز التنمية العالمية “في غياب تقييمات حقيقية تكون شديدة ومستقلة، وبالتالي تتمتع بمصداقية، فإننا لا نستطيع أن نعرف ما هي البرامج التي نجحت. بل إننا لا نستطيع حتى القول بقناعة بأن المساعدات الخارجية نفسها يمكن أن تكون فعالة.”
البنك الدولي يقيس النجاح بحجم المساعدات التي يقدمها بدلاً من قياس النتائج. أما الضغط الداخلي على البنك لتحقيق الإقراض فهو معروف لدى المقترضين. لذا تأخذ البلدان أموال المساعدات وتَعِد بتنفيذ المشاريع، ولكن ما دام أنها تحافظ على سداد ما يترتب على اقتراضها فإن البنك يستمر في إقراضها ويستطيع أن يتباهى بمردود عالٍ على إقراضه على الرغم من نوعية تلك المشاريع التي يمولها. إن هدف المقترض والمقرض سواء بسواء هو إبقاء أموال المساعدات متدفقة. وهكذا فإن البنك كثيراً ما يعطي قروضاً جديدة قبل فترة وجيزة من مواعيد استحقاق القديمة منها (وفي الحالات النادرة عندما تعجز بلدان عن التقيد بالتزاماتها تجاه البنك فإن الولايات المتحدة وغيرها من الأمم المانحة قد قدمت في بعض الأحيان قروضاً مباشرة لتجسير قروضها تجاه البنك والتي تستخدم بدورها لتسديد البنك الدولي، والذي بدوره يستأنف عملية الإقراض.)
وفي الحقيقة فإن المشاكل الكامنة في سياسة الاقراض لدى البنك الدولي تعكس المشاكل التي تُهلك المساعدات الخارجية بشكلٍ عام. فليس هنالك علاقة بين المساعدات والنمو، ولا بين المساعدات والإصلاح. فالنجاحات الاقتصادية حدثت في بلدان مثل الصين والهند اللذان لم يتلقا سوى القليل من المساعدات الخارجية. ومن الناحية الأخرى وعندما تذهب المساعدات إلى بلدانٍ تحافظ على سياسات اقتصادية سيئة فإن النتيجة هي الوقوع في الدين وليس التنمية! هذه هي بكل تأكيد حالة بلدان الصحراء الإفريقية، حيث أدت عقود من تقديم المساعدات السخية إلى الحكومات على إفقار إقليمها كما أدت إلى تراكم ديون ضخمة عليها والتي أصبحت في نظر البنك الدولي غير قابلة للسداد، وكانت استجابة البنك لذلك برنامج “إعفاء الديون” والذي بموجبه يجمع البنك أموالاً جديدة من أجل إعطاء مزيد من القروض إلى تلك البلدان الفقيرة والاستمرار في إقراضها!
بكل تأكيد، هنالك وسائل لمساعدة البلدان الفقيرة، بما في ذلك فتح أسواقنا أمام بضائعهم وعن طريق تبادل الآراء والتكنولوجيا معها. بيد أن توجهات البنك الدولي بالنسبة لدعم التنمية هي غير مناسبة على الإطلاق، وهي حقيقة سوف نتذكرها عندما يعتزل رئيس البنك الدولي الجديد منصبه!
© معهد كيتو، منبر الحرية، 31 تموز 2007.

peshwazarabic6 نوفمبر، 20100

معهد كيتو، 2006 – إنني أفكر في فقرة في الكتاب الذي ألفه لودفيغ فون ميزس بعنوان: “الفعل البشري،” والذي يقول فيها أن اقتصاد السوق ليس بحاجة إلى مدافعين أو مروجين. ويمكن إيجاد أفضل حجة لاقتصاد السوق في النقش الموجود على ضريح السير كريستوفر فرين، المهندس الذي قام ببناء كاتدرائية القديس بول، وتم دفنه فيها: “إذا كنت تبحث عن نصب تذكاري، أنظر حولك.” أنظروا إلى ما قام ببنائه. أنظروا إلى رؤيته. إنكم تقفون فيها في هذه اللحظة. وهذا، باعتقادي الشخصي، هو افضل دفاع يأمل اقتصاد السوق بالحصول عليه—أن ينظر الناس حولهم، ويتأملوا بالأشياء المدهشة والفرص التي منحها المغامرون من رجال الأعمال والشركات إلى العالم خلال المائتي سنة الماضية. أنظروا فقط إلى الصحة، والثروة، والتقنيات، والفرص، والطعام الموجود في أطباقكم. هل كان من الممكن أن يكون ذلك متاحاً لأي ملك أو ملكة قبل مائتي عام؟
والحقيقة المدهشة هي أن الرياديين، من رجال أعمال مغامرين ومستثمرين، حوّلوا وسائل الترف التي لا يستطيع حتى الملوك تحمل نفقاتها، إلى سلع يومية متدنية السعر توجد في متجركم المحلي. وهذا هو أفضل دفاع عن الرأسمالية.
في غضون فترة قصيرة جداً، مرّ العالم بتغيير جذري. وهذا بالضبط ما يدور حوله كتابي الأخير: “عندما خلق الإنسان العالم.” والأمر المشوق هو أن التاريخ أثبت لنا أن الحرية تنجح. إذ أنه خلال ألف عام من الحكم المَلَكي المطلق، والإقطاعية والعبودية، ازداد معدل دخل الفرد بنحو 50 في المائة. وفي خلال 180 عاماً منذ عام 1820، ازداد معدل دخل الفرد بنحو 1000 (ألف) في المائة. وخلال المائة سنة الماضية، خلقنا ثروة أكبر، وقللنا من الفقر، وزدنا متوسط العمر المتوقع اكثر من المائة ألف عام الماضية. وحدث ذلك لأن أشخاصاً مثلكم—رجال أعمال مغامرين، ومفكرين، ومبدعين، ومبتكرين—كان لديهم أفكار جديدة، وقطعوا مسافات جغرافية، والأهم من ذلك، مسافات ذهنية لابتكار أشياء جديدة، والذين كانوا على يقين من أن التقاليد القديمة، التي كان من الممكن أن تقف عائقاً أمام الابتكارات الجديدة، لم توقفهم لفترة طويلة.
لهذا السبب لدينا كل هذه الثروة. ولهذا السبب يملك إبني—الذي سيولد في شهر كانون الثاني—فرصة للوصول إلى سن التقاعد أكبر من الفرصة التي ملكها الأطفال في كافة العصور السابقة لدى احتفالهم بعيد ميلادهم لأول مرة.
إنتشار عالمي
خلال العقود القليلة الماضية من العولمة، عندما انتشرت الفرص الجديدة، والتقنيات، ووسائل الاتصال والإنتاج في شتى أرجاء العالم، شهدنا ظاهرة مدهشة: البلدان النامية تنمو بشكل أسرع من البلدان الأغنى على كوكبنا. لقد استغرقنا الأمر نحو 40 عاماً لمضاعفة معدل دخلنا في الدول المتقدمة. إنما يستغرق الأمر نحو 10 إلى 15 عاماً اليوم، بالنسبة للصين، والهند، وبنغلادش، وفييتنام للقيام بالأمر ذاته. بإمكان هذه البلدان استغلال الأفكار والتقنيات التي استغرقت منا عدة أجيال لتطويرها مباشرة. ولهذا السبب انخفض الفقر في العالم إلى النصف خلال العشرين عاماً الماضية.
في كل دقيقة أتحدث خلالها، يذهب نحو 13 طفلاً من العمل الشاق والعرق أثناء العمل في المزارع أو المصانع إلى المدارس من أجل التعليم، وللحصول على حياة أفضل فيما بعد، ولتعزيز فرصهم. وفي كل دقيقة أتحدث خلالها، يزداد معدل العمر المتوقع بنحو 15 ثانية بسبب الزيادة في الثروة والتقنيات الطبية الجديدة. كل ذلك يعتمد على المستثمرين ورجال الأعمال. إن الريادي هو مستكشف يتنقل بين مناطق غير محددة، ويفتتح طرقاً جديدة سوف نعبرها عما قريب.
لم يتولد أي شيء “من البداية.” ولا حتى الموارد الطبيعية هي طبيعية بأي معنى منطقي—وهو أمر أدركته العديد من الحكومات عندما قامت بتأميم مصادر النفط والغاز، حيث أخفقت في الإدراك بأننا نحتاج أيضاً إلى روح المغامرة—القدرة على رؤية طريقة استغلال مصدر ما، وكيفية الاستثمار فيه بطريقة إيجابية للتأكد من استخدامه بطريقة فعالة. لقد نمت دول الأوبك بنحو 4 في المائة سنوياً بسبب مواردها النفطية حتى عام 1973، عندما قامت معظمها بتأميم صناعاتها النفطية. ومنذ ذلك الحين، أصبحت تلك الدول أفقر بنحو واحد في المائة سنوياً.
قبل خمسين عاماً مضت، فكر سائق شاحنة من كارولاينا الشمالية يدعى مالكوم مكلين أنه لا بد وان تكون هنالك طريقة اكثر كفاءة لنقل السلع والقطع إلى شتى أرجاء العالم. في ذلك الوقت، كان الأشخاص يقودون شاحناتهم إلى الميناء. وتنتظر الباخرة هناك لمدة أسبوع أو أكثر في انتظار أن تقوم القوى العاملة النقابية بتحميل كل قطعة من الشحنة على حدة وببطء وثبات على الباخرة. ويحدث العكس عند وجهة الباخرة. فكر مكلين قائلاً: “ماذا لو استخدمت صناديق بدون عجلات، ووضعت جميع السلع في الصناديق، وحملتها في الشاحنات، وقدت الشاحنات إلى الميناء ثم وضعت الصناديق المغلقة على الباخرة؟” وفي غضون ليلة واحدة، ابتكر مكلين طريقة النقل بالحاويات العصرية. فخفض بذلك تكلفة إرسال البضائع والقطع عبر المحيطات بنحو 97 في المائة. من المحتمل أن يكون لدينا نوع معين من الكمبيوتر، بقطع من جميع القارات الرئيسية على الكوكب، وجميع الملابس التي نلبسها، والطعام الموجود في أطباقنا، بسبب رجل واحد وأحلامه، وثقافة لم تحاول إعاقته، ولكنها بدلاً من ذلك شجعت أحلامه ورؤاه. وأصبحت البلدان النامية في شتى أرجاء العالم تستفيد من المواهب الموجودة لديها وعملها الشاق—لإنتاج ما تستطيع إنتاجه بأفضل حال، ووضعه في حاويات، وإرساله إلى أماكن أخرى.
لكن التقنية لا تكفي. إذ أننا نحتاج أيضاً إلى الحرية للخروج بتقنيات جديدة. وما لم تتنحى الحكومات عن الطريق، وتسمح للرياديين المغامرين إنجاز أعمالهم، فلن يحدث شيء من هذا القبيل.
نحن نعلم أنه توجد أماكن لا تستخدم فيها التقنيات المعاصرة بسبب التنظيمات، والفساد والتدخل الحكومي. إذا أرسلت حمولة شاحنة من الفاكهة من جنوب إفريقيا إلى زيمبابوي، فإنها ستكلفك وقتاً كثيراً، ودفع الرشاوى والرسوم إلى الحكومة، وضرائب أكثر مما يكلفك إرسال نفس الحمولة من الفاكهة من جنوب إفريقيا إلى الولايات المتحدة!
أبطالنـــــا

يوجد كتاب كلاسيكي ألّفه جوزيف كامبيل، وهو كتاب حول التاريخ الثقافي بعنوان: “البطل ذو ألف وجه،” ويروي سيرة الأبطال في الثقافات المختلفة. ولأن كامبيل طاف أرجاء العالم بقراءة الكتب من القارات الأخرى، أستطاع أن يدرك أن هنالك أبطالاً في جميع الثقافات، وفي جميع الكتب، وفي جميع العصور. نحن بحاجة إلى الأبطال، لأنهم يقولون شيئاً ما عن ماهية قيمنا، وما هو جيد، وما هو رائع، وما هو سيئ، وما الذي يجب أن نناضل من أجله، وما الذي يجب أن نحاول تجنبه. لقد رأى نمطاً مشتركاً. وفكر أنه في معظم الثقافات وفي معظم العصور، فإن الأعمال ذاتها هي التي ينظر إليها على أنها بطولية.
يحدث أمر عظيم، ويضطر بطلنا للذهاب في رحلة لمحاربة الأعداء رغم كل شيء، دون أن يعرف ماذا يجب عليه أن يفعل، ومتى، وكيف. ولكن أثناء مسيرته، يكوّن أصدقاء يساعدونه في مسيرته هذه، ويمدونه بالمعرفة والإلهام للقيام بالأمر الصواب.
فكروا في هذه الرحلة البطولية مرة أخرى، وفكروا في الأشخاص الذين تكلمت عنهم للتو—أشخاص مثلكم، ومفكرين، ومبتكرين، ورجال أعمال. فما الذي يتيح شراء المعدات والسلع من الطرف الآخر من العالم؟ يواجه الرياديون التقاليد القديمة، والعوائق السياسية، والضرائب، والتنظيمات، ولكن لديهم أيضاً أصدقاء—أشخاص لديهم إمكانية الوصول إلى رأس المال، والمعرفة، وإلى أعمال تجارية أخرى.
وإذا كانوا محظوظين، فإن الرياديين ينجحون في مغامراتهم اليومية. وإذا لم يكونوا محظوظين، فإنهم يتعلمون أمراً جديداً، ويعملون على تحسينه في المرة المقبلة، ويجلبون إلى المجتمع شيئاً جديداً يغير حياة الأفراد إلى الأبد.
هذه هي الملحمة البطولية. إن الريادي المغامر هو بطل عالمنا. لسنا بحاجة في الحقيقة إلى شخصيات خيالية من الأفلام مثل فرودس [من فيلم سيد الخواتم]، أو لوك سكايوولكر [من فيلم حرب النجوم] أو “بافي” قاتلة مصاصي الدماء. لدينا أمثال مالكوم مكلين الحقيقيين في هذا العالم. ولكن كما تعرفون جميعكم، ليس هذا ما تعتقده الثقافة الشعبية إزاء الرأسماليين ورجال الأعمال المغامرين في وقتنا هذا. فإذا ذهبت لمشاهدة فيلم عادي من إنتاج هوليوود، فإن البطل هو شخص مختلف تماماً.
فالعاِلم والرأسمالي هما العدو في معظم أعمال هوليوود. إن هذا الأمر يشكل مفارقة إلى حد ما، لأنه لم يكن بإمكاننا أن نتملك تقنية إنتاج الأفلام لو لم يكن هنالك علماء، ولن تكون لدينا صناعة أفلام لو لم يكن هنالك رأسماليين. ولكن يتم تقديهم كأشرار. إذ إن بعض المناهضين للعولمة والمعارضين لمبدأ التجارة الحرة هم الآن مستشارون يتلقون أجراً جيداً وأعضاء في مجالس إدارة الشركات الكبيرة، يقولون لها إن ما تفعله هو في الواقع أمر سيء، وينبغي عليها القبول باتباع استراتيجيات “المسؤولية الاجتماعية.” ومن وجهة نظرهم، تعني المسؤولية الاجتماعية للشركات أن ما أنجزوه لغاية الآن لا يعتبر اجتماعياً. ولا يكفي ابتكار السلع، والخدمات، والتقنيات التي تزيد من طول العمر المتوقع، وتنقذ حياة أطفالنا! كلا، يجب عليهم أن يفعلوا شيئاً آخر. إذ بعد أن تتحقق الأرباح، ينبغي إعادة “شيء منها” إلى المجتمع. إعادة شيء منها إلى المجتمع؟ كما لو أن رجال الأعمال والرأسماليين سرقوا شيئاً يخص المجتمع وعليهم إعادته!
إن الأرباح ليست أمراً ينبغي علينا الاعتذار بشأنه. إنها دليل بأن الرأسمالي أعطى إلى المجتمع شيء عزيزاً أكثر من الثروة المادية التي أعطاها المجتمع إلى رجل الأعمال.
ويجب أن أؤكد أنه يجب ألا يكون رجال الأعمال شاكرين مطلقاً لمجتمع فرض عليهم تراخيص للعمل، والحلم، والابتكار والإبداع. وأعتقد شخصياً انه يجب علينا، وعلى المجتمع، أن نكون شاكرين للمغامرين ورجال الأعمال لما أنجزوه. فالرياديون المغامرون هم أبطال عالمنا—وهم رغم المخاطر، والعمل الشاق، والعدائية من جانب المجتمع، والشعور بالحسد من جانب الجيران وتنظيمات الدولة، يستمرون في الإبداع، والإنتاج والتجارة. وبدونهم لن يكون هناك أي شيء.
إن السحر حيّ
اعتقد ماكس فيبر، عالم الاجتماع الألماني، أن العالم المعاصر شهد تفسيراً كان مسبباً لمشكلة كبيرة. أنه لم يعد هنالك سحر في العالم بوجود العلم الذي يفسر كل شيء—الحياة، والطبيعة والأمراض.
عذراً كبيراً!!! لا يوجد سحر؟ إن هذا لأمر سخيف. أنا جئت طائراً إلى هنا [الولايات المتحدة]. في عام 1901، سمعنا عبارة من معلّق يتمتع بالبصيرة قال إن ذلك مستحيل. لا يمكننا الطيران، ولن يكون بمقدورنا القيام بأمر كهذا لقرابة الخمسين عاماً المقبلة على الأقل. كان هذا المعلق ويلبر رايت، أحد الأخوين رايت اللذين بعد عامين فقط قاما بأول رحلة طيران، لأنه أراد الاستكشاف. لقد قام بهذه المجازفة وجعل كل شيء يحدث. إن هذا هو السحر بعينه.
يمتلك كمبيوتري قدرة على الحساب أكبر من القدرة التي كانت موجودة لدى معظم البلدان قبل 40 عاماً. وتتحول أفكاري إلى أرقام تتكون من العددين واحد وصفر يتم بثها عبر أنسجة ضوئية، وكوابل ضوئية من الزجاج، رفيعة بحجم الشعرة، وتصل إلى الطرف الآخر من العالم بعد ذلك خلال عُشرٍ من الثانية. وبكبسة على فأرة الكمبيوتر، بإمكاني أن أطلب إي نوع من المعرفة الموجودة في أي مكان من العالم.
وتوجد فوقنا أقمار صناعية توجه تحركنا. ويوجد تحتنا رجال آليون يستخرجون المعادن من الصخر. سافرنا إلى الفضاء الخارجي وقرأنا الشيفرة الوراثية الموجودة في أجسامنا. لقد تغلبنا على الجوع والمرض. لذا فإنني سأقول لكم: إننا نعيش في عالم مسحور، في عالم سحري، وهو اكثر سحراً رغم ذلك لأن المبدعين والمبتكرين جعلوه كذلك.
توجد رؤى. ويوجد ذكاء، وعبقرية، وعمل شاق في كل سلعة، وفي كل خدمة وفي كل تقنية نستخدمها كل يوم. ونحن بالكاد بدأنا. فلدينا عدد من العلماء أحياء اليوم أكبر من العدد الذي كان موجوداً في كل العصور السابقة مجتمعة.
إنني أتصور ما الذي يستطيع الأفراد الأحرار والمبدعون فعله بوجود الانجازات الجديدة في مجال التقنية متناهية الصغر، والتقنية الحيوية والرجال الآليين. إنني متأكد من أن ذلك سيدهش آباءنا السابقين. فلو أخذ الأشخاص الأمور مسلماً بها، فذلك لأن حياتنا اليومية أصبحت رائعة.
إرادة الحرية

أنتم تعرفون الحكمة القديمة القائلة: “من أشبع عطشه يدير ظهره للبئر.” حسناً، لهذا السبب نجتمع ونتشارك في وجبة الغذاء. ولهذا السبب نعمل، ولهذا السبب نناضل—لتذكير الناس بإرادة الحرية والفردية، ولضمان عدم جفاف هذه البئر، ولتذكيرهم بالأسباب التي من أجلها يعيشون فترة أطول، ولديهم حياة اكثر ثراء عن ذي قبل، في بلدان أكثر حرية عن ذي قبل.
من العادة في نهاية أية كلمة أن أقول شكراً، للإشارة بأنها انتهت. أفعل ذلك عندما أتحدث إلى مناهضي العولمة والماركسيين وغيرهم. ولكن في هذه المرة، إنني أعني ذلك حقاً. يجب أن أقول شكراً لأنكم خلقتم هذا العالم الرائع، وشكراً جزيلاً لدعمكم للأفكار التي جعلت ذلك ممكناً.
رسالة كيتو، شتاء 2007، المجلد 5، العدد 1.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 28 حزيران 2007.

peshwazarabic6 نوفمبر، 20100

كيف يمكن أن تتم ترجمة العلوم الإيجابية واليقينية (المعبر عنها بالكامل بالتعبير “يكون”) إلى التعبير عنها بـ”يجب أن” ضمن إطار المفهوم الاقتصادي؟ في الجزء الأول من هذه السلسلة، قمنا بجذب الانتباه إلى بعض التناقضات الظاهرية التي تحيط بالمشورة الاقتصادية. وقمنا، على وجه الخصوص، بجذب انتباه مربك ومحير إلى المناصرة والدفاع الانفعالي العاطفي الذي دافع به لودفيغ فون ميزس عن ترتيبات وأنظمة السوق الحر، وهو نفس لودفيغ فون ميزس الذي أصر على موقف (“حرية القيمة”) فيرتفرايهايتالأكثر تجريديا وحيادية والذي يجب أن يتم القيام به من جانب كافة علماء الاجتماع. وفي هذه المقالة، الحالية، سنقوم، كخطوة باتجاه توضيح هذه التناقضات الظاهرية والاحجيات المربكة، بمناقشة طبيعة فرضيات علم الاقتصاد المركزية الإيجابية تماما. كما أننا سنجد بان أي إدراك كامل حريص للأسلوب الذي يسهم بموجبه علم الاقتصاد في وجود سلسلات السبب والمسبب (أي وجود سبب لكل ما يتم تسببه) في المجال الاقتصادي سيكون بمقدوره أن يساعدنا على أن نرى كيف يمكن للمعرفة التي تتعلق بهذه السلسلات أن تغذي وتديم طرقا محددة جدا خاصة بتقديم مشورة وإرشاد لصانعي سياسات اقتصادية. فالتعبيرات التي تصف سلسلات السبب والمسبب تتم بالتعبير “يكون”، إلا أن هذا التعبير، كما سوف نرى، بمقدوره، وفق إحساس محدد بعناية، أن يستحدث ويولد التعبير “يجب أن” الذي تتكون منه أية مشورة اقتصادية.
السبب والمسبب في مجال الشؤون الاقتصادية
تأسس علم الاقتصاد كفرع من فروع المعرفة في القرن الثامن عشر، عندما أقر علماء الاقتصاد الكلاسيكيون بان هناك سلسلات سبب ومسبب منتظمة موجودة في أية ظاهرة اقتصادية، (تماما كوجودها في أية ظاهرة فيزيائية طبيعية). وبالرغم من التقدم اللاحق الذي تحقق في وضع الفرضيات الاقتصادية الذي عمل بشكل جذري على تغيير الطريق التي بموجبها يستطيع علماء الاقتصاد أن يفهموا السبب والمسبب الاقتصادية، فان علماء الاقتصاد الكلاسيكيين هم الذين قاموا بتأسيس علم الاقتصاد في هذا الحقل العلمي من المعرفة من خلال تأسيس فكرة سلسلات السبب والمسبب النظامية.
إن الفهم والإدراك الفعليين لهذا الحقل العلمي من المعرفة الاقتصادية (أو “الاقتصاد السياسي” حسبما تمت تسميته من قبل علماء الاقتصاد الكلاسيكيين في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر) يحمل في طياته مضامين ثورية خاصة بالسياسة العامة. وكما أكده ميزس مرات ومرات، فان اكتشاف الأصول النظامية في الظاهرة الاقتصادية يعني أن رجل الدولة السياسي المهتم بالسياسة العامة لم يعد باستطاعته التعامل مع الاقتصاد على كونه معجونا طريا له الحرية في قولبته وفق أي شكل مهما كان نوعه ظنا منه بأنه الأفضل بالنسبة للمجتمع. فكل تصرف سياسي وكل تقييد تشريعي (أي قانون يفرض على نشاط اقتصادي) وكل إعانة مالية عامة، يجب، في الوقت الحالي، أن يتم الإقرار بأنها سوف تكون متبوعة بتداعيات محددة. وقبل أن يتم البدء في أية تعرفة جمركية وقبل أن يتم منح أي حق احتكاري وقبل أن تتم طباعة أية نقود وقبل أن يتم فرض أي نوع من الرقابة على الأسعار، يجب على أولئك الذين يعتبرون كمسؤولين عن سياسة الدولة أن يسألوا أنفسهم عما إذا كانوا قد اخذوا بعين الاعتبار كافة التداعيات التي من المرجح أن تتبع هذه الأفعال وتنجم عنها. وكما اثبت علماء الاقتصاد الكلاسيكيين، يوجد هناك “قوانين” اقتصادية يجب مراعاتها وأخذها بعين الاعتبار إذا كان من المطلوب تجنب حدوث كارثة اقتصادية.
ولكن، كيف يمكن أن تتواجد مثل هذه “القوانين”؟ فمما لا ريب فيه، سوف تقوم أية استحالة يتم إدراكها بالبديهة باعتراض سبيل أية “قوانين” قد يتم تخيلها لحيلولة دون تواجدها، وهو الأمر الأول المطلوب كي يتم فهم وملاحظة أية أصول نظامية وعلاقات سببية أو وظيفية في أية ظاهرة فيزيائية طبيعية. ولكن، فان توقع وجود مثل هذه الأصول النظامية والعلاقات السببية والوظيفية في أية ظاهرة اقتصادية (والتي تمثل محصلة قرارات وأفعال يتم اتخاذها وإجراؤها بشكل مستقل من قبل الملايين الذين ينتخبون بشكل حر ممثلين فرديين)، سوف يبدو على أنه إدراك حدسي مضاد بشكل فاضح. وعلى ما يظهر، فانه لا مفر من ضمان قيام الممثلين الذين ينتخبون بشكل حر “بإطاعة” الأصول النظامية التي يقر العلم بأنها حاسمة وقاطعة.
إن هذه الصعوبة الادراكية الحدسية هي السبب الأساسي الذي يكمن في حيرة وارتباك كل من واضعي النظريات الاقتصادية والفلاسفة على مدار القرنين الماضيين وفي جدالهم حول ذات الإمكانية المتاحة في علم الاقتصاد وحول صفتها المعرفية النظرية. وقد تم تزويد السلسلة الحالية من المقالات (وبشكل خاص هذه المقالة) بالمعلومات بفضل البصائر النافذة وإطار العمل الفلسفي الذي تم تحديده بالاشتراك مع مدرسة العلوم الاقتصادية النمساوية وعلى وجه الخصوص مع فكر ممثليها، رواد القرن العشرين وهما ميزس وفريدرك هايك.
وضمن إطار العمل الفلسفي هذا، سوف ينصب الاهتمام على غايات وأغراض الكائنات البشرية وعلى الطريقة التي يتم بها إجراء تعديل على توقعات ومعرفة هذه الكائنات البشرية بشكل منهجي منظم من خلال خبرة وتجربة اقتصادية. فالتجربة الاقتصادية المتغيرة تعمل على تغيير الشروط التي بموجبها يجد أولئك الممثلون الفرديون أنفسهم قادرين بالفعل على القيام بالاختيار، وهي أيضا تلك التجربة التي ستقوم بتعليم الممثلين أينما يقومون بارتكاب خطأ التفاؤل المفرط أو التشاؤم المفرط في حكمهم على الشروط التي بموجبها يكون الآخرون على استعداد للمقايضة معهم وان تلك التجربة هي التي أيضا ستعمل على تغيير الممثلين الفرديين تبعا للفرص المستقبلية المتاحة التي لم تعد لغاية الآن موجودة أو التي لم تتم ملاحظتها لغاية هذا الوقت. وضمن هذا الإطار التحليلي، تستطيع أية نظرية اقتصادية أن تقدم أفكارا يتم بموجبها فهم كيف تقوم التغيرات ذات المنشأ الخارجي التي تطرأ على موجودات المصادر المتاحة وعلى المعرفة الفنية والافضليات لدى المستهلكين بإجراء تغيير منظم على ظاهرة السوق والذي، بالتالي، يعمل على تحديد مسار الإنتاج وأنماط تخصيص وتوزيع المصادر. ولكي يتم توضيح هذا النهج نحو التفكير الاستنتاجي دعونا نأخذ على سبيل الفرض “الأصول النظامية” ذات القاعدة الأكبر في اقتصاد السوق ألا وهي “قانون” العرض والطلب.
“قانون” العرض والطلب
هذا الفهم الأساسي لأسعار السوق يقوم بتعريف وتحديد طبيعة واتجاه القوى التي تعمل داخل السوق بالنسبة لكل مادة منتجة وكل مصدر. وينظر هذا الفهم إلى السوق، بالنسبة لأية مادة منتج معين، ولتكن إحدى المنتجات الخاصة بالاستهلاك البشري (كالحليب أو الخدمات التي يقدمها مغني أوبرا على سبيل المثال) أو بالنسبة لأي مصدر (كالمزرعة التي تقوم بزراعة المحاصيل أو الخدمات التي يقدمها مدرس هندسي لتدريب مهندسين على سبيل المثال)، وكأنه سوق في حالة تعديل وتحول متواصل تجري بفعل خبرة وتجربة سوقية وفق نمط منهجي منظم. وقد يتم، في أي وقت معين، عرض “الكثير جدا” أو “القليل جدا” من أية مادة (سلعة أو خدمة) معينة للبيع (أو يتم السعي لشرائها). (ومعنى “الكثير جدا” المعروض من أية مادة للبيع أن هناك الكثير منها معروضا للبيع بشكل يزيد عن السعي للشراء. أما “القليل جدا” المعروض من أية مادة للبيع فيعني أن السعي لشراء تلك المادة، وفق الأسعار المتداولة، سيكون اكثر مما يرغب ببيعه البائعون.) و”قانون” العرض والطلب يقوم بتركيز الاهتمام على وجود قوى سوق عفوية تلقائية تنزع إلى “تصحيح” اختلالات التوازن هذه.
وحيثما يتم عرض “الكثير جدا” من أية مادة (سلعة أو خدمة) للبيع، فان الأسعار الهابطة (الخاصة بتلك المادة المعنية) تنزع إلى تشجيع بعض البائعين (“الحديين” الذين يرفضون البيع إذا هبط الثمن عن حد معين) على خفض الإنتاج لمثل تلك المادة والى تشجيع مشترين محتملين على السعي نحو طلب كميات إضافية بغرض شرائها. وحيثما يتم عرض “القليل جدا” من أية مادة (سلعة أو خدمة) للبيع، فان الأسعار الصاعدة الخاصة بتلك المادة المعنية تنزع إلى تشجيع بائعين محتملين على زيادة إنتاج تلك المادة (وبالتالي الكميات التي ستعرض للبيع) والى تثبيط بعض المشترين (“الحديين” الذين يرفضون الشراء إذا ارتفع الثمن عن حد معين) عن مواصلة الشراء. فإذا كانت عملية الضبط والتوافق هذه في سوق معينة مسموحا لها أن تستمر بشكل غير محدود (أي إذا بقيت تكاليف وتقنيات الإنتاج الخاصة بالمادة المعنية من ناحية، وافضليات المستهلكين، من ناحية أخرى، ثابتة لا تتغير بشكل غير محدود في حين تستمر عمليات الضبط والتوافق في السوق)، فان السوق الخاص بتلك المادة يمكن التصور على كونه سيحوز على “التوازن”. فتوازن السوق سيؤدي إلى حالة تصورية بحيث لا يتم بها عرض “الكثير جدا” ولا“القليل جدا” للبيع من تلك المادة المعنية. وفي مثل هذه الحالة التصورية من التوازن، سوف لن يكون هناك أي نطاق خاص بقوى السوق يعمل على حفزها على الحركة، كما انه في مثل هذه الحالة التصورية من التوازن فان الأسعار والكميات المعروضة للبيع والتي يتم السعي لشرائها سوف تكون بمثل ذلك التوازن نظرا لعدم وجود ميول حافزة لأي منهما لكي تتغير.
وعلى النقيض لما تعلمه العديد من طلبة علم الاقتصاد كي يعتقدوا به، فان “قانون” العرض والطلب لا يقر (عندما يتم فهمه بالشكل المناسب) بان كل سوق سوف يكون متوازنا أو على وشك التوازن في كل لحظة. كما انه لا يقر (بشكل اقل اعتراضا على ما ورد أعلاه) بان الأسواق تنزع بسرعة إلى تحقيق التوازن. والأصح هو أن “القانون” يقر بان ذلك، ولدرجة أن لا يكون السوق في أية لحظة معينة متوازنا، سيقوم بنفسه بحفز قوى تدفع السوق بطريقة مهيمنة باتجاه التوازن.
ومع ذلك، يجب أن يتم الفهم والتأكيد على أن التبديل المتواصل الذي يطرأ على المتغيرات المعنية ذات المنشأ الخارجي (على سبيل المثال تكاليف الإنتاج وتوفر المصادر وأنماط الافضليات لدى المستهلكين) ستقوم بشكل لا يمكن تجنبه تقريبا بضمان أن تكون وضعية التوازن، بالنسبة لأي سوق وفي أية لحظة معينة، مختلفة عما كانت عليه تلك الوضعية في أية لحظة سابقة. وبناء على ذلك، فان قوى السوق التي يتم إطلاقها وتحريرها بواسطة ظروف إخلال التوازن في إحدى اللحظات سوف لن تضمن بكل تأكيد تقريبا أن يتم إحراز التوازن في أية لحظة لاحقة.
وبالرغم من كل ذلك، فان من المعقول والمنطقي أن نشير إلى أن اختلالات التوازن الإجمالية الإضافية التي تتواجد في السوق في أية لحظة معينة سوف تنزع، وفقا لـ”قانون” العرض والطلب، إلى أن يتم تصحيحها. “فالإفراط في العرض” سوف يقوم بالضغط على الأسعار كي تهبط ويثبط همة البائعين الحديين من القيام ببعض الإنتاج ويشجع على القيام بمشتريات إضافية، وبالتالي سوف ينزع نحو التخلص من إخلال التوازن. أما “النقص” فسيعمل في الاتجاه المعكوس، إلا انه سيكون حميدا على قدر المساواة. والآن دعونا نتفحص لماذا يمكن أن يتم وصف التخلص من هذه “الاختلالات في التوازن” على كونه “حميدا”. ففي المقالة الختامية من هذه السلسلة، سوف يكون هذا التحليل مساعدا لنا على فهم الحس الواعي الذي يمكن بموجبه لأية نظرية اقتصادية، وفق أسلوب موضوعي علميا، أن تقوم بنشر وترويج مشورة سياسة اقتصادية سليمة.
اختلال السوق – لمَ يتم التأسف عليه؟
دعونا ندرس حالة “الإنتاج المفرط” في سوق معينة (على أن يتم اعتبار مثل ذلك السوق وكأنه سوق معزول ومنعزل عن الأسواق الأخرى). ولسبب يعود إلى سوء في الحسابات أو لأي خطأ آخر، عملت القرارات التي اتخذها المنتجون في السوق على المغالاة في تقدير شغف المشترين بالشراء. والكميات التي عرضت للبيع والأسعار المتوقعة منها التي قام بطلبها بائعون محتملون لم يقابلها قرارات والتي سيقوم باتخاذها مشترون محتملون (وبالتالي تلك الأسعار التي بموجبها سيتوقع المشترون المحتملون أن يكونوا قادرين على الشراء والتي بموجبها أيضا سيكون لديهم الرغبة في الشراء). إن هذا الاختلال في التوازن سيتطابق مع قرارات تم اتخاذها بحيث ثبت في النهاية على أنها قرارات مخيبة للآمال ومع قرارات تم اتخاذها انتهت إلى انه قد تم التأسف عليها. هناك بعض البائعين المحتملين (الذين قد يقوموا بطريقة مغايرة بتقديم عروض للبيع وفق أسعار منخفضة، لكنهم قد يكونوا قد صمدوا وقدموا بشكل خاطئ أسعارا مرتفعة) قد يفشلوا وتخيب آمالهم من حيث عدم تمكن خططهم للبيع وفق أسعار مرتفعة من التنفيذ الناجح. وقد يشعر أيضا هؤلاء البائعون بالأسف والندم على رفضهم العرض بالبيع وفق أسعار منخفضة أو انهم قد يشعرون بالأسف على قراراتهم التي اتخذوها بشكل مسبق من ناحية الإنتاج. فإخفاق القرارات التي يتخذها بعض البائعين المحتملين لنقل الحركة مع قرارات متوافقة يتخذها المشترون المحتملون يكشف عن “خطأ” هذه القرارات كلها والذي هو مصدر خيبة الأمل والأسف.
هناك نمط من القرارات والذي يكون مختلفا واكثر دقة، يتخذه كل من مشترين محتملين وبائعين محتملين قد يسمح لهم بالوصول إلى تنفيذ خططهم بشكل اكثر نجاحا مما يخطر على البال فعلا. وعند قيام اثنين من المشاركين في السوق بالدخول في مبادلة طوعية لمنفعة مشتركة بينهما (كأن تكون على سبيل المثال وفق سعر منخفض) فان إخفاقهم في إنجاز ذلك (بسبب عائد إلى ارتكاب “خطأ” ما) سوف يبدو، على الأقل من الوهلة الأولى، بأنه سوء حظ لا لبس فيه بالنسبة لكل واحد منهما. وعلى ما يظهر، منذ الوهلة الأولى، بان لا أحد منهما سوف يكسب أي شيء من خلال حقيقة كونهما لم يقوما باتخاذ الخطوات الكامنة نحو تحقيق المنفعة المشتركة.
وبناء على ذلك، إذا كنا على صواب في هذا الحكم، فان عملية السوق التي تقوم حسب “قانون” العرض والطلب الخاص بنا بحفز ميول ونزعات السوق المتواصلة باتجاه تصحيح مثل تلك الاختلالات في التوازن، سوف تبدو بأنها حميدة لأنها تنزع إلى اكتشاف وتصحيح قرارات السوق “الخاطئة” وهي تلك القرارات التي تعمل على إحباط استغلال المبادلات المربحة المشتركة المحتملة.
وبالرغم من أننا كنا حريصين على التعبير الصريح عن هذا الحكم (أو الرأي) المساند والمؤيد بطريقة صارمة (من ناحية نتيجة “قانون” العرض والطلب) وفق شروط أولية، فإننا سنجد بان ذلك الحكم هو في الحقيقة قد صمد بشكل نشط وقوي اكثر مما قمنا بافتراضه. وكما سوف نرى في المقالة الختامية من هذه السلسلة، فان ذلك الحكم سوف ينزع إلى الصمود حتى عندما نقوم بإهمال الافتراضات المحددة التي وردت في هذا القسم من المقالة. هناك مفهوم أو إحساس محدد والذي بموجبه تؤدي نظرية العرض والطلب “الإيجابية” بشكل يتعذر تجنبه إلى فهم صفتها الحميدة من الناحية الاجتماعية (بمعنى تلميحاتها ومضامينها “المعيارية”). وقمنا هنا، فعلا، بإلقاء نظرة سريعة على الأساس الخاص بالمشورة الاقتصادية ذات القاعدة العلمية، إلا أن المقالة الحالية لم تقم بعد بإكمال شرحها وعرضها للعمل الإيجابي لـ”قانون” العرض والطلب. وقبل أن نمضي قدما بشكل ابعد من ذلك، فان علينا أن نكشف بطريقة اكثر حذرا تماماكيف يقوم هذا “القانون” بتحقيق سحره، أي ميله نحو تصحيح اختلال توازن السوق. وسوف نجد بان المناقشة المعيارية في هذا القسم من المقالة يمكنها أن تساعدنا على فهم العمل “الإيجابي” لعملية السوق المنافسة.
كيف يعمل السوق
إن اختلال توازن السوق، كما رأينا، يعكس ويعبر عن قرارات تم اتخاذها بشكل خاطئ. فالذين شاركوا في السوق قد تم تركهم وهم خائبو الآمال مع بضائعهم غير المباعة. فلو أنهم كانوا يعرفون ذلك بشكل مسبق لكانوا قد أنتجوا عدد وحدات اقل من هذا النوع من البضائع وحتى انهم لكانوا قد تحولوا إلى خطوط إنتاج بضاعة تختلف عما لديهم أو لكانوا قد سعدوا بالبيع وفق أسعار أقل (فالسبب الوحيد الذي جعلهم يخفقون في القيام بذلك هو انهم قد اقتنعوا بشكل خاطئ بان لديهم القدرة على الحصول على أسعار أعلى).
علينا أن نلاحظ بان هذا المفهوم المتعلق باختلال توازن السوق يشير، في الواقع، إلى وجود نوعينمميزين من الأخطاء. النوع الأول من الأخطاء الذي ارتكبه المشاركون في السوق، حسب رأينا، هو انه ببساطة لم يتم استغلال والاستفادة من فرص تبادل مربحة مشتركة (وبنفس هذه الطريقة عندما تكون أسعار السوق “مرتفعة جدا”، محدثة بذلك عروضا خاصة بالبيع والتي يتم رفضها، ويعني ذلك، على الأرجح، بان المبيعات المربحة المشتركة كان من الممكن أن تتم، من حيث المبدأ، لو تم البيع وفق أسعار اقل.) أما النوع الثاني من الأخطاء فيعني بان بعض المشاركين في السوق قد انقادوا إلى الاعتقاد(بشكل خاطئ تماما) بان فرص التبادل المربح المشترك موجودة فعلا (والتي هي غير موجودة). وهكذا، فقد اخفق النوع الأول من هذين النوعين من الأخطاء في التعرف على فرص كانت قائمة، أما النوع الثاني من الأخطاء فهو الذي قام “برؤية” فرص كانت في حقيقة الأمر فرصا غير موجودة. وقد يصف المرء النوع الأول من الأخطاء على أنه أحد الأشياء التشاؤمية غير الملائمة (أي الإخفاق في رؤية فرص تحدق فعلا في وجه المرء)، في حين يتم وصف النوع الثاني من الأخطاء على أنه أحد الأشياء المفرطة في التفاؤل غير الملائم وغير المبرر. ويمكن لهذا التبصر النافذ أن يساعدنا على فهم عملية ضبط السوق وعمل “قانون” العرض والطلب.
والآن دعونا ننظر إلى أخطاء التفاؤلية المفرطة. ففي أي مكان تحدث به مثل هذه الأخطاء، سوف يتم الاكتشاف (وبالتالي يتم التصحيح بشكل افتراضي) بان أخطاء التفاؤلية المفرطة هذه هي في الغالب حتمية ليس من الممكن تجنبها. فخبرة المرء في السوق سوف تكشف عن الموقع الذي كان هو نفسه فيه مفرطا في التفاؤل وسوف تكشف عن أن الفرص التي كان من المتوقع أن يقوم ذلك المرء بمواجهتها بشكل مفرط في التفاؤل هي ببساطة فرص لم تحدث. ومثل هذه الخبرة في مطاردة وتتبع الفرص سوف تنزع، وبشكل حتمي تقريبا، إلى أن تكبح جماح توقعات وحدس السوق المفرطة في التفاؤل. وستقوم مثل هذه الخبرة بـ”تعليمنا” أين وكيف تكون مثل تلك التوقعات الأكثر واقعية في وضعية منظمة. وحيثما يكون البائعون المفترضون المفرطون في التفاؤل يرفضون، على سبيل المثال، أن يبيعوا وفق أسعار منخفضة (واثقين تماما، لكنه بشكل خاطئ، وهم يتوقعون بان يتم البيع بأسعار مرتفعة)، فان تجربتهم وخبرتهم المخيبة للآمال في السوق تنزع إلى تعليمهم بان يقوموا بخفض الأسعار المطلوبة).
ولكن النوع الثاني من الأخطاء (والذي يعبر عن التشاؤمية غير الملائمة) سوف لا يبدو بأنه قادر على القيام بتصحيح “تلقائي” وفق أية طريقة مماثلة. فالفرصة (الخاصة بتبادل نافع بشكل مشترك) التي لا تتم رؤيتها في الوقت الحاضر من قبل الأطراف المعنية (والتي بناء على ذلك لا يتم استغلالها) قد لا تتم رؤيتها أيضا يوم غد (حتى وان كانت ما تزال موجودة غدا). والآن دعونا نأخذ مثالا على ذلك. إذا كانت الأسعار المختلفة الخاصة “بنفس” المادة (السلعة أو الخدمة) كانت قد سادت في أنحاء مختلفة في “نفس” السوق، فان ذلك سوف يكون أحد الاحتمالات التي قد يتم بموجبه حدوث تواجد لفرص مبادلة نافعة مشتركة إلا أنها قد تمت إضاعتها. وبالرغم من كل ذلك، ففي أي سوق يقوم به مشترون بالشراء وفق أسعار مرتفعة في حين يكون هناك بعض البائعين الذين يبيعون وفق أسعار منخفضة، سوف يكون لدينا وضعا بحيث يكون هؤلاء البائعون والمشترون وقد استفادوا تماما من التبادل مع بعضهم البعض وفق أحد الأسعار الأقل من تلك الأسعار المرتفعة والتي بموجبها قام المشترون بالشراء، إلا أنها أعلى من تلك الأسعار المنخفضة التي بموجبها كان البائعون يبيعون بها. ومن الواضح بان هؤلاء المشاركين في السوق كانوا مجرد جاهلين على غير دراية بما يجري في مكان آخر في نفس السوق. ولكن على ما يظهر، لا يوجد هناك أسلوب واضح يتم به استبدال مثل ذلك الجهل وعدم الدراية بطريقة عفوية تلقائية بمعلومات ممتازة عن السوق. كما انه على ما يبدو، لا يوجد هناك طريقة واضحة والتي من خلالها قد ينزع السوق إلى استبدال أسعار سوق متباعدة بشكل كبير بأسعار اقل تباعدا.
ومن هنا، تعتبر عملية السوق العفوية التلقائية بأنها عملية تتوقف على اليقظة الريادية بخصوص إحدى النزعات الأكثر أهمية (والمعترف بها على نطاق واسع) في سوق حر ومنافس: وهي أن الأسعار الخاصة بنفس المادة (السلعة أو الخدمة) سوف تتحرك فعلا باتجاه سعر منفرد في جميع أنحاء السوق.
اليقظة الريادية

أحد العناصر الأقل وضوحا لكنه برغم ذلك من اكثر العناصر قوة والعاملة في الأسواق هو عنصر اليقظة الريادية، أي نزوع الكائنات البشرية إلى ملاحظة الشيء الذي يكون من مصلحتها أن تلاحظه. فالمشترون الذين يقومون بالشراء بدفع أسعار عالية بغير ضرورة لذلك فانهم سوف ينزعون بالفعل، عاجلا أم آجلا، إلى اكتشاف أين يمكنهم الحصول على سلع مشابهة وفق أسعار اقل إلى حد كبير. والبائعون الذين يقومون بالبيع بأسعار مخفضة بغير ضرورة لذلك فانهم سوف ينزعون بالفعل إلى اكتشاف أين يمكنهم إيجاد مشترين راغبين في دفع أسعار عالية. إضافة لذلك، سوف يكتشف الرياديون، عاجلا أم آجلا، بأنهم قادرون على كسب ربح صاف بمجرد شرائهم وفق أسعار مخفضة والبيع وفق أسعار مرتفعة. إننا نشعر بأننا فعلا مقتنعون بان الأسعار المتباعدة بشكل كبير في نفس السوق والتي تخص منتجا معينا أو مصدرا معينا سوف تفتح الطريق وفق هذا الأسلوب أمام قوى منافسة تنزع إلى دفع هذه الأسعار المتباعدة للتوجه للاقتراب نحو بعضها البعض. وبهذا الشكل، وكنتيجة لليقظة الريادية فان الأخطاء الناجمة عن التشاؤم غير الملائم سوف تنزع إلى التصحيح.
وهكذا، فان “قانون” العرض والطلب يقوم بشرح وتفسير سلسلات السببية الاقتصادية مصحوبا بكل بعد من البعدين المتميزين التاليين: البعد الأول، وهو كما رأيناه في البداية، يعمل باتجاه تصحيح اختلالات توازن السوق لمواد (سلع أو خدمات) معينة. والبعد الثاني يعمل بهدف تصحيح مثل تلك الاختلالات في التوازن بنفس الوقت الذي يقوم به بتصحيح ظاهرة الأسعار المتباعدة لكل مادة من مثل تلك المواد. وتعمل قوى العرض والطلب على تصحيح القرارات “الخاطئة” التي تكون متفائلة بشكل غير ملائم، بنفس الوقت الذي تعمل به على تصحيح القرارات “الخاطئة” التي تكون مفرطة في التشاؤم.
نطاق تحليلنا الواسع

لقد كانت مناقشتنا، لغاية هذه النقطة، بسيطة كل البساطة في كل من افتراضاتها وموادها الرئيسية. ولقد قمنا بالحديث عن السوق الخاصة “بمادة (سلعة أو خدمة) معينة” في حين قمنا بالافتراض بان هذا السوق هو سوق معزول ومنعزل عن كافة الأسواق الأخرى. وعندما يقوم أحد ما بتوسيع وجهة نظر تحليلية لشخص ما كي تشتمل على الأسواق الخاصة بمنتجات ومصادر لا تعد ولا تحصى التي قد يتم شراؤها وبيعها ولكي تشتمل أيضا ليس فقط على مجرد قرارات شراء وبيع بل أيضا على قرارات تتعلق بالأشياء التي يتوجب إنتاجها وبكيفية إنتاج هذه الأشياء، فانه قد يبدو، في الوقت الحالي، بأننا في عالم من تعقيدات عقل متردد، يكون لتحليلاتنا البسيطة غير المعقدة ارتباطا ضئيلا به. إلا أن ذلك ليس هو الحال. فالبصائر النافذة التي وردت في الأقسام السابقة من هذه المقالة لها فعلا ارتباط مباشر حتى بالنسبة للأسواق المتشابكة الأكثر تعقيدا.
لننظر على سبيل المثال إلى سوق يتم به إنتاج مادة (سلعة أو خدمة) معينة ولتكن مادة المنتج “ج” من خلال دمج المدخل “أ” مع المدخل “ب” طبقا لبعض الوصفات الإنتاجية. ولنتصور بان يكون مثل ذلك الإنتاج عالي الربح. ولدى دمج المدخل “أ” مع المدخل “ب” فان تكاليف هذا الدمج، بحسب مستوى مخرجات معينة، ستكون اقل إلى حد كبير من الإيرادات التي سيتم تحصيلها من بيع المنتج “ج” في سوق السلع الاستهلاكية. مثل هذا الاحتمال أو التصور قد يبدو بأنه، إلى حد ما، معقد (في حال مقارنته مع الاحتمالات التي تم بحثها قبل ذلك). ولكن، يجب علينا أن نلاحظ بان مثل هذا الاحتمال هو من بين الاحتمالات التي يقوم المشترون بموجبها بدفع أسعار أعلى مما هو ضروري وأن البائعين يبيعون بأسعار اقل مما هو ضروري، تماما كما هو الحال لدى سوق سلعة أو خدمة منفردة والتي تم بحثها في القسم السابق من هذه المقالة. وبناء عليه، فان أولئك الذين يبيعون المدخلين “أ” و”ب” بأسعار يكون مجموعهما اقل من السعر الذي يتم دفعه للمنتج “ج”، قد يكونوا، من حيث المبدأ، أنتجوا المنتج “ج” وباعوه بسعر أعلى (بما أن المدخلين “أ” و”ب” هما المطلوبان فقط لإنتاج المنتج “ج”). فربحية هذا الخط من الإنتاج ستنتج عن تباعد (مخفي) في الأسعار “التي تخص نفس مادة المنتج” في نفس السوق (أي أنها ناتجة عن ظروف يمكن في ظلها شراء كل شيء يلزم لإنتاج المنتج “ج” بسعر اقل من سعر السوق بالنسبة للمنتج “ج”). وهكذا، من الممكن لنا أن نتوقع (ما لم نفترض وجود تحكم احتكاري يسيطر على الوصول إلى مصدري المدخلين “أ” و”ب”) بان تنزع مثل هذه الربحية إلى جذب انتباه ويقظة ريادية منافسة، وهو الشيء الذي سوف ينزع إلى إزالة ربحية هذا الخط من الإنتاج (بفعل الضغط على سعر المنتج “ج” ومجموع سعري المدخلين “أ” و”ب” معا كي يقتربا من بعضهما بشكل وثيق).
وبالرغم من كون هذا الموقع ليس هو بالمكان الملائم للتحليل بهذا الشكل، إلا أن أي تحليل مشابه يتم القيام به سيكون بإمكانه أن يثبت بان هناك ارتباطا واسعا بين البحث الذي أجريناه من قبل حول “قانون” العرض والطلب وبين الجوانب الرئيسية، على اقل تقدير، لاحتمالات السوق المعقدة.
السبب والمسبب في الشؤون الاقتصادية
لقد عمل البحث الذي قمنا به على إيضاح الطريقة التي تقوم بموجبها النظرية الاقتصادية البسيطة بتعليل وجود سلسلات سبب ومسبب محددة ومنتظمة في مجال الشؤون الاقتصادية. وبالفعل، هناك طرق محددة موجودة يتم وفقها اتخاذ قرارات اقتصادية في أية فترة واحدة تنزع إلى أن تأخذ بالاعتبار المنتظم تلك القرارات الأخرى التي يتم اتخاذها في نفس السوق. وبهذه الطريقة، تقوم أية قرارات يتم إصدارها بصياغة وقولبة بعضها البعض وفق أسلوب منهجي منتظم. كما أننا رأينا كيف يمكن لذلك الأسلوب، والذي بموجبه تنزع مثل تلك “القولبة” إلى البروز، أن يبدو وكأنه، للوهلة الأولى على اقل تقدير، يستحق بان يدعى باسم “الحميد”. ومثل هذا التحليل البسيط سوف يساعدنا على أن نفهم، من حيث المبدأ، كيف يمكن للنظرية الاقتصادية أن تؤدي إلى صدور أحكام وآراء تتعلق “بجودة وصلاح” مبادرات سياسة عامة معينة من خلال التداعيات والتبعات الواعدة لمثل تلك المبادرات.
والآن، نحن على استعداد أن نقوم، في المقالة الأخيرة من هذه السلسلة، بمعالجة المسألة التي تم عرضها في بداية المقالة الأولى، وهي: هل يمكن أن تتم ترجمة الفهم الاقتصادي الإيجابي اليقيني إلىمشورة اقتصادية موضوعية ومشروعة علميا؟
مجلة فريمان، أيلول 2006.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 15 حزيران 2007.

peshwazarabic6 نوفمبر، 20100

خلال العقدين الأخيرين لقي الأداء الاقتصادي الصيني الملفت للنظر إشادة يستحقها باعتباره معجزة اقتصادية. أود في هذا المقال أن أعرض بإيجاز لمصادر هذه المعجزة وبيان المشاكل الجدية التي لا زالت الصين تواجهها بسبب الضغوط المالية المستمرة الناجمة عن مؤسسات اقتصادية حكومية لم تستفد من الإصلاحات وتعمل دون كفاءة، وتقديم حل محتمل على أساس استخدام كفء لموارد الصين المزدهرة من العملات الأجنبية.
معجزة الصين الاقتصادية

مصادر المعجزة الاقتصادية الصينية معروفة جيداً، فقد أدى ارتفاع معدل المداخيل في الأرياف مع تبني نظام المسؤولية الأسرية (التحول عن المزارع الجماعية) والإضافة الناجمة عن التحول الديمغرافي وانخفاض نسبة الإعالة (نسبة الأطفال والمسنين إلى العاملين) إلى زيادة ملحوظة في معدلات الادخار. وكان هناك نتيجة بارزة غير مقصودة ترتبت على إنهاء العمل بنظام المزارع الجماعية وهي انطلاق الازدهار في المشاريع الصغيرة غير الزراعية في الريف والتي بدأت بموعظة دينغ زيوبينغ القائلة بأن من الفضيلة أن يكون المرء غنياً. فاعتنق مسؤولو الحزب المحليون هذه المقولة وأصبحوا مدراء ومشرفين على مشاريع المدن والقرى.
مع ارتفاع المداخيل من المزارع تمت تلبية الطلب المكبوت على السلع المنزلية والصناعية من قبل مؤسسات مشاريع المدن والقرى التي كان قد تم البدء بإدارتها باعتبارها مشاريع رأسمالية ربحية رغم أنها كانت مملوكة بنظام جماعي. لقد وفرت هذه المشاريع للسلطات المحلية “عائدات إضافية لموازناتها” وأتاحت للمسؤولين فرصاً مشروعة ليصبحوا أثرياء.
على عكس المشاريع الاقتصادية الحكومية، لم تكن مشاريع المدن والقرى مثقلة بأي مسؤوليات دعم اجتماعي وكانت لها الحرية في توظيف أو تسريح من تشاء من العمالة المحلية الوافرة. ومع إنشاء دينغ للمناطق الاقتصادية الخاصة على الحواف الجنوبية للصين في أوائل ثمانينات القرن الماضي أصبحت مشاريع المدن والقرى—ثم الشركات الخاصة المملوكة للأفراد فيما بعد—هي رأس الرمح في رأسماليةٍ ديكنزية.
هذه المشاريع غير الحكومية أدخلت الصين إلى مركز عمليات السلع الصناعية في العالم. تحقق النجاح بفضل العمالة الرخيصة في الريف الصيني بالتضافر مع التكنولوجيا الأجنبية، وبالاعتماد على التمويل الذاتي من الادخارات الأسرية وأرباح المشاريع إضافة لرأس المال الوارد من الجاليات الصينية في الخارج وجنسيات متعددة كثيرة، والمشاركة في منافسات محلية شرسة شجعتها السلطات البلدية المحلية.[1]هذا التصنيع العمالي المكثف أخذ ينتشر الآن إلى الداخل بمحاذاة اليانغ تزي (الإيكونوميست 2004: 13).
ارتفع عدد العاملين في مشاريع المدن والقرى من 28 مليوناً عام 1978 إلى 60 مليوناً عام 1996، وكان هناك نمو كبير في المشاريع المملوكة للأفراد، حيث ارتفع عدد هذه المشاريع من لا شيء عام 1978 إلى 4 ملايين مشروع عام 1984 و23 مليوناً عام 1996 وباستخدام 76 مليون عاملاً. هذه المشاريع شكلت المحرك لحركة التصنيع العمالي المدهشة في الصين. ويقدر آنغوس ماديسون (1998) أن القيمة المضافة الحقيقية في هذا القطاع الصغير الجديد بحوالي 22% سنوياً خلال الفترة بين عامي 1978-1994.
هذه التحولات على هامش إلغاء المزارع الجماعية صادفت دعماً من الإنشاءات المكثفة في البنية التحتية من قبل الدولة، كما لاقت صناعات التصدير القائمة على الكثافة العمالية مزيداً من الدعم بسبب الإصلاحات التسعيرية الداخلية وعن طريق أكبر عملية تحرير أحادية للتجارة الخارجية في التاريخ. معظم الأسعار النسبية في الصين هذه الأيام (وعلى عكس الهند) تواكب إلى حد كبير الأسعار العالمية. تفجرت الصادرات الاقتصادية ونمت ثمانية أضعاف بين عامي 1978 و1995. بحلول عام 1993 كانت الصين ثالث بلد تجاري في العالم وذلك عندما زادت قيمة تجارتها عن 200 بليون دولار—وهو ما يعادل ضعف التجارة الكلية للهند عام 2002. وتعادل حصة الصين من التجارة العالمية ستة أضعاف حصة الهند (لاردي 2003).
يعتمد التصنيع الموجه للتصدير في القطاع الخاص على تركيب أجزاء مستوردة باستخدام رأسمال وتكنولوجيا محلية وأجنبية وعمالة محلية رخيصة. نما القطاع الخاص بسرعة كبيرة بحيث أن حصته في القيمة المضافة في قطاع الأعمال غير الزراعية قد بلغ حوالي 60% (انظر جدول 1) في حين أن حصة هذا القطاع من الإنتاج الصناعي تزيد الآن عن 70% مقارنة مع القطاع الراكد للدولة الذي تراجعت حصته من حوالي 80% عام 1978 إلى حوالي 28% عام 1998 (لاردي 2002: 15). أدى هذا التحول إلى نمو مدهش في الاقتصاد الصيني خلال العقدين الأخيرين: 9%-10% سنوياً وفقاً للتقديرات الرسمية و7%-8% وفقاً لتقديرات مستقلة. ولكن القطاع الحكومي لا يزال يسيطر على أكثر من 70% من جميع الموجودات الثابتة و80% من مجمل رأس المال العامل في الصناعة.

سمح هذا النمو المحفز عمالياً، والذي قام إلى حد كبير على أساس الاستثمار الخاص، بتحول أعداد كبيرة من العمال منخفضي الأجور من القطاعين الزراعي والحكومي المتراجع على السواء ومَكَّن الصين من النمو بـ”السير على ساقين”—أي الإبقاء على حركة ساق المشاريع المملوكة للدولة وفي الوقت نفسه التوسع في القطاع غير الحكومي، وبذلك تجنبت هذه الاستراتيجية الخسارة في الإنتاج والعمالة والفوضى الاجتماعية المصاحبة التي اتسمت بها الاقتصادات المتحولة الأخرى عند انتقالها من مرحلة التخطيط إلى مرحلة السوق.[2] بيد أن هذه الاستراتيجية تواجه الآن بعض العوائق الجدية والتي إذا لم تجر معالجتها قد تؤدي إلى تآكل المعجزة الصينية. المشاكل جميعها تتصل بالمشاريع المملوكة للدولة التي تتسم بعدم الكفاءة وعدم القابلية للإصلاح.
عوائق التنمية المستقبلية في الصين
في الوقت الذي كان فيه القطاع غير الحكومي ينمو، تعهدت الصين بإجراء إصلاح تدريجي على مشاريعها الصناعية المملوكة للدولة. معظم هذه المشاريع كانت قد أقيمت، كما في الهند، بموجب استراتيجية التصنيع الثقيل غير القابلة للاستمرار. بقيت المؤسسات المملوكة للدولة عاملة في فترة الإصلاح لتجنب الخسارة في الإنتاج والتشغيل حتى يصبح القطاع غير الحكومي النشط كبيراً بما فيه الكفاية لاستيعاب العمالة التي ستنجم عن إغلاق تلك المؤسسات.
في الفترة السابقة للإصلاح (قبل عام 1978) لم توفر استراتيجية التنمية الصينية سوى فرص تشغيل محدودة في مناطق المدن، مما جعل الحكومة توظف عدة عمال للقيام بنفس العمل وكانت النتيجة ترهلاً عمالياً كبيراً في المؤسسات المملوكة للدولة. وحيث أن هؤلاء العمال الصناعيين كانوا يتلقون أجوراً ضئيلة لتغطية نفقاتهم المعيشية اليومية فقد كان على الحكومة أن تغطي أيضاً النفقات المتعلقة بتقاعدهم وتأمينهم الصحي وسكنهم والنفقات الاجتماعية الأخرى من عائدات إنتاج المؤسسات المملوكة للدولة والتي كانت مخصصة لتحويلها إلى الدولة. ولم تكن المؤسسات المملوكة للدولة في فترة الإصلاح مسؤولة فقط عن الرواتب بل أيضاً عن هذه المنافع “الاجتماعية” التي فرضت “أعباء اجتماعية” على تلك المؤسسات لم تكن مفروضة على نظيرتها من المؤسسات غير الحكومية. وقد ازدادت هذه الأعباء في فترة الإصلاح عندما نمت الأجور والمنافع التي تدفعها المؤسسات المملوكة للدولة بنسبة 16% سنوياً بين عامي 1978 و1996 بينما كان إنتاجها ينمو بنسبة 7.6% سنوياً (راجع لين 2004).
تفاقم العبء الاجتماعي للمؤسسات المملوكة للدولة بما يطلق عليه جوستن لين “العبء الاستراتيجي” الناجم عن عدم الربحية المتزايدة لهذه المشاريع الرأسمالية المكثفة في اقتصاد يعتمد بصورة متزايدة على السوق المفتوح كما تبين من افتقارها لمواكبة المزايا النسبية للصين. وهكذا، فبالرغم من التحسن الذي طرأ على الممارسات الإدارية في المؤسسات المملوكة للدولة في إنتاجيتها متعددة العوامل (راجع لي 1997) وفي معدلات عائداتها المالية (انظر جدول 2) فإن معظم المؤسسات المملوكة للدولة لا تدر أرباحاً.[3] ويقدر لين (2004) بأنه حتى بعد الدعم الضمني الكبير بقروض منخفضة الفائدة وأوجه الدعم الحكومي الأخرى فإن ما يزيد على 40% من المؤسسات المملوكة للدولة تعمل حالياً بخسارة.

تحركت الحكومة الصينية بحذر في معالجة مشكلة المؤسسات المملوكة للدولة بسبب قلقها من الأزمات الاجتماعية التي قد تنتج عن إغلاق هذه المؤسسات بالجملة. بين عامي 1995 و2002 تراجعت الوظائف في القطاع الحكومي من 109 مليون إلى 70 مليون بسبب إغلاق معظم المؤسسات المملوكة للدولة التي لا تدر أرباحاً.[4] أما البقية فقد استمرت بسبب الدعم من خلال النظام المصرفي. ما تلا ذلك من إفساد للنظام المالي والاستخدام غير الكفء للادخارات المحلية الهائلة يطرح مشاكل جدية على الاقتصاد الصيني في المستقبل.[5]
يمكن إيضاح العبء الذي تلقيه المؤسسات المملوكة للدولة على أداء الاقتصاد الصيني بصورة أفضل بمضاهاة معدلات الادخار في الهند والصين وبالنمو الاقتصادي الذي أنتجته هذه الادخارات. معدلات الادخاء في الصين البالغة حوالي 40% تعادل تقريباً ضعف معدلها في الهند، ولكن معدل النمو في الصين لا يزيد سوى بنسبة 2%-3% عن معدله في الهند مما يعني نسب زيادة في معدلات الإنتاج الرأسمالي قيمتها 5.3 للصين و3.8 للهند.[6] السبب في ذلك هو أن حوالي 90% من الادخارات الأسرية في الصين تودع في المصارف المملوكة للدولة التي توجهها بأسعار مدعومة لمؤسسات مملوكة للدولة منخفضة العائدات وخاسرة غالباً. القطاع الخاص الكفء مكتظ بشكل لا يسمح له بالوصول إلى معظم الادخارات الصينية، ولذلك ينخفض النمو الإجمالي نتيجة للعائدات المنخفضة من القطاع الحكومي. هذا الدعم المتواصل للمؤسسات المملوكة للدولة لمواجهة الأعباء الاجتماعية التي تفرضها استراتيجية التنمية السابقة القائمة على تشجيع الصناعة الثقيلة عن طريق التخطيط أخذ يؤدي لمشاكل جدية في الإدارة الاقتصادية وقصور في التخصيص للاستثمارات.
إن التزام الصين باستراتيجية تنموية عفا عليها الزمن—لا تتماشى مع الميزة النسبية لعمالة وافرة وبلدٍ نامٍ يفتقر لرأس المال—قد أدى إلى كبتٍ مالي بحيث أصبح يتعين على الحكومة احتكار جمع وتخصيص المدخرات في الاقتصاد وبمصاحبة ضوابط استيراد مشددة (راجع لين 2003، لال [1983] 2002). هذه الاستراتيجية تسمح بخفض مصطنع للأسعار النسبية لرأس المال النادر للاقتصاد لجعل الاستثمارات ذات الرأسمال المكثف قابلة للبقاء. من هنا فإن حوالي 90% من الادخارات الأسرية في الصين اليوم لا تزال مودعة في مصارف تملكها الدولة، وسبب ذلك في جانب منه هو عدم وجود أدوات ادخار بديلة. من الواضح أنه لا يتم تشجيع بدائل مثل الاستثمار في أسهم شركات غير حكومية سريعة النمو لأن من شأن ذلك التحول عن توجيه الأموال عن شركات مملوكة للدولة مفضلة سياسياً. الحقيقة أن معظم ودائع البنوك يجري تسليفها (بصورة مباشرة أو غير مباشرة) لشركات مملوكة للدولة بينما يأتي معظم الاستثمار في القطاع غير الحكومي إما بتمويل ذاتي أو بالاعتماد على رأس المال الأجنبي.[7] ومع وجود عدد قليل فقط من مشاريع النمو المملوكة للقطاع الخاص على استعدادٍ، أو يُسمح لها بإصدار أسهم فإن الأسهم التي يجري تداولها في أسواق المال المحلية هي بشكل رئيسي أسهم لشركات مملوكة للدولة التي لا تجتذب، بسبب عدم شفافية ممارساتها المحاسبية والقناعة العامة بعدم قابليتها للاستمرار، الأسر لاستثمار مدخراتها في هذه الأسهم. من هنا فإن أسواق الأسهم المحلية تقليدية وهشة. كما أن معظم ما يفترض أنه استثمارات خاصة ضخمة لها هيكلية ملكية جامدة في أحسن الأحوال وتكون على الأرجح تحت سيطرة الدولة (راجع الإيكونوميست 2005: 60). الاستثمارات الخاصة الحقيقية، وهي المنحدرة من مشاريع المدن والقرى، لا تدرج أسهمها في سوق الأسهم المحلية وتعتمد بصورة أكبر في احتياجاتها الرأسمالية على التمويل الذاتي والاستثمار المباشر فيها من قبل المغتربين الصينيين (انظر الجدولين 3 و4).

يشكل الافتقار لآليات ادخار مناسبة والعائد المتدني من المدخرات الأسرية في المصارف المملوكة للدولة تهديداً مستقبلياً لإدامة معدل الادخار المرتفع في الصين، خصوصاً عند الأخذ بالحسبان الانخفاض الطبيعي للمدخرات بسبب الارتفاع المتوقع لنسبة الإعالة مع ازدياد المعدل العمري للسكان اعتباراً من حوالي عام 2010. ولكن المصارف المملوكة للدولة لا تستطيع الترويج لمزيد من الادخار عن طريق رفع نسبة الفائدة على الودائع لأن ذلك سيؤدي إلى رفع معدلات إقراضها للمشاريع الخاسرة المملوكة للدولة والتي ستزداد خسارتها مما يدفع المصارف لزيادة قروضها من جديد لتغطية هذه الخسائر وبالتالي زيادة القروض غير العاملة في الجهاز المصرفي.

إن صعوبات الاقتصاد الجزئي هذه، في استخدام معدلات الفوائد لحفز الادخار ومن أجل غربلة واستخدام الاستثمارات، تزداد تعقيداً بما يترتب على الاقتصاد الكلي من كبت مالي. ونظراً لأن سعر الفائدة لا يمكن استخدامه كأداة لإدارة الطلب الكلي فهناك حاجة لإجراءات إدارية قاسية، مع ما يصاحبها من قصور متأصل وفعالية محددة (في ضوء التمويل الذاتي لمعظم الاستثمارات الخاصة) لتهدئة الاقتصاد. إضافة لذلك، وفي ضوء هشاشة النظام المصرفي فلا يمكن أن يجري فتح تام لحساب رأس المال في ميزان المدفوعات متبوعاً بالانتقال لنظام أسعار صرف كامل المرونة لأن ذلك قد يؤدي إلى أزمة مالية خطيرة.
لا أعتقد، خلافاً لمراقبين عديدين، بأن النمو الصيني بقيادة الصادرات قد اعتمد على إدامة سعر صرف مخفض لأن معظم الصادرات الصناعية الصينية هي سلع مصنعة ليس فيها سوى قيمة مضافة محلية صغيرة،[8] والتغييرات في أسعار الصرف لا يتوقع أن يكون لها تأثير ملحوظ على أرباحها. تبعاً لذلك فإن سعر صرف مرنا لن يؤثر على ظاهرة النمو المرتفع في الصين بقيادة الصادرات، بل إنه سيتيح بالأحرى استخداماً أكثر كفاءة للمدخرات الوطنية الصينية ويقاوم الضغوط المتزايدة لإعادة تقييم اليوان من قبل مؤسسات المضاربة وكبار الشركاء التجاريين للصين وهي الضغوط التي تراجعت ولكن لم تختف بفعل الإجراءات الأخيرة لتعويم مسيطر عليه لليوان مقابل سلة من العملات وبفعل إعادة تقييم متواضعة تم اتخاذها.
تكمن خلف كل هذه المخاطر المحتملة التي تواجه الاقتصاد الصيني حالياً الأعباء الاجتماعية والسياسية التي تفرضها الاستثمارات المملوكة للدولة بسبب استراتيجية التنمية السابقة في الصين. الجواب يجب أن يكون بإزالة هذه الأعباء بحيث يمكن خصخصة الاستثمارات المملوكة للدولة والقابلة للاستدامة وإفساح المجال لها للازدهار في اقتصاد سوق عالمي متكامل أو إغلاق تلك الاستثمارات دون التسبب في أزمات محلية. لحسن الحظ، تستطيع الصين القيام بذلك بفضل الاحتياطيات الصينية المتجمعة من العملات الأجنبية.
استخدام احتياطيات العملات الأجنبية للمساعدة في إنهاء الكبت المالي

يبدو أن الحكومة الصينية تستخدم احتياطياتها من العملات الأجنبية للتعامل مع مشكلة الاستثمارات المملوكة للدولة ولكن بطريقة تجعلها على الأرجح كثيرة التلف. الصين تستخدم هذه الاحتياطيات كجزء من استراتيجيتها لتحويل أفضل شركاتها المملوكة للدولة إلى “شركات عالمية منافسة متعددة الجنسية” وبصورة رئيسية تلك العاملة في قطاع الموارد الطبيعية إضافة لأخرى تعمل في بعض مجالات السلع الاستهلاكية والصناعات التكنولوجية المتطورة حيث تأمل أن تصبح هذه علامات تجارية عالمية. إلا أن الإقبال الكبير مؤخراً من قبل الشركات المملوكة للدولة في الصين على امتلاك شركات أجنبية كبيرة يبدو ذا قيمة اقتصادية مشكوك بها. معظم الموارد الطبيعية مثل النفط وخام الحديد أصبحت الآن سلع دولية تجري المتاجرة بها بكميات كبيرة. التكلفة المكافئة الفعلية للاستخدام المحلي لهذه الموارد تبقى السعر العالمي المتذبذب الذي يتقرر على أساس العرض والطلب عالمياً. ليس من المنطق في شيء الافتراض بأن مجرد امتلاك منجم لخام الحديد أو حقول نفط في الخارج فإن كلفة استخدام هذه الموارد داخل البلد ستكون أقل من السعر العالمي الذي يمكن استيرادها بموجبه. إضافة لذلك فإن امتلاك موجودات أجنبية لا يضمن أن ملكية كهذه ستعطي مزيداً من الأمان باستمرار التزود بالموارد أكثر مما تؤمنه العقود الآجلة لتلك الموارد في الأسواق العالمية—ما لم يهدف الصينيون إلى تدعيم حقوق ملكيتهم في تلك الموجودات الأجنبية بالقوة العسكرية ضد أي محاولة لاستملاكها من قبل النخبة المحلية الوطنية الفاسدة. كما أن من المستبعد أن يكون عائد الأرباح من هذه الاستثمارات المملوكة للدولة أعلى في حالة تشغيلها في الخارج بدلاً من داخل البلاد وذلك للسبب المعروف جيداً المتعلق بالحوافز وقيود الميزانيات في الاستثمارات العامة.[9]
كما أن من المشكوك فيه أيضاً أنه سيكون بوسع الصين إنشاء شركات عالمية المستوى في إنتاج السلع الاستهلاكية والصناعات التكنولوجية المتطورة انطلاقاً من الشركات المملوكة للدولة.[10] المشكلة تظل في أن الشركات المملوكة للدولة (مهما جرى تمويه مدى سيطرة الدولة عليها) تحمل بين جوانحها دوماً المشاكل المعروفة جيداً من إدارة متصلبة وعدم كفاءة ينشئان عن قيود الموازنة. لقد ثبت من خلال التجربة على نطاق العالم أن الحل الوحيد للشركات المملوكة للدولة هو الخصخصة. استخدام احتياطيات العملة الأجنبية لتمكين هذه الشركات المملوكة للدولة من امتلاك شركات أجنبية هو بمثابة تبديد عملة جيدة للحصول على عملة رديئة. وأحد الخيارات الأفضل لهذه الاحتياطيات هو استخدامها لإتمام عملية خصخصة ما تبقى من الشركات المملوكة للدولة دون التسبب في أزمات اجتماعية.
تبلغ احتياطيات الصين من العملة الأجنبية الآن 875 بليون دولار وهي تعني في اقتصاد يبلغ حجمه 2 تريليون دولار تقريباً أنها تعادل حوالي 44% من الناتج المحلي الإجمالي في الصين. هذه الاحتياطيات محفوظة حالياً بنسبة كبيرة على شكل سندات خزانة أمريكية. بصرف النظر عن سخافة قيام بلدٍ نامٍ فقير نسبياً في رأس المال بهذه التحويلات الضخمة من رؤوس الأموال دون مقابل إلى بلد ثري برؤوس الأموال، فإن الصين لا بد وأنها قد شهدت خسارة في القيمة الحقيقية لهذه الأصول، حيث أن الدولار الأمريكي منذ أن وصل إلى أعلى سعر له عام 2002 قد انخفض بعد ذلك بما يزيد على 30% بمعايير التبادل التجاري إزاء العملات الرئيسية وفي وقت كان فيه مؤشر سيتي غروب لعائدات سندات الخزينة هو نسبة متواضعة بلغت 2.3%. ومن المحتمل أن يكون العائد على استثمارات الاحتياطيات الصينية من العملات الأجنبية (بمعايير التبادل التجاري) سالباً خلال السنوات القليلة الماضية. جزء صغير من هذه الاحتياطيات تم وضعه في استثمارات صينية أجنبية في الخارج (2.9 بليون دولار عام 2003 ولكن الرقم قد ازداد على الأرجح الآن في ضوء سعي الصين الحثيث مؤخراً لامتلاك أصول مصادر طبيعية أجنبية)، إلا أن هذه الاستثمارات لن تحقق على الأرجح عائدات أكبر.
هناك طريقة أفضل بكثير لاستخدام احتياطيات الصين من العملات الأجنبية. ليس هناك حاجة سوى لجزء صغير منها—لنقل 100 مليون دولار—لمقاومة أي هجمات مضاربة على اليوان ولإدامة المؤشر المتحرك المختار إلى سلة العملات تحت التعويم المسيطر عليه من قبل الصين. مبلغ الـ775 بليون دولار الباقية، إضافة إلى ما يتجمع من احتياطيات أخرى مستقبلاً، يمكن وضعها في صندوق إعادة بناء اجتماعي تحت إشراف بنك الشعب الصيني—البنك المركزي. يكن إدارة هذا الصندوق مثل العديد من صناديق التقاعد العامة التي تشرف عليها لجان تقرر التوزيع القطاعي العريض لموجودات الصندوق والعائدات المستهدفة (مع المحافظة على قيمة رأس المال) والتي تتوقع من مدراء الصندوق تجاوزها.
تبلغ قيمة صندوق التقاعد في البنك الدولي، على سبيل المثال، 10 بلايين دولار، والتخصيص المقرر من قبل إدارة البنك هو: حصص الولايات المتحدة 19%، وحصص خارج الولايات المتحدة 16%، وصناديق متاجرة لغاية 12%، وحصص خاصة لغاية 12%، وعقارات لغاية 8% وأوراق مالية ثابتة الدخل 40%. في عام 2003 بلغت عائدات الصندوق 18.4% وكان معدله على امتداد 10 سنوات هو 8% تقريباً. ليس هناك سبب يحول دون تحقيق صندوق إعادة البناء الاجتماعي لنتائج كهذه طالما كانت الإدارة اليومية للصندوق تتم من قبل فريق مختار من جميع أنحاء العالم وتحميله المسؤولية أمام بنك الشعب الصيني. تبعاً لذلك سيكون من المتوقع أن يحقق الصندوق عائدات تبلغ 62 بليون دولار من موجوداته المقترحة البالغة 775 بليون دولار. ولكن حتى لو كنا متشائمين وافترضنا أنه سيحقق معدل عائدات على المدى الطويل بنسبة 5% سنوياً (مع المحافظة على قيمة رأس المال) فإن هذه النسبة ستبلغ 39 بليون دولار سنوياً على الأقل، وسيتمكن الصندوق بالتالي من تحقيق أرباح تبلغ 2%-3% من الناتج المحلي الإجمالي الصيني كدخل له كل سنة.
ينبغي استخدام هذا الدخل السنوي من صندوق إعادة البناء الاجتماعي مبدئياً لتخفيف الأعباء الاجتماعية الحالية الناجمة عن دعم المؤسسات المملوكة للدولة. بعد ذلك يمكن التعامل مع هذا الدخل كاستثمارات تجارية عادية يمكن خصخصتها إذا تبينت نجاعتها أو إغلاقها في حالة العكس. من شأن هذا الإصلاح أن يضع حداً للدعم المقدم من النظام المصرفي الذي جعله هشاً وإتاحة المجال لإجراء حسابات شفافة للمؤسسات المملوكة للدولة التي يتم خصخصتها والمدرجة في أسواق الأوراق المالية ويتيح المجال للمصارف بالقيام بوظائفها التوسطية الرئيسية المتمثلة في التشغيل الكفؤ للادخارات المحلية وتحويلها إلى مشاريع استثمارية تدر دخلاً مرتفعاً، والسماح للصين بتعويم اليوان. بمرور الوقت ستختفي مشكلة الاستثمارات المملوكة للدولة وقد يصبح الدخل المتأتي من استثمارات صندوق إعادة البناء الاجتماعي أساساً لنظام تقاعدي كامل التمويل للصينيين الذين تتزايد معدلات أعمارهم.[11]
الخلاصة
يتبين لنا أن صندوق إعادة البناء الاجتماعي يوفر وسيلة للصين للانتقال كلياً من التخطيط إلى السوق عن طريق إزالة أسباب الهشاشة في نظامها المالي، وفي نفس الوقت إزالة أي خطر من حدوث أزمات اجتماعية قد تنجم عن التخلص من الأعباء الاجتماعية الحالية المرتبطة بدعم الشركات المملوكة للدولة أو من الحاجة في المستقبل لتوفير مخصصات تقاعدية لسكان معمرين.
مجلة كيتو، المجلد 26، العدد 2 (ربيع/صيف 2006).
ملاحظات:

[1] جزء كبير من الاستثمار الأجنبي في الصين يتكون من رأسمال خاص صيني أعيد تدويره عن طريق هونغ كونغ. أهمية هونغ كونغ لنمو المشاريع غير الحكومية في الصين تكمن في كفاءة أسواقها المالية ونظامها القانوني.
[2] كانت مهمة نقل الصين من مرحلة التخطيط إلى مرحلة السوق أسهل بكثير منها في الاقتصادات الاشتراكية المتحولة الأخرى في روسيا وشرق أوروبا نظراً لاختلاف الظروف الأساسية بينها. كانت روسيا ودول أوروبا الشرقية تستخدم حوالي 90% من عمالتها في مؤسسات صناعية مملوكة للدولة بينما كانت معظم القوة العاملة في الصين (80%) تعمل في الزراعة. وكان السبيل الوحيد لروسيا وأوروبا الشرقية للوصول إلى اقتصاد السوق هو “انفجار كبير” لتفكيك المؤسسات المملوكة للدولة والذي نجم عنه خسارة مؤقتة في الإنتاج والتشغيل. نقيضاً لذلك فإن الصين، باستبدالها نظام الوحدات الجماعية الريفية بنظام المسؤولية الأسرية فقد أصبح الجميع يدير مزارع مملوكة عائلياً وبملكية خاصة ما عدا التسمية. هذا “الانفجار الكبير” الزراعي الصيني أدى إلى زيادة الإنتاج ووفر للصين فسحة من الزمن لإدخال إصلاح تجريدي على المشاريع الصناعية غير الكفؤة المملوكة للدولة.
[3] يفيد تقرير لمنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (2005: 3) أن الأرقام الواردة في معدل عائدات المؤسسات المملوكة للدولة والمبينة في جدول (2) أعلاه تعود لعدد قليل من الشركات: “ما يزيد على 35% من جميع الشركات المملوكة للدولة لا تدر أرباحاً وواحدة من كل ست منها خاسرة.”
[4] يفيد تقرير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (2005: 3) بأنه “قد تم في تسعينات القرن الماضي تحويل المؤسسات المملوكة للدولة إلى تعاونيات ذات هيكلية اقتصادية قانونية رسمية وكثير منها تم إدراجها في الأسواق المالية التي تم إنشاؤها في أوائل تسعينات القرن الماضي. منذ عام 1998 تم بنجاح تطبيق سياسة إغلاق المؤسسات الصغيرة وإعادة هيكلة المؤسسات الكبيرة حيث تراجع عدد الاستثمارات الصناعية المملوكة للدولة بأكثر من النصف خلال الخمس سنوات التالية. وتم تعديل عقود العمل بحيث أصبحت أكثر مرونة مما أدى إلى خفض عدد الوظائف في القطاع الصناعي بما يزيد على 14 مليون وظيفة في الفترة المنتهية في عام 2003. وقد ساعد على إنجاح هذه العملية إطلاق برامج بطالة ودعم اجتماعي نقلت عبء تعويض العمال الفائضين عن الحاجة من المؤسسات إلى الدولة.”
[5] لاحظت نشرة خدمة أبحاث الكونغرس (2005: 10) في تقريرها للكونغرس حول الحالة الاقتصادية الصينية بأن “ما يزيد على 50% من القروض الحالية من المصارف المملوكة للدولة تخصص لمؤسسات مملوكة للدولة رغم أن من المستبعد تسديد جزء كبير من هذه القروض.”
[6] هذه الأرقام مستمدة من ماديسون (2003: 174-184) الذي حدد نسبة النمو في الناتج المحلي الإجمالي عام 1990 بالأسعار الحقيقية بنسبة 7.5% سنوياً في الصين و6.1% في الهند خلال الفترة من 1991-2001، ومعدل استثمار بنسبة 40% للصين و23.3% للهند في عام 1999.
[7] وجد هوانغ (2003) أن رأس المال الصيني في الخارج كان وسيلة هامة ساعدت الاستثمارات غير الحكومية في التغلب على التشوهات في أسواق رأس المال الصينية. نقيضاً لذلك، فإن الاستثمارات المباشرة من الجنسيات المتعددة قد ذهبت بصورة رئيسية إلى شركات مملوكة للدولة، وكثير من رؤوس الأموال هذه أسيء تخصيصها. الجنسيات المتعددة يحتفظون بملكية التكنولوجيا كلها تقريباً، كما أنهم يشكلون المنفذ التسويقي لمعظم الصادرات الصناعية من الاستثمارات غير المملوكة للدولة التي أصبحت مراكز إعداد وتأهيل للشركات متعددة الجنسيات.
[8] تقدر هذه بحوالي 20% من قيمة الإنتاج.
[9] تقع الهند أيضاً في خطأ مماثل حيث تستخدم احتياطياتها الضخمة من العملات الأجنبية للقيام بجولة تسوق عالمية لموجودات المصادر الطبيعية الأجنبية.
[10] لاحظت الإيكونوميست (2005: 61) أنه لدى النظر إلى الوراء ومراجعة النتاج الأول للشركات الريادية المحتملة قبل عقد من الزمن فإن معظمها قد انهار. هناك على سبيل المثال “شركة دي لونغ، وهي شركة مختلطة تتعامل في الخدمات الغذائية والمالية نالت ثناءً باعتبارها شركة ذكية اشترت علامات تجارية أجنبية بأسعار زهيدة وخفضت النفقات بنقل المصانع إلى الصين—حتى جاءت السنة الماضية فانهارت وهي مثقلة بالديون.”
[11] تبلغ نسبة من يغطيهم نظام التقاعد من السكان في سن العمل حوالي 14% فقط، وقد أنشأت إصلاحات عام 1997 نظاماً ذا طبقتين يتم صرف مبلغ ثابت بموجب الطبقة الأولى منه ومبلغ نسبي بموجب الطبقة الثانية يستند إلى مساهمة العامل. يمكن لهذه الطبقة الثانية أن تصبح الأساس لإيجاد حسابات شخصية كاملة التمويل مع استثمار المساهمات في أسواق المال المحلية والعالمية. كما أن الصين قد التزمت أيضاً باستخدام جزء من عائدات بيع الاستثمارات المملوكة للدولة للمساعدة في تمويل الحسابات الفردية (منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية 2005: 1).
© معهد كيتو، منبر الحرية، 14 حزيران 2007.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018