علم الاقتصاد و التجارة الحرة

peshwazarabic6 نوفمبر، 20100

قبل خمسة عشر عاما، كان لدى مؤيدي الضريبة الثابتة العديد من النظريات الداعمة والقليل جدا من البيانات الحازمة. لقد دافع ميلتون فريدمان عن الضرائب الثابتة، ولكن المؤسسة السياسية تجاهلت هذه الجهود إلى حد بعيد. لقد كان لدى هونغ كونغ ضريبة ثابتة، ولكن النقاد رأوا أنها كانت حالة خاصة إلى حد ما. وكذلك الحال بالنسبة إلى إقليمي جيرسي وغيرنسي التابعين إلى بريطانيا والتي كان لديهما أنظمة ضريبة الثابتة، ولكن العالم الخارجي لا يدري عن هذه النظم وما يزال يجهلها إلى حد كبير.
لقد تغير العالم. اليوم، وبسبب المنافسة الضريبية، هناك 16 دولة تتمتع بأحد أشكال الضريبة الثابتة؛ وهناك دولتان على وشك الانضمام إلى هذه المجموعة. وباستثناء آيسلندا وموريشيوس، فإن جميع الدول التي فرضت ضريبة ثابتة جديدة هي جمهوريات سوفييتية سابقة أو دول تابعة للكتلة السوفييتية السابقة. ويعتبر هذا دلالة على المنافسة الضريبية في المنطقة، ويبين أن أولئك الذين عانوا في ظل الشيوعية هم أقل عرضة لحرب الكلام الطبقية حول “فرض الضريبة على الأغنياء.”

ستكون قائمة الدول التي تفرض ضريبة ثابتة أطول، وهناك ثلاث دول تسعى حاليا نحو الإصلاح الضريبي. وتبدو التوقعات واحتمالات النجاح جيدة في كل من ألبانيا وتيمور الشرقية (حيث يلعب صندوق النقد الدولي دورا في ذلك، على الرغم من أن البيروقراطية الدولية تدفع نحو معدل ضريبي أعلى، كما هو متوقع)، في حين يبدو الوضع أكثر صعوبة في الجمهورية التشيكية لأن الحكومة لا تملك أغلبية مطلقة في البرلمان. هذه النتائج تناقض ما جاء في دراسة أجراها صندوق النقد الدولي في العام الماضي والتي خلصت إلى: “بالنظر إلى المستقبل، فالمسألة لا تكمن في معرفة ما إذا كانت ستقوم دول أخرى بتبني الضريبة الثابتة، بل تدور حول ما إذا كانت الدول التي فعلت هذا ستتحرك بعيدا عنه.”
ولكن الأمر لا يقتصر على إسراع الدول في الانضمام إلى مجموعة الضريبة الثابتة، بل لم تقم أي دولة اعتمدت نظام الضريبة الثابتة بالعودة إلى النظام القديم ذي المعدلات التمييزية. حتى في سلوفاكيا، حيث جاء إلى السلطة حكومة اشتراكية/قومية في العام الماضي، فلقد تمت المحافظة على نظام الضريبة الثابتة. ويدرك السياسيون المعادون للسوق أنه ليس من الحكمة أن “يتم ذبح الوزة التي تضع بيضا من الذهب.”
ولا يقتصر الأمر فقط على تبني المزيد من الدول للضريبة الثابتة، ولكنها تتنافس الآن من أجل خفض معدلات الضريبة. إن معدل الضريبة في إستونيا قد انخفض بالفعل إلى 22%، وسوف ينخفض إلى 20% في عام 2009. ومع ذلك، قد ينخفض معدل الضريبة في وقت أقرب مما هو متوقع وبقيمة أكبر. فلقد تعهدت الحكومة المنتخبة في وقت سابق من هذا العام بأن تقوم على خفض المعدل إلى 18%، كما ويرغب حزب رئيس الوزراء بوصول المعدل نهائيا إلى 12%. هذا، وانخفض معدل الضريبة في ليتوانيا من 33% إلى 27%، وسينخفض إلى 24% العام المقبل. من المقرر أن ينخفض معدل الضريبة في مقدونيا إلى 10% في العام القادم، كما سينخفض المعدل في مونتينيغرو إلى 9% في 2010، وبذلك يكون هذا أدنى معدل ضريبة ثابتة في العالم (على الرغم من أنه يمكن القول إن لأماكن مثل جزر كيمان وبرمودا وجزر البهاما معدلات ضرائب ثابتة تبلغ صفرا).
ومن الجدير ملاحظة أن العديد من الضرائب الثابتة في العالم غير متسقة تماما مع النموذج المجرد الذي تم وضعه. حيث يوجد لدى دول مثل روسيا وليتوانيا فروقا كبيرة بين معدلات الضرائب على دخل الأفراد والشركات (وحتى في هونغ كونغ يوجد فجوة صغيرة). أما في صربيا، فتنطبق الضريبة الثابتة على دخل العمال فقط. وتحتفظ معظم الدول، إن لم يكن جميعها، ببعض الازدواج الضريبي على الدخل الذي يتم ادخاره واستثماره (رغم وصول كل من إستونيا وسلوفاكيا وهونغ كونغ إلى نظام مثالي)، ولا يبدو أن أيا من الدول تصرح الإنفاق الفوري لنفقات الاستثمار.
ولكن مهما كانت عيوب أي نظام خاص بدولة ما، فلقد جلبت ثورة الضريبة الثابتة معها العديد من الإنجازات ذات المغزى:
 حوافز أقوى نحو سلوك إنتاجي: وبشكل عام، تعني معدلات الضريبة الثابتة دائما معدل ضريبة أدنى على العمل والادخار والاستثمار والمخاطرة والأعمال.
 تشجيع تراكم رأس المال: وكما لوحظ، فإن القليل من الأنظمة الضريبية الموحدة، إن وجدت، تصل إلى الهدف الذي يدور حول إلغاء جميع الضرائب التمييزية على الدخل الذي يتم ادخاره واستثماره. ولكن، قام معظمها بخفض العقوبة الضريبية على رأس المال.
 تسوية العبء الضريبي: لقد قامت بعض الدول (مثل سلوفاكيا وإستونيا وهونغ كونغ) بعمل أفضل من غيرها، ولكن معظم أنظمة الضريبة الثابتة تتضمن خفضا في الأفضليات الخاصة التي تشوه قرارات السوق وتسبب عدم الكفاءة الاقتصادية.
يبين تنامي مجتمع دول الضريبة الثابتة أنه من الممكن التغلب على اعتراضات حرب الطبقات. ومن المحتمل أن تكون العولمة هي العامل الكبير وراء ذلك منذ أن أدرك السياسيون، وبشكل متزايد، أن أنظمة الضريبة التأديبية تؤدي إلى تدفق الوظائف والاستثمارات على الأمم التي لديها قوانين وأنظمة ضريبية أفضل. وهذا يدل على أن الضريبة الثابتة ستنتشر حول العالم.
هذا السيناريو يبعث على السرور، ولكن لا تزال هناك عقبات كبيرة. وأهم هذه العقبات هو البيروقراطية الدولية التي تشكل عائقا أمام الإصلاح الضريبي، لأنها غالبا ما تعطي مشورة سيئة ولأنها تسعى تحديدا إلى إحباط المنافسة الضريبية. فعلى سبيل المثال، يوجد لدى منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية “مشروع الممارسات الضريبية الضارة” (والذي كان يسمى أصلا، وبشكل غير حكيم، “المنافسة الضريبية الضارة”) يسعى إلى إعاقة تدفق العمالة ورأس المال من الدول ذات الضرائب المرتفعة إلى تلك ذات الضرائب المنخفضة. وتدرك المنظمة أهمية هذه المسألة بالنسبة لمؤيدي التدخل الحكومي: في تقرير للمنظمة صدر في عام 1998، لاحظت أن المنافسة الضريبية “قد تعيق تطبيق معدلات الضرائب التصاعدية وتحقيق أهداف إعادة التوزيع.”
لقد تم انتقاد جهود المنظمة بشكل واسع ومناسب لسعيها إلى تقويض السيادة الضريبية بغية مساندة دول الرفاه الاجتماعي في أوروبا ذات الضرائب المرتفعة غير القادرة على المنافسة، وإنما يجب النظر إلى هذا أيضا على أنه هجوم مباشر على الإصلاح الضريبي. يرتكز مشروع مقاومة المنافسة الضريبية البيروقراطية، الذي يتخذ من باريس مقرا له، على “تمكين الدول ذات الضرائب المرتفعة من ملاحقة وتتبع هروب رؤوس الأموال وفرض الضرائب عليها.” وهذا يعني بالضرورة أن المنظمة تتطلب من الدول مضاعفة الضرائب على الإيرادات التي يتم ادخارها واستثمارها، وفرض هذه السياسة السيئة خارج الإقليم. وهكذا، تشكل دول الضريبة الثابتة تهديدا مباشرا للنظام العالمي الذي تتصوره المنظمة حيث ستكون بمثابة “المأوى.”
في الواقع، يتم حاليا شن صراع عالمي. فمن جهة، هناك القوى المؤيدة للسوق التي تُقيّم المنافسة الضريبية كقوة دافعة من أجل الوصول إلى سياسة ضريبية أفضل. إن الثورة العالمية للإصلاح الضريبي هي من أحد الأعراض التي تبين كيف تدفع العولمة السياسة العامة في الاتجاه الصحيح. ومن الجهة الأخرى، هناك البيروقراطيات الدولية مثل منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (وتعارض أيضا كل من المفوضية الأوروبية والأمم المتحدة المنافسة الضريبية). وتؤكد هذه البيروقراطيات على حقها في إملاء ما يسمونه بـ “أفضل الممارسات” بطريقة يمكنها أن تتحكم في أنواع السياسة الضريبية التي يمكن اعتمادها من قبل سلطة الاختصاص.
بافتراض أن التطورات السياسية (وخاصة في الولايات المتحدة) لا تغير ميزان القوى لصالح دول الرفاه في أوروبا، ستستمر المنافسة الضريبية بالازدهار ولن تتحقق أبدا “منظمة تعاون وتنمية اقتصادية للسياسيين.” إن آيسلندا هي الدولة الوحيدة من دول “العالم الأول” التي اعتمدت الضريبة الثابتة حتى الآن، ولكن ربما قد تكون مجرد مسألة وقت قبل أن يؤدي التنافس الضريبي إلى إيجاد سياسة ضريبية جيدة في باقي دول أوروبا وحتى في الولايات المتحدة.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 13 حزيران 2007.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

سانتو دومينغو، جمهورية الدومينيكان – هذه الجزيرة الجميلة عانت أكثر من نصيبها العادل من الحكّام الفاسدين والعاجزين والذين أبقوا معظم شعبهم في أوضاع من الفقر. ولكن الآن وحيث أخذ اقتصاد الدومينيكان يقوى ويتحسن وارتفعت الأصوات داعية إلى تغييراتٍ إيجابية خلاقة، فإن هذا البلد (وغيره من الشعوب الفقيرة المماثلة) قد أصبحوا يخشون من بعض أعضاء الكونغرس الأمريكي وبيروقراطيو الاتحاد الأوروبي والمسؤولون في المنظمات الدولية أكثر من خشيتهم من قادتهم.
إيرلندا وآيسلندا، وبيرمودا، وجزر كيمان وسنغافورة، جميعها جزر أصبح معظم سكانها أثرياء ومترفين خلال العقود الأخيرة. ومع ذلك فإن العديد من الجزر مثل جمايكا، وكوبا وجمهورية الدومينيكان والتي تملك موارد طبيعية أكثر من الأولى تعاني الفقر. إن ما يجمع الجزر الغنية ليس الطقس أو الانتماء العرقي للسكان وإنما حكم القانون، وحدٌ أدنى من الفساد وسياسات تنظيمية وضرائبية وتجارية تنافسية. أما الجزر الفقيرة فتعاني جميعها من فساد شديد، وأنظمة حكومية مكبلة وحريات اقتصادية ضئيلة.
كان يمكن أن نظن بأن الطبقات السياسية في الأمم الغنية سوف تحيي وتؤيد السياسات التي جلبت الرخاء والحرية إلى الجزر الغنية (وغيرها من الأمم)، وأن تنحى باللائمة على سياسات الأمم الفقيرة. ولكن للأسف، فإن هذا لا يحدث.
إن من الصعب لجزيرة فقيرة أو لبلد فقير أن ينمو وأن يحقق الثراء إذا لم يكن في مقدوره جذب رأس المال الأجنبي وفتح الأسواق الخارجية أمامه. ومع ذلك فإن البلدان الصغيرة والشعوب التي تتمتع برفاهية معقولة تتلقى الهجوم من العديد من قادة الاتحاد الأوروبي ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية ومن بعض أعضاء الكونغرس الأمريكي بسبب أن نسب الضرائب لديها متدنية، وبالأخص بالنسبة للعمالة ورأس المال.
هذه المعركة ظلت مستمرة على امتداد معظم العقد المنصرم ولكنها أخذت منحىً أكثر شدة مرة أخرى عندما اتخذت المجموعة الأوروبية استهدافاً مباشراً لسويسرا بسبب أن بعض القوانين السويسرية المحلية تتيح معاملةً ضرائبية مريحة إلى الشركات التي تنتقل إليها. عدد من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي قدموا مشاريع قوانين تعاقب البلدان ذات الضرائب المتدنية والتي يتهمون حكامها بالاشتراك في “جريمة” السعي لتحسين أوضاع مواطنيها عن طريق جعل بلدانهم أكثر جذباً لرأس المال الأجنبي. (بطبيعة الحال، يستطيع أعضاء مجلس الشيوخ أن يعالجوا بشكل إيجابي هذه “المشكلة” الناشئة عن التنافس الضرائبي عن طريق استبدال نظام ضريبة الدخل الأمريكية المدمِّرة والمعقدة، بضريبة استهلاكٍ بسيطة مثل الضريبة العادلة، والتي من مزاياها الإضافية رفع النمو الاقتصادي الأمريكي).
إن نفاق بعض دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة يبدو بغير حدود. الصلاحيات الصغيرة المحدودة المتعلقة بالضرائب والمحافظة على السرية تُهاجم، علماً بأن مثيلاتها من القوانين موجودة في الولايات المتحدة وفي المملكة المتحدة وفي غيرهما من أعضاء الاتحاد الأوروبي، مثل النمسا وبلجيكا وهولندا. إن المستثمرين الأجانب في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة معفون من كثير من ضرائب الدخل وضرائب ازدياد رأس المال على بعض من استثماراتهم، وكل واحدة من تلك الأمم لها مواقع أو أنواع من المعاملات تتسم بالسرية والحماية.
التجارة هي ميدان آخر، حيث يبدو أن النفاق قائم بلا حدود. المسؤولون في الاتحاد الأوروبي، بينما ينحون باللائمة على معاناة فقراء العالم ويطالبون بمزيد من الضرائب من أجل الإنفاق على المساعدات الخارجية، ثم ينقلبون في نفس اللحظة ويطالبون بوضع قيود شديدة على الاستيراد الزراعي من البلدان الإفريقية الفقيرة ومن شعوب الجزر. القيادة الديمقراطية في الكونغرس تدفع باتجاه إقرار إجراءات تحرم البلدان ذوات المداخيل المتدنية من الدخول إلى الأسواق الأمريكية. وفي الفترة الأخيرة أعلن السيناتور الديمقراطي ماكس بوكوس، عن ولاية مونتانا، بأنه يؤيد “التجارة الحرة” ولكنه تحول إلى القول بأن التجارة يجب أن تُقيد إذا لم يكن العمال الأجانب يتمتعون بنفس المزايا التي يتمتع بها عمال الولايات المتحدة وإذا لم تكن البلدان الأجنبية تلك تتمتع بنفس المستويات البيئية التي تتمتع بها الولايات المتحدة. هذا القول جعل من الواضح بأن السيناتور لا يعرف ما معنى “التجارة الحرة”!
لسنوات عديدة، دأب كثير من علماء الاقتصاد بيننا على القول للبلدان المتدنية المداخيل: خفضوا من نسبة ضرائبكم الهامشية العالية على العمالة ورأس المال لكي تصبح اقتصادياتكم في وضع تنافسي عالمي جيد، وخفّضوا من تعرفاتكم وحواجزكم التجارية ولسوف تبادلكم الأمم الكبيرة تلك الإجراءات بمثيلها. ولكن لسوء الحظ فإن العديد من السياسيين والإعلام في أماكن مثل جمهورية الدومينيكان هم يستمعون الآن للرسالة التالية من واشنطن وبروكسل وباريس: إذا وضعتم سياسات اقتصادية تدعم النمو فإننا سوف نعاقبكم بدلاً من مكافأتكم.
ومن المفارقات أن بعضاً من أكثر دعاة السياسات التي تؤدي إلى مزيد من الفقر في بلدانهم كما في البلدان الأجنبية، يلقون التعظيم والإجلال كدعاةٍ للإنسانية من قبل أعضاء وسائل الإعلام الذين لا يفكرون تفكيراً صافياً، والذين لا يعرفون الفرق بين التعاطف الكلامي وبين الأفعال التي تؤدي بالفعل إلى تحسين أو تراجع أوضاع فقراء العالم.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

في تسعينات القرن الماضي، ظهر إجماع جديد بخصوص أنظمة سعر الصرف بحيث بات على الحكومات أن تختار بين أسعار الصرف المرنة وأسعار الصرف الثابتة. فالأسعار الثابتة القابلة للتعديل، مثل تلك الخاصة بنظام (بريتون وودز) ونظام النقد الأوروبي قبل عام 1993، لم تعد فاعلة بسبب ضعفها في مواجهة هجمات المضاربين.
وبدلاً من صفة “المعوّمة” للأسعار سأستخدم صفة “المرنة” لأن مراقبين كثراً غير مقتنعين بالكامل بأن الأسواق أذكى من الحكومات، ولا يستثنون دور التدخل الرسمي في التأثير في الأسعار التي يحددها السوق.
ويبدو أن الإجماع يلمح أيضاً إلى أن الأسعار الثابتة فاعلة ومعقولة في الوقت نفسه، لكن لدي تحفظات على هذا الرأي. فبالنسبة الى كل الاقتصادات تقريباً، ما عدا البلدان الأصغر الملحقة اقتصادياً ببلدان أكبر والتي قد تفضل تبني عملات هذه البلدان، تكون الأسعار المرنة أكثر ملاءمة.
لقد قُدمت حجج كثيرة مؤيدة لتثبيت أسعار الصرف. وكل تلك الحجج سليمة نوعاً ما، لكنها غير جذابة، جملةً وتفصيلاً.
تُطرح الحجة الأولى غالباً على شكل اعتراض على الأسعار المرنة لكنها تُطبق أيضاً على الأسعار الثابتة القابلة للتعديل. ويلعب عدم الاستقرار الناتج من التغيرات في سعر الصرف دور ضريبة على التجارة، وبشكل أكثر أهمية، كضريبة على الاستثمار في قطاعات السلع المتاجر بها.
وعلى رغم إمكان الوقاية من خطر سعر الصرف باستعمال المشتقات المالية، تصعب الوقاية من الخطر ما لم يُعرف حجم تعرّض الاستثمار للعملة الأجنبية. وعلى أي حال، لا يؤثر تغيّر سعر الصرف فقط في قيم العملة المحلية في الدفعات المستقبلية للعملات الأجنبية، وإنما يؤثر أيضاً في قيم العملة الأجنبية من طريق التأثير في حجم التدفقات التجارية المستقبلية وقيمها.
وترى الحجة الثانية المؤيدة للأسعار الثابتة أن تغيرات سعر الصرف تسبب ضغوطاً وقائية ويمكنها بالتالي أن تمنع تحقيق المكاسب من التداولات. وظهرت هذه الحجة دورياً في سياقات مختلفة جداً. فانخفاض قوة العملة البرازيلية عام 1999، دفع الأرجنتين إلى أن تنصب حواجز تجارية وتهدد بوقف تحرير التجارة.
هذه الحجة، كالأولى، لا يمكن أن تُرفَض رفضاً قاطعاً. لكن على رغم ذلك، من الواجب ملاحظة أن تثبيت سعر الصرف يحرم الحكومة من أداتين ثمينتين جداً: سعر الصرف الاسمي والسياسة النقدية. ويمكن لذلك أن يُغري بتبني سياسات تجارية حمائية لتحمل صدمات خفض الناتج.
وتتناول الحجة الأخيرة للأسعار الثابتة تأثير نظام سعر الصرف في نوعية السياسة النقدية. ولهذه الحجة روايات عدة. تقول الرواية الأولى إن سعر الصرف الثابت يحيّد الصدمات النقدية، بما في ذلك تلك الناتجة عن عجز المصرف المركزي. كذلك فإن بلداً ذا سعر صرف ثابت سـ”يستورد” أو “يصدر” النقد آلياً حينما يبرز تغيّر في الطلب أو العرض وبذلك يمنع الصدمة النقدية من التأثير في الاقتصاد الحقيقي.
وتستند الرواية الثانية، بالطريقة نفسها، إلى افتراض أن بعض المصارف المركزية أقل أهلية وصدقية من غيرها. لذلك يمكنها استيراد صدقية من نظرائها الأكثر أهلية من طريق تثبيت سعر الصرف وهكذا تلزم أنفسها بوضوح بمحاكاة السياسة النقدية للمصارف المركزية الأكثر أهلية.
لقد اتبعت هذه الإستراتيجية بلدان أوروبية عدة ثبتت عملاتها الوطنية على أساس المارك الألماني لاستيراد الصدقية من الـ”بوندسبنك”. لكن هل نجحت في ذلك؟ من الصعب الحكم، فقد هبطت نسب التضخم بحدة في أوروبا في الثمانينات وماثلت المستويات الألمانية المنخفضة في آخر التسعينات. لكن نسب التضخم هبطت بحدة في البلدان الأخرى أيضاً، بما في ذلك في المملكة المتحدة والولايات المتحدة.
وترتبط الرواية الثالثة بالثانية مباشرة. فهي ترى أن تثبيت سعر الصرف يمكن أن يُستعمل لتحقيق سقوط سريع وكبير في التضخم عندما تعاني البلاد بشكل مزمن من التضخم العالي جداً وحتى المفرط. بكلمة أخرى، يعتبر تثبيت سعر الصرف، كما في السابق، طريقةً لشراء الصدقية.
وهذا النوع من “العلاج بالصدمة” حقق نتائج إيجابية في بلدان كثيرة، بما في ذلك بوليفيا وبولندا والأرجنتين والبرازيل. لكن في معظم الحالات لم يتوقف التضخم فوراً. فأسعار السلع المتاجر بها استقرت بسرعة، لكن أسعار السلع غير المتاجر بها استمرت في الارتفاع، بالترافق مع متوسطات الأجور. وارتفعت الأسعار ببطء أكثر من ذي قبل، لكن بمقدار يكفي ليسبب ارتفاعاً كبيراً في قيمة سعر الصرف الحقيقي وتدهوراً في ميزان الحساب الجاري، فكان ضرورياً خفض قيمة العملة المحلية. لذلك فإن أولئك الذين يواصلون التوصية بهذا النوع من العلاج بالصدمة يسارعون أيضاً إلى التحذير من أن الحكومات التي تتبناها يجب أيضاً أن تبتكر “استراتيجية خروج”، أي طريقة لتعزيز مرونة سعر صرف العملة قبل حدوث ارتفاع جوهري في قيمتها الحقيقية.
مباشرة بعد اتفاق اللوفر عام 1987، تبنت البلدان الصناعية الرئيسة أنظمة شبيهة إلى حد كبير بنظام النقد الأوروبي المؤسس عام 1993. وكان يجب أن أتذكر ما كتبته في وقت سابق، عام 1973، أثناء مشاورات (لجنة العشرين) التي كانت تحاول أن تصمم “نظام أسعار الصرف المستقرة لكن القابلة للتعديل”. قلت إن ذلك كان تناقضاً لفظياً، فالاستقرار غير متوافق مع قابلية التعديل!
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 6 نيسان 2007.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

طبقا لدراسات اقتصادية رياضية، فإن الحرية الاقتصادية، أو تطويراتها، تعمل على زيادة معدلات النمو الاقتصادي. إلا أن ظواهرها ستكون تحت سيطرة ظواهر مستوى التنمية الاقتصادية ورأس المال البشري. فهل تشير هذه النتائج، ضمنيا، إلى أن المناصرين أو المدافعين عن الرأسمالية وعن الحرية الاقتصادية يبالغون في قضيتهم؟ ليس ذلك على الإطلاق.
فكِّر في مستوى التنمية الاقتصادية التي تعمل على تحديد الفوائد الكامنة في الاسترجاعية. فعلماء الاقتصاد، في العادة، يقومون بمناقشة أسباب وجود هذه الفوائد كالتالي: يمكن للاقتصاد الأقل تطورا أن يستعير أو يستلف التقنيات التكنولوجية ونماذج الأعمال التجارية وإجراءات التسويق من الدول الأكثر تطورا، وقد يكون التقليد اكثر سهولة وسرعة من الابتكار الذي تعتمد عليه الاقتصاديات المتطورة الرائدة.
وهذه الفوائد تكون، من الناحية المعقولة ظاهريا، اضخم واعظم عندما تكون مسـتويات الاسترجاعية معتدلة بحيث يسمح مستوى تكوين رأس المال البشري أن يتم الاستفادة واستغلال فرص الاسترجاعية، أو، عندما يكون لدى الاقتصاديات الأقل تطورا نطاقا واسعا بالنسبة لإعادة توزيع العمالة بحيث يكون هذا النطاق اكبر من الأعمال الأقل إنتاجية في الزراعـــة ليصل إلى الأعمال الأكثر إنتاجية في مجال الصناعة أو في الخدمات، أو، على سبيل الاحتمال، عندما يكون من السهل أن يتم إيجاد استثمارات مربحة في الدول النامية، ولنفترض بأنها سوف تكون في مجال البنية التحية للنقل، بحيث يكون اكثر سهولة من إيجاد مثل تلك الاستثمارات المربحة في الاقتصاديات العالية التطور والتي تمت بها، وبشكل مسبق، تأسيس عدد كبير من الاستثمارات الهامة البارزة. وبالنسبة لي، فأنني ليس لدي الرغبة في أن أشارك في مناظرات تدور حول مدى جدارة هذه المناقشات النسبية. كما أنني ليس لدي الرغبة في إضافة أية حجج تؤخذ من علوم اجتماعية أخرى تشير عملية التنمية الاقتصادية من خلالها، وبشكل ضمني، إلى وجود تغييرات في القيمة تقوم بتغذية استرجاعية كي يتم تقويض الإمكانيات التي تدل على حدوث نمو اقتصادي مرتقب لاحق.
دور الدول المتقدمــة
وبدلا مما سبق ذكره، أود أن أؤكد على ما هو واضح والذي ينزع، بالرغم من ذلك، إلى أن يتم نسيانه، وهو: أن فوائد الاسترجاعية بالنسبة لبعض الدول النامية تستلزم وجود دول متقدمة. فإذا كانت الدول المتقدمة، ولنفترض بأنها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية واليابان، غير موجودة، فان نمور شرق آسيا الأوائل (كوريا الجنوبية وتايوان وهونغ كونغ وسنغافورة) لا يمكن لها أن تنمو بالسرعة التي نمت بها مطلقا، كما أنه من غير الممكن للصين والهند أن تحققا ما تحققانه هذه الأيام. وقبل أن يحل منتصف القرن العشرين وتبايناته السابقة المجهولة في الدخل في تلك الفترة بين المجتمعات الصناعية الغربية والدول الأقل تطورا، فانه، في تلك الفترة، لن تجد، مطلقا، دولة كبرى يمكنها أن تحقق النمو الاقتصادي بشكل سريع كسرعة النمو الاقتصادي الذي حققته كوريا الجنوبية وتايوان خلال أعوام الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي أو كما تقوم الصين بتحقيقه منذ أعوام الثمانينيات من القرن الماضي وكما تقوم الهند وفيتنام بإنجازه في الوقت الحاضر. وهكذا، فان عدم المساواة العالمية (أو التفاوت بين دول العالم) يعتبر جزءا أساسيا من فوائد الاسترجاعية، وان هذا التفاوت سوف ينفع تلك الدول المتخلفة التي تعمل على الإمساك بالفرص المتاحة.
وتعتبر الدول المتقدمة والدول الحرة إلى حد ما دولا أساسية في استحداث الفرص الخاصة بالاسترجاعية. فهي تقدم أنموذجا ليتم تقليده وتوفر مصدرا للتكنولوجيا وسوقا خاصة بالمنتجات المنخفضة الأجور. فإذا أصبحت الدول المتقدمة غنية بشكل يسبق الدول الأخرى نظرا لأنها قامت بتأسيس وتثبيت حقوق ملكية سليمة خاصة بالتجار وبالمنتجين بوقت أبكر من الآخرين، ولأنها استفادت من حكومة محدودة بوقت أبكر من الآخرين وقامت باختراع الرأسمالية واستفادت من الحرية الاقتصادية منذ البداية، سوف تكون، عندئذ، فوائد الاسترجاعية إحدى ظواهر الحرية الاقتصادية أو الرأسمالية.
وللأسف، فان نقص البيانات الكمية تمنعنا من إجراء تحليل خاص بمدى تأثير الحرية الاقتصادية على معدلات النمو الاقتصادي على المدى الطويل. إلا انه من المقبول ظاهريا أن نقوم بإسناد ادعائنا إلى بيانات كيفية أو إلى روايات سوف يكون تأثير الحرية الاقتصادية بموجبها قويا. وفوائد الاسترجاعية لا بد وأن كانت صغيرة قبل أن يتم تأسيس الرأسمالية نظرا لان معظم الحضارات الكبرى (المكونة من عشرات الملايين من الأفراد) قد كان لديها آنذاك إيرادات متماثلة في الدخل لنصيب الفرد الواحد.[1]
وهكذا، فان فوائد الاسترجاعية تستحق أن يتم تفسيرها حسب تفسير عالم الاقتصاد فريدرك هايك، كما يلي:
“لا تنحصر منافع الحرية، إذن، في الحرية… فمما لا ريب فيه أن الاغلبيات غير الحرة على مدى التاريخ الماضي استفادت من وجود الاقليات الحرة وسوف تستفيد المجتمعات غير الحرة في الوقت الحاضر مما ستحصل عليه وتتعلمه من المجتمعات الحرة.”
هذه الإفادة تتفق مع العلاقة القائمة حاليا بين جمهورية الصين الشعبية والغرب كما لو أنها قد تمت كتابتها يوم أمس مع وجود هذا المثال تحديدا في الذاكرة. إن كون منافع الحرية الاقتصادية في الولايات المتحدة الأمريكية والغرب ممتدة لتشمل المجتمعات الدولانية قد تمت أيضا الإشارة إليها من قبل هنري ناو بخصوص اليابان والدول الآسيوية الأخرى التي تطورت بشكل مبكر كتايوان أو كوريا الجنوبية، كما يلي:
“سوف يعمل إنموذج التطور الآسيوي الذي تم تمجيده والإعلان عنه من قبل واضعي النظريات التجارية الاستراتيجية بنجاح فقط إذا تم وضعه ضمن سياق الانموذج الانجلو-أمريكي في التجارة الحرة. فليس هناك من قام بالإثبات بان اليابان أو أية دولة آسيوية أخرى ستكون قد حققت النجاح في تجارتها واستراتيجياتها الاقتصادية، مهما كانت درجات تدخل الحكومة، لو لم يكن لديها دخولا ووصولا إلى الأسواق العالمية، وعلى وجه الخصوص إلى السوق الأمريكي. ولو تم عزو مثل ذلك النجاح إلى انموذج التطور المتفوق في الصناعة المحلية فمن المرجح أن تشكل التكنولوجيا وتدخل السياسات التجارية، بناء على ذلك، نصف الحقيقة.”
وجهة نظر مختلفة للتفاوت العالمي
وهكذا، فان الأمر يبدو وكأن للحرية الاقتصادية في الاقتصاد العالمي—والذي يعني وجود اقتصاديات حرة مهيمنة ورائدة—أهمية عليا في تحسين معدلات النمو الاقتصادي وفي التغلب على الفقر الجماعي في كل مكان آخر غير دول الغرب. إضافة إلى ذلك، فان الحرية الاقتصادية داخل الأمم، أو تطويراتها، ستساعد أولئك الذين يقومون بممارستها وتطبيقها.
إن الاعتراف بحقيقة التفاوت الدولي أيضا قد أدى إلى وجود تقييمات متباينة تماما. فقد قام البنك الدولي، مؤخرا، بإبداء تحسره بقوله بان “هناك تفاوتات هائلة في العالم. حتى المواطنين الأكثر غنى في معظم الدول النامية يواجهون فرصا أسوأ من الفقراء في الدول الغنية. والحقيقة القائلة بان الدولة التي يلد بها الشخص تعتبر إحدى المحددات الرئيسية للفرص الخاصة بالأشخاص تسير بشكل مضاد لوجهة نظرنا عن المساواة.”
ومهما تكن فكرة البنك الدولي عن المساواة، فان ذلك سوف يكون، على ابعد تقدير، تقييما منقوصا للتأثير الذي يحدثه التفاوت بين الأمم، والذي نشأ بسبب تأسيس وتثبيت حقوق الملكية والحرية الاقتصادية والرأسمالية في الغرب قبل تلك الإنجازات التي تحققت ببطء في كل مكان آخر غير بلدان الغرب. فلو لم يقم تأسيس وتثبيت الحرية الاقتصادية المبكر بإثراء الغرب قبل الآخرين، فانه عندئذ سوف لن يكون هناك مصالح وفوائد كامنة في الاسترجاعية بالنسبة للدول الفقيرة كي تقوم بالاستفادة منها واستغلالها. وهكذا، فان الحرية الاقتصادية الغربية لم تقم فقط باستحداث متطلب أساسي لتحقيق الازدهار الغربي، بل قامت أيضا وبشكل تزامني بتثبيت شرطا خاصا كي يتم التغلب على الفقر الجماعي بشكل سريع في كل مكان آخر غير البلدان الغربية.
ملاحظات:
[1] مع أن أسيموغلو وجونسون وروبنسون لم يقوموا بالتركيز الصريح على الحكومة المحدودة والحرية الاقتصادية، فقد جادلوا محاججين بان المؤسسات—وليس الجغرافيا—هي محددات النمو الاقتصادي على مدى قرون من السنوات وأنها تقدم نوعا من الدليل الكمي تم أخذه من القرون الخمسة الأخيرة كي يتم دعم وجهة نظرهم.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 21 شباط 2007.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

هناك أغنية شائعة تقول: “إذا أردت أن تكون سعيداً لبقية حياتك فإياك أن تتزوج من امرأة جميلة”!
لقد اتُّهم الميكانيكيون بفرض أسعار أعلى على النساء للقيام بإصلاح أعطال تقع على الطرق. شركات الطيران تفرض أسعاراً أعلى على رجال الأعمال من تلك التي تفرضها على السياح. شركات استئجار السيارات والفنادق كثيراً ما تفرض أسعاراً أقل في عطل نهاية الأسبوع. وكثيراً ما تفرض شركات النقل أسعاراً أقل على كبار السنّ والطلبة. وبائعات الهوى يفرضن أسعاراً أعلى على المجندين في الجيش من تلك التي تُفرض على زبائنهن المعتادين. محطات البنزين على الطرق ما بين الولايات تفرض أسعاراً أعلى عن تلك التي تُفرض في داخل الولايات. ما الذي نفهمه من كل هذا التمييز؟ هل يتوجب علينا إبلاغ النائب العام بما يجري؟
حقيقة أن البائعين يفرضون على الناس أسعاراً مختلفة لما يبدو أنها منتجات متماثلة، هو أمر يتصل بنظرية تعرف بـ”مرونة الطلب”، ولكننا لن ندخل هنا في مجمل التعابير الاقتصادية المختلفة.
دعنا نفكر بالبدائل. لنأخذ النصيحة التي تتضمنها الأغنية التي ذكرتها أعلاه حول عدم أخذ امرأة جميلة كزوجة. السيدات الجميلات مرغوبات، وهنّ محط الأنظار ويجري وراءهن رجال عديدون. المرأة الجميلة لها بدائل كثيرة عنك، وبالتالي فإنها تستطيع أن تفرض عليك متطلبات عديدة. المرأة البيتية لها بدائل قليلة جداً عنك، ولا تستطيع بسهولة استبدالك. لذا، فقد تكون أكثر لطفاً ودماثة معك بحيث تفعل ما يسميه علماء الاقتصاد بـ”التعويض عن الفروقات.”
الموضوع كله يتعلق بالبدائل للبضائع والخدمات المشار إليها واستعداد المشتري لدفع ثمن أعلى. رجال الأعمال المسافرون يملكون مرونة أقل في خياراتهم بالنسبة للنقل الجوي من تلك المتوفرة للسائحين. السيدات عموماً يجدن بدائل أقل للقيام بإصلاح سياراتهن المعطلة. الرجل في الغالب قد يكون أكثر قدرة على إصلاح العطب أو ربما يكون أكثر استعداداً للمخاطرة بالمشي في انتظار سيارة مارة تقبل بنقله. بائعة الهوى قد ترى بأن البحّار في فرصته الشاطئية يملك خيارات أقل. ناهيكم عن حاجته الجامحة لخدماتها من الشخص الذي يعيش في المنطقة. والسائقون المسافرون من مدينة إلى أخرى سوف يكون لديهم معلومات أقل حول أسعار بنزين أرخص من السكّان المحليين.
ويبدو أن رجال السياسة يتجاهلون فكرة البدائل، ونعني بذلك أنه عندما يتغير سعر مادة ما فإن الناس سوف يستجيبون لذلك بالسعي لشراء بدائل أرخص. مدينة نيويورك رفعت الرسوم على السجائر بحيث جعلت ثمن علبة السجائر سبع دولارات. ماذا كانت النتيجة؟ لقد نتج عن ذلك قيام سوق سوداء مزدهرة.
في عام 1990 عندما فرض الكونغرس ضريبة عالية على اقتناء اليُخوت والطائرات الخاصة والسيارات المرتفعة الثمن، صرح السيناتور تيد كينيدي ورئيس الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ يومئذ جورج ميتشل، كيف أن الأغنياء سوف يضطرون في النهاية إلى دفع حصتهم العادلة من الضرائب. بيد أن باعة اليخوت أوضحوا في تقاريرهم أنه قد جرى انخفاض في المبيعات بلغت 77 بالمائة كما أن صانعي اليخوت استغنوا عن 25000 عامل يعملون في منشآتهم. ماذا جرى؟ إن كينيدي وميتشل افترضا ببساطة بأن الأغنياء سوف يسلكون نفس السلوك بعد فرض الضريبة الباهظة مثلما كانوا يفعلون قبل ذلك، وأن الفرق الوحيد هو أن أموالاً أكثر سوف تدخل في صناديق الحكومة. لم يكونوا يملكون أية فكرة عن قانون المرونة في الطلب، أي أن الناس لا يستجيبون سلباً لتغير الأسعار. الحقيقة هي أن الناس يستجيبون والمسألة الوحيدة القابلة للنقاش هي كمية الاستجابة وعلى امتداد أية فترة.
إن نظرية المرونة ليست مقتصرة على ما يُعتبر عادة شأنا اقتصاديا؛ إنها تنطبق على جميع أطياف السلوك الإنساني. عندما يسأل والد طفله: “كم من العطايا يجب أن أسلب منك حتى تسلك سلوكاً سوياً؟” هذا سؤال يتعلق بالمرونة بالفعل. وبكلمات أخرى كم يجب أن تبلغ العقوبة حتى يقلل الطفل من سوء سلوكه؟ ومن السهل هنا أن نرى كيف أن نظرية المرونة تنطبق على إنفاذ القانون أيضاً: ماذا يجب أن نفعل لتأكيد المحاسبة والعقاب حتى نجعل المجرمين يرتكبون جرائم أقل؟
النظرية الاقتصادية تنطبق على ذلك بشكل عام. بيد أن كيان المجتمع فيما يتعلق بحقوق الملكية يؤثر في كيفية تطبيق تلك النظرية. الشيءُ ذاته صحيح بالنسبة لنظرية الجاذبية. فبينما أن القاعدة تنطبق عليها بشكل عام، إلا أن ربط مظلة هبوط إلى شيء سائر في الهبوط يُؤثر على كيفية انطباق قانون الجاذبية. مظلة الهبوط لا تلغي قانون الجاذبية، كما أن قوانين حقوق الملكية لا تلغي قوانين العرض والطلب.
حقوق الملكية تشير إلى من يملك السلطة الوحيدة لتقرير كيفية استخدام تلك الثروة. تسمى حقوق الملكية جماعية عندما تقرر الحكومة استخدامات هذه الثروة. وتكون فردية عندما يكون الفرد هو الذي يملكها وله وحده الحق في تقرير كيفية استخداماتها. إن حقوق الملكية الفردية تضفي كذلك على المالك حق الاحتفاظ بِـ وتملك وبيع ومنع الآخرين من استخدام ما يملك.
قد تكون حقوق الملكية محددة تحديداً دقيقاً أو غير دقيق. وقد يكون تطبيقها رخيصاً أو غالي الثمن. هذه وغيرها من العوامل تلعب دوراً مهما في النتائج التي نلاحظها. دعنا ننظر إلى بعض منها.
إن مالك منزل له مصلحة أكبر في مصير منزله من المستأجر. ومع أنه لن يكون موجوداً بعد خمسين إلى مئة سنة من الآن، فإن استخدامات بيته المستقبلية تؤخذ في الحسبان عند تقرير سعر البيع. وهكذا فإن ملاك المنازل يبدون اهتماماً أعظم في العناية وصيانة المنزل من المستأجر. إحدى الوسائل التي تمكن مالك المنزل من جعل المستأجر مشاركا في اهتمامات صاحب الملك هي أن يطلب منه دفع مبالغ تأمين.
وإليكم هنا سؤال تجريبي يتعلق بحقوق الملكية. أية وحدة اقتصادية يحتمل أن تعطي اهتماما أكبر لرغبات عملائها وتسعى لتحقيق أكثر وسائل الإنتاج كفاءة؟ هل هي الكيان الذي يسمح أصحاب القرار فيه بأن يحتفظوا لأنفسهم بالمكاسب المالية نتيجة إرضاء عملائهم والسعي لأساليب إنتاج أكثر كفاءة، أو هل هو الكيان الذي لا يستحق أصحاب القرار فيه المطالبة بأية مزايا مالية؟ فإذا أجبت بأنها الكيان الأول، أي الكيان الذي يتوخى الكسب، اذهب إلى عريف الصف.
وبينما توجد هنالك خلافات منهجية بين الكيانات القابلة للربح وتلك التي لا تتوخى ربحا، فإن أصحاب القرار في كليهما يحاولون تعظيم المداخيل. صاحب القرار في كيان لا يتوخى الربح سوف يسعى في الغالب لتحقيق مكاسب عينية، مثل سجاد فاخر وساعات عمل مريحة وإجازات طويلة ومحاباة للزبائن. لماذا؟ فعلى النقيض من نظيره الذي يتوخى الربح، فإن المكاسب المالية نتيجة السلوك الكفء لن تكون له. كذلك فإن صاحب القرار في كيان لا يقوم على الربح لا يستطيع أن يربح لنفسه المزايا كما لا يتكبد الخسائر، فهنالك ضغط أقل عليه لإرضاء عملائه وللسعي لانتهاج أقل وسائل الإنتاج كلفة.
تغييرات ضريبية
ربما تقول: “بروفيسور ويليامز، بالنسبة للكيانات التي تبغي الربح فإنها في بعض الأحيان تملك سجادا فاخرا كما يتوفر لديها حساب جار كبير، وتنتهج سلوكا مماثلا لأولئك الذين يعملون بالكيانات غير الربحية.” إنك على حق، ومرة أخرى القضية هي قضية حقوق ملكية. الضرائب تغير هيكلية الدخولات المتأتية عن حقوق الملكية. فإذا كانت هنالك ضريبة على الربح فإن أخذ المنافع نقدا يصبح أكثر كلفة. وتصبح أقل كلفة نسبيا أخذ بعض من تلك المكاسب بأشكال غير نقدية.
وليس المدراء وحدهم هم الذين ينتهجون مثل هذا السلوك. ولنفترض أنك في رحلة عمل. تحت أي من السيناريوهات يتوقع منك أن تنزل في فندق سعره 50 دولارا في الليلة وأن تأكل البيرغر كنج؟ السيناريو الأول هو عندما يعطيك رئيس عملك مبلغ 1000 دولارا ويقول لك احتفظ بما يتبقى لك من هذا المبلغ. السيناريو الثاني هو عندما يقول لك أن تقدم له قائمة محددة بالمصاريف التي تكلفتها وانه سوف يعيد إليك مبلغا يصل إلى 1000 دولارا كحد أعلى. بالحالة الأولى فإنك تأخذ لنفسك الربح في إيجاد أرخص وسيلة للقيام بالرحلة، وفي الحالة الثانية فإنك لا تفعل ذلك.
هذه الأمثلة هي مجرد لمحة عن التأثير الذي تمليه حقوق الملكية على تخصيص الموارد. إنها أحد أكثر المواضيع أهمية في مضمار الموضوع الجديد نسبيا في مجال القانون والاقتصاد.
هذا المقال بالتنسيق مع مجلة فريمان (نيسان 2006).
© معهد كيتو، منبر الحرية، 15 شباط 2007.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

يبرز التعامل العادي مع التنظيم الحكومي للأسواق تمايزاً حاداً بين السوق العادي للسلع والخدمات وبين النشاطات التي يغطيها التعديل الأول [للدستور الأمريكي]—الكلام والكتابة وممارسة المعتقدات الدينية—والتي أطلق عليها اختصاراً (سوق الأفكار). عبارة (سوق الأفكار) ليست وضعاً لحدود المنطقة التي تم تطبيق التعديل الأول عليها بشكل دقيق. الواقع أنه يبدو أن هذه الحدود لم يكن قد تم رسمها بشكل واضح تماماً. ولكن ليس هناك شك يذكر بان سوق الأفكار، أي التعبير عن الرأي في الكلام والكتابة والنشاطات المماثلة، هو في صميم النشاطات التي يحميها التعديل الأول، وأن بحث التعديل الأول كان معنياً إلى حد بعيد بهذه النشاطات.
الجدلية التي أنوي البحث فيها تسبق بكثير إقرار التعديل الأول (والذي من الواضح أنه شمل أفكاراً كانت معتنقة أصلاً) وهناك خطورة بالنسبة للاقتصاديين، ولكن، ليس بالضرورة بالنسبة للمحامين الأمريكيين، تتمثل في حصر نقاشنا حول التعديل الأول بدلاً من بحث المشكلة العامة التي هو جزء منها. الخطر هو أن ينمو نقاشنا نمو التركيز على آراء المحاكم الأمريكية وخصوصاً آراء المحكمة العليا وأننا، تبعاً لذلك، سنجد أنفسنا منقادين لتبني مقاربة تجاه تنظيم الأسواق وجدتها المحاكم ملائمة بدلاً من مقاربة طورها الاقتصاديون، وهو أسلوب قطعنا فيه شوطاً طويلاً لتدمير اقتصاديات المرافق العامة والذي أضر كثيراً بالمناقشات الاقتصادية حول مشاكل الاحتكار بشكل عام. هذه المقاربة ملزمة بطريقة أخرى، حيث أنه بالتركيز على قضايا في سياق الدستور الأمريكي، فقد أصبح من الأكثر صعوبة الاستفادة من خبرة وأفكار بقية العالم.
ما هي وجهة النظر العامة التي أسعى لبحثها؟ هي أن الأنظمة الحكومية مرغوبة في سوق السلع ولكنها غير مرغوبة في سوق الأفكار وينبغي أن تكون محدودة للغاية. في سوق السلع تعتبر الحكومة بشكل عام قادرة تنظيمياً ولديها دافعية ملائمة. المستهلكون يفتقرون للقدرة على الاختيار الصحيح والمنتجون غالباً ما يمارسون سلطة احتكارية، وهم على أية حال، وفي غياب شكل من التدخل الحكومي، لا يتصرفون بطريقة مفيدة للمصلحة العامة. أما في سوق الأفكار فالموقف مختلف تماماً، فإذا حاولت الحكومة التدخل تنظيمياً في سوق الأفكار فلن تكون كفؤة لذلك وستكون دوافعها سيئة بشكل عام بحيث حتى لو أنها نجحت في تحقيق ما تسعى لإنجازه فإن النتائج لن تكون مرغوبة. المستهلكون، من ناحية أخرى، وإذا تركت لهم الحرية، يمارسون تمييزاً دقيقاً في الاختيار بين وجهات النظر المختلفة المعروضة أمامهم، في حين أن المنتجين سواءً كانوا أقوياء اقتصادياً أم ضعفاء، والذين يُعرفون بعدم الالتزام بمعايير الضمير والأخلاق في أسواق أخرى، يمكن الوثوق بهم للتصرف في سبيل الصالح العام سواءً كانوا ينشرون أو يعملون في الـ نيويورك تايمز أو شيكاغو تريبيون أو هيئة إذاعة كولومبيا. السياسيون، الذين تؤلمنا تصرفاتهم أحياناً، بارعون جداً في كلامهم. ومن المعالم الغريبة في هذا السلوك أن الإعلانات التجارية، والتي هي غالباً مجرد تعبير عن وجهة نظر وربما يُظنُّ، في ضوء ذلك، أنها محمية بالتعديل الأول، تعتبر جزءاً من سوق السلع. النتيجة هي أن إجراءات الحكومة تعتبر مرغوبة في تنظيم (أو حتى قمع) التعبير عن رأي في إعلان، والذي لو كان مطروحاً في كتاب أو مقال سيكون خارجاً تماماً عن نطاق الأنظمة الحكومية.
هذا التضاد بين دور الحكومة في سوق السلع ودورها في سوق الأفكار لم يتعرض عادة للنقد سوى من المتطرفين في اليمين أو اليسار—أي بين الفاشيين أو الشيوعيين. العالم الغربي يتقبل، إلى حد كبير، الفرق وتوصيات السياسة العامة التي تصاحب ذلك. بيد أن خصوصية الحالة لم تغب عن الأذهان وأود أن ألفت انتباهكم لمقال قوي بقلم آرون دايركتر.
يستشهد دايركتر ببيان قوي للقاضي ويليام دوغلاس ورد في قرار للمحكمة العليا، وهو نص كان القصد منه، دون شك، أن يكون مفسِّراً للتعديل الأول ولكن من الواضح أنه يشمل أيضاً وجهة نظر لا تستند إلى الاعتبارات الدستورية. يقول القاضي دوغلاس: “حرية الكلام، وحرية الصحافة، وحرية ممارسة العبادات منفصلة تماماً ومستقلة؛ إنها فوق وخارج نطاق سلطة الشرطة؛ وهي لا تخضع للتنظيم بالطريقة التي تخضع لها المصانع وأحياء الأكواخ وبنايات الشقق وعمليات إنتاج البترول وما شابه” [بيوهارنيس ضد إيلينوي]. وحول حرية الكلام، يلاحظ دايركتر بأنها “المجال الوحيد الذي لا زال يحظى بالاحترام.”
لماذا ينبغي أن يكون الأمر على هذا النحو؟ ربما يعود ذلك جزئياً إلى حقيقة أن القناعة بسوق حر للأفكار ليست لها نفس الجذور مثل القناعة بقيمة التجارة الحرة في السلع. نقتبس من دايركتر ثانية: “ظهرت حاجة ملحة للسوق الحر كأسلوب مرغوب به لتنظيم الحياة الفكرية في المجتمع قبل وقت طويل من الدعوة له كأسلوب مرغوب به لتنظيم الحياة الاقتصادية للمجتمع. لقد تم إدراك فائدة التبادل الحر للأفكار قبل إدراك فائدة التبادل الحر للسلع والخدمات في أسواق متنافسة.” في السنوات الأخيرة وخصوصاً، فيما أظن، في أمريكا (أي أمريكا الشمالية) تعززت هذه النظرة للوضع الخاص لسوق الأفكار بالتزام بالديمقراطية كما هي مجسدة في المؤسسات السياسية للولايات المتحدة والتي تعتبر أن أسس الكفاءة في عملها تتطلب سوق أفكار لا يخضع لتنظيم حكومي. هذا يفتح المجال لموضوع واسع سأتجنب التعليق عليه. يكفي القول، من الناحية العملية، أن النتائج المتحققة فعلياً من هذا النظام السياسي بالذات توحي بأن هناك قدراً كبيراً من “فشل السوق.”
نظراً للرأي القائل بأن سوقاً حراً للأفكار ضروري لإدامة المؤسسات الديمقراطية، ولأسباب أخرى أيضاً في اعتقادي، فقد أبدى المثقفون ميلاً لتمجيد سوق الأفكار والتقليل من شأن سوق السلع. لا يبدو لي مثل هذا السلوك مبرراً، وكما قال دايركتر: “سيتعين على معظم البشر في المستقبل المنظور تخصيص جزء معتبر من حياتهم العامة للنشاط الاقتصادي. إن حرية الاختيار بالنسبة لهؤلاء الناس، باعتبارهم مالكين للموارد، في الاختيار ضمن فرص متوفرة ومتغيرة باستمرار، لمجالات العمل والاستثمار والاستهلاك، مهمة تماماً مثل أهمية الحديث والمشاركة في الحكومة.” ليس لدي شك في صحة ذلك. بالنسبة لمعظم الناس في معظم البلدان (وربما في كل البلدان) يعتبر توفير الطعام واللباس والمأوى أهم بكثير من توفير “الأفكار الصحيحة” حتى لو افترضنا أننا نعرف ما هي هذه الأفكار.
ولكن لندع جانباً مسألة الأهمية النسبية لكلا السوقين؛ اختلاف وجهات النظر حول دور الحكومة في هذين السوقين هو حقاً دور خارج عن المألوف تماماً ويتطلب تفسيراً. لا يكفي مجرد القول بضرورة استبعاد الحكومة من مجال نشاط معين لأنه حيوي لحياة مجتمعنا. حتى في الأسواق التي تهم بشكل رئيس الطبقات الأدنى فلا يبدو من المرغوب به تقليل الكفاءة التي يعملون بها. التناقض الظاهري هو أن تدخل الحكومة الشديد الضرر في مجالٍ ما يصبح نافعاً في مجال آخر، ويصبح التناقض باعثاً على مزيد من الدهشة عندما نلاحظ أننا نجد في أيامنا هذه أن أشد من يضغطون عادة لتوسيع التنظيم الحكومي إلى أسواق أخرى هم الأشد رغبة في تطبيق مشدد للإجراءات المقيدة للتنظيم الحكومي في سوق الأفكار!
ما هو تفسير هذا التناقض؟ طبيعة دايركتر اللطيفة لا تسمح له بأكثر من إلماحة حول ذلك: “ثمة تفسير سطحي حول أفضلية حرية الكلام في أوساط المفكرين والمثقفين يدور حول مصالح عمودية. كلٌ يحاول تضخيم أهمية مركزه وتقزيم مركز جاره. المثقفون مشغولون بملاحقة الحقيقة بينما الآخرون مشغولون فقط بكسب قوتهم. الواحد من هؤلاء يعمل في مهنة، مستنيرة عادة، بينما الآخر يعمل في تجارة أو نوع من العمل التجاري.” أود أن أسمي الأشياء بأسمائها فأقول بأن سوق الأفكار هو الذي يعتبره المفكر مهنة له. تفسير الظاهرة يرجع إلى المصلحة الذاتية والمنفعة الذاتية. المصلحة الذاتية تقود المفكرين إلى تضخيم أهمية سوقهم، بينما تنظيم الآخرين يبدو طبيعياً خصوصاً أن كثيراً من المفكرين يعتبرون أنفسهم مناطين بمهمة التنظيم. ولكن المصلحة الذاتية مقرونة بالمنفعة الذاتية يتضافران لضمان أنه، بينما يجري تنظيم الآخرين، فإن التنظيم ينبغي ألا يطبق بحقهم. وهكذا فمن الممكن التعايش مع وجهات النظر المتناقضة هذه حول دور الحكومة في هذين السوقين. النتيجة النهائية هي ما تهم. وقد لا يكون التفسير لطيفاً، ولكني لا أستطيع التفكير بتفسير آخر لهذه الحالة الغريبة.
أن يكون هذا هو التفسير الرئيسي لهيمنة وجهة النظر التي تعتبر سوق الأفكار أمراً مقدساً تدعمه بالتأكيد نظرة متفحصة على تصرفات الصحافة. الصحافة، بالطبع، هي أقوى المدافعين عن مبدأ حرية الصحافة، وهو سلوك في الخدمة العامة قادتها إلى أدائه يدٌ خفية. إذا أمعنا النظر في تصرفات وآراء الصحافة لوجدنا أنها متسقة في شيء واحد: الاتساق مع المصلحة الذاتية للصحافة دائماً.
تأمّل طرحهم الذي يقضي بأنه لا ينبغي إرغام الصحافة على الكشف عن مصادر المواد التي يتم نشرها. يسمون هذا دفاعاً عن حق الجمهور في المعرفة، الذي يمكن تفسيره ليعني بأنه ليس للجمهور حق في معرفة مصدر المادة المنشورة في الصحافة. الرغبة في معرفة مصدر القصة ليس مجرد فضول بليد، فمن الصعب معرفة مدى مصداقية معلومة ما إذا كان القارئ يجهل مصدرها. التقليد الأكاديمي، الذي يكشف فيه الكاتب إلى أبعد مدى ممكن المصادر التي اعتمد عليها وبذلك يطرحها لتفحص زملائه، يبدو لي تقليداً صحيحاً وعنصراً أساسياً في البحث عن الحقيقة. والحجة المضادة من جانب الصحافة، بالطبع، لا تخلو من المنطق، فهم يقولون بأن بعض الناس لن يقدموا على التعبير عن آرائهم بصدق إذا كان سيصبح من المعروف عامةً بأنهم يؤمنون بهذه الآراء. بيد أن هذه الحجة تنطبق بنفس الدرجة على كل تعبير عن رأي سواءً في الحكومة أو في مجال الأعمال أو في الحياة الخاصة حيث السرية ضرورية لإبداء الآراء بصراحة. إلا أن هذا الاعتبار لم يردع الصحافة بصورة عامة عن كشف أسرار كهذه عندما يكون ذلك في مصلحتها. بالطبع كشف مصادر المواد المنشورة في الحالات التي تنطوي على خيانة للأمانة أو حتى سرقة وثائق سيكون من شأنه أيضاً إعاقة تدفق المعلومات. وقبول مواد في ظروف كهذه لا يتسق مع المعايير الأخلاقية العالية والالتزام الصارم بالقانون التي تتوقعها الصحافة من الآخرين.
يصعب علي أن أصدق بأن الخطأ الرئيسي في قضية ووترغيت لم يكن من تدبير صحيفة النيويورك تايمز. ولست أرغب في المجادلة بأنه ليس هناك اعتبارات متضاربة في كل هذه القضايا يصعب تقييمها. النقطة التي أود التأكيد عليها هي أن الصحافة لا تجد هذه الاعتبارات صعبة على التقييم.
لنأخذ مثالاً آخر أكثر مدعاة للدهشة من عدة جوانب: سلوك الصحافة تجاه التنظيم الحكومي للبث الإعلامي. البث الإعلامي مصدر مهم للأخبار والمعلومات؛ وهو يقع في نطاق التعديل الأول. مع ذلك فإن محتوى برامج المحطات الإعلامية يخضع للأنظمة الحكومية. وقد يخطر للمرء بأن الصحافة، وهي تعتبر نفسها مكرسة للتطبيق الصارم للتعديل الأول، ستكون في حالة هجوم دائم على هذا التغاضي عن حق حرية الكلام والتعبير، إلا أنها في الواقع لم تفعل ذلك. خلال الخمسة وأربعين عاماً التي مرت منذ تأسيس هيئة الإذاعة الفيدرالية (أصبح اسمها الآن هيئة الاتصالات الفيدرالية)، لم تُبد الصحافة سوى القليل جداً من الشكوك حول سياسة هذه الهيئة. الصحافة، الحريصة جداً على البقاء طليقة من قيد الأنظمة الحكومية، لم تبذل أبداً أي جهد لضمان حرية مماثلة لصناعة البث الإعلامي. وكي لا يتبادر لذهن أحد أني أبدي عداءً للصحافة الأمريكية فإني أود الإشارة إلى أن الصحافة البريطانية قد تصرفت بطريقة مماثلة. بل إننا في هذه الحالة نجد التناقض أقوى بين الممارسة الفعلية والقناعات المزعومة لأن ما هو موجود في بريطانيا هو احتكار تسيطر عليه الحكومة للأخبار والمعلومات. وقد يتبادر للذهن أن هذه الاستهانة قد أفزعت الصحافة البريطانية. لم يحصل ذلك، بل إنها قد دعمت احتكار البث الإعلامي بصورة رئيسية، كما يبدو لي، لأنهم رأوا أن البديل لهيئة الإذاعة البريطانية سيكون إعلاماً تجارياً وأن ذلك سيشكل، تبعاً لذلك، منافسة متزايدة تحد من إيراداتهم الإعلانية. ولكن إذا كانت الصحافة لا ترغب في منافستها على الإيرادات الإعلانية فإنها لا ترغب أيضاً في منافسة متزايدة على مصادر الأخبار، وهكذا فقد بذلت كل ما في وسعها لكبح هيئة الإذاعة البريطانية، على الأقل كجهة مزودة للأخبار والمعلومات. وعندما تأسس الاحتكار في البداية (عندما كان يطلق على الهيئة اسم شركة الإذاعة البريطانية) كانت الشركة ممنوعة من بث أي معلومات أو أخبار إذا لم يكن قد تم الحصول عليها من وكالات أنباء محددة بالاسم. لم يكن مسموحاً ببث أي أخبار قبل الساعة السابعة مساءً وكانت هناك قيود أخرى أيضاً على أي أخبار قد تؤثر سلباً على مبيعات الصحف. ثم أخذت هذه القيود تخف تدريجياً، وعلى مدى عدة سنوات، نتيجة للمفاوضات بين الصحافة وهيئة الإذاعة البريطانية. ولكن الإذاعة البريطانية لم تقم ببث نشرة أخبار منتظمة قبل الساعة السادسة مساءً حتى ما بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية.
ولكن ربما كان هناك من يجادل في أن حقيقة كون رجال الأعمال يتأثرون بصورة رئيسية باعتبارات مالية هي مسألة بديهية وليست اكتشافاً هاماً، فماذا يمكن للمرء أن يتوقع من اللاهثين وراء المال في عالم الصحافة؟ أكثر من ذلك، قد يقول معترض، فإن مجرد دعم نشر مبدأ من قبل أولئك الذين يستفيدون منه لا يعني أن هذا المبدأ غير سليم. ألم يتبنّ الدعوة لحرية الكلام والصحافة، في نهاية المطاف، كبار المفكرين الذين تتشكل قناعاتهم بتأثير ما هو حق وليس لاعتبارات مادية خسيسة؟ ليس هناك بالتأكيد مفكر أرجح عقلاً من جون ميلتون. وحيث أن أطروحته (من أجل حرية صحافة دون ترخيص) قد تكون على الأغلب أشهر دفاع كتب حول مبدأ حرية الصحافة، فقد بدا لي أن المسألة تستحق فحص طبيعة وجهة نظره في سبيل صحافة حرة. وأنوه قبل ذلك إلى أن لعمل ميلتون فائدة أخرى تخدم غرضي، فقد كُتب هذا العمل عام 1644 أي قبل وقت طويل من عام 1776، وعليه فبوسعنا أن نتعرض إلى طبيعة الجدلية قبل أن يكون هناك أي فهم عام لكيفية عمل الأسواق المتنافسة وقبل بروز الآراء الحديثة في الديمقراطية. لعله من العبث الذي لا طائل تحته أن أتظاهر أن بوسعي اتخاذ موقف المفسِّر لأفكار ميلتون، فأنا لا أعرف سوى القليل عن إنجلترا في القرن السابع عشر وهناك الكثير في أطروحة ميلتون مما لا أستطيع إدراكه. إلا أن هناك مقاطع من هذه الأطروحة تثب عبر القرون ولا حاجة لتفسيرها منحة تخصصٍ علمي.
يؤكد ميلتون، كما يمكن للمرء أن يتوقع، على أهمية سوق الأفكار: “أعطني الحرية لكي أتعلم وأتحدث وأجادل بحرية وفقاً للوعي قبل أي حرية أخرى” (ص 44). هذا شيء مختلف عن سوق السلع وينبغي عدم التعامل معه بنفس الطريقة: “الحقيقة والفهم ليستا سلعتين يمكن احتكارهما والمتاجرة بهما باستخدام اللوائح والقوانين والمقاييس. يجب ألا نفكر في جعل المعرفة في كل البلاد سلعة كبرى نمنحها ترخيصاً وعلامة تجارية كالقماش وبالات الصوف” (ص 29). إن ترخيص المادة المكتوبة إهانة للرجال المتعلمين والمقبلين على التعليم: “عندما يجلس رجل ليكتب للعالم فإنه يستجمع كل ما لديه من ذكاء ومهارة ليستعين بهما، فهو يبحث ويوازن ويثابر وقد يتحاور ويتشاور مع الحكماء من أصدقائه، وبعد ذلك كله يستشعر في نفسه الثقة بالإحاطة بما يريد الكتابة عنه إضافة على ما كان قد كُتب عن الموضوع من قبله. إذا كان مثل هذا الكاتب في مثل هذا العمل الذي أولاه كل ما لديه من براعة ودقة واكتمال، لا تستطيع السنوات ولا المثابرة ولا أي إثباتات سابقة لقدراته أن توصله إلى درجة النضج التي تجعله يبقى غير ذي ثقة بل وموضع شبهة ما لم يحمل خلاصة كدّه وسهر لياليه لأخذ موافقة سريعة من موظف ترخيص مشغول ربما كان أصغر منه سناً بكثير وربما كان أقل قدرةً منه بكثير في الحكم على الأمور وربما كان رجلاً لم يعرف في حياته مشقة الكتابة، ثم، إذا لم يُرفض عمله أو يقابل بالازدراء فيجب أن يظهر عند الطباعة كشخص هزيل يحمل على الجهة الأخرى من عنوان كتابه علامة يد راعية ورقيبة كفالة وضمانة بأنه ليس معتوهاً أو ضالاً، فلا يمكن لذلك إلا أن يكون امتهاناً وانتقاصاً للمؤلف والكتاب لرفعة وامتياز قيمة التعلم” (ص 27). الترخيص هو أيضاً إهانة لعامة الناس: “وليس الترخيص أقل امتهاناً لعامة الناس؛ فإذا كنا من الغيرة عليهم إلى هذا الحد بحيث لا نجرؤ على الثقة بهم في قراءة كتيّب باللغة الإنجليزية فماذا نفعل أكثر من أننا نلومهم باعتبارهم جمهوراً مترنحاً فاسداً مهزوزاً في حالة من ضعف الإيمان والقدرة على الاختيار تجعلهم غير قادرين على تناول أي شيء إلا إذا كان عبر أنبوب موظف الترخيص” (ص 30). في سوق الأفكار يتم اتخاذ الخيارات الصحيحة: “دعوا [الحقيقة] والكذب يتصارعان. من عرف يوماً أن الحقيقة ستفشل في مواجهة حرة ومفتوحة؟” (ص 45).
الذين يتولون سلطة الترخيص ليست لديهم كفاءة للقيام بذلك، فمن يتولى سلطة كهذه يجب، في رأي ميلتون، أن يكون: “مثابراً ومطلعاً، وحصيفاً.” ولكن من المستبعد أن نحصل على شيء كهذا في شخص هذا الموظف: “قد نستطيع أن نستشرف بسهولة نوعية موظفي الترخيص الذين يمكن توقعهم من الآن فصاعداً: إما أن يكونوا جهلة ومتغطرسين ولا مبالين أو مستعبدين مالياً” (ص 25). وسيكون موظفو الترخيص، على الأرجح، أكثر ميلاً لقمع الحقيقة من قمع الكذب: “وفي حالة الخطر، فسيتعدى الأمر في الأغلب الأعم حظر الحقيقة نفسها، التي سيكون ظهورها الأول لأعيننا وهي ضبابية وباهتة بسبب التحيز والتقاليد أكثر بشاعة وأقل صدقية من العديد من الأخطاء” (ص 47). ولا ينسى ميلتون أن يخبرنا بأن نظام الترخيص الذي كان يَكتُب ضده قد ظهر نتيجة لضغط الصناعة: “وكيف كانت لها اليد العليا… كان فيها خداع بعض أصحاب الامتيازات والمحتكرين في مهنة بيع الكتب” (ص 50).
ربما لعبت المصلحة الذاتية دوراً في تشكيل أفكار ميلتون، ولكن ليس هناك شك يذكر في أن محاججته تنطوي على قدر كبير من الكبرياء الثقافي الفكري من النوع الذي أشار له دايركتر. الكاتب رجل مطلع ومثابر وجدير بالثقة، أما موظف الترخيص فهو جاهل وغير كفؤ وذو دوافع مالية، وربما كان “أصغر” و”أقل قدرة في الحكم على الأمور.” كما أن رجل الشارع يختار الحقيقة باعتبارها على الطرف النقيض للكذب. الصورة ذات جانب واحد إلى حد ما بحيث يصعب اعتبارها مقنعة تماماً، وإذا كانت مقنعة للوسط الثقافي الفكري (ويبدو أنها كانت غالباً كذلك) فمن المؤكد أن ذلك يعود إلى أن من السهل إقناع الناس بأن ما هو في صالحهم هو بالضرورة في صالح البلاد.
لا أعتقد بصحة هذا التمايز بين سوق السلع وسوف الأفكار. ليس هناك فرق جوهري بين هذين السوقين، وعند اتخاذ قرار حول السياسة العامة إزاءهما يتعين علينا أن نأخذ في الحسبان الاعتبارات ذاتها لكليهما. في كل الأسواق هناك بعض الأسباب لدى المنتجين ليكونوا صادقين وبعض الأسباب ليكونوا غير صادقين؛ وتكون لدى المستهلكين بعض المعلومات ولكنهم غير ملمين تماماً بكل المعلومات أو حتى قادرين على استيعاب المعلومات المتوفرة لهم؛ والمنظمون عادة يرغبون في القيام بعملهم بشكل جيد، ورغم أنهم غير أكفاء غالباً ومعرضون لتأثيرات مصالحهم الخاصة، فإنهم يتصرفون بهذه الطريقة لأنهم، مثلنا جميعاً، بشرٌ، ليست أقوى حوافزهم هي الأفضل.
عندما أقول بأنه ينبغي أخذ نفس الاعتبارات في الحسبان فلا أعني بذلك أن السياسة العامة ينبغي أن تكون هي ذاتها في جميع الأسواق. فالمقومات الخاصة لكل سوق تعطي وزناً مختلفاً لنفس العوامل مما يجعل الترتيبات الاجتماعية الملائمة تختلف وفقاً لذلك. قد لا يكون من المعقول العمل بالترتيبات القانونية ذاتها التي تحكم صناعة الصابون والإسكان والسيارات والبترول والكتب. وجهة نظري هو أنه يتعين علينا استخدام (المقاربة) ذاتها لجميع الأسواق عندما نقرر سياسة عامة. الواقع أننا إذا قمنا بذلك واستخدمنا لسوق الأفكار ذات المقاربة التي استهوت الاقتصاديين في سوق السلع فمن الواضح أن ذلك يدعم حجة التدخل الحكومي في سوق الأفكار بشكل أكثر قوة مما عليه الحال عموماً في سوق السلع. وكمثال على ذلك، فإن الاقتصاديين يدعون عادة إلى التدخل الحكومي، والذي قد يشمل أنظمة حكومية مباشرة، عندما لا يعمل السوق بطريقة صحيحة—أي عندما يحدث ما يُعرف عادة بتأثيرات الجوار أو تشكل فائض أو “العوامل الخارجية” إذا ما كان لنا أن نستخدم هذه العبارة المشؤومة.
إذا حاولنا تخيل نظام حقوق الملكية الضروري والمعاملات التي يجب القيام بها لضمان أن يحصل كل من قام بنشر فكرة أو اقتراح للإصلاح على قيمة السلعة التي نتجت عن تلك الفكرة أو يدفع تعويضاً عن الضرر في حالة حدوثه فمن السهل أن نرى أنه سيكون هناك في التطبيق العملي، على الأرجح، قدر كبير من “فشل السوق.” حالات مثل هذه تقود الاقتصاديين عادة للدعوة لتدخل حكومي مكثف.
أو لنأخذ مسألة جهل المستهلك التي ينظر إليها عادة كمبرر للتدخل الحكومي. من الصعب الاعتقاد بأن عامة الجمهور سيكونون في وضع أفضل لتقييم وجهات نظر متنافسة حول سياسة اجتماعية واقتصادية أكثر من الاختيار بين أنواع مختلفة من الطعام. مع ذلك فهناك تأييد للتنظيم الحكومي في حالةٍ وعدم تأييد في الأخرى. أو لنأخذ مسألة منع الغش الذي يحظى عادة بحض على التدخل الحكومي. من الصعب إنكار أن مقالات الصحف وأحاديث السياسيين تحوي قدراً كبيراً من الكذب والبيانات المضللة—الواقع أنها تبدو أحياناً وكأنها لا تحوي خلاف ذلك. الإجراءات الحكومية لضبط الإعلانات الكاذبة والمضللة مرغوبة للغاية، إلا أن اقتراحاً لتشكيل هيئة صحافة فيدرالية أو هيئة سياسية فيدرالية على غرار هيئة التجارة الفيدرالية لن يحظى بأي اهتمام.
التأييد القوي الذي يحظى به التعديل الأول ينبغي ألا يحجب عنا أن هناك، في الواقع، قدراً كبيراً من التدخل الحكومي في سوق الأفكار. لقد تطرقت إلى الإذاعة، ولكن هناك أيضاً موضوع التعليم، الذي، رغم أنه يلعب دوراً حيوياً في سوق الأفكار، فإنه يخضع لكثير من التنظيم. قد يتبادر للذهن أن أولئك الذين يبدون حرصاً كبيراً على منع إجراءات التنظيم الحكومي عن الكتب والمواد المطبوعة الأخرى قد يرفضون أيضاً تنظيماً كهذا في مجال التعليم. إلا أن هناك اختلافاً بالطبع. تنظيم الحكومة لمجال التعليم يصاحب عادة التمويل الحكومي مع إجراءات أخرى (مثل إلزامية التعليم المدرسي) والذي يزيد من الطلب على خدمات المفكرين والمتعلمين، وبالتالي، على دخولهم (راجع إي. جي. ويست، ص 101). المصلحة الذاتية إذن، التي تؤدي عموماً إلى تأييد سوق حر للأفكار، هي التي توحي بموقف مختلف في مسألة التعليم.
كما أني لا أشك أن الدراسة المفصلة ستكشف حالات أخرى أيدت فيها مجموعات من العاملين في سوق الأفكار التنظيم الحكومي وتحديد المنافسة عندما يكون من شأنها زيادة دخولهم، تماماً كما وجدنا السلوكيات ذاتها في سوق السلع. ولكن الاهتمام بالاحتكار سيكون على الأرجح أقل في سوق الأفكار. هناك سياسة عامة لمفهوم التنظيم، هي أن تحديد السوق يؤدي إلى خفض الطلب على خدمات المثقفين والمفكرين. ولكن لعل الأهم من ذلك هو أن الجمهور معني أكثر بالصراع بين الحقيقة والكذب أكثر من اهتمامه بالحقيقة نفسها. إن الطلب على خدمات المؤلفين وكتاب الخطابات، يعتمد إلى حد كبير على وجود جدال—ولكي يكون هناك جدال فمن الضروري ألا تنتصر الحقيقة وحدها!
مهما فكر المرء في الدوافع التي أدت إلى القبول العام للوضع الحالي يبقى هناك سؤال حول أي السياسات هي، في الواقع، أكثر ملاءمة. هذا يتطلب منا التوصل إلى بعض الاستنتاجات حول الطريقة التي ستؤدي بها الحكومة أية مهمات يعهد بها إليها. لا أعتقد أنه سيكون بوسعنا تكوين حكم نستطيع الوثوق بصوابه ما لم نتخلّ عن التناقض الحالي في النظرة إلى أداء الحكومة في السوقين وتبني موقف أكثر اتساقاً. يتعين علينا أن نقرر فيما إذا كانت الحكومة قليلة الكفاءة كما يفترض عادة في سوق الأفكار، وفي حالة كهذه سنميل بالدعوة إلى خفض درجة التدخل الحكومي في سوق السلع، أو ما إذا كانت جيدة الكفاءة كما يفترض عادة في سوق السلع، وفي حالة كهذه سنميل بالمطالبة إلى زيادة درجة التدخل الحكومي في سوق الأفكار. يستطيع المرء، بالطبع، أن يتبنى موقفاً وسطاً—أي حكومة لا هي رديئة وقليلة الكفاءة كما يفترض في أحد السوقين ولا هي كفؤة ومثلى كما يفترض في السوق الأخرى. في هذه الحالة يتعين علينا أن نخفض درجة التنظيم الحكومي في سوق السلع وربما سنميل لزيادة التدخل الحكومي في سوق الأفكار.
وأتطلع إلى معرفة أي من الخيارات في وجهات النظر هذه ستكون موضع تأييد زملائي في المهنة الاقتصادية.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 6 شباط 2007.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

كما هو الحال، وبشكل افتراضي لدى جميع فروع المعرفة الإنسانية، يتم تقييم المعرفة والفهم الاقتصادي ليس فقط بشكل عرضي (أو حتى وإن كان ذلك بشكل مبدأي)، بل من حيث منفعتهما وفائدتهما من ناحية الشروط العملية والتطبيقية. والمبالغ الضخمة التي يتم إنفاقها كل سنة على البحث والتعليم الاقتصاديين سوف لن يكتب لها أن تشاهد النور، بكل تأكيد، لو لم يكن من المتوقع للبحث والتعليم الاقتصاديين أن يساعدا على ترويج ونشر السياسات الحكيمة التي تؤدي إلى الازدهار والرفاه الاقتصادي.
وبالفعل، ليس من الممكن أن يكون هناك أي شك حول قيام أولئك الذين يناصرون ويدافعون عن سياسات السوق الحر (في كتابات يتم نشرها في مطبوعات فريمان أو في أي مكان آخر) حيث يقومون هم بذلك الدفاع وهم على قناعة ثابتة بان مثل تلك المناصرة سوف تنبت وتنمو بشكل طبيعي من الفهم والإدراك الاقتصاديين. إنني، بكل تأكيد، أشاطرهم هذه القناعة، ومع ذلك فان الطريق الذي يتجه من فهم اقتصادي فعال وصحيح إلى مشورة سياسة اقتصادية معقولة سوف لن يكون طريقا صريحا واضح المعالم. وللمباشرة من العرض باستخدام التعبير بـ”يكون” إلى العرض باستخدام التعبير “يجب أن” سوف يكون، وفق جميع سياقات الكلام، محفوفا بالمخاطر الفلسفية التشهيرية. مثل هذه الأخطار سوف تتضاعف، ضمن سياق علم الاقتصاد، بشكل تصاعدي وذلك بفعل تلك الأذهان الماكرة التي تعمل على تعقيد مصادر الفهم الاقتصادي نفسه.
إن محاولتنا الخاصة بتوضيح الأساس الكامن في مجال العلوم الاقتصادية، بالنسبة لمشورة اقتصادية مشروعة ونافعة، سوف تتواصل وفق النحو التالي. في هذه المقالة الحالية سنقوم بتطوير وتوسيع التناقض الظاهري الذي يدخل في عرض أية مشورة “علمية” (أي المشورة المدعومة من قبل العلم أو حتى تلك المشورة التي قد تكون مستتبعة بالعلم) في المجال الاقتصادي. وفي المقالة الثانية سنقوم بفحص واختبار القواعد الفلسفية للعلوم الاقتصادية نفسها (مع بذل اهتمام خاص نحو إمكانياتها بالنسبة لصناعة السياسات الاقتصادية). وفي المقالة الختامية سنحاول أن نصيغ معا بصائرنا النافذة العديدة وأن نشكل استنتاجاتنا فيما يخص المشروعية العلمية لأية مشورة اقتصادية.
الاقتصاد السياسي هل هو “علـوم” أو “آداب”: تلك هي معضلة القرن التاسع عشر
ينظر الآباء المؤسسون لعلم الاقتصاد، بما فيهم العالم الأكثر شهرة آدم سميث، بشكل عام، إلى حقلهم هذا في مجال المعرفة وكأنه يشكل ما يطلق عليه اسم “آداب”، أي انه تعزيز “للثروة” الوطنية، لكونه مجموعة من النصوص المطبوعة لمشورة تدور حول كيفية إنجاز غرض محدد جيدا. وبالرغم من أن العنوان الكلاسيكي القديم الذي حمله آدم سميث هو التحقيق في طبيعة وأسباب ثروة الأمم (موحيا بذلك إلى أنه عبارة عن تحقيق علمي نزيه ليس له شأن في ترويج الثروة الوطنية المتزايدة ولا بمنعها)، فانه عادة ما كان يتم النظر إلى سميث نفسه على كونه معبرا عن موضوعه وكأنه أدب (مبينا ومعلنا عن طرق خاصة بزيادة الثروة الوطنية). لكن علماء الاقتصاد من ذوي التفكير العميق في تلك الفترة كانت لديهم هواجس وشكوك جدية حول مثل هذا النهج.
وبعض علماء الاقتصاد الكلاسيكيين الذي اتبعوا منحى سميث قاموا، بالفعل، بالتصارع مع العلاقة التي تربط بين علم الاقتصاد السياسي وأدب الاقتصاد السياسي. ومن بين مثل هؤلاء العلماء الاقتصاديين هناك ريتشارد واتلي الذي لم يكن فقط عالم اقتصاد ذائع الصيت بل أيضا رئيس أساقفة انجليكاني. وقد شعر واتلي بأنه بحاجة إلى الدفاع عن نفسه فيما يتعلق باهتمامه بعلم الثروة (وهو اهتمام تبين بان نقاده قد اعتبروه غير لائق برجل دين). وأشار واتلي (في محاضرة تمت في العام 1831 في أكسفورد) إلى أن من الممكن نشر وإدخال استنتاجات الاقتصاد السياسي في سياسات يتم تصميمها بغرض خفض الثروة (إذا تم النظر إلى الثروة وكأنها مشتبه بها أخلاقيا)، تماما كما يكون بالمستطاع أن يتم استخدامها في صياغة سياسات خاصة تهدف إلى زيــادة الثروة!
وفي أوائل القرن التاسع عشر، قام ناساو سينيور، أحد علماء الاقتصاد السياسي البارزين في تلك الفترة، وفي إحدى مراحل مسار حياته المهنية الأكاديمية، بالإنكار الصريح لوجود نفس الإمكانية في علم الاقتصاد والتي يمكن أن تكون متاحة لمثل ذلك الفن. ومع أن سينيور قام، في وقت لاحق، بالتراجع عن هذا الموقف الصريح إلا انه لم يتوافق ولم يتراض أبدا وبشكل تام مع فكرة أن يكون الاقتصاد السياسي أدبا. وفي خطابه الرئاسي في العام 1860 الذي وجهه إلى قسم العلوم الاقتصادية والإحصائيات (التابع للجمعية البريطانية)، بعد ربع قرن تقريبا من إنكاره لتوفر إمكانية أن يكون الاقتصاد السياسي أدبا، أصر سينيور على انه يتوجب على عالم الاقتصاد السياسي أن يركز اهتمامه فقط على إنتاج أو توزيع الثروة، بغض النظر عما إذا كانت “الثروة خيرا أم شرا”. كما انه كان يعتقد، بشكل واضح، بأنه ليس لعالم الاقتصاد، بصفته عالم اقتصاد، أي شأن في تقديم أية مشورة. “…عندما يقدم مبدأ وعندما ينصح قارئه بان يقوم بعمل ما أو ليمتنع عن القيام بعمل ما، فانه بذلك يحيد عن العلم إلى الأدب…”
ولما كان القرن التاسع عشر في سبيل الانقضاء، تم إبداء التجاهل نحو مخاوف سينيور، وقام علماء الاقتصاد، وخصوصا على مستوى القارة الأوروبية، ببذل قليل من الانتباه نحو التحذيرات والنصائح التي أبداها سينيور. فالمدرسة التاريخية الألمانية (التي هيمنت على علوم اقتصاد القارة الأوربية طيلة العقود الأخيرة من ذلك القرن) لم تقم بأية محاولة من أي نوع تستهدف فصل علومها الاقتصادية الأساسية عن المناصرة لمصلحة برامج اجتماعية معينة. وبالنسبة لها، فقد كان من الالتزام أن تتم هذه المناصرة التي تمنح علم الاقتصاد أهميته بصفته فرع من فروع المعرفة. ويروي جوزيف شومبيتر شهادة قدمها أحد طلبة صف دراسي كان يتم تدريسه من قبل قطب بارز من أقطاب المدرسة لدرجة أن حالة المزاج التي كانت تسود غرفة الصف كانت شبيهة بوضعية سباق انتخابي.
ولقد كان عالم الاجتماع الكبير ماكس ويبر هو الذي اعترف بالخطر الذي يحدق بسمعة علم الاقتصاد على أساس كونه علما موضوعيا متجردا جرى إرباكه بفعل مثل هذا الموقف المنغمس في السياسة. وأكد بالدليل بان الصفة العلمية لأي علم اجتماعي تشترط أن يكون محايدا بمنتهى الدقة وكأنه حيادٌ يتم بين أحكام وآراء يتم بها تحديد قيم (أو تحديد أسعار) متباينة، وهو الأمر الذي جعله يسير بشكل معاكس لوجهة النظر المهيمنة على العلوم الاقتصادية الألمانية. وفي حلقة نقاش بين علماء اجتماع باللغة الألمانية تم عقده في العام 1907، كان الموقف الذي اتخذه ويبر هو الموضوع الذي دار حول الاختلاف وعدم الاتفاق المريرين. ويصر ويبر على أن العلماء الذين لا يتفقون بشكل واضح تماما على أولويات أخلاقية، يجب عليهم، بالرغم من ذلك، أن يكونوا قادرين، على اقل تقدير من ناحية المبدأ، على أن يتفقوا حول الافتراضات والفرضيات الإيجابية المتواجدة في تخصصاتهم في حقل المعرفة. وفي وقت قريب جدا، سوف نعود إلى مزيد من التعليق على مبدأ ويبر، فيرتفرايهايت (أي حرية القيمة أو التحرر من وضع أحكام للقيمة).
القرن العشرون: علم اقتصاد الرفاه
بحلول نهاية القرن التاسع عشر، لم يعد واضعو النظريات الاقتصادية من ذوي الاتجاه السائد حينئذ ينظرون إلى حقلهم هذا في المعرفة على انه متعلق بالثروة المادية. فهم، بدلا من ذلك، قاموا بتركيز اهتمامهم على الحس الذاتي وغير الموضوعي بالرفاه حيث تأمل المخلوقات البشرية أن تستخرجه وتتوصل إليه من ثرواتها وأنشطتها الاقتصادية، وهو الأمر الذي أدى بهم (وخصوصا في إنجلترا) إلى النظر إلى علم الاقتصاد وكأنه يتعلق بشكل أساسي بـ”الرفاه”. ثم قاموا، في وقت قريب جدا، بالحديث عن “علم اقتصاد الرفاه” (وهو العنوان الجديد لكتاب إيه. سي. بيجو الصادر في العام 1902، والذي كان هو نفس كتاب الطبعة الثانية الصادر في العام 1912 المعنون بـ الثروة والرفاه). وللنظر إلى علم الاقتصاد باعتباره علم قادر على ترويج الرخاء الاقتصادي قد بدا وكأنه مجرد خطوة صغيرة غير ضارة. وهكذا، فقد تم في الغالب، بالنسبة لكثير من سنوات النصف الأول من القرن العشرين، التسليم بصحة القول جدلا على أن عالم الاقتصاد هو ذلك العالم الخبير الذي يقوم بصياغة سياسات يتم تنفيذها بغرض ترويج رفاه اقتصادي كلي غير فردي. وقد بدا بكل وضوح على أن لدى علماء الاقتصاد واجب مهني ألا وهو الدفاع عن السياسات التي تعمل حسب اعتقادهم على تعزيز الرفاهية من الناحية العلمية. وحتى علماء الاقتصاد الذين كانوا شديدي الحساسية تجاه التماسك الفلسفي لأية فكرة تدور حول الرفاهية الكلية الشاملة كانوا قادرين على استنباط إصدارات تمت صياغتها بشكل اكثر حرصا وعناية عن علم اقتصاد الرفاه من خلال رجوعهم إلى “أمثلية باريتو” أو إلى تركيبات معقدة مماثلة.
وتعتبر هذه الفترة هي الفترة التي شرع بها علماء الاقتصاد بالبدء في إيجاد فرص وفيرة للتوظيف في الحكومة. وبما أن المد الذي أصاب الرأي العام قد تحول بشكل حاسم (خلال الربع الثاني من القرن) إلى جانب التدخل الحكومي الشامل في اقتصاد السوق، نظر علماء الاقتصاد بشكل متزايد إلى حقلهم هذا في المعرفة وكأنه قادر على استحداث وخلق سياسات محددة جدا خاصة بحكومات يتم تنويرها بحيث تقوم باتباع هذه السياسات. وقام علماء الاقتصاد بوضع علمهم (وعلى وجه الخصوص ذلك الفرع الذي عمل على صياغة “علم اقتصاد الرفاه”) في خدمة الأحزاب السياسية، وهو الأمر الذي عمل، بشكل حتمي، على النزوع إلى إثارة نفس تلك الأسئلة المزعجة المتعلقة بالموضوعية المتجردة والحيادية لذلك العلم التي أزعجت ماكس ويبر وفق هذه الشاكلة. وقد تبين، بنحو مطرد، بان أي برنامج سياسي وأية فرضية خاصة بتشريع اقتصادي بإمكانهما أن يجدا علماء اقتصاد لديهم الاستعداد بأن يعطوا حجة “علمية” تعمل على دعمهما.
ميزس وفيرتفرايهايت
كان لودفيغ فون ميزس، عالم الاقتصاد التابع للمدرسة النمساوية المتفوقة، نصيرا مدافعا ومتحمسا جدا لمبدأ ويبر، فيرتفرايهايت، بخصوص كافة العلوم الاجتماعية وبشكل خاص علم الاقتصاد. وكان لودفيغ يعتقد بان الموضوعية المتجردة لأي علم تشترط لا شيء أقل من أن يتم فصل الافضليات الشخصية وأحكام القيمة الخاصة تماما عن الممارسين لها. والشيء الضمني في مبدأ ويبر، فيرتفرايهايت، هو اقتناع عالم الاقتصاد بان من الممكن، على الأقل من ناحية المبدأ، أن يمارس ويواصل علومه بمعزل عن أحكامه وآرائه الشخصية الذاتية حول القيمة. ومع ذلك، هناك فعلا بعض فلاسفة القرن العشرين قد تحدوا (وما زالوا يتحدون بالفعل) هذا الأمر، مؤكدين بالدليل على أن من الوهم أن يتم الاعتقاد بان بإمكان المرء أن يطمس الأحكام التي تحدد القيمة التي يضعها بينما يكون هو منشغل في علمه. وهم يجادلون بطريقة لا يمكن تجنبها على أن علم المرء يعكس الافتراضات الأخلاقية له. وقد يكون ميزس قد وافق على أن الإبقاء والمحافظة على مثل ذلك العزل سيكون أمرا صعبا، لكنه قد يكون قد رفض بشكل مشدد تلك الادعاءات التي تقول بأنه مستحيل. ويصر ميزس على أن من واجب العالِم تجاه سمعة علمه وتكامله أن يقوم بعزل البحث العلمي الذي يقوم بتأليفه عن أية مسحة “تلوث” ولو ضئيلة ناجمة عن ميول شخصية. فالباحث الطبي الذي يكشف عن الحلقات التي تربط بين تدخين السجائر ومرض السرطان يجب عليه أن يواصل اختباراته في المختبر وتحليلاته الإحصائية دون أن يكون ذلك البحث قد تأثر، بأي شكل من الأشكال، بأفضلياته الشخصية الذاتية المتعلقة بالتدخين أو بمخاوفه الخاصة به المتعلقة بالمرض. وهكذا أيضا، يجب أن يكون تحليل عالم الاقتصاد للأسواق والتنظيم وتداعياتهما مستقلا تماما عن آرائه الأخلاقية الخاصة به المتعلقة بالحرية وبالتفاوت في الدخل أو نحو ذلك.
ويقدم موقف ميزس إيضاحا رائعا عن الأشياء المبهمة والتعقيدات التي دخلت وتدخلت في مبدأ فيرتفرايهايت. فهناك غونار ميردال وهو أحد علماء الاجتماع السويديين البارزين في القرن العشرين (والذي كانت مواقفه حول السياسة الاقتصادية في خصام تام مع تلك المواقف التي تبناها ميزس بحيث انه عندما فاز كل من ميردال وإف. إيه. هايك مناصفةً بلقب جائزة نوبل في علم الاقتصاد، كان من المفهوم على نطاق واسع على أن القيام بهذه الاختيارات قد مثل نوعا من أعمال التوازن الفكري الآيديولوجي لآراء هايك المعتمدة حول السوق الحر لكونها قد واجهت توازنا مضادا من قبل دفاع ميردال عن سيطرة الحكومة الشاملة على الاقتصاد). وفي العام 1930 قام ميردال بنشر كتاب باللغة الألمانية عمل على فحص تاريخ علم الاقتصاد وتوصل إلى نتيجة مفادها بان معظم علماء الاقتصاد الرواد خلال ذلك التاريخ قد قاموا بحقن فرضيات وأفكار سياسية داخل ما كانوا قد قدموه على أنها بحوث علمية. وقد تمت ترجمة هذا الكتاب إلى اللغة الإنجليزية في العام 1955. وكان فريتز ماكلوب (وهو نفسه عالم اقتصاد مرموق في القرن العشرين المتدرب في النمسا والذي كان أحد تلامذة لودفيغ فون ميزس حيث قام بالتعامل مع ميزس على المستوى الشخصي بولاء وانتماء نموذجيين) قد كتب مراجعة لهذه الترجمة التي تم نشرها. وقام ماكلوب بجلب الانتباه نحو إقرار ميردال على أن مدرسة الاقتصاد النمساوية (على نحو مغاير لمذاهب الفكر الاقتصادي الأخرى) لم تكن قد ارتكبت ذنب قيامها بحقن مثاليات سياسية في البحث العلمي التي قامت بتأليفها. وقد وجد ماكلوب بان هذا الحكم الاطرائي يعتبر أمرا مفاجئا. وقام بطرح السؤال التالي: “كيف تمكنت أبحاث ومؤلفات النمساوي فون ميزس المضادة للمتدخلين من النجاة هربا من اهتمام وعناية ميردال؟” ومن الواضح بان ماكلوب لم يكن ليقدر على التوافق والتراضي مع إصرار ميزس الذي ذكره عن فيرتفرايهايت وعن الانفصال عن الالتزامات الآيديولوجية المسبقة بوجود مؤلفات ميزس التي تنطق بشكل فصيح والتي تصب لصالح سياسة عدم التدخل (الحكومي) في الشؤون الاقتصادية ولصالح اقتصاد السوق الحر.
وفي الحقيقة، فان أي قارئ للأثر العلمي الذي ألفه ميزس ليس باستطاعته أن يخفق في الإحساس بالتناقض الظاهري الذي يحيط بالعاطفة والهيام اللتان كتب بهما ميزس علومه الاقتصادية. وبحلول الوقت الذي نصل به إلى الجزء الثالث من هذه السلسلة، فأننا سنكون، بشكل مشجع، قد توصلنا إلى حل هذا التناقض. وهنا، سنقوم فقط بتحديده وبربطه مع التحدي الأكبر المتمثل باستخراج واستنباط مشورة نافعة من علم اقتصاد حرية تحديد القيمة.
لودفيغ فون ميزس وأهمية علم الاقتصاد
كما كنا قد لاحظنا، كان ميزس مقتنعا بان علم الاقتصاد يجب أن تتم مواصلته بشكل نزيه بعيدا عن العاطفة والانفعال، بصفته حقل معرفة في بيئة سوق حر، إلا أنه (أي ميزس) كان قد كتب بعاطفة متحمسة شديدة النقد عن الأخطار التي تواجه بني البشر في حال قيامهم بتجاهل الحقائق التي تكشف عنها العلوم الأكاديمية. وقد اختتم تحفته الرائعة الفعل البشري بالجمل القاسية التالية: “تعتبر مجموعة المعرفة الاقتصادية عنصرا رئيسيا في تركيبة الحضارة الإنسانية، فهي الأساس الذي تم فوقه بناء الصناعات الحديثة وكافة الإنجازات الأخلاقية والفكرية والعلاجية التي تحققت في القرون الأخيرة. وهي أيضا التي تبقت لدى الأفراد سواء عملوا على الاستفادة المناسبة من هذا الكنز الثري الذي وفرته لهم هذه المعرفة أم انهم تركوه بدون أن يستفيدوا منه. لكنهم، في حال إخفاقهم في الحصول على أقصى منفعة منه وقاموا بإهمال تعاليمه وتحذيراته، فسوف لن يكونوا قد عملوا على إلغاء علم الاقتصاد، بل إخماد المجتمع وسلالة بني البشر.”
لقد كان هذا هو الاقتناع العاطفي بالأهمية القصوى لتعاليم علم الاقتصاد الذي أسهم بالعناية والحرص اللذان قام ميزس ببذلهما تجاه الحالة الفلسفية لتلك التعاليم. فقد كان ميزس يعتقد بان أعداء المجتمع الحر بإمكانهم إن يديموا ويبقوا على دفاعهم عن التخطيط المركزي وعن التدخل الحكومي الشامل في اقتصاد السوق (أو استبداله) فقط بمجرد تجاهلهم لعلم الاقتصاد أو تشويه سمعة علم الاقتصاد. وقد نظر ميزس إلى كافة المحاولات التي بذلت للتشكيك في مشروعية الفرضيات التأسيسية لعلم الاقتصاد وكأنها مدفوعة من قبل دافع خفي لسياسة عدم تدخل اقتصادية مشوهة للسمعة.
ونظرا لاعتقاد ميزس بان سياسات عدم التدخل هي التي فقط يمكنها أن تديم وتحفظ الحضارة الحديثة، فقد شعر بأنه قد انساق إلى التوضيح وإلى الدفاع عن تلك القواعد الفلسفية التي قام هو بتسميتها بـ”علم الاقتصاد الحديث”. (بالنسبة لميزس، فان علم الاقتصاد الحديث هو مجموعة تعاليم اقتصادية متجذرة في علم الاقتصاد الكلاسيكي القديم لآدم سميث وتابعيه، بما انه قد تمت إعادة تصنيفه وصياغته من قبل ما سمي بعلماء الاقتصاد الكلاسيكيين الجدد، بما فيهم بشكل خاص، مؤسس المدرسة النمساوية كارل مينجر وتابعيه والذين كان من بينهم معلم ميزس الخاص صاحب المقام الرفيع يوجين فون بوم-بافيرك).
وقد اشتملت إيضاحات ميزس الخاصة بقواعد النظرية الاقتصادية الكلاسيكية الجديدة، بشكل خاص، على دفاعه عن علم الاقتصاد من التهمة الماركسية وهي أن علماء الاقتصاد التقليديين هم مجرد تابعين خانعين لـ”الوول ستريت” الذين يناصرون السوق الحر لمجرد أن يقوموا بخدمة أسيادهم صرافي الرواتب الرأسماليين. وقد رأى ميزس بشكل واضح على أنه ما لم يقم علماء الاقتصاد بتطهير علومهم من أية وصمة من وصمات الانحياز الشخصي الملوثة (كالتعبير الصريح عن أحكام وآراء شخصية بتحديد القيمة)، فان تعاليمهم سوف تكون عرضة لمثل ذلك النبذ وصرف النظر. وبشكل دقيق، نظرا لأنه رأى في السوق الحر وكأنه مطلب مسبق رئيسي بالنسبة لأي مجتمع متحضر ومزدهر ونظرا لأنه كان يعتقد بان التحليل الاقتصادي غير المنحاز سيعمل حتما على دعم وجهة النظر هذه، فقد أصيب ميزس بالرعب من جراء إمكانية أن يتم نبذ علم الاقتصاد وكأنه لا شيء سوى كونه دعاية سياسية رأسمالية. وقد نظر فريتز ماكلوب إلى مناصرة ميزس لسياسة عدم التدخل (في كتاباته “ضد التدخلية”) باعتبارها مثال يحتذى على دقة التفاصيل للانطلاق من النزاهة والتجرد إلى مواصلة علوم الاقتصاد والتي قام ميردال باتهام الكثيرين جدا من علماء الاقتصاد بهما (إلا أنها كانت هي السياسة التي أقرت المدرسة النمساوية، بشكل عام، بأنها لم تكن قد ارتكبت أي ذنب). وسوف نعود في المقالة الثالثة من هذه السلسلة الصغيرة إلى فحص واختبار مشروعية تهمة ماكلوب.
وفي الفترة التي أعقبت الحرب، لم يقم معظم علماء الاقتصاد ببذل الكثير من الاهتمام إلى تلك الأمور المقلقة. والصحيح في هذا الجانب هو أن ميلتون فريدمان، وهو أحد العلماء الرواد في مدرسة شيكاغو المرموقة، قام (في مقالة مؤثرة في العام 1953) بمناصرة ما سماه بـ”علم الاقتصاد الإيجابي” (والذي يتم بموجبه تأسيس فرضيات اقتصادية قد تتحكم في الحصول على تصديق العلماء بغض النظر عن ميولهم الشخصية). ولكن ذلك الأمر تم النظر إليه باعتباره، من الناحية الأساسية، ممارسة منهجية متبعة تقوم بعرض حالة خاصة بمعالجة علم الاقتصاد على أساس كونه حقل معرفة تجريبي بشكل تام (كونه نقيضا للمعرفة المنطقية) (وليس كحالة خاصة بمبدأ حرية القيمة، فيرتفرايهايت).
ولقد جرى، من وقت لآخر، تكريس المزيد من العناية الجدية نحو مسألة حرية القيمة، فيرتفرايهايت. وهكذا، قام تيرينس دبليو. هاتشيسون وهو أحد مؤرخي الفكر الرواد (والذي كان، بمحض الصدفة، عالما في منهجية علم الاقتصاد الذي انتقد، بمرارة، مؤلفات ميزس المنهجية الخاصة)، بتأليف كتاب حول الموضوع. لكن هناك عدد قليل من علماء الاقتصاد الآخرين الذين قدموا الكثير من التفكير نحو المخاطر التي تحدق بنزاهتهم وتجردهم (أو إلى نزاهتهم التي يتم فهمها بالوعي) التي قد تكمن في الإفادات المعلنة عن سياستهم. وهناك بعض علماء الاقتصاد الذين كانوا، بطريقة أخرى، قد تأثروا بشكل عميق بالمدرسة النمساوية وبشكل خاص بميزس، قد عبروا بصراحة عن تحفظات قوية ضد مبدأ حرية القيمة، فيرتفرايهايت. وهكذا، قام موري روذبارد، وهو تلميذ رائد من تلاميذ ميزس، بالجدال وبالمناقشة بالنسبة لنطق المبادئ الأخلاقية المهنية بشكل صريح من جانب عالم الاقتصاد الذي يقدم مشورة حول سياسة ما.
ومنذ عهد قريب، قام دانييل بي. كلاين، والذي هو مدافع ونصير مشهور داعم لصناعة سياسة السوق الحر الاقتصادية بدعوة علماء الاقتصاد لنشر علومهم بهدف تعديل الخيارات السياسية-الاقتصادية المتاحة لجمهور عامة الناس. وجادل كلاين مؤكدا على أن علماء الاقتصاد الذين قاموا هم أنفسهم بتقييم المجتمع الحر كان لديهم التزام أخلاقي للمساعدة على قولبة الرأي العام ليتجه نحو إظهار الإدراك الكامل للحرية. وكان موقف علماء الاقتصاد موقفا فريدا من نوعه لقيامهم بإنجاز ذلك نظرا لأنهم كانوا يتمتعون بسمعة مهنية محترمة. وبدلا من أن يبذلوا وقتهم في التحدث إلى بعضهم البعض بلغة نماذج رياضيات مجردة، كان من الواجب على علماء الاقتصاد أن ينشغلوا في “خطاب عام” يتحدثون به إلى الرجل العادي حول مسائل سياسية عمومية تطبيقية. وقام كلاين بعمل استطلاع لعينة نموذجية من المؤلفات المنشورة التي أبدى تجاهها علماء الاقتصاد، كل من العلماء المتطورين والطلبة الخريجين المحبطين، تحسرا وتأسفا على عدم صلة المؤلفات الأكاديمية بالموضوع لكونها قد أنجزت بفعل مهنة خاصة بعلم اقتصاد. وقد وجد كلاين بأن تلك المهنة قد تم حبسها داخل توجه عقلي وفكري لتكمن ضمن اهتمامات عالم الاقتصاد المهنية العقلانية كي يتجنب مخاطبة الرجل العادي حول مسائل واقعية، مركزا بدلا من ذلك على النماذج التجريدية المثالية التي تعتمد عليها (بشكل عكسي) أية سمعة حسنة مهنية ومكافآت مهنية. وفي قيامه بدفع وحث عالم الاقتصاد على أن يقوم بإطلاع الرجل العادي على ما هو صالح وخير له، قام كلاين بشكل واضح بحض عالم الاقتصاد على أن ينظر إلى مسؤوليته المهنية وكأنها امتداد إلى ما أبعد من الإيجابية واليقينية الصارمة. ويجب على عالم الاقتصاد ليس فقط أن يقلق نفسه، أو حتى بشكل مبدأي، لينشغل في فهم وتوقع سلسلات السبب والمسبب الاقتصادية (أي وجود سبب لكل ما يتم تسببه في الحقل الاقتصادي)، بل عليه أيضا أن يروج وينشر ذلك الفهم الخاص بتقديم المشورة إلى أي فرد في الشارع (وحتى بتحذيره) بالنسبة لما هو الأفضل (ولما هو الأسوأ!) في مجالات عمل ذلك الفرد.
علماء الاقتصاد الذين تم انتقادهم بقسوة
وفي سبيل حث عالم الاقتصاد على إبلاغ جمهور العامة عما يكون في نظر علم الاقتصاد خيرا لهم، قام كلاين بالتمرد بشكل علني على الموقف الذي اتخذه جورج جيه. ستيجلر، وهو عالم اقتصاد من مدرسة شيكاغو الحائز على جائزة نوبل. وفي العام 1982، قام ستيجلر بنشر كتاب وجه به انتقادا شديدا لعلماء الاقتصاد (بدءا من آدم سميث ولغاية الزمن الذي عاش به ستيجلر) بشأن قيامهم بعمل ما كان يرغب منهم كلاين أن يقوموا بعمله بكل دقة (بمعنى أن يتم إبلاغ جمهور العامة عما هو خير لهم). وقام ستيجلر بالاحتجاج بشدة ضد علماء الاقتصاد لكونهم “وعاظا مبشرين” (يعاملون جمهور العامة على أساس انهم مخطئون، كالأطفال الذين قد يتم تحسين سلوكهم إذا ما تم تعليمهم بالشكل المناسب من خلال إقناع أخلاقي مناسب).
بالنسبة لستيجلر، يجب على عالم الاقتصاد أن يمتنع عن “التبشير والوعظ” ليس بسبب وجود أية أمور مقلقة فيما إذا كان مثل ذلك التبشير ينتهك موضوعيتهم العلمية وحياديتهم الأخلاقية، والأصح أن ستيجلر قام بشجب مثل ذلك الوعظ لان التبشير بسياسة اقتصادية هو بمثابة اعتقاد، وهو حسب رأي ستيجلر عمل خاطئ تماما: بان عالم الاقتصاد يعرف ما هو خير وصالح من الناحية الاقتصادية لجمهور العامة على نحو افضل مما يعرفه ذلك الجمهور أنفسهم. وقام ستيجلر بدعم فرضية المعرفة الكاملة (التي ميزت بشكل تشهيري الكثير من النماذج التي تم بناؤها من قبل واضعي نظريات اقتصادية لتعلل وتسهم في حقائق عالم حقيقي غير زائف) إلى درجة التناغم لكنها كانت متطرفة. وفي الواقع، قام ستيجلر بافتراض أن كل ما يقدر علماء الاقتصاد على تعليمه والتبشير به سوف يكون معروفا بشكل مسبق لدى جمهور الناس ولممثليهم السياسيين. وقد يعتقد عالم الاقتصاد بان النتيجة المتوقعة من سياسة معينة سوف تكون غير مرغوبة، لكنها في حال قيام جمهور العامة بتبني مثل تلك السياسة فان ذلك يثبت بان هؤلاء الجمهور هم في الواقع راغبون بتلك النتيجة ذاتها. وعالم الاقتصاد الذي يقوم بشجب مثل تلك السياسة على أساس أنها خطأ سوف يعمل ببساطة على الكشف عن أن لديه مجموعة من الأهداف التي تختلف عن تلك الأهداف التي يسعى نحوها جمهور الناس فعلا.
ومما لا شك فيه أن تاريخ الاقتصاد قد عمل على الكشف عن وجود إجماع ضئيل بين علماء الاقتصاد يتعلق بالإمكانية المتاحة وبالاستفادة من مبدأ حرية القيمة، فيرتفرايهايت، فالمهابة والاعتبار اللذان لازما تعاليم علم الاقتصاد والأهمية التي ألصقها الرأي العام المثقف بهذه التعاليم قد تراوحت بين القوة والوهن على مدى التاريخ، كما أن وجهات نظر علماء الاقتصاد أنفسهم فيما يخص وجود أو عدم وجود التزام لديهم لتنوير جمهور العامة حول السياسة الاقتصادية قد تغيرت وتعددت إلى درجة كبيرة. وسوف نحاول أن نوضح مشروعية المشورة (“العلمية”) التي يقدمها علماء الاقتصاد إلى جمهور الناس ونحن نقابل هذه الخلفية المربكة إلى حد ما.
من التعبير بـ”يكون” إلى التعبير بـ”يجب أن”
في الجزء الثاني من هذه السلسلة سنقوم بمراجعة قواعد الدروس الإيجابية واليقينية جدا التي يتم تدريسها من قبل علم الاقتصاد، أي أننا سوف نقدم، بشكل موجز، طبيعة التفكير الاقتصادي الذي يعمل على تأسيس وجود سلسلات السبب والمسبب في المجال الاقتصادي. وفي هذا الصدد، سنقوم باتباع التقليد النمساوي في مجال التفكير الاقتصادي، وعلى وجه الخصوص ما تم تطويره من المؤلفات ذات الصلة التي قام بها قطبا ذلك التقليد في القرن العشرين وهما ميزس وإف. أيه. هايك. والشيء الذي سوف ينبثق من هذا الإجراء والاختبار سوف يكون بمثابة تبصر ينفذ إلى نزعة السوق القوية لتقوم بترجمة تصنيفات احتياجات المستهلكين بطريقة منتظمة وكذلك التقييدات المفروضة على المصادر الطبيعية إلى أنماط من التخصيص والتوزيع للمصادر التي تتوافق معهما. وسوف نرى بان هذه الترجمة التصنيفية ستعمل على المتابعة بحيث تبدأ من غاية العمل الإنساني والنزوع المهني للكائنات البشرية بغرض اكتشاف ما هو في مصلحتهم ومن إمكانيات توصيل المعلومات عن نظام سعر السوق، وهو الأمر الذي سيقودنا مباشرة إلى الجزء الثالث والأخير من هذه السلسلة.
وفي تلك المقالة الثالثة، سنقوم بفحص واختبار المضامين التي تحملها وجهة النظر النمساوية هذه بالنسبة لإمكانية تقديم مشورة نزيهة حول مسائل سياسات عامة كتلك المشورة التي لا تعكس أية أفضليات شخصية أو آيديولوجيات فكرية لعالِم الاقتصاد الذي يقوم بعرضها. وبالإمكان أن يتم التمسك بمبدأ حرية القيمة من قبل مقدِّم السياسة العامة؛ وبالإمكان أن يتم المحافظة على موضوعية ونزاهة علماء الاقتصاد الذين يقدمون المشورة؛ وكذلك بالإمكان لنا أن نأمل في التمسك بالسمعة العلمية الحسنة لعلماء الاقتصاد، فقط إذا كانت تلك الإمكانية موجودة. إن استنتاجاتنا التي سنتوصل إليها فيما يتعلق بهذه الأسئلة سوف تمكّننا من توضيح بعض التناقضات الظاهرية التي واجهناها في المقالة الحالية، فهي التي ستزودنا، على وجه الخصوص، بفهم كيفية عدم حاجة تعاليم علماء اقتصاد السوق الحر إلى التساهل مع أغراضها وأهدافها ونزاهتها، والتي قد يتم، بالرغم من ذلك، عرضها مع وجود قناعة عاطفية ومناصرة دعم مكرسة لها.
مجلة فريمان، تموز-آب 2006.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 16 كانون الثاني 2007.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

ربما أهداك أحدهم عدداً من مجلة فريمان. هل هذا يعني أن قراءة هذا المقال هو بلا كلفة؟ الجواب هو كلا ثم كلا. فلو لم تكن تقرأ ذلك المقال فلربما كنت تشاهد التلفاز أو تتحدث إلى زوجتك أو تعد واجباتك البيتية. إن ثمن ما تفعل مهما كان، يقاس بما سوف تضحي بعدم عمله. فبينما أنت تقرأ هذا المقال الذي قد يكون ثمنه صفراً، فإنه بكل تأكيد ليس صفراً من حيث الكلفة.
ومن أجل دعم فكرة أن الثمن هو ليس القياس الكامل للكلفة، تصور أنك تعيش في سانت لويس. الحلاق الذي يقص شعرك يحاسبك بـ20 دولاراً ثمناً للحلاقة. ولنفترض أنني أبلغتك بأن هنالك حلاقاً في مدينة شارلستون في جنوب كارولاينا وأنه يحاسبك بخمس دولارات لقصة مماثلة، فهل تعتبر بأن الحلقة في شارلستون أرخص؟ فبينما كلفة الحلقة أقل فإن الكلفة العامة سوف تكون أكثر كثيراً من ذلك من حيث الوقت والسفر وغير ذلك من النفقات التي سوف تتكبدها إذا قررت الحلاقة في مدينة شارلستون.
الناس يفكرون وهم على خطأ من أمرهم بأن الكلفة هي الكلفة المادية فقط، بيد أن ما يتم التضحية به عندما يتم عمل اختيار معين يمكن أن يشمل الهواء النظيف، أو الراحة، أو الأخلاق، أو السكينة، أو الراحة البيتية، أو الأمن، أو أي قيمة أخرى. وعلى سبيل المثال، فإن الكلفة المتوقعة للسهر في الخارج مع الأولاد قد يعني التضحية براحة منزلية.
الكلفة تؤثر على خياراتنا في العديد من الطرق، ومن أجل المضي في هذا البحث فإننا سوف نفترض بأن جميع الكلف المتعلقة بأي خيار معين سوف يتحملها صاحب الاختيار.
إن أحد أهم الاستخلاصات العامة التي يمكننا التوصل إليها فيما يتعلق بالسلوك البشري هي أنه كلما ارتفعت كلفة أي اختيار معين كلما قل احتمال اختياره، وأنه كلما قلت كلفته كلما زادت الرغبة في اختياره. هذا التعميم هو جوهر قانون الطلب. ومن أجل التبسيط دعونا نفترض أسعار نفقات الخطوة بينما نحتفظ بكل شيء آخر قد يؤثر على الاختيار ثابتاً. ويمكن التعبير عن قانون الطلب بوسائل عدة… فكلما قل سعر الشيء كلما زاد الطلب عليه؛ والعكس هو الصحيح بالنسبة للسعر الأعلى، ونستطيع أن نقول أيضاً بأنه يوجد سعر من شأنه أن يحفز على الشراء من منتج ما. وأخيراً هنالك علاقة عكسية بين سعر بضاعة والكمية التي يطلب منها.لماذا يسلك الناس مثل هذا السلوك؟ الجواب هو بكلمة أو اثنتين أن الناس يحاولون أن يكونوا بأكبر قدر ممكن من السعادة. وعلى سبيل المثال إذا ما وعندما يرتفع سعر البترول فإن الناس بكل بساطة يتجاهلون الارتفاع بالسعر وسوف يتوفر لديهم مال أقل للصرف على أغراض أخرى وأن يكونوا أقل سعادة. فإذا ما اختاروا بدائل لسعر البترول الأعلى فسوف يتوفر لديهم مال أكثر مما يجعلهم أكثر سعادة. ولهذا السبب فإن ارتفاع أسعار البترول تعطي الناس الدافع لشراء أدوات عزل أكثر، وشراء نوافذ أفضل، وارتداء ملابس أكثر دفءً، وربما حتى الانتقال إلى بلد طقسه أكثر دفءً. هذه الخيارات وكثير غيرها هي بدائل تتيح لك استهلاك كمية بترول أقل.
وعندما يقول أناسٌ بأن كمية معينة من شيء ما هي ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها، فإن مثل هذا القول قد يعني أن قانون الطلب غير موجود وانه لا توجد هنالك بدائل. إن هذا القول غير صحيح—ولننظر إلى حالة شخص يعاني من مرض السكري. هل يستطيع الاستمرار في العيش دون أخذ 50 وحدة من الإنسولين يومياً؟ قانون الطلب يقول أنه عندما يكون السعر في حد معين ولنقل 1000 دولاراً للوحدة فإنه يستطيع الاستغناء عنه. فهنالك دائماً بديل واحد على الأقل لأي منتج: أن يستغني المرء عن ذلك الشيء كلياً. وفي حالة مريض السكري فإن هذا يعني الاستغناء عن الإنسولين. ومع أن الاستغناء عن الإنسولين له نتائج غير محمودة فإنه بديل ممكن عندما تصل وحدة الإنسولين إلى 1000 دولاراً. ربما تقول: “وليامز، هذا النوع من التحليل الاقتصادي ينطوي على القساوة!” ولكنه ليس أكثر قساوة من قانون الجاذبية الذي يتنبأ بأنه إذا قفزت من ناطحة سحاب فإنك سوف تموت. النتيجتان كلاهما غير مشوقتين، ولكن هذه هي الحقيقة. وفي الحقيقة، فإن ملايين من البشر على امتداد العالم مضطرون إلى تحمل النتيجة المأساوية الناتجة عن عدم أخذ الإنسولين.
هنالك تعقيد فيما يتعلق بقانون الطلب إذ يقول: كلما انخفض السعر كلما ابتاع الناس أكثر من ذلك المنتج، وكلما ارتفع السعر كلما قل الطلب. إن من الأهمية بمكان إدراك أن الأسعار النسبية هي التي تقرر الخيارات وليس الأسعار الكلية. فالسعر النسبي هو سعر يقيَّم من حيث قياسه بسعر آخر. وإليكم هذا المثل على ذلك؛ الحقيقة أن ما سأقوله هي حيلة أداعب بها تلاميذ السنة الجامعية الأولى. لنفترض بأن شركتك قد عرضت عليك مضاعفة راتبك إذا قبلت بنقلك إلى فيربانكس في ولاية آلاسكا. هل ستعتبر مثل هذا العرض صفقة جيدة وتقبل بالعرض؟ بعض الطلبة بدون تفكير أجابوا بنعم. ثم أسأل ماذا إذا وجدت عند وصولك أن الإيجارات هي ضعف ما تدفع حالياً من إيجارات، وأن أسعار الأكل والملبس والبترول وغير ذلك من الحاجيات هي ثلاثة إلى أربعة أضعاف الكلفة التي تدفعها حالياً. النتيجة هي أنه في الوقت الذي قد تضاعف فيه راتبك بشكل كلي، فإن راتبك إذا ما قيس بالأسعار الأخرى قد هبط.
ومثال آخر محيرٌ بشكل أكبر، هو أن الأسعار النسبية وليس الأسعار الكلية التي تؤثر على السلوك هي ناتجة عن ملاحظة أن الأزواج الذين لديهم أطفال، والذين لا يمكن أن يتركوا وحدهم، يتجهون إلى اختيار سهرات أكثر كلفة من الزوجين الذين ليس لديهما أطفال. إن دخل الزوجين وأذواقهما ليس لهما سوى تأثير قليل على قرارهما؛ إن ما يقرر اختيارهما هو الأسعار النسبية. فبالاحتفاظ بالأعداد الصغيرة، ولنقل سهرة عالية الكلفة، العشاء مع حضور حفل موسيقي، فإن السعر هو 50 دولاراً والسعر الأقل، أي الذهاب إلى السينما هو 20 دولاراً. إن اختيار العشاء والحفل الموسيقي بكلفة 50 دولاراً يتطلب من الزوجين بدون أطفال التضحية بفيلمين ونصف الفيلم بنفس الكلفة.
الزوجان اللذان لديهما أطفال يدفعون 10 دولارات لجليسة الأطفال، سواء ذهبوا إلى سهرتهم الغالية أو السهر الأقل كلفة. فإذا ما أخذنا في الحسبان كلفة جليسة الأطفال فإن كلفة العشاء والحفل الموسيقي سوف تكلفهما 60 دولاراً وحضور السينما 30 دولاراً. وفي اختيارهما للعشاء مع الحفل الموسيقي فإنهما ضحيا بفيلمين فقط. لذا فإن هذه السهرة هي نسبياً أرخص للزوجين مع الأطفال. وما دام أنها أرخص، فإننا نتوقع من الزوجين الذين لديهما أطفال اختيار السهرة الأكثر كلفة. لا يحتاج الأمر إلى تحليل اقتصادي للوصول إلى هذه النتيجة.
قد يقترح الزوج “عزيزتي، دعينا نستأجر جليسة أطفال ونذهب إلى السينما”، وتجيب الزوجة قائلة “هذا ليس اختياراً جيداً. ذلك أن علينا أن ندفع 10 دولارات لجليسة الأطفال سواء ذهبنا إلى السهرة الرخيصة أو إلى السهرة الغالية، لذا فلماذا لا نأخذ أقسى ما يقابل المال الذي سننفقه فنذهب إلى العشاء ونحضر الحفل الموسيقي؟”
إرتفاع أسعار القهوة
وإليكم مثلاً آخر عن الارتفاع النسبي للأسعار؟ لنفترض أن سعر رطل من القهوة اليوم هو دولار واحد، وأنك بالمعتاد تشتري رطلين كل أسبوع. ثم تسمع أنباءً بأن الصقيع في البرازيل قد دمر معظم محصول القهوة وأنه يُتوقع أن ترتفع أسعار القهوة قريباً. ماذا سوف تفعل في هذه الحالة ولماذا؟ إنني أخمن بأنك ربما تشتري الآن كميات أكبر، ولكن لماذا؟ الشخص العادي سوف يجيب بأنه يفعل ذلك من أجل توفير المال. هذه إجابة مقبولة، بيد أنها لا تغطي الحقيقة كلها. مرة أخرى فإن قانون الطلب هو الذي يفعل فعله. فإذا كان من المتوقع أن ترتفع أسعار القهوة في الأسبوع القادم فإن هذا يعني بأن أسعار القهوة لهذا الأسبوع قد هبطت نسبة إلى ما ستكون عليه في الأسبوع القادم، وقانون الطلب يقول بأنه عندما ينخفض سعر سلعة ما فلسوف يشتري الناس كميات أكبر. إن هذا القانون يعمل بشكل عكسي أيضاً. فإذا كان من المتوقع أن تنخفض الأسعار في الأسبوع القادم، فإنك سوف تشتري كمية أقل من القهوة هذا الأسبوع. لماذا؟ لأن أسعار القهوة تكون قد ارتفعت هذا الأسبوع بالنسبة لما سوف تكون عليه في الأسبوع القادم.
قد يخطر ببالك أن تعتبر هذا التحليل للقهوة بأنه تبسيط للأمور، بيد أن هذا المثل هو خلف المبدأ الأساسي الذي يكوّن تعقيدات الأسواق المستقبلية مثل سوق تبادل السلع في شيكاغو حيث يصبح الناس كمضاربين أغنياء حيناً وفقراء حيناً آخر وهم يتنبئون بأسعار السلع في المستقبل.
محاضرتنا التالية سوف تبحث عما يقوله قانون الطلب فيما يتعلق بالتمييز السعري وغير ذلك من الخيارات التي نتخذها.
هذا المقال بالتنسيق مع مجلة فريمان (كانون الأول 2005).
© معهد كيتو، منبر الحرية، 15 كانون الثاني 2007.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20100

هنالك أربعة أطياف من السلوك التي تقع تحت اسم السلوك الاقتصادي: الإنتاج، الاستهلاك، التبادل، والتخصص.
الإنتاج هو أي سلوك من شأنه خلق منفعة، أي أنه يرفع من القدرة على تلبية الرغبات، لشيء من الأشياء. عندما يقوم مصنع حديد بصهره، فإنه يرفع قدرته على تلبية الطلب له، عن طريق تغيير شكله. إن قدرته على تلبية مطلب تزداد ارتفاعاً عندما تتحول إلى فولاذ، والفولاذ إلى قضبان وزوايا ربط وغيرها. الإنتاج يشمل أيضاً تغيير المعالم المساحية للبضاعة. إن برتقالاً نافلاً ليس له خصائص جذب لسكان فيلادلفيا إذا كان البرتقال في كاليفورنيا. الشخص الذي يُسمى في بعض الأوقات “الوسيط،” أو “بائع الجملة،” يغير المعالم المساحية للبرتقال عن طريق نقله من كاليفورنيا إلى فيلادلفيا، وبالتالي رفع قدرته على تلبية الرغبات إلى سكان فيلادلفيا.
الاستهلاك سهل. إنه ببساطة تخفيض النفع، قدرة تلبية الرغبة لشيء ما. عندما آكل همبرغر، فإنني أنقص قدرته على تلبية الرغبة. وعندما أسوق سيارتي، فإنني أقلل قدرتها على تلبية المطلب. وبالمناسبة، إذا كان الإنتاج أكبر من الاستهلاك، فإن النتيجة تسمى الادخار، وإذا كان الأمر عكس ذلك، فإننا نسميه عدم الادخار.
التبادل هو أكثر تعقيداً بقليل؛ وإذا أسيء فهمه، فقد يؤدي إلى كثير من الفوضى وسوء التصرف. جوهر التبادل هو نقل حقوق الملكية. هذا ما يحدث عندما أشتري جالوناً من الحليب من البقّال. أقول له إنني أملك حقوق ملكية على الدولارات الثلاث التي بحوزتي، وهو يملك حقوق التملك لجالون الحليب. ومن ثم أقول له “إذا نقلت حقك في ملكية هذا الجالون من الحليب، فإنني سوف أنقل حقوق ملكيتي في تلك الدولارات الثلاث.”
كلما وقع تبادل طوعي، فإن الإستنتاج الواضح الوحيد الذي يمكن أن يتوصل إليه المراقب هو أن الفريقين في رأيهما—وليس في رأيك أو رأي أي إنسان آخر—هو أنهما كانا على قناعة بأن وضع كل منهما قد أصبح أفضل نتيجة التبادل، وإلا لما أقدما على التبادل. كنت حراً في الاحتفاظ بدولاراتي الثلاث، وكان البقّال حراً في الاحتفاظ بحليبه.
إذا كنت تفكر بأن من الواضح بأن الفريقين قد استفادا من التبادل الطوعي، فلماذا إذاً نسمع كلاماً عن استغلال العمال؟ لنقل بأنك تعرض عليَّ أجراً مقداره دولارين في الساعة. أنا حر بأن أقبل أو أرفض عرضك. لذا فماذا يمكن أن نستخلص إذا ما شاهدتني أعمل لك مقابل أجر الدولارين في الساعة؟
إحدى الاستخلاصات الواضحة هي أنني لا بد وأن أكون قد توقعت الاستفادة من عرضك بدلاً من قبول أي عرض يليه. لا بد أن أكون قد اقتنعت بأن جميع البدائل الأخرى كانت أقل فائدة لي، وإلا لما قبلت بعرض الدولارين في الساعة. هل هو مناسب القول بأنك قد استغلّيتني عندما قدّمتَ لي أحسن العروض؟ وبدلاً من استخدام كلمة استغلال، كان أنسب لو قلت بأنك تتمنى لو كان هنالك بدائل أفضل.
وبينما قد يصف الناس عرض دولارين في الساعة كاستغلال، فإنهم لن يقولوا الشيء ذاته إذا كان العرض 50 دولاراً في الساعة. لذا، وفي معظم الأحوال، عندما يستخدم الناس عبارة استغلال، بالإشارة إلى التبادل الطوعي، فإنهم في الحقيقة يعربون عن عدم رضاهم عن السعر. إذا ساوينا بين عدم الرضا عن السعر وبين الاستغلال، فإن الاستغلال في هذه الحالة منتشر. على سبيل المثال، فإنني لست غير راضٍ فقط عن راتبي، بل إنني، كذلك، غير راضٍ عن سعر طائرة الجلف ستريم النفاثة الخاصة.
إنني لا أدعو بأي حال من الأحوال بأن يفرغ المرء مفرداته اللغوية عن تعبير “استغلال.” إنه لفظ قيّمٌ لخداع الآخرين، ولكن وفي غضون ذلك، يجب أن لا يستخدم لخداع النفس. إنني أُذكّرُ نفسي باتهامات الاستغلال التي كانت توجهها لي زوجتي في مطلع زواجنا منذ 45 عاماً. كانت تقول: “وولتر، إنك تستغلني!”. وكنت أجيبها قائلاً: “عزيزتي، إنني أستغلك بكل تأكيد. ولو لم يكن لي استفادة منك لما تزوجتك في المقام الأول.” كم هم الناس الذين يتزوجون من شخص لا يجدون فيه أي نفع؟ وفي الحقيقة، فإن مشكلة القلوب المنعزلة بيننا هي أنها لا تجد أناساً تستخدمهم.
التخصص يحدث عندما ينتج الناس من بضاعة أكثر مما يستطيعون استهلاكها، أو يفكرون في استهلاكها. والتخصص يمكن أن يتم على أسس الفرد أو الإقليم أو الوطن. هاكم أمثلة على كل منها: عمال صناعة السيارات في ديترويت ينتجون من أجهزة الكرانك شافت (العامود المرفقي) أكثر مما يستهلكون أو يعتزموا الاستهلاك منها؛ مزارعو حمضيات كاليفورنيا ينتجون من برتقال نافل أكثر مما يستهلكون أو يعتزمون الاستهلاك منه؛ ومزارعو القهوة في البرازيل ينتجون من القهوة أكثر مما يستهلكون أو يعتزمون الاستهلاك منها.
وهنالك شرطان للتخصص: يجب أن تتوفر معطيات موارد غير متكافئة، وفرص التجارة. معطيات الموارد غير المتكافئة تعني أن الفرد يملك المهارة، أو أن الإقليم، أو الأمة، يملك الأرض والعمالة ورأس المال وقوة المبادرة، بحيث أنه يستطيع هو، أو هي، إنتاج أشياء معينة برخص أكثر من كلفة شخص آخر، أو منطقة أو أمة.
على سبيل المثال، ومع أنه بالإمكان زراعة الحنطة والقمح في اليابان، فإن ذلك سوف يكون غالي الثمن. لماذا؟ ذلك لأن زراعات مثل الحنطة والقمح تستخدم أراضٍ واسعة. واليابان بلد فقير نسبياً بالأراضي. هذا يعني أن الأراضي اليابانية غالية نسبياً. وعلى النقيض من ذلك فإن الولايات المتحدة غنية بالأراضي، لذا فإنها تستطيع إنتاج القمح بكلفة أقل نسبياً. ومن هنا يتبين أن من الفطنة وحسن الاختيار أن تعمد الولايات المتحدة إلى استغلال ما تستطيع أن تفعله بكلفة أقل—أي التخصص في إنتاج الحبوب—بينما يتعين على اليابان أن تتخصص فيما يمكن أن تنتجه بكلفة أقل—ولنقل، عدسات الكاميرا.
وحتى يمكن للتخصص أن يتم، يجب توفر فرص التجارة. فليس من الممكن أو المفيد للمزارعين الأمريكيين إنتاج حبوب أكثر مما يستطيعون استهلاكها أو يخططون لاستهلاكها إذا لم يكن باستطاعتهم الاتجار بذلك الفائض. كما أنه ليس من حسن الاختيار في شيء للمنتجين اليابانيين إنتاج عدسات كاميرات بكميات أكبر مما يستطيعون استهلاكها أو يخططون لاستهلاكها إذا لم يستطيعوا الاتجار بذلك الفائض.
ولننظر ماذا يحدث إذا ما فرضت الحكومة اليابانية قيوداً على استيراد القمح الأمريكي. المزارعون اليابانيون يستطيعون عندها فرض أسعار احتكارية واستيفاء مداخيل أعلى، بينما يدفع المستهلكون اليابانيون أسعاراً أعلى. فهل تعتبره استجابة ذكية أن تقدم حكومة الولايات المتحدة على اتخاذ إجراءات مضادة ضد اليابان عن طريق فرض قيود على استيراد عدسات الكاميرات اليابانية، بحيث تسمح لمنتجي تلك العدسات الأمريكيين بفرض أسعار احتكارية أعلى وفي الوقت ذاته أن يدفع المستهلكون الأمريكيون أسعاراً أعلى؟ أو لنضع الأمر بشكل آخر، هل من الحكمة أو الفطنة لحكومة الولايات المتحدة أن تلحق الضرر بالمستهلكين الأمريكيين بسبب أن اليابان قد ألحقت الضرر بمستهلكيها؟
جعل الناس معتمدين على بعضهم بعضاً
إن التخصص والتجارة يجعلان الناس معتمدين على بعضهم بعضاً لتلبية حاجاتهم ورغباتهم اليومية. كم هو عدد من ينتجون نظارات عيونهم أو ينتجون سياراتهم أو يبنون منازلهم أو يخيطون ملابسهم أو ينتجون أكلهم؟ إننا نستطيع الحصول على كل هذه البضائع والرغبات عن طريق التخصص فيما نستطيع التميز به والاتجار مع الآخرين فيما يتميز بإنتاجه وصنعه الآخرون. فمن خلال التخصص والتجارة يمكن أن نسمي ما يجري “الاستعانة بمصادر خارجية،” ذلك أننا سوف نتمتع بتلك المنتجات كما لو أننا قد أنتجناها بأنفسنا. وفي الحقيقة فإن التخصص هو الوسيلة البديلة للإنتاج. وبهذه المناسبة أود أن أذكر بأن كل من يطالب بالاستقلالية، سواء كان فرداً أو إقليماً أو وطناً، من شأنه أن يجعلنا أكثر فقراً. ولا يهم ماذا كان يطلبونه تحت شعار الاستقلالية: الاستقلالية في الطاقة، أو الاستقلالية في صنع الملابس، أو الاستقلالية في إنتاج القهوة.
ودعونا الآن ننظر إلى عدد قليل من البيانات المضللة فيما يتعلق بالتجارة الدولية. الولايات المتحدة تتاجر مع اليابان. هل يعتقد أي إنسان بأن الذي يتاجر هو الكونغرس الأمريكي مع أقرانه في البرلمان الياباني؟ إن من يتاجر هم الأفراد الأمريكيون مع الأفراد اليابانيين من خلال الوسطاء. وماذا عن “التجارة العادلة”؟ إذا اشتريت عدسات كاميرا من صناعة اليابان طوعاً ووفق شروط متفق عليها من الجانبين فإنك على الأغلب سوف تكون مقتنعاً بأنها كانت صفقة عادلة، وإلا لاحتفظت بمالك في جيبك. ربما يصف منتج عدسات كاميرا أمريكي تلك الصفقة بأنها “غير عادلة” لأنه لم يستطع أن يبيعك عدساته بسعر أعلى. النظرية الاقتصادية لا تستطيع الإجابة على أسئلة تقييمية مثل ما إذا كان من الأعدل لو دفعت ثمناً أعلى؛ إنها تستطيع أن تقول فقط بأن السعر الأعلى سوف يؤدي إلى إنقاص ما تملك من دولارات يمكن صرفها على أغراض أخرى.
البحث القادم في هذه السلسلة سوف يركز على أحد أهم النظريات الاقتصادية: الكلفة.
هذا المقال بالتنسيق مع مجلة فريمان (أيلول 2005).
© معهد كيتو، منبر الحرية، 2 كانون الثاني 2007.

peshwazarabic5 نوفمبر، 20101

ربما كان الإيمان بالمستقبل أكثر القيم أهمية بالنسبة لمجتمع حر. وهذا ما يجعل الكثيرين يرغبون في الحصول على التعليم، أو الاستثمار في مشروع ما، أو حتى أن يكونوا لطفاء مع جيرانهم. وإذا كنا نعتقد أنه ليس هنالك ما يمكن تحسينه أو إذا كنا نعتقد أن العالم قد شارف على نهايته، فإننا والحال كذلك لا نعمل بجد من أجل مستقبل أفضل وأكثر تحضراً. وسنكون كلنا تعساء.
لقد قام فلاسفة حركة التنوير بخلق الإيمان في المستقبل في القرنين السابع عشر والثامن عشر عن طريق جعلنا نعرف أن بإمكان قوانا العقلانية فهم العالم، وأنه يمكن لنا أن نعمل على تحسينه مع الحرية، وقد أثبتت الليبرالية الاقتصادية صحة ذلك. فعندما وضح آدم سميث أننا لا نحصل على اللحم من العمل الخيري للجزار، ولكن من مصلحته الذاتية، فقد كان ذلك أكثر من مجرد عبارة، بل كان نظرة عالمية. لقد شكل ذلك طريقة للقول بأن الجزار ليس عدواً لي. فكلانا يستفيد عن طريق التعاون والتبادل الطوعي ونجعل من العالم مكاناً أفضل خطوةًَ فخطوة.
ومنذ تلك الأيام، فقد حقق الجنس البشري تقدماً غير مسبوق، ولكن ما يبعث على الدهشة أن معظمنا لا يرى ذلك، وذلك بسبب الآليات الفكرية القديمة التي تم وضعها في أشد الأوقات خطورةً، عندما غالباً ما عنى انتصار شخص خسارة للآخر. والليلة سأناقش ماهيتها وكيفية التعامل معها، وأعتقد أنه من الجيد أن نبدأ بالايديولوجية التي أوجدت معظم هذه الآليات الفكرية: الاشتراكية.
لقد أوضح كارل ماركس أن الرأسمالية تجعل من الغني أكثر غنى وتزيد الفقير فقراً. فإذا كان لشخص أن يحصل على ربح، كان لا بد لشخص آخر أن يخسر في السوق الحرة. وستتحول الطبقة الوسطى إلى طبقة العمال) البروليتاريا)، وستعاني البروليتاريا من الجوع. يا له من زمن مشؤوم للخروج بهذه النبوءة! لقد منحت الثورة الصناعية الحرية للابتكار والإنتاج والتجارة، وخلقت ثروة هائلة الكم، وقد وصلت إلى الطبقة العاملة حيث جعلتهم التكنولوجيا أكثر إنتاجيةً وأكثر أهمية لدى أرباب العمل، وبلغت دخولهم مقداراً ضخماً.
الذي حدث أن العمال قد تحولوا إلى طبقة وسطى، وبدأت الطبقة الوسطى العيش مثل الطبقة الأعلى منها. وقد قادت هذا الطريق أكثرُ البلدان ليبراليةً: إنجلترا. ووفقاً لتوجهات الجنس البشري حتى ذلك الحين، فسيستغرق الأمر 2000 سنة لمضاعفة متوسط الدخل. وفي منتصف القرن التاسع عشر، حقق البريطانيون ذلك في 30 عاماً. وعندما مات ماركس في 1883، كان الرجل الإنجليزي العادي أغنى بثلاث مرات عما كان عليه لدى ولادة ماركس في 1818.
يعيش الفقراء في المجتمعات الغربية اليوم حياة أطول، ويتمتعون بإمكانية أفضل للوصول إلى التكنولوجيا والسلع، ويحظون بفرص أكبر من فرص الملوك في زمن ماركس.
حسناً، قال لينين، الغلام الشرير لماركس. ربما نكون مخطئين في ذلك. لكن الطبقة العاملة في الغرب استطاعت أن تصبح أكثر غنى لأنها مرتشية من قبل الرأسماليين. ويجب أن يدفع شخص آخر ثمن تلك الرشوة—البلدان الفقيرة. لقد عنى لينين أن الإمبريالية هي الخطوة الطبيعية التالية للرأسمالية، حيث كان على البلدان الفقيرة أن تتخلى عن عملها ومواردها من أجل إطعام الغرب.
تكمن مشكلة هذه الحجة في أن كافة القارات أصبحت أكثر ثروة، بالرغم من تفاوت سرعة ذلك. بالطبع، فإن الشخص الأوروبي الغربي أو الأمريكي العادي أغنى بتسعة عشر مرة مما كان عليه في 1820، ولكن الأمريكي اللاتيني أغنى بتسع مرات والآسيوي بست مرات والأفريقي بثلاث مرات. إذاً، ممن سرقت الثروة؟ إن الوسيلة الوحيدة للإبقاء على هذه النظرية الجوفاء هي العثور على حطام مركبة فضائية متقدمة بشكل مذهل قمنا بإفراغها قبل 200 عاماً. ولكن حتى هذا لا يمكن أن يبقي على النظرية لأنه ما زال علينا أن نبين الجهة التي قامت المخلوقات الفضائية بسرقة مواردها.
من الصحيح أن الاستعمار غالباً ما كان جريمة، وفي بعض الحالات أدى إلى أفعال شنيعة، ولكن العولمة في العقود الماضية تبين أن وجود بلدان رأسمالية غنية يسهل من تطور البلدان الفقيرة إذا ما شاركت في تبادل حر وطوعي للأفكار والبضائع. تعني العولمة أن التقنيات التي كلفت الدول الغنية مليارات الدولارات وانهمكت الأجيال في تطويرها يمكن استخدامها بشكل مباشر في البلدان الأفقر، حيث بإمكانها أن تبيع للأسواق الأغنى وأن تقترض رأس المال من أجل الاستثمار. فإذا كنت تعمل لدى شركة أمريكية في بلد منخفض الدخل، فإنك ستحصل على دخل أكثر بثمان أضعاف من متوسط الدخل في ذلك البلد. ليس لأن الشركات متعددة الجنسيات أكثر كرماً، ولكن لأنها معولمة، وتقوم بجلب آلات وإدارة ترفع من إنتاجية العمال وبالتالي من أجورهم.
لذلك فإن فرص بلد فقير يمتلك مؤسسات ترحب بالسوق الحر تتزايد كلما أصبح العالم أكثر تطوراً. لقد استغرق الأمر من إنجلترا 60 عاماً لمضاعفة دخلها عما كان في 1780، وبعد 100 عاماً، تمكنت السويد من القيام بذلك خلال 40 سنة فقط. وبعد 100 عاماً آخر، تمكنت بلدان مثل تايوان وكوريا الجنوبية والصين وفييتنام من ذلك في ما لا يزيد عن 10 سنوات.
خلال التسعينيات، تمكنت البلدان الفقيرة التي يبلغ عدد سكانها 3 مليارات نسمة من الإندماج في الاقتصاد العالمي، وقد شهدت زيادة في معدلات نموها السنوي بمقدار 5% لكل نسمة. وهذا يعني أن متوسط الدخل سيتضاعف في أقل من 15 سنة. فلنقارن ذلك مع النمو الأبطأ في البلدان الغنية، والنمو السلبي في البلدان النامية حيث يعيش مليار شخص. إن هذه البلدان، وتحديداً في شبه الصحراء الأفريقية، هي الأقل ليبرالية والأقل رأسمالية والأقل اتباعاً للعولمة. يبدو أن لينين قد قلب الأمور رأساً على عقب؛ فالبلدان الفقيرة المرتبطة في التجارة والاستثمار مع البلدان الرأسمالية تنمو بشكل أسرع من تلك البلدان التي لا تزداد فقراً.
دعونا نلقي نظرة سريعة على الإحصائيات لنطلع على أعظم القصص التي لم تروى أبداً. لقد انخفضت نسبة الفقر في الدول النامية من 40% إلى 21% منذ عام 1981. فقد ابتعد ما يقارب من 400 مليون نسمة عن الفقر، وهذه أكبر نسبة لانخفاض الفقر في تاريخ البشرية. وفي السنوات الثلاثين الأخيرة، انخفضت نسبة الجوع المزمن إلى النصف، وكذلك حجم عمالة الأطفال. ومنذ عام 1950، انخفضت نسبة الأمية من 70% إلى 23% مع انخفاض معدل وفيات الأطفال بنسبة الثلثين.
وهكذا يصبح الثري أكثر ثراءً والفقير أغنى بشكل أسرع من الثري. لقد كان كل من ماركس ولينين مخطئين. لنرى ما يقوله اشتراكي معاصر مثل الاقتصادي روبرت هيلبرونر، الذي أقر عام 1989 على الملئ بأن:
“بعد أقل من 75 عاماً على بدء المنافسة رسمياً بين الرأسمالية والاشتراكية، انتهت هذه المنافسة: فقد انتصرت الرأسمالية. فالتغييرات الصاخبة التي تجري في الاتحاد السوفييتي والصين وأوروبا الشرقية قدمت أوضح الأدلة الممكنة على أن الرأسمالية تنظم الشؤون المادية للبشرية بشكل أكثر قبولاً من الاشتراكية.” (دورية المفاهيم الجديدة، شتاء 1989).
لكن هيلبرونر لم يتصالح مع الرأسمالية. فالعقول الجوفاء—التي تتمسك بمقولة أن ربح شخصٍ ما يعني خسارةً للآخر—لا تموت بسهولة. فلا بد لأحدهم أن يدفع ثمن هذا النجاح، أليس كذلك؟ حسناً، لقد قال هيلبرونر أنه ما زال معارضاً للرأسمالية، ولكن هذه المرة لأنها ستؤدي إلى كلفة باهظة على البيئة. فبعد أن كان معارضاً للرأسمالية لأنها “تخلق الضياع والعجز والفقر،” يمكن للاشتراكي الآن أن يعارض الرأسمالية لأنها عالية الكفاءة وتولد الكثير من الثروة، ولذلك فإنها تدمر الطبيعة!
إن هذا الجدل شائع جداً كما أنه مضلل. بدايةً، فإن المداخن العالية لا تمثل أسوأ المشاكل البيئية في العالم. فالأسوأ من ذلك أن الكثير من الأشخاص يقومون بحرق الخشب والفحم وبقايا المحاصيل والروث داخل المنازل للحصول على الدفء ومن أجل الطبخ. وتقتل الأمراض التنفسية حوالي 1.6 شخصاً سنوياً. بالطبع، إن الإنتاج الحديث للطاقة يخلف مشاكل بيئية، ولكنه لا يقتل شخصاً كل عشرين ثانية كما يفعل ذلك القاتل في المطبخ. وتقتل الأمراض المنتقلة من خلال الماء 5 ملايين شخص كل عام. إن عدد الأشخاص الذين يموتون من هاتين المشكلتين البيئيتين يصل إلى ثلاثمائة ضعف عدد القتلى في الحروب سنوياً. ويصدف أنه قد تم القضاء على هذه الأمراض في كل الدول الصناعية على وجه الأرض.
ولكن علاوةً على ذلك، عندما نزداد ثراءً يكون بمقدورنا أيضاً التعامل مع المشاكل البيئية الجديدة التي تخلقها الصناعات الجديدة. عندما تتوفر لدينا الموارد لإنقاذ أطفالنا وغاباتنا فإننا سنبدأ بالاهتمام بشأن إنقاذ الطبيعة، فالتقدم الاقتصادي والتكنولوجي يوفر لنا الوسائل لفعل ذلك. والحركة البيئية هي نتاج لهذا التغير في الاهتمامات.
لقد انخفض التلوث الجوي في أوروبا في السنوات الـ25 الأخيرة بنسبة 40% وبنسبة 30% في الولايات المتحدة. وتتوفر لدينا دراسات مفصلة حول نوعية الهواء في لندن منذ القرن السادس عشر، الذي فسد حتى عام 1890، ولكن منذ ذلك الحين وهو في تحسن مستمر، واليوم فإنه أنظف مما كان عليه الحال في العصور الوسطى. ونجد أن الغابات في نمو كل عقد في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي منذ السبعينيات. فالأنهار والبحيرات أصبحت أقل تلوثاً. ولقد انخفض معدل النفط المسكوب في محيطات العالم بنسبة تتجاوز 90% منذ عام 1980.
بالطبع فإننا نواجه مشاكل بيئية كبيرة. ولكن المشاكل الأكبر أصبحت جزءاً من الماضي، واستطعنا أن نتعامل معها بفضل المزيد من الثروة والمعرفة والتكنولوجيا، ولا أرى سبباً يمنعنا من أن نكون قادرين على الاستمرار في ذلك. وعليه، فهل رأينا أخيراً منافع الليبرالية والرأسمالية؟ حسناًَ، تقريباًَ. لقد كان المؤرخ الماركسي ايريك هوبسباوم أحد الاشتراكيين الذين اضطروا إلى النظر إلى رؤاهم وهي تتهاوى. ولقد أقر بامتعاض بأن الرأسمالية قد أثبتت قوتها في كل شيء تقريباً. ولكن لديه اعتراض أخير: هل تجعلنا الرأسمالية سعداء؟ ماذا بالنسبة لنوعية الحياة؟ يشكل هذا الأمر المعقل الأخير ضد الأسواق الحرة.
لقد قام الاقتصادي البريطاني ريتشارد لايارد بنشر هذا الجدل الذي يأخذ المنحى التالي:
لن يساهم النمو الاقتصادي في جلب المزيد من السعادة ذلك لاننا مهتمون على الاغلب بوضعنا النسبي (أي مستوى دخلنا عندما نقارنه بالآخرين). إن حقيقة كون أحدهم يجني دخلاً أكبر—مما يجعله أكثر سعادةً—تجعل الآخرين أقل سعادة، الأمر الذي يضطرهم إلى العمل بجد أكبر للحفاظ على وضعهم الحالي النسبي. في النهاية فإننا جميعاً أكثر ثراءً، ولكننا لسنا أسعد من ذي قبل، حيث أننا لا نستطيع جميعاً أن نصبح أكثر ثراءً من الآخرين. وهذا يعني أن المستقبل الأفضل لن يؤدي إلى مستقبل أفضل.
نحن نعي أن هنالك نقلة دراماتيكية في رفاهية المواطنين المبلّغ عنها عند انتقال البلدان من دخل وطني مقداره 5000 دولار أمريكي لكل نسمة إلى 15 ألف دولار أمريكي سنوياً لكل نسمة. ولكن عندها تتوقف مستويات الرضا، الأمر الذي يستخلص منه لايارد بعدم وجوب اهتمام كبير بمسألة النمو في البلدان الغنية. وفي الواقع فإنه يريد إعادة هيكلة وقابلية تحرك أقل، والتقليل من العمل الشاق المرتبط بدفع ضرائب عالية وتوفير وقت أكبر لنا إلى الأمور التي تجعلنا أكثر سعادةً، أي العائلة والأصدقاء.
ولكن هل هذا هو الاستنتاج الصحيح؟ تخيل بأنك مسرور لأن لديك حفل ممتع تتطلع إليه في الأسبوع المقبل. وبعد الحفل، يقوم لايارد بإجراء مقابلة معك ويكتشف أنك لست أكثر سروراً بعد الحفل مما كنت عليه قبله. وحينها فإنه سيقوم على الأرجح بتشجيعك على التوقف عن تخصيص الكثير من الوقت والجهد للحفلات، لأنه من الواضح أن ذلك لا يزيد من سعادتك.
يعد هذا استنتاجاً غريباً؛ فإنك لن تمتلك هذا الإحساس بالسعادة والابتهاج إذا لم يكن لديك أموراً جميلة تتطلع قدماً للقيام بها، مثل مآدب الغذاء الممتعة والحفلات الجميلة. أليس من الممكن أن ينطبق الأمر ذاته على الثروة؟ فإن حقيقة أن النمو لا يزيد من السعادة كثيراً لا تعني أنها عقيمة، فقد تكون الحقيقة استمرار النمو الأمر الذي يمكننا من الاستمرار في الإيمان في مستقبل أفضل، ومواصلة المرور بتلك المستويات العالية من السعادة.
نعرف من الأبحاث والاستبيانات أن الأمل يرتبط بالسعادة بصورة وثيقة. فإذا ما أردنا مقابلة رجل أوروبي سعيد، فلنجرب الشخص الذي يفكر في أن وضعه الشخصي سيتحسن في السنوات الخمس القادمة. ونرى الأمر ذاته حالياً لدى مقارنتنا بين الأمريكيين والأوروبيين. ووفقاً لاستطلاعات هاريس للرأي، فإن هنالك 65% في الولايات المتحدة مقابل 44% فقط في الاتحاد الأوروبي يعتقدون أن أوضاعهم ستتحسن في السنوات الخمس القادمة. وبناء على ذلك، فإن 58% من الأمريكيين راضون جداً عن حياتهم، مقارنةً بـ31% فقط من الأوروبيين.
تعاني مجتمعات كاملة في البلدان الفقيرة والموجهة بطريقة سيئة من اليأس. حيث هنالك القليل من الفرص وانعدام الأمل في أن يكون الغد أفضل من اليوم. ولكن الأمل في المستقبل يزداد عندما تبدأ البلدان الفقيرة بالنمو الاقتصادي، وعندما تصبح الأسواق منفتحة وتزداد المداخيل. يمكن أن يساعد ذلك في توضيح سبب وصول السعادة إلى مستويات عالية في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية. وعندما يتسارع نمو الاقتصاديات، يبدأ الناس بالاعتقاد بأن أطفالهم سيتمتعون بحياة أفضل من تلك التي كانت لهم.
يمكن أن يكون رفع الضرائب للتثبيط عن العمل والحد من النمو الاقتصادي طريقةً لإيقاف ذلك التقدم. وتبين كافة الدراسات تقريباً أن فقدان الدخل والفرصة يحد من السعادة.
في الواقع، لم تتوقف السعادة عن الازدياد. فوفقاً لـ قاعدة بيانات السعادة العالمية والتي يديرها الباحث الهولندي البارز رووت فينهوفين، فقد ازداد الرضا في معظم البلدان الغربية التي تتوفر لدينا دراسات عنها منذ 1975. هنالك عوائد تقل أكثر فأكثر، ولكن حتى وفقاً لمقياس المعيشة لدينا، فإن الناس يزدادون سعادة كلما ازداد غنى المجتمعات. والأماكن الأكثر سعادة هي أكثرها فردانيةً، أي أمريكا الشمالية وشمال أوروبا وأستراليا.
من الأسباب الأخرى لتلك السعادة هي أن المجتمع الليبرالي والموجه نحو السوق يتيح للناس حرية الاختيار. وفي حال اعتدنا عليها فإننا سنصبح أفضل بصورة مطردة في اختيار الحياة والعمل بالطريقة التي نرغبها. وإذا كنت تعتقد أنك لا تصبح أكثر سعادة عن طريق العمل الجاد وقابلية التحرك، فقم بإهمال هذه النقطة. يبين أحد الاستقصاءات أن 48% من الأمريكيين قاموا بتقليص عدد ساعات العمل في السنوات الخمس الأخيرة ورفضوا الترقية وحدوا من توقعاتهم المادية أو انتقلوا إلى أماكن أكثر هدوءاً. أتريد وجبة سريعة أم عادية؟ في المجتمع الليبرالي، أنت من يقرر.
وهذه هي الحقيقة، طالما أننا أحرار في اتخاذ قراراتنا. ولكن أولئك الذين يستخدمون السعادة لوضع أجندة معادية للسوق سينكرون علينا تلك الحرية. فهم يريدون أن يملون علينا كيفية عيشنا وبالتالي فإنهم سيعملون على الحد من قدرتنا على اتخاذ القرارات في المستقبل.
وبالرغم من انتقاد لايارد الموجه إلى الفردانية والمادية فإنه يقر “بأننا في الغرب أكثر سعادة على الأرجح مما هو الحال في أي مجتمع سابق.” حسناً، في تلك الحالة، فالرجاء الرجاء ألا تقوضوا ذلك المجتمع.
إننا أغنى وأكثر ازدهاراً وسعادة مما كنا عليه أبداً. فنحن نعيش حياة أطول وأكثر أمناً وأكثر حرية من قبل. وقد تمكنا من نقل معرفة وتكنولوجيا وثروة الأجيال السابقة لكل جيل لاحق، وأن نضيف ما لدينا. فقد قللنا من الفقر وصنعنا ثروة أكبر وزدنا من متوسط العمر المتوقع في السنوات الخمسين الماضية بصورة أكبر مما فعلنا في الخمسة آلاف سنة الماضية.
أنا لا أقول أن الكأس نصف ممتلئة بدلاً من كونها نصف فارغة. ولكن ما أقوله إنها قد كانت فارغة. قبل مائتي عام فقط كانت العبودية والإقطاعية والاستبداد تحكم العالم. وبمقاييس أيامنا هذه فقد كانت أغنى البلدان شديدة الفقر. وكانت الفرصة في البقاء على قيد الحياة بعد عامك الأول أقل من الفرصة في البقاء على قيد الحياة إلى سن التقاعد اليوم. على الأقل فإن الكأس اليوم نصف ممتلئة، وتزداد امتلاء في الوقت الذي نتحدث فيه الآن. وإذا ما كانت أمامي الآن، فإنني سأقترح نخباً لإبداع ومثابرة الجنس البشري. بمعنى آخر: لا تقلق—كن سعيداً!
ولكن بالرغم من حقيقة أننا سعداء، يبدو أننا لا نلاحظ ذلك ونعاني القلق.
عندما نسأل الناس حول ما جرى في العالم، فإن الغالبية تقول أن الأمور تزداد سوءاً، فالفقر في ازدياد والطبيعة عرضة للدمار. قمت الأسبوع الماضي بنشر استقصاء يبين أن السويديين يعتقدون أن كافة مؤشرات معايير المعيشة والبيئة التي تتحسن بصورة متسارعة هي في الواقع في تراجع. فعند قراءتنا للصحف نرى المشاكل والفقر والكوارث. والحركات الدولية القوية تعارض العولمة والرأسمالية لأنها تعتقد أنهما تزيدان من التعاسة والجوع. ويضع الباحثون كتباً مفادها أننا جميعاً حزينون ومحبطون.
إذا كان هنالك شيء لم يتحسن في العالم فهو نظرتنا له. لماذا؟ إذا كانت مغامرة الجنس البشري نصراً، لماذا لا ندرك ذلك؟ لماذا لدينا نزعة للتفكير، مثل ماركس ولينين وهيلبرونر وهوبسباوم بأن التقدم الذي نشهده سيؤدي إلى شكل آخر من المشكلة؟ سأحاول أن أقدم بعض التفسيرات لهذه الحقيقة المذهلة والمشوشة.
مشكلة النزعة
أول وأسوأ مجرم في هذه القصة هو النشوء. لقد حول الانتقاء الطبيعي تركيز البشرية نحو المشاكل. من السهل إدراك أن البشر الأقدمين الذين جلسوا بعد تناول وجبة شهية واسترخوا واستمتعوا بحياتهم كانوا قد لا يجدون طعاماً كافياً يقيم أودهم في اليوم التالي، وأنهم كانوا يتعرضون لخطر أن يتم التهامهم من قبل أسد ما. وحيث أن أولئك الذين كانوا مجهدين دوماً ويبحثون عن المشاكل، والذين مارسوا الصيد وجمع طعام أكثر تحسباً لأي طارئ، والذين نظروا بتشكك إلى الأفق هم أولئك الذين وجدوا المأوى قبل العاصفة أو قبل هجوم الأسد. وبالتالي فقد تمكنوا من النجاة، ونقلوا إلينا جيناتهم المشبعة بالقلق والتوتر.
من الضروري أن نكون مدركين للمشاكل لأن المشاكل تعني أن علينا التحرك. فإذا كان منزلي يحترق، فإنني أحتاج لمعرفة ذلك الآن. وحقيقة أن منزلي جميل ليست على ذلك القدر من الأهمية. إذا بلغني معلومات أن هنالك شيء في الطعام قد يسبب مقتل أطفالي، فإنني أحتاج إلى تلك المعلومات الآن. وحقيقة أن هنالك أطباق لذيذة وجديدة في السوق ليست على ذلك القدر من الأهمية.
الجنس البشري هو نوع يقوم بحل المشاكل. فأولئك الذين تمكنوا من حل المشاكل ظلوا على قيد الحياة. وهذا يعني أن علينا الاستمرار في البحث عنهم. ليس علينا أن نتوقف ونستمتع بالنصر لحظة حلنا لمشكلة قديمة ولكن علينا البحث عن المشكلة السيئة القادمة والبدء في العمل على حلها. فليس لنا أن نسهر الليل متأملين في حقيقة أننا تمكنا من معالجة شلل الأطفال والسل، ولكننا نسهر الليل مفكرين في كيفية معالجة الإيدز، ونقلق بشأن ما قد تؤدي إليه انفلونزا الطيور في المستقبل. فنحن لا نفكر كم كان الأمر رائعاً أننا استأصلنا الملاريا من البلدان المتطورة، ولكن نفكر بهول أعداد الناس الذين يموتون من الملاريا يومياً في البلدان النامية.
أشار الكاتب الأمريكي جريغ إيستربروك إلى حقيقة أن المشاكل القديمة، والتي كانت رهيبة في زمانها، تبدو أقل تهديداً بالنظر إلى الوراء، لأننا نعرف أننا قد تمكنا من حلها. ولكن مشاكل العصر غامضة ولم يتم حلها ولذلك فإنها تظل حاضرة في أذهاننا.
قبل بضعة أسابيع، كان الخبر الأول في الأخبار الرئيسية على التلفاز يبين أن هنالك “خطراً بيئياً متنامياً” في أوروبا. وكانت المشكلة في السفن التي أصبحت أكبر باعث لثاني أوكسيد الكبريت في أوروبا.
من جانب آخر، إذا استمعت بانتباه إلى التقرير، فإنك ستدرك أن ذلك لم يحدث بسبب زيادة الانبعاثات من السفن—وهو أمر يحدث ولكن بصورة معتدلة—ولكن بسبب الانخفاض المتزايد للانبعاث من مصادر أخرى. تم تقليص انبعاثات ثاني أوكسيد الكبريت في أوروبا (بما في ذلك السفن) بنسبة تصل إلى 60% في خمس عشرة سنة. وبالتالي فإن الخبر الحقيقي لم يكن حول التحسن الدراماتيكي في الشروط البيئية ولكن في كون السفن أصبحت من الأمور التي ينبغي أن نعالجها، وبالتالي فقد شكلت خبراً.
أنا متفائل. وأعتقد أن هذا التحيز الإدراكي أمرٌ جيدٌ. وهذا ما يبقينا يقظين، وبالتالي نتمكن من حل المشاكل وتحسين العالم. ولكن علينا أن نفهم أن ذلك يعني أن عقولنا منشغلة دائماً بالمشاكل. ولذلك نعتقد أن العالم أسوأ مما هو عليه.
يخلق التقدم نوعاً من التحدي الجديد دائماً، ويفكر العاملون على حل المشاكل بشأن التحديات أكثر من التفكير في التقدم. نعيش حالياً أعماراً أطول من ذي قبل. أليس هذا أمراً رائعاً؟ لا، لأن ذلك يؤدي إلى تكاليف أعلى للتقاعد والرعاية الصحية. أخيراً، ها هي البلدان الفقيرة تحقق تقدماً اقتصادياً، أليس ذلك مدهشاً؟ لا، لأننا نخشى الآن من استيلاء السمكريين البولنديين والمبرمجين الهنود على أعمالنا. هنالك دائماً أمر نخشاه. في السبعينيات من القرن العشرين، عندما كانت درجات الحرارة في انخفاض، كنا قلقين بشأن عصر جليدي جديد. وها هي الآن ترتفع وها نحن نخشى من الانحباس الحراري العالمي. اعتدنا على أن نقلق بشأن كل شخص مصاب بالإحباط، والآن فإن العقاقير المضادة للإحباط قد قللت من الانتحار في البلدان الغنية بحوالي الخمس. وعليه فإننا نخشى الآن بشأن الأعداد الكبيرة من الناس الذين يتناولونها.
التحيز الإعلامي
تقوم وسائل الإعلام باستغلال الاهتمام في المشاكل والكوارث. فنحن نريد أن نسمع آخر الأخبار وأرهبها، لأن عقولنا العائدة إلى العصر الحجري تعتقد أن هذه معلومات هامة يجب علينا التصرف إزائها. بحلول الألفية، قام استقصاء أعدته جامعة نيويورك بإعداد قائمة لـ”أهم الضربات الصحافية”. هل تتوقع أخباراً صحفية حول اللقاحات الجديدة، أو الاختراعات الرائعة، أو زيادة معدلات المعيشة، أو انتشار الديمقراطية من نسبة 0% قبل 100 عام إلى نسبة 60% اليوم؟ ستصاب بخيبة أمل. كانت كافة الضربات حول الحروب والكوارث الطبيعية والمواد الكيماوية الخطرة والسيارات غير الآمنة.
من السهل تصوير المخاطر والحوادث الرهيبة والكوارث ويُعدّ إنتاجها رخيصاً. وذلك فإن الجريمة من المواضيع الشعبية في الأخبار. وتبين الدراسات الأمريكية أنه كلما ازداد الوقت الذي يمضيه الناس في مشاهدة أخبار التلفاز، فإنهم يزدادون مبالغة في مدى الجريمة في مدنهم. أظهرت دراسة مشوقة حول بالتيمور أن 84% من الناس يخافون من أن يقوم المجرمون بإلحاق الأذى بهم أو بمن يحبون، ولكن في ذات الوقت فإن كلاً منهم تقريباً، 92%، قالوا إنهم يشعرون بالأمان في أحيائهم التي يعرفونها بشكل مباشر. ويعتقد جميعهم أن هنالك الكثير من الجريمة في بالتيمور، ولكنهم يعتقدون جميعاً أنها تحدث في مكان آخر في المدينة، في أماكن يسمعون عنها في وسائل الإعلام فقط.
تبرز هذه النتائج مرة تلو الأخرى في الاستقصاءات. يعتقد الناس أنه يتم تدمير البيئة وأن الاقتصاد ينهار ويعتقد الألمان أن إعادة توحيد ألمانيا أمراً سيئاً لمعظم الناس. ولكنهم يعتقدون أيضاً أن بيئتهم المحلية جيدة وأن مواردهم المالية الشخصية في تحسن، وأن إعادة توحيد ألمانيا كان أمراً جيداً بالنسبة لوضعهم الشخصي. تحدث المشاكل والكوارث دائماً في مكان آخر، وإذا كنا جميعاً نعتقد ذلك، فإننا مخطئين جميعاً.
مشكلة العالم المعولَم أن هنالك دائماً فيضان في مكان آخر وأن هنالك دائماً سلسلة من جرائم القتل في مكان آخر، وأن هنالك دائماً جوع في مكان آخر. ولذلك فإن هنالك تزويد مستمر للأشياء المرعبة التي تملأ شاشات التلفاز. إذا كنت لا تعرف الخلفية أو دراسة الإحصائيات، فإن الاستنتاج بأن العالم يزداد سوءاً يعد أمراً مغرياً.
بطريقة ما، أعتقد أن الحركة المناهضة للعولمة هي نتاج لعولمة المعلومات هذه. في الوقت ذاته الذي تم فيه الحد من الفقر المدقع بمعدل النصف في البلدان النامية، يعتقد الكثير من الناس أن الفقر في ازدياد، لأنهم يشاهدون الفقر للمرة الأولى على شاشات التلفاز. ونهتم لأمره بصورة جزئية الآن لأن الفقراء الفيتناميين والصينيين يصنعون القمصان التي نرتديها. وإذا كنتم لا تفهمون هذا السياق، فإنكم ستعتقدون أن سبب فقرهم هو أنهم يصنعون القمصان لنا. وبالرغم—كما قلت—من حقيقة أن الناس الذين يعملون لدى شركة أمريكية متعددة الجنسيات في بلد منخفض الدخل يحصلون على دخل يزيد بثمان مرات عن متوسط الدخل في ذلك البلد.
الاستثناءات أكثر تشويقاً من القواعد
يعزز تحيّزٌ تصوريٌّ آخر على هذا التركيز على المشاكل، في أذهاننا وفي وسائل الإعلام. كل ما هو جديد يعد أخباراً. ونحن نهتم بالاستثناءات. ونحن لا نرى الأمور التي تحيط بنا كل يوم. نرى الأشياء الجديدة، الغريبة وغير المتوقعة. وهذا طبيعي. ليس علينا أن نفسر ونفهم الأمور العادية واليومية، ولكن علينا أن نفهم الاستثناءات. لا نخبر عائلتنا كيف عدنا من أعمالنا اليوم إلا إذا حدث أمر غريب حقاً في طريق العودة.
هذا يعني أن لدينا تحيز معرفي دائماً يشوه نظرتنا إلى العالم. نلاحظ الأمور الخارجة عن المألوف. وفي عالم ينزع إلى التحسن، نميل إلى التشديد على المشاكل المتبقية بصورة أكبر. لا نقرأ في الصحف أن القطار قد وصل بسلام وفي موعده المحدد. ولكننا نقرأ عنه عندما يكون هنالك تحطم للقطار. لا نسمع عن شخص عاد إلى منزله من الحانة، ولكن نسمع عنه إذا تمت مهاجمته وضربه.
لقد شكل هبوط طائرة بسلام عام 1903 خبراً، عندما نجح الأخوان رايت لأول مرة. ولكن منذ كانون الأول 1903، فقد شكل تحطم الطائرات الأخبار. ولذلك، فإننا نبالغ في تكرُّر حوادث التحطم. ومنذ الحرب العالمية الثانية لم نرَ عدداً أقل من حوادث تحطم الطائرات مما فعلنا في عام 2004، بالرغم من الزيادة الهائلة في أعداد الرحلات. كان عدد حوادث التحطم في السبيعينيات أكبر بأربع مرات مما هو عليه حالياً، بالرغم من حقيقة أن لدينا أعداد رحلات تزيد بأربع مرات عما كان عليه الحال آنذاك. ولكن لا تتوقعوا أن تسمعوا بذلك في وسائل الإعلام. ولكن توقعوا بدلاً من ذلك تقارير ضخمة كلما وقع حادث تحطم. إذا عض كلب شخصاً ما لا يشكل ذلك خبراً، ولكن أن يعض رجل كلباً فذلك هو الخبر!
لاحظ المفكر الفرنسي الليبرالي توكوفيل هذه الآلية العقلية في بداية القرن التاسع عشر عندما لاحظ أن الناس بدأوا بنقاش مشكلة الفقر خلال الثورة الصناعية. اعتقد في البداية أن ذلك أمر غريب، حيث أن نمو النظام التصنيعي يعني أجوراً أعلى وبضائع أرخص. كان الفقر في تناقص، ولكن في الوقت ذاته فقد بدا كمشكلة أسوأ من ذي قبل.
لقد استنتج أن ذلك لا يحدث بالرغم من ولكن لأنه تم الحد من الفقر. وفي عصور سابقة، كان الفقر يعتبر أمراً لا بد منه، فهو أمر كان منتشراً في كل مكان، وشيء علينا أن نتعلم كيف نتعايش معه. وقد قامت الديانات الناشئة بشرح فضائل الفقر. ولكن في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، عمل التصنيع على إيجاد ثروة غير مسبوقة وتم انتشال الملايين من الفقر. وكانت النتيجة أنه تم النظر إلى الفقر المتبقي بصورة أسوأ من ذي قبل. والآن حيث بإمكان الناس أن يروا أن الفقراء ليسوا إلى جانبنا دائماً، فقد بدأوا بالتساؤل لماذا علينا تحمله. لم يكن ضرورياً، ولكن يمكن له—وينبغي—أن يتغير. لم يعد يُنظَر إلى الفقر كأمر مسلم به، ولكنه الآن مشكلة اجتماعية.
وقد ولّد ذلك انطباعاً لفترة طويلة بأن الثورة الصناعية أنتجت مشاكل اجتماعية أكبر. حسناً، لقد فعلت ذلك بطريقة ما: من خلال جعل الفقر استثناءً فقد أوجدت الفقر كمشكلة في عقول الناس.
والآن، لنطبق اكتشاف توكوفيل على حقيقة أنه يتم القضاء على الفقر بصورة متسارعة في البلدان النامية، وحقيقة أن الناس يخصصون اهتماماً كبيراً لمشكلة الفقر في البلدان النامية.
هل هذا أمرٌ جيد؟
بالطبع، فإن العديد من الجماعات والمؤسسات والمصالح الخاصة من كل من اليمين واليسار تستخدم تحيزنا العقلي لتعزيز برامجها. فإذا تمكنوا من إبراز وجود مشكلة أو كارثة محتملة في مكان ما، فإن بإمكانهم اجتذاب اهتمامنا وحثنا على التحرك الآن.
هل سيتحسن حال المدارس بوجود بعض المال الإضافي؟ من يكترث لذلك؟ هل سيخفق أطفالنا ويصبحون مجرمين دون تخصيص مال إضافي للمدارس؟ حسناً، فلنتحرك الآن! هل أن الضرائب الجديدة لتمويل هذه القضية ستؤدي إلى خفض الاستثمار وتهميش دافعي الضرائب؟ من يهتم لذلك؟ هل ستؤدي إلى تدمير الاقتصاد وطرد الناس من منازلها؟ فلنقم بإلغائها الآن!
لكافة الأطراف مصلحة في تهويل مشاكل عالمنا. وينطبق الأمر ذاته على العلماء والباحثين والسلطات العامة. فإذا أرادوا الحصول على المزيد من المال لأبحاثهم، فعليهم أن يبرزوا المخاطر الكبيرة في المجال الذي يقومون بدراسته، وأن العزوف عن دراسة المواضيع التي يعملون فيها تحديداً بصورة وثيقة يعد أمراً بالغ الخطورة.
كما ينطبق الأمر ذاته على المؤسسات العالمية. ففي أيلول 2005، قام برنامج الأمم المتحدة للتنمية بنشر تقرير التنمية البشرية. وتحدث البيان الصحفي حول المناطق التي تعاني من مشاكل متزايدة، وحول البلدان الثماني عشرة المتأخرة. ويلخص التقرير الحالة العالمية بتعابير مثل “بطاقة الإبلاغ الشاملة حول التقدم تشير إلى قراءة محبطة” و”يتجه العالم نحو كارثة تنموية بشرية.”
ولكن كيف نمت البلدان الفقيرة في المجمل؟ بصورة مخبَّئة في مكان آخر من التقرير، وبصياغة أقل دراماتيكية، يخلص برنامج الأمم المتحدة للتنمية إلى:
“بالرجوع إلى العقد المنصرم فقد تواصل التوجه طويل الأمد نحو التقدم في التنمية البشرية. كمعدل متوسط، فإنه من الممكن اليوم توقع أن يكون الناس الذين يولدون في أحد البلدان النامية أكثر صحة وغنى وأفضل تعليماً من جيل آبائهم.”
ويمضي التقرير في أن البلدان الفقيرة شهدت فقراً أقل في الخمس عشر سنة الأخيرة، وانخفاضاً في معدل وفيات الأطفال الرضع، وتحسناً في الحصول على مياه نظيفة، وأمية أقل، وعدد صراعات أقل، وديمقراطيات أكثر. أهذا ما يسمونه “كارثة تنموية بشرية”!
يمكنهم فعل ذلك لأن ذلك كارثة مقارنة بالآمال في تقدم أكثر سرعة في أماكن أخرى. ولكن إذا لم تكن قارئاً يقظاً، فإن ما ستفهمه هو أن كل شيء يزداد سوءاً، وبالطبع فإن هذا هو الانطباع الذي يريد برنامج الأمم المتحدة للتنمية توليده. لأنه يعتقد أن توقع كارثة عالمية هو الطريقة الوحيدة التي ستجبرنا على التحرك.
أعتقد أن العكس هو الصحيح. إذا استمرّينا في صرف المزيد من الوقت والموارد لمعالجة المشاكل العالمية وجاء برنامج الأمم المتحدة للتنمية ليخبرنا أنه لم يكن له أي تأثير يذكر، فإذن لماذا علينا أن نستمر؟
ولكن ليست هذه هي النقطة التي أريد الوقوف عليها، فالهدف هنا هو فهم نوع التهديدات والتحذيرات التي تشارك فيها الهيئات ذات المصالح الخاصة، وكيف يشوّه ذلك نظرتنا إلى العالم. ويكشف بعضها عن ذلك علانية، ففي مقابلة في مجلة ديسكوفر في تشرين الأول 1989، أوضح مختص البيئة العالم والخبير في التغير المناخي، الذي يتم الاستشهاد به كثيراً، البروفيسور ستيفن شنايدر:
“نحتاج [من أجل إنقاذ الكوكب] إلى الحصول على دعم واسع، للسيطرة على مخيلة الناس. وهذا بالطبع يعني الحصول على كم هائل من التغطية الإعلامية. ولذلك فإن علينا أن نقدم سيناريوهات مرعبة، والخروج ببيانات مبسطة ودراماتيكية وذكر القليل من أي شكوك قد تراودنا… على كل منا أن يقرر ما هو الميزان الصحيح بين أن تكون فعالاً وأن تكون نزيهاً.”
إليكم تجربة فكرية لتسليط الضوء على هذه العملية. تخيلوا أن استنتاجي في هذه المحاضرة هو أن هذا التحيز العقلي يشكل صعوبة إلى حد ما، ولكن بإمكاننا التعايش معه. هل تعتقدون أن محاضرتي هذه ستحظى بمزيد أو قليل من الاهتمام إذا كان الاستنتاج الذي توصلت إليه رهيباً، وسيودي بنا إلى كارثة؟
التدمير الخلاق يبدو هداماً
في حال لم يكن ذلك كافياً، فإن التحيز المعرفي إزاء المشاكل والاستثناءات—وفي حال كان الإعلام والجماعات المهتمة تستغله إلى أبعد الحدود—يشكل مشكلة أخرى: فنحن نركز على المدى القصير وعلى ما هو شخصي بدلاً من التركيز على المدى البعيد وما هو عام. هنالك أمور نراها وأخرى لا نراها، إذا استخدمنا عبارة الاقتصادي الفرنسي فريدريك باستيا من القرن التاسع عشر.
دعوني أبسط هذه المسألة بالرجوع إلى فيلم وثائقي أمريكي قمت بمناقشته مؤخراً في مناظرة تلفزيونية. تحدث الفيلم، الذي أنتجته شركة الإذاعة العامة، حول حقيقة قيام وول مارت بشراء معظم بضائعها من الصين. وقد تم تصوير ذلك ككارثة بالنسبة للولايات المتحدة، وأجري خلال الفيلم مقابلات لمدة ساعة تقريباً مع عمال وأصحاب مصانع فقدوا وظائفهم وأعمالهم بسبب المستوردات الصينية الرخيصة. ويشكل هذا نصراً (1-0) للمناهضين للعولمة.
من الصحيح أن عامل المصنع الأمريكي قد يفقد عمله بسبب ذلك، ولكن هنالك آثار أخرى لم يبرزها الفيلم. فالعامل الصيني يحصل على العمل، بالطبع، وفي حال كان أداؤه جيداً فإنه سينفق دخله الجديد بطريقة ما، الأمر الذي يعني المزيد من الوظائف لشركات التصدير و/أو الشركات الصينية. سيحصل المستهلكون الأمريكيون على أسعار أقل، وعندما يفعلون ذلك فإن بإمكانهم إنفاق القوة الشرائية الإضافية في بضائع وخدمات جديدة، وبالتالي يمكن للأمريكي العاطل عن العمل أن يحصل على وظيفة جديدة في قطاع جديد. وهكذا يستفيد كل من العامل الصيني، وشركات التصدير، والمستهلكون، والقطاعات الجديدة: أي أربع نتائج جيدة، وبمعنى آخر نصر (4-1) لأنصار العولمة والتجارة الحرة.
ولكننا ننزع إلى عدم رؤية هذه الآثار، لأنها شخصية وغير مباشرة. فنحن نرى إغلاق مصنع وعمال يفقدون أعمالهم، وهذه حقيقة واضحة، دماً ولحماً، ويمكن أن تكون ذات علاقة بنا. ولكن حصول عمال آخرين على وظائف جديدة وتحسن القوة الشرائية وإيجاد قطاعات جديدة هو أمر أكثر تجريداً ويحدث لاحقاً وذو تأثيرات واسعة الانتشار، وليس من السهل تصويره كخبر أو ربطه بحقيقة أن لدينا تجارة أكثر حرية.
تعمل الرأسمالية وفقاً لمبدأ التدمير الخلاق. فنحن نوجد بضائع وخدمات أفضل وطرقاً جديدة للإنتاج والتجارة. ولكن من أجل أن نكون قادرين على القيام بأمور جديدة بطرق جديدة، علينا أن نتوقف عن القيام بالأمور القديمة بالطرق القديمة. تكمن المشكلة في أننا ننزع إلى ملاحظة والإبلاغ عن الجانب الهدام وليس الجانب الخلاق لذلك. وقد تحدث الأمريكيون حول المليون وظيفة التي فقدوها في الصناعة منذ عام 1970 أكثر مما تحدثوا حول الستين مليون وظيفة ذات الأجر الأفضل التي حصلوا عليها في قطاعات أخرى في ذات الوقت.
تمثل هذه العقلية سبباً آخر لكون العالم يبدو أسوأ مما هو عليه، ولكون الرأسمالية تجد أعداء لها دائماً. فكلما أبدعتْ وعملتْ الرأسمالية على التحسين، كلما شهدنا المزيد من التقويض والدمار الذي تقوم به.
قام مناهض سويدي للعولمة قبل عدة سنوات بتوضيح أنه دخل في نقاش مع بعض أنصار الرأسمالية “الذين أشاروا إلى الحقائق بصورة مستمرة،” ولكن المناهضين للرأسمالية كانوا أكثر نجاحاً لأنهم “استخدموا أمثلة من الواقع.” الحقائق في مواجهة الأمثلة… الإحصائيات المتجمعة والحقائق المجردة في مواجهة اللحم والدم. ولكنني لست على يقين من سينتصر في مناظرة كهذه. فنحن البشر نفضل القصص والأمثلة التي نرتبط بها. فإذا سمع بعض المستمعين أن عدد الذين يعيشون في فقر مدقع قد أصبح أقل بـ400 مليون شخص مما كان عليه الحال في 1981، ولكن سمع قصة مثيرة حول شخص معين أصابه الفقر خلال هذه الفترة، فإنه ليس من المؤكد أنهم سيعتقدون أنه قد تم الحد من الفقر. وبسبب كافة الآليات والعقليات التي ناقشتها، فإننا لا نسمع بالأمر الأول بمقدار ما نسمع عن الأمر الثاني.
العلاج
بدراسة هذا التحيز العقلي والفكري، فإنني وجدت أن الليبرالية والأسواق الحرة تمكنت من الاستمرار في البقاء إلى الحد الذي هي عليه الآن. ويتوجب عليها أن تقدم فوائد أكبر مما نعتقد للتغلب على هذه المعارضة غير الواعية. ولكن من المؤكد أن هنالك عائق يجعل من التحرير الاقتصادي أمراً أكثر صعوبة. ما الذي يمكننا أن نفعله حيال ذلك؟ كيف يمكننا أن نتعلم العيش في عالم، وبعقلية، يعملان على تضخيم المشاكل والكوارث والمخاطر؟ أعتقد أن نصيرنا الأعظم هو المعرفة. يمكن لمعرفة تحيزنا العقلي أن تعلمنا كيفية تجنب ذلك. مثلاً، كلما سمعنا عن استفحال إحدى المشاكل، علينا أن نحاول معرفة التوجهات بعيدة الأمد لمعرفة إذا كان ذلك حقيقة، أو أنه مجرد مبالغة في انحراف قصير الأمد. وكلما سمعنا عن خطر أو كارثة محتملة فإنه من السيء تصديقها بالكامل كما هو الحال إذا ما تجاهلناها بالكامل.
ولكننا نحتاج أيضاً لمعرفة الأمور التي تعمل على تحسين العالم. وهنا نرى فشل حتى المفكرين الجيدين. وقد أشرت إلى جريغ إيستربروك. لقد قام بوضع كتاب رائع أسماه مفارقة التقدم، حول الحقيقة الغريبة بأن الناس يشعرون بالسوء حيال الأمور التي تتحسن. وقد تعلمت الكثير منه، بالرغم من بعض التحفظات التي لدي. أحد التفسيرات لهذا اللغز هو إحساس “قلق الانهيار” واسع الانتشار، وهو عبارة عن شعور سيء ينتج عن الانغماس في حياة جيدة، وخوف من عدم استمرار ثروتنا، وأن هنالك نوع من التحطم الاقتصادي والانهيار البيئي أو أي كارثة أخرى قد تؤدي إلى إنهائها في أي وقت. ربما كان كل من ماركس ولينين وهيلبرونر وهوبسباوم يعانون من قلق الانهيار؟
ولكنني لا أوافق على أن هذا يشكل مشكلة نفسية. أعتقد أنك إذا كنت لا تفهم مصدر هذه الثروة فإن ذلك يشكل استنتاجاً منطقياً. ولسوء الحظ، فإنني لا أعتقد أن كتاب إيستربروك يساعد القارئ في فهم ذلك. فالأمر برمته يبدو وكأنه تَصادَفَ أن نكون محظوظين، أو أننا سرقنا الثروة من شخص آخر. وإذا كان الأمر كذلك، فليس من المعقول أن نفكر في أنها ستختفي في أي يوم!
ومن أجل استعادة الإيمان في التقدم والمستقبل، علينا أن نفهم ما الذي يخلق هذه الثروة. بالتأكيد إنها ليست الصدفة، ولكنها الرأسمالية. فالحقيقة هي أن الناس الأحرار هم الذين يبدعون، وأننا نعمل على حل المشاكل وأنه كلما زاد عدد الناس الأحياء الذين يتمتعون بحرية التفكير والابتكار، كلما زادت الفرصة في أن يطور بعضهم معرفةً وتكنولوجيا وثروةً مفيدة، وإذا ما كانت الحوافز ملائمة—إذا كان الناس يحصلون على مكافآت على عملهم—فإنهم سيستخدمونها ويطبقونها من أجل تغيير عالمهم نحو الأفضل. وفي عالم يعيش فيه مليارات من الناس الذين لديهم حرية الإبداع، فإن الفرص في عالم أفضل تكون أكبر مما كانت عليه أبداً. ولذلك، علينا أن نؤمن بالمستقبل. ليس بصورة ساذجة وليس كما يعتقد الحتميون بأن الأمور قد تسوء. نحن نعي أن الصراعات والإرهاب والأمراض والكوارث الطبيعية قد تسبب ويمكن لها أن تؤدي إلى دمار هائل. ولكن اعترافاًَ منا بأن الجنس البشري يتمتع بالذكاء، وأن التدفق الحر للمعلومات والأسواق يجعلنا أكثر ذكاء، وأننا نعالج المشاكل بصورة أفضل إذا كنا أحراراً وأغنياء، وأن على كل جيل أن يبني على إنجازات من سبقه، وبالتالي فإن لدينا الكثير لما يمكن أن نبني عليه. ولذلك فإن التقدم الأعظم ما زال في الطريق.
تعدّ الفرص بعيدة الأمد مذهلة. واليوم فإن لدينا المزيد من الناس الذين يعيشون حياة أطول في مجتمعات أكثر حرية من ذي قبل، ولدينا علماء على قيد الحياة أكثر من الذين عاشوا في العصور السابقة مجتمعة، ويحصلون جميعهم على تعليم يعادل تقريباً طول الحياة برمتها في العصور السابقة. ستؤدي التكنولوجيا الحيوية، والتكنولوجيا الدقيقة، وعلم الإنسان الآلي إلى تحسينات هائلة. سنكون أكثر غنى وسنعيش أطول ونتمتع بصحة أفضل. والقارات التي حكم عليها بالتعاسة ستعيش قريباً الحياة التي نعيشها اليوم.
نعلم أن عالمنا سيتحسن في الطرق والتكنولوجيا التي لا يمكن التنبؤ بها بالنسبة لنا كما هو حال الحاسوب أو الطائرة بالنسبة لأسلافنا. لكن في نفس الوقت تعني هذه الآليات الفكرية والعقلية أن الكثير من الناس سيتذمرون باستمرار ويقولون أن الأمور تسوء، وكل مرة نحل فيها مشكلة فإنهم سوف يبحثون عن أخرى جديدة.
لكن لا يتوجب علينا أن نكون هكذا. يمكننا أن نفترض بثقة أنه عندما نقرأ في الصحف عن تحطم طائرة أو عن كارثة فإنه على الرغم من المخاوف من تلك القصة المحددة فحقيقة أن هذا خبر تعني أن هذه هي الاستثناءات وأن العالم ما يزال آمناً تماماً. عندما نرى الآخرين يتذمرون ويركزون على المصاعب فإنه يمكننا أن نستنتج بثقة أنها تعني أن هذه هي الاستثناءات في هذا العالم وأن تركيزهم وجهودهم تعني أن بعض المشاكل في طريقها لأن تحل.
وبما أنني متفائل، أريد أن أختم بتلك الفكرة التي تبعث على الراحة. إذ يُعدّ بعض هذا النوع من الاستياء شرطاً مسبقاً للتطور.
من الجدير أن نعزو الكلمة الأخيرة إلى واحد من المفكرين الأكثر نفاذاً للبصيرة في جميع الأوقات وهو المؤرخ الليبرالي والسياسي في القرن التاسع عشر اللورد ماكوليه والذي حُكم على تفسيره الليبرالي للتاريخ باعتباره ساذجاً؛ (الفكرة البانغلوسية) القائلة بأن الأمور في تحسن مستمر ولكن التي شكلت في الواقع اعترافاً بأنه يمكن للأفراد أن يكونوا مبدعين إذا كانوا أحراراً.
عندما كتب ماكوليه قصته عن إنجلترا لم يستطع أن يصدق لماذا اعتقد الانجليز أن الماضي كان هو الأيام القديمة الجيدة، وحذر الأجيال اللاحقة—نحن—من ألا نصور زمانه تصويراً رومانسياً رغم أنه أفضل من الماضي حيث أنه لا وجود لمدينة فاضلة. وكتب هذا: “يبدو أن تأثير الدليل الذي تم تقديمه للقارئ من الصعب الشك فيه [أن المقاييس الحية تتحسن]. على الرغم من الدليل فإن الكثيرين سيصورون لأنفسهم إنجلترا ستيوارت على أنها دولة أكثر إرضاء من إنجلترا التي نعيشها. قد يبدو للوهلة الأولى أنه من الغريب بالنسبة للمجتمع وبينما يمضي قدماً بسرعة فائقة أنه ينبغي أن ينظر باستمرار إلى الوراء بندم شديد. لكن هاتين النزعتين غير ثابتتين كما قد تظهران، ويمكن أن يتم حلهما بسهولة في نفس المبدأ. تنشأ كلتاهما من نفاد صبرنا بالنسبة لواقع حالنا. وبينما يحثنا نفاد الصبر ذاك على تجاوز الأجيال السابقة، فإنه يقنعنا بالمبالغة في سعادتهم. يعد هذا بمعنى ما غير عقلاني، وكريه فينا، لأن نكون باستمرار ساخطين على الحالة التي تتحسن باستمرار. لكن في الحقيقة هناك تحسن مستمر بدقة بسبب وجود تذمر متواصل. إذا كنا راضين تماماً عن الحاضر ينبغي علينا أن نتوقف عن الاختراع والعمل والادخار من أجل المستقبل.”
محاضرة جون بونيثون السنوية الثانية والعشرون، مركز الدراسات المستقلة، سيدني، الثلاثاء، 11 تشرين الأول 2005.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 22 كانون الأول 2006.

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018