الإسلام والحداثة

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

كان للحرية الدينية في المجتمعات العربية والاسلامية ؛ اكبر الأثر الايجابي في تطور تلك المجتمعات خلال العصور الاسلامية المتلاحقة ، حيث شملت أوجه التطور والتحديث ؛ مختلف ميادين الحياة مثل علوم الطب والاقتصاد والفن و الفلك والفلسفة والترجمة والادب والرياضيات والكيمياء والملاحة البحرية وصناعة السفن ؛ وادوات التنمية الاساسية في قطاعات الزراعة والصناعة ولتجارة .
ولعل جُل ما طلبه المسلمون من اهل الكتاب وهم اليهود والنصارى؛ وكذلك الصابئة والمجوس والزرادشت ؛ اذا لم يرغبوا بدخول الاسلام ، دفع الجزية وعدم التعرض للاسلام والمسلمين بسؤ . واصبحوا يٌعرفون في بلاد المسلمين بأهل الذمة؛ سواء  في صدر الاسلام زمن الخلفاء الراشدين ، اوفي العصور الاسلامية اللاحقة ؛ الاموية والعباسية وما تبعهما من خلافات وسلطنات وامارات ؛كالفاطمية والايوبية والمملوكية ؛ ثم الامبراطورية العثمانية. وكان ذلك إمتثالاً لقول الله سبحانه و تعالى في القرآن الكريم : (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ان تبرّوهم وتقسطوا إليهم ان الله يحب المقسطين) – سورة الممتحنة الآية 8 – . ولقول رسول الله (ص) : “من آذى ذميا فقد آذاني  “.
وقد امتدح الكتاب الاجانب مثل (آدم متز) ؛ مستوى الحرية الدينية في ظل الدولة الإسلامية، قائلاً : ” لم تكن الحكومة الإسلامية تتدخل في الشعائر الدينية لأهل الذمة، بل كان يبلغ من بعض الخلفاء أن يحضر مواكبهم وأعيادهم ويأمر بصيانتهم …” ،  ويـضيـف ( متز) : ”  قضت الضرورة أن يعيش اليهود والنصارى بجانب المسلمين، فأعان ذلك على خلق جو من التسامح لم تكن تعرفه أوروبا في القرون الوسطى …” . ويقول (غولد تسيهر) :” إن المؤمنين بمذاهب التوحيد أو الذين يستمدون شرائعهم من كتب منزلة كاليهود والنصارى والزرادشت، كان بوسعهم متى دفعوا ضريبة الرأس (الجزية) ؛أن يتمتعوا بحرية الشعائر وحماية الدولة الإسلامية …”.
وفي العصور الوسطى ؛ وصلت الحرية الدينية ذروتها ، وبلغ التطور والتقدم والرقي داخل المجتمعات العربية والاسلامية القمة . فكان ذلك فكراً وممارسةً ؛ أي منهجاً نظرياً وتطبيقاً عملياً . كما ساهمت الحرية الدينية في ظهور حضارة ثقافية مترابطة الابعاد ، ذلك لأن الحضارة الاسلامية استقطبت المثقفين المسلمين والمسيحيين واليهود ، الأمر الذي ساعد على وجود أكبر حقبة فلسفية إبداعية في العصور الوسطى ، وذلك  خلال فترة القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين .
ولعل من اهم جوانب تطور المجتمعات العربية والاسلامية والعالمية المعاصرة؛  التي تهتم بها  اليوم ، ما يعرف بدراسات علوم البيئة كالتلوث والتي كانت سائدةً آنذاك . ومن الأمثلة على تلك الدراسات ؛ ما كتبه الكندي والرازي وابن الجزار والتميمي وابن النفيس ؛ حيث غطت كتاباتهم عدداً من الموضوعات المرتبطة بالتلوث مثل : التلوث الجوي وتلوث المياه وتلوث التربة ، وسؤ التصرف بالمخلفات الصلبة وتقييم التأثير البيئي في اماكن معينة . فقد شهدت  قرطبة بالاندلس أول صندوق قمامة واول منشأة لجمع القمامة والتخلص منها . كما شٌيدت المؤسسات التعليمية المثيرة للدهشة في ذلك الحين ؛ كالمستشفيات العامة و المصحات النفسية و المكتبات العامة  و المراصد الفلكية والجامعات. وذكر كتاب جينيس للارقام القياسية ؛ أن جامعة القيروان في فاس بالمغرب ، كانت اقدم جامعة في العالم ؛ إذ جرى تأسيسها في عام 859 م ، وجامعة الازهر التي تأسست في القاهرة في القرن العاشر الميلادي ، كانتا تمنحان شهادات اكاديمية متنوعة ، من بينها  شهادت جامعية عليا .
وعند منتصف القرن الثاني للهجرة ؛ حينما بدأت حركة التدوين والتأليف لدى المسلمين بالنهوض ؛ اتجه بعض علمائهم للكتابة التخصصية في المقارنة بين الأديان، ومنهم النوبختي (202 هـ) الذي يعتبر أول من ألف في هذا المجال وكتب كتابه : (الآراء والديانات) ؛ وبعده كتب المسعودي (346 هـ) كتابين عن : (الديانات) ؛ ثم جاء المسبحي (420 هـ) فكتب كتابه : (درك البغية في وصف الأديان والعبادات) ، وهو كتاب مطوّل يقع في حوالي ثلاثة آلاف ورقة.
ثم نشطت حركة التأليف بصورة ملفتة للنظر ، وكان من أبرز الكتب المشهورة كتاب : (الملل والنحل) لأبي منصور البغدادي (439 هـ) ؛ وكتاب : (الفصل في الملل والأهواء والنحل) لابن حزم الأندلسي (456 هـ)؛  وكتاب : (الملل والنحل) للشهرستاني (548 هـ)؛  وهناك كتاب : (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة)؛  لأبي الريحان البيروني .
وفي ميادين البناء والادب ؛ كان بحلول القرن العاشر الميلادي في قرطبة – على سبيل المثال لا الحصر – سبعماية مسجداً ، وستين الف قصراً، وسبعين مكتبةً حوت أكبرها ستماية ألف كتاب ؛ كما نُشر ما مجموعه ستين الف دراسة وقصيدة ومؤلفة كل عام ، في حين كان يوجد في مكتبة القاهرة نحو مليوني كتاب.
لقد نبغ بعض العلماء المحدثين بجهودهم الذاتية الخاصة مستفيدين من مؤلفات السابقين ، كالعلامة المرحوم الشيخ محمد جواد البلاغي النجفي (1282هـ ـ 1352 هـ) ؛الذي أتقن اللغة الإنكليزية والعبرية (بالإضافة إلى لغته العربية والفارسية)؛  فقرأ مصادر المسيحية واليهودية وناقشها بموضوعية وعمق في كتبه القيمة المتخصصة بذلك مثل كتابه : (الهدى إلى دين المصطفى) ؛ ويقع في سبعماية صفحة، وكتابه : (الرحلة المدرسية والمدرسة السيارة) ؛نحو ستماية صفحة ورسالته حول : (التوحيد والتثليث) ؛ وأخرى بعنوان : (أعاجيب الأكاذيب)؛  وكتاب : (أنوار الهدى) في الرد على الماديين؛  وكتاب:  (نصائح الهدى والدين) حول البهائية… ،  وكلها مطبوعة ومترجمة إلى مختلف اللغات العالمية.
وفي ايامنا هذه ؛ قال الفيلسوف الجزائري محمد أركون ، الحائز على جائزة ابن رشد  للفكر الحر عام 2003 : ” لقد أٌنشأت المكتبات والجامعات في البلاد الاسلامية، وعلماء المسلمين هم الذين حافظوا على التراث العقلاني الاغريقي والروماني القديم ، هذا التراث الذي  لم يكن غائباً عن عقول الغرب فحسب ؛ بل أٌهمل ذكره في العلوم الغربية على وجه الاجمال …” .
وفي الختام يمكن القول ان الحرية الدينية التي خيمت بسلام وأمن وطمأنينة على المجتمعات العربية والاسلامية خاصةً في العصور الوسطى ؛ كانت أحد العوامل الأساسية التي أظهرت ورعت ابداعات وعبقرية العلماء المسلمين الماثلة حتى اليوم ؛ مثل البيروني والجاهز والكندي والرازي وابن سينا والادريسي وابن باجه وعمر الخيام وابن زهر وابن طفيل وابن رشد وعلي بن حزم الاندلسي وغيرهم . وكان ذلك هو واقع الوضع العام  للحضارة العربية الإسلامية؛ فكان عدد العلماء الذين تواجدوا في الحقب الذهبية للعصور الوسطى ملفتاً للنظر؛ وانتاجاتهم وانجازاتهم كانت مدهشة للعالم المتحضر حتى اليوم .

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

تعددت تعاريف مفهوم الحرية الدينية من مجتمع لآخر ومن ديانة لأخرى ، على أن التعريف الذي يرتضيه الكاتب لمنهجية مقالته هو أن الحرية الدينية تمثل ” الشعور بالحرية في اعتناق المعتقدات والأديان دون جبر أو إكراه” ، انطلاقاً من تفسير دلالة كلمتي “الحرية والدين” من جهة ، ومن جهة أخرى من النص القرآني الذي لا يأتيه الباطل أبداً والذي حدد أهمية هذه الحرية منذ البداية بقول الله تعالى في سورة البقرة :”لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي” .
ولأنه لا يوجد مقياس عملي لتحديد شكل وواقع الحرية الدينية في العالمين العربي والإٍسلامي سوى التقارير الدولية “المؤدلجة” في أغلبها ، فان تلك التقارير ليس بالضرورة أن تعكس صورة وواقع الحرية الدينية في المجتمعات العربية والإسلامية كما هي بالفعل ، وإنما على الأرجح تعطي إشارات محددة لواقع تلك الحرية الدينية ، لا سيما أنه لا يجوز بأي شكل القبول دوما بتعميم نموذج واحد من نماذج الحرية الدينية الواردة في التقارير الأمريكية السنوية على جميع بلاد العالم . فهذا ضرب من ضروب العولمة السياسية المرفوضة .
والدراسات التي أنجزتها اللجنة الأمريكية لحرية الأديان الدولية المستقلة التي أسسها الكونغرس الأمريكي عام 1998 لرفد الحكومة الأمريكية بالمشورة حول أفضل السبل لتحسين حق حرية الفكر والدين وأوضاع الحرية الدينية في البلدان العربية والإسلامية، تشير في كل تقرير سنوي إلى وجود انتهاكات لحقوق الإنسان وحرية الدين في بلدان إسلامية وعربية معينة وتحسن لتلك الحرية في بلدان أخرى ، وهو ما يتناقض مع الوثائق الدولية التي تنص على ضرورة حماية هذا الحق في الحرية الدينية والابتعاد عن سياسة التمييز والاضطهاد الديني .
وبينت إحدى دراسات هذه اللجنة والمتعلقة بالفصل بين الدين والدولة والحريات الدينية ، أن  عدد الدول التي يسود فيها الإسلام هي 44 دولة وبعضها من الدول العلمانية التي لا تسمح للدين التدخل بشؤون الدولة ولا بالسياسة والبعض الأخر لم يفصح عن إن الإسلام دين الدولة الرسمي ، بينما تتبنى 15 دولة منها القانون الإسلامي كمصدر للتشريع .
ومن المفارقات أن يكون أكثر من نصف المسلمين في العالم يعيشون في بلدان غير إسلامية يتمتعون بحق الحرية الدينية، بينما لا يتمتع بمثل هذه الحرية أتباع الديانات الأخرى من غير المسلمين في كثير من البلدان الإسلامية .
وبعض النصوص الدستورية في الدول العربية والإسلامية لم تذكر صراحة حرية الدين والمعتقد والمذاهب كما أشارت إلى ذلك المؤسسات الدولية ، رغم اعتراف بعض تلك النصوص بان بلدانها متعددة القوميات والأديان والمذاهب .
وفي التقرير الجديد الذي أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية مطلع عام 2009م عن حالة حقوق الإنسان والحريات الدينية في العالم للعام 2008م، لاحظ التقرير وجود ثلاثة محاور رئيسية لممارسات حقوق الإنسان وحرية الأديان في العالمين العربي والإسلامي في العام 2008م، وهي:
1. تزايد الاهتمام بـ”الطلب العالمي” على قدرٍ أكبر من الحريات الفردية والسياسية.
2. وجود جهود حكومية أكبر من سابقتها في العام 2008م لدفع هذه الحريات إلى الخلف.
3. التأكيد على “حقيقة تاريخية أمريكية”، وهي أنَّ حقوق الإنسان والدين “تزدهر على أفضل وجه” في الديمقراطيات التي تشارك في عملها منظمات المجتمعات المدني.
وركَّز التقرير في تقييمه السلبي على أوضاع حقوق الإنسان في العالم العربي أو ما تسمى منطقة “الشرق الأوسط وشمال إفريقيا”؛ حيث أكد التقرير أنه لا يزال هناك تحديات جدية مستمرة لترويج الحريات في هذه المنطقة، خاصة الحريات السياسية والدينية ، إلا أنه أشار إلى وجود بعض التقدم في بعض الدول كما في العراق ومصر.
وانتقد التقرير بعض الدول العربية والإسلامية ، خاصة مصر وقطر والسودان وسوريا وإيران وباكستان وموريتانيا وتونس وأوزباكستان ، لوجود المزيد من الانتهاكات لحقوق الإنسان في التعبير عن رأيه ، والاستمرار في اعتقال الناشطين الحقوقيين والسياسيين، وكذلك الصحفيين بسبب أفكارهم. وجود قيود على الحريات الدينية؛ في إشارة إلى الأقباط والمسيحيين في مصر والسودان.
كما سلط التقرير الضوء على قيام السلطات الإيرانية باعتقال سبعة من زعماء المذهب البهائي في البلاد، كما ركَّز على إنكار الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد وجودَ الكيان الصهيوني، وكأن هذا لوناً من ألوان انتهاك الحرية الدينية !!
فيما أشار تقرير وزارة الخارجية الخاص بالحرية الدينية والصادر عام 2003م إلى حدوث تحسن بالنسبة لاحترام الحكومات للحرية الدينية في كل من مصر، وقطر والإمارات العربية المتحدة، ونوه بالإجراءات الأولية التي اتخذتها السلطات السعودية لتشجيع تسامح ديني أعظم في المملكة العربية السعودية.
وفي حالة مصر، التي تصنف بين الدول التي “تهمل مشكلة التمييز ضد الأقلية أو الديانات غير المعتمدة”، فقد أشار التقرير إلى أن هناك احتراما وتسامحا عظيمين  لأقلية مصر القبطية المسيحية.
وقد وجد تقرير عام 2003 تحسنا في احترام الحرية الدينية في قطر أيضا مشيرا إلى أن دولة قطر تبنت دستورا من شأنه توفير حرية العبادة بشكل واضح الأمر الذي  منح عددا من الكنائس الوضع القانوني. وقد أقامت قطر علاقات ديبلوماسية مع الفاتيكان وشاركت في حوار التفاهم الإسلامي المسيحي.
إلا أن التقرير أشار إلى أن الحكومة تضع قيودا قانونية على الدعوة والتبشير وأيضا على نشر واستيراد النصوص الدينية غير الإسلامية. وعلق التقرير أنه لا يوجد موظفون كبار في مناصب حساسة في الأمن القومي من الشيعة بالرغم من وجود أقلية شيعة كبيرة تقدر بين 7 إلى 12 في المئة من عدد السكان.
ولم يجد التقرير تغييرا بالنسبة لوضع الحرية الدينية في المملكة العربية السعودية والتي تصنف على إنها من الدول المعادية للأقليات أو للأديان غير المعتمدة، لكنه نوه بأن الحكومة “بدأت حملة محدودة لتشجيع الاعتدال والتسامح حيال التنوع الديني.”
ومع ذلك، فقد استشهد التقرير “بحالات متكررة استخدم فيها خطباء المساجد الذين تدفع الحكومة مرتباتهم لغة معادية لليهود والمسيحيين في خطبهم بشكل عنيف.”

خالد وليد محمود19 نوفمبر، 20101

لا شك أن الكفاح من أجل الحرية الدينية أو المعتقد الديني  قائم منذ قرون؛ وقد أدى إلى كثير من الصراعات المفجعة . وعلى الرغم من أن الصراعات حول حرية المعتقد مازالت قائمة إلا أنه يمكن القول بأن القرن العشرين قد شهد بعض التقدم حيث تم الإقرار ببعض المبادئ المشتركة الخاصة بحرية الديانة أو المعتقد. وقد اعترفت الأمم المتحدة بأهمية حرية الديانة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اعتمد عام 1948، حيث تنص المادة 18 منه على أن:
“لكل إنسان حق في حرية الفكر والوجدان والدين ويشمل ذلك حريته في أن يدين بدين ما، وحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره” .
وقد تلى اعتماد هذا الإعلان محاولات عدة لوضع اتفاقية خاصة بالحق في حرية الدين والمعتقد إلا أن كافة تلك المحاولات قد باءت بالفشل.
من هذا المنطلق؛ فإن تأطير هذه المسألة في القوانين الدولية ومنظمات حقوق الانسان كان لها اثراً على واقع الحريات الدينية في المجتمعات العربية والاسلامية وإن كان بشكل متفاوت ، ولم يأت ذلك من فراغ بقدر ما جاء  بسبب الاهتمام بالحريات التي تعرضت وتتعرض  للضغط والتأزيم بين فترة وأخرى ولا زالت مثار نقاش بين النخب والساسة وصناع القرار لتأثيرها على النسيج المجتمعي الداخلي أولاً واستقرار المشهد السياسي – الإجتماعي والثقافي ثانياً.
ونحن نعيش في القرن الحادي والعشرين بدأت الكثير من الدول في العالمين العربي والاسلامي تدرك أهمية هوية الانتماء الديني كقيمة تضيف لاستقرار المجتمع وأن غيابها وشن حروب عليها سيجعلها تنهار  أمام واقع الحاجة الإنسانية وميولها نحو الدين والعبادة والإيمان.و لم يعد الكلام عن حرية المعتقد اليوم مجرد كلام لاهوتي أو كلامي أو فقهي بالمعنى الفرداني؛ فالدين بات يمثل ركيزةً تأسيسية لصياغة وجوه الدول والمجتمعات وان أي خلل في العلاقة بين هذه الدول من جهة والمجتمع والدين من جهة ثانية فإنه يؤسس لقمعية وحشية لا رحمة فيها ولا إنسانية وهذا ما رأيناه وما نراه من تطرف الكثير من الدول في العالمين العربي والإسلامي التي أقصت الروح الدينية وحرية الممارسة للمعتقدات ؛ حتى تحولت إلى دول دكتاتورية وان تلبست لبوس الديمقراطية ،كما دفعت الجماعات الدينية إلى توسط سبل عنفية كرد على مثل هذا الإقصاء.
لذا؛ فإن حقائق الواقع وشرعة ومبادئ حقوق الإنسان وقبل هذا أو ذاك فان الشرائع والرسالات السماوية تؤكد ان الأصل في الاهتمام هو رابط الأخوة في الإنسانية وأن قمع حرية اي عزيز في هذه الأرض هو جريمة نكراء، ومواجهة مثل هذه الجرائم واجب ديني وإنساني.
ومن واقع الحرية الدينية في العالمين العربي والإسلامي يتضح لي كمراقب أن هذه المسألة وهذا الموضوع لا زال يشكل حساسية في الطرح لدى العديد من الدول العربية والاسلامية  ويبدو انها  صارت مثارًا لتوتر في في مجتمعات تلك الدول بخاصة في السنوات الأخيرة، ومثال على ذلك مصر التي تتهمها بعض التقارير الدولية التي تراقب الحريات الدينية في العالم  بـ “اضطهاد المسيحيين، وممارسة التمييز ضد البهائيين، بينما شرطتها تتحرش بمن يترك الإسلام إلى دين آخر، فضلا عن مواصلة حملات الملاحقة والإعتقال بحق أعضاء وقيادات في جماعة الإخوان المسلمين ، ومراقبة خطباء المساجد الحكومية والأهلية ،وهناك مسألة الشيعة في بعض الدول الخليجية وحقوق بعض الأقليات الدينية..الخ. فمثلا جاءت كل من مصر والجزائر والأردن وإيران في مقدمة الدول الإسلامية التي اتهمتها وزارة الخارجية الأمريكية بانتهاك الحريات الدينية في تقريرها الذي أصدرته بعنوان “الحريات الدينية حول العالم” للعام ٢٠٠٨، وأشادت فيه بكل من السعودية والعراق وأفغانستان والكويت..الا أن هناك من يعتقد أن مثل هذه التقارير التي تصدر عن مؤسسات حكومية أو منظمات دولية ترتفع حرارتها وتنخفض طبقا لحالة العلاقات مع العواصم التي تعنيها تلك التقارير.
ربما يعتقد البعض أن طبيعة المجتمعات العربية والإسلامية المتنوعة وتكويناتها سمحت عبر التاريخ بتأسيس قواعد وسلوكيات مشتركة اعتاد الناس على احترامها والتقيد بها، وفي مقدمتها احترام الآخر مهما كان معتقده ودينه؛ولكن من المؤكد أن سماحة الإسلام كدين في الدول العربية والاسلامية ساهم في بروز خاصية احترام التعدد وحرية الاعتقاد؛ لأن طبيعة الإسلام المتسامحة كانت تعطي الآخر غير المسلم حرية التعبير عن كينونته دون إكراه ولا تضييق.
ولكن اليوم وبعد أن فقد  الدين قداسته لصالح المشاريع الطائفية والعنصرية في بعض من المجتمعات العربية والاسلامية ، انحدر الكثير من الناس المسلمين والعرب من برج الدين إلى حضيض الطائفة وتلبستهم أفكارها الجامدة والضيقة، باتوا  يتقوقعون في حدود الطائفة ويرون كل من هو خارج عنها بمنظار التكفير والارتداد عن الملة، وهذا يرجع إلى ما يتركه زعماء الأديان ودعاتها في نفوس أتباعهم من تعاليم تزرع الحقد وعدم قبول الآخر؛ وهو ما ادى إلى استعمال أشد أنواع العنف والإكراه لحمل الآخر على الدخول في دينهم أو مذهبهم مما تسبب في وردة فعل الكثير من الناس  وكان لها ارتدادات و تداعيات سلبية على النسيج المجتعمي الداخلي للدول.
بلا شك أن  حرية المعتقد صانها الاسلام وكذلك الديانات السماوية الأخرى  إلا ما كان منها منافياً لكرامة الانسان وكرامة العقل.وكان لحرية المعتقد وحرية الممارسة للشعائر الدينية أثر كبير في ارساء الأدبيات المتعلقة بها والتي كفلها الاسلام ، اذ أقر الأخير حرية الاعتقاد وترك لكل فرد الحرية في اختيار عقيدته بناء على ما يصل اليه عقله ونظره الصحيح وذلك أن الاسلام جعل أساس التوحيد والأيمان البحث والنظر ، لا القهر والإلجاء، ولا المحاكاه والتقليد ، وكما هو معروف فقد جعل الإسلام لغير المسلمين الحرية التامة  في إقامة شعائرهم الدينية في كنائسهم ومعابدهم حيث أنه أباح للنصارى أن يقيموا الكنائس ويظهروا الصلبان ويسيروا بها في المواكب..الخ.
ولأن الحرية الدينية لا تتقيد إلا بما تفرضه الحقوق والحريات الأساسية للغير، فإن هذا المبدأ ينسجم مع المنطق فالحريات الفردية لا تتقيد إلا بالنظام العام وبما تقتضيه حريات الآخرين.
وعود على بدء أقول: بأن واقع حرية المعتقد في بعض المجتمعات العربية والاسلامية لازالت أسيرة لعقلية ضيقة ، تتنازعها المصالح أحياناً والأجندات الخاصة أحايين أخرى ، البعض حاول التعامل مع هذه المسألة ونجح والبعض الآخر لا زال يستخدمها كوسيلة لتحقيق مآرب والحفاظ على مكاسب ، و قد باتت الحريات الدينية والمعتقدية لدى الدول العربية والاسلامية  كلمات حق يراد بها باطل وسلاحا  من جهة تبتز به شعوبها  ومن جهة أخرى تحاول من خلاله التقرب للغرب والمنظمات الحقوقية الدولية  بالإقدام على تغييرات سطحية لا تنفذ إلى عمق المشاكل، ويظل المواطن في تلك المجتمعات  أسيراً بين الإثنين على خط النار مما ينسيه أن حرية الدين والمعتقد  تُعَدّ في الأساس من صميم حقوقه الفردية شديدة الالتصاق بالإنسان وبطبيعته وكرامته !

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

في بداية حياتي، وأنا، على مقاعد الدراسة. ما زلت أذكر اول كلمة لمفهوم الحرية التي عرفتها في نطاق عائلتي .
سالت والدي سؤالا ،إلى اليوم ما زال حاضرا في ذاكرتي .
سألته: أبي كيف نفهم القرآن الكريم؟ ونحن  نخضع في قراءته لتفسيرات  مختلفة ، تفسيرات أهل السنة، وتفسيرات أ هل الشيعة ،وكل منها يفهم، ويشرح القرآن ،بمنظوره الخاص ؟.
أجابني ببساطة : عندما تقرأين  القرآن ، فكري! ما يقبله عقلك خذيه ! وما يرفضه عقلك ارفضيه ! !.
ومن يومها، إلى اليوم .لم افهم، لماذ هذا الخلاف، المهين حول لله،و حول وجوده وفكرته، كونه، منزّلا للديانات السماوية الثلاث .
الحياةُ اجملٌ، من أن نناطح صخورها الصماء،  التي لم تجرفها التغييرات التي حدثت على سطح الارض، سواء هزات علمية أو هزات أرضيه .
ولكن، هزة الحب ،التي انفجرت في داخلي، قادتني، إلى اكثر من سؤال وإلى أكثر من صدمة .!
الزواج ،من رجل غريب: بعيد عن مجتمعي وطائفتي.
وقائع حقيقية :
في مدينة جبلة بتاريخ 25آب1986. قصدت، مع ولي امري ،انا البالغة العاقلة،الراشدة، ومع من أخترته بكامل ارادتي، إلى القاضي الشرعي، في مدينة ” جبلة” -مدينة تقع على الساحل السوري – لاتمام عقد الزواج ولكن القاضي، رفض اتمام العقد، لاسباب لم يعلن عنها.!
وباعتقادي، أن  القاضي ، بموروثه الديني وبفطرته الداخلية ،رفض هذا الزواج . وهكذا لم يكتمل العقد ، بسبب أختلاف الانتماء الطائفي . إذ لم يكن هناك اي خلل في شروط عقد الزواج .
حزن والدي ، وكانت له اسبابه، افهمها ،اليوم وأشعر بها .
المشاعر العظيمة لا تكون إلا من إنسان عظيم ، ترفع عن موروثه الديني وتجاوز الطائفة، والمذهب، ليبارك زواجي برجل من طائفة أخرى.
قالي لي: لا تخافي سنذهب إلى اللاذقية .
في اللاذقية ،قابلنا القاضي الشرعي ،مع كافة الاوراق الثبوتية والشهود .
والمفأجاة الكبرى أن القاضي، كان من طائفة اخرى أي  من طائفة زوجي “- بعكس الطائفة التي ينتمي إليها قاضي جبلة، وهي- طائفتي-، وهذا ما ساهم في تسهيل ا لأمور ،التي تعقدت في جبلة.
وعلى باب القصر العدلي في مدينة اللاذقية، أخذني أبي بين ذراعيه، وقال لنا:أرجو من الله أن يكون زواجا كنسيا .. !!
ضحكنا وبكينا، فالحب طار بنا، فوق الطوائف، ومن فوقٍِِِ ننظر إليها بعيون ابي الذي ترفع عنها، وقال: “الطائفية ستموت يوما ما” .. !!
الدين خّناق الحب :
اسئلة كثيرة بدأت تنهال عليّ!!
لماذا الزواج من رجل من غير طائفتك؟
الم تجدي في كل رجال الطائفة من يصلح زوجا لك؟
وأصبحتُ مثلا تضربٌ به الأمثال، ويشار له بالبنان  “اللي ما بياخد من “ملتو بيموت بعلتو ”
وطبعا هذا من امثال العامة يستخدمونه في حياتهم اليومية، لمن يعتبرونه  قد خرج ،على رأيهم ومذهبهم. !
فرحنا بالاولاد ، وبالحب الذي لا يزال يقف على قدميه، وما زلت أذكر المواجهة التي تعرض لها أهلي، وكانت أجاباتهم كحد السيف ،والاسئلة التي لا تنقطع الموجهة لأهلي ، ألم تجدوا غير هذا”السني تزوجوه لأبنتكم.”
وكا ن الجواب دائما :
” افضل ما في هذا الرجل إنه سني ّ”.
وللصدق والحقيقة ، خلال سنوات حياتي، التي قضيتها ،وانجبت فيها الاولاد لم يكن الدين، رابطا مهما في علاقتنا ، لم نتعرف إليه كفكرة تفرقنا.
ديٌننا ، الحب والتفاهم، وحتى في ساعات الخلافات المتوقعة بين الزوجين لم يكن احدنا يتطرق إلى دين الاخر .
ولقد كان “أبن عربي “عزائي في حياتي، تعلمت منه الحب كما تعلمته من أبي الذي كان يردد دائما ،وما زلتُ من بعده ارددُ :
‏ “أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني‏ .”
لقد عشنا حياة متقلبة في محيطنا .كنا بين طرفي طائفتين، لا تحملان غير ، التخلف الفكري، ولم ينجو أولادي من ثقل هذا الموروث.
كانوا، لا يفهمون، الاجابة عن أسئلة توجه إليهم، من الاصدقاء والزوار والمعارف :
هل أنت سني؟
أم علويّ؟
وهكذا مضت حياتي بين أولادي والمجتمع ،كفراشة كلما اقتربت من الناس احترقت  .ولكنني كنت أقوي نفسي ، وأقول: زوجي “سني” وأنا “علوية” وهذا لا يفسد للحب قضية.
الفتح الجديد :
هنا في نيوزلندة، وجدت الطائفية على أشدها، وكم كانت رحيمة  في سورية، تجاه العرب والمسلمين ،المهاجرين ، من مختلف الدول .خليط بائس،من عقول واجساد، حملت كل مصائبها، و حطت رحالها في بلاد الفتح الجديد، “بلاد الصليبين” كما يسمونها ،ويعتبرون، ما يتقاضونه، من حقوق ومنافع حقٌ لهم “كالجزية “التي كان يدفعها النصارى في زمن الرسول.
هنا وجدنا الغربة الحقيقة ،في نيوزلندة . الغربة الاجتماعية. فالعرب منقسمون على ذواتهم .كل حسب طائفته. وباعتقاده ،انه يحافظ على ثقافتة ومعتقداته في التماسك الطائفئ ، فالشيعة لهم نظامهم، والسنة، ايضا لهم نظامهم وكل منهما حريص ان يبتعد عن الآخر وان لا يتشاركا في ما وحّد الله ويجمع بين البشر من صيام وصوم وصلاة وكل انواع العبادة وكأنهم على” مبدا فرق تسد” .
ولم يكن هذا حصرا ، على المسلمين وحدهم ،وإنما الجاليةالمسيحية أيضا بكل طوائفها .!
ما زلت، مع عائلتي الصغيرة، غير قادرة على الانسجام مع كلا الطرفين وللحق يقال هم بيعدون عنا، ولايريدون، الأقتراب منا ،او التقرب إلينا .
ما أحوجنا اليوم الى “ابن عربي” . ما أحوجنا إلى رسالتة الانسانية الخالدة التي حملها من الاندلس. وطار بها  فوق السحاب، والبشر، ليوزع الحب على القلوب .
ما احوجك أيتها ،ا لاديان المتفرقة ،أن تنشدي مع ابن عربي اجمل ما قالته البشرية :
“وقد صار قلبي قابلاً كل ملة فمرعى لغزلان ودير لرهبان‏ ”
“وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن‏ ”
الطيران، فوق الاديان والطوائف والمعتقدات،هو، حلم الطيور، ايضا تذهبُ جماعات ،وتعود جماعات، في هجرتها، صيفا وشتاء وربيعا . لا يهمها إلا، العلو. هذا العلو، الذي اراه في الخالق الاعلى ،الذي أعلم أولادي ، الارتفاع ،والسمو إليه .!
المنفى ضياع حقيقي ،ضياع للهوية ، وللانتماء فنحن في نظر السكان الاصليون مهاجرون وبحسب الجاليات ، المسلمة،وغير المسلمة ، غرباء عنها .!!
وهكذا خلقت لنا الهجرة، ضياعا مزدوجا.
ما زالت الروح، في داخلي تصعد إلى  السماء. تخاطب ربا واحدا لأديان عدة ،ومتعددة ،ومتفرقة .!!
حريتي طائرٌ منتوف الريش، سقط بأحلامه على أرض الواقع ليجد نفسه حائرا في زحف هائل من الأفكار والمعتقدات البالية التي تسيطر على الحياة وتسيّرها .
حريتي، حلمٌ قاصرٌ، لأنني لا أملك الاجابة على سؤال حقيقي يطرح عليّ : امي .. امي  أنا سني ّ ؟أم علوي ؟
اضحك واضحك .. وأجيبه لك أن تختار يا بني .. !!
فالاجابة  مستحيلة ، وقد تكون كاذبة أما م ما يتجلى اليوم في حال واقعنا العربي ، من مناحرات  طائفية وعنصرية وحتى عرقية تمتد من لبنان إلى سورية إلى العراق . !!
مهما علمنا أولادنا الطيران، ومهما علونا، وسمونا، لابد أن نسقط على صخرة أسمها “الدين” وما يتفرع عنه من شقاق ونفاق في مجتمعاتنا العربية منها والاسلامية .
ما أحوجنا اليوم، الى  الشعور، باهمية الحب ،في الاديان .
باطنها واحد، وظاهرها واحد،ولكن، فرقة ، النفوس، والعقول، اخذتنا في مهاوي التفرقة والطائفية .
.وما زلت أومن بان الدين هو” افيون الشعوب” ولا بد علينا أن نتخلص من هذا المرض ونداويه بالحب  ، بالحب الانساني!
أحلامي ترفرف ،عاليا ،عاليا ،واحمل صغاري على ظهري ارفف بهما في الفضاء .
طائرٌ انا لا أجد دينا للهبوط إليه .!!
وفي نهاية المطاف والحب يملؤني ، اشعر بانني على مدار حياتي، تحررت من عبء  الدين، ومن عبء الشعور بالزواج من رجل من غير طائفتي .
اشعر انني اقرب الى الله ،وروح الدين، التي تتمثل بابن عربي.

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

تأتي مادة الحرية الدينية في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان استجابةً للتطور الفكري للإنسان واستخلاصا للتجربة البشرية المتراكمة عبر المكان والزمان.من الضرورة هنا أن نشير إلى أن مصطلح الحرية الدينية ومفهومه الحديث لم يكن مستخدما في القرون الوسطى ,إلا أن ذلك لا يعني غياب الظاهرة وتجلياتها وتداعياتها. بل على العكس, فإننا نرى في المشهد الإسلامي القروسطي غنىً و تنوعاً يجعله خير موضع للدراسة والبحث والتحليل واستخلاص العبر والقوانين ويتطلب ذلك ملجدات ومجلدات.ولكنني سأكتفي هنا بتحليل ثلاثة نقاط:ما هو موقف القرآن/”الإسلام النصي” من الموضوع؟ وما هو موقف “الإسلام التاريخي” أو ما استقر عليه فهم المسلمين البشري للنص الإلهي في تلك الحقبة التاريخية؟ وكيف كانت ممارستهم العملية لهذا المفهوم؟ سنستعرض للموضوع بجانبيه: موقف الفرق الإسلامية فيما بينها (الآخر الملي) وموقفهم من أتباع كل الديانات الأخرى (الذمي).أما المعالجة فهي إجمالية للظاهر والأعم.
شكلت الدعوة الإسلامية المبنية على القرآن ثورةً في القرون الوسطى ,من حيث النظرة القرآنية المتميزة للإنسان والكون والله والمتقدمة بأشواط كبيرة على سائر الكتب الدينية والدنيوية.ومن أهم منجزات هذه الدعوة هي تقديم نظرية حية لما يصطلح عليه الآن ب “المجتمع المدني” من حيث حقوق الفرد والحريات والمشاركة والتعايش بين المجموعات القبلية والدينية والعرقية المختلفة,والتعاقد والتكافل.ولعل أبرز ما يميز القرآن هو تشديده على قيمة الحرية الإنسانية ومن بينها حرية الإيمان,كنتيجة حتمية للحكمة الإلهية التي تقضي بتكليف الإنسان العاقل وتقريره مصيره بنفسه في الآخرة بناءا على خياراته في الدنيا:”لا إكراه في الدين,قد تبين الرشد من الغي” “وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”.
فقد اعتمدت دعوة الرسول على معجزة الكتاب ذو الأساليب البلاغية والحجج المنطقية والقيم الإنسانية و البراهين الدامغة,وكانت طريقته من جنس أدلته: “أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن”.وطالما أنه قد ظهر الحق,فلن يضره إيمان من آمن ولا كفر من كفر,فالمسألة شخصية بامتياز إذ يقول تعالى:” إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق, فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها,وما أنت عليهم بوكيل”.وتتكرر الآيات القرآنية التي يحجب فيها الله عن رسوله صفة الرقابة الدينية عن كل الرافضين لاعتناق دينه,فلله وحده الحق في حساب الناس والقضاء بينهم يوم القيامة ولا شأن لأحدٍ بمحاكمة إنسانٍ على دينه في دنياه.وبما أنه اعترف لهم بحقهم بالوجود و الاختلاف وممارسة دينهم كما يريدون,فإنه قبل عضويتهم في المجتمع وفرض لهم حقوقا طالما أنهم راغبون بأن يكونوا جزءا من المجتمع المسلم,إذ يقول تعالى:”لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم,إن الله يحب المقسطين”.هذه هي رؤية الإسلام النصي للحرية الدينية التي عاشها العهد النبوي.
في الجانب الآخر,لم يكن الناس في العصور الوسطى مؤهلين كفايةً لاستيعاب كافة تداعيات النقلة النوعية التي أحدثها الإسلام.فصاغوا فهماً إسلامياً على قدر عقولهم يوافق أوضاعهم ورؤاهم السياسية والاقتصادية-الاجتماعية  في تلك الفترة التاريخية, وذلك ما نسميه “الإسلام التاريخي”. ويبدو هذا جليا من خلال فشل تجربة الشورى والحرية السياسية التي أقرها القرآن وكرسها رسول الله عندما مات ولم يستخلف من بعده,فدب القتال بعد 25 سنة من موته وعادت القبلية من جديد تنافس المجتمع المدني الذي تركه النبي,وتحولت الخلافة إلى ملك.
وفي خضم التجاذبات السياسية, كان لا بد للآراء السياسية أن تتحول لاحقاً إلى آراء دينية,تغذي السياسة وتحميها والعكس صحيح. وبدأت “صناعة الدين” بتحجيم القرآن ابتداءاً من أدلجة التفاسير و صناعة الحديث واستعماله كسلاح سياسي, وصولاً إلى إضافة مصادر تشريع بشرية جديدة تنافس القرآن في سلطته : فبعضهم يشرع القياس وآراء الصحابة والشرائع السابقة والإجماع, وبعضهم يشرع أقوالا ينسبها لأئمة معصومين, يأمرون وينهون كالله في كتابه.فتعددت مصادر استسقاء الشريعة بنسب متفاوتة بين الفرق الإسلامية, رغم تحريم الله لذلك في عدة آيات قرآنية.
والمثير للاهتمام أنهم وبالرغم من اختلافاتهم السياسية والعقائدية,اتفقوا على تشريع حكم جديد اسمه “حد الردة” ,حيث يجوزون إكراه من ولد لأبٍ مسلمٍ على أن يكون معتنقاً لهذا الدين,وإلا فمصيره القتل.إذ أنه ليس من حقه الكفر أو الخروج عن الدين بخلاف من ولد من أتباع الديانات الأخرى,إذ يحق له أن يختار ما يشاء من عقائد بحرية تامة.والواقع التاريخي يثبت أن هذا الحكم إنما استخدم لتكفير بعضهم البعض لأسباب سياسية بالدرجة الأولى وليس إزاء أشخاصٍ تركوا الإسلام فعليا.ولم يقف الأمر عند هذا الحد النظري,فإن تكفير المسلم في نظرهم يستدعي استباحة دمه وماله بخلاف الكافر الأصلي المقيم في المجتمع المسلم.ومن هنا تبدو المفارقة في الحرية الدينية:تعصب مقيت بين الفرق الإسلامية إزاء الآخر الملي, وتسامح لا مثيل له في القرون الوسطى, إزاء أتباع الديانات الأخرى.
لكن مجتمعات القرون الوسطى لم تفهم مبدأ الحرية الدينية كقيمة إنسانية معزولة عن السياسة والنظام والسلطة,فكفلوها لكل الكفار وأنكروها للمسلم.وأعتقد أن السبب في ذلك هو الاعتقاد بأن الكافر هو أصلا خارج مفهوم الحقيقة والنور الذي نزل,وبالتالي فلا يضر سواء بقي على دينه أم أسلم أم اعتنق ديانةً أخرى أم ألحد.أما المسلم المخالف فهو منافس في تعريف هذه الحقيقة وامتلاكها واحتكارها, وبالتالي فإن القضاء عليه أسهل من فتح باب هذه المنافسة,لذلك فالخصومة هنا أشد.حقا,من العجيب أن نعلم أن صلاح الدين الأيوبي,ذاك القائد العظيم, قد أرسل طبيبه الخاص لمعالجة ريتشارد قائد الصليبيين الذين فتكوا بالمسلمين واحتلوا بيت المقدس,ذاك القائد هو نفسه الذي أمر بقتل الفيلسوف السهرودي.من العجيب أن كلاهما سني شافعي,ولكن السهرودي ذو ميول صوفية اشراقية تستوجب القتل عند صلاح الدين.
كذلك,فإن الأقليات الدينية سواء كانت مسيحية أو يهودية أو صابئة أو هندوسية,تبقى أقليات مهما ارتفع شأنها فلن تصبح يوماً على رأس الهرم.أما الآخر-الملي ,فإنه متى ما استحكم وقويت شوكته,صار مرشحا لاستلام السلطة واضطهاد الفرق الأخرى من ملته.ومثال على ذلك ما فعله أمير العراق خالد القسري.بنى لأمه المسيحية الرومية كنيسةً كي تتعبد وذويها فيها.بينما هو نفسه الذي نحر يوم العيد أخيه المسلم الجعد بن درهم,فقط لأن مذهب الأخير يخالف أيديولوجيا النظام الحاكم. والتاريخ يشهد بأنه كلما زادت السلطة في إضطهاد فرقة ما,كلما زادت هذه الفرقة في جرعة تسييس الدين.وكلما تدخل النظام بالشؤون الدينية,كلما تقلصت الحرية الدينية.وبعيدا عن الدوائر السياسية,فإن المثقفين من كل الفرق الإسلامية كانوا يتنقلون بين المذاهب ويتجادلون ويتناظرون بحرية وتسامحٍ كبيرين.أما أهل الذمة من سائر الأديان,فقد ظلوا يتمتعون باستقلال داخلي يضمن لهم تطبيق شريعتهم لدرجة أنهم كان يسمح لهم بما هو محرم على المسلمين.وقد كانوا مصانين أيضاً في دمائهم وأموالهم وأعراضهم,ينافسون المسلمين في المناصب الإدارية والتربوية والعلمية والثقافية.
وأخيراً,وتأكيداً لما نظّرت له,أقول: إن البنيان السياسي الاجتماعي الذي سمح لليهود بتكوين عصرهم الذهبي في الأندلس,هو نفسه الذي سمح بإحراق بعض كتب ابن حزم الأندلسي ,حتى قال:
فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي    تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي              وينزل إن أنزل ويدفن في قبري

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

لقد كانت مشاهد تراجيدية و مؤثرة تلك التي شهدها ميناء الدار البيضاء في الستينات من القرن الماضي عندما كانت أفواج من اليهود تغادر المغرب في اتجاه فرنسا أو كندا أو إسرائيل. حالات من التمزق و البكاء على فراق وطن عاش فيه أجدادهم منذ قرون، على الأقل منذ دفعهم التعصب الديني و محاكم التفتيش إلى مصاحبة المسلمين إلى شمال إفريقيا. إنها لمفارقة غريبة حقا هذه التي تجعل أناسا يحزنون لمغادرة بلد عاشوا فيه كأقلية دينية وسط أغلبية ساحقة من المسلمين. هل كان شعورهم مثل أي يهودي في القرون الوسطى لا يعتقد أن بإمكانه العيش في دار أخرى غير دار الإسلام كما يقول الكاتب الفرنسي جاك أتالي على لسان بطل روايته التاريخية “زاوية المستنيرين”؟  هل مجرد شعور الحزن هذا الذي صاحب رحيلهم يعطينا الحق في الجزم أنهم عاشوا في وضعية جيدة بين المسلمين؟ هل تواجد المسيحيين و اليهود بكثافة  في الشرق الأوسط و شمال إفريقيا يدل على أنهم تمتعوا بحرية كاملة في المجتمع الإسلامي الذي عاشوا فيه؟
إن الإجابة عن هذه الأسئلة تتطلب تحليلا دقيقا و موضوعيا لوضعية الأ قليات الدينية و هامش الحرية الذي تمتعوا به في المجتمعات الإسلامية في القرون الوسطى.
أهل الديانات الأخرى في التشريع الإسلامي
إن الإسلام يقوم على مبدأ نشر الدعوة أي دفع غير المسلمين إلى اعتناقه. .لكن و في مقابل ذلك أقر وضعا خاصا لأصحاب الديانات السماوية الأخرى من النصارى و اليهود و الصابئة.  فاعتبر من عاش بينهم تحت حكم المسلمين أهل ذمة.  أي  أولئك الذين أعطوا العهد من طرف الدولة الإسلامية على حماية عرضهم و دينهم و مالهم مقابل ضريبة يدفعوها لبيت مال المسلمين تسمى “الجزية”. ويدهب البعض إلى أن هذه الضريبة هي تمييز في حق أصحاب الديانات الأخرى وإمعان في إذلالهم بعد استيلاء  المسلمين على أراضيهم.  في حقيقة الأمر إن الضريبة التي كان يدفعها غير المسلمين من اليهود و النصارى كانت تعفيهم من أداء فريضتين من الفرائض الواجبة على المسلمين و هما الجهاد و الزكاة. وإذا أخذنا بعين الإعتبار كيف كانت الحروب أمرا شائعا في القرون الوسطى و ما تشكله المشاركة فيها من تهديد حقيقي على حياة الإنسان فإن الإعفاء من هذا الأمر لا يقدر بثمن.  و قد دهبت بعض المصادر إلى أن أفراد القبائل اليهودية والنصرانية ممن حاربوا في صفؤق المسلمين قد أعفوا من أداء الجزية.  و نذكر في هذا الصدد حالة أهل الحيرة الذين كانوا يعتنقون النصرانية و كانوا يعيشون على حدود الدولة الإسلامية مع الروم، فعندما جمع هرقل الجيوش لحرب المسلمين الذين لم يقووا على حربه في هذه الفترة أمر الخليفة ولاته برد أموال الجزية إليهم.
أما عن حرية أهل الذمة في ممارسة شعائرهم الدينية فصحيح أنهم لم يكونوا يتمتعوا بالحرية الكاملة في بناء الكنائس و البيع فإنهم كانوا يتوفرون علي  قدر معقول من الحرية في أداء فرائضهم الدينية.  كما حا فظت الدول الإسالامية المتعاقبة على الكنائس التي ظلت قائمة منذ قرون لكي تقام فيها شعائر المسيحيين.
و قد يبدو هذا الأمر عاديا إذا ما قارناه بالبيئة المتسامحة للديمقراظيات الغربية الحالية لكن إذا عدنا إلى دولة دينية كتلك القائمة تحت حكم الملوك الكاثوليكيين في إسبانيا خلال القرون الوسطى لوجدنا كل المساجد قد تحولت إلى كنائس بعد استرجاع المسيحيين للأندلس.  ناهيك عن تنصير اليهود و المسلمين و طرد من رفض منهم إلى شمال إفريقيا.  و على النقيض من ذلك نرى كيف أن استرجاع المسلمين للقدس على يد صلاح الدين لم يغير المعالم المسيحية للمدينة التي لا تزال قائمة لحد الآن.
الوضعية الإجتماعية و السياسية لليهود و النصارى داخل المجتمعات الإسلامية في القرون الوسطى
في البداية لا بد من الإشارة إلى أنه كانت هناك قواعد مجتمعية يمكن اعتبارها تمييزية في حق اليهود و النصارى. و هي أقرب إلى العادات و التقاليد منها إلى التشريعات و النظم. و من ذلك أن منازل أهل الذمة لا يجب أن تتجاوز في  العلو منازل المسلمين كما يمنع عليهم البناء قرب المساجد.  و من أجحف هذه التقاليد في نظرنا تلك التي كانت تلزم اليهودي بالنزول من فوق دابته إذا مر بجانبه مسلم.
إذن فأهل الذمة لم يكونوا يوما رعايا متساوي الحقوق و الواجبات مع باقي أفراد المجتمع من المسلمين. لكن وبدون شك فإنهم تمتعوا بهامش من الحرية يعتبر الأكثر جرأة في مجتمعات القرون الوسطى حيث كان الإستيلاء على الأراضي وتهجير ساكنيها أمرا شائعا.  و يتضح هذا الأمر جليا في المقولة التالية للمستشرق المعروف برنارد لويس :” إذا ا قارننا بين الإسلام  النظري و التطبيقي و الديموقراطيات الغربية الحالية فإن نتائجه ستكون باهتة لكنه سيتفوق بسهولة على المجتمعات المسيحية التي سبقت التطور الديموقراطي في أوروبا. ليس في الإسلام ما يشبه أفكار الإدماج و القبول التام بالآخر لكن ليس فيه أيضا ما يشبه ا لطرد الجماعي لليهود و المسلمين و محاكم التفتيش في إسبانيا انكاتوليكية”.  لقد كان أفراد الأقليات الدينية هم الضحايا الأوائل لأعمال النهب و التخريب التي عادة ما تصاحب الفتن و القلاقل. لكن و في فترات الإستقرار السياسي كانو ا يعيشون بسلام وسط المسلمين. أما في فترات الإزدهار المتميزة في تاريخ الحضارة الإسلامية كالخلافة العباسية ببغداد و الأموية بالأندلس، فهناك شبه إجماع بين المؤرخين على نشوء بيئة حفزت على الخلق و الإبتكارفي مجالات العلوم و الآداب. بيئة شارك فيها غير المسلمين من اليهود و النصارى فألفوا الكتب و مارسوا التجارة و ا حتلوا المناصب العليا في بلاط السلاطين.
فهذا الفيلسوف اليهودي موسى ابن ميمون  الذي ولد في قرطبة و عاصر ابن رشد و سار على نهجه في شرح أرسطو و التقريب بين الفلسفة و الدين، لكن مصيره كان أفضل منه حين هاجر إلى مصر و أصبح الطبيب الخاص للسلطان صلاح الدين.  وفي عصر الخلافة الأموية في الأندلس أصبج اليهودي حصداي ابن شتروت الطبيب الخاص و المستشار الأول والمكلف الفعلي بالعلاقات الخارجية و ا اتجارة في بلاط عبد الرحمن الناصر. أما المسيحيون فقد برعوا في عهد الدولة العباسية في ترجمة كتب الإغريق من اليونانية إلى السريانية إلى العربية وقد كانت أهم مراكز الترجمة بالموصل و الرها وقنسرين. أما المترجمون المسيحيون قكان من أشهرهم إسحاق ابن حنين و متا ابن يونس و يوحنا ابن البطريق.
إن هذا الموضوع يجر نا إلى الفترة الراهنة و إلى نقاش عقيم غالبا ما يدور بين الإسلاميين و العلمانيين. ففي الوقت الذي يعتمد فيه الإساميون على قراءة انتقائية للتاريخ الإسلامي تركز على الفترات الزاهرة فيه، لا ينصف العلمانيون الإسلام بالإصرار على مقار نته بالديمقراطياث الحديثة و ما تمنحه من مواطنة كاملة للأقليات الدينية.  و الحقيقة تبقى بين هذين النقيضين، فعلي المسلمين أن يعتزوا بهامش الحرية الذي وفرته الدولة الإسلامية لليهود و النصارى في القرون الوسطى و في نفس الوقت  يجب عليهم أن يعملوا على رفع كل أشكال الحيف و الميز التي تطال أفراد الأقليات الدينية بل يجب الاتجاه نحو تحقيق مساواة كاملة في الحقوق و الواجبات بين كل المواطنين. إن خلق بيئة تتسم بالتسامح و الحرية و التعددية لكفيل بإعادة روح الخلق و الإبتكار و الإبداع إلى المجتمعات الإسلامية.  روح قد تساعد على إطلاق د ينامية اقتصادية تخرج البلدان الإسلامية من براثين التخلف و تدفع بها نحو إرساء دعائم تطور اقتصادي و سياسي.

peshwazarabic19 نوفمبر، 20101

رغم تأكيد وتشديد الشرعة الدولية لحقوق الإنسان على حرية المعتقد فضلا عن حرية التعبير، كما يتجلى في المادتين الثامنة عشر والتاسعة عشر من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إلا أن الأنظمة السياسية الحاكمة والأنظمة الثقافية والدينية السائدة لا تزال تتوجس الخطر والريبة في كليهما، فكما أن حرية التعبير عن العقائد والأفكار ستهدد استقرار السياسي المرتجف، فإن حرية المعتقد ذاك الاعتقاد الباطن الساكن، الذي لا يمكن لغير صاحبه الحسم به أو السيطرة عليه، سيهدد مستقر القداسة السائد الذي تدين به الجماعة الثقافية الغالبة!
ليست الشرعة الدولية وحدها التي نصت على حرية التعبير والمعتقد، بل إن الطبيعة الإنسانية والسنن الحضارية والتاريخية، تؤكد عليها كذلك، وهما حرية مقدسة لا يعني اغتيالها إلا حياة نيرانها، وكم من عقائد انتصر لها الحكام ماتت واندثرت حيث لم تقو على مصارعة الزمان واختباراته، وكم من عقائد انتفض ضدها الحكام ورجال الدين لكنها انتصرت ولم تنهزم أمامهم، وظلت شاهدة على من صلبوا أصحابها أو كفروهم أو رموهم بما شاءوا..
إن التاريخ والزمن هما المختبر الحقيقي للأديان والمعتقدات، وليس يجدي قمعها أو وأد ممثليها، فقد قتل مزدك ولكن لم تمت المزدكية بموته ولكن ماتت بفعل التاريخ الذي لم تصمد بنيتها وحيويتها في وجه حياته وحركته، وحورب الأنبياء والمرسلون دائما، وقتل كثير منهم ولكن لم تمت الأديان بموتهم بل انتشرت وسادت ودبت فيها الحياة، لأن حيويتها كانت الأقوى والأقدر على فعل التاريخ وكان عمرها أضعافا لا تنتهي من أعمار جلاديها!
ربما كان لا بد من هذه المقدمة قبل الدخول في موضوعنا حول الحريات الدينية في العالم العربي، والذي نرى أنه قد غدا ذا أهمية خاصة بعد صعود مسألة التحولات الدينية كأبرز أشكال الاحتقان الطائفي في بلد كمصر في العام المنصرم سنة 2008، وخاصة في التحولات من الإسلام إلى المسيحية أو العكس،  كما شهد العامان الأخيران استقطابا واحتقانا في العلاقة بين السنة والشيعة الإمامية، الطائفتين الأكبر بين المذاهب والفرق الإسلامية المعاصرة، نتيجة ما نسبه الدكتور يوسف القرضاوي، المرجعية السنية الصاعدة في الأعوام الأخيرة عبر قناة الجزيرة، لحكومة الثورة الإيرانية، التي احتفلت في فبراير سنة 2009 بمرور ثلاثين عاما على قيامها، بممارسة ما دعوه التبشير الشيعي، وهو ما لم يقف عند التبشير الفردي في بلدان ذات أغلبية سنية شأن مصر وقطر وغيرهما، بل يراه البعض الآخر تبشيرا منظما في بلاد كسوريا، التي ترفع النخبة العلوية الحاكمة فيها شعارا يراه البعض ميلا وشرعنة للتشيع والاستبصار، أي التحول من السنية إلى الشيعية، وهو شعار عودة الفرع إلى أصله، أي عودة العلوية النصيرية إلى أصلها الشيعي الإمامي، وهو ما يتزامن مع شراكة سياسية بين النظامين الحاكمين في البلدين!
هكذا يتعمق النقاش ويمتد حول مسألة الحريات الدينية ليكون استقطابا بين الأديان( المعرفة) وبين السلطة،  لتغدو المعرفة سلطة والسلطة معرفة، ولكل نزوع نحو الهيمنة والتوجس من الحرية الدينية وتحديدا حرية المعتقد، وحرية التعبير عنها، هذا التوجس الذي لا يناسب تطور الدولة الحديثة ولكن يمكن رده إلى خوف القبيلة على حرمها أو العذراء على بكارتها، ليس أكثر..
إن الصحة والياقة السياسية والمجتمعية لنظام سياسي أو مجتمعي أو ثقافي ما لا تمكن قراءتها إلا في مرآة استيعابها الاختلافات داخل وحدتها، وكذلك السماح والتسامح تجاه الحركة التفاعلية بين هذه الاختلافات، دون التقييد والتسفيه والاتهام لأحدها، أو التحريم والتجريم لآخر، وعيا وتأسيسا على حق تاريخي وطبيعي أن المرء والجماعة تعتقد ما تراه أفضل لها، ولا يمكن إجبارها على اعتقاد لا تعتقده، فلا سلطان على القلوب، إلا لمن يملك وما يملك القلوب! من هنا نرى أن الآية القرآنية” لا إكراه في الدين” لا تحدد سبيل الدعوة فقط ولكن تقرر حقيقة واقعية أنه لا يمكن إكراه أحد على الدين.. فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، هذه هي الحقيقة وغيرها هو الاستثناء.
وكم من مؤمن بدين يظن من أتقيائه وليس يبطن سوى عدائه، وكم من مستقيم على طريقة انقلب عليها وخرج عنها، عرفناه في تاريخ كل الأديان، كقصة السامري المشهورة في الكتب الدينية، وقصة يهوذا الإسخريوطي، وقصص في صدر الإسلام كقصة عبيد الله بن جحش أول المتنصرين من المسلمين، أو الرجال بن عنفوة أول المرتدين في بني تميم ومناصر مسيلمة الكذاب، بعد أن شهد له وفتن الناس بشهادته.
وعلى رجال الدين ألا يكابروا بكونهم حراسه فالدين يحرس نفسه، وقوته من داخله وليست خارجة عنه، فالأديان تنتصر وتنهزم بقوانين الأديان وليس بقوانين الدنيا، وكم من أصحاب دين هزموا ونكل بهم ولكن انتصرت أديانهم ومعتقداتهم وهم شرود في الأرض يبحثون عن ملجأ، فلم يعتنق قسطنطين( 272-337 ميلادية) المسيحية بقوة المسيحيين، ولم يضطره أحد إلى إصدار مرسوم ميلانو سنة 313 ميلادية قاضيا على أشكال اضطهادهم خوفا منهم، كما لم يعتنق المغول في القرن الثالث الميلادي أو السلاجقة في القرن الحادي عشر الإسلام لقوة المسلمين لغلبتهم، ولكن طواعية لما رأوه في هذا الدين من مناسبة واقتناع لهم، كما يلاحظ السير توماس أرنولد.
يروى ابن كثير في أحداث عام 622 هجرية أن طغرلبك حاكم الموصل أمر ابنه بالتنصر من أجل تزويجه بأميرة انطاكية المسيحية وضم المملكتين، أو إسلام أحد ملوك الصرب غزلا للعثمانيين، ولكن لم يسلم الصرب! إن للأديان قوانين لا يمكن السيطرة عليها أو توجيهها بأدوات القوة والملك، لأنها اعتقاد مبطن في القلب، يختاره صاحبه ولا يمكن خلعه منه إلا إذا كان سهلا خلعه أو هينا اعتقاده دون اضطرار!
كم من داعية للإسلام انقلب حاله فصار داعية للمسيحية، شأن الأب ميخائيل منصور ت 1918، وكم من مبشر بالمسيحية صار داعية للإسلام شأن الفرنسي إبراهيم أحمد والكندي جاري ميلر، وكم من يهودي أسلم ونافح عن الإسلام طواعية شأن عبيد الله بن سلام و محمد أسد، وكم من آخرين أظهروه ولم يبطنوه مثل أتباع شبتاي صبي( يهود الدونمة)..
إن حوادث التاريخ ملأى بحالات التحول والحوار الديني والمذهبي، وهناك أسماء كثيرة دالة على ذلك في التراث العربي والإسلامي، مثل ليون الإفريقي وابن زرعة الفقيه وحبييب بن الأشرس وغيرهم، وإنكار مثل ذلك إنما هو منطق القبيلة لا منطق التاريخ!
كما شهد مسجد المنصور في القرن الرابع الهجري جدالا منتظما بين أنصار ورموز المذاهب والأديان المختلفة آنذاك، فكان يجتمع المسلم والمسيحي والمجوسي واليهودي والصابئي في المسجد يتبادلون الحجج والبراهين دون تعصب أو تزمت أو كراهية!
بل نزيد ونقول أن بعض منتقدي الإسلام وأشد مناوئيه شأن منصور بن سرجون المعروف بالقديس يوحنا الدمشقي ت 947 هجرية صاحب أول كتاب في نقد القرآن وهو ” الهرطقات المائة” لم يكن سوى صديق مقرب من البلاط الأموي كما كان والده وزيرا لمعاوية بن سفيان!
أمثلة كثيرة يمكن أن نسوقها تؤكد على أن الحرية الدينية حق طبيعي ومعيار للسلامة المجتمعية والمواطنية وتاريخ طويل أريد له النسيان والاستبعاد في الدولة العربية الحديثة!!.

peshwazarabic19 نوفمبر، 20101

كثيرا ما يتم تصوير المجتمع العربي الإسلامي في العصور الوسطى، من قبل المؤرخين العرب الكلاسيكيين ومن قبل علماء الدين، على انه نموذج المجتمع القائم على التسامح والحريات الدينية،حيث يضربون المثل، عن قصص التسامح هذه، ومع أن الأمر لا يخلو من بعض الحقيقة، ولكن لا نظن أن صور التسامح الديني آنذاك، قد تطورت إلى مستوى الحريات الدينية، ولذلك يجب عدم المبالغة في الحديث عن الحرية الدينية التي سادت مجتمع دولة الخلافة، لأنها كانت حرية جزئية وانتقائية ونسبية، فرضتها الظروف التي رافقت الدعوة الإسلامية في مختلف مراحلها. فالدين الإسلامي إلى جانب روحانيته اعتمد منذ بداياته على التنظيم والفكر السياسي، وقد اشتغل المؤسسون الأوائل على التكتيك والاستراتيجيا آخذين بعين الاعتبار الظروف الموضوعية التي تؤثر في اتخاذهم القرارات المصيرية أو تبني المواقف من المسائل الهامة التي واجهتهم، ومن هذا المنطلق حددوا مواقفهم من مسألة الحريات الدينية. فعلى الجانب النظري مبدئيا وردت نصوص شرعية تعترف بالحرية الدينية ” ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين” ومن هنا جاءت مقولة لا إكراه في الدين، التي تؤكد الحرية الدينية، فهل اقروا الحرية الدينية عن قناعة أم كانت نتيجة ظروف معينة تطلبت التساهل مع غير المسلمين.
من خلال تتبع مسار الدعوة الإسلامية يمكن ملاحظة حركية موقف العرب المسلمين، من الحرية الدينية، الذي لم يكن أكثر من تكتيكات مرحلية، وضعت لخدمة الأهداف النهائية، ولهذا نجد بعد اشتداد عود الدعوة، خروقات كثيرة للحرية الدينية، على صعيد الواقع، وهذا يعني أن الحرية الدينية لم تأتي من إيمان وقناعة بل كانت مناورة سياسية – عسكرية لا بد منها، فقد ارتبط الموقف من الحرية الدينية بسير الأحداث والظروف على ارض الواقع وفق المراحل التالية :
أولا – مرحلة تأسيس الدعوة : كان المسلمون مستضعفون لذلك اكتفوا بالهدايا ولم يكرهوا الناس على الدخول في الدين الجديد، تجنبا لأذى قريش، ورغبة في إعطاء جمهور مكة انطباعا بان الإسلام دين التسامح واليسر، حتى يكسبوا الأنصار إلى صفوفهم، لذلك تساهل المسلمون الأول مع اليهود والنصارى والمشركين، على قاعدة لا إكراه في الدين.
ثانيا – مرحلة التوطيد : اكتسب المسلمون شيء من القوة بعد الهجرة إلى يثرب وصار لهم نواة دولة تستطيع الدفاع عنهم، فلم يعودوا بحاجة ماسة إلى مهادنة الآخرين، وعلى هذا الأساس تبنوا نشر دينهم بين القبائل بحد السيف، وكان انتصارهم الكبير بدخول مكة وإرغامهم غالبية سكانها على اعتناق الإسلام، والقضاء على العبادة الوثنية وتحطيم الأصنام، وهذا مخالف كليا للحرية الدينية، وفي هذه الأثناء تم التخلص من اليهود بحجة تآمرهم على الإسلام، مع أن النصوص الشرعية تنص على حقوق أهل الكتاب.
ثالثا – مرحلة القوة والتوسع : تطلع العرب المسلمون إلى انتزاع أملاك دولتي الفرس والروم وهما اكبر قوتين في عالم العصور الوسطى، ولهذا لم يعتمدوا على الدافع الديني و القوة العسكرية وحدهما في الصراع مع هذه الدول، بل درسوا الجغرافية البشرية والدينية لسكان المنطقة، فوجدوا طوائف من أهل الكتاب في العراق وسوريا ومصر، إلى جانب الزرادشتية والصابئة في العراق وكردستان وإيران، وهذه كلها ديانات عريقة راسخة في أفئدة الناس، فكان على العرب المسلمين تجنب الدعوة إلى إكراه هؤلاء الناس على الدخول في الإسلام، حتى لا ينضموا إلى صفوف الروم أو الفرس لحماية أديانهم من الدين الجديد، ولهذا خاطب العرب المسلمون سكان تلك البلاد على أساس لا إكراه في الدين كدعاية سياسية لما نسميه اليوم بالحرية الدينية، وحين دخل العرب مدن الشام ومصر فقد تعاقدوا مع أهل الكتاب على الحرية الدينية، ذلك لأنهم لم يحققوا انتصارا حاسما على دولة الروم المسيحية، التي بقيت متاخمة لحدود دولة الخلافة، وقد بقي المسيحيون من رعايا دولة الخلافة يتطلعون إلى بيزنطة كحامية لهم، يمكنهم الاستنجاد بها والتعاون معها على محاربة دولة الخلافة فيما لو انتهكت حريتهم الدينية. ولهذه الاعتبارات السياسية والإستراتيجية فقد حرصت دولة الخلافة على منح المسيحيين قدر ثابت من الحرية الدينية وذلك بالسماح لهم في البقاء على دينهم وأداء عباداتهم في مجتمعاتهم المحلية وعدم التدخل في شؤونهم الملية، ولكن الحرية الدينية بقيت منقوصة وقد تعرضت لانتهاكات كثيرة، فقد حولت العديد من المعابد اليهودية والمسيحية إلى مساجد ومنها الجامع الأموي بدمشق، وتم إتلاف الكثير من الرموز الدينية من إيقونات وصلبان وتماثيل، ولكن اخطر الانتهاكات كانت تلك التي اعتبرت اليهود والمسيحيين من أهل الذمة، يعني مواطنون من الدرجة الثانية عليهم دفع ضريبة إلى دولة الإسلام مقابل إقامتهم فيها وحفاظهم على دينهم، وكل هذه الممارسات مخالفة للحرية الدينية، هذا بالنسبة لليهود والمسيحيين الذين يعتبرهم النص الشرعي من أهل الكتاب ويعترف بحقوقهم صراحة. أما بالنسبة لأتباع الديانات الأخرى فقد تمت مصادرة حقوقهم الدينية كاملة، حيث وجدوا أنفسهم أمام خيارات صعبة وهي إما القبول بدخول الإسلام أو القتل، لم يتساهل العرب المسلمون مع أتباع الديانات القديمة في كردستان والعراق وإيران، فقد كافحوا الزرادشتية والمجوسية واعدموا كتبها المقدسة ودمروا معابد النار واعتبروا المؤمنين بها مشركين وكفرة وأجبروهم على اعتناق الإسلام. وحين حاول هؤلاء إحياء ديانتهم القديمة الصقت بهم تهمة الزندقة ليتم إعدام الكثيرين منهم في عهد الخليفة العباسي المهدي، وكان الاستثناء الوحيد في هذا الجانب هو سماح الخليفة عمر بن الخطاب للصابئة بالبقاء على دينهم، وكان التشدد تجاه هذه الأديان نابعا من زوال دولة الفرس وبالتالي لم يكن للعرب المسلمين مخاوف من التجاء السكان إلى دولة أخرى، فانفردوا بهم وقضوا على دياناتهم، وهذه ممارسات منافية للحرية الدينية.
لقد نال أهل الكتاب شيء من الحرية الدينية في بعض مراحل دولة الخلافة، كاليهود في الأندلس وهذا يرجع إلى خوف العرب المسلمين من الإساءة إلى اليهود فيتحالف هؤلاء مع أعداء المسلمين من الأسبان فيخلقون لهم القلاقل، وهناك صورة أخرى للحرية الدينية تظهر في تسامح صلاح الدين الأيوبي مع المسيحيين بعد دخوله القدس، وهذا يرجع إلى شخصية هذا السلطان الذي اشتهر بالتسامح والعفو، إلى جانب نظرته السياسية الثاقبة، فقد أراد أن يحيد المسيحيين كي لا يقاتلوا إلى جانب الصليبيين، فأعلن منحهم حريتهم الدينية، ولكن لم يكن العرب المسلمين كرماء بهكذا مع أتباع الديانات الأخرى، أو مع المسلمين أنفسهم فالردة ممنوعة وعقوبتها القتل، وكذلك فان أتباع المذاهب الإسلامية كانوا وما زالوا يكفرون بعضهم بعضا، فأين هي الحرية الدينية التي يتحدثون عنها.
* زاكروس عثمان الفائز بالجائزة الأولى لمسابقة منبر الحرية 2009.
© منبر الحرية، 05 مايو 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

بات من المؤكد والضروري أن نشر ثقافة التسامح والتعايش وقبول الآخر المختلف حاجة أساسية وملحة يجب زرعها في نفوس وعقول الجيل النشء، لأنها تساهم بشكل فعال في خلق جيل واع قادر على تحمل أعباء المسؤولية وقيادة المرحلة القادمة بشكل ايجابي وسليم، لأن مثل هذه الثقافة تشكل ترسيخاً قوياً لمعالم الوحدة الوطنية التي ينبغي بناؤها على أساس من الثقة وبعيداً عن الهواجس وحسابات الربح والخسارة.
لأن الثقافة بشكل عام هي ثقافة إنسانية، لذلك لا توجد ثقافة عديمة القيمة كلياً، أو ثقافة كاملة مكملة تحتكر الحقيقة الإنسانية وتختزل ثراء الوجود وتمتلك حق فرض معاييرها وإيديولوجيتها وأجندتها السياسية على الآخرين، بما في ذلك الليبرالية. لذلك نرى بأن السبب الكامن وراء الاستقرار النسبي والغنى الثقافي لمعظم المجتمعات الغربية يعود بالضبط إلى حقيقة أنها لا تعتمد على عقيدة سياسية وحيدة أو وجهة نظر واحدة للعالم.
ولا يتحقق التسامح وقبول الآخر، إلا بالحوار والتواصل، والمشاركة الحقيقية في اتخاذ القرار، لأن إقامة حوار بناء، وخلق فضاء للنقد والفكر المستقل يسود المجتمع حالة من الاستقرار والسلام والتعايش مهما اختلفت أعراق ومعتقدات أبنائه.
وإن الحوار والتواصل دائماً وأبداً هو الطريق الصحيح لحل كافة القضايا العالقة، وهو  البديل الصحيح عن فرض الرأي بالقوة، وبالحوار نحافظ على التواصل والمحبة والسلام، ونعمق معاني الديمقراطية والتعاون، ولا يكفي لنجاح الحوار مجرد الدعوة إليه دون اتخاذ خطوات عملية تترجم ما اتفق عليه من قبل الأطراف المتحاورة على أرض الواقع، وتنمي الثقة بين المتحاورين، فإذا لم يطمئن المتحاورين إلى المصداقية في إجراء الحوار، وإذا لم تستبعد العوائق والموانع فيصبح الحوار بدون غاية أو هدف، أو مجرد حوار من أجل الحوار.
إن المجتمع المتجانس ثقافياً يتمتع بقوة مميزة خاصة به، ويخلق مناخاً تشترك فيه الثقافات المختلفة لحوار مثمر يعود بالنفع على الجميع، ويساعد على إقامة حس مجتمعي تكافلي، وبذلك يسهل عملية التواصل الداخلي بين أبناءه، ويغذي ثقافة كثيفة متماسكة ويمدها بأسباب الحياة.
وإن قبول ثقافة الآخر المختلف لا يعني بالضرورة الاقتناع بها، إنما هو إقرار بوجود الاختلاف معها وبوجود هذه الثقافة وقبولها من قبل الآخر، شرط أن لا تكون تلك الثقافة مبنية على حساب حقوق الآخر أو وجوده، كما ويجب النظر إلى الآخر المختلف من دون تمييز بسبب الجنس أو الدين أو القومية أو الخلفية الاجتماعية أو الاتجاه السياسي أو أي سبب آخر، وطالما أن الاختلاف لا يكون على حساب وجود الآخر أو حياته، فالآخر هو فرد مواطن، له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات، فيجب احترام هذا الاختلاف والعمل على تعزيز قبول ثقافة الآخر المختلف مهما بلغت درجة الاختلاف، وتفعيلها بشكل طبيعي بما تنسجم مع واقعنا ومتطلباته.
وإن التسامح والديمقراطية لهما اتجاهان أي اخذ وعطاء وتفاعل ايجابي مع قيم إنسانية جديدة بعيدة عن روح التعصب والكراهية وشطب الآخر المختلف.
حيث إن غياب الديمقراطية تنعدم إمكانية تكافؤ الفرص في التعبير عن الرأي, وإن غياب العدالة السياسية تنقطع فرص الحوار والتواصل بين مكونات المجتمع, وإن غياب سلطة القانون يقع الضرر على الجميع بدون استثناء.
في المجتمعات الغربية توجد مئات من المجلات والكتب والجمعيات والهيئات والمواقع التي تمارس النقد المعرفي للدين، ويتقبلها الوسط الثقافي والاجتماعي الغربي برحابة صدر، دون أن يضيق بها أحد أو يدعو إلى الحد من حريتها، أما في مجتمعاتنا فيواجه النقد المعرفي للدين بالرفض والاستهجان، بل وبالدعوة إلى محاكمة من يمارسه بحجة إهانة (للمشاعر الدينية وللمقدس).. لأننا لم نصل بعد إلى أمر هام وهو أنه في النقد المعرفي لا توجد مقدسات تعلو على النقد.
إن مثل هذه الثقافة مفهومة، لأنها رد الفعل الطبيعي لمن لم يتعلم بعد ثقافة الاختلاف والتعددية الفكرية، ولم يعتد على قبول الآخر المختلف، ولذلك من الطبيعي أن نسمع من يصف النقد المعرفي للإسلام وبنيته الفكرية بأنه إهانة للمقدسات.
ولكن غياب ثقافة التسامح وقبول الآخر المختلف هو من أكثر عوامل الواقع الذي يعاني منه مجتمعنا في الوقت الحاضر، وهذا يمثل مسؤولية يجب أن يضطلع بها الجميع من قوى سياسية ومنظمات مجتمعية ومؤسسات ثقافية وحتى علماء دين، ولكن بعض ما تم ذكرها هو فاقد لما عليه أن يعطيه للمجتمع، وحيث أن فاقد الشيء لا يعطيه بأي حال من الأحوال.
وإن الاعتراف والإقرار بثقافة التسامح وقبول الآخر والاعتراف به هو أمر جيد ومقبول نظرياً ولكن يجب العمل والنضال من أجل ترسيخ قيمة هذه الثقافة وتطبيقها في الحياة اليومية بشكل يعود بالفائدة على الجميع دون استثناء.
من أجل العمل على نشر هذه الثقافة لا بد من اتخاذ بعض الخطوات العملية في هذا المجال ألا وهي:
– تبني برامج علمية وذلك لتنمية وعي مجتمعي…
– وضع مناهج تعليمية جديدة لإعداد جيل واع قادر على تحمل أعباء المرحلة…
– إيجاد أدوات إعلامية متطورة على جميع الأصعدة…
– نبذ كل أشكال التطرف والتخلف والتشدد في المجتمع عن طريق إقامة دورات تعليمية وندوات تثقيفية…
إن فكرة التسامح وقبول الآخر، واللجوء إلى الحوار وإلغاء فكرة شطب الآخر والثأر وإناطتها بالقانون، يعتمد على استعداد الأطراف التي تريد بناء مستقبلها على أساس تغليب المصلحة العامة على الخلافات الشخصية والمشاعر الدفينة البعيدة عن التعقل والتروي في نتائجها.
وهنا لا بد من الإشادة إلى بعض الشخصيات التاريخية المتسامحة:
– المهاتما غاندي: صاحب سياسة المقاومة السلمية (فلسفة اللاعنف) وتسامحه ومن أقواله:
“أين يتواجد الحب تتواجد الحياة.”
“إن اللاعنف هو القوة العظمى لدى الإنسان. وهو أعظم من ما أبدعه الإنسان من أكثر الأسلحة قدرة على التدمير.”
توفي مقتولاً برصاص شخص هندوسي متعصّب لم ترق له عظمة التسامح الغاندية.
– القائد الكردي مصطفى البرزاني المعروف بتسامحه وتعامله الإنساني مع الأسرى، فعبر ذات مرة بصريح العبارة عن إستراتيجيته العسكرية قائلاً: ( إن عقيدتي هي تحقيق مطالب شعبي وأن أفدي روحي في سبيل قضيتي …. وان حزبنا ليس ضد العرب ولا ضد أي قومية أخرى، ولا نشارك في ثورة من أجل اسم أو شهرة، إن العرب والأكراد أخوة، ولا يجوز التفرقة بين الأخوة، إننا لم نهاجم أحداً بل ندافع عن حقوق شعبنا الكردي).
– بابا الفاتيكان والكاثوليك المسيحيين في العالم يوحنا بولص الثاني:  تعرض لحادثة اغتيال عام 1981 من قبل تركي متعصب يدعى (علي أقجا) فخرج على أثرها بجروح بالغة، وادخل المستشفى واخضع لعمليات جراحية كادت تودي بحياته، لكنه بالرغم من ذلك التقى بقاتله وعفا عنه وأخلى سبيله بكل رحابة صدر !!!
انه لمن الضروري نشر ثقافة الحوار و التعددية مهما كانت الضريبة، وبفضل العولمة والتقنية الحديثة، لا يمكن لأي مجتمع اليوم عزل نفسه عن المؤثرات الخارجية، خصوصاً مع انتقال رأس المال والتكنولوجيا والقوى العاملة والأفكار وما إلى ذلك بحرية عبر الحدود الإقليمية وبالتالي إنتاج صيغ جديدة للتفكير والحياة.
هذا هو مسار التغيير الذي يمكن أن يصالح الأنظمة العربية مع شعوبها و يمنحها القوة للتعبير عن مواقفها بثبات في المحافل الدولية. إن احترام الدول العربية لرأي شعوبها سيضفي قوة و شرعية على تمثيلية مؤسساتها السياسية. و سيجعل الدول الأخرى و على رأسها الدول الغربية تستمع لمواقفها و تحترم قضاياها.
© منبر الحرية،02 أبريل 2009

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

لا يمكن للمرء أن يخفي شعوره بالحيرة حيال ما يذهب إليه البعض من رأي غريب حول العمل لتحقيق “مصالحة” بين الإسلام والمسيحية. الكلام عن “المصارحة” ثم المصالحة بين هذين الدينين الكبيرين (باعتبار عدد الأتباع والإنتشار الجغرافي) تنطوي على وجود ثمة “خصومة”. ولا يدري المرء من أين أتت هذه الخصومة: هل هي من أصول وسيطة تضرب بجذورها في عصري الفتوحات الإسلامية ثم الحروب الصليبية، أم أنها من أصول معاصرة متطرفة تشتق فكرة العمل السياسي من إفتراض وجود صراع ديني؟ هذه أسئلة تستحق المناقشة، ذلك أنها تفرض على الصراعات الجارية اليوم أطراً دينية وحيدة الجانب. وهذه ليست حقيقة أو جوهر الأمر.
إن فكرة “الخصومة” بين الإسلام والمسيحية لا يمكن أن تكون مقبولة إلا بحسب معايير مختلة وخطيرة تنتشر هذه الأيام، ومن أهمها المعيار المعتمد على تقليص صراع الحضارات أو الحوار الثقافي إلى جزئية دينية مبتسرة ومخلة. فإذا ما كان هذا التقليص المشوب بالعصبية الطائفية وبالخلل يعتمد الإختلاف في الأنظمة الدينية، نكون قد قدنا أنفسنا نحو خصومات جديدة لسنا بحاجة إليها ولا تخطر على بال أحد. إن ثنائية التنافر/الخصومة قد تقودنا إلى حال من نوع أننا في خصومة مع الديانات العالمية الكبرى الأخرى كالهندوسية والبوذية والكونفشيوسية، من بين سواها من الأنظمة الدينية القديمة والتي يحتضنها الملايين من البشر. ولكننا ندرك جيداً أننا كمسلمين لسنا أعداء للهندوس ولا للبوذيين ولا للقبائل البدائية التي تؤمن بأنظمة روحية من أنواع مختلفة. إذاً، هل تنطلق المصالحة مع المسيحية من حقائق جغرافية/تاريخية قادت إلى إرتطامات بين كينونات مسلمة وأخرى مسيحية، نظراً لحقائق الجوار الجغرافي بين العالمين الإسلامي والأوربي المسيحي. ولنا في فتح الأندلس والبقاء العربي/الإسلامي المتحضر في شبه جزيرة إيبريا لثمانية قرون نموذجاً للطبيعة “الدورية” للتاريخ التي ترفع الأمم وتخفضها (حسب معايير التفوق والتقدم) على إيقاع أنماط تكرار تقدمها حركة الزمن في تيار التاريخ. ولنا، ثانية، في العصر الذهبي للكولونياليات الأوربية نموذجاً آخر يتغذى على حقائق وقوع العالم العربي والإسلامي تحت إحتلالات ووصايات إمبراطوريات أوربية، كبريطانيا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال وإيطاليا، ذات تركيبات سكانية مسيحية.
ولكن لماذا يخلط المرء بين التفوق الذي تفرزه حركة التاريخ عبر هرمية وجود الأمم المتنوعة من ناحية ثانية، وبين التنوع الديني، من الناحية الثانية. مثل هذا الخلط يمكن أن يقودنا إلى مشاكل فكرية وسياسية يصعب الإفلات منها. إن الأدلة عديدة على أن حركة الإستعمار الأوربي كانت تتحاشى الإحتكاك بالإسلام، ديناً ونظاماً روحياً وإجتماعياً. بل أن اية دراسة متعمقة لتاريخ الإمبراطورية البريطانية في الهند تعكس إنحيازاً واضح المعالم من قبل الإدارة الإمبراطورية البريطانية للمسلمين الهنود على حساب الهندوس. وقد كرس اللورد ماكولي Macaulay، برغم نظرته الدونية للحضارات الشرقية عامة، هذا الإنحياز عندما وقف أمام الإختيار بين المسلمين والهندوس (في مناسبة خلافية) داعياً إلى نصرة المسلمين لأنهم “أقرب إلى معتقداتنا”، بمعنى أنه إعتمد عقائداً مثل التوحيد والإيمان بالآخرة وسواها من العقائد الدينية المتشابهة مع العقائد المسيحية كتبرير لذلك الإنحياز. وتدل المدونات التاريخية للإمبراطوريات الأوربية أنها كانت تتحاشى وبدقة متناهية الإساءة للإسلام في الأمم التي فرضت عليها الوصاية. لقد كان ضباط الإحتلال يسارعون دائماً إلى الإتصال بطبقة العلماء المسلمين من أجل تهدئة المخاوف الدينية وتجنب الإحتكاكات ذات الطابع الطائفي. لذا لم تعتمد أهم حركات التحرر من الإستعمار الأوربي على خطاب ديني وحيد الجانب.
إن الجدل الذي إستعر في العصر الذهبي للإمبراطورية البريطانية حول الإسلام إنما كان مهماً للغاية. ويمكن تتبعه من خلال السجال الذي دار بين المستشرق المهم رتشارد بيرتن Burton (أفضل مترجم لألف ليلة وليلة) وبين التبشيريين. لقد دعا التبشيريون الإنجيليون إلى أن يسبق المبشرون جنود الإحتلال البريطاني في الأصقاع الأفريقية التي يتم إحتلالها. وعلى نحو معاكس لذلك، دعا العلمانيون (ومنهم بيرتن نفسه) إلى أن يسبق الجندي المبشرين، خشية إثارة الحساسيات الدينية. وهذا ما حدث فعلاً، بالرغم من أن الخوف الهاجسي الذي كان يستشعره رجال الدين في بريطانيا وفي سواها من الدول الأوربية حيال الإنتشار السريع للإسلام في أفريقيا وجنوب شرقي آسيا، خاصة بين القبائل الوثنية. بيد أن علينا أن نتوقف عند حقيقة إستبعاد التبشير الديني المسيحي من “وليمة الإستعمار” عبر القرنين التاسع عشر والعشرين.
لم تكن الإدارات الإمبراطورية في باريس أو لندن ترنو إلى “سحق” الإسلام، ديناً ونظاماً إجتماعياً، ذلك أنها كانت تريد الهيمنة الإستعمارية والإقتصادية، وليس إلحاق “الهزيمة” بدين معين. والأدلة كثيرة على ذلك، ولكن أهمها كان قد قدمه أول المستعمرون القادمون إلى شرقنا العربي الإسلامي، نابليون بونابرت، الذي سارع فور وصول القاهرة إلى الإدعاء بأنه قد إعتنق الإسلام، واضعاً العمامة على رأسه ومتردداً على بعض الزوايا الصوفية هناك! لقد كان الجنرال الفرنسي يتصرف في مصر على أساس مصالح باريس، وليس على أساس مصالح الفاتيكان الذي تهيمن عقائده الكاثوليكية على أكثرية الشعب الفرنسي.
إن البناء على إفتراض خصومة أو نزاع ديني إسلامي / مسيحي قد يقودنا إلى معضلات خطيرة أخرى إذا ما وسعنا مداركنا، ومن أهمها معضلة طريقة التعامل مع الأقليات المسيحية الموجودة في العالم العربي الإسلامي، تلك الأقليات التي لا تشوب وطنيتها ودورها الإجتماعي البنّاء اية شائبة. والأدلة على ذلك أكثر مما يتوقع المرء. بيد أنه من المهم إستحضار نظرية الكاردينال “جون هنري نيومن” Newman Cardinal في كتابه المهم (تصويرات تاريخية: الترك وعلاقتهم بأوربا) Historical Sketches، ذلك أنه كان يصب جام غضبه على المسيحيين الشرقيين (الأتراك والعرب) لأنهم كانوا أخطر أعداء الكنيسة الكاثوليكية (حسب تعبيره) عبر سنوات الحروب الصليبية. لذا فأنه كان يكنيهم بأقسى النعوت، ذاهباً إلى أنهم كانوا أكثر خطورة في الحملات الصليبية على الأوربيين، مقارنة بالمسلمين أنفسهم. هذا الرأي هو الذي قاد نيومن إلى خلاصة مفادها أن الحملات الصليبية نفسها كانت قد فقدت بعدها الديني، الأمر الذي يبرر رأياً آخر يفضي إلى أن تشجيع الملوك الأوربيون للحملات الصليبية كان قد نبع، ليس من إيمأنهم الديني، وإنما من شعورهم بضرورات عسكرة المجتمع والتخلص من فائض القوة وطاقات التمرد من خلال إطلاق الحملات الصليبية نحو عالم آخر وتحت شعارات دينية عاطفية. وهكذا فقدت الحملات الصليبية، حسب هذا الرأي الحصيف، حتى معناها الديني لتغدو إجراءً سياسياً يعكس تحالف السلطة مع الكنيسة لخدمة أهداف أوربية داخلية لا صلة حقيقية لها ببيت المقدس، الأمر الذي يفسر الإحترام والتقدير العالي الذي خص به ملوك أوربا القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي، حيث أنهم عدّوه مثالاً لفروسية رفيعة تفتقدها أوربا الآرية المسيحية آنذاك!
إن التاريخ يعكس شيئاً مثيراً للدهشة في تعامل الثروة والسلطة مع العواطف الدينية، حيث يوظف رأس المال هذه المشاعر لخدمته. وهذا يقود المرء إلى أن آليات الصراعات التي جرت وتجري بين أقاليم العالم الإسلامي والجوار الغربي لم تكن في جوهرها دينية، بقدر ما كانت ذات طبيعة سياسية وإقتصادية ركبت موجة العصبيات الدينية والطائفية لخدمة أغراضها الخاصة. وهذا حسب المعطيات المعاصرة الأكثر دقة هو ما يجري اليوم، ذلك أن رأس المال، الباحث عن المكاسب المادية، يرنو إلى دفع العالم نحو غياهب الصراعات الدينية والطائفية من أجل إرتقائه قمة الهرم الكوني.
© منبر الحرية، 1 مارس 2009

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018