الإسلام والحداثة

peshwazarabic21 نوفمبر، 20103

يدعي المتطرفون كونية الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان ويعتبره قسم واسع من الحقوقيين مناهضا للقيم الحقوقية المتعارف عليها كونيا. حجة المتطرفين اعتبارهم الإسلام “شرع الله” الوحيد الصالح لكل البشرية مهما اختلفت الثقافات. أما رد المناهضين فينطلق من أن الحق في الاختلاف ومناهضة التمييز والكراهية والعدل والمساواة شرائع، لا يمكن أن نجد لها في الإسلام نظيرا صالحا للتطبيق الكوني، بل هناك من يعتبر أن “شرع الله” مناهض لأهم ميزة في حقوق الإنسان، أي حق الاختلاف..
يشكل الاختلاف والاعتراف بالآخر قيمة سامية في المنظومة الحقوقية العالمية، فيما يشكل التطرف والكراهية ميزتان لا تنسجمان مع الحق الإنساني كما ناضلت من أجله الإنسانية. في العالم الإسلامي لا يكف المتطرفون عن ترديد شعار عدالة الإسلام. وبالمقابل يقوم ملايين الخطباء ورجال الدين من على منبر خطبة يوم الجمعة، بالتحريض على الكراهية والعنف ضد غير المسلمين.
ومابين المفارقتين سلوكيات متجذرة لدى بعض المسلمين من قبيل الموقف المتطرف اتجاه غير المسلم و”الكافر”. أما الكراهية التي تتضمنها العديد من أدبيات مختلف المذاهب الإسلامية، فنموذج آخر لتطاحن داخلي يخفي  سؤالا عميقا مفاده: ماهو نموذج الدين الصالح لكل زمان ومكان، إذا كان المسلمون أنفسهم غير متفقين على فهم واحد لهذا النموذج؟
بعيدا عن هذا السؤال الذي يحتاج وقفة مستقلة، وقريبا من واقع بلدان من قبيل المغرب ومصر وسوريا ولبنان حيث “يتعايش” مواطنون من مختلف الأديان. يستمع غير المسلمين(يهود ومسيحيون) كل يوم جمعة بالتحديد إلى الكثير من الأوصاف المشينة لهم والتي تدعو عليهم وتحرض على “الجهاد” ضدهم وعدم الثقة بهم…ولا يقتصر الأمر عند معاداة المختلف دينيا والدعاء عليه، بل يتجاوزه إلى عداء مستحكم بين المسلمين أنفسهم بفعل اختلافات مذهبية تذهب حد تكفير بعضهم البعض.
تقوم حقوق الإنسانية في المقام الأول على الديمقراطية بما هي قبول للاختلاف، وهي قيمة ذات مضمون إنساني قابل للتعديل والتطوير بما يخدم الإنسانية، لكن آيات الله الخميني، مؤسس إيران ولاية الفقيه، الجمهورية الإسلامية الأكثر نفوذا في العالم الإسلامي في الوقت الراهن، لا يرى في حقوق الإنسان سوى مجرد قوانين وضعها الصهاينة لهدم الديانات. وهكذا يدعو منشئ “الصحوة الشيعية المتطرفة” إلى ضرورة الرجوع إلى القرآن لتمييز الخطأ من الصواب.
تصبح حقوق الإنسان بهذا المنظور مؤامرة غربية، وتصير حقوق الإنسان مؤامرة ضد الدين، أما المرجع الوحيد لفهم العالم فهو القرآن. وهنا تصبح المتاهة أكبر، خصوصا و أن القرآن نفسه حمال أوجه… إنه مادة لغوية خامة قابلة لقراءات لا حد لها. بل إن تاريخ المسلمين والنزاعات الدموية التي خاضوها بين بعضهم البعض، لم تكن سوى محاولات يائسة لاحتكار شرعية قراءة النص الديني.
انطبع تاريخ المسلمين بالعنف والحروب التي خاضوها لاحتكار شرعية “قراءة وفهم القرآن”. لقد وجد في كل مرة من يعتبر هاته الحروب “جهادا” ولو في المسلم الذي يحرم القرآن نفسه “قتله بغير حق”. وبالمقابل طورت الإنسانية قوانين بشرية صنعتها المجتمعات أثناء تفاعلاتها المختلفة. قوانين وضعية قابلة للتعديل والتغيير، ولا يمكن أن نضفي عليها طابع القداسة المطلقة.
إن الحق الوحيد الذي يجب أن يظل مقدسا هو حق الإنسان في الوجود الحر والكريم، كحق كوني غير قابل للمساس. لكن لا شئ بالنسبة للمتطرفين يمكن أن يكون كونيا ما لم يكن مصدره “شرع الله”. وفرض هذا الشرع كما يفهمه المتطرفون على جميع المواطنين و بدون رضاهم مخالف للشرائع الحقوقية، بل مساس خطير بحرية الاعتقاد و بالحق في الاختلاف.
يستند المتطرفون للتستر على معاداة الفكر الحقوقي على: “خصوصية المجتمعات الإسلامية “و” اختلاف الثقافات” و”استحالة الحديث عن كونية حقوق الإنسان” وعلى “نسبية الأفكار”.غير أن هاته الأفكار ذاتها تلزمهم باحترام خصوصيات المختلفين معهم و عدم تطبيق “شرع الله” عنوة على غير المقتنعين به.
إن الهدف الرئيسي من دفوعات المتطرفين هو تبرير الخرق السافر لحقوق الإنسان الذي يروجون له. إن الإصرار على اعتبار شرع الله المصدر الوحيد للتشريع بعيدا عن كل اجتهاد يجعل الرجم و الجلد حتى الموت و قطع يد السارق أحكاما جائزة، رغم أن سياقات فرضها في الشريعة، خضعت للظروف الزمانية والمكانية لشبه الجزيرة العربية، الموطن الأول للإسلام، ولم تكن أبدا شرائع مطلقة.
تتوافق هاته النظرة المتزمتة للمتطرفين مع تصورات العديد من الأنظمة العربية الإسلامية الاستبدادية. إذ يشترك الطرفان في الوقوف في وجه إقرار حق الإنسان في الحرية والعيش الكريم والمساواة، فيحرم زواج المسلمة من غير المسلم وترتبط طهارة المرأة بالحجاب، ويتم إقرار التفاوت في الإرث بين الذكر والأنثى ويتم تحريم الاختلاط.
إن استغلال الأنظمة الاستبدادية والأصولية لأطروحات المتطرفين يجد نموذجه الواضح في رفض العديد منها المصادقة على المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، فيما اضطرت أخرى للتوقيع عليها وبتحفظ شديد، خوفا من تحرر مجتمعاتها، ومطالبتهم بالمساواة والحرية والديمقراطية والعيش الكريم.
إن الغاية القصوى لكل الشرائع أرضية كانت أم سماوية هي تحقيق العدل على الأرض، والعدل في معناه السامي يتجه نحو حرية الإنسان وسعادته باعتباره قيمة كونية، لا يمكن لأي شريعة أن تناهضها. كثير من المفكرين المسلمين وعوا هاته الحقيقة وحاولوا جاهدين إعادة تأويل الدين الإسلامي ونصوصه، بحثا عن نقط مضيئة فيه تلائم مقتضيات العصر. نذكر هنا طارق رمضان، فاطمة المرنيسي،  أمينة ودود،  ورفعت حسن وغيرهم…اختلفت طبعا منطلقاتهم وتوجهاتهم غير أن محاولاتهم تصطدم بتعنت لا يزداد مع الزمن إلا تشددا لتبقى نجاحاتهم ضئيلة في انتظار الذي قد يأتي، لفتح كوة أمل في أفق مظلم. أما الأمل الحقيقي، ففي تنوير إسلامي أشد تطورا وأكثر نضجا.
© منبر الحرية، 26 فبراير 2009

نبيل علي صالح21 نوفمبر، 20100

لا أدري إن كان طرح السؤال الوارد أعلاه كعنوان لهذا المقال صحيحاً من الناحية
المعرفية بالصورة التي صيغ بها.. إذ هل من الممكن والصحيح (أو حتى المعقول) –بالمعنى الموضوعي- أن تمتلك جملة من الطروحات المفاهيمية والاعتقادات الروحية الغيبية (أو ما اصطلح على تسميتها بالثقافة الإسلامية) القدرة على التأثير والفعل المباشر في عالم كبير متحول ومتغير؟ عالم لم يعد يقيم وزناً للروحانيات والأديان ومختلف الافتراضات الوهمية اللامنظورة بقطع النظر عن أمكنة إنتاجها وانتشارها وتواجدها في الماضي أو في الحاضر أو حتى في المستقبل؟!!.
وإذا كان طرحنا وتساؤلنا السابق صحيحاً –إذ من حق المثقف النقدي طرح الإشكالية ومحاولة الإجابة عليها- نعود لنسأل مجدداً عن ماهية تلك القدرات والمعايير والأسس التي يختزنها الإسلام –كدين حاكم على القلوب ومهيمن على الأفئدة في عالمنا العربي والإسلامي- في داخل منظومته الفكرية الاعتقادية لكي يتمكن من خلالها من الانسجام مع العصر الراهن، والتكيف مع عمعايير ومقتضيات الحداثة، وضرورة الانخراط الجدي العملي في عملية الإصلاح الديني والثقافي والسياسي في عالمنا العربي والإسلامي؟!…
في الواقع نحن –بمعنى من المعاني- لسنا خارج العصر، ولا يمكننا الانغلاق على ذاتنا، كما أنه لا يمكن إلا أن نتواجد في صلب حركية الحياة الهادرة، بصورة وبأخرى، مهما رفضنا وكابرنا ثقافياً وحضارياً، فنحن نعيش حالياً في مجتمعاتنا حياة حديثة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى من حيث التعامل الشكلي والمظهري مع مقتضيات (ونتاجات) الحداثة والثقافة الغربية التي ينبغي على العرب والمسلمين –بادئ ذي البدء- الاعتراف بعلو كعبها، وبقدرتها وفاعليتها، وأخيراً الإقرار الكامل غير الناقص بانتصارها (ثقافةً وحضارةً وأدوات) على كل الحضارات والثقافات الأخرى.. فنحن نتعامل بالانترنت، ونسافر بالطائرات، ونعمل وفقاً للكثير من المعايير والقوانين الإدارية والاقتصادية الحديثة التي أبدعتها الثقافة الغربية، ونتواصل تفاعلياً وتبادلياً مع مختلف بقاع الأرض، وتخضع كثير من حكوماتنا ونظمنا السياسية لمؤسسات وهيئات ومنظمات دولية اقتصادية وسياسية وثقافية متعددة نشأت وصيغت في الغرب الذي نكرهه ونذمه ونشتمه على منابرنا الدينية والسياسية ليلاً ونهاراً.. الخ.. إذاً نحن لسنا متخلفين في أساليب الحداثة ووسائلها وطرقها.. ومجتمعاتنا العربية لا تعيش حياة القرون الوسطى بل هي مجتمعات خاضعة بشكل أو بآخر لقوانين ونظم الحداثة العالمية ذاتها.. ولكن الخطر والخطأ في الموضوع هو أننا فهمنا الحداثة مجرد نقل لمنجزات الآخر وتقنياته واختراعاته الكبيرة، لا صنعاً واستنباتاً لها في تربتنا المحلية، وإنما استهلاكاً وشراءً.. وهذا لاشك أمر مهم وعظيم، ولكنه غير كاف لاستنبات وخلق وصنع الحضارة والحداثة العلمية.. وهذا ما ندعوه بالحداثة القشرية أو الحداثة الكسيحة التي تقوم على استهلاك متزايد لمنتجات وثمار الحداثة الناشئة والمتطورة والمزدهرة خارجها دائرتنا الحضارية العربية على الرغم من أننا ساهمنا في الماضي في التأسيس لها بصورة وبأخرى كما يزهو ويتباكى على أطلالها كثير من عتاة الأصوليين (من المتدينين وغير المتدينين). كما أننا عجزنا حتى الآن عن زرع شجرة الحداثة عندنا وبما يناسب “مجالنا وسياقنا الحضاري الإسلامي” على حد تعبير بعض الإسلاميين المعتدلين. فلم نفتح ورشات لها خاصة بنا وبشروط وجودنا، لا ورشات المعرفة الزمنية، المدنية، الإنسانية، ولا مواقع البحث العلمي والتطور الفكري الحر. ولا ورشة الدولة الحديثة (دولة الحق والقانون) التي وعدنا الناس بتحقيقها فكانت النتيجة أن أنشأنا –عوضاً عنها- دولة التعسف والإكراه والغلبة.
إذاً نحن لا زلنا مجتمعات حديثة (بالمعنى الظاهري إلى حد ما)، تخضع لسلطة الأعيان والأتباع وكل مظاهر العشائرية والقبلية البغيضة. ولم نطور أيضاً بما فيه الكفاية ربما مسألة الفرد كذات، أو الفردية الحرة والمسؤولة.. وهنا قد يسأل أحدهم عن تحديد مسؤولية ذلك التأخر والتقهقر؟!.
في الحقيقة وعلى الرغم من التسليم بدور ومسؤولية العامل الخارجي في ما وصل إليه حال العالم العربي من تخلف وانحطاط سياسي واجتماعي واقتصادي (بالرغم من وجود بعض المواقع والنقاط الإيجابية المضيئة هنا وهناك)، إلا أن هناك وعياً متزايداً بأن الكوارث التي يعيشها ليست كلها ناجمة عن المخططات والمؤامرات والأطماع والتدخلات الأجنبية وحدها (مع العلم أن لغة المصالح وسياسة المناورات وحبك المؤامرات هي القانون الحاكم في العلاقات بين الدول والسياسات الدولية في كل زمان ومكان)، وأن الكثير منها يعود إلى عجز النخب السياسية الحاكمة عن إيجاد الحلول الملائمة لتناقضات مزمنة كامنة في بنية وثقافة المجتمعات ونظم الحكم العربية.. وترتب على إهمالها وتراكمها نجاح القوى الخارجية في تعميقها واستغلالها إلى أن وصلت الأمور إلى نقطة الانفجار أو أنها انفجرت بالفعل كما هو الحال في دول عربية كثيرة.. فالبطالة (والعطالة العقلية) وتعثر الإصلاح السياسي والخلل الرهيب في توزيع الثروة والمداخيل تحولت إلى أمراض مستوطنة في جسدنا، وراحت تنخر في عظام معظم دولنا العربية لتشكل قنابل موقوتة قابلة للانفجار في جسدها في أية لحظة.
من هنا وبالنظر إلى ما تقدم من تحليل، نؤكد على مجموعة الملاحظات الفكرية التالية في سياق ضرورة قبولنا وتبنينا لأفكار الحداثة التي نعتقد أن الإسلاميين –على وجه الخصوص- لن يقبلوها بسهولة ويسر وهدوء قد توفرها الدعوة المستمرة لاعتماد الحوار العقلاني في قبول الآخر والوصول معه إلى القناعات الوطنية السلمية المشتركة التي نتمنى أن تسود بين كل فئات وتيارات المجتمع العربي:
1- إن المؤسسة الدينية الرسمية وغير الرسمية المسيطرة –ظاهراً أم باطناً- على كثير من مناخات العمل الاجتماعي والثقافي والسياسي في العالمين العربي والإسلامي هي أصل الداء وجذر العطالة، باعتبارها توفر القاعدة الفكرية والحاضنة الدعوتية ومن ثم الملاذات الآمنة لكل قوى الموت في كل دعاويها وأفكارها التي تهدف من خلالها إلى سحق الآخر، والانقضاض على مجمل الأفكار الحداثوية النيرة التي تطالب باعتمادها وتطبيقها مختلف الحركات والنخب العقلانية المنتشرة بكثرة في عالمنا العربي والإسلامي أو في خارجهما.. ولذلك فإن تلك المؤسسات الرثة والبالية مطالبة قبل غيرها -أكثر من أي وقت مضى- بأن تنفض عنها غبار التخلف (أو تسمح لغيرها بنفض الغبار عنها، وعدم ادعاء امتلاك الحقيقة المقدسة المتعالية والمفارقة للزمان والمكان) وادعاء التمسكن والعفة الفكرية والعملية من فورها، وأن تبادر مباشرةً للخروج من كهوف الماضي ومغاور التاريخ القديم الذي تعشش فيه خفافيش الفكر، وتنفتح على الحياة والعصر بأن تخرج إلى ضوء الشمس وتتنفس الهواء الطلق والنقي في ساحة الحياة الرحبة والواسعة من دون حواجز ومغاليق فكرية وفتاوى دينية من هنا وهناك، وأن تعترف بحاكمية العقل (لا حاكمية الفتوى والنص) والحوار والانفتاح على الآخر، وإطلاق خطاب ديني عصري واضح يعتمد على عنصر النقد الفاعل البناء وليس التلقي والقبول والتسليم والإذعان الكامل لترهات وأباطيل أتباع الوعظ المسجدي والكنسي العتيق.
2- إن الإصلاح المطلوب تطبيقه والسير به داخلياً القائم على رؤى حداثية مستنيرة، والمنطلق من ترتيب أوضاع بيوتنا الداخلية أفضل وأقوى وأمتن من أي إصلاح خارجي مفروض لن يأتي إلينا إلا نتيجة الغياب المتعمد لانطلاقة مناخ الإصلاح الطبيعي في المجتمعات والشعوب بما ينبع منها ويتفق مع تقاليدها ويرتبط بهويتها التاريخية التي نعتقد باستحالة انسجامها مع العصر، ما لم تبنى –من جديد- على رؤية متحركة وفاعلة غير جامدة ومعبرة عن نبض العصر وتسارع الحياة.
3- الإصلاح الحقيقي المطلوب الذي يستمر ويبقى هو فقط الإصلاح الذي يتم بالطرق السلمية الديمقراطية مع رفض كامل لمنطق الثورة في العملية السياسية الإصلاحية، لأن مفاجآتها كثيرة وردود فعلها معقدة ونتائجها غير مضمونة.. بينما الإصلاح التدريجي الثقافي والتربوي الفردي والاجتماعي المدروس وفقاً لخطة زمنية معلنة هو السبيل الأفضل للانتقال نحو الغايات والتطلعات الكبرى للأمم والشعوب. وتستطيع نظم عربية كثيرة أن تتواءم مع التطورات المقبلة بشرط أن تستوعب حقائق العصر وأن تمضي نحو المستقبل بخطى ثابتة، بدلاً من اجترار وترديد شعارات خادعة مزيفة صالحة فقط –إلى حد ما- للاستهلاك المحلي بهدف المماطلة والتسويف ومحاولة إلغاء التغيير وإجهاض الإصلاح بالرغم من كونهما سنة وقانون وناموس كوني (التغيير أو الحركة هو الثابت الوحيد في الحياة).
4- نحن عندما نؤكد على ضرورة سلوك طريق الحداثة واعتماد قيم التنوير العقلي للخروج من الأزمات الراهنة، فإننا لا نعفي الحداثة نفسها –كما تبنتها ونقلتها نخبنا السياسية والفكرية السلطوية إلى بلداننا العربية، وفرضتها بالقسر والإكراه على مجتمعاتنا القديمة- من مسؤولية الأزمة التي تعيشها المجتمعات العربية. مما يستدعي –بعد وصول مشروع الحداثة العربية ذاتها إلى طريق مسدود- إعادة دراسة ونقد هذه الحداثة بذاتها، وتقييم مفهومها (وما آلت إليه نتائجها وتطبيقاتها) حتى يمكن إعادة إطلاق مسارها من جديد بشكل أكثر قوة وديناميكية وتأثيراً.. لأن عملية النقد هذه ستؤدي بالضرورة لفهم حقيقة انتشار المد الديني الأصولي من حيث هو نتيجة طبيعية لفشل مشروع الحداثة العربية ذاتها قبل غيرها (فشل التحديث العربي).
5- إذا وصلنا –في سياق نقد الحداثة والتحديث العربي- إلى مرحلة نقد التراث بمختلف عناوينه وتراكماته الفكرية التاريخية، نتساءل: كيف يمكن الاتفاق في هذه الحال على مسألة نقد هذا الكم الهائل من مختلف إشكاليات النصوص والتأويلات الدينية الخاصة بها والهادفة إلى تجديد الفكر والهوية لتصبح منفتحة مستوعبة تواصلية مع الذات ومع الآخر، من دون الاتفاق حول الغايات والقيم الأساسية التي سوف تحكم إعادة بناء المجتمعات العربية المفككة أو اجتماعاتها السياسية؟!.
لقد انطلقت الثورة التقنية والصناعية (وما رافقها من إنجازات علمية هائلة) نتيجة انبثاق وتفجر بركان معرفي وثقافي تنويري كبير –كما ذكرنا– قادته مجموعة كبيرة من النخب والمفكرين والفلاسفة والمجددين الكبار، ولئن حدث هذا التحول الذي عرفته مجتمعات الغرب الأوروبي بفضل ذلك المناخ الثقافي التنويري فإننا نسأل: هل يمكن لثقافتنا العربية الدينية أن تتمثل (وتستفيد وتستثمر) بما أنجزته الثقافة الأوروبية الحديثة حتى تتمكن من إحداث النقلة النوعية المتوخاة داخل المجتمعات العربية والإسلامية؟!! وإذا كان لكل أمة ثقافتها الخاصة فلا يعني هذا أن مستوى الثقافة واحد لكل الشعوب، لكن هذا المستوى يختلف من شعب إلى آخر بسبب تنوع وتعدد درجات الثقافة ومستويات الوعي في مراتب الرقي والتكامل.
ومن المعروف سابقاً أنه قد شاع على صعيدنا العربي –في بعض المفاصل الزمنية القليلة– تأويل منفتح ومتسامح (عقلاني) للدين، منسجم مع ذاته، ومتفاعل مع الحضارات الكونية الأخرى، انطلق أساساً من خلال بعض اللمحات واللفتات والرؤى العقلانية القليلة والبسيطة غير المتجذرة، ولكن المهمة والمؤثرة التي أبدعها بعض حكمائنا وفلاسفتنا القدامى نتيجة انفتاحهم وتفاعلهم الخلاق مع بعض الثقافات الأخرى التي كانت سائدة آنذاك.. ولكن بدءاً من عصر الانحطاط أخذ يسود التأويل الظلامي الجامد والمنغلق والمتعصب للدين والتأويل الديني، فأنتج هذا الفهم التأويلي كماً كبيراً من الأفكار والكتب والمراجعات الفكرية لا تزال تأثيراتها واضحة وجلية حتى الآن. وغني عن القول هنا أن الثقافة العربية هي بطبيعتها ثقافة تأصيلية، فيها إمكانات هائلة للنظر والوعي والنقد والبناء المعرفي الحضاري، إلا أن حاجتها للتجدد في عالم التحول والتغير والتنوّر يفرض عليها مزيداً من المساهمة الفاعلة لتتمكن من أداء دور صحيح وسليم ومعافى بما يكفل لها الارتقاء في سلم الرقي والتقدم كباقي حضارات وثقافات الشعوب والأمم.. طبعاً نحن ومن باب الرجاء والأمل نحاول البناء والتأسيس، ولكن الواقع القائم صعب ومعقد، ولذلك لا يكفي أن نأمل ونرجو بأن تمتلك ثقافتنا نظرياً القدرة على البناء والنمو والتصاعد بل لا بد من الاعتقاد أن شرط النمو هنا هو في مدى قدرة ثقافتنا على الدخول في حوار ونقد مع مسببات أزمة وجودنا الراهنة مع أنفسنا أولاً قبل الآخر.
إذ لم يعد مقبولاً أبداً اليوم أن تراوح هذه الثقافة العربية الإسلامية في مكانها ليجتر أصحابها مقولات ومفاهيم خارج نطاق الحياة والعصر.. أو أن تكتفي بترداد أغاني الماضي التليد وانجازات العصور القديمة، بل عليها أن تواكب حركات التقدم الذي وصلت إليه الثقافات الأخرى وأن تتفاعل بشكل خلاق ومبدع مع كل الانجازات العلمية والفكرية التي ساهم بها مثقفو الأمم الأخرى.
وهنا نؤكد دائماً على أن تجاوز هذه الإشكالية قائم على مسألة نظرية بسيطة لكن معقدة وهي: أن نعمل على الاستفادة من ثقافتنا وحضارتنا العربية بما يتلاءم ويتناسب مع حاجات مجتمعاتنا الراهنة المتغيرة ومن دون أن نكون أسرى لقيم الماضي، ومستغرقين في مناخاته القديمة، وأن نأخذ بمعطيات الحاضر ونساهم في تطويره بما يمكننا من استشراف المستقبل.
ويبدو لي أن أهم ما نحتاج إليه في هذا الطريق الطويل هو الثقافة التنويرية، ثقافة العقل والعلم والوعي الحضاري.. حيث لم يعد مقبولاً الاكتفاء بالنشاطات الثقافية الشكلية التي لا تمت إلى الجوهر بل علينا أن نساهم في عملية البناء الفكري الصحيح والمتين الذي يصوب سهامه إلى مكامن الجهل في زوايا مجتمعاتنا المتعطشة إلى نور العلم والمعرفة وهذا ما يتطلب توفير كل المقومات والإمكانات عن طريق إيجاد مناخ يكفل حرية البحث العلمي والإنتاج الأدبي والنقد السياسي، بما يؤهل مجتمعاتنا لأن تكون رائدة في ثقافتها منسجمة مع ماضيها مترقبة لمستقبلها الواعد..
وتلك هي مسيرة الثقافات عبر التاريخ وخلال العصور فالتواصل الثقافي بين الأمم أشبه بسلسلة ذات قنوات متداخلة كل قناة تأخذ مما قبلها وتعطي ما بعدها، هكذا كان حال ثقافات الأمم الغابرة من مصرية ورومانية وفارسية ويونانية وعربية إسلامية مروراً بثقافة أوروبا في عصر النهضة والتنوير وانتهاء بالثقافة المعاصرة التي نعيش في رحاب نتاجها الذي يرفد الإنسانية بعوامل الرقي والإبداع لما فيه خير البشرية جمعاء.
إننا نعتقد ونؤكد –في اعتقادنا- على أن لا بديل لنا كعرب عن الانخراط في الواقع المعاصر، والاهتمام بكل أحداثه ووقائعه وشؤونه المختلفة.. وهذا يتطلب البحث الجدي منا عن مضامين معرفية جديدة، بما يؤهلنا للانخراط الجدي والحقيقي في مقتضيات عصرنا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، بما يقلل من الخسائر التي علينا دفع أثمنتها نتيجة فواتنا التاريخي، ريثما تتوفر شروط عامة للتحرر والانعتاق في المستقبل.
فنحن لسنا وحدنا في هذا العالم، كما أننا لسنا مركزه، أو غايته، أو منتهاه.. بل نحن أمة مثل باقي الأمم والحضارات.. لها ما لها وعليها ما عليها.. إننا أمة من جملة أمم وثقافات، لا يمكن أن نتكور على أنفسنا ونتقوقع ونعيش من دون جيران وأصدقاء ومصالح وتوترات ومناخات باردة أو ساخنة وغيره كما ذكرنا آنفاً.. ولا نستطيع أن ننعزل عن أية تأثيرات وتطورات قد تحدث في العالم الذي نعيش فيه.
ومن أجل ذلك، تظهر أهمية الإصلاح والتجديد الديني والثقافي، وتهيئة الأرضية المناسبة لنمو بذرة الديمقراطية السياسية والاجتماعية والفكرية –إذا صح التعبير- كمهمة عاجلة وفورية تأتي في رأس أولويات التجديد الحضاري السليم.. فمسألة التقدم تستدعي مقولات جديدة: المجتمع المدني، الديمقراطية، الدولة الحديثة، المواطنة، وهذا كله يمكن اختصاره بمقولة واحدة هي: الحكم الصالح. وتبدو أهمية ذلك إذا أدركنا أننا، بشكل عام، لا نملك لغة سياسية حديثة، منظمة ومؤسسة، في بنانا السياسية والثقافية، إذا بقينا خارج تسلسل وتاريخ الأحداث والتغيرات التي تعصف بالعالم المعاصر.
إننا نعتقد أن الدور الأساسي منوط بالفاعل الفردي في كل تلك الأحداث والتطورات المفروضة أو المرغوبة مستقبلاً، وهو دور يقتضي الارتقاء بشروط حياة الإنسان وثقافته وفكره وشعوره الأخلاقي القيمي، باعتبار أن ذلك هو القضية الرئيسية التي تستحق بذل العرق والجهد، في ما وراء الانتماءات القومية والاعتقادات المذهبية والولاءات الجماعية والمناطقية والجهوية. والمدخل الرئيسي لتجديد الفلسفة الإنسانية، هو باب الحرية، والحرية فقط، بالمعنى الفردي والاجتماعي والسياسي.
© منبر الحرية، 12 فبراير 2009

عزيز مشواط21 نوفمبر، 20100

تشكل شعوب العالم العربي الاسلامي في الوقت الراهن احدى الشعوب الاكثر التصاقا بماضيها، في نفس الوقت الذي تواجه فيه تحدي التحديث والتقدم والذي يمثل الغرب نموذجهما. يقول عبد الله العروي في كتابه (الإيديولوجيا العربية المعاصرة): “منذ 75 سنة والعرب يطرحون نفس السؤال: من هو الآخر؟ ومن هو الأنا؟” وإذا كان صاحب مفهوم العقل قد طرح السؤال أواخر الستينيات، فإن الملاحِظ لحركية المشهد العربي الفكري والثقافي لا بد أن يكتشف استمرار حضور نفس الهواجس وإن اختلفت صيغها، ما بين حافر في العقل العربي وناقد له.

يقدم العالم العربي للملاحِظ الأجنبي صورة حية لمجموعة من التناقضات أمام عنف التغيير المفروض بقوة تكنولوجية وحضارية واقتصادية تروج لنموذج النجاح الغربي المدعوم بايمان عميق بالتفوق. ولعل مأثورة عصام العطار التالية خير معبر عن هواجس جيل بأكمله. يقول “كيف نقبل الجمود، بل كيف يمكن الجمود في عالم تتجدد معلوماته ومعطياته ومطالبه ووسائله… باستمرار لا بد لنا من التجدد الدائم والإبداع المتواصل والجهاد المضني في كل مجال… وإلا فقدنا حياتنا ووجودنا الفاعل المؤثر وأزاحنا الركب البشري عن طريقه وقذف بنا إلى هامش الهامش أو هوة التاريخ. فذهبنا جفاء كما يذهب الزبد وغثاء السيل ومحينا من لوحة الحاضر والمستقبل وتحولنا إلى ذكرى من ذكريات الماضي البعيد”. فما بين انجذاب كلي الى ماض مجيد ورهانات التحديث تختلط الدعوات بالصراخ، بالعواطف اللاعقلانية وغليان اجتماعي وسياسي. إنها ملامح أزمة هوية عميقة.

لا بد من العودة إلى الانفجار الحداثي الذي رافق الاستعمار ابتداء من القرن التاسع عشر حيث واجه المسلمون أسئلة هوياتية عميقة. فأصبح  مفهوم الخصوصية المؤسس على قدسية اللغة والتاريخ والدين المشتركين موضع نقاش منذ النصف الثاني من القرن وتعمم بعد ذلك على امتداد العالم العربي الاسلامي. وقد أفرز هذا الاختلال مجموعة من الاستتباعات أهمها على الاطلاق العداء الذي انتصب بين الوطنيين والاسلاميين عند بداية القرن العشرين حيث اعتبرت النزعة الوطنية نقيضا لروح الدين، ولم تتردد في وصفها بالمؤامرة الغربية التي تمس وحدة الأمة. غير أن المسافة الموضوعية بين المثالي والواقعي افرزت فكرة الاصلاح. ومن ثم دعا مفكرو الاصلاح الى العودة الى السلف الصالح والى التقاليد الصافية للدين.

كما لم يحدث قط على امتداد تاريخ الدولة الاسلامية، تطبيق الليبرالية السياسية حيث ظلت السلطة تقريبا في يد حاكم مطلق وهو ما يناقض جذريا الصورة المثالية لأسطورة دين يدعو إلى العدالة والمساواة. وحيث ما وجدت مصلحة الجماعة فثمة شرع الله. والمسلمون باجمعهم لم يستطيعوا التخلص من ذلك.

أما الملاحظة الثالثة فهي غرابة مدى الحيوية الحاسمة للانتماء الى الأمة الاسلامية المتصورة كوحدة في حين أن الحقيقة التاريخية تكذب هذه الاطروحة بشكل سافر. مبدئيا كل المسلمين اخوة في الدين، مهما كان انتماؤهم الاثني، لان منهج الاسلام العالمي يتجاهل الحدود الوطنية.

ولحماية الذات من كل تشرذم وانقسامات طالما لجأت الادبيات الإسلامية إلى اتهام الغير للرد على الواقع المتشرذم للامة الاسلامية، فتعزى الانقسامات الى عدو محتمل يكون سبب المؤامرة المحبوكة (الأعداء-الكفار) الذين يرمون إلى تقزيم الدين من الداخل، وهذا ما يمكن أن يفسر الحذر الذي تقابل به أية محاولة تجديدية، لأن “الاسلام فقد ثقافته الأصلية الى حد بعيد بفعل الافتراءات الكاذبة ذات الأصول الخارجية”.

ومن أجل الهدف نفسه، أي حماية الذات، يعتبر وضع وحدة الأمة في خطر خطيئة كبرى لا يمكن التساهل فيها، ويرمى هذا بالضرورة الى الحفاظ على الانسجام الاجتماعي، حيث يحتل العنصر العربي في الايديولوجية الاسلامية وضعية خاصة في العالم الاسلامي، فالخليفة يجب أن يكون عربيا، واللغة العربية تبقى مقدسة، لأنها لغة الوحي الذي لا يمكن قراءته في غير لغته الأصلية؛ إنها اللغة التي اختارها الله لمخاطبة الجنس البشري.

صحيح ان الساسة الليبراليين حاولوا أمام عجز الاصلاح الذي قاده رواد التقليدية ملئ الفراغ، حيث شكلوا المؤسسين الفعليين لاستقلال الدول العربية، فمزجوا بين ثنائية العروبة والاسلام مستعيرين جهازا مفاهيميا مستمدا من التراث، غير أن نموذجهم السياسي والاجتماعي ظل مستمدا من  النزعة اللائكية والعقلانية الاوروبية.

إلا ان الاضطرابات التي اعقبت الحرب العالمية الثانية، والحرب العربية الاسرائيلية اسهمت في إحداث تغيرات فجائية وجذرية في انبثاق حركات التحرر حيث شكل مفهوم الثورة إحدى المفاهيم العامة التي طبعت المرحلة.

وقد طرحت على النزعة العروبية مجموعة من التحديات تمثلت في هذا التحدي المزدوج الذي يمثله الغرب من جهة والبنيات التقليدية المهيمنة من جهة اخرى. فسادت نزعة مناوئة للنموذج الغربي باسم الأصالة والخصوصية والقيم المسماة أصيلة، كما شهدت المرحلة نوعا من التماهي بين العروبة والاسلام. وهو اتجاه شمل حتى بعض المنظرين المسيحيين الذين أكدوا على الأبعاد الاسلامية للشخصية العربية معتبرين بانها موروث مشترك بين افراد الامة.

يعرف العالم العربي الاسلامي حاليا العديد من التغيرات تمس العقلية السائدة يرافقها قلق حاسم ناتج عن تعدد الاجابات المقترحة للرد على اكراهات وضعية فقدان الهوية، ويمكن تلخيص ذلك في التناقض بين الاصالة والمعاصرة الثورية. ولقد حاول التيار الاصولي تحقيق هذه الاجابة من خلال الدعوة الى عودة الامة العربية الى تطبيق الشرع الاسلامي مستمدا من السلف الصالح نموذج العمل والتأهيل.

تلك هي بعض سمات المجتمعات العربية الاسلامية الباحثة عن استقرار هوياتي تأوي اليه عندما تضيع كل النماذج المسماة مرجعية وهي السمات التي لا يمكن فهمها في انفصال عن بنية شديدة التعقيد من العوامل التاريخية والسياسية والدينية.

© منبرالحرية، 4 أيلول 2008.

peshwazarabic21 نوفمبر، 20100

بعد هجمات 11 سبتمبر في نيويورك، وهجمات 11 مارس 2004 في مدريد، وتفجيرات لندن في 7 يوليو 2005، كثيراً ما يذكرنا الساسة بخطر الإرهاب المستمر وبأنهم يحتاجون إلى مزيد من الصلاحيات لحمايتنا. أنا أعيش في مدينة يعمها السلام في بلجيكا، والذعر أصابنا نحن أيضاً. بدأت مدينة آنتويرب موخراً بوضع كاميرات مراقبة على مدار الساعة في الساحة الرئيسية في حرم الجامعة. لا عجب أن عامة الشعب مستعدون لإعطاء الصلاحيات للحكومة لوضع مقاييس مراقبة قمعية تهدد الحرية بشكل كبير. وبدلاً من أن تجعل الناس أكثر أماناً، يحدث العكس: يستغلون الاستياء الاجتماعي لاكتساب النفوذ السياسي ويفاقمون شعور الخوف بين الناس. إننا نرى المزيد والمزيد من كاميرات الشرطة معلقة في الأماكن العامة. لكن، لا يوجد أي دليل على أنها تجعلنا أكثر أماناً.
إن السياسيين الشعبويين، حتى الذين تتوقع مناوئتهم لمزيد من السلطات الحكومية، يدافعون عن الحالة الجديدة من المراقبة المستمرة على أساس افتراضات لا أساس لها من الصحة وملاحظات كاذبة ومخاطبة التوجهات الديماجوجية التي تسببها حالة الهستيريا الجماعية. النتيجة هي تآكل الحريات المدنية.
واحدة من الافتراضات التي لا أساس لها هي أن الكاميرات ستمنع العمليات الإجرامية من الحدوث، لكن، ببساطة هذا غير صحيح. لا تتوقف العدوانية ولا العنف حيث توجد الكاميرات: تصل الأجهزة الأمنية دائماً متأخرة، وأحياناً عندما تكون الحادثة قد حدثت. فهل منعت الكاميرات تفجيرات لندن؟
المسؤولية لا تقع على السياسيين وحدهم؛ سلبية المواطنين أيضاً تساهم في انخفاض الحرية بسبب تزايد الكاميرات. مواطنون كثيرون يفكرون “أنا لست مجرماً، فماذا عليّ أن أخبّىء؟” الثقة العمياء بالدولة عند بعض المواطنين مثيرة للذعر. في النهاية، الدولة ليست أكثر من نظام يعهد إلى بعض الأفراد احتكار سياسة الإكراه. نفس هؤلاء الأفراد لهم مصالحهم الخاصة، ومن أهم هذه المصالح الاحتفاظ بالسلطة. الحقيقة هي أن الحكومات الحديثة التي تمتلك قوى بوليسية فائقة قتلت وقمعت أعداداً من الناس أكثر بكثير مما تسبب به المجرمون الذين تحمينا الدولة من عنفهم. نحن نحتاج إلى أن تحمينا الدولة من المجرمين، لكننا نحتاج إلى أن نحمي أنفسنا من إكراه الدولة.
المواطنون الأحرار لا يستطيعون أن يكونوا سلبيين تجاه الحكومة. يجب علينا كمواطنين واعين ومنتبهين التأكد من أنه لدى الحكومة فقط السلطات الضرورية لحماية حريتنا، وأن هذه السلطات محدودة بحيث لا تصبح تهديداً لهذه الحريات.
هذا يعيدني إلى الكاميرات المعلقة بالساحة قرب منزلي. عندما لاحظت في بداية الأمر وجودها وما هي بالضبط، غضبت لأن كثيراً من الناس المسالمين كانوا تحت مراقبة الشرطة. حتى في دولة مسالمة مثل بلجيكا، يجب ألاّ نفترض أبداً النوايا الحسنة وراء سلطات الدولة. الادعاء بـ”النوايا الحسنة” لا يكفي لتبرير سياساتهم: الجميع يعتقد أن نواياهم جيدة، لكن، عندما يكون لدى السلطات حق احتكار سياسة الإكراه، يستطيعون أن يفرضوا آراءهم على بقيتنا.
تصر السلطات دائماً على السيطرة على تحرّك الناس. يجبرونك على حمل وثائق صادرة عن الدولة لتثبت هويتك. يسجلون تاريخ دخولك إلى البلد وتاريخ خروجك منه. يريدون معرفة مكانك وماذا تعمل. الكاميرات هي الأسلوب الأفضل لتحديد مكان المواطنين! إنهم لا ينامون أبداً! يسجلون كل شيء. ومع برامج الكمبيوتر الحديثة للبحث عن المعلومات والبرامج التي تتعرف على الوجوه والقامة، سيتمكنون من ملاحقة أي شخص إلى أي مكان تقريباً. وإذا سقطت مثل هذه المعلومات في أيدي الأشخاص الخطأ، فستكون النتائج دراماتيكية.
كما يقول تقرير من قناة الـ بي بي سي، قامت الحكومة في بريطانيا العظمى بوضع كاميرات يقوم موظفون مدنيون بالعمل عليها في غرف تحكّم. يشاهدون المواطنين وهم يعبرون الشوارع ويتنزهون في الأحياء. إذا لم يستخدم أحدهم المكان المخصص لعبور الشارع أو رمى قمامة على الأرض، يوجه الموظف المدني له رسالة بأنه ارتكب إساءة وأنه يجب أن يعدّل سلوكه.
يصعب تخيّل هذا في بلد أنتجت “الماغنا كارتا” ووثيقة الحقوق! تبدو كأنها هلوسة من كتاب جورج أورويل 1984، لكنها بريطانيا العظمى اليوم.
هذا لم يحدث في بلجيكا بعد… لكن ظهور مزيدٍ من الكاميرات في أي بلدٍ كان شيءٌ مقلق يجب على المواطنين الأحرار مقاومته.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 11 كانون الأول 2007.

peshwazarabic21 نوفمبر، 20100

كان يفترض أن يكون عام 2006 بالنسبة للبنان عاماً مميزاً فائقاً. كانت التوقعات من الناحية الاقتصادية بأن تسجَّل أرقامٌ قياسية بحضور مليوني سائح—وهي موارد يحتاجها لبنان لدعم الثقة في شعب مصدوم. لسوء الحظ لم يتحقق أي من تلك التوقعات. وبدلاً من ذلك فقد كان لبنان المسرح لحرب مكلفة استمرت شهراً كاملاً بين إسرائيل وحزب الله، كما أنها الآن ميدان لنزاع خطير واصطفاف خطرٍ شبيهٍ بالحرب الأهلية بين السنّة والشيعة التي تجري في العراق. شوارع بيروت تبدو على شفا كارثة. ولكن من المهم أن نتذكر بأن مشاكل لبنان ليست من صنع محلي. إنها عالمية في طبيعتها—سواء في نشأتها أو في حلولها.
جذور الصراع هي في جوهرها شخصية. لقد كانت الحرب في لبنان في شهر تموز الماضي كنوع من المبارزة الشخصية الذاتية بين أيهود أولمرت في إسرائيل وبين حسن نصر الله زعيم حزب الله. كان أولمرت تواقاً إلى إثبات أن انعدام خبرته العسكرية ليست مانعاً أمام قيادته، بينما أراد نصر الله أن يحرز العظمة والسمعة اللتين تتأتيان من مقارعة إسرائيل، وهي أقوى القوى في المنطقة. بيد أن هذه الحرب الشخصية الذاتية تجاوزت بكثير النزاع المباشر. إن النتائج المضطربة لتلك الحرب عرّضت أولمرت إلى التحقيق البرلماني في إسرائيل، كما أنها أعطت نصر الله القوة والحافز لاكتساب المزيد من النفوذ في لبنان، وإلى مزيد من اصطفاف الشعب. اليوم نصر الله يستغل تلك المكاسب استغلالاً تاماً. إنه وبمعونة مالية من طهران يحاول تغيير الديناميكية السياسية في لبنان لصالحه.
كانت الحرب الأهلية اللبنانية في عقد السبعينات حرباً في غالبيتها بين المسيحيين والمسلمين. أما اليوم فإن لبنان على ما يبدو هو منقسم نصفياً على الحكومة برئاسة رئيس الوزراء فؤاد السنيورة والمعارضة التي يرأسها حسن نصر الله. ففي الداخل يحظى السنيورة بتأييد غالبية المسيحيين، والسنّة، والدروز. أما نصر الله فإنه يستند إلى تأييد الشيعة وبعض الجماعات المسيحية وغيرهما من الجماعات المؤيدة لسوريا والتي تتلهف لاسترجاع مواقعها السياسية التي خسرتها عندما أُرغمت سوريا على مغادرة لبنان في عام 2005.
هذه السياسات الداخلية المعقدة تزداد تعقيداً نتيجةً للعلاقات الدولية والتعاطف والمصالح الإقليمية. خارجياً فإن فؤاد السنيورة يحوز على تأييد الغرب—الولايات المتحدة وفرنسا في طليعتها—ومعظم الحكومات العربية السنية بما في ذلك المملكة العربية السعودية. أما المؤيد الرئيسي لحسن نصر الله فهو إيران ومعها سوريا وكيلتها.
لم يكن السنّة والشيعة في لبنان في يوم من الأيام أبعد عن بعضهم بعضاً مما هم عليه الآن. إنهم يتجهون نحو انقسام سياسي شبيه بذلك الذي كان يفصل بين البروتستانت والكاثوليك في إيرلندا الشمالية في أوج صراعهما في عقد السبعينات. ومع تسلح حزب الله هذا التسلح الشامل، فإن طموحات نصر الله للسيطرة تملك القدرة على تدمير لبنان. وقد أعطى قبل أيام بياناً أعلن فيه بأنه يملك القدرة على قلب حكومة السنيورة. لقد أصبحت دوافعه تتبلور شيئاً فشيئاً.
الحالة في لبنان أصبحت الآن يائسة إلى درجة تتطلب توجهات سياسية جديدة. التوترات المستمرة بين طهران وواشنطن تتفاعل على أرض لبنان. ونتيجة للمكاسب التي حققها شيعة العراق في أعقاب “تحرير العراق” فقد وجد الشيعة اللبنانيون الآن الفرصة للهيمنة على لبنان وإدخال إيران الثيوقراطية الدينية. لا يجب أن يسمح لذلك بأن يقع.
وكما هو الحال في العراق، فإن إيران الآن تستخدم حزب الله للنيل من استقرار لبنان كما هي مستمرة في السعي لزيادة نفوذها السياسي. لقد قاوم السنّة وحلفاؤهم المسيحيون في لبنان بنجاح تلك المحاولات حتى الآن. اللعبة التي تقوم بها طهران وحزب الله خطيرة جداً.
إن شعبية حزب الله التي اكتسبها بعد حرب الصيف ضد إسرائيل قد ذوت الآن في العالم العربي السنّي. السنّة في لبنان الآن يشككون في ولاء الشيعة: هل هم لبنانيون وتصادف كونهم شيعة، أم أنهم شيعة تُفرض عليهم السياسات من إيران؟ إذا ما أُرغمت الحكومة على الانهيار نتيجة جهود نصر الله ومؤيديه، فإن لدى لبنان الكثير من العناصر التي تهدد بجعله عراقاً آخر مع إمكانياتٍ قاتلة جداً بالنيل من استقرار شرقي البحر الأبيض المتوسط. كما أن إمكانيات وقوع الاضطرابات يمكن أن تجر بعض شعوب الخليج العربي إلى الاقتراب أكثر إلى إيران مع تواجد مجتمعات شيعية كبيرة.
إن تغيير النظام في العراق والمستنقع الذي حلّ محله منذ ذلك الحين قد أفاد إيران وحلفاءها الشيعة. حزب الله هو أحد أولئك المستفيدين. إن جهود نصر الله الأخيرة لقلب الحكومة اللبنانية إنما يخدم كمؤشر ومذكر للفشل الأمريكي في العراق وفي غضون ذلك فإن لبنان ينزف دماً بغير قدرة على وقفه. إن من الضرورة بمكان أن تطالب المجموعة الدولية بتجريد حزب الله من السلاح وأن تُنفِّذ قرار مجلس الأمن رقم 1701، والذي يزيل عملياً قدرة إيران وسوريا على إبقاء جنوب لبنان كساحة عسكرية مفتوحة لحرب استنزافٍ بالوكالة ضد إسرائيل. ولا يجب أن يُقبل أي شيء أقل من ذلك.
© معهد كيتو،منبر الحرية، 14 شباط 2007.

peshwazarabic21 نوفمبر، 20100

الإسلام، وهو أحد أسرع الديانات السماوية انتشاراً في العالم، قد جوبه بالتحدي لتحديد معايشته مع الديانات الأخرى منذ 11 أيلول 2001. إن الهوية وفحص الذات قد أرغمت مسلمين عديدين في مختلف أنحاء العالم على دراسة توجه دينهم في خضم الإرهاب والتطرف اللذين ارتبطا بالإسلام خلال السنين الأخيرة.
هذا التحدي هو أقسى بكثير بالنسبة للمسلمين في بريطانيا. إنهم دعاة في الخطوط الأمامية يعيشون بين أمة تزداد شكوكها. إنهم يحاولون أن يشرحوا لماذا أن الإسلام لا يتفق مع الإرهاب وكيف أن الأحداث الرهيبة التي وقعت في تموز 2005 كانت نتيجة أفعال عدد من الأشخاص الفاسدين الذين اختطفوا دينهم وأساءوا إلى صورته. المقالات الأخيرة التي نشرت حول نمو الراديكالية بين الطلبة المسلمين في الجامعات البريطانية والمناقشات التي دارت حول الحجاب قد هيمنتا بشبحهما على الجالية المسلمة في بريطانيا. ومع ذلك فإن التحدي الأعظم الذي يواجه البريطانيين المسلمين هو في تحديد هويتهم كبريطانيين وهم في الوقت ذاته مسلمون وليسوا مجرد مسلمين يعيشون في بريطانيا.
المسلمون هم قادمون متأخرون نسبياً للمملكة المتحدة. معظمهم ما زالوا يتمسكون بقيم عائلية قوية التي تؤكد على التقاليد الثقافية التي تربطهم ببلدانهم الأصلية حيث كثيراً ما تكون السياسة متداخلة مع الدين. ولكن وحتى يتمكن المسلمون من الاندماج بنجاح في الثقافة البريطانية فإنهم يحتاجون إلى أن يكونوا صادقين ليس فقط مع دينهم ولكن أن يستطيعوا الاندماج أيضاً على الأقل في معظم وأهم القيم في الثقافة الأوروبية. إن تحقيق الهدف الأخير هو عملية تطورية تحتاج إلى الوقت والجهد.
قد يكون من المفيد للمسلمين أن يتفحصوا النجاح الذي أحرزه المهاجرون اليهود في الاندماج في الولايات المتحدة. ومثل كثيرين من المهاجرين إلى أمريكا الشمالية فقد كان لدى المهاجرين اليهود قضاياهم الخاصة بهوياتهم اضطروا إلى مواجهتها قبل حوالي القرن. لقد وصل معظمهم من أوروبا وكان على اليهود أن يتعلموا بسرعة كيف يصبحون أمريكيين مع الاحتفاظ بهويتهم اليهودية.
الذوبان في المجتمع الجديد كان يعني لهم عملية بطيئة من الابتعاد عن بلادهم القديمة ولكن مع ذلك فقد احتفظوا بالهوية الثقافية التي مكنت اليهود من الاحتفاظ بوحدتهم. وبتطور الجيل الثاني برز الأمريكيون اليهود ومعهم مجموعة جديدة من القضايا الداخلية والاستراتيجيات لتدبير أمورهم.
اجتماعياً، كان هنالك مقاومة مبدئية واجهت العائلات اليهودية المهاجرة من قبل السكان المحليين. وقد خفت حدة هذه المقاومة مع مرور الوقت—ولكنها لم تختفي كلياً. وقد تعود اليهود على مواجهة التمييز بين الحين والآخر ولكنه كان متواصلاً، ولكنهم تعلموا كيف يتحدونه بشكل موحد عن طريق إنشاء لجان عمل سياسية ومنظمات غير ربحية.
المسلمون الأوروبيون تحدروا من منابت أكثر تعددية وتباعداً، وما يجمعهم هو أقل إلى حد كبير ثقافياً مما كان يجمع المهاجرين اليهود في أوائل القرن العشرين وأواخر القرن التاسع عشر. لذا فإن الدين كثيراً ما يكون هو عنصر التوحيد الوحيد الذي يجمع بين المصريين والباكستانيين والصوماليين.
وحيث يأخذ المسلمون بإعادة النظر في أولوياتهم، فإنهم يستطيعون كذلك الاستفادة من النظر إلى تطور اليهودية في الولايات المتحدة. فبإدراكهم بأن التعاليم الدينية اليهودية قد تطورت لمواكبة التغيرات الاجتماعية الصادرة نتيجة نزوح جماهيرهم من مختلف أسقاع العالم إلى الولايات المتحدة، فقد أصبح الحاخامات في الولايات المتحدة أكثر مرونة تدريجياً وأخذوا يغيرون من رسالاتهم بحيث تتواكب مع مستلزمات وجودهم ضمن التجمعات الأمريكية.
يتوجب على المسلمين البريطانيين وغيرهم من المسلمين الأوروبيين النظر في الأخذ بهذا الأسلوب وأن ينتهجوا سياسة تجعلهم مستقلين عن أية سيطرة دينية من البلدان التي تحدروا منها. وعلى سبيل المثال يتوجب على المدارس الخاصة التي تدعوا إلى توجهات سياسية ودينية تتعارض مع القيم الغربية في التسامح أن لا تُشجع وأن لا تُؤيد من قبل الجاليات المسلمة. تلك المدارس تجعل الاندماج في المجموعات الأوروبية الأكبر أكثر صعوبة بالنسبة للأطفال المسلمين ومن شأنها أن تقود إلى مواجهات اجتماعية مع البلدان التي ارتضوها وطناً جديداً.
على القادة المسلمين أن يتفحصوا الحاجات المحلية التي تؤثر على رعاياهم وأن يكونوا القوة الدافعة لاندماج أقوى في المجتمع البريطاني. وعندما يتعرضون للاضطهاد يتوجب عليهم أن يتحدثوا مجتمعين بصوت واحد. وعندما تحل الفظائع بإخوانهم وأخواتهم في بلدان مثل دارفور، عليهم أن يكونوا أول من يتحدث ويستنكر.
الإسلام دين غني وعريق ولديه الكثير مما يُعطي. على المسلمين الأوروبيين أن يُتيحوا لدينهم بالتطور بشكل يتوافق مع قيم الوطن الأوروبي الذي أصبحوا مواطنين فيه. إنها فترة تأقلم ولا يمكن أن تتم بين عشية وضحاها.
إن اندماجاً ناجحاً هنا سيكون له انعكاسات إيجابية وتداعيات على مستوى العالم. لقد وُجه اللوم إلى المسلمين بشكل عام بسبب أحداث 11/9 وكذلك الهجمات التي وقعت في لندن. لقد كان ذلك خطأً يؤسف له. يجب أن لا يُعتبر بليون مسلم مسؤولين بسبب عمل قام به 19 قاتلاً. ومع ذلك فإن كثيراً من المسلمين في أوروبا يواجهون الآن تحدياً في تحديد وإعادة صياغة تفسيرهم لدينهم. إنها فرصة يتوجب الأخذ بها.
© معهد كيتو، منبر الحرية، 17 كانون الأول 2006.

peshwazarabic21 نوفمبر، 20100

في الحرب ضد الإرهاب، تعتبر الولايات المتحدة جنوب شرق آسيا كـ”جبهة ثانية”، مع تركيز الاهتمام على الجماعات الإسلامية الراديكالية، التي يقال إنها تعمل مع القاعدة. هذا الوصف يُغاير تقاليد المنطقة في التسامح، وتوجهها التقدمي الثابت، فيما يتعلق بأهمية حكم القانون والمحافظة على حقوق الإنسان. ومع أن مرتكبي ومزودي العنف يستحقون العقاب السريع، فإن التوجهات الراديكالية في العقد القادم لا يمكن وقفها إلا بالتأكيد على التقاليد السلمية والديمقراطية في المنطقة، بدلاً من إعطاء الحكومات صكاً مفتوحاً للدوس على حقوق الإنسان، والحريات المدنية، باسم الأمن الوطني.
في محاولات رسم صورة عن تأثير الإسلام في حكومات جنوب شرق آسيا، فإن صنّاع السياسة وكذلك الأكاديميين ينحون إلى النظرة إلى الإسلام نظرة ثنائية مزدوجة: إنه إما معتدل أو متطرف، ليبرالي أو محافظ، داعية إصلاح أو تقليدي. هذا بطبيعة الحال هو عودة إلى التشويه الذي مارسه المستشرقون في الماضي والذي اتسم بنزعته إلى إطلاق أحكام كاسحة عامة. نستعيد إلى الذاكرة، على سبيل المثال، كتاب كليفورد جيرتز، ديانة جاوة (كلينكو: فري برس، 1960)، حيث ينظر إلى مجتمع جاوة بشكل أساسي، بالنسبة لتوجهاته الدينية بأنه ذو قطبين—ما بين سانتري وأبانجان، الأول ممثلاً للأقلية الدينية الزاهدة بقيادة كييه، والتي تعيش في مجتمعات تعاونية، والثاني، ويشمل غالبية سكان جاوة، الذين يصفهم بأنهم مسلمون بالاسم، من حيث أنهم مرتبطون جداً بالأشكال الفنية والممارسات في عصر ما قبل الإسلام، وإلى حد كبير ليسوا مهتمين بواجباتهم الدينية. هذه المجتمعات التعاونية “البيزانترن”، مثلها مثل المدارس في أجزاء أخرى من جنوب شرق آسيا، وكذلك في الباكستان، ينظر إليها الآن بأنها الوعاء الساخن الذي يُولِّد الإسلاميين المتشددين. نتيجة مثل هذا التصور هي وضع منظمات قائمة على المبادئ الإسلامية في قفص الاتهام، ونعتها بالراديكالية، مع توجه بالتحول إلى كيانات إرهابية، أو التعاون مع المنظمات الإرهابية، وهي، دون شك، ظاهرة لعقلية منحازة وجامدة في عدائها للإسلام، والتي تحول دون التمييز بين الإسلام السياسي العام، وبين أطرافه المتطرفة.
هذه النظرة المبسطة، يشارك فيها لسوء الحظ رجال دولة متنوّرون في المنطقة. إن استجابتهم للراديكالية تمثلت في وصفات سياسية تستند إلى القوة النارية، والقوة الاقتصادية، وتوجه علوي تجاه المجتمعات الإسلامية. مثل هذه السياسة، بكل تأكيد، لا يمكن الاستمرار فيها على المدى الطويل، كما لا يمكن اعتبارها مستندة إلى الحكمة وبُعد النظر. إنها تفشل في الاعتراف بأن بلداناً غالبيتها إسلامية مثل ماليزيا وإندونيسيا، استطاعت في الماضي وقف انتشار الحركات الشيوعية بفعالية، مثل حزب الملايو الشيوعي وحزب بارتاي كوميونس إندونيسيا (الحزب الشيوعي الإندونيسي).
على سبيل المثال، الرأي السائد الذي يعزو فشل الثورة الشيوعية في ماليزيا حصراً إلى سياسات القوى الاستعمارية البريطانية في “كسبها لعقول وقلوب” الناس، هو رأي خاطئ، من حيث أنه يتجاهل دور العلماء المسلمين ومنظماتهم في مقاومة الحرب السيكولوجية للشيوعيين. كما أنه يتجاهل التاريخ الطويل للاعتدال الذي يجسد الإسلام في جنوب شرق آسيا، والذي مَكَّن المجتمعات من مقاومة الهجمات الفكرية العقائدية التي حدثت في العقود الأولى من القرن الماضي في الشرق الأوسط. السياسات الصائبة للتعامل مع المسلمين لا يمكن أن تُرسم بدون فهم عميق لهذه التجربة التاريخية الفريدة، ومثل هذا الفهم لا يمكن أن يتأتى من النظرات النمطية والكليشهات للإسلام، كما لا يمكن أن يتأتى من النظر إلى الإسلام السياسي بأنه كتلة كبيرة خطرة. التوجه يجب أن يستند إلى التزام مستدام للبناء على طابع الاعتدال الغالب الذي يتسم به، والمساعدة بكل الوسائل الممكنة للحفاظ على هذا التراث، في الوقت الذي تتم فيه مكافحة العناصر الأكثر راديكالية.
لسوء الحظ، الحكومات في المنطقة قد تخلّت عن استراتيجية أكثر اعتدالاً من حيث التسامح والتعايش، في الوقت الذي انتهجت فيه سياسات نمو اقتصادي. بيد أنها اعتنقت بدلاً من ذلك ديانة جديدة تحت شعار محاربة الإرهاب. وفي فعل ذلك، فإنها تمشي على قشر بيض بالتحالف مع الولايات المتحدة، التي تتسم سياستها الخارجية بذلك التصميم “الولسوني” الذي قادها إلى غزو العراق بمفردها. لذا، فليس من المستغرب أن تعامل الوصفات الصادرة من أمريكا بالشك، وبالأخص من قبل المجتمعات الإسلامية والتي ترى أنماطاً من القوانين الصارمة التي تكتنفها السرية، والتي أصبحت الآن تطفو على السطح، من قبل متآمر معها غير متوقع.
لا شك بأن هذا يجسّد ارتفاع المشاعر المعادية لأمريكا. بيد أن انتشار الراديكالية الإسلامية في جنوب شرق آسيا يجب أن يفهم في الإطار الأوسع لتاريخ المنطقة، وليس فقط من منظار 11 أيلول. وبينما تؤخذ بعين الاعتبار الأسباب الخارجية، مثل التعاطف مع معاناة الفلسطينيين، أو الاحتلال الظالم للعراق كمبررات لجو العداء، فإن بالإمكان دون طول عناء، وبعد الفصل بين الرومانطيقية والحقائق الثابتة، إدراك أن القضايا الملحة هي ذات جذور محلية، وأكثر تنويعاً بكثير من اليافطة العامة التي تنسبها إلى القاعدة.
وفي النظر إلى المستقبل، هنالك تحديات عديدة يتوجب معالجتها على امتداد جنوب شرق آسيا. ففي جنوب تايلندا، حيث تزداد الراديكالية بين المسلمين، والتي تتصدر العناوين للأسباب الخطأ، يتوجب على القوى ذات الفعالية أن تعالج الأسباب الجوهرية والتي تعود إلى عدة قرون من المطالبة بالحكم الذاتي. مرة أخرى، فإن سياسة قائمة على أساس جهود منتظمة لمحو لغة المجتمع الأم، وبغض النظر عن أنها تستند إلى تمييز عرقي، فإنها محكومة بالفشل. لحسن الحظ، فإن التصريحات التي أطلقتها مؤخراً سلطات تايلندا، والتي أعربت فيها عن استعدادها للتفاوض مع الانفصاليين، هي تطور إيجابي يفسح الأمل بإمكانية التوصل إلى حل عادل للقضية.
وبينما نحن نعرف بأن سلسلة الانفجارات الإرهابية التي وقعت في مانيللا مؤخراً كانت أقرب إلى نمط انفجارات بالي، فيجب أن لا تنسى السلطات بأن انتفاضة المورو في جنوب الفيليبين قد مضى على اندلاعها أكثر من عشرين عاماً، وأنها نشأت من عوامل سياسية، واجتماعية–اقتصادية، ليس لها علاقة بموجة الإرهاب الراهنة. إن لها كل العلاقة بتهميش المسلمين الفقراء، بحيث أنه إذا استمرت تلك المظالم دون معالجة، فإن الجماعات الراديكالية لا بد وأن تنمو.
لقد تجاوزت إندونيسيا “النظام الجديد”، ودخلت في عصر الإصلاح، بعد أن خلصت من الخراب الذي أنزلته الدكتاتورية العسكرية. مَن نحن لكي نذكرهم بشرور حكومة قائمة على الاستبداد، والإكراه والقمع؟ وعلى النقيض من ذلك، يجب أن نتعلم دروساً من النتائج المُرَّة التي عانينا منها نتيجة مثل تلك الحقبة الطويلة من السلطة المطلقة غير المقيّدة، والتي شهدت أيضاً انفجار العنف والقتل والدماء بين الطوائف الإثنية.
وفي هذا المجال، فإن الدعوات العرقية التي يطلقها بعض القادة هي تذكير مخيف للسياسة المدمرة التي تتولد عن الحكم المطلق. عندما توضع السياسات الحكومية على أسس شوفينية، مصحوبة بممارسات قائمة على الانحياز، فإن عدم الرضا هو النتيجة الحتمية. يجب أن تعالج هذه القضية في الجوهر، في الوقت الذي يتاح فيه للمجتمع المدني بأن يزدهر. يجب أن توسَّع المجالات الديمقراطية، لا أن تتقلص مساحاتها.
في ماليزيا، فإن الدعوة التي تطلقها الجماعات المنشقة هي التحرك فيما هو أبعد من إطار السياسة الاقتصادية الجديدة الذي مضى عليه أكثر من عقد، والتقدم نحو وضع مخطط لتضييق الهوة الاقتصادية القائمة على أسس إثنية. هذا التصور الجديد هو على نقيض كبير من تصريحات ونصائح لي كوان يو الأخيرة لجارات سنغافورة، والتي يدعو فيها إلى عدم تهميش المواطنين الصينيين. إن أقواله تجسد الجيل القديم من القادة، الذين كانت عقولهم حبيسة الأطر السياسية المستندة إلى العرق، والتي تمنع انسجاماً اجتماعياً أعظم وتنمية أوسع. ماذا عن معاناة غالبية أهل ماليزيا، والهنود، وما يُقَدَّر بحوالي 40 مليون معدم في أندونيسيا، أو حتى معاناة الأقلية الماليزية في سنغافورة؟
لا يمكن أن ننفي بأن الإرهاب المستورد قد أوقد النار الراديكالية، وأدى إلى أعمال مشينة في المنطقة. إن ذلك كان بشكل واضح انحرافاً يقتصر على جيوب صغيرة. ولكن، سوف يكون قصر نظر إذا كانت السياسات التي سوف تطبق في جنوب شرق آسيا جواباً على تلك المخاطر والتهديدات، سياسات اليد الثقيلة، والتي تمليها إلى حد كبير متطلبات تعزيز علاقات مع دولة عظمى. فعن طريق طرح الأسئلة الصحيحة، والتوصل إلى نتائج صحيحة، يبدو جلياً أنه يتوجب العمل بجدية لمعالجة الأسباب، لتفادي المخاطرة بإشعال نيران الفتنة. إن أملي هو أننا في آسيا نستطيع في العقد القادم أن نكتشف الثقة والإرادة للاعتراف بحقوق الناس، وأن نعارض أولئك الذين يودون سلب تلك الحقوق والحريات. وفي الوقت الذي تمضي فيه المنطقة نحو الديمقراطية، فإنها يجب أن تتمسك بالتعددية الثقافية، وأن تعمل على تأييد سياسات النمو الاقتصادي، وسياسات السوق، التي تضمن تنمية مستدامة. إن مستقبلا مزدهرا هو جزء لا يتجزأ من التزام حازم بمبادئ التوزيع العادل، وحكم القانون، والاحترام العميق لحقوق الإنسان.
بالتنسيق مع دورية اقتصاد الشرق الأقصى (فار إيسترن إيكونوميك ريفيو)، تشرين الثاني 2006.
© معهد كيتو، مصباح الحرية، 21 تشرين الثاني 2006.

peshwazarabic19 نوفمبر، 20103

في مستهل المقالة يجدر بنا القول، من أن حركة الإصلاح الديني التي انطلقت من أوروبا، قد توضّحت معالمها، واشتد عودها في القرن السادس عشر الميلادي، في عصر النهضة فتجلّى العالم المسيحي بعد بروز الحركة بثوب الانقسام الديني، تمثل الانقسام بالبروتستانت كمذهب إصلاحي جديد ببزوغ فروع عديدة له في أنحاء أوروبا، في مواجهة المذهب الكاثوليكي التقليدي السائد عموما في روما بإيطاليا حيث مقرّ البابوية، فجاءت حركة الإصلاح الديني بمثابة تمرّد على البابوية ورجال الدين في روما، حيث كانت إيطاليا لوجود البابوية في روما قبلة المسيحيين، لكن الانقسام شمل رجال الكنيسة أنفسهم في روما، فظهرت بابويات ادعت المرجعية خارج روما بل وحتى خارج إيطاليا، ومن ثمّ الطعن في المرجعيات الأخرى، مما أفقد البابوية هيبتها وقدسيتها، فضلا عن تهافت كبار رجال الدين على الاغتناء، والانهماك في الترف والمجون والفسق بعيدا عن روح التقشف والتضحية والروح المثالية التي عرف بها رجال الدين، وشاعت عن رجال الكنيسة سبل الغدر والخيانة، وعمليات التآمر والاغتيال بدس السم وسواه، كل هذا حدا بعض المصلحين للتنادي بإصلاح الكنيسة، وجاء القدح والذم بالقائمين عليها، ورأوا أن بعض طقوسها بدعة لا يمت إلى الدين الذي بشّر به السيد المسيح عليه السلام بشيء..
علينا ألا نغفل أنه بالتزامن مع معالم النهضة في أوروبا كانت ثمة عوامل مساعدة ومشجعة لحركة الإصلاح الديني، حالات تمثلت بظهور الحركة الفكرية، الإقبال على دراسة التراث اليوناني واللاتيني، تشجيع العلوم، إنشاء المكتبات، حلول لغات الشعوب القومية (الألمانية.. الفرنسية.. الإنجليزية ….إلخ) محل اللاتينية، فصار بمقدور هذه الشعوب القراءة والكتابة بلغاتها، اختراع الطباعة في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، التي عدّها مارتن لوثر من أعظم فضائل الرب على عباده، ثم كان اختراع الورق وهكذا، فاختراع المطبعة والبوصلة والبارود جاء في فترات زمنية متقاربة، حتى أن أحد المفكرين قال بأن المطبعة والبارود والبوصلة غيرت وجه العالم، بل قل خارطة العالم…
بمجرد الكلام عن حركة الإصلاح الديني لا بد أن يقفز إلى ذاكرتنا شخصية الراهب مارتن لوثر (1483- 1546) كمصلح ديني ذائع الصيت، اقترن اسمه بحركة الإصلاح فهو مؤسس المذهب البروتستانتي، ومارتن لوثر وسواه من المصلحين  دعوا رجال الدين إلى الخلق القويم، وانتقدوا رجال الكنيسة لانصرافهم لجمع الثروة وإلى الحياة اللاهية الماجنة، وهاجموا حياة الرهبنة باعتبارها حياة ذل واستكانة، وتساءل مارتن لوثر عمّا يمنع هؤلاء من الزواج، ومارتن لوثر نفسه وكسرا للقاعدة السارية كونه راهبا بادر إلى الزواج من راهبة  تدعى كاترين بورا..
في إحدى زياراته الرسمية إلى روما، هاله ما رأى من انهيار للقيم الأخلاقية لدى رجال الدين الذين يحوطون بالبابوية لهذا راح يقول : (إن كل من يذهب إلى روما يشعر أن عقيدته الدينية تترنح تحت الضربات التي تصيبه جراء ما يرى هناك…) وهو القائل (كلما اقتربت من روما شاهدت أسوا المسيحيين)، لكن المفاجأة التي صدمته في الصميم هي قيام أحد الكهنة بتوجيه من الكنيسة ببيع (صكوك الغفران) فاحتج لوثر على ذلك غاضبا، ودعا علماء الدين لمناقشته  في هذه المسألة، وبأن هذا يتنافى مع حقيقة المسيحية، وبأن لا أحد حتى البابا نفسه لا يستطيع غفران الذنوب، والله وحده قادر على غفران ذنوب البشر، وأن صكوك الغفران بدعة، بل حتى البابوية نفسها اعتبرها مارتن لوثر بدعة ..
جرت محاولات للمس بحياة مارتن لوثر، لكن جاءت حمايته من قبل بعض المستنيرين في سلطة الدولة، لأنه هو الذي دعا رجال الدين إلى الخضوع للسلطة المدنية، كما دعا إلى الحد من الأديرة، وقام بنفي دعوى احتكار تفسير الإنجيل، وحصرها برجال الكنيسة، وعلى إثر اختراع الطباعة تمت طباعة الإنجيل بأعداد كبيرة، ليصبح في متناول من يريد الإطلاع عليه، وحتى لا يبقى حكرا على حفنة من رجال الدين في التفسير والتأويل حسب أهوائهم، كما نهض مارتن لوثر بعمل جليل، إذ قام بطباعة الإنجيل إلى اللغات القومية، كما قام هو نفسه بترجمة الإنجيل إلى اللغة الألمانية لما اتسم من مواهب أدبية، حتى يكون الإنجيل، في متناول الجميع، ومن يريد قراءته بلغة الأم، ولولا هذه الطباعة للإنجيل وباللغات القومية  كما يرى بعضهم لما تحقق برأي الكثيرين (تحرر الفرد المسيحي من سلطة رجال الدين القائمة على احتكار المعرفة الدينية وغيرها)..
كما كان هذا من أهم الأسباب التي ساهم في سقوط سلطة الكنيسة مع توءمها سلطة الإقطاع، ليتوّج أخيرا بفصل الدين عن الدولة، كما نبذ مارتن لوثر إحراق (المارقين) بفتاوى رجال الدين، وبأن المسيحية لا تبيح كهذه العقوبة، فقد استنكر حرق المصلح الدوميناكاني عندما تصادم مع البابا اسكندر السادس، هذا المصلح الذي تصدّى لسلوك رجال الدين في الفساد والرذيلة، وقد ساعد مارتن لوثر في انتشار حركته الإصلاحية بعض الفلاسفة الألمان الذين شايعوه أفكاره، ونستطيع القول أن الحركة تجاوزت ميدانها الديني حيث غدت حركة سياسية استغلها الألمان ضد سلطة الكنيسة، وكل هذا تطور فيما بعد طوال القرنين السادس عشر والسابع عشر إلى ثورة دينية داخل العالم المسيحي، بين المذهب الكاثوليكي المتزمت، والبروتستانت بفروعه التي تعود إلى مارتن لوثر كمؤسس لهذا المذهب، والداعي إلى إصلاح أمور الدين…
دون شك، إن حركة الإصلاح الديني كانت حركة جريئة، وربما متقدمة في تاريخيتها إذا نظرنا إليها بنظرة اليوم وقارناها بالحركات الإسلامية المختلفة في الإصلاح أو في المحافظة والأصولية في الظرف الراهن، لقد كانت اللوثرية ثورة على أصول الفكر الديني السائدة في الكنيسة بالتواطؤ ربما مع سلطة الإقطاع في تلك الحقبة البعيدة عنا نسبيا، وذلك جراء تلاقي مصالح الطرفين الكنيسة وسلطة الإقطاع  المتمثلة وقتها في بعض البلدان بحكم الأباطرة.
قلنا عن حركة الإصلاح أنها حركة جريئة، وقد قيض لها أيضا قائد جريء هو مارتن لوثر (الذي حمل لواءها قرابة ثلاثين عاما) بوقوفه في وجه البابوية أكبر قوة دينية متحالفة مع الإقطاع حينذاك، حتى أن بعضهم اتهمه بالتهور ومازال إلى اليوم ينظر إليه بنظرة توقير وإعجاب رغم التباين في التقييم النهائي له ..
رغم أن حركته (اللوثرية) نشأت من منطلق ديني، إلا أنها توافقت زمنيا مع الحركات السياسية في ظل الوعي القومي المشرئب لتأسيس كيانات ذات طابع قومي في بدايات عصر النهضة، فجاءت موالاة الحركات السياسية القومية لحركة الإصلاح الديني، وبالمقابل فقد ظلّت كثير من الأرستقراطية الإقطاعية في شك من هذه الحركة المتمثلة بفروع البروتستانت المنتشرة في مختلف أنحاء أوروبا، فمالوا بهذا إلى المذهب الكاثوليكي المحافظ، ويعد هذا الحلف غير المقدس حلفا لتلاقي المصالح، ولم يهدأ القتال بين أنصار المذهبين امتد لقرنين رغم سعي جهات عديدة لإصلاح ذات البين لكن دون توصل لوفاق تكتب له الديمومة، كما جرت ملاحقة فروع مذهب البروتستانت في أوروبا من قبل محاكم التفتيش، ولقي أنصار المذهب الويلات ومختلف أنواع التنكيل على أيدي زبانية تلك المحاكم الجائرة…
على العموم ترتب عن حركة الإصلاح الديني، أن التهب الصراع الديني المذهبي في إسبانيا وإنجلترا وفرنسا.. دون أن يذهل عن بالنا، أن حركة الإصلاح الديني ترافقت مع الدعوات السياسية التي دعت إلى مختلف الإصلاحات السياسية وقد تكللت جهودها لاحقا في الوحدة الإيطالية والاتحاد الألماني..
إن الحركتين إن أردنا الدقة، كان رائدهما الإصلاح، فهذا ينادي بالإصلاح الديني، وذاك  يطالب بالإصلاح السياسي، ويبدو لي أن كلا الإصلاحين السياسي والديني متلازمان دوما، فالإصلاح السياسي لن يقبل حتما لا بالطغيان السياسي ولا بالطغيان الديني، وسيأتي الرفض حتما للحكم باسم الدين، ونقد ممارسات رجال الدين، أو أي ادعاء من أية سلطة بأنها تحكم بالتفويض من الله، مع النزوع الأكيد إلى الليبرالية من جانب حيث سرت العبارة الشهيرة التي تقول (كلّ حر في دينه) وأيضا التطلع إلى العلمانية الداعية إلى فصل الدين عن الدولة أو عن السياسة، أما فصل الدين عن المجتمع وعن الحياة فقد روج  لها الخطاب الديني لدى الإسلام السياسي اليوم، فهي بغية محاربته للعلمانية التي روجت لهذا، لا بغاية تشخيص الواقع، ثم كان لقاء المصالح في الإصلاح الديني والسياسي، في وجه رموز الإبقاء على السكون السائد والخنوع المتوارث للقائمين على أمور الدين، وقت هبوب رياح عصر النهضة حيث تفتحت الأبصار والبصيرة على كل جديد، وتفهمه الناس وربما تقبلوه، وبالتالي جاء نبذ كل قديم ولّى أوانه..
إن الجمود هو جوهر كل دين بتعبير بلانكي، وبالمقابل فبقدر ما يتقدم الفكر وتنتشر العلوم تتقهقر سطوة الدين، لا سيما تلك الأضغاث وجانب الغيبيات في الدين، وتتبدد تلك التخيلات الموروثة من الماضي البعيد شيئا فشيئا..
أخيرا تكلل  نضال حركة الإصلاح الديني، بجانب تقدم حركة الفكر والسياسة عموما إلى فصل الدين عن ميدان الدولة والسياسة بالضد من رغبة رجال الكنيسة، وحليفه الإقطاع الذين خسروا معركة التاريخ جراء صيرورته، فقد تمت إزاحة طبقة ولّى عهدها لتحلّ طبقة أخرى مكانها، كانت هذه الطبقة الجديدة هي الطبقة البرجوازية البازغة حديثا والتي سيكون لها شأن كبير في مسار التاريخ والتحولات الاجتماعية الكبرى، وأيضا الاقتصادية والسياسية، حيث من آثارها سنرى الثورة الصناعية، كل هذا بوتيرة قوية لاسيما ابتداء من النصف الثاني من القرن الثامن عشر إلى تاريخنا الراهن اليوم…
© منبر الحرية،1 نونبر/تشرين الثاني 2010

peshwazarabic19 نوفمبر، 20100

عقب اندلاع الثورة الإسلامية في إيران نهاية سبعينيات القرن الماضي، تساءل أحد المسئولين المنفعلين في حكومة الولايات المتحدة باستنكار، قائلاً: “من منا يأخذ الدين مأخذ الجد؟”. فإلى ذلك الوقت، كان الكثيرون من أبناء الصفوة الثقافية والسياسية، في الغرب والشرق على حدٍّ سواء، يتفقون حول الحكمة السائدة التي كانت تقول بأن “الحداثة ستقضي لا محالة على الحيوية الدينية”. وقد بلغت الثقة بهيمنة العلمانية والأيديولوجيات المنبثقة عنها وقتئذٍ ذروتها، حتى أن مجلة “تايم” الأميركية نشرت في نيسان/أبريل عام 1966 موضوع غلاف، يطرح سؤالاً صارخاً: “هل مات الرّب؟”
لكن الوضع يبدو اليوم مختلفاً تماماً. فالمُقدّس يتبدّى في كل مكان حولنا، نراه يتوغل بمهارة ويتغلغل، إن لم يكن في اهتماماتنا العميقة، فعلى الأقل في عالمنا الأقرب. وجغرافية انتشار الدين والانبعاث الديني في زمننا الحاضر لا تكاد تستثني بعنفوانيتها بقعة من بقاع العالم، فحتى في أوروبا التي تعد معقل العلمانية الحديثة بدأ الدين يدُبُّ في أحشائها، وحدث التزام غير معهود بالتدين. وتشير الأرقام إلى أن النسبة بين من يرتادون الكنائس وبين أولئك الذين لا يفعلون قد بدأت تضيق في الدول البروتستانتية العريقة في تبنّي العلمانية، بالإضافة إلى فرنسا الكاثوليكية حيث أصبحت نسبة غير المتدينين 53% مقابل 47% هم المتدينون. ورغم التدني النسبي في عدد المتدينين لكنهم يتفوقون على نظرائهم من غير المتدينين من خلال تمتعهم بمزية مهمة، تتمثل في خصوبة الإنجاب التي تزيد عندهم بنسبة تتراوح بين 15% و20% مقارنةً بغير المتدينين. وعليه، فثمة من يتوقع أن يفوق عدد المتدينين المسيحيين في أوروبا في نهاية القرن الحالي عدد المتدينين في بداياته.
لقد برهن العالم الحديث بحق على أنه يتقبل المعتقد الديني بسخاء. وبعكس الاعتقاد الذي كان يسود معظم عقود القرن العشرين، تُثبِت مجتمعات القرن الحادي والعشرين في كل يوم يمرّ أنها مجتمعات اعتقادية بامتياز، والنتيجة: طفرة غير مسبوقة في الحيوية الدينية أخذت تشمل كل أرجاء الكوكب. فمن ناحية، أخذ المؤمنون – سواء أكانوا من المسلمين أو المسيحيين (كاثوليك وبروتستانت) أو الهندوس – في التزايد بشكل مضطرد. فإذا كان المنتمون إلى هذه المجموعات الدينية الأربع يشكلون بالكاد نصف سكان العالم في مطلع القرن الفائت، إلا أنهم في بداية القرن الحالي يشكلون ما نسبته 65% من سكان المعمورة، وقد تصل هذه النسبة إلى 70% تقريباً بحلول عام 2025.
ومن ناحية ثانية، بقدر ما تعكس هذه العودة العالمية إلى الدين، الأهمية التي ينطوي عليها المعتقد الديني بوصفه شبكة خلاص فردي وجماعي، فإنها – ومن خلال اتكاءها على التداخل الحاصل عن حركية الأفراد وتواصل الثقافات في ظل العولمة، التي يسرت عرض الأديان والعقائد في سوق ديني ممتاز، واقعي وافتراضي في آن –  تُبيّن بجلاء أن زخم العودة للمقدس وتمظهراتها هذه ليست مقصورة على دين من الأديان أو على رقعة جغرافية محددة من الأرض، ومن ثمّ فإن تضميناتها – سلبية كانت أم إيجابية – ستكون عالمية بالمثل. فعلى سبيل التدليل، لم يكن المسلمون متفردين في إظهار استيائهم وغضبهم من الطريقة المهينة التي صوّر بها الرسول محمد (ص) في الرسوم الكاريكاتورية التي نشرت – وتكرر نشرها – خلال السنوات القليلة الماضية في الصحف الدنماركية والأوروبية الأخرى، فبالمثل أبدى المسيحيون الهنود مؤخراً غضبهم من رسم كاريكاتوري ظهر به السيد المسيح، وهو يحمل في إحدى يديه زجاجة خمر وفى اليد الأخرى سيجارة مشتعلة، بأحد الكتب الخاصة بتعليم الحروف الأبجدية بالمدارس الابتدائية الهندية، وسرعان ما تحوّل الغضب إلى موجة عنف وأعمال شغب ومواجهات دامية بين المسيحيين والهندوس.
ومن ناحية ثالثة، تعمل ظاهرة صعود الدين والانبعاث الديني على إعادة تشكيل السياسة في دول مختلفة من العالم ودمغها بطابع أكثر محافظة، لاسيما في البلدان التي تتمتع بهامش معقول في مجال الديمقراطية والحرية السياسية. وهكذا أصبحت الحركات الدينية المسيسة تملأ المجال العام، وتفوز في سباقات سياسية رئيسية. وتجيء هذه الحركات في أشكال مختلفة للغاية وتوظف أدوات متباينة إلى حد كبير. ولكن، سواء أكانت ساحة المعركة الانتخابات الديمقراطية أو الصراع الأكثر أولية من أجل كسب الرأي العام العالمي، تصبح الجماعات الدينية أكثر قدرة على المنافسة بصورة متزايدة. وفي السباق تلو السباق، عندما تمنح الشعوب الخيار بين القدسي والعلماني، ينتصر الدين (لاحظوا: فوز حركة حماس في فلسطين، وحزب العدالة والتنمية في تركيا، والأحزاب الدينية في عراق ما بعد صدام).
ومن ناحية رابعة، ينبثق عن مظاهر العودة إلى الدين – كما لاحظ البعض بدقة – بيان مغاير للسياسة الدولية. ويبدو هذا البيان ذو الطابع الديني، أول ما يبدو، في اللغة والاستدلال، حيث يستعاض عن الإشارة الصريحة إلى المصلحة القومية وإلى مقتضيات التعايش السلمي بين الدول، بخطابٍ أخلاقي. وهكذا ينتقل العمل الدولي من الواقعية إلى المُطلق، إذ لم يعد يستند إلى مجرد الاتفاق والمناسبة، وإنما إلى الإحالة لقيمٍ لا تصمد للمناقشة أو للتسوية. وهكذا يصبح البيان الديني مكوناً لتناقض ظاهري: فهو جمعي في جوهره، ويرجع إلى تنوع وتنافس الأديان العالمية، ولكنه يدّعي، بحكم تعريفه، شرعية مطلقة ومانعة لكل ما عداها. ولاشك أن عملية “إضفاء صفة الشيطان” على العدو ليست خاصة يتفرد بها البيان وحده، غير أنها تتسم بأهمية بارزة وتؤدي بصفة خاصة إلى تنظيم جديد للمعايير. ويشير إلى ذلك بوضوح بالغ مثال احتلال السفارة الأميركية في طهران، عقب اندلاع الثورة الإسلامية، فقد أصبحت محاربة “الشيطان الأكبر”، بحكم التعريف، صورة أسمى من احترام اتفاقية فيينا بشأن الحصانات الدبلوماسية.
ومن نفس المنطلق، فإن الصراع العربي – الإسرائيلي يظهر أن البيان الديني لحقوق دولة إسرائيل ينتج مجموعة من الفرضيات تقلل أيضاً ما يبدو قابلاً  للتفاوض داخل هذا الصراع ذاته: سواء فيما يخص ما يسمى “الحقوق التاريخية” للشعب اليهودي على يهودا والسامرة، أو رفض التسوية بشأن وضع القدس أو طبيعة إنشاء دولة إسرائيل، ونشهد تحول القاموس القانوني إلى قاموس ديني، ومن ثمّ تحول نظام الاتفاق الحرّ إلى نظام المبدأ المقدس، والنسق البشري إلى النسق فوق الطبيعي. ويكشف تشابك الخطاب الإسلامي في قلب الشعب الفلسطيني، وكأنه أرجع الصدى عن الراديكالية المنبثقة عن هذا الانزلاق في النبرة. السلطة الفلسطينية (ومن خلفها منظمة التحرير)، بقدر ما هي مقبولة كمحاور من جانب المجتمع الدولي، تحافظ بصعوبة متزايدة على تمسكها بهويتها القومية والعلمانية، وعليها أن تتصدى لطغيان حركة منافسة، ذات هوية إسلامية، تعيد صياغة القضية الفلسطينية من قضية قومية إلى قضية دينية، وتحولها إلى نزاع يتم استبعاده من أي مجال تفاوضي.
هكذا إذن تبدو عودة الدين إحدى حقائق عصرنا الذي كان يظن أن العلمانية – كمنظومة إنسانية، ونهج حياتي، وخيار سياسي – قد عززت مواقعها فيه، وأضحت من ثمّ محل إجماع بين النخب السياسية والمثقفة في أرجاء شتى من العالم، والمفارقة أن هذه العودة قد أخذت زخمها من خلال عبورها من بوابة العلمانية والحداثة وعبر منافذ الحريات التي تكفلها هذه الأُطُر بالذات، وهذا الأمر يشير إلى البراجماتية الكامنة في معظم الحركات الدينية، والتي عادةً ما كانت ترفض في البداية أدوات الحداثة ومخرجاتها، لكنها سرعان ما أدركت أنها لن تنتصر، ولن يُقيض لها الفوز في نهاية المطاف، سوى باستخدام هذه الأدوات المُعصرَنة مطيّة لانبعاثها وانتشارها العالمي أفقياً ورأسياً، والعمل تالياً على الالتفاف على الحداثة والعلمانية والبدء بتقوي
© منبر الحرية ، 22 ماي /أيار2010

peshwazarabic19 نوفمبر، 20101

قال تعالى:”لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي” وقال تعالى “لو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك”.
إذن، في البدء الحرية، فلا إكراه، بل اختيار.. وفي البدء كان الكلمة.. “كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء” و” وكلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من الأرض فما لها من قرار”
الكلمة الطيبة هي أصل التجذر والافتراع والتوغل في العقول والنفوس والقلوب.. ولأن الأديان كلها تدعو إلى الله، فإنها توسلت الكلمة المتسمة بالأخلاق وجماليات الأخلاق، وهذا ما أكد عليه الأنبياء جميعاً وأكمله محمد صلى الله عليه وسلم”إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”..
فرغم الأذى البشري الذي تعرض لـه الأنبياء والرسل ـ وما زال بعض الذين لا يفقهون يسيئون إليهم ـ من أبناء جلدتهم إلا أنهم لم يقابلوا السيئة بالسيئة بل اعتمدوا الحسنى والإحسان “ادفع السيئة بالتي هي أحسن” مع الإعداد للقوة في حال الاعتداء. وهذا هو الدين بمعناه المتجوهر الحقيقي بين أطرافه الثلاثة:
1ـ المخلوق والخالق.
2ـ المخلوق بينه وبين نفسه كمخلوق.
3ـ المخلوق والمخلوقات.
وببساطة، نتبين بأن الدين حر، والدين للحر..الحر لـه دين.. والدين الحر للحر هو الأخلاق.. أليست الأخلاق هي الجـِــبـلـّـة الأولى التي فطر الله عليها الإنسان؟
إذن، لماذا الكذب والنفاق والأقنعة والتزأبق والدجل والقتل والزنى والنهب والسلب والشتم والإيذاء وكل كلمة مؤذية أو فعل مؤذ ٍ معنوياً وروحياً ومادياً؟ ولماذا  طرائق التفكير التي تضطهد، وتعنـّـف، تسجن، وتهدر الدماء، تذبح، وتحرق، وترتد ّ من ظلمة إلى ظلمة أشد إظلاماً بحجة الدين أو الأدلجة أو التحزب أو..إلخ؟
ألم يكتب الإنسان منذ القدم على بوابة معبد دلفي:”اعرف نفسك”؟ ألم يقل أرسطو:”من عرف نفسه عرف الله”؟ ولنكمل النص الغائب من الدلالة نقول:”ومن عرف الله عرف مالـه وما عليه”؟
الكلمة الطيبة والفعل الطيب هما الصولفيج الحقيقي للوجود الإنساني في هذا الكون ومع هذا الكون، وهما الغاية التي على كل إنسان أن يعزف روحه عليها بأجمل سيمفونية منافسة للموسيقى والبياض السلوكي الإنساني..
ولأجل هذه الموسيقى علينا أن نرى الدين من معناه المنير، الساطع، الذي رآه الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي:
“لقد صار قلبي قابلاً كل صورة، فمرعى لغزلان، ودير لرهبان، وبيت لأوثان، وكعبة طائف..وألواح توراة، ومصحف قرآن.. أدين بدين الحب أنى اتجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني”
ولأن الله محبة، وكل دين يصل إليه حر، “وإن الدين عند الله الإسلام” الإسلام بمعناه القرآني المحمدي لا كما أطره البعض، فهو بمعنى ما “حرية”.. لكن أية حرية؟
إنها حرية التصرف بمحبة وأخلاق عالية مع خالقنا وأنفسنا والآخرين.. ولا أشك بأن أي دين جاء إلا ليهدي للتي هي أقوم..
الحرية المسؤولة كينونة مثقفة، حرة، تحاورية، متكاملة، لا تقبل النقصان ولا الانتقاص كما لا تقبل الأدلجة والمنح والهبة.. ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:”متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً”..
لكن، متى يكون الإنسان حراً؟
ليكون الإنسان حراً لا بد لـه من وعي واع ٍ بالحرية نفسياً واجتماعياً وروحياً.. وما المشكلات والحروب والنزعات والأحزاب والنزاعات التي تحدث في العالم البشري إلا نتيجة لعدم الاتفاق على مفهوم الحرية وتوظيفه فعلياً في نسقه المشرق المطلوب..
وعليه، برأيي، المشكلة لا تكمن في الدين لأن الدين حرٌّ ومحرِّرٌ، بل تكمن في الإنسان وكيفية فهمه للدين والحرية والحب والأخلاق والجمال والسلام وكيفية توظيف هذه المفاهيم في التعامل مع الأنا والآخر، أياً كان هذا الآخر الإنساني..
الدين موجّـه للذين يعقلون وبالتالي يفهمون ومن ثمة يؤمنون..
العقل أساس الدين.. وكما قال المتنبي:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله  وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
والعقل الحر، هو العقل الفاعل، المتدين بالضرورة دون تعصب أو تطرف أو شوائب، المدرك كيف ينزح عن الظلمات إلى النور.. وببديهية، كل ما يؤذي الإنسان والموجودات والأكوان هو الظلمات، وكل ما ينفع ويضيف إلى المنافع هو النور..
فلماذا لا أضيف ديني، من خلال أخلاقي وعلمي ومعرفتي وإبداعي إلى العالم؟ ولماذا لا أوظف طاقتي الإنسانية في نهر الحياة الذي لا يكرر العبور في مياهه مرتين؟
إنني مؤمنة بأن الله دائماً سيكون معي حين أكون معه، بل سيمدني مداً لأنه الخير الصافي.. ويكون لي عوناً في الإبصار والتجلي.. فلماذا لا نتآخى في النور، ونتنافر مع الظلمات؟
العديد من المسلمين قد لا يعون بأن الحجاب الإسلامي ليس فقط هو حجاب الرأس، بل هو، قبل أي شيء، حجاب العقل والقلب والحواس عن كل دونية، غرائزية، وهمجية..! وقد لا يدركون بأن كتاب الله موجه إلى الإنسان “العاقل” ذكراً وأنثى! كما أن العديد من أهل الكتاب لا يعون بأن عيسى عليه السلام جاء من أجل المحبة والسلام لا من أجل الحروب الصليبية الصهيونية.. وكذلك موسى عليه السلام جاء من أجل المحبة والتآخي لا من أجل التمييز بين البشر كما تروج التوراة المزيفة التي تجعل اليهود شعب الله المختار وبقية البشرية قطعاناً مسخـّـرة لهذا الشعب! ألمْ يدع ُ موسى ربه قائلاً:” ربِّ لا تجعلني ظهيراً للمجرمين”؟ أ ليس في ذلك براءة موسى مما يفعله الصهاينة والصليبيون باسم الديانتين اليهودية والمسيحية؟ ألمْ يترك عيسى عليه السلام وصاياه العشر التي تكفي أي إنسان لأن يكون حراً، متديناً؟
ترى، “ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم وخسر نفسه”؟ وأضيف النص الغائب: ماذا ينفع الإنسان لو ربح نفسه وخسر الله؟!
هل هناك إنسان عاقل يعتقد بأن البشر ليسوا كلهم لآدم وآدم من تراب؟!
وهل هناك إنسان عاقل لا يؤمن بأن الكون لم ينشأ بلا دين؟
دعوة واحدة من موسى، ووصية واحدة من عيسى، وآية واحدة من القرآن الكريم، تعيد الإنسان إلى إنسانيته فيما لو عقل وشاء..
فهل من مدّكر؟
يبدو أن الإعاقة الروحية في مجتمعنا البشري بلغت هاويتها الأخيرة، فدفعت الناس لكي يموج بعضهم في بعض، فهذا من المذهب الفلاني، وذاك من الدين الفلاني، وثالث من الطائفة العلانية..!
ولولا التلوث الروحي والعفن الأخلاقي هل تباهت جرائد دانماركية بإساءاتها الكاريكاتيرية إلى نبي البشرية صلى الله عليه وسلم والذي لن يطاله أحد مهما فعل لأن الإعجاز للقرآن الكريم، وهو كان قرآناً يمشي على قدمين كما روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؟!!!
ولولا هذا الاستنقاع الروحي والتشبّـع بالعنصرية والعبودية هل سخرتْ القناة الصهيونية العاشرة من مريم العذراء وابنها النبي عيسى عليهما السلام! بحجة التعبير عن الرأي! وحرية التعبير وحرية الرأي؟!
هل هناك عاقل واحد على هذه الأرض يوافق على أن هذه الإساءات الحاقدة، والتشويه المقصود، وإثارة النعرات الدينية والعنصرية، هي من حرية الرأي أو حرية التعبير؟! أين الحرية هنا؟! إنها العبودية بكل أبعادها حيث يتحول الكائن إلى عبد لحقده، وانتقاماته، وفساده، وعنصريته، وكل سيئ ما أنزل الله به من سلطان.
أليست هذه العبودية المتبرجة بلفظة الحرية هي العنصرية الصهيونية التي لا تنتمي إلى اليهودية كديانة بأي خصلة أخلاقية؟ أليست اليهودية بحد ذاتها تتبرأ من أمثال هؤلاء الذين يقتلون الأنبياء والأبرياء ويسرقون العالم بحجة الإفلاس، ويغتصبون الأراضي العربية ويشحذون الفتائن أو الفتن ـ جمع فتنة ـ بين الأخ وأخيه، بين دولة ودولة، بين شعب وشعب؟
هل الحرية تعني الإساءة العمدية للأنبياء؟ وهل تعني شن الحروب على الآخرين لتمويتهم، وتذبيح صغارهم وكبارهم، وسرقة ثرواتهم الطبيعية وإرثهم الحضاري واغتصاب نسائهم وأراضيهم وسمائهم؟!!!
هم أنفسهم يعترفون بأن العرب عامة، والمسلمين خاصة، أناس يحملون رسالة إنسانية لا تريد إيذاء الآخرين، بل تريد توعيتهم أكثر بوجودهم الإنساني الذي عماده الروح، وصولفيجه الفعل، ولولا ذلك لما قالوا عنا: “لم يعرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب (الإسلام)”؟
وبكل تأكيد، لولا وصول حضارتنا إليهم لما تم انتشالهم من ظلماتهم التي عادت في هذا العصر أشد قتامة، رغم كل الثورة التكنولوجية الحديثة المبنية ـ أصلاً ـ على لوغاريتميات الخوارزمي؟
ألا يدل ذلك على ذروة القتامة الروحية والظلمات الضمائرية التي وصل إليها الآخر؟ أليست هي الدرجة العظمى للسواد خاصة وأن هذا الآخر لم يوظف العلم والمعرفة في إضاءة المدنية والحضارة، بل أوصل البشرية إلى التهلكة؟
يعرف كل إنسان مؤمن أن يحترم الشعوب الأخرى ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، كما يعرف كيف تتكامل حضارته مع الحضارات الأخرى ثقافياً واقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وإنسانياً، لأن الحضارات لا تتصارع كما شعوذ هنتغتون، ولا تقف عند الحوار كما يجتهد المعاصرون، بل تتكامل.. وبالتالي، فإن هذا الإنسان المؤمن بكل ذلك لا بد وأن يحترم كل الأنبياء، ويعرف كيف يتلقى الكتب السماوية تبعاً لطاقته الفكرية والثقافية والأخلاقية والقلبية.. وتبعاً لهذه الطاقة تتفاوت الأفهام والمدركات والمقامات الروحية.. وهذا التفاوت في الأفهام هو “الصولفيج” الذي يتناغم مع درجاته كل منا ليرتقي بنفسه، فيهذب جوانيته، لتنكشف أعماقه عن المخفي المشع، فيزداد نوراً وعطاء ومحبة وقرباً.. وتنتفي المسافة الرمزية، فلا يبقى البعد بعداً، ولا القرب قرباً، وإنما تتألق البصائر، وتفتتح نغماتها على عالم يرتفع إلى الأعلى.. ومن ارتفع إلى الملكوت، لا ينظر إلى الأسافل إلا ليعلـّـم أهلها كيف يحلـّـقون بعيداً عن جاذبية الظلمات.. فيظل طامحاً إلى آلاء اللاهوت متخلـّـصاً من الناسوت، موقناً بأن الرسول الأعظم هو لكل البشرية:” بعثتُ للناس كافة”.. وهنا، في هذه النقطة التي امتدت لتصير ألـِـفاً، ينتفي التمييز بكل أشكاله وأنواعه وأجناسه، فلا إرهاب ولا عنصرية ولا جنسوية، بل كلمة طيبة وفعل طيب يستمر في موسيقاه منذ أزل الأكوان وإلى أبدياتها و قياماتها..
أليست الحرية هي هذه الحرية بمفهومها الإنساني الأجمل الذي كان منذ قال الله:”كن” وأتبعها:”فيكون” أي أنه المفهوم الأكثر إشعاعاً وعدالة وجمالاً وإبداعاً واستمراراً في دومان الكينونة والخلق والتشكل؟.
أخيراً،
أليس السجن الإنسان؟ والحرية الأديان؟

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018