شؤون سياسية

نبيل علي صالح18 نوفمبر، 20100

العرب بين مطلب النهوض الحضاري وأزمة نظم الحكم وثقافة العصبية السائدة
تتراءى عند كتابة هذه الكلمات في الذكرى الثامنة لأحداث 11 أيلول 2001م– مجموعة من الصور السريعة المتعلقة بمجمل الأحداث السياسية والتحولات الاقتصادية والاجتماعية التي عصفت بالعالم منذ ما جرى في ذلك اليوم العاصف، عندما تلاحقت تلك الوقائع بصورة دراماتيكية لتلهب العالم كله، ممتدةً في دوائرها وتأثيراتها السلبية على أكثر من مستوى في هذا الموقع أو ذاك.
في هذه الدراسة المقتضبة سنحاول تسليط الضوء الفكري على الأسباب الذاتية الكامنة وراء قيام شبان عرب مسلمون بتدبير وتنفيذ تلك الحادثة.. ونحن لن ندخل في سجال سياسي لتحميل النظام الأمريكي مسؤولية ما عن تلك الأحداث.. فكلنا يعلم بأن السياسة الخارجية الأمريكية تتدخل في شؤون العالم كله، مستفيدةً من قوتها وجبروتها الاقتصادي والعسكري والسياسي لفرض سياساتها على العالم بأجمعه.. وهي تمارس سياسات فوقية تسلطية بحقنا جميعاً (عرباً وغير عرب)، وهي سياسات مدانة ومستنكرة، ولها دور أساسي في زيادة الشرخ بين العوالم الدولية، وفي نشوء ردود أفعال غاضبة وسياسات عنفية مضادة في أكثر من موقع عربي أو دولي.. وإن كان من الأجدر بنا أن نواجهها بالعقل والعلم والمعرفة وتفعيل وجودنا الحضاري، وعدم تهيئة الأجواء والمواقع العربية الداخلية لها، لتعميق جراحنا، وزيادة حجم تدخلها المباشر وغير المباشر في كثير من شؤوننا السياسية وغير السياسية.. طبعاً هذا الواقع كله الذي فرضه النظام الأمريكي يشكل جزءاً أساسياً من المشكلة القائمة، لا تكتمل الصورة الفكرية التحليلية إلا بالإشارة إليه، منعاً للالتباس لدى الكثير من نخبنا ومفكرينا ومواطنينا..
ولكننا من جهة أخرى نجد أنفسنا ملزمين تماماً (كعرب ومسلمين) –في كل ما حدث من تحولات ومتغيرات مترافقة وناتجة عن تلك الحادثة– أن نقف، ونهدأ، ونتأمل قليلاً بحثاً عن حقائق الأمور وبواطن الأشياء، ونتساءل عن جملة الأسباب الداخلية (الذاتية) –قبل الأسباب الخارجية الموضوعية- الكامنة في داخل نسيجنا الاجتماعي والديني والسياسي التي تكرس وتثبّت -يوماً بعد يوم– وجود بنى ومظاهر وتشكيلات العنف الداخلي المتعددة، وتقوي مواقعه وامتداداته الدولية المنتشرة هنا وهناك؟! ولنكن أكثر دقة وموضوعية في طرحنا لسؤالنا السابق الذي قد يقول البعض بأنه نوع من جلد الذات وطلب الغفران، وهو ليس كذلك بالتأكيد، بل هو سؤال نقدي بامتياز ومحاولة بحث وتقصي معرفي عن أسباب حدوث تلك الواقعة الدامية عندنا قبل غيرنا:
ألسنا مسؤولين -بصورة مباشرة أو غير مباشرة– عن صنع العنف وتأصيل عقلية التعصب، وإنتاجه وتطويره وحتى تصدير بعضه (أو كثيره) للآخرين؟!.
ألا تتحمل النخب السياسية العربية والإسلامية المثقفة في السلطة والمعارضة -من اليمين واليسار على حد سواء- المسؤولية الذاتية المباشرة عن تطور (وتزايد وتضخم) الحجم المادي والكيفي للتيارات (والقوى والنخب) السياسية ذات التوجه الأصولي في داخل بلداننا ومجتمعاتنا؟!.
إننا نجزم هنا بأن كثيراً من النخب والنظم السياسية والفكرية العربية القائمة في عالمنا العربي والإسلامي عموماً تتحمل نسباً ومقادير نفسية ومادية عالية عن نمو بذور العنف الداخلي، وامتداده إلى مواقع الآخرين. ويبدو لنا أن لهذه النتيجة الحاسمة -التي وقفنا عليها هنا- مقدمات أساسية ارتُكز عليها للوصول إلى النتيجة الحاسمة السابقة.. فما هي هذه المقدمات؟!..
لا شك بأن هناك معاناة حقيقية شاملة، وتخلف سياسي واجتماعي عام يلف واقع العرب والمسلمين. ويظهر أمامنا حالياً كنتيجة طبيعية للسياسات العقيمة والفاشلة التي اتبعتها الحكومات والإدارات السياسية العربية –في كل مواقعها الاقتصادية والاجتماعية والتربوية– منذ بداية عهود الاستقلال الشكلي عن الاستعمار الغربي وحتى الآن، والتي أدت إلى إلحاق الضرر والخراب الكبير بحق أفراد مجتمعاتنا، وبحق ثرواتهم ومواردهم الطبيعية الهائلة التي أضحت في حالة يرثى لها نتيجة العشوائية وعدم التخطيط، وكذلك نتيجة النهب والفساد.
ومن المعروف –بالنسبة إلينا جميعاً– أنه لا توجد (في معظم البلدان العربية والإسلامية) حياةٌ ولا مظاهر سياسية حقيقية تقوم على احترام رأي الفرد-المواطن كأساس لبناء المجتمع الحي الحر والمسؤول، الأمر الذي يدفع تلك المجتمعات باتجاه سلوك طرق (واتباع وسائل) غير سلمية للتعبير عن حقوقهم ومعتقداتهم وآرائهم وثقافاتهم، خصوصاً أولئك الناقمين والساخطين والمتضررين مباشرة من هيمنة وتطبيق السياسات التسلطية القاهرة.
ومن الطبيعي أن نؤكد هنا على أن سلوك طرق التعصب والعنف واستخدام الوسائل العنيفة –في التعبير عن الرأي، وممارسة السياسة– هو أمر مرفوض ومدان من قبل كل من يملك عقلاً حراً ووعياً إنسانياً متقدماً في الفكر والممارسة.. ولكن المسألة هي أن هناك من يدفع مجتمعاتنا دفعاً نحو تلك الطرق والوسائل العمياء غير المجدية والمرفوضة كلياً.. وعند البحث عمن يكمن وراء ذلك تجد أن الفضاء الثقافي المسيطر منذ قرون له دور، وسياسة الفشل الاقتصادي والاجتماعي المتبعة لها دور، والسلطات القائمة المشرفة والموجهة لها الدور الأهم، فهي التي تهيئ –في داخل استراتيجيتها السياسية– الأجواء المناسبة، وتخلق التربة الأخصب لنمو أفكار ومشاريع وسياسات العنف الداخلي، ومن ثم العنف الخارجي، وذلك من خلال منعها أبناء المجتمع من مزاولة النشاط الحياتي الطبيعي، واتباع الطرق والأدوات والمناهج السياسية السلمية.. ويشهد على ذلك واقع الحضارات والأمم في الماضي والحاضر، حيث نجد هناك أن النظم والحكومات المستبدة هي المتسبب و(الأم الحنون؟!) لتوليد (ورعاية) وتغذية حركات (وعناصر) العنف والإرهاب.
وبالإضافة إلى انعدام الحياة السياسية الطبيعية في معظم دولنا العربية والإسلامية، فإننا نجد أن هذه الدول لا تزال تشكو من تفاقم حالة المعاناة الاقتصادية والاجتماعية الشديدة نتيجة تطبيق (وفرض) سياسات تنموية قاصرة وعقيمة على شعوبها ومجتمعاتها.
كما أن لوجود وتجذر مرض الفساد العريض الدور الأكبر في الوصول إلى تلك النتائج المأساوية والخطيرة التي أفقدت مجتمعاتنا توازناتها وإيقاعاتها الداخلية، وخربت الإنسان -الذي هو أساس بناء الأوطان– من الداخل، وتركه حائراً من أمل بحياة شريفة، هادئة ومطمئنة.
وعندما تصل الأمور –على الصعيد الاقتصادي- إلى هذا المستوى الكارثي الخطير من التدهور والسوء والانحطاط -الذي يعبر عنه من خلال تفشي مظاهر اليأس والإحباط والقنوط والعدمية واللامبالاة – فإنه من الطبيعي جداً أن تتحول مجتمعاتنا إلى مواقع وبؤر توتر حقيقية لتفريخ الأصوليين والإرهابيين، ونمو بذور العنف الذي يمكن أن تتطاير شرره وشره إلى مسافات بعيدة ليصيب بلهيبه وشظاياه هذا البلد أو ذاك، ومن دون انتظار ومعرفة النتائج السلبية الخطيرة المترتبة على مثل هذه الأفعال الشنيعة.
من هنا نحن نعتقد أن صناعة الإرهاب وإنتاجه، وتوسيعه، وتركيز خطوطه –كقيمة عملية، لها أسسها، وقواعدها، وآليات عملها المباشرة وغير المباشرة في داخل المجتمعات المتخلفة والفقيرة على مستوى النخب السياسية والاجتماعية الحاكمة ككل- هو الذي يساهم في إعطاء الانطباع بأن العرب والمسلمين إرهابيون، وبالتالي يدفع باتجاه تكوين رأي عالمي موحد ضد العرب والمسلمين في كل مكان وزاوية من هذا العالم.. مع العلم أن للدول الغربية وغير الغربية الكبرى نصيباً وافراً في تعميق ثقافة الإرهاب وتوليد الإرهابيين وصناعة العنف والدم في داخل بلداننا ومجتمعاتنا من خلال تدخلاتها وغزواتها وحروبها الموجهة ضد عالمنا العربي والإسلامي في غير موقع هنا وهناك.
ولذلك فالمشكلة القائمة حالياً لا تقتصر فقط على وجود قوى ومنظمات وشخصيات تؤمن بالعنف، وتعتقد اعتقاداً يقينياً بأولوية الإرهاب والنشاط الجهادي المسلح على السياسة والسجال السلمي لأخذ الحقوق، وتعمل في السر أو العلن هنا وهناك، بل إنها تتعدى ذلك لتصل إلى مرحلة وجود مناخ أو جو عربي وإسلامي عام يتعامل –بصورة شبه طبيعية- مع قضية الإرهاب المحلي والدولي، وذلك كنتيجة منطقية لوجود نخب سياسية تُرعب وتُرهب ولا تهتم إلا بمصالحها الخاصة على حساب مصالح الأمة كلها..
ونحن بالرغم من عدم انسجامنا (أو اتفاقنا) مع السياسات العملية المطبقة في معظم البلاد العربية -التي تكرس ثقافة العنف– فإننا لا نزال نأمل وننتظر من تلك النظم القائمة أن تنطلق من لحظتها الراهنة –مستفيدة من تعاظم متغيرات العالم وتسارعاته الكبيرة– لإجراء إصلاحات سياسية جدية و تحرير القدرات من أجل تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية على مستوى جوهر الحكم وممارسات السلطة، وفي كل ما يتصل بضرورة مواكبة معايير ومبادئ التنظيم السياسي والاجتماعي الإنساني الحديث، ووضع حد نهائي لمناخ الكبت والرأي الواحد من خلال إشاعة جو الحرية والأمان الاجتماعي الحقيقي، لأن الحرية والأمان شرطان أساسيان لازمان لكل عمل خلاق ومبدع، حيث أنه لا تنمية حقيقية، ولا تحديث صحيح معافى (وليس التحديث الشكلي القشري الذي يقوم على استهلاك حضارة ومنتجات الآخرين بما يبقينا تابعين ومستلبين لهم) دون تمثل وتطبيق تلك التطلعات الكبرى.
وحتى لا نتهم بالنظر إلى نصف الكأس الفارغ فقط، نشير ونثني على ما قامت وتقوم به كثير من بلداننا العربية والإسلامية من جهود على صعيد محاولتها تحديث بنيتها السياسية، وتطوير مختلف هياكلها ومواقعها الاقتصادية العملية..
وحتى نتمثل تلك الطموحات العالية -ونتحرك في خط التنمية المطلوبة فردياً وجماعياً- لابد أن تحظى أنظمة الحكم القائمة في داخل اجتماعنا السياسي والديني (والتي تدير وتشرف وتنفذ السياسات العامة في المجالات كلها)بالحد الأدنى من القبول الطوعي (لا قسري) بين أبناء الأمة.
وهذه هي الإشكالية الأكبر التي لا نزال نعاني منها، ولا أعتقد بأننا سنخطو خطوة واحدة نحو الأمام من دون إيجاد حلول جذرية علمية وعملية لها. إنها إشكالية إحجام الناس عندنا، وعدم مشاركتهم بشكل فاعل ومنتج في مجمل النشاطات السياسية والاقتصادية العامة، وبالتالي عدم الاستفادة القصوى من كل الإمكانيات والطاقات والجهود  البشرية (والطبيعية) المتاحة أمامنا.
ونحن نعتبر أن تثمير جهود وقدرات أفراد الأمة في طريق العمل الخلاق والمبدع    -الذي نحن بأمس الحاجة إليه حالياً– لا يمكن أن يصل إلى نهايته السعيدة ما لم نوجد إطاراً ثقافياً ونفسياً حرا صحياً لعملية التنمية المطلوبة، يمكنه أن يدمج الأمة ضمنه لتتجاوب معه، بما يساعد على الشروع بتطبيق خطط اقتصادية وإدارية يشارك فيها كافة أفراد المجتمع، وتمهد لمعالجة حقيقية وجدية لآفة الفساد، وتساعد في خلق مناخ نقي وصحي جديد مشجع على العمل والإنتاج والاستثمار من أجل أن يتحرك الناس (كل الناس) على طريق إنجاح التنمية، وبناء المجتمع الحديث. حيث أن حركة الأمة والمجتمعات ككل تعبير عملي حر عن وجود إرادة حقيقية جامعة في التحرك والانطلاق -من خلال مواهب أفراد المجتمع الداخلية وطاقاتهم الكامنة- نحو المشاركة الفاعلة في عملية البناء والتنمية للثروة الخارجية من خلال تنمية ووعي الثروة الداخلية.
وبتعبير أكثر صراحة ووضوحاً وشفافية نحن نعتبر أن إطار التنمية الثقافي والنفسي الشامل السابق ينبغي أن يتأسس -في العمق الروحي والنفسي– على مناهج فكرية ومعرفية عملية لا تتعارض (ولا تتواجه ولا تتناقض) مع طبيعة التركيب النفسي والشعوري التاريخي المتركز داخل البنية النفسية والفكرية لأبناء الأمة.
لأن وجود التعارض والمواجهة مع طبيعة التركيب النفسي للأمة سينعكس حتماً بصورة سلبية خطيرة على واقع مجتمعاتنا في الحاضر والمستقبل، ويتمظهر-كما ذكرنا- من خلال امتناع أفراد الأمة عن المشاركة في صياغة ومناقشة القضايا الرئيسية، وممارسة رقابتهم على الأجهزة المختلفة للدولة.
لذلك -وحتى ينخرط الجميع في عملية بناء الوطن وتطوير المجتمعات من خلال تحقيق وإنجاز عملية التنمية المطلوبة لها- فإن الدولة يجب أن تكون تعبيراً حقيقياً عن إرادات الناس ومصالح المجتمع، وتجسيداً عملياً لقيمه الثقافية والتاريخية المنفتحة، في تقدير وجود الإنسان واحترامه، وتوفير العمل اللازم لمعيشته، ونمو وعيه.. وبذلك تثبت الدولة، وتستقر وتتطور قدماً نحو الأمام.
ولذلك نقول بأن افتقاد الأمة للمشاركة الشعبية الطوعية الواعية للجماهير الواسعة في عملية التنمية الذاتية، والتغلب على واقع التخلف، والخروج من أنفاق التبعية والارتهان، لا يمكن إلا أن يضعف الشأن العربي والإسلامي في قضاياه الإستراتيجية المصيرية، وبكل مستوياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وبالتالي: عندما نحقق مناخ الحرية، ونؤسس البناء السياسي الصحيح والمعافى، فإنه يحق لنا أن نتحدث هنا عن وجود قدرات أكبر وأوسع تسمح لنا بتوفير قاعدة مادية صلبة لمواجهة تحديات الخارج الاقتصادية والسياسية وغيرها.. حيث أن واقع هذه المواجهة (المؤكدة في المستقبل القريب أو البعيد) يزداد ضعفاً كلما زاد ابتعاد الحكام والزعماء عن هموم الشارع العام (أي عن متطلبات المواطن الأساسية)، وكلما فرض (هؤلاء الحكام) على الناس نموذجاً واحداً في الفكر أو الاعتقاد والعمل أو الممارسة.. وهذا ما يحدث حالياً في معظم بلداننا العربية والإسلامية بشكل واضح تماماً حيث تتصور الكثير من النخب السياسية أن الهيمنة على الشعب، والتحكم بمعتقداته وأفكاره ومعيشته وقدراته، وتفتيت قواه وثرواته، هي الوسائل الأسهل والمباشرة التي قد تمكنها من تنفيذ سياساتها الداخلية والخارجية بسهولة ويسر أكثر فأكثر.
ولكن الحقيقة هي أن هذا التصور المزعوم قد يصدق حيناً، ويسقط أحايين كثيرة أخرى. فالشعب يحتاج –بدايةً- من أنظمته الحاكمة إلى توفير أجواء ومناخات حرية دائمة تسمح بوجود حوار فكري متحرك ومفتوح، يشارك فيه الجميع، وتتعمق من خلاله النقاشات الجادة والمثمرة، وتطرح فيه الرؤى والأفكار المتعددة التي تنصبّ أساساً على طريق بلورة الوعي القادر على محاصرة كل أنواع القهر والتخلف والتأخر في واقعنا، والمتمثلة -كما تحدثنا سابقاً- في التجزئة والاستلاب والارتهان والتشتت وفقدان إرادة التغيير الصحيح، وضعف (تضعيف) المؤسسات الدستورية، وهيمنة التدخلات الأجنبية على الداخل، والاستكثار منها تعويضاً عن غياب (أو تغييب) الإرادة العربية والإسلامية الجامعة (حيث أن العرب يجتمعون على أفكار الآخرين أكثر مما يجتمعون على قراراتهم هم).
..وأخيراً يجب الإشارة إلى نقطة ضرورية. وهي أننا كعالم عربي -نعيش في الحياة بين مجموعة من الأمم المتقدمة والمتخلفة- لا نزال نفكر فيها بعقلية البلدة والوطن الصغير.. ولم نعد نفكر بعقلية الأمة والوطن الكبير.. مع العلم أن كل المسؤوليات الخاصة والعامة (بما فيها مسؤوليتنا أمام المجتمع والأجيال المستقلية) قد ألزمتنا بضرورة أن نتضامن مع بعضنا البعض من أجل تحقيق هدف وجودنا الحضاري الأساسي في الحياة، كأمة لها رسالتها الإنسانية، ولها دورها المحوري الرائد بين أمم ورسالات العالم كله. وهذه هي الأمانة الحقيقية التي حُمّلنا إياها، أمانة بناء إنسان عاقل وسعيد ومفكر وواعي بنفسه وبعالمه.. فهل نحن مؤتمنون حقاً عليها؟!. وهل أدينا وعملنا على ما تستلزمه منا هذه الأمانة الثقيلة؟!.
إننا وقبل أن نبدأ بالإجابة على السؤالين السابقين، يجدر بنا أن نلتفت جيداً إلى واقعنا الراهن.. لأننا سنجد فيه ما يوفر علينا عناء التدقيق والتأمل في أسئلة باتت بلا معنى، والبحث عن إجابات وافية وشافية لأسئلة كثيرة لا تنتهي.. فنحن قوم لا نزال نتفيأ بظلال وأغاني وأناشيد الماضي، ونرفض الانهماك والاندماج في مسيرة الحضارية العالمية، ولا نحب العمل والكد في طرق ذات الشوكة، ولا نرغب بإجهاد أنفسنا وعقولنا في البحث والتنقيب هنا وهناك. وهذه هي للأسف أكبر مصيبة ابتلينا بها.. أن يفكر الآخرون بالنيابة عنا، فقد أعطينا عقولنا إجازة طويلة منذ زمن طويل.. طويل جداً.. وأعلنّا على الملأ الإفلاس والاستقالة العقلية والعملية من الحياة والوجود كله!.
© منبر الحرية، 13 سبتمبر/أيلول 2009

peshwazarabic18 نوفمبر، 20102

تعاني المجتمعات في كل أرجاء المعمورة من وباء الفساد بقدر أو بآخر.. ولا يوجد على وجه البسيطة مجتمع تحكمه كل قوانين الفضيلة ليصبح في منأى عن الفساد والمفسدين، والقضية التي تشغل بال جميع المجتمعات ليست في وجود قدر من الفساد في التعاملات اليومية تحديداً، إنما حجم الفساد، وأتساع دائرته وتشابك حلقاته، وترابط آلياته بدرجة لم يسبق لها مثيل، مما يهدد المسيرة التنموية والإنمائية ويكون شبحاً يطارد المستقبل. وأفصحت تجليات بعض وقائع قضايا الفساد المالي والإداري خلال السنوات الأخيرة المنصرمة في العديد من البلدان العربية والعالمية عن عمق تغلغل قيم الفساد وممارساته في كل مناحي حياتنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإدارية.
أن الفساد بآلياته وآثاره الانتشارية يولد مضاعفات تؤثر في نسيج المجتمعات ومكوناتها وسلوكيات الأفراد وطرق أداء الاقتصاد، وأخطر من كل ذلك إعادة صياغة نظام القيم. هذا وقد وضع البنك الدولي تعريفا للنشاط الذي يندرج تحته تعريف الفساد بما يلي : إساءة استعمال الوظيفة العامة للكسب الخاص، فالفساد يحدث عادة عندما يقوم موظف بقبول رشوة، أو طلبها، أو ابتزازها، لتسهيل عقد أو إجراء طرح لمناقصة عامة كما يتم عندما يقوم وكلاء أو وسطاء بتقديم رشاوى للاستفادة من سياسات أو إجراءات عامة للتغلب على منافسين، وتحقيق أرباح خارج إطار القوانين المرعية كما يمكن للفساد أن يحدث عن طريق استغلال الوظيفة العامة دون اللجوء إلى الرشوة وذلك بتعيين الأقارب أو سرقة أموال الدولة مباشرة ويشير التعريف إلى آليتين رئيستين من آليات الفساد وهما :
1.    آلية دفع الرشوة و(العمولة) المباشرة إلى الموظفين أو المسؤولين في الحكومة.
2.    وضع اليد على المال العام والحصول على مواقع متقدمة للأبناء والأصهار والأقارب في الجهاز الحكومي وفي قطاع الأعمال العام والخاص. وهذا الفساد لضيق نطاقه يمكن تسميته ( بالفساد الصغير) وهو يختلف عن الفساد الكبير المرتبط بالصفقات الكبرى في عالم المقاولات وتجارة السلاح والحصول على التوكيلات التجارية للشركات الدولية الكبرى المتعددة الجنسية. وظهر هذا الفساد عادة على المستويين السياسي والبيروقراطي، ويرتبط الفساد السياسي بالفساد المالي حين تتحول الوظائف البيروقراطية العليا إلى أدوات للإثراء الشخصي المتصاعد. ويتأثر تعريف الفساد بعاملين مهمين يتعلق الأول بمجال البحوث التي تولّت دراسته وتحديد آثاره السلبية في المجتمع، ويتعلق الثاني بتعيين العمل الفاسد بدقة ليتم وضع عقوبة مناسبة له. وتكاثرت في الآونة الأخيرة البحوث في الفساد ولا سيما من خبراء علم الاقتصاد والقانون والعلوم السياسية وعلم الاجتماع، فبحوث الاقتصاديين تركز في معظمها العلاقة ما بين الاستثمار والتنمية الاقتصادية من جهة، ونوعية المؤسسات الحكومية من جهة أخرى. وتستنتج أن ضعف المؤسسات العامة، الذي يعد أهم أسباب الفساد، يؤدي إلى انخفاض في الاستثمار، فيما أعتبرت البحوث القانونية أن للفساد آثار مدمرة يطالها حكم القانون والقضاء. بينما ركّزت البحوث السياسية على علاقة الفساد بشرعية الحكم ونماذج القوى السياسية ودور مؤسسات المجتمع المدني فيما وصفه علم الاجتماع بعلاقة اجتماعية متمثلة في انتهاك قواعد السلوك الاجتماعي فيما يتعلق بالمصلحة العامة.
وعرّفت اتفاقية الأمم المتحدة بشأن الفساد التي تبنتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي تم التوقيع عليها في المكسيك في كانون الأول من عام 2003 ، عرّفت الفساد بأنه ( أعمال جرمية تعبر عن سلوك فاسد ) وقد تركت الاتفاقية للدول الأعضاء إمكانية معالجة أشكال مختلفة من الفساد قد تنشأ مستقبلاً على أساس أن مفهوم الفساد فيه من المرونة ما يجعله قابلاً للتكيف بين مجتمع وآخر.
وينمو على الصعيد الدولي إدراك دولي بأن انتشار الفساد يؤشر سلباً في أمن واستقرار الدول ويقوّض المؤسسات والقيم الديمقراطية وأسس العدالة وحكم القانون كما يشكل تهديداً للمشاريع التنموية بكل أبعادها. ويساور القلق المجتمع الدولي بسبب العلاقة ما بين الفساد وبين أنواع مختلفة من الجرائم المنظمة والجرائم ذات الوجه الاقتصادي والمالي كجريمة تبييض الأموال، خاصة أن حالات من الفساد تتعلق بكميات ضخمة من الأموال التي تشكل جزءاً مهما ً من ثروات الدول النامية ومواردها، ومنها ما يهدد على وجه الخصوص الاستقرار السياسي في تلك الدول ومشاريع تنميتها بصورة متواصلة وثابتة فضلاً عن حيازة الثروة الشخصية بصورة غير مشروعة تلحق أضرارا بالاقتصاد الوطني وبمؤسسات الحكم الديمقراطي وحكم القانون كما تؤدي إلى تأزم العلاقات بين مختلف الدول من خلال تنقلات المال غير المشروع بين الدول.
وهناك إجماع على المستوى الدولي يعتبر الفساد ليس مسألة أو مشكلة داخلية محصورة ضمن حدود الدول التي تعاني منها وإنما هي وباء يخترق الحدود وتؤثر في العلاقات الدولية. كما يهتم التعاون الدولي في مجال مكافحته ومحاصرته لمنع انتشاره، واعتبار ذلك مسؤولية دولية تهم جميع الدول التي يجب أن تتعاون مع بعضها بتبني منهجية شاملة ومتعددة الأساليب للنجاح بصورة فعالة. وتنحصر مكونات الفساد في المناطق الآسيوية على النحو الآتي :
1-    تخصيص الأراضي من خلال قرارات علوية تأخذ شكل العطايا لتستخدم فيما بعد في المضاربات العقارية وتكوين الثروات.
2-    إعادة تدوير أموال المعونات الأجنبية، وتشير التقديرات في هذا المجال إلى أن أكثر من 30% منها لا تدخل خزينة الدولة وتذهب إلى جيوب المسؤولين.
3-    قروض المجاملة التي تمنحها المصارف دون ضمانات لكبار رجال الأعمال المتصلين بمراكز النفوذ.
4-    عمولات عقود البنية التحتية وصفقات السلاح.
5-    العمولات والإتاوات، والتي يتم الحصول عليها بحكم المنصب أو الاتجار بالوظيفة.
أما أوجه الفساد العالمية فتتمثل في الإتجار بالمخدرات والإتجار بالإنسان وتبييض الأموال والإتجار بالسلاح.
وتسبب الفساد في سقوط وتغيير أنظمة حكم عديدة في العالم، والتأريخ المدون منه يعود إلى القرن الرابع الميلادي زمن الإمبراطورية الرومانية. وكان الفساد يعالج كشأن داخلي ولم يدخل دائرة الاهتمام العالمي إلا منذ زمن قريب نسبياً وربما كان قرار الجمعية العامة في الأمم المتحدة عام 1975 وهو أول قرار عالمي شجب وأدان الفساد بكل أشكاله.
وفيما يتعلق بمحاربة الفساد عبر الحدود لا بد من التنويه بمبادرة الرئيس الأمريكي ( جيمي كارتر ) عام 1977 في تبني الولايات المتحدة للقانون المتعلق بممارسة الفساد خارج حدود الدولة، والذي يعاقب بموجبة كل فرد أو شركة أمريكية تقوم برشوة مسؤول رسمي خارج الولايات المتحدة.. إن الاهتمام العالمي بالنتائج السلبية للفساد أخذ منحى جديا بعد أن قامت الدول الصناعية الممثلة في المنظمة الاقتصادية للتعاون والتنمية ( OECD ) في العام 1994 بما عرف بالتوصيات، بل يتخذ أعضاء المنظمة إجراءات ملزمة بهدف القضاء على رشوة المسؤولين خارج حدود الدولة المعينة في كل ما يتعلق بالمعاملات التجارية في الإطار الدولي، وقد حددت التوصيات عناصر الرشوة ومسألة الاختصاص القضائي في العقاب عليها فضلا عن ضرورة تبنى عقوبات رادعة وتطبيقها بشكل فعال. أن هذه التوصيات تطوّرت من خلال قرارات وتوصيات عديدة إلى أن انتهت في العام 1997 بأن تبنى مجلس وزراء الدول الصناعية اتفاقية محاربة رشوة موظفي القطاع العام الأجانب، فيما يتعلق بالمعاملات التجارية في المجال الدولي والتي أصبحت سارية المفعول في شباط من العام 1999. وفي أجتماعهم في مالطا عام 1994، أعتبر وزراء العدل الأوربيون أن الفساد يشكّل خطرا جديا على الديمقراطية وحكم القانون وحقوق الإنسان، على أثر ذلك قام مجلس الوزراء الأوربي بتعيين لجنة أسندت إليها مهمة اقتراح إجراءات ملائمة تكون جزءاً من برنامج عمل على الصعيد الدولي لمحاربة الفساد. وقد قامت اللجنة بوضع توصيات مهمة أصبحت فيما بعد جزءاً من اتفاقية القانون الجنائي التي بدأ التوقيع عليها في كانون الأول 1998 وتتضمن تعريفاً للفساد ينطبق على طائفة واسعة من الأعمال بما فيها الرشوة بشكل مباشر وغير مباشر، وشراء نفوذ صانعي القرار الرسميين وكذلك تبييض المال، ولا تقتصر الاتفاقية في تناولها الفساد على السلطات العامة بل تتعداها إلى بعض مجالات القطاع الخاص والمسؤولين الكبار في المنظمات الدولية وحتى القضاة والمسؤولين في المحاكم الدولية. قديما، تحث أبن خلدون في مقدمته الشهيرة عما وصفه ( الجاه المقيد للمال ) وكأنه استنباط للأموال الحالية، إذ يرى أبن خلدون أن المال تابع للجاه والسلطة وليس العكس. كما أشار أبن خلدون إلى الأحوال الكثيرة التي تختلط فيها التجارة بالإمارة، إذ يكتسب البعض، من خلال المنصب والنفوذ الإداري في أعلى مراتب جهاز الدولة، أوضاعا تسمح له بالحصول على المغانم المالية وتكوين الثروات السريعة وتشكل عادة ( ريعا لمنصب ). وفي منطقتنا لخص الرئيس الجزائري في خطاب طويل وجهّه إلى مواطنيه في 27 نيسان 1999 القضية بقوله : أن الجزائر دولة مريضة بالفساد، فهي دولة مريضة في أدارتها، مريضة بممارسة المحاباة، ومريضة بالمحسوبية والتعسف بالنفوذ، والسلطة، وعدم جدوى الطعون، والتنظيمات، مريضة بالأمتيازات التي لا رقيب لها ولا حسيب، مريضة بتبذير الموارد العامة بنهبها بلا ناه ولا رادع. وليس هناك أبلغ من هذا الوصف حيث لاحظ بوتفليقه أن هذه الأعراض أضعفت الروح المدينة وأبعدت القدرات وهجّرت الكفاءات ونفّرت أصحاب الضمير وشوّهت مفهوم الدولة وغاية الخدمة العمومية. ويضيف الرئيس الجزئري : هل هناك كارثة أكثر من ذلك ؟
ولعل أخطر ما ينتج عن ممارسات الفساد والإفساد هو ذلك الخلل الجسيم الذي يصيب أخلاقيات العمل وقيم المجتمع مما يؤدي إلى شيوع حالة ذهنية لدى الأفراد تبرر الفساد وتجد له من الذرائع ما يبرر استمراره، ويساعد في أتساع نطاق مفعوله في الحياة اليومية، إذ نلاحظ أن الرشوة والعمل والسمسرة أخذت تشكل تدريجياً مقومات نظام الحوافز الجديد في المعاملات اليومية الذي لا يجاريه نظام أخر.
ويستدعي حجم مشكلة الفساد دراسة الأسباب والآليات، ولكن توجد محاور للحركة تساعد على تطويق الظاهرة والقضاء على تداعياتها السلبية. وتتمثل هذه المحاور كالأتي : محور توسيع رقعة الديمقراطية والمساءلة، ومحور الأصلاح الإداري والمالي، ومحور إصلاح هيكل الأجور والرواتب. أن مجتمعنا لهو بأشد الحاجة في هذه اللحظة العصيبة من تأريخه إلى مطاردة وتصفية الفساد والانحرافات والانتهاز في كل منحى من مناحي حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية حتى تعود إلى الناس الثقة والأيمان بجدوى النزاهة والشرف والجد في العمل وإعلاء شأن الوطن والصالح العام.
© منبر الحرية، 10 سبتمبر/أيلول 2009

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

لم يؤثر نشاط اجتماعي بالمجتمع الإنساني قدر ما أثرت و تؤثر التكنولوجيا. التكنولوجيا الآن هي عصب الحياة المعاصرة و أساسها. لا يمكن لأي مجتمع ان يبني و يعيش من دون تكنولوجيا. و من يملك التكنولوجيا يملك السيطرة في مجال عملها. التكنولوجيا ليست جهازا أو مجموعة أجهزة. إنها منطق متكامل تشمل الابتكار و البحث و الصناعة و الاقتصاد و السياسة.  و هناك الآن اتجاهات فكرية كبيره تتناول التكنولوجيا.
التكنولوجيا الآن هي في كل مفردة من مفردات حياتنا مهما كانت بسيطة. نحن نعيش في بحر التكنولوجيا الهائل وتمثل التكنولوجيا الأوكسجين الذي لا حياة بدونه. إنها الآن أوكسجين الحضارة المعاصرة. إنها مسئولة عن الماء الذي نشرب و الرداء الذي نلبس و الدواء الذي نتعالج به و الغذاء الذي نأكل و صوت الأذان الذي نسمع و و و.
لقد تطورت التكنولوجيا المعاصرة على الأسس العلمية التي تم اكتشافها خلال القرون الأربعة الماضية.  و المجتمعات التي ساهمت في تطوير المعرفة العلمية (و ما رافقها من ُبنى اقتصادية و صناعية) خلال تلك الفترة تمتلك الآن السيطرة التكنولوجية.  لقد كانت المجتمعات الغربية صاحبة الأولوية في هذا البناء و هي الآن تملك زمام المبادرة الدولية في كافة جوانب الحياة.
القرون الأربعة الماضية هي التي تفعل فعلها الآن. ولو لاحظنا النشاط الاستعماري خلال تلك الفترة نجد ان النشاط التكنولوجي كان هو الأساس في توسيع و ترسيخ الاستعمار. أن مصير العالم بيد اللاعب التكنولوجي.   من جانب أخر عاشت الدول المسعَمرَه من قبل الاحتلال المتخلف مثل الدولة العثمانية (الرجل المريض) عصرا كارثياً فقدت خلاله زمام المبادرة التكنولوجية في عصرنا الراهن.
لقد عاشت دول الرجل المريض احتلالين الأول احتلال متخلف و بغطاء أسلامي و الثاني متطور غربي و باغطيه مختلفة. لقد فقدت دول الرجل المريض إمكانية بناء التكنولوجيا أو لنقل توفير الأوكسجين لمجتمعاتها في عصرنا الحاضر. لذا دخلت هذه الدول القرن العشرين و بحواضن الخدج (  Premature Incubators)  و ما تزال حتى الان في حواضن الأوكسجين الغربي. لا يمكن لهذه الدول الضعيفة البناء ان تعيش منفردة (مستقلة) من دون تكنولوجيا أو أوكسجين الحضارة. لقد تم تقسيم الدولة العثمانية الى دول ذات حدود (حواضن توفير تكنولوجيا).
المعاصرة بلا شك تعني لدى الكثير من العرب و المسلمين الغرب و انتاجاته الفكرية و التكنولوجية. لذا دائما ما يتهم كل من يدعو الى التحديث بأنه غربي في المجتمعات العربية و ذلك لعدم وجود حاضر عربي متطور فالماضي هو الموجود الوحيد و لكي تكون عربيا مسلما يجب ان تعيش في الماضي!  و رغم ان هذه المجتمعات لا يوجد شيء في حياتها غير مستورد أو غربي المنشأ فإنها تقف أمام أي تحديث بتهمة انه غربي.
مشكلة الاستعمار و الدول المستَعَمَرة في الوقت الحاضر هي مشكلة من يملك القوة ومن لا يملكها. و القوة في الوقت الحاضر هي قوة التكنولوجيا. لا يوجد ألان مجتمع قادر على الإستقلال بصورة مطلقه. الغرب عموما و حتى الولايات المتحدة الامريكيه تعتمد في الكثير من مصادرها على دول العالم المختلفة و لكنها لحد الآن هي المصدر الأساسي للإبداع العلمي و التكنولوجي في العالم.
بالنسبة للدول العربية التي فقدت زمام المبادرة العلمية منذ قرون فإنها تعيش بعيدا عن هامش الحضارة العالمية ألان. و ابعد ما تكون عن عالم العلوم و التكنولوجيا التي يمكن ان تسند مجتمعاتها. هذه المجتمعات لا تملك إمكانية الدفاع عن نفسها أو إطعام أبنائها بإمكانياتها الذاتية. إنها ما تزال تعيش مخلفات الرجل المريض.
لنأخذ العراق نموذجا و العراق قد يكون أفضل كثيرا بإمكانياته العلمية من بعض الدول العربية و الإسلامية. يمتلك العراق إمكانيات صناعية كبيرة و لكنها مستوردة و ليس هناك أية  تكنولوجيا وطنية و كذلك الكثير من المواد الأولية الداخلة في الصناعة كانت تُستورد من الخارج و هو بذلك حاله حال كل الدول العربية. لقد كان العراق على المستوى السياسي مستقلا سياسيا و يفخر باستقلاله السياسي.
و نتيجة لكارثة سياسة متهورة  عاش العراق حصار دولي استمر من اواخر عام 1990 و حتى عام 2003. رغم ان هذا الحصار لم يكن حصارا كاملا مطلقا (هناك بعض التكنولوجيا كان من المسموح دخولها لأسباب إنسانية او قد يتم إدخال البعض بطرق أخرى) الا انه ترك مأساة حضارية كبيرة  كان الشعب العراقي ضحيتها. لقد كانت السلطة السياسية ابعد ما تكون عن تصور الحجم الحقيقي للإمكانيات التكنولوجية المحلية التي يمكن ان تلعب دورا بديلا في هذا الظرف القاسي و لكن كان الاستقلال السياسي الخدعة الكبرى التي تعيشها تلك القيادة و يعيش الكثيرين مثلها هذه ألأحلام.
لقد اظهر هذا الحصار بوضوح الكثير من المشاكل وهذه البعض منها:
1- مشكلة اعتماد العراق على الثروة النفطية فقط كمصدر تمويل وحيد تقريبا.
2- مشكلة الاعتماد على التكنولوجيا المستوردة و عدم وجود تكنولوجيا ذات جذور وطنية.
3- الفجوة الكبرى ما بين البحث الأكاديمي المحلي و الإمكانيات الصناعية المحلية و التي هي أساسا تكنولوجيا مستورده.
4- البعد الحضاري الشاسع للفرد البسيط عن العلوم التطبيقية و إمكانية الاجتهاد الفردي في استخدامها في حياته أليوميه.
5- مشكلة علاقة السلطة بالعلم و التكنولوجيا.
6- عدم وجود منظومة علوم و تكنولوجيا كفوءة و مترابطة و يمكن ان تطرح البديل.
لقد اعطي الحصار مؤشرا حقيقيا عن مدى هشاشة الوضع العلمي و التكنولوجي المحلي للعراق و الذي هو بلا شك مماثل لدول المنطقة ان لم يكن أفضل من البعض منها. و لو تعرضت أي دولة من دول العالم العربي او الإسلامي لما تعرض له العراق لربما عاشت ماسي افضع و اكبر.
فهل كان العراق مستقلا ؟ العراق لم يكن مستقلا لأنه لم يكن بمقدوره إدارة كيانه ذاتيا و بصورة كبيرة انه لم ولن يستطيع الخروج من الحاضنة التكنولوجية و بالتأكيد هو ذات الحال بالنسبة  لكافة الدول و المجتمعات في المنطقة.
ان كل هذه الدول و للأسف  تعيش استقلالا بعيدا عن التكنولوجيا وهذا ما قد يعد  وهما كبيرا. وقد لا يكون حتى وهما إعلاميا لأنها لا تملك تصنيع تكنولوجيا الإعلام و الدعاية. إنها لا تملك تكنولوجيا تصفية المياه لشعوبها لأنها تستوردها كمعلومة و كتكنولوجيا. لا تملك اية دولة من هذه الدول إمكانية صناعة أعلامها الوطنية بمصانع من تكنولوجيتها ألمحليه. و لا تستطيع ان تدافع او تحارب الا بالمقدار المسموح لها من قبل الدول المنتجة للسلاح الذي تشتريه. و حتى الكتب الدينية و مستلزمات الإرشاد الديني يتم استيراد أجهزتها من بلاد “الكفار” التي أبدعت و صنعت تلك التكنولوجيا و الأماكن المقدسة هي الأخرى يتم تطويرها بتكنولوجيا يبدعها “الكافرون”. و الأدهى من ذلك تتبارى الشركات الصناعية الأجنبية على توفير مستلزمات دينية محلية بإطار تكنولوجي معاصر مثل الساعة التي تطلق الأذان. او أجهزة البحث عن القبلة…
و الطامة الكبرى لهذه الدول او المجتمعات ان يعيب احدها الاخر على مدى استقلاله و كأن كل واحدا منها قطبا عالميا فريدا. لقد فقدت تلك المجتمعات إمكانية ان تكون دولا مستقلة منذ ان فقدت حرية التفكير و رضت الاستعباد الفكري المؤدلج منذ قرون. أنها لا تملك سوى حدودا رسمها اللاعبون التكنولوجيون أما داخل الحدود فيمكن ان تلعب بمقدراته الدول المصنعة للتكنولوجيا. و رحم الله امرئ عرف قدر نفسه.
© منبر الحرية، 05 سبتمبر/أيلول 2009

حواس محمود18 نوفمبر، 20100

نادرا جدا ما يشعر المرء وبخاصة الفرد المبدع بحالة من الراحة النفسية الكاملة تجاه ما يتم تقديره واحترامه وتشجيعه في الأوساط الاجتماعية المحيطة به لما يقوم به من دور وإبداع في خدمة مجتمعه والإنسانية جمعاء
.
ولعل الأكثر معاناة في هذا الصدد هو ذو الكفاءة أو صاحب موهبة أومن امتلك طاقة خلاقة، إذ يشعر الإنسان المبدع أنه بالرغم من عطائه الرائع فإنه يهمل ويهمش، ليس هذا فحسب وإنما يتعرض للمضايقة والعرقلة والتشويش عليه وعلى إبداعاته، وفي كثير من الأحيان يحارب- بفتح الراء – ( بالاستناد إلى مقولة مفادها : يكتشف المبدع بتلك العلاقة الدالة وهي تحالف جميع الأغبياء ضده ) إن هذه الظاهرة تندرج ضمن إطار مأزق الفرد في المجتمع.
لقد تناول هذا المأزق عدة كتاب وباحثين مرموقين في العالم العربي، فالشاعر العربي الكبير أدونيس المرشح لجائزة نوبل للآداب يسلط الضوء على هذا المأزق ويرى ( في محاضرة له بالقاهرة ) أن الفرد في المجتمع العربي المسلم يعاني التهميش الذي تمارسه مؤسسات تمحو الذاتية لصالح مفهوم الأمة أو الجمهور الذي قال بأنه فكرة أيديولوجية
إن الفرد المسلم-  بحسب أدونيس- يعيش الآن رهين محبسين هما التأويل الوحداني والتأويل السلفي للنص الديني وهذا يؤدي إلى انمحاء وذوبان الفردية في الجماعة – الأمة- ويشير إلى محاولات في التاريخ العربي لاختراق هذين المحبسين على أيدي بعض الشعراء والمتصوفة، حيث يرى أن التصوف أعمق ثورة في تاريخ الإسلام، ويضيف  أدونيس بالقول : إن جميع الأحزاب تلغي الهو في سبيل الهم.
ويتناول الباحث الدكتور مصطفى حجازي في كتابه ” الإنسان المهدور” – اصدار2005- تهميش الفرد في المجتمع من خلال البحث في سيكولوجية هدر الطاقات وهدر الإمكانات وانمحاء الفرد ضمن الجماعة – الدين – القومية –  القبيلة- الطائفة-…الخ ويرى حجازي أنَ ثقافة الولاء للعصبية لا تفعل سوى هدر الطاقات والكفاءات التي طالما اعتبرت ثانوية، تهدر الطاقات الأكثر حيوية وعطاء على مذبح الولاء والتبعية، وبالتالي تهمش فئات كبيرة من ذوي الكفاءات حتى النادرة منها، وتدفع إلى المنفى الداخلي أو الخارجي ما لم تقدم فروض الطاعة والولاء وبراهين التبعية التي لا يداخلها شك، يقرب المولون ولو كانوا من ذوي الكفاءات الرديئة والانجاز المتدني بينما تهدر الطاقات الوطنية الثمينة، ثقافة الولاء هي ثقافة الهدر ذاته، وهذا ما يفسر تعثر التنمية ويعم التخلف، والمبعدون والمنفيون من ذوي الكفاءات يجترون الإحباط والمعاناة ويشتعل في نفوسهم الغضب على واقع الحال.
ويشير إلى أن الإنسان إذا تم الاعتراف به كإنسان وبشكل غير مشروط فإن الآفاق الرحبة تفتح أمامه، ويعيش التوازن النفسي والوفاق مع الذات، ومع العالم ومع الآخرين، وتنمو لديه الثقة بالنفس والنظرة الإيجابية إلى الذات، والدافعية للعمل والإنجاز، وصولا إلى الإبداع.
يشدد الباحث على ثقافة الإنجاز والعمل تبعا لناموسها، وبرأيه في ثقافة الإنجاز التي تشكل قاعدة كل نماء وبناء لا يرى المرء من مفهوم لذاته أو تصور إلا باعتباره كائنا منجزا يحسن تنمية طاقاته وتوظيفها، كما أن صناعة المستقبل قائمة على الجهد الذاتي والجماعي بما فيه من تجديد وإبداع.
ويؤكد الباحث على ضرورة الاعتراف  بحق الإنسان بالكيان، وصيانة حرمة هذا الإنسان وتأمين الحاجة والخوف كشرط مسبق لبناء الاقتدار الإنساني الذي يشكل نواة أي إنجاز أو إنتاج أو تقدم أو تنمية، الإنسان أولا وفي الأساس، والاعتراف بإنسانيته كمنطلق ومآل ووسائل، وكل ما عدا ذلك جهد مهدور وأمل ضائع.
أما الأستاذ حازم صاغية فيحرر في كتابه ” مأزق الفرد في الشرق الأوسط ” – الساقي 2005- عدة مقالات للعديد من الباحثين والكتاب في مجال الفر دانية في الشرق الأوسط، وكل يتناول الفر دانية في منطقته، أو ما يختص ويهتم به في تلك المنطقة عبر فصول الكتاب
ويفرد في الكتاب فصلا عن الفردانية في الشرق الأوسط العربي، بالإضافة إلى مقدمة غنية بالأفكار الحيوية والمهمة، إذ ضمت رؤية نقدية واضحة لمكانة الفرد في التاريخ العربي
يشير الباحث صاغية على أنه في الواقع لقد وجد الأفراد دائما في الشرق الأوسط، كما في غير مكان من كوكبنا،  وهؤلاء الذين تربطهم إلفة ما بالتاريخ والأدب العربيين يعرفون عن الشعراء “الصعاليك ” فآراء وأعمال هؤلاء الشعراء كانت مرفوضة في قبائلهم وجماعاتهم، وكان عليهم أن يهجروا منازلهم وأصحابهم ليعيشوا في منافي الأراضي المهجورة في الصحراء، غير أن ما لم ينوجد هو الفردانية لأن هذه لا تظهر  إلا مع الحداثة وبفضلها، لكن مجتمعا ينوجد فيه أفراد من دون التنبؤ بتصرفاتهم أو كطائشين أو في – أحسن الأحوال- كمتطرفين، ويكونون عرضة للتضحية بهم من دون سبب، وفرديتهم المقموعة إنما تجد مخارج قليلة للتعبير عن نفسها فيكون ملاذها الأسهل في بعض الإيماءات الجسدية الشاذة أو في سلوك هزلي ما أو كما هي حال الصعاليك، في بعض الشعر” الغريب ” سواء في مفرداته أم في محتواه، ولهذا يصعب أن تصدر مواقف متماسكة منطقيا عن هؤلاء الأفراد فهم لا يستطيعون تطوير خطاب فرداني في ما يخص الحياة والموت، الحب والكره، السياسة والثقافة.
وهنالك هضم للحقوق الفردية ضمن سياق المطالبة بالحريات سواء للشعوب المنضوية تحت أطر دول معترف بها أو للأقليات المضطهدة، فالتجربة توضح أن هنالك تضحية بالحريات الفردية من أجل الحريات الجماعية، ولقد شهدت الأحزاب العربية والكردية حالات من إهمال الفرد والتضييق على حرياته بالرغم من شعارات وأهداف هذه الأحزاب بالحرية والديمقراطية والنضال ضد الإضطهاد والدكتاتورية والإستبداد ومارست هذه الأحزاب أساليبا غريبة بحق الأعضاء الذين قرروا لسبب ما الإنفكاك من هذه الأحزاب من نبذهم وعزلهم وإتهامهم وحتى تخوينهم في كثير من الحالات، هذا ولعل اندفاع الكثير من الأفراد للانخراط في هذه الأحزاب لا يأتي بسبب قناعاتهم بهذه الأحزاب وإنما بغية صنع وجاهات سياسية للحصول على رضى الجماهير وتقديرها مستغلين حالات التخلف الشعبي الواسعة ،  ولعل تهميش الفردية يتبدى في المجال الإعلامي والفكري على شاشات الفضائيات الكردية من خلال إظهار شخصيات لا تمتلك الإمكانات الإعلامية والفكرية للدفاع عن الكرد وقضيتهم العادلة  وذلك بسبب انتمائهم الحزبي بينما يتم إهمال وتهميش شخصيات تمتلك تلك الإمكانات وذلك لأنها شخصيات مستقلة غير منتمية لأية أحزاب.
وهذا الإقصاء وهذا التهميش الممارس من قبل الأحزاب بحق أعضائها المستقيلين يقابله في الأنظمة العربية إقصاء وتهميش للخبرات والكفاءات والطاقات العلمية والثقافية والفكرية،  وهذا ما يؤدي  في الداخل للاغتراب والتقوقع والانحسار الإبداعي و في الخارج إلى هجرتها والاغتراب الاجتماعي عن البلد الأصلي والتعرض لإزدواجية التجنس واللغة والثقافة والتقاليد.
لكن رغم ذلك فإن هذه الطاقات تبدع وتنجز في مجالاتها إنجازات رائعة ما لا يتاح أمامها في بلدانها الأصلية بسبب توفر المناخات الديمقراطية الكافية وملاقاتها للدعم والتحفيز والمساندة من المؤسسات الحكومية والمدنية في بلدان المهجر ، والأمثلة كثيرة وعديدة ابتداء من فاروق الباز رائد الفضاء الأميركي – المصري الأصل- ومرورا ب بأدونيس الشاعر السوري والمرشح لجائزة نوبل للآداب وانتهاء بأحمد زيل المصري الأصل-  الحائز على جائز نوبل في الكيمياء،  وغيرهم.
إنَ ما يدعو للألم والأسى حقا أن الفردية في العالم العربي تغيب وتتيه أمام موجات من المغالاة والمتاجرة الشعاراتية والصراخ في الفراغ بينما الفرد المبدع يبحث عن إنسانية مبدعة متجسدة في الفرد لبناء مجتمعات قوية وسليمة ومعافاة من أمراض سياسية واجتماعية أدت وتؤدي إلى تخلف هذا العالم ( العالم العربي) وتعرقله عن اللحاق بركب الحضارة العالمية.
© منبر الحرية، 28 أغسطس/آب 2009

نبيل علي صالح18 نوفمبر، 20100

لا تزال أسئلة الحوار والنهضة العربية تفرض نفسها بقوة على ساحة الفكر والثقافة في داخل اجتماعنا السياسي والديني الراهن منذ أن انطلقت مفاعيلها الأولى في بداية القرن العشرين على شكل صياغات استفهامية: لماذا تقدم الغرب وتخلف المسلمون؟!..
ولعلنا لا نغالي كثيراً عندما نؤكد على أن مشهد الخوف والإحباط واليأس والظلم والاستضعاف هو من المشاهد الأكثر حضوراً وتأثيراً على حركة الإنسان العربي الذي مارست بحقه الدولة العربية الحديثة أفظع أنواع القسوة والعنف الموزع مادياً ورمزياً على معظم امتدادات ومواقع هذه الأمة البشرية والطبيعية..
ويبدو لنا هنا أن تعميق ثقافة الخوف والرعب والقلق السلبي الممتدة أفقياً وعمودياً في مجتمعاتنا منذ بداية أزمة الخلافة والحكم الإسلامي الأول، كان من الأهداف الرئيسية التي سعت دول الاستقلال الأولى (الوريثة الشرعية لأنظمة القمع والطغيان التاريخية) –وكل النظم السياسية (سلطات الهزيمة) التي جاءت بعدها، والتي ارتكزت سياساتها جميعاً على ثلاثية: القمع والإفقار والتجهيل، أقول: كانت قد سعت إلى تعميق تلك الثقافة بالقوة على أرض الواقع، من خلال عملها على صياغة (وقولبة) المواطن الضعيف والمفقّر والمحتاج إليها دائماً، كي تتمكن من إلحاقه بها والسيطرة عليه، والتحكم بوجوده، أو –على الأقل- احتواء مطاليبه، وتدجينه، وربطه بوعود وهمية، وشعارات فضفاضة لم تحقق لمواطنيها  المستضعفين إلا الدمار والخراب الروحي.. فكانت النتيجة النهائية لكل تلك المقدمات المأزومة أن الدولة العربية الحديثة:
1.    فشلت فشلاً ذريعاً في إيصال المجتمعات العربية والإسلامية إلى شاطئ وبر الأمان والاطمئنان الذي سبق أن وعدت الجماهير به.
2.    وتفرّغ القائمون عليها للتحكم بموارد الأمة، والسيطرة على مفاصل السلطة والثروة والقوة والمعرفة في كل مواقعها، محتكرين بذلك كل الرأسمال المادي والمعنوي المتبقي لأفراد المجتمع والأمة..
لأن الفقير لا يجرأ دائماً على رفع رأسه، كما أن الجائع لا يعرف السياسة، ولا وقت عنده للحديث والاستماع للسياسة والسياسيين، حيث أنه مشغول كلياً بتحصيل لقمة عيشه وكفافه اليومي.. وهكذا يبدأ هذا الفقير الجائع والمحروم –مع مرور الأيام- بفقدان إنسانيته، ونسيان ذاته وفاعليته الوجودية، ويُختصر إلى جملة من الغرائز والمكبوتات، بما يؤدي لاحقاً إلى تدمير القيم السامية والأخلاق الحميدة والمثل العليا التي طالما تفاخر بها، واعتز بانتمائه إليها.. وهكذا كانت النتيجة أيضاً أن وصلنا إلى حافة الهاوية على كل المستويات والأصعدة الأخلاقية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.
والشيء الذي ينبغي ألا يغيب عن أذهاننا هنا هو أن خطورة هذا الوضع المأساوي العام الذي يرزح تحته عالمنا العربي الآن يتزايد أكثر فأكثر يوماً بعد يوم على مستوى عدم استجابة معظم النخب العربية السياسية الحاكمة لاحتياجات الناس، ومتطلبات التنمية الاقتصادية والسياسية الحقيقية، وهذا ما يؤسس باستمرار لأجواء ضعف (أو عدم وجود) المساءلة والنزاهة والشفافية المطلوبة، والتي لا يمكن النهوض والارتقاء من دونها، مما يجعل من تلك المجتمعات مرتعاً خصباً لانعدام الفعالية والنشاط والكفاءة.. وهذا الأمر نجده يفرض ذاته بقوة علينا، خصوصاً بعد أن أخذت الولايات المتحدة الأمريكية زمام المبادرة والمبادأة السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية في العالم كله.. مما يدعونا جميعاً لمواجهة هذا التحدي الكبير من خلال ضرورة انفتاح الأنظمة على شعوبها، واعترافها بالتقصير عن تحقيق أهدافها وتطلعاتها والتزاماتها التي سبق أن وعدت بها.. ولكننا لم نشهد ذلك حتى الآن.. حيث لا تزال الفجوة (بما فيها الكراهية والحقد المتبادل) قائمة بين الشعوب العربية والأنظمة الحاكمة، وهي تتسع وتتعمق يوماً بعد يوم.. في الوقت الذي يفترض أن تتوجه جهود أبناء مجتمعاتنا  كلهم –حكاماً ومحكومين- إلى تركيز الطاقات باتجاه العمل والتنمية والسعي للنهوض بواقع أمتهم في محاولتها الرامية لاستيعاب المعرفة بمختلف جوانبها، والعمل على اكتسابها، ونشرها، وتعميمها.. وذلك من أجل  للارتقاء بواقعها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في مواجهة عالم كبير يتحكم فيه منطق القوة وغريزة القوة والمصالح الآنية الجزئية، وتستحوذ أميركا فيه على حصة الأسد من كل الثروات والمصالح والمتع.
طبعاً نحن لا نريد أبداً أن نصور أميركا والغرب عموماً وكأنهم قضاء وقدر حتمي مفروض على شعوب وحضارات العالم أجمع، ولكننا نريد أن نعطي للواقع العالمي الراهن صورته الواقعية الصحيحة لكي نتمكن من إنجاز شروط مواجهته بحسب المنطق العلمي والعقلي القائل بأن النتائج تأتي تبعاً لمقدماتها.. حيث أن مواجهة الحقائق الواقعية، وتقدير حجم وقوة العدو الحقيقية هي من أهم أسباب تحقيق النصر الحاسم في ساحة المعركة..
وبالاضافة إلى ذلك فنحن لا نريد الخضوع أو إيهام الناس بصحة وصوايبة “نظرية المؤامرة دائماً” وأن هناك من يقف أمام تقدمنا وتطورنا دائماً.. ولكننا نقصد أنه طالما أن الشعوب العربية تظن وتتصور أن هناك –وعلى الدوام- من يتربص بها الدوائر ويحيك لها المؤامرات ويريد أن يسرق خيراتها وثرواتها… أقول: طالما أن الأمر كذلك فلن نشهد نهضة عربية حقيقية في أي شكل من الأشكال. والذي يبدو أمامنا هنا أن الحكومات العربية والإسلامية عموماً تعمق هذا التصور المريض في داخل ذهنية أفراد مجتمعاتها، لتخفي من خلال ذلك نهبها لطاقات أوطانها، وزيادة سيطرتها على ثرواتها وموارد مواردها التي تشكل قاعدة النهوض والتطور والتنامي الفردي والجماعي.
ويجب ألا يغيب عن أذهاننا وتصوراتنا أننا نعيش حالياً في ظل حضارة عولمية وإنسانية واحدة بالإطار العام.. إنها حضارة عصر الإنترنيت وحقوق الإنسان والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، وحضارة المؤسسات الحديثة الحقوقية والإنسانية والعلمية.. ولسوء حظنا لم نستفد كثيراً من مزايا تلك التطورات الهائلة، ولم نؤسس لتواصل هادف مع الآخر.. وما زال القمع والظلم سائداً وطاغياً في كل حياتنا السياسية والاجتماعية، وكذا والأمية والفقر تفتك بهذه البلاد..
وهذا الضغط للأسف قادنا إلى ما نحن عليه الآن من أن أغلبية العرب والمسلمين المحقونين بالشعارات الطنانة الرنانة آثرت القعود، والاستكانة للحل السلبي وهو العبث واللامبالاة، والامتناع عن ملاحقة ومتابعة متغيرات الواقع، أي الامتناع عن العيش في العصر.. إنه الموقف الهروبي من الواقع كله الذي لم يشارك مواطننا العربي في تمثله وصنعه، والذي لا يمتلك القدرة على التأثير فيه ولو بنسبة ضئيلة جداً.. والنتيجة الواقعية هي في تحول هذا الفرد إلى محصلة صفرية غير فاعلة تعيش ليومها من دون أدنى تفكير خلاق ومبدع بالغد والمستقبل.. ولسان حاله يقول: “اللهم أعطنا خبزنا كفاف يومنا”..
وفي ظل هذا الوضع لا يمكن للفرد المصاب بالوهن النفسي والضعف الذاتي العضوي تحقيق الاستشفاء الذاتي لوحده, بل إنه بحاجة ماسة لمن يأخذ بيده قبل كل شيء, وبالمثل لا يمكن لبلداننا تحقيق بديهيات التنمية والتقدم بدون مساعدة عاجلة وسريعة من الحضارات الأخرى.
وشعوبنا العربية والإسلامية تواقة للإصلاح والتغيير بالدرجة التي قد تفرض عليها أن تغض النظر عن مصدر التغيير وآلياته وأساليبه.. ويبدو أن انعدام التغيير الداخلي وفقدان الثقة بالنظم والحكومات القائمة في العالمين العربي والإسلامي، هو الذي يدفع تلك الشعوب باتجاه قبول التغيير الخارجي حتى لو جاء بيد عمرو (الغرب وأمريكا).
والواضح أمامنا –في هذا الاتجاه- أن هناك حقيقتين يعايشهما الناس في مجتمعاتنا العربية، وقد انتقلت تأثيراتهما إلى البلدان الأخرى:
الأولى: الشعور العام المطبق بانعدام آفاق التغيير والإصلاح نتيجة السياسات الفوقية الظالمة التي طبقتها النخب السياسية والاقتصادية العربية والإسلامية الفاسدة عبر العقود الماضية، والتي كانت تحظى –حتى عهد قريب- برضى المصالح والسياسات الدولية المتصلة مع نظيرتها المحلية.
الثانية: استشراء واستشراس ثقافة العنف التي وجدت في التراث الإسلامي حاضنة لها مما ساهم في نمو حركات العنف والتدمير في مناخ الترهل والفساد والاستبداد السياسي والتخلف الاقتصادي والاجتماعي الذي يعيشه اجتماعنا السياسي والديني.
ويبدو لي أن ضغط هاتين الحقيقتين على مختلف مواقع الفعل والتأثير السياسي والحضاري المعاصر محلياً ودولياً، سيدفع هؤلاء جميعاً للعمل من أجل التعاون المثمر والهادف إلى تحقيق مجتمع تسوده قيم الحرية و الحوار والعقل والعدل.. يحترم فيه الإنسان من حيث أنه سيد الوجود والحياة.. مجتمع يتحمل الناس فيه بعضهم البعض، وتسوده وجهات نظر مختلفة.. مجتمع يشعر فيه الإنسان عملياً بأنه سيد نفسه، ولا فرق بينه وبين قيادته إلا بتوزيع الأدوار وتعدد واختلاف المسؤوليات.. مجتمع يتبنى النقد والمحاسبة الذاتية الحضارية عنواناً لحركته وتطوره.
© منبر الحرية، 17 أغسطس/آب 2009

نبيل علي صالح18 نوفمبر، 20100

يمكن الاستنتاج مباشرة ومن دون أية مواربة أن الواقع العربي الراهن يعبر أصدق تعبير عن فشل العرب في تكوين دول مدنية حديثة بالمعنى الثقافي والسياسي العملي. فنحن لا نزال نعيش في ظل نظم “أهلية-قبلية” غير مدنية (بالمعنى السوسيولوجي العملي) بعيدة عن منطق العصر والتطور والحداثة المعرفية والعلمية، ولا مكان فيها لأي منهجية تفكير علمية رصينة، ولا يعلو فيها سوى صوت السلف بسيوفه وتروسه وصولجاناته التي انتقلت –بقوة الدين وسطوة الأعراف والتقاليد- من أيديهم إلى أيدي الخلف من النخب السياسية والقبلية الجديدة التي يحكمها قانون البقاء والمصلحة، ويتحكم بوجودها فكر ومناخ الاستبداد التاريخي.
وقد وصلت الأمور بتلك النخب القبلية العربية الحديثة -في سياق رفضها ومحاربتها للتغيير السياسي والاجتماعي الطبيعي استجابةً لمنطق تغير الحياة وتطور الإنسان، ومنعها لأية محاولة يمكن من خلالها تشييد البنى الأساسية لإقامة مجتمع مدني متطور- أنها تقف بقوة حتى في وجه أي عامل تقدم علمي أو تقني، وتمنعه من النفاذ أو الدخول إلى المجتمعات إذا كان يمكن أن يشتم من دخوله أية رائحة للتغيير أو أي حراك بسيط قد يفضي إلى حرف للأوضاع القائمة، أو تغيير بالأفكار ومن أي نوع كان، في العقلية أو السلوك أو التوازنات الاجتماعية أو السياسية.
ولا تزال تلك النخب القائمة تعمل –في سياق إحكام سيطرتها على مجمل الحياة العمومية العربية- على تكريس ثقافة الفساد والإفساد كجزء من سياسة المواجهة بينها وبين بعض الطبقات والفئات الاجتماعية المتضررة والمختنقة الساعية بأي ثمن للتغيير والضاغطة بشدة على النظام، مما يجعلها تخصص قسماً كبيراً من موارد وإمكانات المجتمع المادية والمالية والبشرية لحماية مصالحها وضمان بقائها واستدامة سطوتها وانفلاتها من عقال القانون والمحاسبة والمساءلة، وفرض الاستقرار بالقوة (أي فرض الثبات والموت) ومنع حدوث أية قلاقل أو اضطرابات. وهكذا لم يبقَ هناك، في معظم البلاد العربية والإسلامية، أي هامش للاستثمار الحاضر والمستقبل.
من هذا المنطلق فإن الأمل بحدوث تطورات حقيقية سياسية واجتماعية وعلمية وصناعية في مجتمعاتنا العربية تستجيب لتحديات الحياة في الوجود المؤثر والفاعل، مرهون -ليس فقط بمدى قدرتنا الفكرية والعملية على الاستجابة الفاعلة لتلك التطورات- وإنما مرهون، أيضاً وبشكل أساسي، إلى ضرورة إحداث تغييرات هائلة على صعيد الحكم وإشكاليات السلطة والمشاركة والحرية .. الخ. لأن الأصل في القدرة على اتخاذ القرارات الصحيحة المسؤولة والمعبرة عن طموحات الناس والمنسجمة مع تطورات وتغييرات الحياة الدولية.. وهذا التغيير المطلوب لن يتحقق لوحده بقدرة سماوية، بل لا بد من إرادة جماعية فاعلة لتحقيقه، حيث أن النخب الحاكمة في مجتمعاتنا العربية عموماً ليست لها أية مصلحة في الإصلاح، فضلاً عن كونها أصلاً غير قادرة عليه، ولا تمتلك الحد الأدنى من الإرادة الجدية والفاعلية العملية لإحداث التغيير أو الإصلاح المنشود، بسبب انغلاقها ومركزيتها وتغييب قوى التأثير عليها من خلال ما قامت به –وعلى مدى العقود الماضية- من سحق للمجتمعات، وتحطيم منظم للموادر والقدرات والطاقات.
من هنا فإن استثمار تطورات الحياة والاستفادة المثلى من أي تقدم علمي يمكن أن توفره الحضارة الحديثة لن يكون متاحاً أمام مجتمعاتنا وأفرادنا إلا إذا ساهمنا وشاركنا جميعاً –بصورة وبأخرى- في إنتاجه وإبداعه وتمثله عملياً، ومن باب أولى فهمه ووعيه. ونحن لا يمكن أن نطور العلم وننتج منجزاته الحديثة مع وجود واتساع عقلية القبيلة المنزرعة فينا والمتحكمة بوجودنا والتي يعمل أصحابها على تدمير أي فرصة لربط   -مجرد ربط- البلاد العربية بتيارات التقدم العلمي والتقني. بل، على العكس من ذلك، إنها تعمل على ترسيخ كيانها الذاتي، وحفظ بقاء نظام قائم على مفاهيم القمع والضبط والردع عبر تمويل ودعم أسباب بقائها ونموها من خلال نهب أموال الناس، وسرقة ثروات الأمة النفطية وغيرها. والمجتمعات العربية بالنتيجة هي التي تدفع الثمن الباهظ لتلك السياسات الفاشلة للنظم السياسية العقيمة والضعيفة الأفق التي تقوم على تعقيم الإنسان العربي وشل قدراته وسحق طاقاته، والتي ليس لها مبرر وجود سوى خدمة مصالح الفئات والطبقات التي تسيطر عليها.
ونحن نعتقد أنه عندما تفشل الدولة في كسب ثقة أفرادها ومواطنيها، ومد جسور التعاون معهم، والعمل المستمر على تحقيق مصالحهم وطموحاتهم وتطلعاتهم من خلال اعتماد مشروع استنهاض سياسي واجتماعي يعبر عن آمالهم ووجودهم الحي الفاعل والمسؤول، ويحفزهم للمشاركة الشاملة في عملية التنمية الفردية والجماعية.. أقول : إن عدم تحقيق كل تلك الآمال التي تتناقض مع مصالح النخبة السياسية الحاكمة العاملة على أهداف ذاتية معاكسة تماماً لأهداف المجتمع، هو الذي ساهم إلى تحويل الدولة العربية الحديثة -عندما قامت وعملت على ترسيخ شعاراتها ووجودها- إلى مجموعة إقطاعات ومافيات لها أفرادها وأزلامها الدائرين في فلكها، وعندئذ لاحظنا كيف تطفو على السطح ظواهر قديمة-جديدة من التشبيح السياسي والاقتصادي والأمني والاجتماعي التي لها أفكارها ودعائمها ورموزها ونخبها الذين يعملون باستمرار على تحويل تلك الدولة إلى مجموعة مزارع واستثمارات ربحية نفعية خاصة بهذا الطرف أو ذاك.
طبعاً نحن عندما نحمل معظم النخب السياسية العربية التقليدية الحاكمة مسؤولية هذا التردي والضعف والانقسام والهوان الذي نقبع في داخله حالياً، لا ينبغي أن ننسى أن العلة وجذر العطالة قائم أساساً في طبيعة المناخ الثقافي المسيطر علينا منذ قرون وقرون، وأعني به أن الخلل ثقافي معرفي بامتياز فبل أن يكون أي شيء آخر، والمسؤولية ليست فقط محصورة في هؤلاء الحكام والزعامات القائمة، فهؤلاء نتيجة لثقافة مجتمعاتنا.. ولذلك فالخلل مركوز في صلب البنية السياسية العربية المستغلِة للدين وليس الدين، حيث يحاول الكثيرون الإشارة إلى الدين كمعطى ثقافي قديم انتهى دوره، وتم تجاوز قيمه وأفكاره بحكم التطور والتقدم التاريخي.
ولكننا نتصور أن السلطات السياسية الشمولية القبلية هي التي عملت على فرض رؤية أحادية سلبية للدين في أذهان الناس. ثم انطلقت لتحاسب الشعب عن هذه الرؤية التي كونتها هي عن الدين، ما يعني أن تحقيق الشروط الأولى لعملية التقدم والتجديد ليس مرهوناً بتهديم البنى التقليدية (الدينية تحديداً) في المجتمع التي يمكن استثمارها واستخدامها إيجابياً بشكل مثالي ضمن عملية استنهاض المجتمع ككل. والدليل على ذلك أن حداثتنا العسكرية والمدنية قد هدمت، باسم العلمانية ، كل الركائز والمؤسسات التقليدية التي كانت قائمة في المجتمع، وصار الفرد يقف وحيداً أمام سلطانات قبلية فردية مطلقة، لا يجرؤ أحد على منازعتها سلطانها ومصالحها.. فماذا كانت النتيجة؟!.. كانت أن مشاريع التحديث والحداثة والتقدم قد فشلت فشلاً ذريعاً في معظم مجتمعاتنا على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، بعد أن أعادت إنتاج صيغ حديثة شكلاً لا مضموناً من مجتمعات أهلية متخلفة تم تركيبه من قبل أجهزة الدولة العربية المستوردة الحديثة.
وفي ظني أنه لا حل عملياً في المدى المنظور لتلك الإشكالية القائمة.. نعم هناك مشاريع وأفكار ومبادئ وأسس نظرية مهمة ورائعة وعظيمة، ولكن العبرة في التطبيق والممارسة الجماعية على الأرض.. فهناك –على سبيل المثال- الطرح الفكري الذي يدعو إلى تعميق قيم المجتمع المدني –الذي يقوم على أساس القانون والنظام العادل – في تربة مجتمعاتنا العربية والإسلامية، حيث يعتقد أتباع هذا الطرح بأنه كفيل ببناء دولة المؤسسات الحديثة التي يريدها الجميع، وذلك لأن هذا الفكر -الذي تقوم عليه مدنية المجتمع العربي والإسلامي- المناهض والمناقض لأسس المجتمع القبلي (القائم حالياً)- يمتلك معايير وضوابط وآليات عامة هي من صلب الحياة والفكر والتراث الإسلامي الأصيل، ويستطيع أن يؤمن -بالحد الأدنى- مشاركة كثيفة للناس والمبدعين في عملية الإنتاج والإثمار الحضاري المنشودة. لذلك من الضروري جداً الإيمان بأن بناء وتأسيس مجتمع مدني في العالم الإسلامي -له قواعده الثابتة وأسسه القوية الواضحة- لا يمكن أن يتم من دون وعي التراث الإسلامي وعياً إيجابياً من الداخل، ومحاولة دراسة وتفكيك وتحليل مضامينه المعرفية والفكرية والعقائدية وصياغة مقولاته وأفكاره بما يتناسب والحاجات الاجتماعية والسياسية الضرورية في عصرنا الحاضر.
وإذا كانت العملية التطورية للفكر والثقافة والتراث المعرفي الغربي قد أفرزت النمط الحديث المعروف للمجتمع المدني في الغرب، فإنه يجب العمل بالمقابل -من خلال فكرنا وثقافتنا- على إيجاد نواة حقيقية لبناء نمط اجتماعي آخر من صلب مبادئنا وتراثنا العربي والإسلامي لأن الناس لن تشرك في التغيير والبناء والتنمية مالم تقتنع بأن الفكر الإصلاحي لا يتناقض مع ثقافتها ونسيجها التاريخي العقائدي.
من هذا المنظور يؤكد أصحاب هذه الأفكار المدنية الحداثية المستقاة من التجديد الديني المنفتح على الحياة والعصر والتطورات الوجودية، على أن آلية العمل المؤسساتي المدني بصيغته الإسلامية المتطورة تفترض –مبدئياً- الارتكاز على ما يلي:
1-بما أن موضوعة “السلطة والحكم” قد تحولت إلى ما يشبه الهاجس الجنوني الذي تعيشه أغلب فئات وطبقات مجتمعاتنا، حيث قامت السلطات الحاكمة بمحورة ومركزة وجودها على هاجس الحكم والبقاء في السلطة مهما كانت الظروف والأحوال.. فلا بد من وجود إطار فكري يعمل على عقلنه السلطة، وجعلها شأناً بشرياً نسبياً، واستبدل البنى والسلطات التقليدية والعائلية بسلطة القانون الاجتماعي المدني -إذا صح التعبير- المتفق عليه في المجتمع.
2-تركيز القناعة بأن أي تحول أو تغيير في الحياة لن يكون له أية أو تأثير إلا إذا استند على قاعدة إنسانية شاملة، مشاركة واعية وواسعة للبسر في الحكم السياسي، لأن التنافس السياسي السلمي هو المقوم الفعلي للحياة المدنية الحديثة.
3-الإيمان بوجود المعارضة السلمية وحقها في التعبير والشرعية المقننة.
4-مراعاة رأي الأغلبية في البلاد والاحتكام إليها في اللحظات الحرجة والضرورية.
5-ضرورة وجود فكر حي وفاعل ومتفاعل ومتطور في داخل الأمة يجعل من حضور الإنسان -في كل مجالات وآفاق الحياة، ومشاركته الحرة في العمل المجتمعي- شرطاً ضرورياً في عملية التغيير والتقدم.
6-الضغط المتواصل باتجاه تعميق وتوسيع مساحة ثقافة الحرية في المجتمعات العربية كشرط أساسي مسبق لحدوث أي تحول إيجابي فيها، باعتبار أنَّ وجود فكر مستقل وفاعل لا يمكن أن يتحقق، أو يكون له أي معنى، إلا في إطار الحرية المنظمة والواعية.. حرية الفكر وحرية التعبير، وحرية الاجتماع والتنظيم السياسي، وحرية محاسبة الحكومات ومساءلتها.
وهذه الأمور المهمة لتطور ونهضة مجتمعاتنا لا يمكن تحققها إلا من خلال وعي وتطبيق الديمقراطية كآلية لإدارة شؤون الناس والمجتمع بصورة مؤسساتية عادلة وصحيحة.
وتبعاً لذلك ينتج عن الديمقراطية مجموعة من المعايير والقيم من أبرزها:
1-المشاركة العامة في اتخاذ القرار وضمان حرية الأفراد .
2-مسؤولية الفرد عن أفعاله.
3- تحقيق العدالة والمساواة بين الناس.
4-العناية الفائقة بحقوق الإنسان.
© منبر الحرية، 06 أغسطس/آب 2009

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

في عام 2002 كنت احاضر لطلبة الدراسات العليا في كلية الهندسة في موضوع نظرية الليزر. هذا الموضوع من المواضيع النظرية الشائكة  وذلك لا عتماده على فيزياء الكم. لقد اشبع هذا الموضوع دراسة و بحثا منذ عشرينات القرن الماضي و لحد الوقت الحاضر.  و كثيرا ما احاول في محاضراتي  ان اقدم عرضا تاريخيا مرتبطا بالتطور الرياضي للصيغ العلمية لتبيان التطور الذي يتم ادخاله على الصيغ الرياضية المعتمدة وسبب هذا الادخال او التحديث. لقد كان الموضوع دسما و ثقيلا مليئا بالصيغ الرياضية و اسماء العلماء الذين اكتشفوها.
بعد ان انتهيت من احدى محاضرتي و كانت المحاضرة حافلة بالكثير من الاشتقاقات النظرية و بالكثير من مساهمات العلماء من دول مختلفة و الذين ساهموا في اغناء ذلك الاشتقاق الرياضي. تعرضت لسيل من اسئلة الطلبه المعهوده و الخاصة بالموضوع و لكن كان السؤال الاخير مختلفا عن باقي التسائلات. جائني من طالبة تهتم بالجوانب الفكرية, قالت هبة :  ” لقد عرفنا ان هذه المعادلة الرياضيه تعرضت لتعديلات مختلفة و ساهم في هذا التعديل علماء كثيرون”. اجبتها نعم و هذا ما لا يعرفه الا المتخصصون اصحاب العلاقة. قالت ” ان كل الاسماء التي طرحت لا تحتوي اسما عربيا او اسلاميا واحد و نحن اصحاب الحضارة؟ فاين نحن؟” لم اندهش لتسائل هبة لانها كانت محبة للاطلاع. لقد كنت صريحا مع هبة “ليس لنا مشاركة في النشاط العلمي المعاصر!” دون ان اتطرق لتفاصيل اكثر لا يحتملها وقت المحاضرة.
لقد كان ذلك ما قبل حرب 2003 و ايام المد القومي في العراق. لقد كانت هناك ثقافة مركزية تمجد التاريخ العربي القديم و في ذات الوقت ترفع الشعارات  لمستقبل يعود فيه العرب الى مجدهم السابق (رغم تراجع العراق وقت ذاك عن دول المنطقة). و لكن لم يكن هناك شيء يذكر عن الفرق الزمني ما بين الماضي التليد البعيد جدا و الحاضر المُجهد. لم يكن هناك تسائل لماذا اصبحنا هكذا؟ ما هي المشكلة؟  ألاجابة الرسمية العربية على ذلك هي ان الاستعمار و الصهيونية هما سبب المشكلة. على ذلك كان علي ان اجيب هبة ان الاستعمار والصهيونية العالمية هما سبب ماساة العرب و المسلمين و انقطاعهم عن الحضارة الانسانية و لكن لم اتطرق لهذا الموضوع.
حتى وقت ذاك كنت مهتما بالاضافة لتخصصي العلمي بفلسفة العلوم لعلاقتها باهتمامي العلمي ولكن هذا التسائل دفعني الي محاولة لدراسة تاريخ العلوم عند العرب و المسلمين و على اساس كمي احصائي و مقارنة نتائج بحثي بتاريخ العلوم في الغرب.
ماذا وجدتُ في بحثي؟  لقد تكونت حضارتنا الزاهرة في 700 م  تقريبا و بدئت بالزوال حوالي 1000 ميلادية اي استمرت قرابة الثلاثة قرون و استمر الانحطاط الحضاري  حتى وقتنا الحاضر. ليس هناك مجال لتقديم تفاصيل اكثر و لكن كل ما يمكن قوله ان هناك شيء مرعب قد حصل!
ماذا حدث للعرب و المسلمين لكي تنقرض حظارتهم وحتى وقتنا الحاضر ؟ لا شك ان هناك كارثة اشبه بكارثة انقراض الديناصورات.  ما هو تفسير هذا الانقراض ؟ لقد تعرضت كثير من الحضارات الى مصاعب و ازمات و لكنها تجاوزتها و عاودت المسير بصورة او باخرى.  اية كارثة حلت بالحضارة العربية الاسلاميه؟
للاسف ليس هناك من إجابات تقدم للمجتمع سوى شعارات سياسية حالمة و لعن مستمر للاستعمار الانكليزي سارق الثروات و امريكا عدوة الشعوب و الصهيونية العالميه. أما مراكز البحوث العربية فتلقي اللوم على هولاكو الشماعة الكبرى. لقد حصلت كارثة هولاكو عام 1253م  أي بعد ان بدء الانحطاط  بقرنين من الزمن. لنقل مع القائلين ان هولاكو محا ما بنته هذه الحضارة خلال القرون الثلاثة تلك لماذا لم تنهض هذه الامة بعد ذلك لتعيد البناء من جديد.  لقد مضى على هولاكو قرون عدة و ما زال العرب لم يتخلصوا من نكسته فاي امة هذه؟
لقد بنى الغرب قوته اثناء غفوة العرب و المسلمين التي استمرت قرونا ؟ اليس من حقنا التسائل عن سبب هذه الغفوه الكارثة؟ اليس من حقنا البحث عن تفسيرات علميه عن سبب هذه الغفوه الكارثة؟ لو عرفنا السبب سوف لن نتسائل لماذا لم نقدم شيئ للبشرية خلال التسعة قرون الماضيه؟
لقد كانت اليابان غافيه و لكنها استفاقت خلال القرن التاسع عشر و نهضت و انتكست في الحرب العالميه الثانيه و نهضت من جديد. لماذا لم ينهض العرب و المسلمون ليشاركوا الانسانية المعاصرة البناء؟
لقد مللنا التفسيرات الايديلوجية الجوفاء عن الاستعمار و الصهيونية.  أن مشكلة التخلف العربي و الاسلامي كانت قبل ان تصبح بريطانيا امبراطورية عظمى و قبل اكتشاف امريكا وقبل قيام الصهيونية العالميه و قبل احتلال فلسطين.
أنها مشكلة الانغلاق الفكري التي بدئت منذ القرن الحادي عاشر الميلادي عندما تم تحريم التفكير و خنق الدين. و بدئت محاكم التفتيش بالظهور. لقد بنى الدين الاسلامي حضارة متميزة واضحة المعالم ما تزال اثارها شاخصة رغم الزمن. لقد كان الدين الذي قاد الى هذه الحضارة هو دين رسول الإسلام الذي منع المتاجرة بالدين و استعباد الناس و كانت الحرية كبيرة و قادت الى إبداعات كبيره. أما الذين خنقوه و شوهوه هم الذين سببوا هذه الكارثه الحضاريه الرهيبة.  لم يعد الدين كما كان لقد اصبح دينا جديدا و يزداد ابتعادا عن دين الدعوة الاولى بزيادة تراكم البدع و الانغلاقات الفكرية. لقد خنقوا روح الدين و حولوه الى صنم لا روح فيه. لذا قُتل المعتزلة و ابن عربي و اُحِرقت كتب ابن رشد و حُرمت الفلسفة و التفكير وو. لقد ظهرت محاكم التفتيش في اوربا قبل الثورة العلمية و كانت الثورة العلمية ناتجا لاندحار المحاكم و منشئيها أم محاكم التفتيش الاسلاميه فقد نشأت بعد الثورة العلمية و ادت الى خنقها و كبح جماح التطور الفكري و ثم العلمي. في الغرب اندحرت محاكم التفتيش بالفكر العلمي و عندنا اندحر العلم بمحاكم التفتيش.  لو تسنى للرعيل الاسلامي الاول ان يعود ليحيا الان بيننا فانه سيجد دينا جديدا و مختلفا عن الدين الذ ي عرفوه. انه دين المفكرين الاسلامين و ليس دين رسول الله. لقد قادت محاكم التفتيش الاسلامية و الانغلاق الفكري الى ان يعود الدين الاسلامي المؤدلج الى العرب عبر قوميات اخرى ليعيشوا (العرب) مستعَمرين  متخلفين مقيدين مابين استعمار عثماني او استعمار صفوي.  لقد دمر المستعمرون الاسلاميون الانسان العربي و المسلم و سرقوه اكثر من ما دمره و سرقه الاستعمار الغربي. خمسة قرون لم تبنى طابوقة واحدة في بغداد لتخلد المجد العثماني و عاصمة الخلافة العثمانية ما تزال زاهية لحد الان بما تركه العثمانيون ورائهم من سرقات من بلاد المسلمين. خلال بضع سنين بني الاستعمار الانكليزي السارق و الكافر و و و أضعاف  أضعاف ما بناه الاستعمار العثماني المسلم خلال خمسة قرون.
للأسف يغض الجميع الطرف عن هذه الحقبة الطويلة جدا و الحالكة السواد من التاريخ. انها ما تزال تفعل افعالها في الحاضرو ما يزال السلطان و الدراويش العثمانين يلعبون دورهم في التخدير و التنويم الجماعي و يحاولون احتلال زمننا الحاضر من جديد. تجد هولاء السلاطين و وعاضهم و دراويشهم اينما تذهب في بلاد العرب. للاسف ما يزال الفكر العربي والاسلامي يعيش السبات الحضاري و لم يستوعب النكسات و الهزائم لانهم ما يزالون يعتقدون بان المؤمن مبتلى! و سيبقى مبتلى ان لم تتغير العقول و ليس القصور. أن تركمات قرون و قرون من التخلف و الانحطاط لا يمكن ان تزول خلال عشرات السنين و من دون ارادة في التغيير.
العرب عاشوا التراجع الحضاري متخلفين لاكثر من ستة قرون عن الحضارة الانسانية لأنهم تنازلوا عن حريتهم الفكرية. الحرية و العلم صنوان فلا علم بدون حرية و لا حرية من دون علم. و العرب ألان في مرحلة ما بعد التخلف و ليس النهظة.  هل سيدركون الواقع المرير بعيون علمية فاحصة و يبدءون بالحلم بالنهضة على الأقل أم سيبقون في موقع المبتلى لانهم مؤمنون. هل من الافضل ان تبقى مؤمنا مهانا و تلعن الأقدار أم ان تكون عزيزا سيدا واعيا؟ ألان أجبتكِ يا هبة و أرجو ان تكوني قد عرفتِ ألان أين نحن ؟ معذرة لم استطع وقتها ان أجيبكِ. لقد كان زمنا قاسيا و ما يزال.
© منبر الحرية، 02 يوليو/تموز 2009

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

من كان يصدق أن النظام البولشفي الماركسي سوف يسقط ويتفكك الاتحاد السوفيتي بالشكل الذي رأيناه، ومن كان يصدق أننا سوف نعيش ونرى انهيار جدار برلين وهو الجدار الذي أحدث هذا الشرخ في ألمانيا عند نهاية الحرب العالمية الثانية،وعلى مدى أكثر من خمسة عقود. وأبعد من هذا وذاك كم كنا نستهجن عند قراءتنا للتاريخ الفرنسي، ولحقبة الثورة الفرنسية على وجه الخصوص، أن يتم قطع رأس أب الثورة الفرنسية ماكسيميليان روبسبيار على حبل المشنقة، وبموجب حكم صادر عن الثوريين بالذات، والذين رافقوا ودعموا القائد الثوري روبسبيار في بداية مسيرته ضد النظام الملكي القائم، وذلك بسبب تحوله إلى ديكتاتور سعى بعد وصوله إلى السلطة إلى الانحراف والانجرار وراء مغريات وغريزة الاستئثار بالصلاحيات التي منحته إياها الثورة.
ويمكننا أن نذهب بعيدا في سرد ما جاء في التاريخين القديم والحديث حول الثورات الشعبية، ولكن تبقى الثوابت واحدة وذاتها وهي أن الثورة أياً كان منشأها، عندما تفقد عناصر ومقومات تواصلها مع شعبها لابد لها وأن تنهار على رؤوس أبنائها أولاً، أي على رؤوس الطبقات والشرائح الشعبية التي أوصلتها، قبل أن تطال الفئات الأخرى من الشعب ولا سيما الطبقات المخملية منه. فالثورة التي تريد الاستئثار بالسلطة والتي تسعى للبقاء والاستمرار، لا بد لها من أن تعمل أولاً على مراعاة الطبقات الميسورة إذا النافذة من المجتمع، على حساب الفئات الأخرى الأقل يسرا وسلطة. فتبدأ سلطة الثورة بممارسة فالقمع والإرهاب على هذه الشرائح بالذات لإسكاتها، لأنها الأضعف والأسهل تدجيناً. تستهلك في بداية الأمر وسائل الكلام المنمق والشعارات العاطفية والغرائزية ومنها أيضاً القومية، وغالبا ما تنجح، ولكن يبقى نجاحها مرحلي حتى ولو امتد على فترة طويلة من الزمن. وفي فترات التأزم الأصعب تلجأ إلى التخويف من عواقب الانسياق والانجرار خلف التيارات الاحتجاجية أيا كان شكلها أو أهدافها. وأن تكون هذه الاحتجاجات مصدرها معاناة معيشية أم أزمات سياسية لا فرق، المطلوب من هذه الشرائح الشعبية والتي تسمى شرائح الثورة، السكوت والانكفاء وصولا إلى استعمال الأفيون مكان الخبز لا يهم، المهم التعتيم وكم الأفواه حفاظاً على سلامة الثورة ودرأً لها من الوقوع والانحلال.
وخلال فترات التأزم هذه تصبح كل الوعود بالإصلاح والتغيير واردة من قبل سلطة الثورة. ولكن أي تغيير وأي إصلاح هو ممكن في ظل الأنظمة الشمولية، خاصة إذا كانت أيضاً ثيوقراطية، وهي ميزة تعطيها الزائد من عناصر القوة، والمتأتية من التحليل الإلهي لكل تصرفاتها القمعية. فلا تغيير أو إصلاح هو ممكن على يد أي طبقة متواجدة في السلطة، وممسكة بمقاليد الحكم أو حتى على يد الفئات المعارضة لها، ولكن ضمن اللعبة القائمة، أي لعبة تقاسم الصلاحيات. وكل الإصلاحات البنيوية في المجتمع إنما تكون على يد المجتمع المدني، وغالبا ما تبدأ الإصلاحات من الدوائر الواسعة أو ألأوسع باتجاه الدوائر العليا أو الأضيق، ومن النادر حدوث العكس. وذلك بالرغم من مزاعم بعض الوصوليين الذين يدعون الإصلاح والتغيير الثوري، أو الانقلاب الجذري على المفاهيم والأعراف الذين يعتبرونها بالية وتخطاها الزمن، من الداخل أي من داخل السلطة. ولطالما رأيناهم يفضلون ويؤثرون الوصول أولا، ومن ثم يعلنون ويّدعون السعي نحو التغيير. فما من تغيير ممكن بالمهادنة والممالقة والمشاركة في اقتطاع الحصص. والتغيير الفعلي لا يحصل سوى بعد ونتيجة خضات وزعزات للهيكلية القائمة، وصولا إلى قلبها رأسا على عقب إذا لزم الأمر.
فالإصلاح ضمن السلطة وحتى ولو كانت سلطة القائمة تسمي نفسها ثورية هي مستحيلة، ولا يمكن إحداث ما يسمى بالثورة المضادة على يد المعارضة أياً كان شكلها، لأن المعارضة عادة ما تواكب تشكيل السلطة القائمة وغالباً ما تكون من العجينة والطينة ذاتها. ناهيك عن كون الشهوة في الحكم والرغبة في الاستمرار والاستئثار بالسلطة، تحتم استبعاد التغيير الفعلي والذي من المفترض أن يحصل بالوسائل الديمقراطية السليمة البعيدة عن الغش والتزوير. وهنا الشروط الديمقراطية في تداول السلطة تكون نابعة من ضرورة مواكبة العصر ومن ضرورات التكييف مع الأجيال الجديدة ومن ضرورة أيجاد على رأس السلطة أشخاصا يواكبون عصرهم، وبإمكانهم تفهم الأجيال الجديدة وتطلعاتها ومطالبها وميولها وأهدافها في الحياة. ولا يمكن لأي سلطة أن تستمر بعيدا عن التأقلم وعن التماشي مع المتغيرات الحاصلة حول العالم، كما أنه من المستحيل على أي ثورة أن تبقى على الأبد وتشيخ على رأس السلطة، دون أن تنتظر ثورة جديدة، مغايرة تماماً لشكل الثورة التي أوصلتها.
من هنا يمكن القول أنه بالنسبة لما هو حاصل في إيران كان من المتوقع أن يحدث الذي يحدث اليوم تماشيا مع سير التاريخ وسير تطور الحياة وبشكل عام. وقد تكون مجريات الأمور اليوم بوادر لثورة جديدة، ولا يمكن تسميتها بالثورة المضادة، كونها ليست حاصلة على أيدي الذين واكبوا التحركات الأولى بل على يد أبنائهم. وفي وقت شكل مير حسين موسوى أو سقوطه الظاهر في الانتخابات الصاعق الذي دفع بالاحتقان الموجود أصلاً إلى الانفجار، لا يمكن تصور المرحلة المقبلة والأمن مستتب فيها بمجرد عودة المرشد الأعلى عن مواقفه بالتمسك بالرئيس المنتخب، أو بقيام سلطة جديدة على شاكلة قيادة جماعية مشكلة من مرجعيات روحية “عتيقة” لا تمثل تطلعات الشباب الذين يشكلون الغالبية من الشعب الإيراني (70%). كما أنه من المتوقع أن تكون المعالجات مجرد مرحلية كونها لن تصل إلى لب المشكلة ولا تعالج أصل الداء والذي ليس طبعا وجود أو عدم وجود المرشد الأعلى خامنئي على رأس السلطة. وإن أخذت الحركات الاحتجاجية شعار “سقوط الدكتاتور” كما يرد ويسمع في الليالي ومن على سطوح الأبنية، تظل فكرة “الدكتاتور” مبهمة حتى الساعة وغير واضحة المعالم وغير معبر عنها بشكل صريح. وقد يظهر جليا ربما في الأيام أو الشهور المقبلة أو السنين المقبلة عن أي ديكتاتور يتكلم الشعب.وقد لا يكون رفض “الديكتاتور” بعيداً عن فكرة رفض نظام ولاية الفقيه برمته.
© منبر الحرية، 29 يونيو/حزيران 2009

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

لا يفلت الذين تابعوا الثقافة العربية عبر العقود الخمسة الأخيرة من القرن الزائل، إمتداداً إلى هذا اليوم، من الإنطباع القاضي بأنها ثقافة قد سقطت في فخ أو دوامة الإجترار والتكرار. وتتجلى هذه الظاهرة المؤسفة على نحو لا يقبل الشك عبر أية مراجعة، مهما كانت سريعة، لما يسمى بالدوريات الثقافية الرئيسة التي كانت تصدر في بيروت، ثم ما لبثت وأن راحت تنتشر كالفطر في مختلف العواصم العربية التي غالباً ما أرادت حكوماتها أن تبدو مواكبة لركب الثقافة العربية المعاصرة أو راعية لها عبر التودد إلى أبرز كتابها ودعاتها وممثليها عن طريق إنتاج وإعادة إنتاج ثم تسويق مجلات ثقافية من هذا النوع الذي وقع ضحية لتكرار الأفكار ولإجترار القضايا المثيرة للجدل اللانهائي الذي يملأ الرأس بالضجيج اللامجدي، ناهيك عن رعاية هذه العواصم لأنواع المؤتمرات والمهرجانات والمنتديات الثقافية والأدبية التي، هي الأخرى، تقدم البينة تلو البينة على عِنّة ثقافة وجدت نفسها حبيسة بين جدران زنزانة إختارها لها “أساطين النهضة العربية” منذ نهايات القرن الماضي لتبقى هناك تجتر ذات الأفكار وذات اللازمات عبر لغة غدت “محنطة” بسبب هذا النمط من التكرار ونظراً للعجز الذي أبداه هؤلاء “الرواد” عن إيجاد أو إبتكار مصطلح عربي موازي للتطورات المعاصرة مصطلح فكري، لا مترجم ولا معرب، بل من معطيات عقل ذكي قادر على إيجاد موطيء قدم لنفسه في عصر متغير مشحون بالجديد والمشرق.
ربما يستفز هذا المدخل هؤلاء الذين قدموا أنفسهم كفلاسفة للعالم العربي في عصره الراهن، وأغلبهم (للأسف) كانوا ناقلين أو معربين لما إكتسبوه عبر حضورهم في صفوف المدارس الأوربية، ثم الأميركية مؤخراً. لقد قدم هؤلاء أنفسهم وكأنهم “أبناء رشد” أو “ابناء خلدون” جدد، خاصة في المغرب العربي حيث كانت لعبة المصطلح المترجم أو المعرب من أكثر الألعاب إثارة وأغراء للقراء العرب من المحيط إلى الخليج، الأمر الذي قاد إلى ظهور جيوش من الكتّاب أو “المحاكين” على سبيل إجترار ذات الأفكار، وذات المصطلح المرة تلو الأخرى حتى ضقنا ذرعاً بهذا التكرار الذي عبر عن نفسه في مختلف حقول وفضاءات الثقافة، إن فكراً وفلسفة، أو أدباً وشعراً: وهكذا بقينا نراوح في ذات البقعة عاجزين عن فك الإرتباط بقضايا أصبحت مدعاة للتندر والإستهزاء من قبل الغربيين المتابعين لثقافتنا الحائرة منذ يقظة النهضة حتى اليوم بين الحداثة والتراث، التراث والمعاصرة، بين الشعر الحر والشعر التقليدي، بين قصيدة النثر ونثر القصيدة، وكأن العالم ينتظر بياناً يقدمه أحد خريجي الجامعات الفرنسية لحل هذه الأزمات والأسئلة والإستفهامات الكبيرة التي أعيت جميع المثقفين العرب منذ بداياتهم عبر قراءات مجلات وصحف بيروت المختصة بهذا النوع من المجادلات اللامجدية في زمن يناقش العالم فيه قضايا ومسائل أكبر وأوسع، بينما نبقى نحن نئن ونشكي من ويلات الإستعمار والإمبريالية، ناكرين معنى لفظة “إستعمار” التي صارت بدرجة من العجمة والغموض أمام أعيننا، أنها غدت قادرة على حمل جميع أعبائنا المثقلة بالتراجع والنكوص، وجميع خطايانا دون أن تبقى قادرة على حفظ المعنى الجوهري كما إستقر في قعر العقل العربي، راسباً على نحو تصعب معه إزالته أو إقتلاع شأفته.
لقد إعتادت ثقافتنا وصفحاتنا الإعلامية والفكرية التكرار والإجترار حتى صار الأخير هو وسيلتنا الوحيدة لتغذية العقل العربي الذي إمتص كل ما يمكن أن يمتص من المكرور والمجتر درجة أنه راح يعاني من سوء تغذية وفقر دم بسبب إستحواذ عدد من الأقلام والأسماء على هذه الثقافة باعتبارها هي “أنوار اليقين” لثقافة قابعة في نهاية نفق لا ضوء فيه ولا فتحة ضوء يمكن أن تقود إلى أجواء الإنفتاح على العالم وعلى الثقافات الأخرى التي تحررت مما يشغلنا ويستحوذ على عقولنا من قضايا ومصائب جعلتنا ندور في فراغ وحلقات مفرغة منذ سقوط الدولة العثمانية حتى الآن، درجة ظهور من يدعو لعودتنا إلى العثمانية وإلى ذلك العصر الذي ثرنا عليه وإستبدلناه بالكولونياليات الأوربية ثم بالإستعمار الإستيطاني الذي قدم لنا “أم المشاكل”، ثم “أم المعارك” التي لم نزل في إنتظار انفضاضها حتى نباشر مرحلة تكرار وإجترار جديدة!
لقد دأبت الدوريات الثقافية الشهيرة التي غالباً ما تنتهي عناوينها بلفظة “العربي” أو “العربية”: الثقافة العربية، قضايا عربية، آفاق عربية، العالم العربي….إلخ، نقول بقيت هذه الدوريات والمجلات تحتكر الخطوط العامة لتوجيه التفكير الثقافي في العام على نحو يؤول إلى لجم التجديد والإبتكار وبترهما وإلى وضع العقل المبدع في صومعة مظلمة لا مخرج منها. وهكذا إحتكرت بعض الأقلام أهم التوجيهات بطريقة أنها تحولت إلى ديكتاتوريات ثقافية، أشبه ما تكون بالديكتاتوريات الحكومية، أو “الديناصورات” الثقافية التي توجب التمرد عليها وإزالتها كي تدفع الثقافة في عالمنا العربي بنفسها إلى عالم جديد، عالم شجاع لم يعد يقبل بالتكرار وبالعِنّة غير القادرة على التوليد والتجدد.
© منبر الحرية، 09 يونيو/حزيران 2009

إدريس لكريني18 نوفمبر، 20100

قبل ظهور الأمم المتحدة كان اللجوء إلى القوة العسكرية أمرا معهودا في الساحة الدولية كمدخل لتنفيذ سياسات الدول القومية وللحسم فيما يثور بينها من خلافات؛ وهو ما جعلها – القوة – تحظى بأدوار حاسمة على مستوى تدبير النزاعات والخلافات الدولية؛ رغم بعض الجهود الدولية التي تمت في إطار اتفاقية(دراكو بورتر) لسنة 1907 التي أكدت على تحريم استعمال القوة لاسترداد الديون المستحقة، وكذا عهد عصبة الأمم الذي ميز بين الحروب المشروعة وغير المشروعة، ثم ميثاق (بريان كيلوج) لسنة 1928 الذي حاول دون جدوى التضييق على استعمال القوة في العلاقات الدولية. غير أن اندلاع الحرب العالمية الثانية كشف قصور وهشاشة هذه الجهود والمحاولات؛ ولعل هذا ما حدا بهيئة الأمم المتحدة لأن تجعل من أهم أولوياتها الملحة مكافحة القوة والعنف في العلاقات الدولية.
وفي هذا الإطار نصت المادة الثانية من الميثاق في فقرتها الرابعة على أنه: “يمتنع أعضاء الهيئة جميعا في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة.”؛ فبموجب هذه المادة يتبين أن الميثاق لم يكتف بتحريم اللجوء إلى القوة فقط، وإنما حرم حتى مجرد التهديد باستعمالها، كما أنه لم يهتم بالأسباب المادية لهذا اللجوء للقوة ولا بوجود سبب يبرره؛ ما عدا في الحالات الاستثنائية المشروعة والمنصوص عليها صراحة في الميثاق وهي حالة الدفاع الشرعي الفردي أو الجماعي(المادة 51 من الميثاق) وحالة تدخل الأمم المتحدة لمواجهة تهديد السلم والأمن الدوليين أو الإخلال بهما أو وقوع أعمال العدوان في إطار ما يعرف بنظام الأمن الجماعي (المادتين 41 و42 من الميثاق).
وبالرغم من ذلك؛ فإن الممارسة الدولية تحفل بحالات كثيرة من استثمار للقوة بكل أشكالها في تدبير المنازعات والخلافات؛ بذريعة ممارسة حق الدفاع الشرعي.
والدفاع الشرعي هو إمكانية وقائية واحترازية تتيحها القوانين الداخلية كما الدولية للدفاع عن النفس؛ عندما يصعب أو يستحيل الاستعانة بالقانون في رد الاعتداءات والأخطار الداهمة وحماية الحقوق. وهو يندرج ضمن الحقوق الطبيعية التي يملكها الفرد والتي تسمح له بالقيام بكل ما يراه نافعا لنفسه، وكفيلا بضمان بقائه واستمراريته. وحرصا على ضمان تطبيق هذه الإمكانية القانونية على وجه سليم وبعيد عن كل انحراف؛ حرص المشرع والفقه المحليين كما الدوليين على تطويقها بمجموعة من الشروط. فالخطر موضوع الدفاع ينبغي أن يكون داهما وحقيقيا، مع استحالة اللجوء إلى السلطات الأمنية والقضائية لدفع الخطر وتجاوزه، وأن يكون الرد آنيا؛ ويتناسب مع حجم الخطر ولا يتجاوزه.
وعلى الصعيد الدولي تعتبر المادة 51 من الميثاق الأمامي بمثابة المرجع القانوني لإعمال وتنظيم هذا الحق، فهي تنص على أنه: “ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول؛ فرادى وجماعات في الدفاع على أنفسهم إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء “الأمم المتحدة”، وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولي…”. ويبدو من خلال هذه المادة أن الميثاق أطر استعمال هذا الحق(الدفاع الشرعي) بمجموعة من الضوابط والشروط؛ حتى لا يكون ذريعة ومطية لترهيب الدول والاعتداء على الشعوب وتحقيق المصالح الضيقة.
وخلال عملياتها العسكرية الأخيرة في غزة؛ حاولت إسرائيل أن تروج بأن هذه العمليات تندرج ضمن “الحق المشروع الذي تمارسه في سياق الدفاع عن نفسها” بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة؛ في مواجهة الصواريخ التي تقصف بها حركة حماس مناطق في العمق الإسرائيلي.
وباستحضار مقتضيات هذه المادة؛ فالحق في الدفاع الشرعي مشروط بوقوع عدوان مسلح؛ وقد اعتبرت إسرائيل أن إطلاق الصواريخ من غزة بمثابة عمل عسكري حقيقي؛ وهو ما لا ينطبق على الأعمال الدفاعية التي تقوم بها المقاومة الفلسطينية في غزة كرد على الحصار وإغلاق المعابر..؛ طالما أنها في وضعية رد الاحتلال ومقاومته؛ الأمر الذي أكدته المادة السابعة من توصية الجمعية العامة رقم 3314 المرتبطة بتعريف العدوان والصادرة بتاريخ 14 دجنبر من سنة 1974؛ التي نصت على أن تعريف العدوان لا يمكن أن يمس على أي نحو بما هو مستقى من الميثاق من حق في تقرير المصير والحرية والاستقلال للشعوب المحرومة من هذا الحق بالقوة..
كما أن الأعمال التي باشرتها المقاومة في غزة تنتفي فيها “عتبة الخطورة”، التي تعد معيارا رئيسيا للتمييز بين العدوان وبين أعمال القوة الأخرى؛ فهي لا تصل من حيث الخطورة إلى الدرجة التي تسمح بمباشرة هذا الحق؛ شأنها شأن حوادث الحدود؛ وهذا ما تم التأكيد عليه في المادتين 2 و3 من توصية الجمعية العامة المرتبطة بتعريف العدوان.
و يشترط في الهجوم أيضا أن يحمل قدرا من الفجائية؛ التي تجعل تلافي مخاطره بالسبل القانونية أمرا مستحيلا؛ بينما نجد أن رد المقاومة في فلسطين كان متوقعا؛ كما أنه جاء كرد فعل على الاحتلال وعلى إغلاق المعابر والحصار الذي باشرته إسرائيل.. وكان بالإمكان تلافي هذا الرد عبر اتخاذ تدابير وقائية أخرى يسمح بها القانون الدولي كاللجوء إلى مجلس الأمن أو عقد اتفاقات هدنة ورفع الحصار..
ومن جانب آخر؛ فاستعمال هذا الحق ينبغي أن يتم بشكل احتياطي ومحدود وبعد إبلاغ مجلس الأمن بالأمر؛ حتى يتسنى له التدخل والقيام بما تمليه عليه مهامه وواجباته في هذا الشأن؛ باعتباره المسؤول الرئيسي عن حفظ السلم والأمن الدوليين؛ ولكي لا يتحول رد الفعل إلى عمل انتقامي. غير أن المجلس لم يتحمل مسؤولياته في إيقاف هذه العمليات عبر اتخاذ ما يسمح به الميثاق من إجراءات وتدابير في هذا الشأن؛ وهو ما أسهم في إعطاء فرصة كافية للجيش الإسرائيلي لتنفيذ عملياته العسكرية في غزة.
وقد أكد القانون والقضاء الدوليين كما الفقه على شرط التناسبية في ممارسة حق الدفاع الشرعي؛ ذلك أن حجم رد الفعل ينبغي أن يكون ملائما ومتناسبا مع الفعل ولا يفوقه خطورة؛ وهو ما ينتفي أيضا في العمل العسكري الإسرائيلي على غزة؛ الذي استعملت فيه الطائرات والقنابل والدبابات ومختلف الأسلحة المحرمة دوليا.. في مواجهة صواريخ محدودة التأثير تأتي في سياق مواجهة الاحتلال وممارساته؛ كما طال المدنيين العزل واستمر لمدة طويلة تجاوزت ثلاثة أسابيع.
وبناء على هذه المعطيات؛ فالعمليات العسكرية ضد غزة والتي حاولت إسرائيل تسويقها كعمل يندرج ضمن ممارسة حق الدفاع الشرعي؛ تتنافى بصورة لا لبس فيها مع مضمون وأهداف المادة 51 من الميثاق الأممي؛ بل هي عدوان واضح المعالم وتندرج ضمن الأعمال الانتقامية التي يحرمها القانون الدولي؛ وما تصاعد الاحتجاجات الدولية والتنديد بهذه العمليات والمطالبة بعرض المسئولين عن اقترافها أمام المحكمة الجنائية الدولية؛ إلا دليل آخر على اقتناع المجتمع الدولي بعدم مشروعيتها.
وجدير بالذكر أن تنامي التحايل على استعمال هذه الإمكانية (حق الدفاع الشرعي) بغير حق أو مشروعية؛ يسهم في تكريس الفوضى في العلاقات الدولية؛ ويشجع بعض الدول على ارتكاب سلوكيات انتقامية وعلى الاعتداء على دول أخرى بتهم وذرائع مختلفة؛ مما يسهم في تكريس اللجوء إلى القوة العسكرية لتسوية الخلافات بالشكل الذي سيؤدي حتما إلى تهميش السبل الدبلوماسية لتسوية المنازعات وإدارة الأزمات ويحد من دور الأمم المتحدة في تدبير النزاعات والأزمات الدولية ويشجع على التدخل في شؤون الدول الضعيفة دون حدود أو ضوابط.
© منبر الحرية، 27 أبريل 2009

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018