شؤون سياسية

peshwazarabic18 نوفمبر، 20101

ثلاثة وسبعون عاماً مضت منذ أن غادرت الحروب إلى غير رجعة بلاداً درجت ثقافتنا الموروثة على تسميتها بدار الحرب. الآن ينعم الناس في أوروبا وأمريكا واستراليا واليابان وغيرها بالسلام.. وهاهم اليوم يستقبلون العام الجديد بالاحتفالات, والأضواء والوجوه المستبشرة, وابتسامات الرضا وقبلات المحبة, متفائلين بإشراقات المعرفة الإنسانية , وثمار التنمية البشرية , ونتائج الأبحاث العلمية في ميادين الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والاقتصاد والطب والفنون …الخ وفي هذا المضمار تراهم  يتوثبون لتصحيح أخطاء السياسات , وتقليم أظافر من يخرج عن الجادة منهم حاكماً كان أو محكوماً . ومن عجبٍ أن هؤلاء “الأغراب” تصفهم ثقافتنا العربية الإسلامية بالضالين , بل إن بعض المتطرفين منا يسمونهم الكفار! فهل ترى يعابثنا شيطان ماكر , بأن يقدم لنا هؤلاء “الضالين الكفار” في هذه الصورة الزاهية , بينما هم  يعمهون في الظلمات دون أن نلاحظ؟! وإذ كان ذلك كذلك فلماذا نستبعد قيام ذلك الشيطان بتزوير رؤيتنا لأنفسنا , حيث يوهمنا بأننا نحن العائشـين في دار السلام – لسنا ممن يقتلون بعضهم البعض , مقسماً بأننا في عراقنا ولبناننا وفلسطيننا قائمون كالبنيان المرصوص تضامناً ووحدة ً ,وحتى وإن بدا الأمر عكس ذلك أمام عيوننا  ، فلابد أن يكون العيبُ في عيوننا لا في وجودنا ذاته !
بيد أننا نعلم علم اليقين أن مثل هذا الافتراض محض هذيان , فالرصاصة التي تخترق الجمجمة , والقنبلة التي تمزق اللحم وتهشم العظم ليستا من صنع كائن ميتافيزيقى, ولا هما مجرد تصور , بل واقع كثيف صلد لا يُكَذّب . علينا إذن إن أردنا مع واقعنا تعاطياً أن نستبعد فكرة الشيطان الماكر , مثلما استبعدها من قبل الفيلسوف ديكارت رائد الشك المنهجي, وعلينا كذلك أن نبادر بالإقرار بأن مصيرنا رهن بما نفعله نحن بأنفسنا , وعلينا أيضاً أن نتقبل الدواء المر المسمى بالديمقراطية , تلك التي تضع على كاهل كل فرد فينا مسئوليته عن مصيره , ومصير شعبه تبعاً لقواعد بشرية خالصة , أولها  أن الشعب , وليس  غيره , هو من يضع التشريعات “المتغيرة” بتغير الأحوال , دون ركون إلى ثبات مفترض. وثانيها : أن لمواطني نفس الحقوق التي لي كاملة دون تمييز لأي سبب من الأسباب , وثالثهما أن مؤسسة الحكم تداولية ٌ بطبيعتها, يمارس السلطةَ فيها الحزبُ الذي يحوز ثقة أغلبية الناخبين, ويتخلى عنها طواعية إذا سحبوا منه تلك الثقة. وفي كل الأحوال فالأغلبية ثمة تعبير سياسي وليس توصيفًا دينيًا. فالمرء لا يغير دينه كل آونة دون مشاكل, لكنه يستطيع تبديل موقفه السياسي وقت يشاء لا يلومه على ذلك لائم ٌ.وبقدر ما يتطلب الدين ثبات العقيدة ، بقدر ما تحتاج السياسة ُللتعديل ،وللعدول عن التعديل ، وللعدول عن العدول .
يترتب على هذا الفهم أن تكون الديمقراطية, بهذه الخصائص, هي ما يفرق بيننا نحن العرب, وبين المجتمعات الغربية (وليس مجرد تسمية بلادنا بديار السلام وبلادهم بديار الحرب هو ما يفرق) ولعل إبناء تلك المجتمعات قد رضعوا معنى هذه الديمقراطية مع لبن الأمهات ، أما نحن فما زلنا عاجزين حتى الآن, ولأسباب تاريخية و اقتصادية وثقافية- عن التعامل معها كفلسفة  جديدة (نحن نمقت الجديد من حيث كونه ضلالة ، وكل ضلالة في النار) فهي بالنسبة لنا حلٌ “مستورد” ذو طعم غير مألوف، لا الحكام يستسيغونه ولا المحكومون قادرون على سداد ثمنه, وإن أعلن الجميع عن استعدادهم لتجربته من باب الاستجابة للضغوط الخارجية !. فأما الحكام فقد رأوا أن الانتخابات – وحدها – هي الديمقراطية, فهي غطاء رأس معقول ، يمكن تحمل تكلفته ” إداريا ً “. وأما المحكومون فقد توهموا أن غطاء الرأس هذا كافِ لملء البطون، واستعادة أمجاد الماضي الذهبي.. مادمنا ننتخب بأنفسنا المستبد العادل،, الذي سيهزم لنا ديار الحرب, ويأتينا – مثل السيد البدوي – بأسرانا معززين مكرمين!
الفلسطينيون والخيار الحمساوي:
تنطبق بامتياز النظرية ُ السابق عرضها على تنظيم حماس وعلي الجماهير الفلسطينية التي صوتت لصالحه في 25/1/2006 فقد اعتمد هذا التنظيم على الغضب الجماهيري المتصاعد جراء المماطلة الإسرائيلية والأميركية في تنفيذ استحقاقات اتفاقيات أوسلو. ومع استمرار تدهور الوضع السياسي العام، والفساد المتزايد داخل السلطة الفلسطينية ؛ أخذ اليأس بتلابيب تلك الجماهير إلى درجة أن غم عليها أن العيش في العالم المعاصر( بكل تعقيداته ، ونسبية معاييره) لاغرو يختلف نوعياً عن بساطة العيش في عوالم التاريخ الماضي بشروطها الواضحة نسبيًا.. حيث كان العدل والظلم ، الصواب والخطأ، القريب والغريب ، العدو والصديق ُ تحدد جميعاً بأحكام شبه مطلقة. ومن هنا فقد وجدت هذه الجماهير نفسها مسوقة للسير وراء تنظيم راديكاليّ ذو بعد واحد يرفع شعارات دينية في جوهرها, لا تكتفي بمقاومة المحتل لحد تحرير أرض الوطن، بل تذهب إلى طلب محاربة هذا العدو (= اليهود) وحلفائه ( = النصارى) في كل مكان، بموجب أيديولوجية أرسى دعائمها سيد قطب واحتضنها  نظريًا الأخوان المسلمون، وقام بتنفيذها دموياً تنظيم القاعدة.
ومن هنا فلقد أصرت حماس على عدم الاعتراف باتفاقيات أوسلو, حتى بعد أن شكلت حكومة وحدة وطنية بالاشتراك مع فتح المعترفة بإسرائيل! فكان طبيعيًا أن يقودها هذا الموقف الأيديولوجي – المستقيم في حد ذاته – إلى الانقلاب على السلطة الوطنية بعد أشهر قلائل من اتفاق مكة الهش . لاسيما بعد أن استبانت أنها- وهي المنتخبة من الداخل الشعبي- لا يمكنها  الحصول على الشرعية من الخارج جراء رفضها للقرارات الدولية ذات الصلة، ومن ثم فقد بات واضحاً أمامها أن أية انتخابات قادمة لا ريب ستزيحها عن مجالس الحكم.
الانقلاب الحمساوي إذن كان تعبيرًا عن نبذ المنظمة لمبدأ أصيل في الديمقراطية.. هو مبدأ القبول بتداول السلطة، وقبل ذلك كان الإصرار على وضع المطالب الدينية في تصادم مع قرارات الشرعية الدولية، بما ينم عن عدم الإيمان بحق الشعب في التشريع لنفسه، وبحقه في تغيير ما شرعه حسبما تشير عليه به مصالحه المتغيرةُ في الزمان . أضف إلى هذا وذاك الغطرشة المتعمدة على مبدأ المواطنة .. حيث ينص ميثاق حماس على أن “الأخوة” أعضاء منظمة التحرير قوم ضالون, وواجب حماس أن تهديهم – بالمعنى الديني- سواء السبيل، أما إذا لم يهتدوا فالحرب ثم الحرب، وقد جرى تطيبق هذا الفهم المرعب  أيام الانقلاب وما بعدها من إعدام “الفتحاويين” بإلقائهم من أسطح العمارات، أو بسحلهم في الشوارع، أوبصيدهم برصاصات القناصة.
السلطة الدينية تعذيب للمتدينين:
منذ صدور وعد بلفور عام 1917 والشعب الفلسطيني يجابه الحركة الصهيونية التي فرضها عليه  الاستعمار البريطاني مجابهة الحمل للذئاب. وبتأسيس دولة إسرائيل صار على هذا الشعب البائس أن يناضل بالأيدي العارية لانتزاع حقه في إقامة دولته المستقلة على أساس قرار الأمم المتحدة رقم 181 الصادر عام 1947، وحتى الآن مازال هذا الهدف قيدَ البحث. بيد أن النضال المستمر أسفر – مع ذلك – عن اعتراف دولي بالمسألة الفلسطينية قضية ً سياسية ً .. لها ممثل شرعي وحيد هو منظمة التحرير الفلسطينية, وبواقع اتفاقيات أوسلو 1993 صار للشعب الفلسطيني سلطة وطنية تمارس صلاحيات الحكم الذاتي في الضفة الغربية وقطاع غزة . من ناحية إسرائيل فلقد رأت – لأسباب استراتيجية- أن تنسحب من قطاع غزة , تاركة إياه – بخبث مدروس – ليكون مسرحا ً للصراع بين سلطة شرعية (منظمة التحرير ) تسعى لإقامة دولة مدنية عصرية وبين تنظيم (حماس) يتطلع إلى خلافة إسلامية تضم العرب وسائر مسلمي الأرض  من خلال حروب مستمرة تُشن على اليهود والنصارى في العالم أجمع! وهكذا جاء انقلاب حماس ليحول غزة إلى إمارة إسلامية ..نموذجًا مصغرًا للدولة الدينية العالمية القادمة. فكان رد الفعل على هذا المشروع حصارًا دوليًا وإقليميًا حول الإمارة الوليدة, ليتضاعف بذلك حجم معاناة شعبها الفلسطيني بما لا يقاس.
في هذا السياق تعبر مأساة حجاج غزة ، العالقين الآن في البحر وفي المواني المختلفة، عن صعوبة مد يد العون لهم كضحايا لهذه الحكومة (المنتخبة بالشكل الديمقراطي!!) ذات المرجعية الإسلامية! فاتفاقية المعابر الحدودية الموقعة في 15/11/2005 بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية ومبعوث الرباعية لا تسمح لمصر بإدخال فلسطيني واحد من معبر رفح في غير حضور ممثل الإتحاد الأوربي.. ومن حيث أن الأخير منسحب منذ وقوع الانقلاب الحمساوي فلا أمل لهؤلاء الحجاج في العودة لبيوتهم، اللهم إلا إذا اتخذوا سبيل معبر كرم شاليم جنوب شرق محور فيلادليفيا .. المعبر الذي تسيطر عليه كلية ً إسرائيل، وهذا ما ترفضه حماس تحرزا ً من وقوع كوادرها بأموالهم المجلوبة لدواعي النضال (ضد فتح؟!) في أيدي الإسرائيليين..
والنتيجة هي حلقة تعذيب ما يزيد على ألفي حاج مسلم لا لذنب إلا لكونهم خاضعين لحكم ُيلغي الاستحقاقات الوطنية لحساب أيديولوجية دينية، من شأنها تعذيب حتى المتدينين.ومع ذلك قامت مصر- التي هي دولة مدنية – بحل مشكلة ضحايا حماس على مسئوليتها منفردة . فهل كل مرة تسلم الجرة ؟!
وهل يفيق مؤيدو الانقلاب – وقد ذهبت السكرةُ وجاءت الفكرةُ – على حقيقة أن الديمقراطية ليست مجرد فوز في الانتخابات وإنما هي ممارسة واقعية محليا ً ودوليا ، و..  بشروط محض دنيويةً؟
© منبر الحرية، 22 دجنبر/كانون الأول2009

عزيز مشواط18 نوفمبر، 20100

لا يمكن للحرب الكروية التي اندلعت بين الجزائر ومصر على خلفية مباراة التصفيات النهائية لكأس العالم،  أن تمر دون أن تترك علامات استفهام واضحة حول دور كرة القدم في تجييش الجماهير وتعبئتها. لكن بعيدا عن هذه المناولات الصحفية العاطفية والسياسية، من هذا الجانب أو ذاك، دعنا نطرح سؤالا سوسيولوجيا يتجاوز البنية السطحية للظاهرة إلى مستوى أكثر عمقا، بهدف البحث عن البنيات الأشد خفاء بتعبير عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو.
ألا يمكن أن نتحدث عن كرة القدم، كما فعل السوسيولوجي بورديو نفسه، باعتبارها دينا جديدا له رسله وأنبياؤه وتعاليمه الجديدة؟ ألا تشبه حروب كرة القدم، في درجة العنف والتعصب الذي تنتجه، الحروب العقائدية والدينية التي يطلب فيها المرء الشهادة في سبيل فكرة التفوق على الأعداء والخصوم(الكفار)؟
إن المحلل اليقظ والملاحظ الدقيق للسلوك الشعبي والجماهيري على هامش المباراة سيكتشف أن الجميع انخرط بشكل عفوي في انفعالات وإحساسات متماثلة. فبين مثقف مشهور وصانع أحذية جزائري أومصري، توجد ربما هوة عميقة من حيث العلاقة الفكرية، ولكن الفرق بينهما صار منعدما أو ضئيلا بشكل كبير فيما يخص المزاج العام والانفعالات التي أعقبت المباراة.
إن الانخراط الجزائري المصري، الشعبي والرسمي، في لعبة شد الحبل وتبادل الاتهامات نتج بالأساس عن أفق التوقع الذي رسمه الإعلام. لقد صارت مباراة كرة القدم هاجسا مصيريا لشعبين، استطاعت مباراة لكرة القدم أن توحد جميع فئاتهما. يفيد هذا الانخراط أن اللعبة صارت فعلا ظاهرة اجتماعية بكل مواصفاتها السوسيولوجية وبكل خصائصها.
في سنة   1982 كتب عالم الإثنولوجيا  الفرنسي مارك أوجي Marc Augé في مقال معنون بـ ” كرة القدم من التاريخ الاجتماعي إلى الأنتروبولوجيا الدينية”  يقول “تشكل كرة القدم فعلا اجتماعيا شموليا، إنها تجمع كل شتات المجتمع وتتضمن ثنائية الممارسة والفرجة.وهي أيضا ممارسة واسعة الانتشار، الأمر الذي يجعل من وصفها ظاهرة اجتماعية أمرا ممكنا”
لقد ساهمت جماهيرية كرة القدم، الناتجة عن جذب اللعبة لعدد متزايد من الجمهور بفعل بساطة قواعدها وعدم نخبيوتها، في تعقيد المشكل بين الجزائر ومصر. إن هذه الجماهيرية دفعت السياسيين، ومن دون تردد، إلى الركوب على موجة العاطفة الشعبية لتحقيق مكاسب آنية.
إن العنف المتبادل بين جماهير البلدين يجعلنا نقف على بعض الملاحظات التي طورها مارك أوجي في هذا الصدد، إذ يعتبر أن ظاهرة كرة القدم صارت بالفعل ظاهرة اجتماعية شديدة التعقيد. إنها حسب نفس الكاتب شبيهة بالظواهر الدينية التي لا يمكن اختزالها إلى عدد من الأفكار والتمظهرات والتفسيرات البسيطة. إنها تشكل بالنسبة للبعض أفيونا جديدا للشعوب للتحريك والتجييش والتعبئة. غير أنها بالنسبة لكاتبنا تتجاوز ذلك بكثير. إنها تعبير عن علاقات اجتماعية ناتجة عن الطلب الاجتماعي المتزايد على الفرجة.
وبفعل هذه الحاجات الاجتماعية اتخذ الهوس صبغة جماعية تشابه في تمظهراتها كل أفراد المجتمع. انخرط الجزائريون والمصريون في ما يشبه هستيريا جماعية، فأصبحت الهوة ضئيلة جدا بين عامة الناس(الرأي الشائع) والمثقفين والكتاب والصحفيين، مع بعض الاستثناءات طبعا.
لقد  خلق الإعلام في البلدين حالة استهلاكية ابتلعها الجميع مع قهوته الصباحية، وهو يمسي ويصبح على آلة إعلامية تنفخ في جروح العزة والنصر والشجاعة كصفات تتميز بها الذات، في حين يتم أبلسة الآخر وتجريمه ودفعه إلى هاوية اعتباره جحيما. ولم تستطع “الأصوات المتعقلة” المنبعثة من هذا الطرف أو ذاك أن تصمد أمام قوة التدفق الإعلامي التهويلي. لم تستطع كل “النزعات العلمية” أن تقف في وجه  تسونامي الاستهلاك الإعلامي التحريضي، فصار ابتلاع  الكليشيهات الجاهزة فطيرا يوميا لشعبين ينتميان إلى مجال سياسي واقتصادي وثقافي متشابه.
لقد ابتلع الجميع منتوجا إعلاميا، ضخم بشكل كبير  صورة الشر في الآخر. لكن هذا الابتلاع صار غير قابل للكبح، لأنه مدفوع بكل الخيبات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يعاني منها الشعبان. إن حالة الهياج الشديد التي أعقبت المباراة صارت غير قابلة للكبح لأنها مبنية على الحرمان. وهكذا صار التأهل إلى المونديال نوعا من الاستيهام الذي  تم إعداده إعلاميا من خلال اختراق الحقل العاطفي الاجتماعي بشكل مباشر.
وهنا لعبت كرة القدم دورا رمزيا في توحيد ما لا يوحد واقعيا. ففي المجتمعات التي تعاني تفاوتا صارخا بين المستويات المعيشية للساكنة، بين المهمشين المحرومين والممتلكين لوسائل الثراء، تشكل كرة القدم متنفسا اجتماعيا ونفسيا. إن سبب الفرجة التي تخلقها مباراة لكرة القدم ناتجة عن وجود فريقين متصارعين على رقعة الملعب يتوفران على “نفس الأسلحة” والوسائل. لكن كيف تحولت الفرجة المرجوة إلى عنف بين المشجعين، ثم إلى أزمة ديبلوماسية؟
إن درجة التعصب التي أعقبت المباراة تذكرنا بذلك السؤال السوسيولوجي الذي انتشر في الغرب خلال سنوات الثمانينات : هل تعتبر كرة القدم دينا جديدا؟ لقد استمد هذا السؤال مشروعيته من موجة الطوائف الدينية التي انتشرت بشكل كبير مطلع ثمانينيات القرن الماضي. لكن هذا التعميم يحتاج من الناحية الاجتماعية إلى الكثير من التريث في حالة المجتمعات الإسلامية المتخمة بالطقوس الدينية. إن هذا التريث ناتج بالأساس عن مفهوم الطقس الديني. هل في كرة القدم نحن بإزاء طقوس دينية؟ وهل أثر ذلك على درجة العنف التي سادت سواء رمزيا أو ماديا على خلفية مباراة الجزائر ومصر؟
بالتأكيد تجتمع العديد من العوامل و الخصائص لتجعل من كرة القدم شبيهة بطقس ديني. يجتمع العديد من الناس في نفس الفضاء الواحد بعيدا عن الروتين اليومي، من أجل ممارسة تخضع لبعض القواعد والرموز والإشارات وتراتيل/أناشيد حماسية ينخرط فيها الجميع بدون تفرقة بين الغني والفقير، الصغير والكبير، الذكر والأنثى…
في حالة مباراة الجزائر ومصر اجتمعت حزمة من العوامل لتشكل برميل بارود ملئ بالألغام. لقد اخترقت السياسة الحقل الاجتماعي وحاولت اللعب على الأشكال الأكثر قمعا واحتقانا، من خلال الاقتراب من المزاج العام للشعب، بل إن السياسي في البلدين اخضع المباراة لتفسير واحد هو: ضرورة إشباع الرغبات الوهمية في النصر. لكن هل يمكن أن نطمئن إلى هذا التفسير المنبني على اتهام الإعلامي والسياسي بالمسؤولية؟ ألا تعتبر العودة إلى ظاهرة كرة القدم كظاهرة اجتماعية خالصة، مقاربة يمكن أن تقدم بعض الإضاءة ؟
إن ظاهرة كرة القدم صارت بالفعل ظاهرة اجتماعية شديدة التعقيد. وليست تفاعلات مباراة الجزائر ومصر والمنحى الذي اتخذته سوى جبل الجليد الذي يخفي نزوعا مستمرا نحو الإقصاء. لقد صارت فعلا شبيهة بالظواهر الدينية، حيث يتجاور المادي والرمزي، الذاتي والموضوعي، السياسي والاقتصادي، الوهم والحقيقة، الفرجة والمتعة والاستغلال الإيديولوجي. صحيح قد تشكل بالنسبة للبعض أفيونا جديدا للشعوب للتحريك والتجييش والتعبئة. لكنها تبقى في نهاية المطاف تعبيرا عن حاجات اجتماعية خاضعة لقانون إنتاج الظاهرة الاجتماعية بكل تعقيداتها، وخاضعة لقانون العرض والطلب الاجتماعيين. وإذا كانت في الغرب تخضع باستمرار للمساءلة العلمية، كغيرها من الظواهر الاجتماعية،فإنها تظل خاضعة للتفسير العاطفي في المجتمعات الثالثية عموما والعربية خصوصا، مما يهدد في المستقبل بتحول فرجة كرة القدم إلى مآسي وكوارث قد تندلع على إثرها حروب طاحنة، تنضاف إلى كوارث الأمية والفقر والتخلف.
© منبر الحرية، 02 دجنبر/كانون الأول2009

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

في عصر ما بعد الاستقلال كانت السمة المميزة لسياسات المنطقة العربية.  هي انتشار حالة استيلاء العسكريين على الحكم . وقد مر العديد من الدول العربية في عقود ما بعد الحرب العالمية الثانية بتجربة التعرض، لمرة على الأقل،  لمحاولات انقلاب جدية على نظام الحكم، إن لم يكن العديد منها. فما بين عامي 1960 و1969 مثلاً سجل ما لا يقل عن 27 انقلاباً ناجحاً أو محاولات انقلابية خطرة، كما سجلت محاولات جدية من قبل الجيش للاستيلاء على الحكم في تسع دول عربية.  ولكن ما يدعو للدهشة هو أن عهد الانقلابات ذاك حين انتهى خلف محله استقراراً في القيادات ملفتاً للنظر. فالملك حسين حكم الأردن لأكثر من أربعة عقـود ( منذ عام 1953 حتى وفاته في عام 1999). وحافظ الأسد تولى شؤون سوريا قرابة 30 عاماً (حتى توفي في عام 2000 وهو على سدة الرئاسة ). كذلك حكم صدام حسين العراق لحوالي 25 سنة، وحكم حسني مبارك مصر لفترة مقاربة منذ عام 1981. بل الأكثر من ذلك أن سوريا والأردن أفلحتا حتى في تحقيق انتقال سلمي للسلطة في السنوات الأخيرة بحيث أمكنهما، حتى الآن، تجنب الوقوع  في صراعات عنيفة من أجل السلطة، أو حدوث انقلابات وأعمال شغب. ويصبح هذا الاستقرار في القيادة أكثر مدعاة للانتباه عندما يؤخذ في الاعتبار ما للجيش من دور مركزي مستمر في هذه الأنظمة السلطوية.
فالمؤسسات العسكرية لا تزال تنهض بدور مركزي في السياسة، على الرغم من أفول زمن الاستعراضات الصريحة لنفوذ الجيش عبر القيام بالانقلابات العسكرية.  إن الدور المركزي للمؤسسة العسكرية ينبع من دورها كمستودع أساسي للقوة، وبالتالي كضامن نهائي لأمن النظام الحاكم. فمعظم الأنظمة الحاكمة تحافظ على وجود أجهزة أمن تتخصص في مراقبة وملاحقة الخصوم المحتملين للنظام. وفي كثير من الأحيان تكون هذه الأجهزة كيانات عالية التدريب والكفاءة ولكنها، ومع ذلك، غالباً ما تضطر إلى التنازع مع دوائر بيروقراطية أخرى لها سطوتها ونفوذها في سبيل الحصول على الموارد، وهي قد تخسر أحياناً هذا النزاع. ففي مصر على سبيل المثال كان ينظر تقليدياً إلى قوة الأمن المركزية التابعة لوزارة الداخلية، البالغ تعدادها 300000 فرد، على أنها قوة من الدرجة الثانية مؤلفة من مجندين فشلوا وفق معايير القبول في القوات المسلحة التقليدية. ولكن حتى في تلك المواقع التي أعدت هذه الكيانات الأمنية لشغلها بالذات، من خلال التدريب الجيد ورفع الكفاءة لتكون الحارس الواقي في وجه المعارضة الشعبية، بقيت القوات العسكرية التقليدية تمثل الضامن الأعلى للنظام. بل أن القوات العسكرية النظامية دأبت على توفير الحماية للنظام حتى من الأجهزة البوليسية والأمنية نفسها. فعندما تظاهر قرابة 20000 من أفراد قوات الأمن المركزي احتجاجاً على قلة أجورهم في عام 1986 رد الجيش بنشر ثلاث فرق ، أي ما يعادل ربع قوة الجيش النظامي تقريباً، من أجل قمع هذا التمرد. وفي سوريا ردت على الموقف الذي اتخذه رفعت الأسد ضد النظام في عام 1984 القوات الخاصة ووحدات عسكرية أخرى موالية، رغم أن رفعت الأسد كان يومها هو نفسه المسؤول عن خط القوة الرئيسي لأمن النظام. وبنفس الكيفية تطلب الأمر، إبان  الاضطرابات التي وقعت في الأردن في مدينتي الكرك عام 1996، ومعان عام 1998، تدخل الجيش لتهدئة الوضع. فالجيش هو القوة الأساسية التي يلجأ إليها كحل أخير. ويصف أحد المحللين الأمر بقوله:
“لن يمكن لأية حكومة عربية أن تبقى ممسكة بزمام السلطة من دون مشاركة قادة الجيش مشاركة فعالة، أو من دون مباركتهم على أقل تقدير”.  مكونات السيطرة السياسية تقتضي إدامة السيطرة السياسية على الجيش  وتجريد قادةهذا الجيش من دوافع، ووسائل، تحدي النظام الحاكم. والقادة السياسيون يلجأون إلى أنواع من وسائل الإغراء والاحتياط بقصد التأثير على تكاليف، ومكاسب، التآمر على النظام الحاكم. ويتمثل العديد من هذه الوسائل في استخدام تكتيكات معينة في إدارة المنظمة العسكرية، في حين يتأثر بعضها الآخر بأحداث وقوى خارجية لا يكاد النظام الحاكم يملك قدرة التصرف بها بشكل فعال”. و أحد الأسيجة الأساسية التي توضع في وجه تدخلات الجيش هو الإبقاء على قاعدة دعم اجتماعي للنظام من خارج المؤسسة العسكرية، حيث من الممكن للمصالح الاقتصادية، والأقليات الدينية، والبيروقراطيات المدنية، والأداة الحزبية، والجماعات أو التكتلات الشعبية أن تكون عناصر مهمة في تكوين البنية الاجتماعية التحتية للأنظمة العربية الحاكمة. وتكون حصيلة ذلك أن يوازن الدعم المدني القوة العسكرية .
وتتراوح استراتيجيات القيادات  السياسية لمنع تدخلات الجيش فى الشئون السياسية ما بين الإبقاء على قاعدة دعم اجتماعي للنظام من خارج المؤسسة العسكرية، حيث من الممكن للمصالح الاقتصادية، والأقليات الدينية، والبيروقراطيات المدنية، والأداة الحزبية، والجماعات أو التكتلات الشعبية أن تكون عناصر مهمة في تكوين البنية الاجتماعية التحتية للأنظمة العربية الحاكمة. وتكون حصيلة ذلك أن يوازن الدعم المدني القوة العسكرية. او  إقامة التحالفات مع جماعات الأقلية.
فبهذا الأسلوب تتشكل جماعة من المستفيدين من بقاء النظام ودوامه. وإذا ما أمكن توريط جماعات الأقلية هذه في نشاطات النظام القمعية، أو إذا ما جُعلت هدفاً للسخط بسبب ما تحظى به من امتيازات، أصبحت لها أسباب مرتبطة بمصالحها الذاتية تدفعها لحماية الوضع الراهن وإبقائه على ما هو- عليه. وبذلك، تكون هذه الجماعات حلفاء مأمونة الجانب تماماً. فخلال الفترة التي حكم فيها البعثيون العراق احتل أبناء عشائر الأقلية السنية، ومعظمهم يقطنون بلدات وقرى تقع في وسط العراق، المناصب الأساسية المهمة في النظام الحاكم. كما يبدو الانحياز الطائفي جلياً في سوريا أيضاً، حيث يتبوأ أفراد طائفة العلويين، وهي الطائفة الدينية التي تنحدر منها عشيرة الأسد، الكثير من المناصب المهمة، بما في ذلك المناصب العليا في الجيش. أما في الأردن، فإن العوائل البدوية التي تسكن الضفة الشرقية لنهر الأردن تكون الأرضية الصلبة التي يرتكز عليها النظام، ودعمها المستمر للسلالة الهاشمية مسألة حيوية حاسمة وأبناء هذه العوائل البارزة يحتلون مناصب عالية في الجيش ومواقع البيروقراطية المدنية.
© منبر الحرية، 15 دجنبر/كانون الأول2009

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

قرأت الكثير من المدح والاستحسان لمسرحية قهوة سادة، وانتهزت أول فرصة، وقضيت أمسية رائعة مع حضور جماهيري كبير ملء القاعة. وذكرني هذا العرض الرائع بمسرحية الفرافير لكاتبنا العظيم الراحل يوسف إدريس، وإذا كانت الفرافير تعتمد فى بنيتها على مشاركة الجمهور والممثلين في العرض، فأن قهوة سادة كان الممثلون أشبه بفرافير يوسف أديس، وأنفعل معهم الجمهور الكبير احتجاجا على أوضاع المجتمع. وبهرني الإتقان والإيقاع المكثف السريع لمشاهد العرض الذي قدمه مجموعة من الشباب الصاعد الواعد بقيادة خالد جلال مخرج العرض، الذى صرح لوسائل الإعلام ان اختيار فكرة “سرادق العزاء” الذي يشرب فيه المعزون قهوة سادة على روح المتوفي، المقصود به في عرضنا رموز النهضة المصرية في كل المجالات، ومن هنا جاء اسم المسرحية التى كشفت سلبيات الوطن، فعبر 90 دقيقة تمكن 35 ممثلا وممثلة يرتدون ملابس “الحداد” من تجسيد إفرازات ظواهر أزمة رغيف العيش، غياب صلة الرحم، انحدار مستوى اللغة، الهجرة غير الشرعية، البطالة، الغلاء، جشع رجال الأعمال، خلجنة الأعمال الفنية، الفتاوى المجهَّلة، كل هذا بسخرية لاذعة، جعلتنا نضحكك حتى البكاء. ولفت نظرى اختفاء الحجاب من على رؤوس الممثلات ! ما عدا واحدة منهن لبست الطرحة السوداء بالطريقة المصرية.
وجاءت ملابس الحداد فى البدل والفساتين السوداء الأنيقة للممثلين والممثلات تحقق عدة أهداف فى ضربة واحدة كما يقولون ! فهى تعمق فكرة سرداق العزاء، وتذكرنا بالزمن الجميل لشياكة وأناقة وجمال ملابس المصريين، كما تظهرها الأفلام المصرية القديمة، وحفلات أم كلثوم فى تليفزيون الأبيض والأسود، علاوة على ذلك جاءت أناقة ملابس الممثلين والممثلات لتصدمنا أيضا بالفوضى والفجاجة والقبح فيما يلبسه المصريون الآن ! ورصدت عدة كتابات سواء كانت فى المطبوعات الورقية او على الإنترنت واقع الشارع المصري حيث تنتشر الملابس السعودية والإيرانية والماليزية والباكستانية والهندية واليمنية، تسير جنبا إلى جنب، حيث تسود العشوائية والفوضى التى يجمعها ملمح واحد فى ملابس المصريين الآن وهو اللباس الشرعى كما يتوهم العقل الجمعى : دشاديش و سراويل أفغانية وباكستانية وخليجية قصيرة مع شماخ وعقال، غير اللحى الطويلة بين الرجال. و جلابيب وعبايات خليجية مع الحجاب والنقاب، علاوة على النقاب المزدوج، والنقاب الأعور، والشادور الإيراني والإسدال الباكستاني للنساء.
والأغرب تجد المصريين نساء ورجال، شباب وبنات يلبسون خليطا عجيبا ضد الذوق العام يجمع النشاز والقبح والفجاجة، فهذا يلبس البنطلون الجينز والعقال والشماخ الخليجى او قطعة قماش بيضاء على الرأس ، وآخر يلبس السروال الأفغانى وطاقية فلاحى او صعيدى فوق الرأس. وأنتشر أيضا ارتداء بنطلون الجينز الضيِّق بين الفتيات، مع الحجاب الملون والمزركش على الشعر، والقمصان القصيرة التي تظهر من وقت لآخر البطن فتظل الواحدة منهن تشد القميص عليها كل ثانية، بينما غطاء الشعر الطويل المتعدد الألوان يغطى رأسها، مع مكياج مستفز على الوجه، فهى حالة من الفصام يعيشها المجتمع المصرى فيما يتعلق بمسألة غطاء الرأس، الذي يتناقض مع سلوك معظم الفتيات اللاتي يرتدينه. وهذه الفوضى فى ملابس المصريين، أصبحت ثقافة سائدة، وفى نفس الوقت تعتبر إهانة شديدة لمصر، لأن الأمر أصبح صورٍ كاريكاتوريةٍ لفقدان الهوية الوطنية المصرية التي تعد الأزياء واحدة من مكوناتها.
وتعتبر تأكيدا واستجابةٌ طبيعيةٌ للفوضى التي تعم كل شيء! وتبرز حالة من العشوائية الذهنية و الاغتراب والتخبط العقلى بين المصريين، وتعكس تردى المنظومة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية التى يعيش فيها المصريين. فملابس الشعوب ما هى إلا تعبيرا عن الشخصية والهوية. وكل مجتمع له كود أو شفرة اجتماعية وثقافية خاصة فى نمط الزى السائد فيه، يحددها المجتمع وليس الأفراد. وازعم أن تغلغل ثقافة الأصولية فى المجتمع المصري، فى الثلاثين سنة الأخيرة، وانتصار خطابها فى المناطق الريفية والأطراف العشوائية و بين الطبقات الفقيرة الأميّة، انتح حالة من الهوس الدينى بين المصريين، وأصبح العامل المحدد الأكثر تأثيرا على شفرة ملابس المصريين، فمن عادة المجتمعات المريضة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، أن تهرب من أمراضها بالتشدد والتطرف الدينى، ويظهر ذلك واضحا فى ملابس المصريين، خاصة بعد موجة الهجرة المصرية للعمل في الخليج، والتى عادت ومعها مظاهر الغلو الدينى والتشدد والتعصب وقيم التزمت، وحجب وعزل المرأة ، والمبالغة فى النزعة الذكوريه، وتفضيل الماضى،ونبذ العلم والتفكير العلمى، وتضخم النزعة العائلية والقبلية، وتنمية الروح القدرية، علاوة على الأفكار الدينية التى تهتم بالشكليات والقشور وتتجنب المواجهة الحقيقية لمشاكل المجتمع. فكان من الطبيعى ان تحمل معها عند عودتها ملابس المجتمعات الصحراوية المنغلقة، التى انتشرت فى مصر كلها تحت شعارات دينية، فتحول الموروث الاجتماعي القبلي لتلك المجتمعات فى العقل الجمعى المصرى الي قيم دينية خادعة ‏.‏ وأصبحت الشفرة الدينية فى ملابس المصريين تجارة وموضة وبزنس، ومنتشرة فى الفيديو الكليب والإعلانات.
منظور نفسي واجتماعي
عندما حللت دراسات علم النفس الاجتماعي ظاهرة اللباس الديني، وبدقة أكثر الزى الطائفي كشفت عن ان عمليات تقليد الزى هي نفسها التى تحدد نمط الزى السائد، عن طريق تقليد الآخرين، ومسايرتهم ؛ حتى يشبع الفرد رغبته فى التكيف الاجتماعي، والاتحاد مع الأفراد الآخرين من طبقته الاجتماعية ، وطائفته الدينية ! وتقود قوة التقليد الشعوري واللاشعوري الفرد بسهولة ضد حسه العام والمنطق لتبنى اللباس السائد. وان الفرد داخل المجتمع يسحب دائما إلى دوامة اللباس المرغوب من مجتمعة وطائفته، خوفا من الرفض الاجتماعي إذا لم يذعن ! وفي أول الأمر تعترض أعداد كبيرة من الناس على نمط وطريقة اللباس، لكنها تتبناها فى آخر الأمر نتيجة الضغط الاجتماعي الذي يمارس عادة برعونة شديدة ! ويصبح هذا اللباس مع الوقت ظاهرة بديهية بين الكثير من المعترضين. ولملابس المرأة حساسية خاصة في مختلف الثقافات، والضغوط الاجتماعية أشد تأثيرا على النساء وخاصة فى مسائل الملبس. والرجال أيضا يشعرون بضغط المجتمع على نمط لباسهم، وفى الأخير يستسلمون لقوته ! وثمة أيضا عنصر الرغبة في التمايز الفردي، والرغبة فى إعطاء الذات طابع متميز بالاندفاع نحو الاختلاف والتشدد فى الملبس للحصول على مقارنةِ اجتماعية مُرضية من خلال اللباس. وأي وضع جديد يسمح باختلافات طفيفة خاصة في الملبس، يزيد قيمة هذا اللباس اجتماعيا. ومن الناحية النفسية لا أحد يرغب النظر إليه كشخص عادى او متوسط، فكُلّ شخص يَعتقدُ بأنه مختلف عن كتلةِ الآخرين، وملابسه تُمكّنُه من تعزيز هذا الاعتقاد. وعلى الرغم أن المظهر الذي يكسبه اللباس الديني للفرد هو التميز، لكن غالبا ما يكون مظهر زائف على غير حقيقة شخصية الفرد. فالمراقب للطيور الداجنة لن يستطيع التفرقة بين الطاووس والديك الرومى والفراخ العادية، عندما ننزع عنها الريش فمظهرها سيكون متشابه إلى حد كبير. ومن الخطأ الافتراض بأن اعتماد زى معين سيؤدى تلقائيا إلى ارتفاع المكانة الاجتماعية للفرد بين أقرانه، فملابس الفرد لا توحده مع مجتمعه فقط ولكن فى نفس الوقت تفصله عنه أيضا !؟ فهى تشبع رغبته فى التوحد مع المجتمع ورغبته أيضا فى التفرد والتمييز بين أقران مجتمعة ! والزى الذي يعزز اللامساواة مثل الأزياء الدينية او الملابس الباهظة الثمن، غالبا ما تصبح تحدى للديمقراطية ومفهوم المواطنة، بل هو طعن فى الآخر المختلف اقتصاديا أو دينيا. ومن ناحية أخرى تقليد الملابس يمكن الطبقات الدنيا في تقليد الطبقات الغنية عن كثب، والاقتراب منهم في المظهر. وبالتالي يؤدى إلى درجة من الدمقرطة.
حتى الشعوب الفقيرة تحاول تقليد أزياء الدول الغنية، فالملابس مثل الأفكار تهاجر من دولة إلى أخرى، وفى الغالب تتأثر المجتمعات المأزومة بأفكار وأزياء المجتمعات الأكثر تقدما على المستوى الاقتصادي. وعلى المستوى الدينى تتأثر المجتمعات المأزومة دينيا بأفكار وأزياء المجتمعات التى تعتبرها عن وهم مجتمعات مقدسة ومنبع الرسالة الدينية . ونمط الزى يزدهر فى المجتمع اعتمادا على الجدة، وبطبيعة الحال المجتمعات التى تتحكم فيها العادات والتقاليد تنتشر فيها الأزياء الجديدة بصعوبة ! لكن إذا لامست تلك الأزياء الجديدة العادات والتقاليد والعرف، وينضوي تحت هذا ما يكشفه وما لا يكشفه الزى من جسد الرجل أو جسد المرأة، وما يلبس وما لا يلبس في كل مناسبة، فهى تنتشر بسرعة وكثافة، مع التأكيد ان الأزياء تكتسب مكانتها فى تلك المجتمعات من خلال التقليد، وليس لأنها جديدة ! وهنا تفقد الجدة بريقها. وحسن السمعة والاحترام المفترض فى الزى الديني يعزز دائما انتشاره. حيث تبين المعارف الحالية ان الناس يقلدون النمط الجديد من الملابس ذات السمعة الجيدة او هم على استعداد لذلك، وتعيش كثير من الأزياء لبعض الوقت اعتمادا على السمعة والهيبة والاحتشام، وإثارة الإعجاب بتسليط الأضواء عليه من خلال الإعلانات التجارية والبرامج الإعلامية ! حيث يجذب ذلك اهتماما واسع النطاق للعديد من الأسر. ويعتمد محترفى الدعاية للملابس على التسلسل، والتراكمية فى الإعلانات البريئة والغير مدركة من العامة، و تبدأ حملة الدعاية والتحدث نيابة عن زى معين على وشك أن يظهر. . فنمط الزى المثير للانتباه يعطى تميز فردى وتقدير ملفت. فالدعاة والوعاظ بزيهم المميز وسط حشود المستمعين يجسدون الشخصية المتميزة. والأزياء الدينية تنتشر تحت دعوات العودة إلى الأصالة مستغلة الدوافع الغريزية للطبيعة البشرية ، فيهرع الناس لدعم هذا الزى او ذاك دون فحص دقيق للدعاية وطبيعتها الجوهرية فى الخداع.
مخاوف من المستقبل
يجب أن ينظر إلي اللباس الدينى في سياق اجتماعي وتاريخي، حيث يختلط الدينى بالسياسي بالاقتصادي بالاجتماعي بالتاريخي. وهو رمز دينى لتحقيق مصالح سياسية نفعية ضيقة، حيث ترحب به تيارات التعصب والغلو كسلوك طائفى عنصرى، مستهدفين إلهاء وتحييد المجتمع عن قضاياه الحقيقية والزج به في متاهات قضايا هامشية يمثل مجرد طرحها إهدارا للطاقات الذهنية، وأن الجدل حول الزى او غطاء الرأس الطائفي المنتشر بين المصريين لا يعدو أن يكون المدخل لإعادة طرح الملف الديني ضمن إستراتيجية تراهن على نسف قواعد الدولة المدنية وإخراج مفهوم الدين عن سياق العقل والتنوير. وأمامنا ما يحدث فى دولة كبيرة فى المنطقة والتى يعتبرها تيار التعصب والغلو فى مصر نموذجا له، فقد نشر منذ فترة قصيرة خبر إقرار برلمان تلك الدولة قانون الزي الوطني الموحد، الذى لم يكتفى بالحد من حرية المواطنين الأساسية في ارتداء ما يشاءون من ملابس، لكنه جاء بما هو أقبح وبما هو عنصري، إذ فرض على الاقليات الدينية الموجودة ارتداء ثياب مختلفة عن الأزياء التي سيرتديها المسلمون طبقاً للقانون حتى يسهل على المسئولين والمتطرفين على السواء معرفة غير المسلمين وبالتالي معاملتهم طبقاً لدياناتهم. ويذكر القانون الجديد – بحسب وسائل الإعلام الغربية – بالنظام النازي الذي فرض على اليهود وضع نجمة داود على قمصانهم للتمييز بينهم وبين غير اليهود طوال فترة حكم أدولف هتلر في أوروبا في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين.
وأزعم ان القلق على مستقبل الوطن أمر مشروع خاصة وان المد المتشدد لم يتراجع ! بل يزداد شراسة رغم كل الجهود المبذولة ! وفى مصر الآن مقدمات وشواهد كثيرة لا تخطئها عين، ناتجة عن غياب المنظومة الاجتماعية الثقافية السياسية التى تصون الحريات الشخصية من كل أشكال التعسف الدينى، وتحمى الحريات العامة وتنشر ثقافة التسامح والحوار مع الآخر، وإذا لم تنجح مصر فى تفكيك ثقافة الأصولية المسيطرة على العقل الجمعى للمصريين، فمن حقنا ان نطرح السؤال التالى دون مبالغة وافتعال : هل يأتى وقت على مصر تتحول الشفرة الدينية فى ملابس المصريين إلى قانون زى موحد يفرق بين المواطنين حسب الدين!؟
© منبر الحرية، 19 نوفمبر/تشرين الثاني2009

نبيل علي صالح18 نوفمبر، 20100

كيف يمكن للمثقف والسياسي الأصولي بمختلف أشكاله وصوره المتناحرة والمتناقضة من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين (والذي يؤمن إيماناً راسخاً بحتمياته ورواسخه الدينية أو القومية أو الماركسية) أن يتحدث عن الحريات والحقوق الفردية، ويطالب بتأسيس دولة القانون والمؤسسات، وهو لا يزال يعيش داخل دهاليز نضالاته الوهمية التي لا يفهمها إلا بلغته وأدواته القديمة البالية؟!.
ثم كيف يمكننا تصديق أقوال الداعية الأصولي الذي حمل السلاح في وجه أبناء المجتمع، ومارس الإقصاء الدموي ضد خيرة أبناء المجتمع، ومسؤولييه عن الديمقراطية، رافضاً حق جميع القوى والتيارات في تداول السلطة والحكم، وو…الخ؟!. وهو نفسه أقام وجوده الفكري والعملي على المطلقات التاريخية والعقائدية المقدسة التي تنفي –بمعظمها- الآخر من جذوره، وتستبعده كلياً من ساحة الحياة إلى حفرة القبر.
إنهما مشهدان يختصران مواقع الثقافة والسياسة في عالمنا العربي، ويقدمان صورة حية عن أيديولوجية الدمار والموت التي تتستر بالعقائد لتبرير عنفها ودمويتها وشبقها الأعمى للتعصب والقتل.
وهذا ما يلزمنا بضرورة تبني العقلانية في الفكر والوعي والممارسة. وأنه يجب على الكل مسامحة الكل إلا من ثبت تورطه في ممارسة القتل الرمزي والدموي بحق الناس والمجتمع)، لأن الكل (وهذه حقيقة صعبة وجارحة قد تصدم الكثيرين) متورط في ممارسة “الزنا السياسي والثقافي” –إذا صح التعبير- من ألفه إلى يائه.
ومن هنا ينبغي على هؤلاء جميعاً أن يقفوا أمام مجتمعاتهم كلها ليقروا ويعترفوا اعتراف المخطئ بكل الأعمال الظالمة والممارسات الشنيعة التي ارتكبوها بحق المجتمع والناس المستضعفين. ومن ثم يطلبوا الصفح والعفو الصريح والحقيقي من الشعوب التي عانت (ولا تزال تعاني) وتتحمل الكثير الكثير من نتائج عقم وسوء الاستراتيجيات وجملة الخيارات السياسية والتنموية والاقتصادية التي تبنتها ومارستها تلك النخب السياسية والفكرية.
ونحن عندما نتطلع إلى ضرورة أن يتقدم هؤلاء (من المثقفين والحكام) لطلب الغفران من الشعب، فإن ذلك لابد وأن يكون مبنياً على قواعد ومنظومات عمل جديدة في العمل السياسي والثقافي، تضمن عدم تكرار مثل تلك الممارسات والسياسات الخاطئة، وتمنع حدوثها مرة أخرى بضمانات الدولة المؤسساتية العادلة.
وإننا إذ نطالب بالسعي الجدي لتحقيق ذلك، فإننا لا نعتقد باستحالة حدوثه، ولا نطالب هؤلاء باجتراح المعجزات بالرغم من أنهم اجترحوا سابقاً معجزة وصولهم إلى دفة القيادة والحكم من دون أن تنتخبهم الجماهير بإرادتها الطوعية لا القسرية، الأمر الذي تسبب أساساً في إفشال كل خطط التنمية السياسة والاقتصادية العربية على مدار العقود الماضية، حيث أن الحكام الذين كانوا يأتون إلى السلطة كانوا يفتقدون على الدوام مفردة الشرعية الحقيقية، ولهذا كانوا عديمي الفاعلية والجدوى تقريباً في مجريات الأحداث، والتأثير في الواقع والشأن العام لمصلحة الناس عموماً.
ويبدو أن هذا التخلف الفكري والأيديولوجي المقيم عندنا –والمنطلق من خلال تعامل كثير من قياداتنا العربية مع شعاراتهم وقضاياهم ومع الواقع بعقليات طوطمية سحرية- هو الذي يملي عليهم نقصاً حاداً في الوعي تجاه مفهوم السلطة والحكم والحرية، وأساليب ممارسة الفكرة في الواقع.
فهم لا يزالون يؤمنون –بالرغم من ادعائهم الظاهري الإيمان بالعملية الديمقراطية- بأن عملية التغيير والتطوير (باتجاه قيم التعددية السياسية والفكرية، وفسح المجال الواسع أمام جماهير الأمة لتمارس حرياتها العامة، وتعبر عن آرائها في كل ما يتصل بمصائر عالمنا العربي) ستنطلق من فورها بقدرة قادر أو بسحر ساحر. أي بمجرد أن نصرح عن تلك القيم، أو نصدر صحيفة هنا، ونكتب مقالاً نقدياً هناك.
وتاريخنا المعاصر –الذي كتبت للأسف تلك النخب السياسية والفكرية الجزء الأكبر منه- مليء بكل ما يناقض ما كتبه أدعياء التغيير والتطور عن ضرورة التغيير، وضرورة الحرية والديمقراطية والتقدم.
من هنا نحن نعتقد بأن مشوار التغيير الحقيقي في مجتمعاتنا المتخلفة لا يزال طويلاً وهو لا يعني أن مجيء تيار ما إلى السلطة، يحمل أفكاراً معينة هو الحل، وهو المنقذ لهذا المجتمع الذي يرزح تحت أعباء التخلف والظلم السياسي والاجتماعي، بل إنه يعني أن مجيء بنية جديدة ونظام جديد وتصور جديد لمفهوم بنية الحكم والسلطة هو المنقذ لأشكال التأخر التي نعيشها (وربما يتعيش كثيرون عليها).
ويجب ألا ننسى هنا أن تراثنا السياسي فقير جداً في موضوع البنية التشريعية التي تتناول مفهوم السلطة. كما أن فكرنا الحضاري الإسلامي –الذي كانت له الريادة في مجالات العلوم الإنسانية (كالفلسفة، والاجتماع، والآداب، و..الخ)- يفتقر كثيراً للعلوم السياسية، ولا توجد فيه أية إنجازات تذكر على هذا الصعيد. الأمر الذي أثر سلباً على مستوى عدم إنضاج تجارب حقيقية لدى الأجيال اللاحقة فيما يخص عملية اجتراح بنية جديدة للسلطة، وإحداث التغييرات الكمية والنوعية الحقيقية في نواة الحكم.
ولذلك فإننا نعتقد –وننصح هؤلاء المثقفين والسياسيين ممن جربوا ودفعوا الأثمان الباهظة للنضالات القومية والماركسية والدينية الفاشلة من حاضر ومستقبل شعوبهم ومجتمعاتهم- أن الأمر الذي يمكن أن يُحدث تلك التغييرات الكمية والنوعية المطلوبة في طبيعة السلطة التي نبحث عنها، هو تقديم رؤى وأفكار جديدة لمفهوم السلطة والحكم، تتناول -في الأساس، وقبل أي شيء- شرعية السلطة، وامتدادها الاجتماعي، ورضى الناس الطوعي الحقيقي عنها.
فشرعية السلطة–أية سلطة- أهم بكثير من صبغتها ولونها وتركيبتها المعرفية، سواء كانت دينية أو ماركسية أو قومية أو حتى ليبرالية. وعلى الذين يريدون المساهمة الفاعلة في تطوير الواقع، وتغيير آليات العمل السياسية للمجتمع ككل، عليهم:
أولاً: عدم ممارسة دور القيمومة والوصاية الأبوية على معارفهم، والتخلي عن حراسة أفكارهم ومقولاتهم العاجزة عن مواجهة الواقع والتطورات السريعة والمتلاحقة فيه.
وثانياً: المصالحة الحقيقية العقلانية مع الذات بنقدها وتعرية نقائصها وسلبياتها، ووعي الواقع والحياة المعاصرة.
وثالثاً: الانكباب على إحداث التغييرات النوعية انطلاقاً من الواقع، وليس انطلاقاً من الأفكار المسبقة المعلبة والمتخشبة العاجزة عن قراءة ذاتها قبل قراءة الآخرين.. لأن العلة ليست في الواقع دائماً، أو في توجيه اللوم والاتهامات الاعتباطية للآخر، بل هي  –كما يؤكد علي حرب- في الأفكار المتحجرة والمفاهيم البائدة والنصوص المغلقة والقراءات الموقوتة والعقول القاصرة حيث أن هؤلاء يؤمنون بأن العلة في الواقع وليس في الفكرة والنظرية. ولذلك فهم يسعون دوماً –وهنا أصل الداء، وجذر العطالة- إلى محاولة كسر وتجيير الواقع ومطابقة وقائعه المتغيرة باستمرار مع مقولاتهم المتكلسة البائدة ومفاهيمهم العقيمة غير المنتجة، الأمر الذي سيؤدي –كما أدى سابقاً ويؤدي حالياً- إلى أن يصبح المثقف (وكذلك السياسي) ضحية أفكاره و(دونكيشوتاته) النضالية الفاشلة بحيث يظهر عملياً في الواقع، وهو يعمل ضد مبادئه وأهدافه المحملة بحمولات أيديولوجية شعاراتية ضخمة كلفته –وكلفت مجتمعه- كثيراً من الدماء والدموع. أي يظهر أمامنا حارس القيمة قاتلها، وفق مبدأ “حاميها حراميها”.
وعندما نبدأ جميعاً –كمثقفين وسياسيين- بالتحرك على طريق الإصلاح والتجديد الفكري والعقلي والديني، يمكن أن نصدق أفكارنا، ونصدق بعضنا البعض.. بعيداً عن النفاقية والتكاذب والتكاذب المضاد.
© منبر الحرية، 16 نوفمبر/تشرين الثاني2009

peshwazarabic18 نوفمبر، 20101

لقد بات الفارق الحضاري بين المجتمع العربي والمجتمع الغربي واسع الهوة , لذلك فان عقد المقارنة بينهما لم يعد امرأ منطقيا , ولكن قلة من المتنورين العرب يعطون الحق لأنفسهم , لمقارنة مجتمعاتهم مع المجتمعات الناهضة , والسائرة بقفزات اعجازية بغية اللحاق بمجتمعات الدرجة الأولى .
إنهم يسألون, لماذا نجحت مجتمعات فتية في تخطي عتبة التخلف , ولماذا تركت خلفها منهجيات القوة والعنف ،، الدكتاتورية , الشمولية , الإرهاب ،  المدمرة لكينونة الإنسان , ولماذا عبرت خط التشكيلة الاجتماعية – الاقتصادية البدائية إلى تشكيلة عصرية نامية, قوامها مجتمع واقتصاد مخطط لهما علميا , ولماذا دخلت عملية تنمية مستدامة وشاملة ,بإمكانيات متواضعة في الثروات الطبيعية والخيرات المادية وخبرة بشرية معدودة , لترفع من إنتاجية اقتصادها كما ونوعا وتوظف إيراداته في رفع مستوى حياة ومعشية سكانها , ولماذا أقامت حكومات رشيدة عرفت كيف تؤسس علاقات تعاونية مع باقي الدول لمنفعة أوطانها وشعوبها , بعيدا عن التشنجات الإيديولوجية , لتتخلص من الصراعات العسكرية والسياسية , حتى تتفرغ للبناء والأعمار التنموي , وبالمقابل لماذا يكون الوضع عكس ذلك في العالم العربي , أيكون الخلل في المؤسسات الفوقية أم في بنية ثقافة المجتمعات العربية.
إذا كانت الثقافة ليست مجرد مصطلح ,أو مفهوم ستاتيكي يدل على منتوج جاهز , بل مركبا متجددا ومعقدا وحيويا ومتفاعلا , يعكس فلسفة المجتمع لظواهر الحياة والطبيعة والكون , و قيمة مادية ومعنوية كنتاج لجهد الإنسان العقلي والعاطفي والعضلي, تحمل  ملامحه وصفاته , وتتضمن تجاربه الصحيحة والخاطئة, الحسنة والسيئة , وكخلاصة لحياة المجتمع وليست نص غيبي مرتل ,فإنها خاضعة للمراجعة والتقييم ,فلماذا يتشنج  بعض المثقفين العرب , أمام المطالبة بإعادة نقد وتقييم الثقافة العربية , بغية تأهيلها كي تكون منسجمة مع روح العصر, لتنال موقع مناسب بين الثقافات الأخرى , إن الثقافة بما تعني من أنماط تفكير ومعتقدات وقناعات , وقيم أخلاقية واجتماعية ودينية , وما تشمل من اطر سياسية واقتصادية وعلمية , وكل ما يتعلق بصيرورة حياة المجتمع, هي التي تقود إلى التغيرات, وما لم تتغير ثقافة المجتمع , فلن يكون  قادرا على تغيير جوانب حياته المادية , والمجتمع العربي أحوج إلى التغيير, ولهذا يجب تغيير ثقافته أولا .
إن إعادة تقييم الثقافة العربية ليست تسلية فكرية, ولا بذخ علمي , بل هي ضرورة تفرضها الأزمة الشاملة والمركبة والمزمنة والمستعصية والمستفحلة ,التي تعانيها المنظومة العربية , حيث التردي والانحطاط على كافة الأصعدة , يحاول البعض تحميل المسؤولية إلى الحاكم العربي باعتباره النموذج الأسوأ بين حكام العالم , ولكن ليس من العدل أن نحمله المسؤولية كاملة, فالانهيار العربي لا يرجع فقط إلى السياسات الجهنمية للحكومات العربية , بل هناك عوامل موضوعية – جوهرية – بنيوية , موجودة في الثقافة العربية , هي التي أوصلت المنظومة العربية إلى الدرك الأسفل .
فإذا تم استقراء الثقافة العربية بهذا المفهوم الشامل , سنجد بأنها هي التي أنتجت النظام العربي الرسمي , وليس كما هو الاعتقاد الشائع بان النظام العربي هو الذي أنتج هذه الثقافة الوعرة ,طبعا هذا لا ينفي بان الفئات الحاكمة تجد من مصلحتها تبني هذه الثقافة وتشجيعها وتنميتها , ما يضمن لها استمرار سلطتها دون تقديم أية التزامات تجاه دولها وشعوبها , فالنظام العربي وجد ثقافة تخدمه مجانا فلماذا لا يشجعها ويكرس معطياتها , و النتيجة أن الثقافة العربية تنجب صنفا غريبا من الحكومات القذرة ,التي تجد في هذه الثقافة بيئة مناسبة لنموها وبقائها, فتقوم بالمحافظة عليها, ولهذا بات من الضروري وضع الثقافة العربية في قفص الاتهام , واستنطاقها لتجيب على بعض الاستفسارات المطروحة بإلحاح في هذه الآونة, ولم يعد التهرب منها مجديا .
انه لشيء محير أن يتجه العالم بما فيه دول الجنوب نحو صيغ أخرى من أنظمة الحكم غير  الدكتاتورية – التوتاليتارية التي تكاد تنقرض, لتقترب من تجارب سابقة أو مبتكرة في التحول الديمقراطي , واعتماد الشرعية في تداول السلطة ,بدلا من احتكارها بالقوة, بعكس الحكومات العربية, رغم تنوع أشكالها ومسمياتها , ما بين ثورية , اسلاموية , قوموية , فإنها كلها  تبقى حكومات غير شرعية , تحتكر السلطة بوسائل غير دستورية , فالبلدان العربية تحتل المرتبة الأولى عالميا في عدد ضحايا النظام الحاكم من السجناء والقتلى السياسيين , الذين يتم إبادتهم فقط لأنهم من المعارضة , والاستثناء الوحيد هو لبنان بديمقراطيته المتعثرة , بفعل مساهمة المنظومة العربية في زعزعة أمنه واستقراره حتى لا تتبلور تجربته الديمقراطية , لإجباره على دخول حظيرة النظام  الاستبدادي – الشمولي .
إن الديمقراطية هي قاعدة العصر الجديد ,التي يرتكز عليها المجتمع البشري لتدعيم أساساته , والاستبداد هو الاستتناء الذي ينتهجه العرب في الانزلاق إلى الهاوية , فهل المسؤولية تقع على الحاكم العربي , أم على الثقافة العربية , قد يعتقد للوهلة الأولى بان النظام العربي هو المسئول باعتباره الجهة الوحيدة المسيطرة على المجتمع والمتحكمة في توجهاته , ولكن يجب أن لا ننسى بأن الثقافة العربية هي أم هذا النظام  , ولو لم  تتقبل العقلية العربية نظام الحكم الفردي , ما كانت تسمح باستمراره في السلطة , عقب حدوث المتغيرات الدولية , التي تركت هكذا نظام كمستحدثة من مرحلة انتهت , ففي الوقت الذي تلاحق الشعوب الدكتاتوريين وتطيح بسلطتهم ,فإن الإنسان العربي المتعلم قبل الأمي والمثقف قبل الجاهل والنخبوي قبل العامي , يخرج للهتاف بالأبدية للرمز الأكثر تعطشا للعنف وسفك الدماء , والرمز الأكثر طغيانا , رغم إدراكه بأنه يهتف لجزار قذر , فما الذي يجعل المجتمع العربي متهافتا على دعاة العنف والدكتاتوريين , انه ليس الخوف ولا القمع  , بل لأن العنف و الاستبداد متوافقان مع العقلية العامة للمجتمعات العربية , إن المواطن العربي لا يجد حاجة إلى الديمقراطية حتى ينزع إليها , ففي المناخ العالمي الموائم للتغيير , ظهرت ثورات برتقالية و مخملية كثيرة ,  ها هي الشعوب الإيرانية بعد إدراكها أن حكومة الملالي وعصابات الولي الفقيه , لم تعد مناسبة لسياسة الدولة والمجتمع في القرن 21 , تنهض بثورتها للتخلص من حكومة المستحاثات , حتى ينقذوا بلادهم من سرداب العصور الوسطى , فهل شهدنا ثورة ملونة في أي بلد عربي , أليس هذا دليل على وجود عطل عميق في العقلية العربية .
إن الثقافة العربية, مقارنة بالدوائر الثقافية الأخرى , هي الأكثر تأثرا بالغيبيات والعدمية , والمفاهيم المطلقة , فالغيب هو الطاقة والمحرك والمنظم , لكل شاردة وواردة في حياة المجتمع العربي , وهو الغاية اللانهائية  لكل فعل ذهني أو عضلي , من اجلها كل وسائل ميكافللي مشروعة , وهو الحكم الفصل في بناء المواقف من مختلف القضايا , فرسالة الثقافة العربية  هي خدمة الغيب , والوسيلة الأوفر والأرخص لأداء الخدمة هو الإنسان , وهذا يجعلنا نتساءل هل هناك حقا مسحة إنسانية في الثقافة العربية , إذا كان الإنسان خارج اهتماماتها كليا , بعكس الثقافات الغربية والشرقية , التي تسخر الغيب ذاته والطبيعة والكون كوسائل من اجل رفاهية الإنسان وسعادته , فالثقافة العالمية المعاصرة تعتبر الإنسان غايتها النهائية , بينما الثقافة العربية تحول الإنسان إلى عبد لغاية لا تدرك , و أسيرا لأزليات ماورائية ,  تحيل حياته إلى جحيم , ولكنه يرضى به, وهذا ما لا يمكن تفسيره , إن الغلو في العبودية للغيب , جعل الثقافة العربية تنحرف إلى مسالك بالغة الوعورة , حتى تعدت الغيب إلى العدمية , ليدفعها التعصب للغيب إلى التناقض معه , وهذه جدلية عسيرة , لا يتسع مقال متواضع لشرحها , أنما يكفي القول , أن الثقافة العربية في غيبها الديني , تجاوزت حدود التدين والعبادة والاعتدال وأصول الشريعة , إلى التزمت والتطرف في تفسير النص الديني وتضمينه  ما لا يتضمن , والتعدي عليه باجتهادات تراجعية مميتة , تسلب الإنسان تلك الجزيئات البسيطة من حريته الشخصية التي ما زال يحتفظ بها بأعجوبة , ها نحن نجد مأساة الصحفية السودانية لبنى أحمد حسين ,لمجرد ممارسة حريتها الفردية في ارتداء بنطال , ثارت الأمة وأقامت عليها الحد  , وكأنها ارتكبت الكبائر ,ولو لم يكن المزاج الشعبوي العام موافقا على هذه الممارسات ما كانت مرجعية دينية أو حكومية تجرأ على إدانتها, بل المرجعيات تلجأ إلى هذه الممارسات تزلفا إلى المزاج الشعبي ,هذه هي معطيات ثقافة الغيب فلما الاستغراب  .
لم يعد التدين في المجتمع العربي مجرد حريات دينية اعتيادية يحق للإنسان ممارستها , بل تحول إلى إيديولوجية سوداوية , أطاحت حتى بالشريعة الإسلامية ,و لو أردنا فلسفة الدين , سنجده  ليس غاية, فالله من القوة والحكمة , ما يجعله بغير حاجة إلى البشر , وحين انزل الأوامر والنواهي ,فانه لم يفعل لحاجته إلى طاعة الناس له , بل أراد عبر الطقوس الدينية  أن يذكر الناس بوجود اله يراقبهم , ليخافوه أو يهابوه أو يحبوه , فيكون وازعا روحيا يمنعهم من التعدي على بعضهم بعضا , فالتشريعات السماوية لم تنزل لحفظ حقوق الله لأنها محفوظة بذاتها , بل نزلت لحفظ حقوق الناس , وأننا نجد التشريع الإسلامي – مع تحفظنا على كل ما هو ديني – عقد اجتماعي قريب الشبه إلى التشريعات الوضعية , وهذا يؤكد أن الشرع نزل من اجل تنظيم العلاقات بين  سكان الأرض, وليس لترتيب العلاقة بين الشياطين والملائكة والآلهة من سكان السماء ,فالغاية النهائية التي أرادها الله من الدين , هي وضع الشريعة في خدمة الإنسان بإيجاد مجتمع عادل , متسامح , آمن , يمنع ظلم الناس لبعضهم بعضا , و الذي حدث أن الثقافة العربية قلبت الآية , و حولت الدين بجوانبه الدنيوية والأخروية إلى غاية مطلقة مكرسة لخدمة الغيب , فإذا كان الله يضع الإسلام في خدمة البشر , فإن العقلية العربية تضع الإنسان في خدمة الغيب , هذا الفهم العربي الخاطئ للدين يولد النزعات العنيفة والمتشددة عقائديا وسياسيا و ميدانيا ,وتبقي المجتمعات العربية خارج الأزمنة الحديثة , وان كانت عضويا تتواجد في القرن 21 م , والمحزن أن الإنسان العربي  يكون الضحية الأولى والخاسر الأكبر, لهذه المعتقدات العجائبية , التي لا يقتصر الإيمان بها على الجهلة والظلاميين, بل إن كبار منظريها هم صفوة المثقفين والانتلجنسيا العرب .
لقد انعكست نظرة الثقافة العربية إلى الغيب الديني كغاية مطلقة غير قابلة للجدل , على المسألة القومية,ليجدوا العروبة أيضا ,غيب قومي , وغاية أخرى مطلقة, فقد أدى التعصب الديني وتجذر قيم البداوة ,إلى صعود الفكر الشوفيني  والنزعة العرقية , والتعالي  الأجوف على بقية القوميات ,على أساس أن العرب ،، خير امة أخرجت للناس ،، هذه المقولة التي لا يقبلها منطق  ولا يصدقها عقل ولا يدعمها واقع , تغذي الشوفينية بفاعلية كبيرة , حتى صدق السواد الأعظم من الشعوب العربية أنهم شعب الله المختار , فهل سأل احدهم على ماذا يكون شعب الله المختار , طالما هو يقف في الصف الأخير الأبعد عن الحضارة , إنهم لا يقيسون الأمور هكذا , بل يجدون في هذه المقولة امتياز الهي يخصهم , , دون أن ينتبهوا إلى أن واقعهم المزري لا يؤهلهم لتبوأ هذا المركز , فلو أعطي لهم حق الريادة على العالم لعادوا به القهقرى من الديمقراطية إلى الاستبداد , ومن التعددية إلى الشمولية , ومن الانفتاح والمسامحة إلى التزمت والانعزال , ومن العلم إلى الخرافة , ومن تعدد الأديان إلى الإسلام , من الاقتصاد العصري إلى الاقتصاد البدائي , ومن مجتمع الحضر إلى مجتمع البداوة , ومن دولة المواطنة إلى دولة العبيد , ومن تقديس الإنسان إلى احتقاره , ومن قيم التعاون والتواصل إلى الحروب والنزاعات , ومن القرية الكونية إلى القرية العرقية , ومهما كانت درجة تقدمهم أو تخلفهم الحضاري فان الامتياز يبقى ساري المفعول ,  وهذا ما يبقي العروبة في طور الشعور العرقي – الغريزي – البدائي القائم على رابطة الدم , فلم يسمح  بعصرنة الفكر القومي في الثقافة العربية ,ليكون رابطة انتماء للأرض والوطن والدولة ,وليس للعرق والدم , ولهذا نتيجة الفهم الغيبي والضيق للفكر القومي , فقد عجز العرب حكاما ومحكومين رغم تعصبهم الشديد للعروبة عن تحقيق منجزا قوميا ,فالعقلية العربية لا تنظر إلى العامل القومي كوسيلة معنوية تجمع أبناء البلد الواحد على مصالح ومشتركات, تحقق لهم الازدهار المادي والقوة والمنعة , وترفع مستوى معيشة أبناء القومية ,لتكون العروبة وسيلة لخدمة الإنسان العربي , وليست غاية تلتهم مصائر أجيال وأجيال دون جدوى , إنها مشكلة الثقافات الغيبية , دائما تقلب الأمور رأسا على عقب , فتحول الوسيلة إلى غاية والغاية إلى وسيلة ,فالقومية وسيلة لخدمة الشعب , أي خدمة الإنسان , ولكن بالنسبة للعقلية العربية فأنها جعلت العروبة غاية مطلقة , وجعلت الإنسان وسيلة في خدمتها , ولهذا فإننا على صعيد الواقع لا نجد صدى للقومية العربية , إلا في الشعارات والمواقف الهشة , التي سرعان ما تتكسر أمام عواصف الصراع العربي – العربي , وها هي عدوى الصراع بين الحكومات الشقيقة , تنتقل إلى نزاعات بين الشعوب العربية حتى داخل البلد الواحد , في صور تطاحنات دامية دينية , مذهبية , قبيلة , عرقية , لا تبقي الانتماء للعروبة معنى .
إن المنظومة العربية, هي الوحيدة , التي تحافظ على مجموعة القيم السياسية والفكرية والثقافية , المنافية للعدالة والحرية والديمقراطية ,و السابقة لعصر الثورة الرقمية , , فالعالم العربي باستثناء القلة, غير منسجم مع الأفكار الجديدة , فهل يعقل أن يكون العالم بمجموعه  على خطأ وهو متجها نحو ثقافة معولمة, ويكون العرب الذين يتقهقرون إلى ثقافة العزلة  على صواب .
قد تحتج الأغلبية المتعصبة وتقول أن هذا التوصيف للحالة العربية مبالغ فيه , فالعرب موجودون في القرن 21 زمنيا وحضاريا , وهم يتعاطون مع العلوم والتكنولوجيا كمنجزات للحضارة الحديثة , ويدخلون أنماط من الحياة الجديدة إلى مجتمعاتهم المحلية , نعم هذا صحيح , ولكن رقي دائرة حضارية ما, لا يقاس بمدى تداولها المادي لمعطيات الحضارة الحديثة , بل بالكيفية التي يتم التداول بها , وبالنتائج المترتبة عليه, فقد نجد أكاديميا رفيع المستوى ,يتعاطى التكنيك الحديث ,فهل يكون متمدنا لمجرد حصوله على العلم والتكنولوجيا , وهو يسخر هذه الأدوات في تكريس السلفية – الأصولية , الدينية والعرقية والإيديولوجية , لمكافحة الفكر التنويري, بالتحريض على العنف المعنوي والجسدي, كم من النخب العربية يبررون جرائم الشرف بحق المرأة , كم يدعون إلى الفصل بين الجنسين , وإلزام المرأة بقيود تتجاوز حتى حدود الشريعة , كم يسخرون ثورة المعلومات  لنشر الفكر الظلامي  , كم أنت معرض للتصفية, إذا خالفت جارك في مسألة إباحة تناول المأكولات الصينية.
إن المعيار الصحيح لقياس تحضر المجتمع  لا يكون باقتباسه منجزات العلم والتكنولوجيا ,بل في  مدى تأثير الحضارة في ثقافته وأفكاره , فكلما كانت ثقافة المجتمع ثقافة علمانية, إنسانية ,منفتحة ,متنوعة ,متعددة الأنماط , ديمقراطية , كلما عرفنا انه قد انتفع من المضمون الفكري للحضارة الحديثة,وبدون ذلك يكون الاستفادة من التكنولوجيا ناقصا ومشوها , مثل المحاكاة الجوفاء لقشور أنماط الحياة في المجتمعات الراقية ,الحضارة أفكار وقناعات وثقافة وقيم , فهل العقلية العربية قادرة على تقبل تيارات الفكر العالمي الجديد ,و إذا كانت ترفض الأفكار المستوردة , فهل هي قادرة على إنتاج أفكار عصرية خاصة بها , والجواب أن العقل العربي لا يريد هذا ولا ذاك , لأنه ببساطة غير معني بعالم الإنسان بل هو مشغول بالغيبيات , ولهذا فان الثقافة العربية لا تمتلك الأدوات المعرفية لتحليل الظواهر المستجدة حول العالم , لتتخذ منها مسبقا  دون دراسة أو تحليل موقفا معاديا , كما هو الموقف من المتغيرات الدولية والنظام العولمي الجديد , فالأغلبية العربية اعتبرت حدوثها مجرد مؤامرة امبريالية – صهيونية تستهدف العروبة والإسلام , هذا لان النظام العربي الرسمي الاستبدادي لا يتوافق مع عولمة الفكر الديمقراطي , ولان المجتمعات العربية ترفض عولمة الفكر الذي يمجد الإنسان وليس عالم الغيب , وفي واقع الأمر فان المتغيرات حدثت ليس تلبية لمشيئة المجتمع الغربي , ولكنها لم تكن محض مصادفة ,وإذا أردنا فهم كينونتها يجب العودة إلى نفس القوانين الموضوعية التي تحرك التاريخ دائما , والنظر إليها نظرة أوسع واشمل من منظور المصالح العربية الضيقة , فالمجتمع المتحضر نتيجة تسارع وتيرة تطوره, تتولد لديه حاجة مستمرة إلى التغيير , لتجاوز الآليات القديمة المادية والمعنوية  والفكرية المعيقة لعملية التطور , بإيجاد آليات جديدة تستطيع الاستجابة لزخم التطورات الحاصلة , بغية انجاز الخيرات المادية, وتوظيف مردودها في الغاية النهائية للحضارة البشرية وهي رفاهية وسعادة الإنسان , قد تكون الوسيلة براغماتية مغالية أو منافية للقيم المثالية , ولكنها بموجب صيرورة المجتمعات المعاصرة أصبحت أمرا واقعا , حيث ارتبطت سعادة الإنسان بقدرته على إنتاج السلع الزراعية والصناعية والنشاط التجاري , أي في الثورة البرجوازية – الصناعية , التي نقلت العالم إلى مرحلة تاريخية جديدة في ملامحها الفكرية والمادية , لتوفر البيئة المناسبة لتفجر طاقة الإنسان الخلاقة في إنتاج مزيد من الأفكار والاكتشافات العلمية ومخترعات التقانة , كل هذه العناصر تفاعلت في علاقة جدلية , فأصبحت عاملا ونتيجة لبعضها البعض , وحدث تزاوج كبير بين المظاهر المادية والمظاهر الفكرية للحضارة الحديثة , إذ كلما تطور الفكر تطورت عمليات إنتاج الخيرات المادية والعكس صحيح , وقد أفضى ذلك إلى الفكر الحر في السياسة والاقتصاد لينعم الإنسان بفضاء رحب , ساعد على تسارع وتيرة التطور , فهل يخطئ المجتمع الغربي في سيره إلى التطور , بحق المجتمع العربي الذي يرفض قيم التطور , وإذا كان التفوق الحضاري للغرب يبيح له الريادة على العالم, وهذه قاعدة متبعة تاريخيا , فهل يعتدي على الحق العربي خاصة أن العرب لا يملكون البديل الحضاري لمنافسة الغرب في عولمة نموذجهم .
لقد أدت الثورات الصناعية والتطورات الاقتصادية إلى نشؤ علاقات دولية شديدة الترابط خاصة في ميادين المال والتجارة والإعمال , مما جعل مصالح الدول المتطورة تتجاوز حدودها الوطنية , حيث لا يمكن تصور حالة الاقتصاد الياباني دون اخذ الاقتصاد الأمريكي في عين الاعتبار , ولا يمكن عزل مؤثرات سوق الأوراق المالية في لندن عن نظيرتها في نيويورك , وقد رأينا كيف انتشرت أنفلونزا قطاع العقارات في أمريكا لتتحول إلى وباء أصاب اقتصاديات العالم كله ,نتيجة تشابك العلاقات الدولية أصبحت هناك حاجة إلى تغيير الآليات المتحكمة في الاقتصاد الدولي , فجاءت المتغيرات الدولية تعبيرا موضوعيا عن هذه الحاجة , وجاءت المفاهيم الجديدة التي تطرح فكرة القرية الكونية كحل ممكن لعجز الآليات القديمة عن الاستجابة لمتطلبات الاقتصاد الدولي , أي إزالة الحدود والقيود التي تحد من حرية تحرك الأموال والأعمال والتجارة ونقل التكنولوجيا وتبادل المعلومات , هذه الحرية الاقتصادية تلزمها حرية فكرية – سياسية تتمثل في الليبرالية والديمقراطية , إذ بدونهما لا يمكن الحلم بالقرية الكونية .
بقي العرب نتيجة متلازمات الجهل خارج هذه المعادلة , وحين تفاعلت عناصرها استنكر العرب ذلك , واستكثروا على الغرب عولمة نموذجه الحضاري , وتناسوا أنهم قبل ألف عام ساروا على نفس النهج الذي يسير عليه الغرب اليوم , فقد سيطرت الخلافة العربية الإسلامية على نصف العالم عسكريا وسياسيا , وتزعمت الاقتصاد العالمي القروسطي , واحتكرت الأسواق , وفرضت الدينار كعملة عالمية , ومن جانب آخر نشرت الإسلام واللغة الثقافة العربية , حيث يمكن القول أن العرب المسلمون كانوا الأسبق إلى النظام العولمي , فلماذا يبررون لأنفسهم هذا العمل ويعتبرونه رسالة حضارية – اعمارية , ولماذا يعادون الغرب ويسمون نظامه العولمي بأنه استعماري  , لماذا يتعمدون عدم فهم حقيقة أن ثقافة المجتمع المتحضر تنتشر تلقائيا إلى خارج الحدود على قاعدة الضعيف يقلد القوي , وفي عالم اليوم فان الغرب هو الأقوى , ومن الطبيعي أن تتعولم حضارته , إنها المغالاة في التعصب للهوية الدينية والقومية , وربطها بغايات لا نهائية , والتي تدفع العرب إلى طروحات غير منطقية ومطالب غير واقعية ,فمن وراء صراعهم مع العالم  لا يريدون حل القضايا العربية العادلة ,بل يتطلعون إلى الريادة على العالم, وهذا يفسر انزياح العقل إلى الماورائيات والعوالم الأخروية, والتكاثر السرطاني لإيديولوجيات ،، التهديد والوعيد ،، العنف المنظم الذي تمارسه معظم الحكومات العربية أو تكلف التنظيمات المسلحة بممارسته  , لأن عدم امتلاك المؤهلات الحضارية لمنافسة الآخر في العلوم والثقافة والتقانة والاقتصاد والأفكار , تدفع العرب إلى اختيار طريق الصدام , إيمانا منهم بان طريق العنف سوف ينتصر على العلم .
لقد عجز العقل العربي عن التعامل مع قضايا الواقع , ولهذا لم نجد طرح حقيقي للتعامل  العقلاني مع العولمة ما يضمن الاستفادة من حسناتها وتجنب مساوئها , لان الثقافة العربية غير مؤمنة بأولويات الثقافة العالمية المعاصرة حول حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية ومكافحة الجهل والتخلف والفقر والمرض, إنهم لا يريدون تحرير الإنسان من جهله وتخلفه حتى يبقى عبدا لغاياتهم الجهنمية في السيادة على العالم وفرض إيديولوجية الغيب المطلق على البشرية , إنها لمأساة أن يسعى بدوي لا يحظى بشربة ماء إلى القضاء على أمريكا دون أن يفكر بالذين يتركونه عرضة للعطش والجوع …
© منبر الحرية، 14 نوفمبر/تشرين الثاني2009

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

تشترك الغالبية العظمى من المؤسسات الأكاديمية العربية بمشاكل ومعضلات متناظرة أو متطابقة أحياناً. وبغض النظر عن التمايزات والإختلافات القطرية والإقليمية المحدودة التي غالباً ما ترد إلى تنوع ظروف كل بلد عربي على جهة، فإن التناظر يبقى هو السمة الأبرز للكينونات الجامعية العربية. وتدل العلاقة الشائكة والمنطوية على التنافر أو التجافي بين الجامعة والمجتمع في أغلب هذه الدول على ما نفترضه من “شراكة” جامعية عربية في الإشكالات والإخفاقات، الأمر الذي يبرر تصاعد الأصوات عالية في مرافق أغلب الحكومات العربية بالشكوى من أن المؤسسة الأكاديمية لا تلبي متطلباتها وطلباتها من ناحية، ومن أن مخرجات التعليم العالي في الدول المعنية، برغم سخاء الحكومات العربية عليها، تبقى دون المستوى المطلوب معرفياً وعلمياً وعملياً، الأمر الذي يبرر حاجة هؤلاء الخريجين إلى “تدريب جديد” أثناء الخدمة الوظيفية In- Service Training. لذا كانت ظاهرة الحديث الشائع عما يسمى بـ”الأمية المقنّعة” المنتشية في الدوائر الإعلامية والثقافية العربية من إفرازات هذا “الطلاق بالثلاثة” بين المجتمع والجامعة.
وللمرء أن يتريث حيال توظيف كلمة “الطلاق” في مثل هذا السياق المعقد، ذلك أن المقصود به هو ليس المسافة الواسعة الفاصلة بين الجامعات وجموع الجمهور والنشء والشبيبة، وإنما المقصود به هو تحول أغلب الجامعات العربية إلى “مكائن” صماء للإنتاج الواسع من الخريجين الذين نادراً ما يرقون بمستوياتهم الثقافية والمهنية التخصصية إلى مستويات المؤمل والمطلوب من قبل دوائر القطاعين العام والخاص على حد سواء. لذا، فإنه من ناحية أعداد الطلبة المنتظمين بالدراسة والمقبولين بصفوف المؤسسات الجامعية هي بدرجة من الإرتفاع أن المخرجات راحت تتدنى على نحو متوالية هندسية نظراً لغياب المفاهيم الأكاديمية الصحيحة والعريقة، وبسبب غلبة إهتمام القيادات الجامعية بالكم وليس بالنوع، على طريق إرضاء القيادات السياسية من خلال تقديم “أرقام” صماء بأعداد الدارسين والخريجين.
وتبقى القيادات الجامعية في الدول العربية حبيسة لهذا النوع من “التخريج بالجملة” الذي يزيد من تدهور العلاقة بين الجامعة والمجتمع، ذلك أن الأخير عندما يقتطع جزءاً كبيراً من مدخولاته وإيراداته من أجل الإستثمار الأكاديمي البعيد المدى، فإنه ينتظر أن يحصد الفوائد من السنابل المعطاء الثقيلة. بيد أن السنابل المنتشرة عبر أراضي واسعة كأقطار العالم العربي غالباً ما تظهر ضعيفة ومنحنية، ليس بسبب ثقلها، وإنما بسبب الأمراض المعرفية والثقافية والإجتماعية التي تخترقها. ويمكن أن تُرد هذه الظاهرة المؤسفة إلى غياب فلسفة تربوية جامعية واضحة المعالم بأهداف صلدة يمكن توخيها في العمل الأكاديمي. إن غياب مثل هذه الرؤية بين العديد من القيادات الجامعية هو الذي سوّغ لها سياسات القبول الواسعة وسياسات التوسع في فتح التخصصات والدراسات العليا الجديدة دون دراسة وافية للإمكانيات وللكوادر المؤهلة للإضطلاع بمثل هذه التوسعات الخرافية احياناً. في جامعة بغداد، على سبيل المثال، يشكل عدد طلبة كلية واحدة فقط رقماً أكبر بكثير من عدد طلاب جامعة كاملة بكليات وفروع متنوعة النخصصات في الولايات المتحدة الأميركية أوكندا أو ألمانيا. وفي الوقت ذاته، برزت في الكليات العربية ظاهرة تحول الصف الدراسي أو ما يسمى بقاعة المحاضرات “تجاوزاً” إلى شيء أشبه ما يكون بعلبة الساردين، حيث يزدحم الطلبة والطالبات في الصف، جلوساً ووقوفاً قبالة أستاذ مسكين مستباح، منهك من تكرار ذات الجمل وذات المعادلات على السبورة صباحاً وظهراً ومساءً. هذا ما يبرر ظاهرة غياب الحاجة إلى حضور المحاضرات وتعاظم حالة أعداد الطلبة المتغيبين الذين لا يجدون الفائدة المرجوة من الإستماع إلى المحاضرة أو من المشاركة في النقاشات العلمية التالية لها. في مثل هذه القاعات المكتظة والمحشوة بالطلاب والطالبات تتلاشى الحاجة إلى المناظرات الفكرية وإلى الأسئلة والأجوبة والمشاركة الصفية، خاصة وإن جملة واحدة من كل طالب تكفي لتمديد مدة المحاضرة لساعات. وهكذا برزت ظاهرة تفضيل “المذاكرة” في البيت أو الدراسة “على الحساب الخاص” بين جموع غفيرة من الطلاب الذين لا يرومون من الإلتحاق بالجامعة سوى الحصول على “وجاهة” الشهادة الجامعية التي تؤهلهم للتعيين ولركوب مركب الدولة الكبير الذي يجهزهم بالوظائف وبالمرتبات المناسبة لتأهيلهم للزواج ولتأسيس عائلات، وهكذا. هذه دورة شريرة من “التنمية المتراجعة” أو العكسية التي نعاني منها، والتي تخفت أصواتنا عند الحديث حولها، خشية تناهي هذه الأصوات إلى مسامع الوزراء والمسؤولين الكبار.
إن من يطلع على المؤتمرات والندوات وحلقات النقاش الجامعية الإقليمية والعربية لابد وأن يتفاجاً (إن كان غير عارف بالحقائق على الأرض) باعدادها وتعقيدات موضوعاتها، الأمر الذي يعطي إنطباعاً بالتقدم المهول للمؤسسات الجامعية. بيد أن الحقيقة تختلف عن مثل هذه “اليافطات” والأنشطة الإعلانية والإعلامية التي يراد منها الترويج للإيفادات ولتغيير الجو بالنسبة لبعض المشاركين بها. أما المنظمات الأكاديمية الإقليمية، فإنها لم تعد سوى عناوين لهيئات أو منظمات شبحية لا تزيد عن مكاتب مهجورة مزودة بالضرورات المكتبية وبالسكرتيرات اللائي لا يُحسّن سوى المهاتفات والمناقشات حول أسعار المواد الإستهلاكية في الأسواق المحلية. ويبدو أن “إتحاد الجامعات العربية” غير قادر على الإضطلاع بتفعيل دور محسوس وقوي على سبيل الإتساق والتطوير العربي في حقول الجامعات الرسمية والخاصة، ذلك أن الدوائر الأكاديمية لم تسمع منه عن أي نشاط حقيقي فاعل، بل أن بعض الأساتذة حتى لا يعرفون بوجود مثل هذا الإتحاد !
إن القيادات الجامعية والقيادات السياسية في كل دولة عربية بحاجة إلى الإلتقاء للإرتقاء بمستوى الأداء الأكاديمي. هذا ما لا يمكن أن يتم عن طريق إقتصار رؤية القيادات السياسية كـ”ممول” فقط، ممول لبناء وتأسيس جامعات وكليات جديدة لا يهمه سوى الأرقام والمخرجات المجردة. إن الحاجة تبدو اليوم ماسة لأن تضطلع هذه القيادات، بنوعيهما، على الإلتزام بفلسفة أو بعقيدة جامعية تجيب على عدد من الأسئلة المهمة، ومنها: (1) دور الجامعة في المجتمع كمركز مستنير للتطوير والتقدم؛ (2) دور الجامعة في دعم وتكريس خطط التنمية الوطنية والقومية، كمنهل ومصدر للأفكار والمشورة والخطط والكوادر؛ (3) ما هي المؤسسة الأكاديمية، هل هي مركز للبحث والإستقصاء العلمي فقط، أم إنها مصدر لتخريج الكوادر والخريجين ؟ (4) من هو خريج الجامعة، هل هو الإنسان العارف والمتقن لمهارة ما، أم إنه الإنسان المهذب The Gentleman المجرد ؟ (5) هل يمكن للجامعة الإضطلاع بأدوار في دعم الحكومة في المجالات الإستشارية ومجالات إعارة الخدمات، أم إنها ينبغي أن تحافظ على مسافة “جمالية” مقدسة بينها وبين دوائر الدولة ؟ (6) كيف يمكن الإستفادة من التجارب الأكاديمية في الدول المتقدمة، هل يتحقق هذا عن طريق الإستنساخ المجرد أم عن طريق “النسخ” الأعمى للتجارب الأجنبية بإعتبارها دخيلة وغير موائمة للواقع المحلي؟
إن مناقشة هذه وسواها من القضايا الحساسة يمكن أن تساعدنا في بناء فلسفة لمؤسسات أكاديمية رفيعة ترقى بنفسها إلى تأملات المجتمع وآمال العاملين فيها من أساتذة وطلبة وموظفين. بدون مثل هذه الفلسفة تبقى الكليات والمؤسسات الأكاديمية، التي تنتشر في المدن والقرى العربية كما ينتشر “الفطر”، من نتاجات فائض الأموال والتفاخر بالكم على حساب النوع، الأمر الذي يحيلها من جامعات بمعناها الفلسفي الكوني الصحيح إلى ساحات أو إقطاعيات للتشبث الفردي وللإجتهاد الشخصي الذي يباشر الكلية أو الجامعة وكأنها مشروعاً إستثمارياً مسجلاً بإسم الفرد أو بإسم الموقع.
© منبر الحرية، 02 نوفمبر/تشرين الثاني2009

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

إذا كانت حكايا الف ليلة وليلة قد لخصت التأريخ الاجتماعي للمجتمع الاسلامي قبل بضعة قرون، فإن “الف لولا ولولا”  لا تكفي لإيجاز وقائع مجتمعات الأسلام الحديث.
يصعب التفريق بين التأريخ العربي وبين التأريخ الإسلامي لأسباب لسنا بصددها، لكن الثابت أنّ المسجل من التأريخين هو تأريخ المسلمين فقط ، ويجب ان لا تغيب عن بالنا حقيقة خالدة مفادها أنّ التأريخ المكتوب هو سجل مآثر وبطولات القادة و الزعماء.
ما وصلنا من تأريخ المسلمين غير الرسمي ( وهو نبض المسلمين على مدى مئات السنين ) تتوزع وقائعه في كتاب “الف ليلة وليلة”. في هذا السفر الذي لا يعرف كاتبه ولا زمن كتابته ولا أبطال وقائعه يتلمس الإنسان تفاصيل حياة الناس، أو على الأقل أمانيهم واحلامهم وتصوراتهم .
ولا تتفق النصوص المنشورة من هذا السفر مع بعضها وتتباين وترجماتها التركية والاوروبية والهندية والفارسية تباينا يفوق تباين الأناجيل المسيحية والقصص التوراتية وتناقل الاحاديث النبوية ( ويقال أنّ عبد الله أبن سبأ ولا أحد يعرف من هو بالضبط قد دسّ في الاحاديث النبوية ستة عشر ألف حديث! )
ولولا أنّ الملك السادي شهريار لم يكن ينام الا بعد أن يقتل عذراء من بنات الشعب كل ليلة لما عرف العالم أول مسلمة تقصّ بكل تلك الجرأة قصص الحب واللذة المحرمة حتى ينام الملك.
ولولا قصص شهرزاد لظنّ الناس على مدى العصور أنّ العالم الأسلامي هو جنة سماوية من الفضيلة والصدق والعفاف، وكل بناته عذارى وكل متعه لا تتجاوز منابر المساجد وكل صوت يتردد في شوارع وأزقة مدنه هو القرآن والآذان والدعاء، حيث لا غناء ولا فسق ولا فجور.
ولولا قصص شهرزاد لما وجد الشعب المسكين متنفسا للمتعة واللهو (البريء وغير البريء) ، فمجالس الرجال والنساء في القاهرة ودمشق وبغداد وطهران والأستانه ( حيث كان الاختلاط من المستحيلات ) كانت تقص على مدار السنين حكايا شهرزاد وتتناقلها محورة في الأغلب الأعم لسبب النسيان أوعدم أمانة النقل أو لكليهما.
ولولا تناقل تلك الحكايا عبر عقود من الزمن لبقي الشعب المسكين أسير فتاوى لا أحد يعرف كيف تشكلت وأسير حكايا تناقلتها كتب التأريخ الرسمي ( الطبري والمسعودي وابن خلكان و…) .
لولا ليالي شهرزاد ( وتسمى في الغرب الليالي العربية) لم يطلع مارد الدخان من قمقمه ليفتح بوابة اسرار المعرفة على مصراعيها.
لولا حكايا الف ليلة وليلة لما عرف الغرب شيئا عن سحر الشرق وأسراره ولما توله المستشرقون بهذا الجزء من العالم وتاهوا به حبا.
ولولا عشق المستشرقين لما نقلوا للغرب كل علوم الشرق، فطار الغرب ( بفضل تلك العلوم) الى المريخ وتراجع الشرق الى القرن السابع للميلاد بحثا عن تأريخ قمري لا يثبت في تفاصيله (لسبب أثر جاذبية الأرض على القمر) فتتفاوت مواقعه من شهر لآخر ويبقى تأريخه مائعا حائرا بين ليلة غائمة لا يظهر فيها الهلال وبين ليلة صحت سماها فظهرت فيها نجمة الزهرة لتفسح للهلال أن يظهر.
ولولا التأريخ القمري لما أهتمت الولايات المتحدة الأمريكية بالقمر فأنزلت في 20 تموز عام 1969 “نيل آرمسترونغ” أول أنسان على سطح القمر ليسير على التابع الأرضي الرمادي الميت ويثبت أن لاشيء فوقه وفيه سوى رمل رمادي محترق، ليفسد بذلك أحلام الشعراء بالكوكب الفضي والعشاق بسميرهم الذي لا ينام حتى ينامون.
ولولا الولايات المتحدة الامريكية لما تمكنت أوروبا العجوز أن تقضي على “هتلر” الذي قاد التحالف النازي الفاشي الياباني .
ولولا أكبر كارثتين في التأريخ (هيروشيما وناغازاكي) لأبتلعت اليابان التي كانت نمرا متوحشا طموحا  كل آسيا وحوّلت كل شعوبها الى عبيد و”فتيات جيشا” في قصور الساموراي وحمامات الساونا.
ولولا خطة مارشال لما بزغت اوروبا لتصبح ثاني أكبر قوة اقتصادية وسياسية في العالم.
لولا نتائج الحرب العالمية الاولى وسقوط آخر قياصرة المانيا وآخر قياصرة روسيا وآخر سلاطين الأمبراطورية العثمانية لما قامت دولة تركيا الحديثة.
ولولا نهضة تركيا القومية لما قامت النهضة العربية ولما تمرد العرب على آخر خلفاء المسلمين فاقاموا دولهم القومية التي يريدون العودة بها اليوم الى الاسلام.
ولولا مجازر الهولوكوست النازية ، لما سمح العالم بقيام الدولة العبرية .
ولولا دولة اسرائيل لما تمتع القادة القوميون العرب بحق فرض قوانين الطواريء على شعوبهم لآجال غير معلومة ولما عاشوا طيلة مدد حكمهم في ظل الدساتير المؤقتة.
ولولا جيش اسرائيل الذي يهدد كل دول العرب لما باعت مصانع السلاح الغربية والشرقية ملايين الأطنان من الحديد والعتاد والبارود الذي نجح الى حد بعيد في اخضاع شعوب الشرق الاوسط لحكوماته.
ولولا سابقة الرئيس المصري الراحل أنور السادات بزيارة اسرائيل لما عقد مؤتمر كامب ديفيد عام 1978 برعاية الرئيس الامريكي جيمي كارتر ولما حدث التقارب العربي الاسرائيلي الذي جعل الحديث يدور اليوم عن مشروع دولة فلسطينية الى جانب دولة اسرائيل كأمر واقع لم يتجاسر أحد على مجرد التفكير به قبل كامب ديفيد.
ولولا الرئيس الأمريكي الديمقراطي “جيمي كارتر” ( المسيحي المتدين ) لما قامت أول جمهورية  اسلامية في العالم ولما تحول الصراع الدولي من صراع بين الغرب المسيحي المؤمن وبين الكتلة الشيوعية الملحدة ، الى صراع بين الغرب والعالم المتمدن وبين الدول والمنظمات المتأسلمة عبر العالم.
ولولا سياسة الاحتواء التي انتهجها الرئيس الامريكي جورج بوش الأب ومن بعده الرئيس ( الديمقراطي) بيل كلينتون لما اضطرت الولايات المتحدة ان تخوض حرب تحرير العراق لأسقاط نظام صدام حسين ، ولما احتار العالم الغربي بالمشروع النووي الايراني.
ولولا سلطة الاعلام الحديث لما عرف العالم بجريمة الرئيس الامريكي  الديمقراطي “باراك اوباما ” بحق الذباب حين قتل ذبابة في المكتب البيضوي بالقصر الأبيض أمام أنظار الملايين.
عود على ذي بدء ، لولا حكايا شهرزاد لما عرفنا أنّ أختها “دنيا زاد” كانت تنام خلف ستار مخدع الملك وتستزيدها لتقص المزيد  ثم تبقى تنصت لما يحدث بين شهريار وجاريته شهرزاد . وحين يخرج الملك مع طلوع الصباح لإدارة شؤون الرعية ( ولا ندري كيف اذا كان قد قضى الليل ساهرا مسهدا ينصت لحكايا شهرزاد ويواقعها!) ، تنام الأختان متعانقتان.
وتنتهي الليلة الواحدة بعد الألف بقصة الجارية شهرزاد ، حيث جثت على ركبتيها أمام الملك العادل وقالت له إنها تنام معه ( بحق ما ملكت يمينه) منذ ثلاث أعوام وقد أنجبت منه ثلاثة ابناء ذكور لذا فهي تطلب منه الصفح وعدم قطع رقبتها بالسيف ( وهي العقوبة المفضلة عند المتأسلمين حتى في يومنا هذا). أجابها شهريار بالدموع والعفو والغفران لأنها قد شفته من مرضه السادي ، وأخبرها في النهاية السعيدة أنه وجدها شريفة عفيفة ( رغم أنه قد ضاجعها دون زواج الف ليلة) لذا فقد قرر الزواج بها وقبول ابنائها ابناء له، وانتهت الليالي بافراح دامت ثلاثين يوما عمت مملكة شهريار لتزيح عن قلب الشعب هموما واحزانا راكمتها مصارع بناتهن المؤمنات العذارى في مخدع شهريار.
© منبر الحرية، 30 أكتوبر/تشرين الأول2009

peshwazarabic18 نوفمبر، 20100

المقصود بالأفكارِ النمطيِة، تلك الصيّغ التي تشيع بين الناسِ بحيث يرددها كثيرون دون أن يتصدى معظمُهم لفحصِها وتمحيصِها وعرضِها على “العقلِ” و “المحصولِ المعرفي” لرفضِها أو قبوِلها. و”الأفكارُ النمطية” ظاهرةٌ إنسانيةٌ – بمعنى أَنها توجد (بدرجاتٍ مختلفةٍ) في كلِ المجتمعاتِ – وإن كان ذلك “الشيوع” أو “الذيوع” لا يمنع من وصفِها بأنها “ظاهرةٌ إنسانيةٌ سلبيةٌ”.ففي الغربِ، عشراتُ “الأفكارِ النمطيةِ” عن المجتمعاتِ والحضاراتِ والثقافاتِ الأخرى. ولدينا أيضاً الكثير من هذا الفيضِ من الأفكارِ التي يكررها الناسُ لا لسببٍ إلاَّ لشيوعِها وذيوعِها.
والذي يحضني على وصفِ هذه الظاهرةِ بأنها وإن كانت “إنسانية” إِلاَّ أنها “سلبية” أنها ظاهرةٌ تعمل لصالحِ “النقلِ” (وهو الوقود الأكبر لها) وتعمل في نفسِ الوقتِ ضد مصلحةِ العقلِ (وهو الذي كان يستوجب عرض تلك الأفكار عليه وعلى المحصولِ المعرفي (من تراكماتِ العلمِ والتجربةِ الإنسانيةِ) للرفضِ أو القبولِ. وفي إعتقادي أن الإنسانيةَ لن تتخلص بشكلٍ مطلقٍ من “الأفكارِ النمطيةِ” ولكن بوسعِها أن تحد من ذيوعِها. وفي تصوري أن أهم مصادر إستفحال حجمِ وعددِ وتأثيرِ “الأفكارِ النمطيةِ” هي أربعةُ مصادرٍ أساسيةٍ.أما المصدرُ الأول فهو عدم وجود محصولٍ معرفي ثري ومتعددٍ الجوانب وعصري. وأما المصدر الثاني فهو عدم شيوع “الحوارِ الحرِ والمتواصلِ” بصفته –في ظني- أكبر أعداء “الأفكار النمطية”.وأما المصدر الثالث فهو عدم خروج (عولمة إنسانية) من رحمِ إرهاصات العولمةِ الحاليةِ والتي تقف على أرضيةٍ “إقتصاديةٍ/سياسيةٍ” أكثر بكثيرٍ من وقوِفها على أرضيةٍ “إنسانية/ثقافية” .وأما المصدرُ الرابع فهو التواجد نفسياً في حالةِ دفاعٍ عن النفسِ متفاقمة – وسأحاولُ إلقاء بعض الضوءِ على تلك المصادر الأساسية وعلى الأدوات الفكرية التي أظنُ أنها ذات قدرةٍ عاليةٍ وفعاليةٍ كبيرةٍ في “تحجيمِ” و”تقزيمِ” “ثقافةِ الأفكارِ النمطيةِ”.
أًما المصدرُ الأول من مصادرِ شيوعِ “ثقافة الأفكار النمطية” فهو إتسام المحصول المعرفي لأفرادِ أي مجتمعٍ بوجهٍ عام وأعضاءِ النخبةِ المتعلمةِ والمثقفةِ بوجهٍ خاص إما بهزالِ التكوينِ أو بمحليةِ التكوينِ أو بعدمِ الإتساعِ الأفقي للتكوين – وهي كلها عناصر تجعل العقول غير مزودةٍ بالآراءِ الأُخرى العديدة المحتملة في كلِ حالةٍ . وقد يكون حتى أعضاء النخبة المتعلمة والمثقفة أصحابَ محصولٍ معرفي لا بأس به ولكنه قد يكون من جهةٍ “محصول تقليدي” أي لا يضم مستحدثات المعرفة ولا سيما في العلومِ الإجتماعيةِ .. وقد يكون محصولُهم المعرفي لا بأس به ولكنه إما مغرق في الماضويةِ (بقرونٍ) أو نسبي الماضوية (بعقودٍ) – فما أكثر المثقفين (لا سيما في العالم الثالث) الذين ينتمي محصولُهم المعرفي لعقدِ الخمسينيات والستينيات أكثر من إنتماءهِ للزمنِ الآني . كذلك قد تحول ظروفٌ عديدةٌ دون إتسام محصولهم الثقافي بالتخلي عن الإغراقِ في المحليةِ والإبحارِ في ما وراء حدود ذلك . كذلك قد يكون المحصولُ المعرفي ثرياً في جوانبٍ ومفتقراً لجوانبٍ عديدةٍ لا سيما من جوانبِ العلومِ الإجتماعية الأحدث . وهكذا يتضح أن وجودَ محصولٍ معرفي (لأفرادِ أي مجتمعٍ بوجهٍ عامٍ ولأعضاءِ النخبةِ المتعلمةِ والمثقفةِ بوجهٍ خاصٍ) متسم بثراء التكوين وعدم الإستغراق في المحلية والإتساع الأفقي بما يعنيه من ضم مناطقٍ جديدةٍ من مناطقِ المعرفةِ هي عوامل تجعل العقلَ أكثر تحصناً (بشكل نسبي) من المجاراةِ الكاملةِ (أو شبه الكاملة) لصيغِ الأفكارِ النمطيةِ – إذ يكون متاحاً لهذا العقلِ التعرف على بدائلٍ فكريةٍ قد تكون (عند التمحيص والمفاضلة) هي إختياره عوضاً عن ترديد ما لا قوة دفع له في الكثير من الحالات إلاِّ الشيوع والذيوع والإنفراد بالساحة .
وأًما المصدرُ الثاني من مصادرِ شيوعِ “ثقافةِ الأفكارِ النمطيةِ” فهو عدم قيام الحياةِ التعليميةِ والثقافيةِ والإعلاميةِ على أساسٍ متينٍ من ثقافةِ الحوارِ (الديالوج) . فكلما كانت أساليبُ التعليمِ على دربِ التلقينِ وإختباراتِ الذاكرةِ وكلما كانت العلاقاتُ في دنيا التعليمِ بل وفي المجتمع بوجهٍ عامٍ هي علاقات تقوم على المنولوج (أي مرسل ومستقبل) ولا تقوم على الحوار (الديالوج) فإن شيوعَ الأفكارِ النمطيةِ يجد مناخَه الأمثل ، إذ أن “المنولوج” هو أداةُ إنتقالِ وشيوعِ وسيادةِ الأفكارِ النمطيةِ. والعكسُ صحيح : فالحوارُ (الديالوج) هو أداةُ تحجيمِ فرصِ شيوعِ الأفكارِ النمطيةِ .
وأًما المصدرُ الثالث من مصادرِ شيوعِ “ثقافةِ الأفكارِ النمطيةِ” فهو أن أنصارَ ودعاة العولمة لم ينجحوا بعد في تحويلها من ظاهرةٍ تقف على “أرضيةٍ سياسيةٍ/إقتصاديةٍ” إلى ظاهرةٍ تقف (في نفسِ الوقتِ) على “أرضيةٍ إنسانيةٍ/ثقافيةٍ” . فلا تزال مفاهيمُ العولمة بحاجةٍ ماسةٍ لبعدٍ إنساني وبعدٍ ثقافي يجعلها في عيونِ أبناءِ العالمِ غير المتقدم أقل توحشاً وأقل قابلية للفتكِ بمجتمعاتهم (سواء كان الفتكُ هنا سياسياً أو إقتصادياً أو ثقافياً) .
وأًما المصدرُ الرابع من مصادرِ شيوعِ “ثقافةِ الأفكارِ النمطيةِ” فهو وجود مناخ ثقافي ونفسي عام متسم بالرغبةِ الملحةِ في الدفاعِ عن النفسِ . فالشعورُ بالإنجازِ وصنع التقدم يعطي أبناء أي مجتمعٍ رغبةً أقل في أمرين: الأول هو الدفاع عن الذات ، والثاني هو إلصاق تهمة عدم الإنجاز والتقدم بالآخرين . ونحن هنا أمام مصدرين كبيرين ليس فقط من مصادر الشعور القوي بالرغبة في الدفاعِ عن النفسِ بل والإمعانِ في الإيمانِ بنظريةِ المؤامرةِ . ويخلق هذان العاملان مناخاً أمثل للأفكارِ النمطيةِ ، إذ تكون الأفكار النمطية عادةً في خدمةِ درءِ الشعورِ بلومِ الذاتِ (عن عدم الإنجاز والتقدم) وتفعيلِ عمليةِ الدفاعِ عن الذاتِ وإلقاءِ مسئوليةِ الأوضاعِ (أوضاع عدم الإنجاز وعدم التقدم) على “الآخرين”.
وإذا كانت تلك – في تصوري – هي أهم مصادرِ شيوعِ ثقافةِ الأفكارِ النمطيةِ، وإذا كان القضاءُ المبرم على الأفكارِ النمطيةِ مستحيلاً (لوجودها في كلِ المجتمعاتِ بنسبٍ متفاوتةٍ) فإن أدواتِ التعاملِ مع هذه المصادر تبقى واضحة وإن كانت نسبيةَ الأثرِ.
وهنا ، فإنني أعتقدُ أن المهمةَ الكبرى منوطةٌ بالتعليمِ (البرامج والفلسفة والمعلم والمناخ التعليمي العام) إذ أنه القادرُ على بذرِ قيمةِ “التعدديةِ” من جهةٍ وقيمةِ “العقلِ النقدي” من جهةٍ ثانيةٍ وقيمةِ “العقلانيةِ” (أي عرض الأفكار على العقلِ من جهةٍ ثالثةٍ) – وكلها أدوات تحد من إمكانيةِ سيادةِ ثقافةِ الأفكارِ النمطيةِ . إلاِّ أن دورَ وسائلِ التثقيفِ والإعلامِ أكثرُ جدوى على المدى القصير والمتوسط: فهي القادرة على فضحِ تهافت ثقافةِ الأفكارِ النمطيةِ وخلوها من الحجة والمنطق – وإيضاح الصلة بينها وبين عيوب أخرى في التفكيرِ مثل “ظاهرة الكلام الكبير” و”المغالاة في مدحِ الذاتِ” و”الإيمان المتطرف بنظريةِ المؤامرةِ” – إذ أن هناك علاقات جدلية لا شك في وجودِها بين كل تلك الظواهر الفكرية السلبية .
© منبر الحرية، 18 أكتوبر/تشرين الأول2009

نبيل علي صالح18 نوفمبر، 20100

تعاني مجتمعاتنا العربية حالياً من مجموعة أزمات تتصل بملفات شائكة، تنتقل من عام إلى آخر من دون البحث الجدي عن حلول جدية ودائمة لها.
وإذا ما أردنا أن نكون أكثر دقة في توصيف المأزق الراهن الذي نعانيه، فإنه يمكننا تحديده في الأمور التالية:
1.    تغييب الثقافة النقدية التي يمكن من خلالها تسليط الضوء على مواقع الخلل والاهتراء في جسم الأمة.
2.    عدم فهم الناس عندنا لمختلف أنماط وصور ومفاهيم الاستبداد الظاهرة والمخفية.
3.    فقدان الإرادة السياسية والكتلة الجماعية (النوعية المؤثرة) التي تهدف إلى إصلاح وتغيير أرضية وقواعد العمل السياسي نفسه، وإلى تكوين تاريخ سياسي وثقافي جديد تتفتح فيه كل ألوان الحياة، وتجف معه كل منابع الاستبداد.
وقد أدت تلك العوامل المسيطرة على مجتمعاتنا إلى مسخ هوية الإنسان وتقزيم وجوده المادي والمعنوي، وتدمير الأخلاق العملية، وقتل العلم وخنق الإبداع. الأمر الذي أدى بدوره إلى تأخر نمو تلك المجتمعات قياساً بالمجتمعات المشابهة لها، وليس قياساً بالمجتمعات والدول المتقدمة..
إذاً نحن نقف في مواجهة “أم الازمات” العربية، والرهانُ على التخلص منها وجوديٌ بامتياز.. إذ هل يعقل –ونحن نعيش في عصر الحريات العامة والحداثة والتطور والانفتاح والثقافات العابرة والمصائر الواحدة- أن تبقى الشعوب العربية بعيدة عن ذلك كله، وعرضةً -على مدار تاريخها السياسي الحديث- لهيمنة أفكار وثقافة الاستبداد والرأي الواحد الذي يختزل الأمة كلها في شخص الحاكم المتفرد؟!!..
وللوقوف على الأسباب التي أدت إلى تركيز فكرة الاستبداد في الواقع العربي الحديث، ومن ثم وعي الأساليب التي يمكن من خلالها تعرية وكشف أسسها وركائزها، لا بد من معرفة عوامل بقاء ومظاهر استمرارية الاستبداد التي يتم اللجوء إليها بهدف إعادة إنتاجها باستمرار في مجتمعاتنا.. مع العلم أن لاستمرارية الاستبداد حالياً خلفية ثقافية تاريخية قديمة تمتد على طول مسيرة هذه الأمة منذ بدايات الدعوة الإسلامية، وانفجار الخلافات والانقسامات السياسية والفكرية الأفقية والعمودية في جسم الأمة التي كانت تشتد وتائرها وتضعف بحسب الوقود المستخدم هنا وهناك.. ولكننا بالإجمال العام لن نتطرق إلى هذه الخلفية في هذا المقال المقتضب على أن نعود إلى معالجته في دراسات ومقالات لاحقة..
ولكننا الآن سنحاول فهم العوامل المهيأة لنمو بذور الاستبداد في اجتماعنا الديني العربي والإسلامي حالياًً، وهي:
1- عدم قناعة النخب الحاكمة في مجتمعاتنا أصلاً بفكرة التغيير السلمي والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. حيث أنه من المعروف أن الأصل في الدولة أن تكون محايدة ومستقلة كرابطة مدنية تحترم استقلالية الفرد الحر المتساوي مع غيره، والقادر على تسيير أموره بنفسه، وتحديد أهدافه العليا بإرادته. وأن الحكومات يجب أن تخضع للمراقبة والمساءلة، وأن الحكام بدورهم يجب أن يخضعوا للقانون والمحاسبة المستمرة، وأن الأمة هي مصدر السلطات (وهي ولية على نفسها) وليس الفرد الحاكم بمزاجه وجشعه وتكالبه على الكرسي والسلطة والثروة.
2- العمل على تفتيت وإذابة ما تبقى من علاقات اجتماعية إيجابية قائمة بين الناس، كالعلاقات الأسريّة، وعلاقات التآلف والتعاضد والتعاون والتكافل الاجتماعي التي قدمتها مختلف الثقافات والحضارات والأديان للإنسان، وحضته على تعزيزها وترسيخها في أنظمة سلوكه الفردي والاجتماعي.
3- وجود إعلام رسمي كثيف دعائي وغوغائي (وحالياً غير رسمي، إذ أصبحث كثير من وسائل إعلامنا العربية الخاصة مرتبطة بهذه الجهة أو تلك) تنحصر مهمته الرئيسية في التطبيل والتزمير لنخب الحكم، والتعبئة لأفكارهم وقناعاته، وتزييف عقول الناس وحجب الحقائق عنهم، وتسمية الأسماء بغير مسمياتها الحقيقية..
4- التضييق على الأحزاب وباقي مؤسسات وبنى المجتمع الأهلي والمدني (وأحياناً إلغاؤها بالكامل) التي يفترض أن تكون شبه مستقلة عن الدولة. والعمل على استبدالها بعلاقات مصلحية انتهازية لا يمكن أن تقود إلا إلى تعميق النوازع الفردية الأنانية على حساب مصلحة الجماعة والمجتمع..
5- تمييع وتغييب القوانين والمؤسسات السياسية والاقتصادية كلها، وتبديلها عملياً بقانون واحد هو قانون الاستثناء والطوارئ الذي يقوم على قاعدة سوفياتية قديمة وهي: “يجب أن يفسد من لم يفسد بعد ليكون الجميع مداناً تحت الطلب”، وبخاصة إفساد الجهاز القضائي والتعليمي التربوي.
6- إن نظام الاستبداد ينصّب من نفسه وصياً على مصالح الناس والأوطان، ويقدم لهم نموذجه الفريد في الوطنية وخدمة المجتمع وهذا النموذج هو الولاء الأعمى والطاعة الكاملة للحاكم الفرد، بحيث يتمكن دائماً من سحق وتفتيت بذور الحرية والتعددية السياسية، بدعوى أنها تهدد أمن المجتمع وتضعفه في مواجهة قوى الخارج التي تريد نهب أوطاننا وغزو بلداننا وانتهاك كراماتنا ومقدساتنا..
وفي محصلة إجمالية لما آلت إليه النتائج المباشرة لتطبيق تلك السياسات الاستبدادية في مجتمعاتنا العربية، فقد وجدنا أنفسنا جميعاً أمام واقع مدمر ومحطم نفسياً ومادياً (عنف رمزي وعضوي)، وانتقالات سريعة من أزمات إلى أخرى، مما قاد إلى ما نحن عليه اليوم من انسداد كل أفق ممكن لإيجاد حلول ومعالجات ناجعة. خصوصاً وأن الوقت يمضي مسرعاًَ، ولا يرحم ولا ينتظر أحداً، وهو ليس في مصلحة القاعدين والمتقاعسين والمنهمكين في حرتقات وهلوسات داخلية هنا وهناك تشتت القوى وتبعثر الطاقات وتبددها عن الهدف الكبير..
وحتى الآن ليس معلوماً متى سينطلق العرب والمسلمون بجدية شاملة نحو الإصلاح الكلي الشامل المرتكز على مشروع نهضوي حقيقي قبل فوات الأوان، وقبل أن يواجهوا أوضاعاً أكثر سوءاً من الأوضاع السيئة والمزرية التي يعيشونها حالياً قد يتعرضوا من خلالها لخطر الانقراض الفردي والمجتمعي، إذا لم يستدركوا ويقف بقوة لمعالجة مهمات ثقيلة بانتظار مجتمعاتهم وشعوبهم، تنوء تحت حملها الجبال كما يقال، وهي:
–    ملف بناء الدولة من الداخل قبل الحديث عن الخارج ومخططاته ومؤامراته. أي تفعيل التغيير السياسي المتمحور حول إعادة السياسة وإدارة الشأن العام إلى حضن المجتمع، وتمكين الشعوب من المشاركة المنتجة في صناعة قراراتها وتقرير مصيرها وصناعة وجودها.
–    ملف الانقسامات الداخلية بين الدول العربية.
–    النزاعات المتفجرة في الداخل بين الدول والشعوب.
–    ملف الأمن الإقليمي وأمن كل شعب من شعوب المنطقة.
–    ملف التنمية الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية.
ولا شك أن هذه المسؤوليات الكبيرة تتطلب قيادات نوعية أخلاقية مضحية ومؤمنة عملاً لا قولاً بمسؤولياتها، تعمل بوحي مبادئ وقيم وغايات إنسانية لا مصلحية نفعية.
وهذا التاريخ كله يشهد على أنه لم تنطلق أمة أو شعب من سباته من دون وجود مثل هذه الطبقة القيادية المضحية والمنكرة لذاتها في سبيل بناء الصالح العام والحفاظ عليه وتطويره.
والأمر الذي تنعقد عليه الآمال –في هذا المجال- يكمن في دفع القوى الحية والجماهير الواسعة (صاحبة المصلحة الحقيقية في الإصلاح والتغيير السلمي الديمقراطي) إلى أن تؤمن بأن الهدف الكبير دونه أثمان وتكاليف وتضحيات جسام.. وما أعنيه هنا هو ثمن الحرية حتماً.
© منبر الحرية، 03 نوفمبر/تشرين الأول 2009

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018

فايسبوك

القائمة البريدية

للتوصل بآخر منشوراتنا من مقالات وأبحاث وتقارير، والدعوات للفعاليات التي ننظمها، المرجو التسجيل في القائمة البريدية​

تواصل معنا

جميع الحقوق محفوظة لمنبر الحرية © 2018